الفصل الرابع

حياة الخلايا

(١) دورة حياة الخلية

تتطلب الآليات الفعلية لانقسام الخلية، وفقًا لما يراه ديك ماكينتوش الأستاذ بجامعة دينفر، تعليماتٍ أكبر بكثير مما هو مطلوب لتصميم صاروخ للسفر إلى القمر أو كمبيوتر فائق. بدايةً تحتاج الخلية لمضاعفة كل جزيئاتها؛ أي «دي إن إيه» و«آر إن إيه» والبروتينات والدهون وغير ذلك. على مستوى العضيات، هناك حاجة لمضاعفة عدة مئات من الميتوكوندريا ومساحات كبيرة من الشبكة الإندوبلازمية وأجسام جولجي جديدة وتراكيب الهيكل الخلوي وملايين الريبوسومات، بحيث تكون لدى الخلايا الوليدة المصادر الكافية كي تنمو ثم تنقسم. تمثل كل تلك العمليات «دورة حياة الخلية». تنقسم بعض الخلايا بشكل يومي، في حين تعيش أخرى لعقود دون أن تنقسم. وتنقسم دورة حياة الخلية إلى أطوار؛ بدءًا بالطور البيني، وهي الفترة بين انقسامات الخلية (التي تستغرق حوالي ٢٣ ساعة)، والطور الخيطي (الانقسام الخيطي)، وهي العملية الفعلية لانقسام الخلية الأصلية إلى خليتين وليدتين (وتستغرق نحو ساعة). ينقسم الطور البيني إلى ثلاثة أطوار متمايزة، وهي: طور النمو الأول (يستغرق من ٤ إلى ٦ ساعات)، وطور البناء (يستغرق ١٢ ساعة)، وطور النمو الثاني (يستغرق من ٤ إلى ٦ ساعات). وبشكل عام، تستمر الخلايا في النمو عبر الطور البيني، لكنَّ تناسُخ اﻟ «دي إن إيه» يكون مقصورًا على طور البناء. وفي نهاية طور النمو الأول توجد نقطة تحقق. إذا كانت مستويات الطاقة والمواد الغذائية غير كافية لتكوين اﻟ «دي إن إيه»، تتحول الخلية إلى طور يسمى طور الراحة. وفي عام ٢٠٠١، نال تيم هانت وبول نيرس وليلاند هارتويل جائزة نوبل لعملهم على اكتشاف كيفية التحكم في دورة حياة الخلية. وقد اكتشف تيم هانت مجموعة من البروتينات تسمى السيكلينات، وهي تتراكم أثناء أطوار محددة في دورة حياة الخلية. وبمجرد الوصول للمستوى الصحيح، «يُسمح» للخلية بالتقدم إلى الطور التالي، ويتم التخلص من السيكلينات. تبدأ السيكلينات في التراكم ثانيةً، وتتقدم لمستويات معينة عند كل نقطة في الدورة، وتسمح بالتقدم للطور التالي فقط إذا تم الوصول لمستوى السيكلينات الصحيح.

(٢) الانقسام الخيطي

ما إن تستعدَّ الخلية للانقسام حتى تدخل في طور دورة الحياة الذي يسمى طور الانقسام الخيطي (الميتوزي)، الذي ينقسم إلى خمسة أطوار أخرى؛ هي: التمهيدي، وما قبل الاستوائي، والاستوائي، والانفصالي، والنهائي. الطور الأول هو الطور التمهيدي، وفيه تتكثف الكروموسومات كي تصبح تراكيب مستقلة. أما في الطور الاستوائي الأول، فيتحلل الغشاء النووي وتصبح النُّوَيَّات غير مستقلة. وتصبح الكروموسومات الآن مضغوطة وملتفة وفائقة الالتفاف، مع تكثفها في تراكيب زوجية مرئية بشكل واضح تشبه السجق (انظر الشكل ٣-٢(ﺟ)، (د)، (ﻫ))، كلٌّ منها مكون من اثنين من الكروماتيدات، يتصل أحدها بالآخر عند نقطة تسمى القسيم المركزي (السنترومير). ويوفر القُسيم المركزي موقع الارتباط بمغزل الانقسام الخيطي (الإطار الأنيبيبي الدقيق الذي يُحدث انفصال الكروموسوم إلى خلايا وليدة) عند تركيب يسمى الحيز الحركي. ويتكون مغزل الانقسام الخيطي من الأنيبيبات الدقيقة السيتوبلازمية المنظمة من خلال زوج من السنتريولات، الذي نُسخ ونُقل من قبل إلى إحدى نهايتي الخلية (كما أوضحنا في الفصل الثاني). وبهذا يكتمل طور ما قبل الاستوائي الذي يتبعه الطور الاستوائي؛ حيث تمارس الأنيبيبات الدقيقة لمغزل الانقسام الخيطي ضغطًا على الكروموسومات لمحاذاتها داخل مركز المغزل نفسه؛ حيث تكوِّن «الصفيحة الاستوائية».
الطور التالي هو الطور الانفصالي، وفيه ينفصل كروماتيد واحد من كل كروموسوم، ويتحرك للأطراف المقابلة من مغزل الانقسام الخيطي (الشكل ٤-١). ويتم ذلك من خلال تقصير طول الأنيبيبات الدقيقة التي تمتد من الحيِّز المكاني إلى قطبي المغزل، وإطالة الأنيبيبات الدقيقة التي تمتد من أحد طرفي المغزل للطرف الآخر يؤدي إلى انزلاق الأنيبيبات المتجاورة بعضها فوق بعض. ويكمل وصول كل مجموعة من الكروماتيدات إلى قطبي المغزل المرحلة الأخيرة من عملية الانقسام الخيطي، وهي الطور النهائي. ولإكمال عملية الانقسام الخاصة بالخلية كلها إلى خليتين وليدتين، تتكون حلقة متقلصة من الخيوط الأكتينية حول منتصف الخلية؛ مما يؤدي إلى انفلاق السيتوبلازم إلى نصفين بما يشبه الحزام الذي يضيق أكثر فأكثر، وهي عملية تسمى الانقسام السيتوبلازمي (انظر الشكل ٤-١(ب)). وبمجرد انفصال الخلايا الوليدة، تبدأ كروموسوماتها في الاسترخاء ويُلغى تكثفها وتعود لتكوينها في الطور البيني كجزء من النواة المتكونة حديثًا. ويتكون غلاف نووي جديد على سطح الكروموسومات غير المتكثفة التي تحمل بالفعل المكونات البنائية للمسام النووية على أسطحها. وبهذا تكتمل عملية الانقسام الخيطي، وتدخل الخلية الطور البيني ثانيةً، لتبدأ ثانية عملية المضاعفة من أجل الانقسام التالي، أو لتترك دورة حياة الخلية، وتبدأ رحلة تمايز للقيام بوظيفة نسيجية متخصصة كما سنوضح في الفصل الخامس.
fig9
شكل ٤-١: انقسام الخلية. (أ) مقطع لخلية أثناء الطور الانفصالي، وفيه تُسحب مجموعة من الكروماتيدات تجاه كل قطب من خلال مغزل الانقسام الخيطي. (ب) خليتان وليدتان تبدآن في الانفصال عند نهاية الانقسام و«تنشق» إحداهما عن الأخرى مخلِّفتَينِ أخدودًا مركزيًّا.

(٣) الانقسام الاختزالي

الانقسام الاختزالي (الميوزي) هو انقسام يُختزَل فيه عدد الكروموسومات إلى النصف، وهي عملية تستخدمها الكائنات متعددة الخلايا لإنتاج خلايا خاصة (الخلايا التكاثرية) بها نسخة واحدة من اﻟ «دي إن إيه» (أحادية الصبغ)، وتكون على استعداد للاندماج مع خلية تكاثرية أخرى لإنتاج خلية (لاقحة) مكونة من نسختين طبيعيتين من اﻟ «دي إن إيه» (ثنائية الصبغيات)، التي سينمو منها الجنين ويصبح كائنًا جديدًا. ويمكن أن تكوِّن الخلايا الجنسية حيوانات منوية أو بويضات كما في معظم الحيوانات، أو حبوب لقاح وبويضات كما في النباتات، أو الأبواغ كما في أشكال الحياة الأخرى؛ مثل الفطريات. يُعرَف خلْق كائن جديد باندماج خليتين جنسيتين من كائنين مختلفين بالتكاثر الجنسي. والنباتات بطبيعة الحال لا تعتمد على هذه العملية مثل غالبية الحيوانات؛ حيث تتاح لها طرق للتكاثر اللاجنسي. ويخرج عن نطاق هذا الكتاب التناول المستفيض للعواقب الوراثية للتكاثر الجنسي، لكن يكفي القول إن المزج المستمر للجينات الذي يحدث بهذه الطريقة يوفر التنوع الذي تدفع به ضغوط الانتخاب الطبيعي عملية التطور.

آليات الانقسام الاختزالي بسيطة نسبيًّا: يتم إتمام دورتين من الانقسام الكروموسومي دون وجود دورة من نسْخ اﻟ «دي إن إيه» فيما بينهما. وبانقسام خلية ثنائية الصبغيات مرتين، تُنتج أربع خلايا تكاثرية أحادية الصبغ. ويبدأ الانقسام الاختزالي باقتراب الكروموسومين المتشابهين (المتماثلين) — واحد من الأم والآخر من الأب — في الخلية ثنائية الصبغيات أحدهما من الآخر؛ حيث يمكن أن يحدث «تبادل» اﻟ «دي إن إيه»، وذلك في عملية تسمى العبور. يفصل الانقسام الأول أحد زوجي الكروموسومات إلى خليتين وليدتين جديدتين تنقسمان بشكل مباشر؛ مما يؤدي إلى إنتاج أربع خلايا تكاثرية تشتمل على نصف مكون اﻟ «دي إن إيه» الأصلي (الخلية أحادية الصبغ). والآليات الجزيئية للانفصال الكروموسومي من خلال الأنيبيبات الدقيقة للمغزل في الانقسام الاختزالي تكاد تكون هي نفسها المستخدمة في الانقسام الخيطي. ومن الناحية العددية، يفوق إنتاج الحيوانات المنوية كثيرًا إنتاج البويضات؛ حيث ينتج الذكر صاحب القدرة على الإخصاب ١٠٠٠ حيوان منوي في الوقت الذي تستغرقه ضربة قلب واحدة، في حين تولَد الأنثى بنحو ٥٠٠ بويضة تستمر معها على مدار الحياة.

(٤) تناسخ اﻟ «دي إن إيه»

قبل انقسام الخلية، يجب أن تُنتج نسختين من الحمض النووي «دي إن إيه» الخاص بها، واحدة لكل خلية وليدة. يُفصَل بين سلسلتي اﻟ «دي إن إيه» المأخوذتين من الخلية الأم، ويتم عمل النُّسَخ باستخدام سلسلتي اﻟ «دي إن إيه» الأصليتين كقالب. وحيث إن قواعد النيوكليوتيدات ترتبط كما يلي: الأدينين (A) مع الثيمين (T) والجوانين (G) مع السيتوسين (C)، فإنه إذا كان لإحدى السلسلتين تسلسل ATCG، فإن السلسلة الجديدة سيكون لها التسلسل TAGC. وسيكون تسلسل السلسلة القديمة المقابلة TAGC والسلسلة الجديدة ATCG. بهذه الطريقة، يتم تكوين نسختين متطابقتين من أي تسلسل «دي إن إيه». ويسمى هذا بالتناسخ شبه المحافظ، وعادةً ما يوفر نسخة مطابقة. وأي أخطاء في النسخ تنتج طفرات؛ مما يؤدي إلى تغيرات في الرسالة الوراثية التي تنتقل إلى الخلايا الوليدة. ويتكون اﻟ «دي إن إيه» في فترة واحدة متواصلة تستغرق نحو ثلث الوقت الذي تحتاج إليه أي خلية جديدة قبل أن تنقسم ثانيةً (دورة الخلية). في البكتيريا، قد تستغرق دورة الخلية بضع دقائق فقط، وساعتين في حقيقيات النواة البسيطة مثل الخميرة. في المقابل، تستغرق معظم دورات حياة الثدييات نحو ٢٤ ساعة. وهناك نسبة صغيرة فقط من الخلايا في الجسم البشري تنقسم يوميًّا. على سبيل المثال، تتكون طبقة جديدة من خلايا الجلد يوميًّا، ويبطَّن سطح الأمعاء بشكل مستمر ببطانة جديدة، لكن بعض الخلايا العصبية تستمر طوال عمرنا. عندما تكون هناك حاجة لإتمام عملية تناسخ اﻟ «دي إن إيه»، فإنها تحدث في نحو ١٠٠ «مصنع تناسخ» موزعة عبر النواة. وتُغذَّى آلة التناسخ باﻟ «دي إن إيه» تمامًا مثلما يوضع الفيلم في شاشة العرض السينمائي؛ ليخرج اﻟ «دي إن إيه» بعد ذلك على هيئة فيلمين. إذا أردنا وصف ما يحدث على المستوى الجزيئي بدقة، فسنحتاج كتابًا حجمه ضعف حجم الكتاب الذي بين أيدينا، لكننا سنعرض فيما يلي نظرة سريعة على العملية الكلية لانتقال المعلومات الوراثية بين الخلايا.
المتطلب الأول هو فصل سلسلتي حلزون اﻟ «دي إن إيه» لإنتاج قوالب لتكوين السلسلتين الجديدتين، واحدة لكل نصف من نصفي اﻟ «دي إن إيه» الأصلي. يكون هذا بسيطًا (نسبيًّا) في بدائيات النواة؛ حيث يبقى اﻟ «دي إن إيه» عاريًا في الخلية. أما في حقيقيات النواة، فستأخذ وقتًا أطول بكثير كي يحدث تناسخ اﻟ «دي إن إيه» بدءًا من نهاية واحدة فقط، بحيث يُحَل اﻟ «دي إن إيه» بفعل إنزيم يسمى الهيليكيز في نحو ١٠٠٠ موضع مختلف على طول الحمض. وإذا نظرنا إلى الجانب الهندسي لهذه العملية باستخدام قطع من الخيط الملتف، فسنجد أن الأمر يتطلب قطع سلسلة من الحلزون المتصل قبل إمكانية حل جزء قصير من اﻟ «دي إن إيه» مزدوج السلسلة. بعدها يحدِّد الإنزيم الأساسي للتناسخ (إنزيم بلمرة اﻟ «دي إن إيه») سلسلتي اﻟ «دي إن إيه» المفتوحتين عند «شوكات التناسخ» هذه، ويضيف قواعد نيوكليوتيدات جديدة (بالترتيب الصحيح) للسلاسل الجديدة بمعدل ١٠٠ قاعدة في الثانية (الشكل ٤-٢). ويمكن أن تقوم البكتيريا بهذا بمعدلات أسرع تصل حتى ١٠٠٠ قاعدة في الثانية. ومع المعدل السريع، فإن عملية التناسخ تكون دقيقة جدًّا، وذلك في وجود إنزيمات لمراجعة وتصحيح أي نيوكليوتيد غير مطابق، مع حدوث خطأ واحد فقط في الغالب في كل مليار نيوكليوتيد.

(٥) النسخ

fig10
شكل ٤-٢: تناسخ اﻟ «دي إن إيه»: (أ) شوكة تناسخ. يحل إنزيم الهيليكيز سلسلتي اﻟ «دي إن إيه» بحيث يمكن نسخ كل سلسلة منهما. وتجمع إنزيمات بلمرة اﻟ «دي إن إيه» — واحد لكل سلسلة — السلاسل المكملة في الاتجاهات العكسية (انظر اتجاه الأسهم). في البكتيريا، تكون سلاسل اﻟ «دي إن إيه» متواصلة ودائرية، بحيث يبدأ التناسخ عند نقطة ما، ويبدأ بشكل دائري حتى يكمل جزيء اﻟ «دي إن إيه» بأكمله. (ب) في الخلايا الحيوانية، يبدأ التناسخ بشكل متزامن في العديد من النقاط. في شكل رقم ١، يوجد «دي إن إيه» مزدوج السلسلة (واحدة باللون الرمادي والأخرى باللون الأسود) يوضح الأماكن التي تبدأ فيها عملية التناسخ (X). تبدأ إنزيمات بلمرة اﻟ «دي إن إيه» في نسخ السلسلتين في الاتجاه المشار إليه بالأسهم (٢، ٣). تنسخ عدد من إنزيمات بلمرة اﻟ «دي إن إيه» كل سلسلة؛ مما يؤدي إلى تجزئة سلسلة اﻟ «دي إن إيه» المكونة حديثًا (٣). ومع نمو فقاعات التناسخ ترتبط هذه الأجزاء بعضها ببعض، وتُفحص من أجل ضمان الدقة؛ وذلك لتكوين نسختين متطابقتين من اﻟ «دي إن إيه» الأوَّلي (٤).
fig11
شكل ٤-٣: إنزيم بلمرة اﻟ «آر إن إيه» عبارة عن مجموعة كبيرة من البروتينات، ويرتبط بمناطق معينة في بداية الجينات. ويفكك الإنزيم حلزون اﻟ «دي إن إيه» وينسخ سلسلة واحدة لتكوين سلسلة «آر إن إيه» مكملة. وتختلف الجزيئات السكرية الموجودة في اﻟ «آر إن إيه» عنها في اﻟ «دي إن إيه». ثلاث قواعد من الأربع متشابهة A) وC و(G، لكن U (اليوراسيل) يحل محل T. ومع تحرك إنزيم بلمرة اﻟ «آر إن إيه» على طول اﻟ «دي إن إيه»، تتجمع سلاسله ثانيةً لتكوين الحلزون.
النسخ هو الخطوة الأولى في العملية التي تُنتج فيها المعلومات الوراثية بروتينات جديدة. تُستخدم إحدى سلسلتي اﻟ «دي إن إيه» (المعروفة بسلسلة التشفير) كقالب لتكوين تسلسل «آر إن إيه» («آر إن إيه» رسول؛ الشكل ٤-٣) يُستخدم بعد ذلك كقالب لإنتاج البروتينات.

بشكل مماثل لما يحدث في عملية التناسخ، يجمَّع اﻟ «آر إن إيه» على طول قالب اﻟ «دي إن إيه» من خلال إنزيم بلمرة اﻟ «آر إن إيه» بدلًا من إنزيم بلمرة اﻟ «دي إن إيه». ويَستخدم اﻟ «آر إن إيه» الرسول أيضًا قاعدة نيوكليوتيدية مختلفة هي اليوراسيل بدلًا من الثيمين في حالة اﻟ «دي إن إيه». وقبل أن يخرج اﻟ «آر إن إيه» المنسوخ حديثًا خارج النواة، يغطَّى طرفه الأمامي ويثبَّت ذيل بطرفه الخلفي. تُزال أجزاء تسلسل اﻟ «دي إن إيه» المنسوخ غير المشفِّرة، وذلك في عملية تسمى تضفير اﻟ «آر إن إيه». يوسَم اﻟ «آر إن إيه» الرسول الجديد بالبروتينات التي ستنقله إلى مسام نووية قبل تمريره إلى السيتوبلازم؛ حيث سيرتبط بريبوسوم لتكوين الآلية الخاصة بتكوين بروتين جديد.

مع وضوح آليات عملية النسخ، فإن كيفية اختيار الجينات عملية أقل وضوحًا. فقد شغلت ظاهرة «التعبير الجيني» أذهان عدد كبير من علماء الأحياء الجزيئية عدة عقود. فغالبًا ما يُعبَّر عن الجينات الأساسية المطلوبة للحفاظ على الخلية في ترتيب عامل جيد (جينات التدبير المنزلي)، لكن العديد من الجينات الأخرى ستكون مطلوبة فقط في أوقات معينة أثناء حياة الكائن. بعض الجينات، مثل جزيئي بروتين الجلوبين المطلوبينِ لتكوين الهيموجلوبين، تكون مطلوبة بكميات كبيرة بحيث تتحول كرات الدم الحمراء لإنتاج ٩٠٪ من بروتينات الجلوبين. ويمكن أيضًا للخلية أن تُشغِّل أو تُعطِّل الجينات بشكل معقَّد جدًّا، كما أن إنتاج أو عدم إنتاج البروتينات والإنزيمات هو طريقة الخلية الوحيدة للاستجابة لأي تغيير في الظروف. لدينا نحو ٢٠٠ نوع مختلف من الخلايا في أجسامنا، كلها لها وظائف متخصصة. تنتج تلك الخلايا المتمايزة من جينات مختلفة تم تشغيلها أو تعطيلها في أنسجة مختلفة. والخلايا أيضًا يجب أن تكون قادرة على الاستجابة بشكل سريع للتغيرات الخارجية، وذلك بتشغيل جينات أو تعطيلها. وهذه العملية يتم التحكم فيها من خلال مجموعة مكونة من نحو ٣٠٠٠ بروتين مختلف تسمى عوامل النسخ. وتحتاج بعض الجينات إلى العديد من تلك العوامل، في حين تحتاج أخرى إلى القليل منها. توجد عوامل النسخ في السيتوبلازم، ويجب أن تدخل النواة للوصول لجيناتها. وعوامل النسخ المطلوبة للاستجابات السريعة تدخل وتخرج من المسام النووية؛ مما يبقي على وجود حالة دائمة من الجاهزية والاستعداد.

(٦) حركة الخلايا

إن معظم ما نعرفه عن آليات حركة الخلايا يرجع للمشاهدات الخاصة بالخلايا الليفية في المزارع النسيجية. تتحرك الخلية بمد طرف أمامي عريض، يسمى القدم الصفائحية (انظر شكل ١-٣(ﺟ))، يتحرك عن طريق دورة من الاقتراب والابتعاد لغشاء الجانب السفلي للسطح السفلي، وهي حركة تشبه حركة المد القادم وهو يضرب الشاطئ. يشتمل السطح العلوي لتلك القدم على ثنيات، وهي عبارة عن موجات نشطة من الغشاء الملتف، تتدفق تجاه مؤخرة الخلية. ويُنتَج كل هذا النشاط تحت غشاء الخلية بإضافة وحدات فرعية للأطراف الأمامية لشبكة متفرعة من الخيوط الأكتينية. وفي مؤخرة الخلية، تتحلل الخيوط الأكتينية، وتكون مستعدة لإعادة استخدامها في مقدمة القدم الصفائحية. والزوائد إصبعية الشكل التي تسمى الأرجل الكاذبة الخيطية (المماثلة للزغيبات) «تتحسس» الفجوات بين الخلايا؛ مما يسمح للخلايا الليفية بالحركة عبر النسيج الصلب. وهذه الهجرة عبر الأنسجة طبيعية جدًّا فيما يتعلق بالخلايا الليفية وخلايا كرات الدم البيضاء، وهي تقوم بمهامها الطبيعية المتعلقة بصيانة الخلايا والدفاع المناعي، لكنها في الوقت نفسه تمثل المشكلة الكبرى في السرطان. فالأورام تنتج عن فقدان القدرة على التحكم في انقسام الخلايا في مكان ما بالجسم. فإذا بَقِيَت كتلة الخلايا المنقسمة حديثًا في مكان محدد، فإن الورم الناتج سيكون حميدًا، ويمكن إزالته بنجاح بالجراحة أو القضاء عليه بالعلاج الإشعاعي. المشكلة الكبرى مع السرطان هي الانتشار؛ حيث تنفصل الخلايا من الورم الأساسي وتخترق النسيج المحيط وتصل في النهاية إلى مجرى الدم؛ حيث تنتج أورامًا ثانية في أي مكان بالجسم تقريبًا. والفهم الدقيق لكيفية تحرك الخلايا (سواء العادية أو الخاصة بالأورام) عبر حواجز الأنسجة هو الخطوة الأولى لإيجاد علاجات يمكن أن توقِف انتشار السرطان، وأدوية جديدة يمكن أن توقف انتشار خلايا السرطان بعيدًا عن الموقع الأصلي (الأساسي). في الأعوام القليلة الأخيرة، حدث بعض التقدم في تحديد الجينَين النشطين في عملية الانتشار (من غير المثير للدهشة أنهما المشتركان أيضًا في عملية هجرة الخلية) والمثبطات لعملهما. وقد اكتُشف أن ثمة مركَّبات مأخوذة من مصادر متنوعة مثل قشر الليمون (بكتين الحمضيات المعدل) وزيت الزيتون (الأوليوميدات) لها خصائص مضادة لانتشار السرطان.

(٧) هل الحركة خاصية منبثقة؟

في عام ١٨٢٤ لاحظ رينيه دوترشت، أحد رواد علم الأحياء الخلوي، أن «الحياة، فيما يتعلق بالنظام الفيزيائي، ليست أكثر من حركة، والموت ببساطة هو توقف هذه الحركة.» بعد نحو ٢٠٠ عام، ما زال الغموض يعتري الكيفية التي تضم بها الخلايا مكونات الهيكل الخلوي المختلفة بحيث تعمل ككيان متحرك واحد. تتطلب حركة الخلية مؤشرات كيميائية حيوية (إشارات) وإمدادًا بالطاقة وإعادة تنظيم للعناصر البنائية. وتحتاج عناصر الهيكل الخلوي للتمدد والتقلص ولتنظيم نفسها للعمل، لكن متى وبأي قدر من الطاقة، ومتى تتوقف عن ذلك؟ طبقًا لجونتر ألبرخت-بوهلر، أستاذ علم الأحياء الخلوي بجامعة نورث ويسترن في شيكاجو الذي يدرس سلوك الخلايا في المزارع، فإن «وظائف الكائن تعطي إشارة البدء للتفاعلات بين جزيئاته وتتحكم فيها»، وهي طريقة أخرى للقول إن الكل أكبر من مجموع أجزائه. والشيء الذي يحدث نتيجةً لتفاعل نظم عديدة معقدة يسمى الخاصية المنبثقة. في الطبيعة، تأتي الأمثلة الكلاسيكية على ذلك من الحشرات الاجتماعية، مثل الهياكل الهائلة التي تشبه الكاتدرائيات التي تكونها مستعمرات النمل الأبيض، أو حتى إنتاج أقراص العسل لدى النحل. يمكن اعتبار حركة أي خلية خاصيةً منبثقةً عن جزيئات الهيكل الخلوي يدعمها إنتاج الطاقة من قبل الميتوكوندريات والمعلومات المخزنة في الحمض النووي «دي إن إيه». بالتالي يبدو من الممكن أن تنتج ملايين الخلايا الموجودة في أحد الأنسجة خصائص منبثقة للقيام بوظيفة النسيج، ثم تضيف طبقة أخرى عند تكوين الأنسجة للأعضاء، وطبقة ثالثة عند تكوين الأعضاء للكائن بأكمله. ذلك الرأي ربما يعلِّل (وإن لم يكن يَشْرَحُ) بصورةٍ ما تعقيداتِ وجودنا.

(٨) هل حركة الخلية عشوائية بالكامل؟

بعد ثلاثين عامًا من فحص سلوك الخلايا الفردية في المزارع، وتسجيل قدر كبير من المشاهد بتقنية الفاصل الزمني، رصدت الدراسات التي أجراها العالم ألبرخت-بوهلر العديد من الملاحظات المدهشة التي تشير إلى أن الخلايا تحتاج إلى «ذكاء»، وتمتلكه بالفعل كي تتحكم في البيئة التي تحيط بها وتقوم بوظائفها. وفكرة أن الخلية «تعرف» المكان الذي تذهب إليه مدعمة بسلوكها عندما تتلاقى مع خلايا أخرى، ثم بعد الالتقاء تتحرك في اتجاهات مختلفة. وهذا يوضح وجود «اختيار» داخل الخلية كاستجابة لأي حدث غير متوقع أثناء عملية هجرتها.

إن الملاحظات المنشورة التي رصدها ألبرخت-بوهلر فيما يتعلق بسلوك الخلايا في طبق مزرعة، يبدو أنها تشير إلى وجود حركة موجهة وتقدير ظاهري لوجود خلايا أخرى على مسافة عديد من أقطار الخلايا. ويطلق ألبرخت-بوهلر على ذلك «ذكاء الخلية»، ويشير إلى أن هذا السلوك يتطلب معلومات، ويرى أنها عملية قد تتطلب أشعة تحت حمراء. وهو يرى أن الخلايا يمكن أن تصدر إشارات بعضها لبعض على مسافة عديد من أقطار الخلايا، وذلك بإصدار واستقبال أشعة تحت حمراء. وفي غياب أي دراسات كبيرة في هذا المجال البحثي، من الصعب تقييم الدلالة الحقيقية لتلك الدراسات التي أجراها ألبرخت-بوهلر، لكنها مثيرة للاهتمام إلى حد كبير. بعبارة أخرى، يرى ألبرخت-بوهلر أن «سلوك الخلية يتم التحكم فيه من قِبَل نظم تكامل بيانات معقدة للغاية، وهي غير معروفة — حتى الآن — لعلماء الأحياء.»

إذا كان النظام الذي يتحكم في حركة الخلية في البيئة البسيطة نسبيًّا لطبق المزرعة البلاستيكي معقدًا، إذن فالأمر نفسه ينطبق على حركة الخلية داخل الجسم البشري. تُضَخ خلايا الدم عبر الدورة الدموية لإمداد الأنسجة بالأكسجين بواسطة كرات الدم الحمراء، وللإبقاء على نظم الدفاع المناعي بواسطة مجموعة من خلايا الدم البيضاء التي تسمى كرات الدم البيضاء. وللوصول لأماكن الجرح أو العَدْوَى، يجب أن تترك كرات الدم البيضاء مجرى الدم. ويتم ذلك بأن تُلحِق نفسها بجدار الأوعية الدموية الصغيرة؛ أولًا ترتبط بالجدار من خلال جزيئات رابطة تسمى اللكتينات التي تشبه إلى حدٍّ ما مرساة حديدية، ثم تثبت عمليات الارتباط باستخدام بروتينات رابطة أقوى تسمى بروتينات الإنتجرين. عند هذه النقطة، تتحرك كرات الدم البيضاء بين الخلايا البطانية التي تبطن الأوعية الدموية (تمامًا مثل شق الطريق عبر حشد من الناس)، كي تكون مستعدة لمواجهة البكتيريا المهاجمة، وربما تنتحر الخلايا بأن تفجر نفسها لإخراج محتوياتها المقاومة للبكتيريا (سنعرض لهذا الأمر بتفصيل أكبر في الفصل السادس). وما إن تستسلم البكتيريا حتى تُبتلَع أجسامها بفعل الخلايا البالعة التي تنتقل أيضًا إلى المكان. إن سرعة ودقة هذه الاستجابة مثار للدهشة، على الرغم من وجود خلايا «حراسة» تدور باستمرار في مجرى الدم بالكامل. هناك أيضًا حركة موجهة منتظمة عند إنتاج فئة أخرى من كرات الدم البيضاء (الخلايا التائية)، التي تترك النخاع العظمي كخلايا طليعية غير ناضجة، وتكمل تطورها في الغدة الزعترية من خلال جزيئات ارتباط وتوجيه مماثلة. وعلى الرغم من وجود أفكار عامة عن آليات حركة الخلايا في الجسم، فنحن بعيدون جدًّا عن فهم الصورة الكلية.

(٩) كم عمر خلايانا؟

إن تأكيد بنجامين فرانكلين على أن اليقينين الوحيدين في الحياة هما الموت والضرائب فحسب؛ ينطبق جزئيًّا على الخلايا. فخيارات «النهاية» فيما يتعلق بالخلايا تتمثل في الانقسام أو الموت. والخلية «تتجنب» الموت بالانقسام، لكنها مع ذلك تضحي بوجودها الفريد بأن تصبح خليتين وليدتين. وأغلب الخلايا الوليدة متماثلة، ولها مصائر واحدة، وهي أن تتمايز لتؤدي وظيفة معينة، وأخيرًا تموت وتُستبدَل. وربما يتم هذا على مدار حياتها التي قد تستغرق بضع ساعات — كما هو الحال مع بعض كرات الدم البيضاء (الخلايا المتعادلة) — أو ١٢٠ يومًا بحدٍّ أقصى، كما هو الحال مع كرات الدم الحمراء. وأغلب الخلايا في أجسامنا تُستبدَل طوال دورة حياتها، بمتوسط من ٧ إلى ١٠ أعوام، وذلك تبعًا لما ذكره جوناس فريسن الأستاذ بمعهد كارولينسكا باستوكهولم. مع ذلك، فهناك ثلاثة أنواع من الخلايا التي نحملها منذ ولادتنا وحتى موتنا؛ وهي: الخلايا العصبية للقشرة الدماغية، والخلايا الموجودة في الجزء الداخلي لعدسات العين، وأيضًا — وهو ما يثير الدهشة — خلايا عضلة القلب، التي من المفترض أنها تنقبض أكثر من ٣ مليارات مرة في أي شخص بلغ من العمر ١٠٠ عام. إن الخلايا الموجودة في الجزء الداخلي من العدسات مماثلة جدًّا من الناحية البنائية لخلايا الجلد القرنية، من حيث إنها مملوءة بدرجة كبيرة بألياف الكيراتين، ولكنها موضوعة في ترتيب كريستالي عالي التنظيم يسمح لمرور أقصى قدر من الضوء عبرها. وفي الوقت المناسب قد يتفكك هذا التنظيم الكريستالي وتصبح خلايا عدسات العين مُعتِمَة؛ مما ينتج عنه مرض المياه البيضاء.

(١٠) موت الخلية

كما رأينا، قد تتراوح مدة حياة الخلايا داخل الجسم البشري بين ساعات وعقود. وقد تحدث عملية الموت الفعلية بأشكال مختلفة وبأسباب مختلفة؛ فقد تنتج عن صدمة مباشرة؛ مثل إصابة ميكانيكية أو تعرُّض لحرارة أو برودة شديدتين، أو تأثيرات مباشرة وفورية؛ مثل تمزق في غشاء الخلية أو تدمير فوري للبروتينات. وهذا يُنتج توازنًا يحافظ على وضع الخلايا في الأنسجة، وهكذا تموت الخلية، تمامًا مثل موت الإنسان المفاجئ وأحيانًا العنيف، ربما في حادثة طريق أو أثناء الحرب. في الخلايا، يسمى هذا النوع من الموت بالنخر.

هناك نوع آخر أكثر إثارة من موت الخلية، وهو الذي يُعد عملية ضرورية جدًّا في كل الكائنات متعددة الخلايا، وهو ما اكتُشف في البداية في دراسات النمو، ولكن اعتُبر نوعًا من «الانتحار» لكل الخلايا التي فشلت في أن تتكاثر بطريقة مُرضية، مُنهيةً أي خطر يفرضه التناسخ المستمر للخلايا «الخبيثة». يُعرف هذا بموت الخلية المبرمج أو «الاستماتة» (مرادفها الإنجليزي apoptosis مشتق من كلمة يونانية تعني «تساقط أوراق الشجر»)، وقد اكتُشف لأول مرة في سبعينيات القرن العشرين على يد ألستير كوري، وجون كير، وأندرو وايلي؛ أساتذة علم الأمراض في جامعة أبردين، الذين رصدوا (باستخدام ميكروسكوبات إلكترونية) سلسلة من التغيرات المحددة التي تؤدي إلى موت الخلية. وقد احتاج الأمر أكثر من عقد من الزمان قبل الاعتراف التام بهذه العملية كآلية حيوية أساسية للحفاظ على وضع الخلايا في الأنسجة. لا تثير هذه العملية أي استجابة مناعية (كما يمكن أن يحدث أثناء عملية النخر)؛ حيث «يعاد استخدام» محتويات الخلايا استخدامًا فعالًا، وابتلاع بقايا الخلية الميتة من قِبَل الخلايا المجاورة السليمة. وعملية الاستماتة أساسية في عمليات النمو؛ مثل إزالة التشابك بين أصابع اليد في البشر، وفقدان الذيول الشرغوفية في البرمائيات، وتحول الحشرات. تبدأ الخلايا التي لم تعُدْ مطلوبة أثناء النمو في الانكماش، وتُنتج أسطحها نتوءات كروية تسمى الفقاعات أو الحويصلات (الشكل ٤-٤(أ))، وهي عملية نشطة جدًّا عند ملاحظتها باستخدام صور ميكروسكوبية بتقنية الفاصل الزمني، مع تشابه سطح الخلية مع بِرَك الحمأ التي تغلي في المواقع البركانية. وداخل الخلية، تتحلل محتويات النواة ويتجمع الكروماتين في كتل كثيفة مميزة تصبح الشكل المميز للخلايا التي تعرضت للاستماتة (الشكل ٤-٤(ﺟ))، مع تفكك الحمض النووي «دي إن إيه» إلى أجزاءٍ صغيرة.
fig12
شكل ٤-٤: الاستماتة (موت الخلية المبرمج) (أ) أولًا، تتكون فقاعات على سطح الخلية. (ب) تفقد الميتوكوندريا بناءها الداخلي. (ﺟ) تتجمع محتويات النواة. (د) تتكون مسامُّ في سطح الميتوكوندريا.

ما إن عُرف أن الاستماتة ظاهرة عامة تؤدي إلى موت الخلايا، حتى بدأت عمليات البحث الجِدِّيِّ لتحديد كيفية بدء عملية «انتحار الخلية» هذه. ظهر مساران اعتمادًا على كون السبب فيها خارجيًّا أو داخليًّا. تنتج الاستماتة الخارجية عن إشارات تُستقبَل في الغشاء الخلوي، وترتبط ﺑ «مستقبلات الموت» على سطح الخلية، وهي التي تبدأ بعد ذلك عملية انتحار الخلية. عادةً ما يحدث هذا النوع من الاستماتة كطريقة لقتل الخلايا في التفاعلات المناعية. أما عن الاستماتة الداخلية، فتحدث أثناء تطور الجنين؛ حيث تكون مبرمَجة على مرحلة معينة، أو تبدأ نتيجةً لحدوث ضرر كبير في الحمض النووي «دي إن إيه»، كالذي يحدث بسبب الإشعاع المؤيَّن. تحدث عملية الاستماتة أيضًا عندما يكون تناسخ الحمض النووي «دي إن إيه» منقوصًا، ومع وجود آليات إصلاح تجد نظم التحقق من مراقبة الجودة أخطاءً قد تؤدي إلى إنتاج بروتينات بها طفرات.

(١٠-١) آليات انتحار الخلايا

كيف تنهي الخلية حياتها إذن؟ تعتمد آلية «انتحار الخلية» الفعلية على الميتوكوندريا التي سماها نيك لين «ملائكة الموت» في كتابه «الطاقة والجنس والانتحار: الميتوكوندريا ومعنى الحياة». يحدث التغير الأول في الغشاء الداخلي للميتوكوندريا، الذي يتلف بسبب النشاط الكيميائي الحيوي الشاذ؛ مما يؤدي لتكَوُّنِ مسامَّ في غشاء الميتوكوندريا (الشكل ٤-٤(ب)، (د)). عند هذه النقطة، تُضطَّر الميتوكوندريا لبدء عملية الاستماتة وإفراز السيتوكروم سي (وهو بروتين مهم لوظيفته الطبيعية الخاصة بإنتاج الطاقة) الذي يخرج عبر المسامِّ المتكوِّنة حديثًا. تكشَّفت لنا هذه المعلومات بفضل بعض التجارب المدهشة التي أُدخلت فيها ميتوكوندريا ميتة بفعل الاستماتة إلى خلايا صحيحة تمامًا؛ مما أدى إلى حدوث عملية الاستماتة. يتحدُّ البروتين المفرَز مع العديد من البروتينات الأخرى في السيتوبلازم لتكوين مجمع يسمى الأبوبتوسوم، الذي يقوم بدوره بتنشيط متتالية من «إنزيمات الإعدام» التي لا تقتل الخلية فحسب، بل تسبب أيضًا تجزئة النواة والسيتوبلازم إلى قطع صغيرة؛ كي تُلتهَم من جانب الخلايا المجاورة.

وحيث إن موت الخلايا الداخلي يحدث كجزء من برنامج خاص بالنمو، فيبدو من المحتمل أنه كانت هناك بالفعل جينات للاستماتة. بدراسة دودة كينورهابدايتس إيليجانس (وهي دودة خيطية خضعت لدراسات كثيرة)، التي من المعروف أن ١٣١ خلية من إجمالي خلاياها البالغ عددها ١٠٩٠ تموت بسبب ظاهرة الاستماتة أثناء النمو؛ وجد بوب هوروفيتس الأستاذ من كامبريدج بالولايات المتحدة العديدَ من الجينات الخاصة بموت الخلية المبرمج. وأدت تلك الدراسات إلى حصوله على جائزة نوبل عام ٢٠٠٢ بالمشاركة مع جون سالستون وسيدني برينر من كامبريدج في المملكة المتحدة.

كان العديد من جينات «موت الخلية» هذه جيناتٍ حدثت بها طفرات بصورة متكررة في العديد من خلايا السرطان في الثدييات؛ مما يؤكد أن الاستماتة آلية للتخلص من الخلايا ذات اﻟ «دي إن إيه» التالف. وتثبط الطفرات في جينات موت الخلية عملية الاستماتة؛ مما يسمح للخلايا ذات اﻟ «دي إن إيه» التالف أو الذي حدثت به طفرات أن تنمو نموًّا غير طبيعي وتتحول لأورام. وقد وجَّه ديفيد لين، الذي فقد والده وهو ما زال في التاسعة عشرة من عمره بسبب إصابته بالسرطان، جهودَه البحثية لاستكشاف التغيرات التي تحدث عندما تصبح الخلايا العادية سرطانية. ففي عام ١٩٧٩، اكتشف بروتين بي٥٣، وهو بروتين غير نشط أو غير موجود في كل الخلايا السرطانية تقريبًا. فإذا كان هذا البروتين الطبيعي موجودًا بالمستويات الصحيحة في الخلايا المنقسمة، وحدث تلف في اﻟ «دي إن إيه» لخليةٍ ما (أو تم تناسخ اﻟ «دي إن إيه» الخاص بها بصورة غير دقيقة)؛ يبدأ هذا البروتين عملية الاستماتة، أو — إذا فشل في هذا — يُحفِّز عملية الهرم؛ مما يوقف كل عمليات الانقسام؛ الأمر الذي أدى لوصفه بأنه مثبط للورم و«حارس الجينوم». تتعرف خلايا الجهاز المناعي على الخلايا التي حدثت بها عمليات استماتة أو هرم (انظر الفصل التالي)، ويتم التخلص منها بواسطة عملية الابتلاع؛ لذا، حتى في المراحل المتقدمة من الإصابة بالسرطان، فإن استعادة «استجابة بروتين بي٥٣» ستَنتج عنها استجابات دفاعية قوية تعمل على تقليص حجم الأورام وتُوقِف انتشارها أكثر. لسوء الحظ، فإن إدخال بروتين بي٥٣ الطبيعي إلى الخلايا السرطانية ليس عملية بسيطة، وهناك العديد من استراتيجيات علم الأحياء الجزيئي قَيْد البحث حاليًّا. إن أمل العلاج الجيني، كالسبيل لعلاج العديد من الأمراض، لم يتحقق بعد؛ غالبًا لأن الجوانب التطبيقية لإدخال الجينات ومنتجاتها إلى الخلايا بالكميات الصحيحة وفي الوقت الصحيح دون أي آثار جانبية غير مقبولة، ما زالت صعبةً للغاية. المثير للاهتمام أنه يبدو أن الصين تحرز تقدمًا كبيرًا في العلاجات المعتمدة على بروتين بي٥٣، وذلك من خلال عقَّار يسمى الجينديسين الذي اعتمده كعلاج لسرطان الرأس والعنق عام ٢٠٠٣، في حين أن إدارةَ الغذاءِ والدواءِ الأمريكيةَ حتى عام ٢٠١٠ لم تعتمد أي علاجات قائمة على هذا البروتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤