الفصل الثامن

في الكلام على إمبراطورات القسطنطينية ودولة اليونان السفلى

حكمت هذه الدولة بعد انقسام المملكة الرومانية سنة ٣٩٥م، وانقرضت بظهور السلطان محمد خان الثاني من آل عثمان ١٤٥٣م. ولنذكر أشهر إمبراطوراتها فنقول:

ذكر الإمبراطور أرقاديوس

وهو أول ملوك هذه الدولة وكانت مملكة الروم في عهده ضعيفة؛ لأنه كان قاصرًا وكان الحل والعقد في يد وزيره رومين، وفي مدته صدرت أوامر لجميع الولايات الرومانية باتباع الديانة العيسوية، وأمر بغلق الهياكل والمعابد ولا سيما هياكل مصر، ومات بعد أن حكم ١٣ سنة وذلك سنة ٤٠٨م.

جوستسيانوس الثاني

وكان أول أمره حميد السيرة موصوفًا بالعدل، ثم ظلم وجار على الرعية وانكب على الملاهي، وترك الحكم لامرأته «صوفية» التي أحبت شابًا يسمى «طيباريوس» متصفًا بالذكاء والآراء السديدة، فكانت تستشيره في جميع أمورها، فحملت زوجها بأن يوصي له بالقيصرية، قاصدة بذلك أن يتزوج بها، وأرسل إليه ملك التتار الهبارة سفير العقد معاهدة، فرفض «جوستسيانوس» هذا الطلب وأظهر التعاظم والكبرياء، ثم اتفق بعد ذلك مع ملك التركمان وتحالف معه على حرب «كسرى أنوشروان» ملك الفرس؛ بسبب منازعتهما على بلاد أرمينيا، فقامت الحروب بين «جوستسيانوس» وأنوشروان، واستمر القتال بين الدولتين إلى موت الملكين، فانقطعت الحروب بموتهما بعد أن حكم ١٣ سنة، وقام بالأمر بعده «طيباريوس الثاني».

طيباريوس الثاني

عند جلوسه على كرسي المملكة تحارب مع «هرمز بن أنوشروان»، وكان أرسل لقتاله قائدًا من قواده يدعى «موريس» مع ثمانين ألف فارس، فحارب العجم وانتصر عليهم أكثر من ثلاث مرات، فكافأ الملك هذا القائد وزوجه ابنته، وتعهد بأن يكون هو الملك بعده، وعند موت هذا الملك المذكور تولى «موريس» على الملك.

موريس

وفي أيامه حدثت فتنة في بلاد العجم جبرت «هرمز بن أنوشروان» أن يفر من بلاده إلى «موريس» ليغيثه، فقابله المذكور بالترحاب، وأمدَّه بجيوشه، وأعاده ملكًا على بلاد العجم تحت اسم خسرو برويز، ثم حوَّل جيوشه إلى محاربة التتار الهبارة الذين كانوا قد أتوا من آسيا إلى بلاد المجر وسكنوا فيها، فانتصر عليهم عدة نصرات عظيمة، وكان ملك التتار أسر في هذه الواقعات عشرة آلاف فارس، فطلب منه ملك التتار فداء كل واحد منهم دينارًا فلم يقبل، ثم طلب منه على كل رأس نصف دينار فأبى أن يعطيه شيئًا، فاغتاظ ملك التتار وذبح جميع أسراء الروم، فلما اشتهر هذا الأمر نفرت قلوب الرعية منه ورفعوا لواء العصيان عليه، وولوا بدله رجلًا من رعاع الجند يدعى «فوكاس»، فبايعوه بالسلطنة سنة ٦٠٢م، وكان «موريس» وقتئذ بالقسطنطينية، فلما بلغه الخبر فر هاربًا مع عائلته، فأرسل «فوكاس» مجدًّا في طلبه، فقبضوا عليه، وأمر بضرب أعناق أولاده ثم قتله.

فوكاس

ولما حكم فوكاس أمر عماله الموجودين بمصر برفت جنس المصريين من الوظائف الميرية، فحدث من ذلك اضطراب وفتنة في الإسكندرية، وكان أكثر أهل هذه الفتنة طائفة اليهود، فحكم عليهم هذا الملك بأن يتنصروا فأطاعوه.

وأما خسرو الثاني ملك الفرس الذي هو أبرويز فعند سماعه بقتل موريس الذي أعاده إلى ملك أبيه أظهر الحزن والأسف، وانتهز الفرصة لفتح باب الحرب مع الروم متخذًا ذلك حجة وسببًا للانتقام من فوكاس، فأخذ جملة حصون وقلاع، واتصلت إغاراته إلى بلاد سوريا، وكان فوكاس قد جرد له جيشًا، فانهزم هو وجيشه وتفرق شمله، وكانت أمة الروم قد صممت على خلعه من أعماله القبيحة، فكتبت إلى هيراقليوس أو هرقل والي أفريقا أن يحضر ليخلص القسطنطينية من يد فوكاس، فسار هيراقليوس بجيش مهول إلى القسطنطينية، فقبض الشعب على فوكاس، فأمر بضرب عنقه وعنق إخوته، وبايعوا هيراقليوس سنة ٦١٠ وعمره ٣٥ سنة.

هرقل

قد ذكرنا أن «أبرويز خسرو» ملك الفرس تغلب على أكثر ولايات الروم الشرقية في زمن فوكاس، وقد استمر أيضًا في افتتاح البلاد في زمن هرقل حتى فتح أنطاكية وبيت المقدس، ثم اتصلت إغاراته إلى الديار المصرية وبلاد المغرب، وصالح المصريين واتفق معهم على أن يدفعوا له أموالًا معلومة كما كانوا يدفعون إلى قياصرة الروم، ثم بعد ذلك قصد بلاد الأناضول فاستولى على بروسة الواقعة على بوغاز البوسفور، واستعان هناك بقبائل التتار الهبارة، وتعاهد معهم على أن يهجموا على بلاد الروملي، فأغاروا على تلك الجهات ونهبوا المدن والقرى، واستمروا على ذلك حتى دنوا من أسوار مدينة القسطنطينية، فلما اشتد الحال على هيراقليوس وآيس من النصرة؛ لقلة عدد جيوشه ولعدم وجود النقود الكافية لتعيين الجيوش، صمم على أن يسافر إلى تونس وينقل تخت المملكة هناك؛ لأنها كانت تابعة لدولته، فصده عن ذلك بطريق القسطنطينية، وفتح خزائن الكنيسة، وأمده بما لزم من الأموال لتعيين الجنود، فصالح التتار ورفع عنه أشغالهم نظير مبلغ معلوم من المال، ثم إنه عين جيشًا عرمرمًا وزحف بنفسه لقتال الفرس، وعند وصوله إلى مدينة أبسوس — حيث انتصر هناك الإسكندر على الفرس — وافته جنود الفرس فانتصر عليهم بعد قتال شديد، ثم رجع إلى القسطنطينية ظافرًا منصورًا، ولم تزل عساكر الفرس بعد هذه الهزيمة تشن الغارة وتلقي الفساد في أطراف تلك البلاد، فحاربهم هيراقليوس مرة ثانية لصدهم وردعهم، وذلك لكونه عبر البحر الأسود، وقطع جبال أرمينيا، وكان قد اتحد مع التركمان على قتال الفرس فأمدوه بجانب من الجيش، ثم قصد بلاد العجم، وعند وصوله إلى نينوى حصل بينه وبينهم قتال مهول فانتصر أيضًا عليهم، واتفق بعد ذلك بأيام قليلة أن شيرويه قتل أباه المدعو أبرويز خسرو وجلس مكانه، وعقد صلحًا مع هرقل بعد أن رد إليه جميع ولايات الروم الشرقية التي كان أخذها والده، ورجع إلى القسطنطينية فائزًا بالنصر، ثم ترك إدارة الحكم وانهمك في مجادلات دينية من جهة لاهوت المسيح، وقد أرسل إليه النبي كتابًا فقام يسلم لولا امتناع البطارقة، ولم يقع بينه وبين الرسول حروب، لكن حاربه أبو بكر الصديق وأخذ منه دمشق واستولى على جانب عظيم من سوريا، وكانت مدة حكمه ٣١ سنة، وكان عامله على مصر المقوقس الذي حاربه عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطاب وهزمه شر هزيمة وأخذ مصر منه، واستمرت القياصرة واحدًا بعد واحد إلى أن جاءت ولاية تيوفيل الذي حاربه المأمون كما سيأتي، ثم ميخائيل الثالث وهو آخر ملك من ذرية هرقل، وحكم سنة ٨٤٢م.

واستمر حكمه إلى أن قتله رجل يدعى باسيل واغتصب الحكم منه سنة ٨٦٧م، وفي مدة حكمه لم تنقطع الحروب بينه وبين المسلمين في خلافة المتوكل على الله.

ذكر الإمبراطور باسيل

وقام بالولاية سنة ٨٦٧، وهو أول إمبراطورات الدولة المقدونية، أصله من عائلة فقيرة، كان سائسًا عند سلفه ميخائيل الثالث، وكان ماهرًا جدًّا في تربية الخيول، فأحبه ميخائيل لما ساعده على توليته كرسي المملكة بقتل الإمبراطور بردايس، وأشركه معه في الأحكام؛ ولذا كان هذا الإمبراطور موصوفًا بالفراسة والذكاء ومحبًا لانتشار المعارف، لم يتحمل أطوار ميخائيل الفظة وقساوته الشنيعة فعمل على قتله، واستبد بالحكم سنة ٨٨٦م، وأعاد للسلطنة جانبًا من عزها وشرفها الأولين، وأصلح شرائع البلاد وتحصينها وتقويتها بحيث تستطيع أن تفتح حروبًا وتقاوم هجوم العرب وقبائل أوروبا؛ ولهذا الإمبراطور تأليف يعرف بفن الأحكام كتبه لابنه «ليون» وطُبع في باريس سنة ١٥٨٤، وتُرجم إلى اللغة الفرنساوية سنة ١٥٩٠، وله أيضًا مجموع للشرائع في ستين مجلدًا تعرف بالباسيلية، ابتدأ فيها باسيل وأتمها ابنه وهي مطبوعة أيضًا.

ومن أشهر سلاطينها وأعظمهم نيفوروس فوكاس — غير الذي حاربه الرشيد بما أن نيفوروس الذي حاربه الرشيد كان من عائلة هرقل — ويوحنا زمسيس فكانت البلاد في أيامهما نامية زاهية، وكان يوحنا زمسيس قد حارب المسكوف عند إغارتهم على القسطنطينية فانتصر عليهم وقهرهم، ثم زحف إلى بلاد الشام المعروفة باسم سوريا واستخلص جملة مدن من أيدي المسلمين، وعبر نهر الفرات وفتح مدنًا حصينة في تلك الجهات، ولما مات هذا الملك أخلفه ملوك غير مشهورين، فلهذا الداعي ضربنا صفحًا وصرفنا النظر عن ذكرهم، وكان آخرهم ميخائيل السادس الذي في مدته اضمحلت دولة الروم، ووقعت في أيامه الدولة في حالة السقوط والضعف.

ولما رأى الروم ضعف ملوكهم وسقوط دولتهم بايعوا إسحاق كومنينوس بالسلطنة سنة ١٠٥٦م، وكان المذكور من عائلة معتبرة من أعيان الرومانيين، فاستبد بالأحكام سنتين، ثم تنازل عن الحكم لداعي مرض أصابه. ومن خلفائه كومنيوس أليكسيوس الذي جلس على سرير الملك سنة ١٠٨١، وفي أيامه وقعت دولة الروم في حروب عظيمة مع الترك، وحاربه روبرت غسكار ملك النورمنديين فغلبه وانهزمت الروم شر هزيمة، واشتهر أليكسيوس هذا في التاريخ بخيانته للصليبيين، ومقاومته لهم سرًّا، فكان يدعوهم في مبدأ الأمر من أوروبا ويعدهم بالمساعدة على أعدائهم؛ ليضعف بواسطتهم قوة الأتراك السلجوقيين الذين كانوا يهددونه بالحروب، ثم عند انتصاراتهم يعمل على ضررهم، وكان جل قصده بهذه التدابير السياسية تهييج ممالك أوروبا، وتشغيل أفكارهم بتجهيز الرجال وجمع الأموال لمحاربة سوريا وفلسطين، لكي يقي سلطنته من محاربة طوائف الفرنج التي كانت طالما تشتاق لمحاربة تلك البلاد لتفتحها طمعًا لاكتساب غناها، وقد نال مرامه في ذلك؛ لأنه بسبب حروب الأتراك مع الصليبيين انتهز الفرصة واستخلص عدة مدن وجزائر كانت فتحها المسلمون واستولوا عليها حالة كون هذه البلاد في يده، وبقيت البلاد بعده في أمن وسلم مدة طويلة من الزمان، ومات سنة ١١٩٥.

وفي سنة ١٣٥٥ تولى الملك يوحنا باليولوغوس، وكانت مدة حكمه نحو ٣٦ سنة، وكان ملكًا ظالمًا قاسيًا قبيح السيرة، ومن ضمن قبائحه أنه جعل أخاه الأكبر المسمى أندرونيكوس مفقود العينين، وحفيده يوحنا، وسجنهما فهاج الشعب من هذا العمل الشنيع، واجتمع أعيانهم وأخرجوا الأعميين من السجن، وأعادوهما رغمًا عنه إلى كرسي المملكة، فالتزم باليولوغوس أن يهرب مع ابنه مانويل، وبسبب ذلك وقعت تحزبات وانقسامات بين الأهالي ألجأتهم إلى إشهار السلاح بعضهم على البعض الآخر، وأخيرًا اتفقوا على تقسيم السلطنة إلى قسمين أحدهما لباليولوغوس وهي مدينة القسطنطينية، والثاني إلى الأميرين الأعميين وهو ما بقي من المملكة، وفي سنة ١٣٦٥ أغار على القسطنطينية السلطان بايزيد من آل عثمان وتهدد ملكها بالخراب، فضرب عليها الخراج، ثم هجم عليها ثانيًا سنة ١٣٩٩ تحت حجة الأخذ بثأر يوحنا الأعمى، وحاصرها فهرب مانويل إلى فرنسا يطلب المدد فلم ينجده أحد، واتفق ظهور تيمورلنك وإغارته على البلاد العثمانية، فاضطر السلطان بايزيد أن يرحل عن القسطنطينية خوفًا من سطوة تيمورلنك، فهُزم بايزيد وقتل في واقعة بالقرب من مدينة أنقرة، واستمرت القسطنطينية في أيدي أهلها إلى عهد السلطان محمد الثاني، وكان من الشجعان الموصوفين بالفراسة؛ حيث جهز جيشًا لفتح القسطنطينية، وكان ملكها في هذا الوقت قسطنطين الثالث عشر الذي هو آخر ملوكها، فحاصرها محمد خان برًّا وبحرًا إلى أن افتتحها سنة ١٤٥٣، وصارت كرسي مملكة الدولة العثمانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤