الفرعون أمنحتب الثالث

١٤٠٥–١٣٧٠ق.م

(١) مقدمة

يدل ما لدينا من وثائق على أن «تحتمس الرابع» كان آخر فرعون عظيم من فراعنة الأسرة الثامنة عشرة، سار على رأس جيش عرمرم لتأديب الأمراء الثائرين في بلاد آسيا وإخضاعهم وإعادة النظام إلى كل ممتلكاته في تلك الجهات النائية، فلما مات ترك ملكه الذي كان يمتد من «الفرات» شمالًا إلى «كاراي» جنوبًا يُخيِّم على ربوعه السلام والسكينة، وبموت هذا العاهل انطفأت شعلة الروح الحربي الذي كان يضيء نفوس فراعنة هذه الأسرة الأماجد، كما خَبَتْ في نفوس الشعب. وتلاشت تلك الصفات التي كانت تقود رجال «تحتمس الثالث» إلى ساحة القتال بقلوب ملؤها الشجاعة والإقدام.

عاجَلَتِ المَنِيَّة «تحتمس الرابع» وهو في نَضْرة الشباب ومقتَبَل العمر الذي تُرجَى فيه الأعمال العظيمة. وقد تضاربتِ الآراء والبحوث الطِّبِّيَّة في نسبة «أمنحتب الثالث» إلى سَلَفِه «تحتمس الرابع»، فإن تحتمس مات في عنفوان شبابه غير متجاوز السادسة والعشرين ربيعًا من عمره، كما يقول الأطباء الذين فحصوا عظامه، ومن أجْل ذلك يعتقد بعض المؤرخين أن «أمنحتب الثالث» ليس ابن «تحتمس الرابع» ارتكانًا على نتائج ذلك الفحص الطبي، ويَرَوْن أنه أخوه (راجع G. Ellot. Smith; Daressy, A. S. IV, p. 110).
fig4
شكل ١: أمنحتب الثالث في شبابه.
وإذا كان تقدير سِنِّه صحيحًا استحال أن يكون «أمنحتب الثالث» ابنه؛ لأن أمنحتب حين خلفه على العرش تزوج في السنة الثانية من حكمه بالملكة «تي»، ولا يعقل أن يكون لتحتمس وهو حَدَث السِّنِّ ابنٌ أهلٌ للزواج في هذا الوقت، اللهم إلا إذا كان هذا الزواج صوريًّا لا فعليًّا، ولذلك رجَّح بعض علماء الآثار تخلُّصًا من هذا المأزق أنه كان أخاه، على الرغم مما ورد في الآثار مثبِتًا أنه ابنه مما سنفصِّل القولَ فيه. فالفريق الذي يدَّعِي أنه أخوه يقول إن ما جاء على الآثار من أنه ابنه إنما هو تجوُّز في التعبير. فقد جاء فعلًا في نقوش مدينة «الكاب» (راجع L. D. III, Pl. 80b). أنه والده. وكذلك في نقوش «حور محب» (راجع L. D. III, Pl. 78a.) ذكر أنه والده، ولكن قد يكون دَعِيَّه وحسب. وقد جاء في خطاب من خطابات «تل العمارنة» كذلك (Am. 5, 04) أن «منخبريا» أيْ «تحتمس الثالث» هو جَدُّ «أمنحتب الثالث». غير أن أمَّه «موت مويا» لا يمكن أن تكون زوج «تحتمس الرابع» اعتمادًا على أن اسمها لم يُذكر على الآثار بهذا اللقب، وكذلك لا يحتمل توحيدها مع الأميرة المتنية أخت «أرتاتاما» كما يُقال غالبًا، وهي التي تزوجها «تحتمس الرابع»، (Am. 29, 16.). ومن المهم جدًّا أن نذكر أن «تحتمس الرابع» قد احتفل بعيد «سد» (أي العيد الثلاثيني) مرتين (راجع Breasted, “Temples of Lower Nubia” A. J. S. L. XXIII. (1906) p. 51). وهذا يُعدُّ برهانًا آخر على أن هذا العيد لا يُقام على أساس تاريخي ثابت (راجع Ed. Meyer. “Gesch.” II, I. p. 149). أما الذين يقولون إن «أمنحتب الثالث» هو ابن «تحتمس الرابع» والملكة «موت مويا» فيستندون على النقوش والمناظر التي تركها «أمنحتب الثالث» نفسه على جدران معبد الأقصر، وهي التي تمثل ولادة هذا الفرعون الإلهي.

(٢) ولادة أمنحتب الثالث كما صُوِّرت على جدران معبد الأقصر

وقد كان ملوك مصر منذ نهاية الأسرة الرابعة عندما يعوز الفرعون منهم المؤهلات التي تُبرِّر له ارتقاء عرش البلاد، يحتال في إيجاد حُجَج ترفعه إلى عرش الملك أمام أعين الشعب الذين كانوا ينظرون إلى الفرعون نظرة الإله، وأنه من دم إلهي خالص، أو بعبارة أخرى كان يُعدُّ ابنَ الشمس. والظاهر أن الملكة «موت مويا» والدة «أمنحتب الثالث» لم تكن من دم ملكي خالص مما دعاه إلى تمثيل ولادته على جدران معبد «الأقصر» ليُظهِر للملأ أنه ابن الإله «رع»؛ ولذلك نراها في المنظر الذي على جدران معبده بالأقصر تجتمع بالإله «آمون» وتحمل منه الملك «أمنحتب الثالث»، وذلك جريًا على عادة الثالوث في المعابد المصرية؛ أي إن الإله يجتمع بالإلهة زوجه التي معه في المعبد وبذلك يُعقِبان ذكرًا يكون هو الابن وثالث ثلاثة. وبهذه الطريقة المُلَفَّقة يصبح الفرعون الجديد ملكًا على البلاد، حتى ولو كان أجنبيَّ الأب والأم عن الدم المصري، كما حدث في تتويج «الإسكندر الأكبر» الذي مثَّل هذه الرواية عند اعتلائه عرش مصر (راجع Maspero, “Ecole des Hautes Etudes Anniversaires”. (1897)). على أن ما فعله «أمنحتب الثالث» هو نفس ما عملتْه الملكة «حتشبسوت» من قبله كما ذكرنا. وتدل كل الشواهد على أن «أمنحتب الثالث» هو ابن الملك «تحتمس الرابع»، كما تحدثنا النقوش، وأن مسألة تقدير سِنِّه مشكوك فيها (Wolf, A. Z., LXV, p. 98).

تولَّى «أمنحتب الثالث» وهو صغير السِّنِّ، وقد استمر في حكم البلاد منفردًا نحو ستٍّ وثلاثين سنة، كان في خلالها أعظم عاهل في العالَم المتمدين، كما كانت «مصر» أكبر إمبراطورية في الشرق القديم وصاحبة السيادة السياسية والأدبية فيه.

(٣) حروبه في السودان

وتدل الوثائق التي وصلت إلينا حتى الآن على أنه لم يَقُمْ بحرب غير حملة واحدة في بلاد «كوش» في السنة الخامسة من حكمه، وهذا دليل على أنه لما تولى الملك كان السلام على وجه عام مخيِّمًا على ربوع دولته المترامية الأطراف في آسيا.

والظاهر أنه قامت ثورة في بلدة «أبهت» الواقعة بعد الشلال الثاني، فكلَّف الفرعون نائبه في أقطار الجنوب وابن الملك المسمى «مرمس» بجَمْع جيش من النوبيين من بلاد النوبة السفلى والزحف به لقمع الثورة بمساعدة الجيش المصري الذي كان بقيادة الفرعون نفسه، وكان قد أقلع في فصل الفيضان، وهو الوقت الذي كان يحتفل فيه بعيد تتويج الفرعون. وعلى الرغم مما جاء في وصف هذه الحملة من تهويل ومبالغات فإن القتال كان يدور مع فئة صغيرة من السودانيين، وقد بلغ عدد مَن قُتل وأُخذ أسيرًا نيِّفًا وألفًا. وبعد أن أحرز الفرعون النصر على هؤلاء العصاة أوغل في بعض الوديان الواقعة على ضفتي النهر، وكانت مأوًى لقبائل الصحراء الذين تعوَّدوا الانقضاض على الأماكن المعمورة من وقت لآخر لسلْبِها ونهْبِها، غير أننا عندما نقرأ أن «أمنحتب الثالث» قد بسط حدوده إلى حيث شاءت إرادته، حتى وصلت إلى عَمَد السماء الأربعة، لا يعني ذلك إلا أنه لم يَتَعَدَّ بلدة «نباتا» الواقعة بالقرب من الشلال الرابع. وما لدينا من الوثائق لا يدل على أن السيادة المصرية تخطَّتْ هذه النقطة. فكانت الحدود الجنوبية لبلدته لا تَعْدُو إقليم «كاراي». ونراه في أثناء هذه الحملة على بلاد «كوش» قد أخضع بعض قبائل ذكر اسمها، غير أن هذه الأسماء لم تُذكر على الآثار المصرية قبل حكمه ولا بعده. ولا يعني ذلك أن كل القبائل التي نَجِدها على الآثار مصوَّرة بوَصْفها أسْرَى قد أخضَعَها هو في حروبه التي شنَّها في بلاد النوبة وما بعدها، فإننا نجد في عهده مرسومًا على جدران معبد «صولب» صور أقوام من السوريين وبلاد «نهرين» و«قادش» وجهات أخرى من التي كانت في حالة سِلْم معه. وحقيقة الأمر إذن أن صور هذه البلاد وأهلها المُكبَّلين في الأغلال لا تدل إلا على أنها كانت خاضعة للحكم المصري. (راجع Petrie, “History”, II, p. 18). ولدينا وثائق تحدثنا عن هذه الحملة؛ أهمُّها لوحة نُقشت في الصخر عند الشلال الأول، رُسم في الجزء الأعلى منها الملك يَطَأ بقدميه الآسيويين ويضرب السُّود، وأمامه الإله «آمون»، ثم الإله «خنوم» إله الشلال، وخلفه الإله «بتاح» رب «منف».
ومما يؤسف له أن هذه النقوش مهمشَّة، هشَّمها رُسُل «أمنحتب الرابع» (إخناتون)، وهاك ما تبقَّى منها:

السنة الخامسة الشهر الثالث من الفصل الأول اليوم الثاني وهو يوم التتويج، في عهد جلالة «حور» الثور القوي، المضيء في الصدق، محبوب الإلهتين، مؤسس القانون، ومهدئ الأرضين «حور» الذهبي، العظيم في القوة، وضارب الآسيويين، الإله الطيب، حاكم طيبة، رب القوة، شديد البأس، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نب ماعت رع» ابن الشمس «أمنحتب الثالث» حاكم طيبة، محبوب آمون، وملك الآلهة، و«خنوم» سيد الشلال الذي يُعطي الحياة.

لقد أتى إنسان ليُخبِر جلالته أن العدو صاحب «كوش» الخاسئ قد دبَّر عصيانًا في قلبه. فسار جلالته للظَّفَر به، والتغلُّب عليه، فأتمَّه في حملته الأولى المظفَّرة. وقد خرج جلالته مثل … ومثل … «حور» ومثل «منتو» … ولم يعرف هذا الأسد الذي كان أمامه، وكان «نب ماعت رع» (أمنحتب الثالث) أسدًا ذا عين مفترسة فاستولى … «كوش». وقد هزم كل الرؤساء في وديانهم حتى سقطوا مُخضَّبين بدمائهم، الواحد فوق الآخر …» (راجع Breasted, A. R. II. § 843ff; L. D. III, 81h). وكذلك دُوِّن على صخور جزيرة «كونوسو» في النهاية الشمالية من «الفيلة» لوحةٌ تذكارًا لهذه الحملة كاللوحة السابقة، وقد جاء فيها: «… السنة الخامسة عاد جلالته بعد أن انتصر في حملته الأولى المظفَّرة في أرض «كوش» الخاسئة، بعد أن جعل حدوده تمتدُّ كما يرغب فيه، فقد امتدت حتى العَمَد الأربعة التي تحمل السماء، وأقام لوحة نصر عند بِرْكة «حور»، ولا يوجد ملك مصري عمل مثل هذا غير جلالته؛ وهو القوي المبتهج بالنصر «نب ماعت رع» (أمنحتب الثالث) …
ولا نعرف حتى الآن موقع بركة «حور» التي ذُكرت في هذا النقش. (راجع Breasted, A. R. II. § 845; L. D. III, 82a).

(٣-١) لوحة سمنة

وفي «المتحف البريطاني» لوحة تُشير إلى حروب «أمنحتب الثالث» في بلاد النوبة، وما أخضعه نائب الملك المسمى «مرمس» (راجع Birch, “Archeologia”, XXXIV, p. 388; “Archaeological Journal”, VIII. p. 399; Breasted, A. R. II, 851).
والجزء الأول من النقش قد ضاع، ويحتمل أنه قد جاء فيه إعلان العصيان:
… حدث حصد محصول العدو صاحب «أبهت» ibht وقد قَدَّم كل إنسان نفسه وأعد جيش الفرعون للموقعة، وكان بإمرة «ابن الملك»، وقد جمع الجنود يقودها قُوَّادهم، وكان كل إنسان مع أهل قريته من حصن «بكي» BKY (بالقرب من كوبان) حتى حصن «تاري» (بالقرب من إبريم) وقد قطع اثنين وخمسين «إترو» (أي حوالي ٧٥ ميلًا).

(٣-٢) الموقعة

وقد أخذتْهم قوة «نب ماعت رع» في يوم، بل في ساعة في مذبحة وماشيتهم، ولم يُفلِت واحد منهم، وأُحضر كلٌّ منهم … الخوف، وقد استولت عليهم قوة «أمنحتب»، والمتوحشون منهم ذكورًا وإناثًا لم يُفصل بينهم، وذلك بتدبير «حور» رب الأرضين، الملك «نب ماعت رع» الثور القوي الشديد في البأساء. وقد كانت بلاد «أبهت» متغطرسة، وكان في قلوبهم أشياء عظيمة، ولكن الأسد ذا العين المفترسة — هذا الحاكم — قد ذبحهم بأمر «آمون-آتوم» والده الفاخر، وهو الذي قاده بقوة ونصر.

(٣-٣) قائمة الأسرى والقتلى

«قائمة الأسرى الذين استولى عليهم جلالته في أرض «أبهت» الخاسئة:

خمسون ومائة عبد حي، وعشرة ومائة رامٍ، خمسون ومائتا أَمَة، خمسة وخمسون خادمًا من العبيد، وخمسة وسبعون ومائة من أولادهم، فمجموع هؤلاء إذن أربعون وسبعمائة نسمة، يُضاف إليهم اثنتا عشرة وثلاثمائة يد منهم، وعلى هذا فالمجموع الكلي لهؤلاء الأسرى هو اثنان وخمسون بعد الألف من النسمات.

ما قاله نائب الفرعون

ابن الملك الساهر لأجل سيده، محبوب الإله الطيب، حاكم كل بلاد «كوش»، وكاتب الملك «مرمس» يقول: الحمد لك يا أيها الإله الطيب، إن بأسك عظيم على مَن يُجابِهك، وإنك تجعل مَن يثور عليك يقول: إن النار التي أشعلناها تضطرم فينا، وإنك ذبحتَ كل أعدائك وطرحتَهم تحت قدميك.

(٣-٤) أعمال الفرعون في آسيا

أما الأراضي الآسيوية فإن قَدَم «أمنحتب الثالث» لم تطأها قط، هذا على الرغم مما ذكره في نقوشه كما سيأتي من أنه أخضع بلاد «رتنو» وبلاد «نهرين» بحدِّ السيف، يُضاف إلى ذلك أنه لم يسيطر سيطرة فعلية على بلاد «سنجار» و«آشور» و«أرباخا» و«كريت» قط. والواقع أنه ربما كان يعني من ذكره هذه البلاد أنها كانت تَدِين له بالهدايا التي كانت تأتي إليه منها. إذن الواقع أن «أمنحتب» لم يذهب أبدًا إلى هذه البلاد ولم يشنَّ عليها أية حرب كما يدل على ذلك الخطاب الذي أرسله أمير جبيل «ببلوص» (راجع Am. 69, 85). يلح فيه على الفرعون «أمنحتب الثالث» أن يحضر بنفسه ليضع حدًّا للهجوم الذي قام به «عبد أشرتا» الأمير الأموري، فيقول فيه: منذ أنْ غادر والدك «صيدا» (منذ هذه الأيام)، والبلاد قد انضمَّتْ إلى البدو (جاز)، ومن ذلك نعلم أن آخر فرعون قام بحروب في سوريا هو الفرعون تحتمس الرابع (راجع Meyer, “Gesch.” II, 1, p. 150).

أما المصادر المصرية التي تشير إلى حروبه في آسيا فهي:

(١) لوحة من الحجر الجِيري الأبيض أُقيمت في معبده الجنازي في «طيبة»، تحدثنا عن انتصاراته في الشمال والجنوب، فنشاهد عليها منظرًا يَظهَر فيه «أمنحتب» مرتين إحداهما على اليمين يسير فيه فوق أهالي الكوش المجدلين، ورؤساؤهم مكبلون وراء خيله، وقد كُتب فوقهم النقش التالي: «الإله الطيب … رب السيف الشديد في سوقهم (عند عربته) مهلكًا وارث الكوش الخاسئين ومُحضِرًا أمراءهم أسرى أحياء.» ثم يُشاهَد بنفس الطريقة ماشيًا فوق الآسيويين في الجهة اليسرى من اللوحة. وقد كُتب فوق الأمراء الذين رُبطوا في الخيل الكلمات التالية: «الإله الطيب «حور» الذهبي، المضيء في عربته مثل طلوع الشمس، العظيم في البأس، والقوي في السلطة، عظيم القلب مثل ساكن «طيبة» (منتو) ضارب نهرين بسيفه البتار.» وفي أسفل اللوحة كُتب السطر التالي: «… كل مملكة، وكل المدنيين، وكل السكان، ونهرين، وكوش الخاسئة، و«رتنو العليا» و«رتنو السفلى» تحت قدمَيْ هذا الإله الطيب مثل رع مخلدًا.» (راجع “Breasted”, A. R. II, § 856ff. Petrie. “Six Temples”, X). يُضاف إلي ذلك جِعْران كُتب عليه: «المستولي على «سنجار».» (راجع Fraser, P. S. B. A. XXI, Pl. III).
وفي معبد «صولب» نقش على عَمَده صور أسرى تمثِّل بلاد «سنجار»، و«نهرين»، و«الخيتا»، و«قادش» و«تونب»، و«أوجاريت»، و«كفتيو»، و«قرقميش»، و«آشور»، و«أراباخيتس» (راجع L. D. III, Pl. 88).

ومما سبق نرى إذا صدَّقنا ما جاء على الآثار أن هذا الفرعون فتح البلاد المشار إليها هنا، بَيْدَ أن الحقيقة الواقعة أنها كانت كلها ممالك مصادِقة له تُرسِل إليه الهدايا كما أسلفنا.

(٤) إمبراطورية «أمنحتب الثالث» وملاهيه

والواقع أن «أمنحتب الثالث» كان آخِر فرعون حكم الإمبراطورية المصرية من أقصاها إلى أقصاها، وهي ذلك المُلْك الشاسع الذي فتحه أسلافه المحاربون، وإذا قيس هذا الملك الضخم بأعمار الدول العظام الأخرى فإنها تُعدُّ قصيرة العمر؛ إذ قد وصلت إلى قمة مجْدها في الفتوح في عهد «تحتمس الثالث» العظيم في حملته الثامنة حينما عَبَرَ بجيوشه «نهر الفرات» وأقام لوحة الحدود على ضفته اليمنى، وعندما انتصر على الآسيويين في موقعة «قرقميش» عام ١٤٦٧ق.م، ولم يكد ينقضي قرن من الزمان على هذا الفتح حتى وجدنا هذا المُلْك الشاسع أخذ يذوب ويتلاشى في آسيا، فلم يحلَّ عام ١٣٦٠ق.م حتى أصبح مُلْكها في سوريا أَثَرًا بعد عَيْن إلى أنْ أعاد «سيتي» وابنه «رعمسيس الثاني» بعض مجْد البلاد ثانية في هذه البقاع.

والظاهر أن الروح الحربي الذي كان يتأجَّج في نفوس رجال الشعب المصري قد انطفأ مصباحه عندما أخذتْ عِيشة التَّرَف والبَذَخ والدَّعَة تدِبُّ في الشجعان الذين كانوا يقودون جيوش مصر إلى ساحة النصر والفخار.

ولا غرابة فقد كان «أمنحتب الثالث» أكبر مترجم للشعور القومي من هذه الناحية. حقًّا كان نَشِطًا مقدامًا إلى حدٍّ ما، عندما كان يقوم بأعمال ترتاح إليها نفسه، وينعم بها لشخصه وإشباع شهوة في طويته؛ إذ يدل ما ترك لنا من آثار وبخاصة جعارينه التذكارية على أنه كان صيادًا ماهرًا مثل والده وأجداده، وقد سجل لنا على أحدها عدد الأسود التي سقطتْ مضرَّجة بدمائها بسهامه، غير أنه على ما يَظهَر لم يَرِثْ منهم حبَّ الغزو الذي بقي يضطرب في نفس «تحتمس الثالث» حتى أقعدتْه عنه الشيخوخة وأعباء السنين، والواقع أنه بعد حملته إلى بلاد النوبة كانت كل الإمبراطورية في هدوء تام مدة طويلة من الزمن، وقد يكون هذا هو السبب الذي جعله يقوم بدور آخر مثَّله تمثيلًا يتفق مع عظمة مصر وضخامة ملكها. فقد أراد أن يمثل في شخصها كل البهاء والفخار وأبهة المُلْك التي أحرزها أجداده لمصر قبل أن يخبو مصباحها وتنكمش في عقر دارها. وقد كُتب له أن يفوز بما أراد بما هيَّأَتْه له الأحوال، فكان مَثَلُه مَثَلَ «هارون الرشيد» الذي يرمز إلى عظمة الدولة العباسية، مع الفارق أن الثاني كان يغزو سنة ويحجُّ أخرى. أما الأول فكانت حياته صيدًا وقنصًا، أو إنشاء أو تشييدًا، وقد كان يَعدُّ نفسَه إلهًا على الأرض، ولا غرابة في ذلك؛ فإن كل ملك مصري كان يُلقَّب بالملك الطيِّب، كما كان يلقب «آمون» أو «رع» أو «بتاح» بالإله الأعظم الذي يسكن السماء، غير أن طبيعة «أمنحتب» الإلهية لم تكن رسمية فقط، بل كان مثله كمثل الملكة «حتشبسوت» من قبله، ابن الإله مباشرة. وذلك أن الإله «آمون» ملك الإمبراطورية وربَّه الأعظم قد تمثَّل للمَلِكة «موت مويا» بشرًا سويًّا في صورة «تحتمس الرابع» على حسب ما جاء في نص معبد الأقصر، ونفخ فيها من رُوحه واجتمع بها، ووضعتْ له غلامًا زكيًّا اسمه «أمنحتب الثالث»، وبذلك يكون «آمون» هو والدُه الروحي. ولا غرابة في أن نرى هذا الفرعون يَعدُّ نفسَه منذ نعومة أظفاره ابن الإله. وسنرى أنه كان مؤلَّهًا في المعبد الذي أقامه لنفسه ولإلهه «آمون» لهذا الغرض وحده.

يُضاف إلى ذلك أن كل الثراء والغنى والجزية التي كانت قد كُدِّست في طيبة مما كانت تنتجه أرض الكنانة ومما كان يتدفَّق عليها من البلاد الآسيوية وبلاد النوبة، وبخاصة ما كان يُجبَى من هذه الممتلكات من الذهب الذي كان لا ينقطع معينه من بلاد «واوات» وبلاد «بنت». كل هذا الثراء كان مغريًا خلَّابًا، وحافزًا جذَّابًا، ودافعًا قويًّا ليجعله ينظر إلى ملكه، كما كان ينظر الخليفة العباسي «الأمين» أو «لويس العاشر» عندما اعتلى عرش البابوية فنراه يقول: «بما أن الله قد وهبنا إياها فلنتمتع بها.» وعلى أية حال فإن حب التمتُّع بمناعم الحياة الدنيا وزينتها كان رائدَه الأعلى طَوَالَ مدة حكمه، كما كانت الفتوح العظيمة هدفَ جدِّه «تحتمس الثالث». والظاهر أن الثورات في بلاد «سوريا» كانت معدومة عند توليته العرش، فليس لدينا من الوثائق ما يُشير إلى اضطراره إلى الزحف على رأس جيش نحو آسيا قط، اللهم إلا إشارة عابرة في أحد خطابات «تل العمارنة» عن زيارة قام بها إلى «صيدا»، وربما كان من الخير لو اضطرَّتْه الأحوال إلى خَوْض غمار حرب في آسيا لحِفْظ كيان الإمبراطورية. وتدل كل الأمور على أن كل بقاع العاهلية ظلت في هدوء وسكينة سنين عدةً على حسب ما كان يصل إلى سمعه من الأخبار التي كانت في معظم الأحوال تُصاغ بصورة تُرضي الفرعون وتُهدِّئ خاطرَه.

حقًّا وصلت إلينا بعض رسائل من خطابات «تل العمارنة» تنبِئ عن اضطرابات ومشاحنات قامت بين الأمراء في شمال سوريا، وكذلك عن غارات قامت بها بعض القبائل النازحة، مما كان يُحفِّز «تحتمس الثالث» إلى سلِّ الحسام وقيادة جيشه في الحال لإخمادها ووضع الأمور في نصابها قبل أن يستفحل الشررُ ويصبح لهيبًا متَّقِدًا. ولكنْ خلافًا لذلك كان السلام شاملًا والأمور تجري في مجراها الطبيعي، من أجْل هذا كان الجوُّ مهيَّأً أمام «أمنحتب الثالث» للقيام بالأعمال السلمية التي كانت تتجلَّى مظاهرُها في تقدُّم الفن والعمارة والأدب، وتلك ظاهرة نشاهدها غالبًا في تاريخ الأمم عندما تَصِل في عظمتها إلى الذروة في نواحي العمران، وعندما تظلُّ بعيدة عن مساوئ المدنية الكاذبة، ولم يَدِبَّ في عظامها الوهن والانحطاط اللذان يسببهما سوء استعمال الثروة بالتغالي في التَّرَف. ولقد ساعده على السير في طريق رقي البلاد الداخلي والخارجي أنْ تزوج في باكورة توليته عرشَ المُلْك من فتاة من أعظم نساء التاريخ المصري ذكاء وقوةَ عزيمة، فقد كان نفوذُها في الداخل والخارج من أكبر العوامل في تكييف مصير الإمبراطورية في هذه الفترة. ومن المحقق أن «أمنحتب» تزوج من «تي» قبل السنة الثانية من سِنِي حكمِه، ويقول الأستاذ برستد إنها كانتْ من أصل وَضِيعٍ، غير أن الوثائق التاريخية التي كُشفتْ حديثًا لا تُساعد على الأخذ بهذا الزعم. حقًّا إنها لم تكن من دم ملكي، ولكن من المحقق أن والدَيْها كانا يَشغَلان وظائفَ راقية في الدولة، فكان والدها كاهن الإله «مين»، وأمُّها كانت المُشرِفة على الملابس في البلاط الملكي ووصيفة في القصر. وتدل كل الأحوال على أن هذا الزواج قد جاء عن طريق الحب والمعاشرة؛ إذ لا بد أن «تويا» أم «تي» التي كانت تحمل لقب الوصيفة الملكية ومغنية الإله «آمون» كانت على اتصال «بأمنحتب الثالث» في طفولته. وهنا نشأتْ أوَاصِر الحب بينهما وانتهتْ بزواجه منها. (Quibell, “The Tomb of Yuaa andThuiu”, p. 18)، ولما كان هذا الزواج خارجًا على التقاليد الفرعونية المَرْعِية، وهي التي كانت تُحتِّم أن تكون الملكة الشرعية من دمٍ مَلَكي خالص، رأى هذا المَلِك الفتى أنْ يُعلِن نَقْضَه لهذا التقليد غير مبالٍ ولا هيَّاب على الملأ بصورة تَستَرْعِي الأنظارَ، وبطريقة فذَّة في بابِها، وقد خَلَّد ذكرى هذا الحادث بعمل تذكار أقام له احتفالًا خاصًّا، مما يدلُّ على أنه كان عند توليته العرش له إرادته الخاصة ورأيُه النافذ الذي لا يَخضَع لعُرْف أو تقليد. وهذا التذكار نقشه على جِعْران من صُوَر عدَّة (راجع Fraser, “Notes on Scarabs”, P. S. B. A., XXI, Pl. opp. p. 155, 156).
وهاك ترجمة ما جاء عليه:

يعيش (ألقاب الفرعون كاملة) المَلِك «أمنحتب الثالث» معطي الحياة، والزوجة الملكية العظيمة «تي» العائشة. واسم والدها «يويا»، واسم والدتها «تويا»، وهي زوجة مَلِك عظيم تمتد حدودُه الجنوبية حتى «كاراي» وحدوده الشمالية حتى «نهرين».

ولقد استطاعتْ بنتُ الشعب هذه بما أوتيتْ من ذكاء وسِحْر أن تستأثر بلُبِّ زوجها وتستهويَ قلبَه طَوالَ مدة حياته، حتى وهي في شيخوختها ظلت صاحبة المكانة الممتازة بين الأميرات الأجنبيات اللاتي كُنَّ أزواج «أمنحتب».

fig5
شكل ٢: الملكة «تي».
ولقد أتى عليها حين من الدهر كانت هي المُدِيرة لسكان الدولة. فقد كتب إليها «دوشرتا»١ ملك «متني» رسالة في عهد «أمنحتب الثالث» زوجها، كما كَاتَبَها في عهد ابنها «إخناتون» منوِّهًا بأنها هي التي تعرف تسيير الأمور أكثر من أي إنسان آخر، ورجاها أن تعمل على توثيق علاقات الود والمصافاة وأن تجعلها أحسن حالًا مما هي عليه عشر مرات، وبخاصة أن تُتْحِفَه بإرسال هدايا من الذهب النُّضَار، وكان اسم «تي» مقرونًا باسم الملك حتى في الوثائق التي كان لا دَاعِيَ لذكْرِها فيها قط. ولا أدلَّ على ذلك من تدوين اسمها على الجِعْران العظيم الذي نُقش خِصِّيصَى لتخليد ذكرى زواج «أمنحتب الثالث» من الأميرة «جلوخيبا» بنت ملك «متني» «دوشرتا»، وكأن الفرعون كان يقصد من ذلك تفضيل «تي» على هذه الزوجة الأجنبية الجديدة كما ذكرنا آنفًا.

(٤-١) «أمنحتب» والصيد والقنص

أظْهَر هذا الفرعون الغضُّ الإهابِ منذ باكورة حكمه قوة ونشاطًا وميلًا للمغامرة في الطِّراد، ومتابعته بصورة فريدة في بابها، كأنه كان يريد أن يَبُذَّ والدَه وأجدادَه، فقد ذَكَرَ لنا على جِعْران من الجعارين التي تركها لنا مؤرَّخًا بالسنة الثانية من حكمه الطِّرادَ العظيمَ الذي نُظِّم له لصيد الحيوان البري، والظاهر أنه كان في بلاد الدلتا. فقد أردى بسهامه في يومين، ستة وتسعين من قطيع كان يتألف من سبعين ومائة رأس. وكان هذا أول طِرادٍ عُرف له، وهاك النصَّ حرفيًّا:

السنة الثانية من حكم جلالة «أمنحتب الثالث» معطي الحياة، والزوجة الملكية العظيمة «تي» العائشة أبديًّا. الأعجوبة التي حدثتْ لجلالته. أتى إنسان ليقول لجلالته توجد ثيران برية على النِّجاد في إقليم المستنقعات، فانحدَرَ جلالتُه في النهر في سفينته المسماة «خع إم ماعت» (التي تظهر في الصدق) عند الأصيل، وقد بدأ طريقه المستقيمة، ووصل سالمًا إلى إقليم «شتا» عند وقت الإصباح، وقد ظهر جلالته على جواده (أي عربته) وكان كل جيشه خلفه، وكان على القواد ورجال الجيش عامة، وكذلك الأطفال (كپ) أن ينتبهوا لحراسة الماشية البرية؛ تأمل! لقد أمر جلالته أن تُحاط هذه الماشية بجدار مسوَّر، وقد أمر جلالته بإحصاء كل هذه الماشية البرية، فقرر أنها سبعون ومائة ماشية برية، وقرَّر أن ما استولى عليه جلالته في الطِّراد في هذا اليوم هو ستة وخمسون ثورًا بريًّا. وقد مكث جلالته أربعة أيام بدون عمل ليعطي جياده نارًا (ينشطها) ثم ظهر جلالته على جواده كرة أخرى.

بيان بتلك الحيوانات التي استولى عليها في الطِّراد: وهي «أربعون ثورًا بريًّا فيكون المجموع ستة وتسعين ثورًا بريًّا» (راجع A. S., XLV, 87ff). ومن هنا نعلم أن هذا الفرعون قد اصطاد في يومين أكثر من ستة وتسعين حيوانًا. ومما هو جدير بالذكر هنا أن الفرعون كان شفيقًا على جياده، فقد أراحَها مدة أربعة أيام لتستعيد نشاطَها وقوَّتها للطِّراد ثانية.
على أن هذا الطِّراد ليس الوحيد في بابه؛ إذ نجد الفرعون يطبع لنا جِعْرانًا آخر من عِدَّة نُسَخ أظهرتِ الكشوفُ منها حتى الآن أكثرَ من خمسة وثلاثين جِعْرانًا، وأرَّخه بالسَّنَة العاشرة من حكمه، وهذا الجِعْران خاص بالأسود التي اصطادها في السنين العشرة الأولى من حكمه، فيقول: «يعيش الملك «أمنحتب الثالث»، حاكم «طيبة»، معطي الحياة، والزوجة الملكية العظيمة «تي» العائشة. بيان بالأسود التي أرْدَاها جلالته بقوسه من السنة الأولى إلى السنة العاشرة من حكمه «اثنان ومائة من الأسود المفترسة» (راجع Breasted, A. R., II, § 865).»
والواقع أن «أمنحتب الثالث» كان في السنين الأولى من فاتحة حكمه صيادًا عظيمًا، غير أن الرقم القياسي الذي ضربه في صيد الأسود يتضاءل أمام ما أصابه مَلِك «آشور» «تجلات بيليزر»٢ في هذا المضمار، وقد جاء بعده بنحو ثلاثة قرون، فقد ذكر لنا ملك «آشور» — ولا بد أنه كان خصب الخيال — قصة رائعة عن طِرَاده الأسودَ، قال فيها: «إنني قتلتُ عشرين ومائة أسدٍ بحماستي الغضَّة في عنفوان شبابي، وأنا على قدمي، واصطدتُ ثمانمائة أسد، وأنا ممتطٍ عربتي.» ولا شك في أن المطلع على ما جاء في تقرير كل من هذين العاهلين لا يسعه إلا أن يكيل الثناء «لأمنحتب الثالث»؛ لأنه حاول في بيانه أن يعطي نسبة يُدرِكها العقل، إذا قُرنت بتلك النسبة الخيالية التي ذكرها مَلِك «آشور».

(٥) مباني أمنحتب الثالث

هذه صفحة من أنواع اللهو الذي كان يصرف فيه «أمنحتب» شطرًا من حياته وبرفقته زوجه «تي»، وهذه الهوية المحبَّبة لم تكن لتَثْنِيه عن الالتفات إلى جسام الأمور في داخلية البلاد عندما كان يرى أن ذلك مما يُمجِّده أو يرفع من شأنه في أعين الشعب ويُكسِبه رضى آلهته الذين حبَوْه بالنصر على الأعداء. ولذلك كان أول ما وضع فيه كل همته هو تجميل مدينة «طيبة» مَهْد أعظمِ آلهة الدولة وأعلاها كعبًا. ولا غرابة فإن ذلك كان يتفق مع ميوله السلمية، وقد كانت هذه المدينة آخذة في الاتساع، يزداد بهاؤها وعظمتها باطِّراد منذ أوائل الأسرة الثامنة عشرة، مما جعلها تأخذ بنصيب الأسد من الثروة التي كانت تتدفَّق على مصر من «سوريا» وبلاد «النوبة». والواقع أن «طيبة» نالتْ في عهده ما لم تَنَلْه في عهد أيِّ فرعون قبله أو بعده، بما أُقيم فيها من معابد فاخرة وقصور شامخة كانتْ مضرب الأمثال وبهجة الناظرين في عصره. على أن ما أقامه في هذه المدينة من آثار كان يترسَّم فيه خُطَا أسلافه ثم يفوقهم في الفَخَامة والعَظَمة، هذا فضلًا عما ابتكره مما لم يُسبَق إليه.

فنراه قد جرى على نهج أجداده في إقامة المعابد للآلهة المحلية في «طيبة» نفسِها مقرِّ الإله العظيم «آمون رع»، كما أقام لهم المعابد في أنحاء بلاد النوبة، ولم يُجارِه في هذا المضمار إلا «تحتمس الثالث»، فقد بنى الأخير معبدًا للإله «بتاح» في معبد الكرنك العظيم، وأقام الفرعون «أمنحتب الثالث» على غراره معبدًا للإله «منتو»٣ إله الحرب، وآخَر للإلهة «موت»٤ زوج الإله «آمون رع» في معبد الكرنك أيضًا (راجع Porter and Moss, “Bibliography” II, p. 89–91). وأعظم وأفخم بناء أقامه «أمنحتب الثالث» في «طيبة» معبده الجنازي الذي أقامه على الضفة اليُمنى للنيل في السهل المنبسط وراء شاطئ النهر وفي سفح التلال التي تكتنف النيل في هذه الجهة، وقد كان غرضه الأول من إقامته أن يكون معبدًا جنازيًّا له يُعبد هو فيه بوصفه إلهًا، وكذلك ليكرم فيه والده «آمون». غير أن عوادي الدهر ويد التخريب لم تُبقِ عليه ولم تَذَرْ حجرًا من أحجاره، ولم يصل لنا من أطلاله ما يدل على فخامته وعظمته إلا التمثالان المعروفان بتمثالي «ممنون» المنحوت كل منهما في قطعة واحدة من الحجر الرملي المستخرج من محاجر الجبل الأحمر الواقع بجوار «عين شمس»، وقد نقل هذا الفرعون هذين التمثالين إلى هذا المعبد في طيبة الغربية، ولذلك عبَّر «أمنحتب الثالث» بكبرياء وفخار عن نقلهما إلى هذا المكان بالعبارة التالية:

لقد نقلتُهما من «عين شمس» الشمالية إلى «عين شمس الجنوبية» (أيْ من محاجر الجبل الأحمر الواقعة بجوار عين شمس إلى طيبة الغربية التي كان يُطلِق عليها المصريون اسمَ «عين شمس الجنوبية»).

وقد لَقَّب هذا الفرعونُ نفسَه على تمثاليه الضخمين المُقامين أمام هذا المعبد: «صاحب الآثار العظيمة التي نقَلها بقوَّته من «عين شمس الشمالية» إلى «عين شمس الجنوبية».

ومن حُسن الصدف أن «أمنحتب الثالث» بعد أنْ أتمَّ إقامة هذا المعبد العظيم أقام في ردهته الكبرى لوحةً عظيمة من الجرانيت الأسود نَقش عليها نقوشًا جاء فيها كل ما كان يحتويه المعبد من أثاث فخم، وزخرف بهيج، وقد اغتصب الفرعون «مرنبتاح» هذه اللوحة بعينها، وهي المعروفة بلوحة «بني إسرائيل»، ونقش على وجهها الغفل من النقش وَصْفَ حروبه ومآثره في خلال حكمه، كما اغتصب معظم أحجار هذا المعبد هو ووالدُه وبنى به معبدَه الجنازي (راجع Breasted, A. R. II, § 878; Rec. XX, 37–54).

وهذه اللوحة لها أهميتها القيمة من الوجهة التاريخية والدينية؛ إذ تَصِف لنا معبد «أمنحتب» الجنازي الذي أُقيم فيه تمثالا «ممنون» ومعبد «الأقصر» وما يتصل به من مبانٍ، والقارب المقدس، والبوابة الثالثة العظيمة التي أقامها هذا الفرعون في معبد «الكرنك»، ومعبد «صولب» الذي أقامه في بلاد «النوبة»، ثم أنشودة للإله «آمون».

وسنورد ترجمة هذه اللوحة مع التعليق عليها ليَرَى القارئ عظمة ما قام به هذا الفرعون من المباني الدينية، فاستمتع لما جاء فيها عن معبده الجنازي:

تأمل! إن قلب جلالته كان راضيًا عن إقامة آثار عظيمة مما لم يُعمل مثلُها منذ الأزل.

ولقد جعله بمثابة أثر لوالده «آمون» رب «الكرنك» وسيد «طيبة»؛ إذ أقام له معبدًا فخمًا في غربي «طيبة»؛ ليكون حصنًا خالدًا أبدًا من الحجر الجيري الأبيض المغشَّى كله بالذهب، كما صُفِّحت رقعته بالفضة، وكل أبوابه كانت مُصفَّحة بالسام. وقد كانت رقعته عظيمة الاتساع والحجم جدًّا، وأُسِّس للأبدية، وقد زُيِّن بهذا الأثر العظيم جدًّا (اللوحة). والتماثيل الملكية فيه عديدة، وقد صُنعت من جرانيت «إلفنتين»، ومن الحجر الصلب، ومن كل حجر فاخر ثمين، ليكون عملًا خالدًا. وتضيء في رقعتها أكثر من السموات، وأشعتها تسطع في وجوه الناس مثل الشمس عندما تُشرق في الصباح المُبكِّر. وقد جُهِّز «بموقف للإله»، وغُشِّي بالذهب،٥ وأحجار ثمينة عِدَّة، ونُصبتْ أمامه عَمَد أعلام مُغَشَّاة بالسام، وهو يشبه الأفق في السماء عندما يُشرق فيه «رع» (الشمس) وتُمدُّ بُحَيْرته العظيمة من النيل العظيم، رب السمك، والطير طاهر في …
ثروة المعبد: «وحظيرته مملوءة بالعبيد ذكورًا وإناثًا، وكذلك أولاد أمراء كل الأقاليم، التي استولى عليها جلالته. ومخازنه فيها من كل ما لذَّ وطاب مما لا يُعرَف له عدد، وتُحيط به مستعمرات من أراضي «خاروا» يقطنها أولاد الأمراء، وحيوانُها يُعَدُّ بالملايين مثل رمال الشاطئ.»
بوابة المعبد الغربية: وهو حبل مقدمة سفينة الصعيد وحبل مؤخرة سفينة الدلتا (نعتان للفرعون)، وقد ظهر جلالته نفسه مثل «بتاح»، وكان ذكيَّ الفؤاد مثل «الذي جنوبي جداره» (أي الإله بتاح أيضًا)، باحثًا عن أشياء ممتازة لوالده «آمون رع» مَلِك الآلهة، فأقام له بوابة عظيمة جدًّا قبالة آمون (وهي البوابة التي كانت تكتنف تمثالَيْ «ممنون»)، وكان اسمُها الجميل الذي منحه إياها جلالته: «آمون تسلم سفينته المقدسة» وهي مكان يَرْتاح فيه رب الآلهة «في عيد الوادي» الخاص به عند سياحة آمون إلى الغرب ليُشاهِد آلهة الغرب ليمنح جلالته حياة راضية.»
أهمية هذا المتن: ولا نزاع في أن هذا الوصف الرائع لهذا المعبد لم يضع أمامنا تفاصيل دقيقة، غير أنه شَرْحٌ خلَّاب يعطينا صورة عن عظم ثروة الإمبراطورية في هذا العهد وما كانت تَنعَم فيه البلاد من مجْد وأبهة، وما كان يُقدِّمه الفرعون للإله، وما كان يتخذه لنفسه من أثاث وعتاد لعبادته. ومما يلفت النظر بوجه خاص ذِكْر مستعمرة «السوريين» التي أُسِّست لهم في مباني هذا المعبد، مما يدل على مدى اختلاط الأجناس الأجنبية بالمجتمع المصري، مما أدَّى إلى امتزاج دم جديد بالدم المصري، فأثَّر في تغيُّر سِحَن المصريين، وبخاصة عِلْيَة القوم، وسنرى أثر هذا الاختلاط فيما بعد. على أن هذه المستعمرة لم تكن الوحيدة في بابها بل لها مثيلاتها، فقد عُثر بجوار «بوالهول» على مستعمرة كان جُلُّ أهلِها من «العبرو» (العبرانيين) الذين نجد ذكرهم في لوحة منف الجديدة لأول مرة، ولا يَزال اسم هذه المستعمرة باقيًا في اسم بلدة «الحرونية» نسبة لإلههم «حورنا» أو «حول» وهو «بوالهول» الذي وُجد مع معبودهم الذي كانوا يعبدونه في بلادهم، كما شرحنا ذلك من قبل، على أنه لدينا لوحة أخرى لا تزال ملقاة بجوار تمثالَيْ «ممنون» وفيها إهداء هذا المعبد للإله «آمون رع». (راجع Breasted, A. R. II, § 904). وقد كان موضعها الأصلي في المعبد في «موقف الملك»؛ أي إنها كانت ترتكز على الجدار الذي خلف حجرة قدس الأقداس. والجزء الأعلى من هذه اللوحة يحتوي على منظرين تقليديين؛ يُرَى فيهما الفرعون «أمنحتب الثالث» وزوجه الملكة «تي» أمام الإله «سكر أوزير» في الجهة اليسرى والإله «آمون رع» في الجهة اليمنى (راجع L. D. III. Pl. 72).
وهاك نصَّ اللوحة:

خطاب الفرعون

يعيش (ألقاب الفرعون) الملك «أمنحتب الثالث» يقول: تعالَ أنت يا «آمون رع» يا رب طيبة، يا مَن تسيطر على «الكرنك»، لقد رأيتُ بيتك، الذي لك في غربي «طيبة»، وجماله يمتزج بجبال «مانو» (جبال خرافية في الغرب) عندما تسبح في السماء لتغرب وراءها، وعندما تشرق في أفق السماء فإنه يضيء بذهب وجهك؛ لأن واجهته شطر الشرق … وإنك تضيء في الصباح كل يوم، وجمالك في وسطه دائمًا، ولقد صنعتُه صناعة ممتازة، فهو من الحجر الرملي الأبيض الجميل.

تمثالا ممنون

ولقد ملأه جلالتي بالآثار بتماثيلي من جبال الحجر الصلب، وعندما تُرى في مكانها فإنها تبعث البهجة بسبب حجمها «العظيم»، ولقد صنعتُ كذلك صورة في الحجر من المرمر والجرانيت الوردي والأسود. وقد أقام جلالتي «بوابتين» مريدًا عمل أشياء ممتازة لوالدي، وتماثيل خارجة … وقد صورت … جميعها، ولقد كان ما صنعتُه من ذهب وحجر، وكل حجر غالٍ فاخر لا حصر له. ولقد ألقَيتُ عليهم التعليمات ليعملوا ما يسرُّ حضرتَك راضيًا بمأوًى ممتاز مثل …

القربان

ولقد خصصت لها (التماثيل) قربانًا … وقد عمل جلالتي هذه الأشياء لملايين السنين، وإني أعلم أنها تمكث على الأرض لوالدي … كل ما يلزم عمله له. وصنعتُ لك ظلًّا (مزولة؛ أي ساعة شمسية) لسياحتك في عرض السماء مثل «آتوم» عندما يخرج مع كل الآلهة حينما يكون تاسوع الآلهة الذين خلفك والقردة المقدسة تمجِّد شروقك وظهورك في … الأفق. والتاسوع الإلهي يبتهج ويقدمون الثناء للإله «خبري»، والقردة المقدسة تمدحك عندما تغرب في «الحياة» في الغرب.

المسلات

وأقمتُ مسلات هناك (…)، ولقد أظهرت عطفًا لكل ما فعله جلالتي في صورة مقصورة لجلالتك … وأقمتُ لك ثانية آثارًا في غربي المأوى العظيم.٦ ولقد عظمت كل الأعمال … لأجل أن أقدم ضرائبي على يد جيشي. ولقد اغتبطت عندما فعلتُ كل ذلك لوالدي. وخصصتُ لك قربانًا يوميًّا عند بداية الفصول، وضحايا في مواقيتها، بمثابة ضريبة لمعبدك. وخُدَّام الإله والكَهَنة من أعظم وخير مَن في البلاد … فتقبَّلْ ما فعلتُه يا أيها الوالد المبجل «يا آمون» الأزلية.

كلام آمون

الكلام الذي نطق به «آمون» … تعالَ يا بُنَي «أمنحتب»، إني أسمع ما تقول، ولقد رأيتُ آثارَك، وإني والدك خالق جمالك … وإني أتقبَّل أثَرَك الذي أقمتَه لي.

كلام التاسوع الإلهي

… تعالَ … في معبدك الأبدي، وإنه «نب ماعت رع» (أمنحتب الثالث) ابنك الذي عمل لك هذا … وإنك في السماء، وإنك تضيء الأرض، والمَلِك على الأرض يُدير دولتك …

تمثالا ممنون: ومما هو جدير بالملاحظة في هذه النقوش ذِكْر التماثيل التي أقامها الفرعون في هذا المعبد، وقد نحتها من كل الأحجار النادرة، وكذلك الأواني والأشياء التي صنعها من الذهب. كما أشار إلى تمثالَيْ «ممنون» القائمَيْن أمام «بوابة المعبد»، وكذلك ذكر لنا وجود مسلتين، ثم ذكر لنا وضْع مزولة ليَعرِف بها الكهنةُ سَيْرَ الشمس في السماء. ومن كل هذا لم يَبْقَ لنا إلا تمثالا «ممنون» (أمنحتب الثالث)، ومع ذلك فقد أخْنَى عليهما الدهر وشوَّهَهما تشويهًا كبيرًا بفعل العوامل الطبعية ويد الإنسان معًا. وكان يبلغ طول الواحد منهما قبلَ تهشِيمِه نحو تسع وستين قدمًا، وطول ساقه تسع عشرة قدمًا ونصف القدم، وطول قدمه عشر أقدام ونصف قدم، وعرض صدره عشرون قدمًا وطول أصبعه الوسطى أربع أقدام ونصف القدم، وذراعه خمس عشرة قدمًا ونصف قدم.

وربما يُعزَى بقاء هذين الأثرين لتأليه القوم لهذا الفرعون، وعلى أية حال يَظهَر أنه لم تَقُمْ أية محاولة لإتلافهما واغتصابهما، كما كانت سُنَّة الفراعنة؛ ولذلك فقد بَقِيَا جالسَيْن على حافَةِ الصحراء يَرَيان «طيبة» تنمو تارة وتسقط أخرى. فقد رأيَا «الأثيوبيين» يدخلون البلاد، ومِن بعدِهم «الآشوريين» ثم «الفُرْس» ثم أعقبهم «الإغريق» «فالرومان»، ثم «العرب» أخيرًا.

وفي عام ٢٧ق.م حدث زلزال قضَى على بعض ما كان ماثلًا من خرائب «طيبة» وهشَّم التمثال الشمالي من تمثالَيْ «ممنون» فكسر نصفين، وسقط نصفُه الأعلى، وكان هذا الزلزال الذي أعقبه الكسر فاتحةَ عهدٍ جديد في شُهْرة هذا الأثر؛ إذ بعد حدوث هذا التصدُّع بزمن قصير كان المارَّة يسمعون في الصباح المبكر عند طلوع الشمس صوتًا موسيقيًّا ينبعث من التمثال المكسور، كأنه صوت عود، وقد انتشر خبر تلك الأعجوبة؛ ومن ثَمَّ حَبَكَ الخيالُ الإغريقي الخصب الخرافات عن سبب هذا الحادث. وعلى الرغم من أن المصريين الذين كانوا يعيشون بجوار هذين الصنمين يعرفون أنهما للفرعون «أمنحتب الثالث»، فإنهم أفتَوْا بأن الصوت المنبعث من التمثال هو صوت «ممنون» ابن «تيتوس» أخي الملك «برايام» صاحب «طروادة» و«إيوس» الإلهة الإغريقية إلهة شفق الفجر.

وتقول الأسطورة إن ممنون كان يُهاجِم أهالي «طروادة» هو وجيش من الأثيوبيين ضد الإغريقيين، وقد قتله «أخيل» البطل الإغريقي، غير أن أمه «إيوس» التقطتْ جثته من ساحة القتال، ودَعَتِ الإله «زيوس» أن يمنحه الأبدية.

وقد صارتِ الدموع التي انهمرتْ من عينَيْها عليه تمثِّل نقط الندى التي تَظهَر كل صباح عند مطلع الشمس. وفي رواية أخرى أن «ممنون» كان رجلًا أثيوبي الأصل، وأنه قبل ذهابه إلى «طروادة» أتى إلى مصر، ومن ثَمَّ ذهب إلى «سوس» «ببابل»، وعلى حسب الخرافة الجديدة التي نشأتْ حول التمثالين نعرف أن الأصوات الموسيقية العَذْبة التي كانت تُسمع كل صباح عند مطلع الشمس هي نبرات صوت هذا البطل يُرحِّب بوالدته عندما تشرق الشمس في السماء الوردية اللون، ولقد نال هذا التمثال شهرة عالية دوَّتْ في كل مكان، حتى إن أباطرة الرومان، قد دفعهم حبُّ استطلاع هذا الشيء الغريب إلى أنْ يَفِدوا لزيارته. ففي القرن الثاني بعد الميلاد قام الإمبراطور «هدريان» بسياحة إلى «طيبة» ليستمع إلى هذا الصوت، وبعد مرور سنين على زيارته هذه جاء الإمبراطور «سبتمس سفرس» لزيارة هذا التمثال وسُرَّ به كثيرًا لدرجة أخذتْه، فأمر بإصلاح ما تهدَّم منه. فركَّب الجزء العلوي في مكانه، وبذلك ظهر بصورته الحقيقية، غير أنه مما يؤسف له أن هذا الإصلاح كان إيذانًا باختفاء هذا الصوت، ومن ثَمَّ بقِيَ صامتًا فلم يُسمع ثانية، ومنذ ذلك العهد انفضَّ الزُّوَّار الكثيرون من حوله، وأمسى التمثال في عالَم النسيان من هذه الوجهة، ولكنه دون هذه الناحية بقي حتى الآن صورة ناطقة بعظمة مقيمِه، ولا يزال كعبة الزوَّار من كل بقاع العالَم؛ لشهرته وضخامته، ولا أدلَّ على مقدار شهرة هذا الصنم مما نجده من الكتابات التي تركها لنا الزوار على أجزائه المختلفة منذ القِدَم حتى الآن.٧

(٥-١) قصر «أمنحتب الثالث» في الجهة الغربية من «طيبة»

وفي هذه الجهة من مدينة «طيبة» أقام «أمنحتب الثالث» قصرًا مُنِيفًا بجوار المكان المعروف الآن بمدينة «هابو»، وبذلك ضَرب بالتقاليد الموروثة مرة أخرى عرض الحائط، وذلك لأن السُّنَّة التي كانت متَّبَعة حتى عهده هي أن تكون الجهة الغربية من طيبة، مخصصة للمباني الجنازية وحسب، أما المباني الدنيوية فكانت مشاعة، ولعله أراد بذلك أن يكون بعيدًا عن جلبة المدينة وغوغائها، على الضفة اليسرى، وكذلك ليكون حُرًّا طليقًا في بحيرة نزهته التي بناها بجوار قصره. على أن كَرَّ الأيام وغِيَر الزمن، لم تُبْقِ من آثار هذا القصر الفاخر إلا قِطَعًا صغيرة من الحجر المنقوش، تمثل اثنتان منها انتصارات الفرعون على الآسيويين والسودانيين. وهذا المنظر بعينه قد عثرنا على مثيله، في جزء من بقايا عربة «تحتمس الرابع» السالفة الذكر٨ مرسومًا على ظاهرها.

والواقع أنه لما كُشف عن بقايا هذا القصر حديثًا كشفًا علميًّا، لم نجد منه إلا بقايا ضئيلة جدًّا، مما يؤكد قول «ديدور» إن المصري كان يَعُدُّ مسكنَه مجرَّد مأوًى مؤقت. فلم تكن قصور الفراعنة تحوي من الآثار الضخمة ما كانت تحويه قصور «آشور»، بل كان بناءً من اللَّبِن مثل البيوت الأخرى، يحوطه إطار من الخشب، مرفوع على عَمَد، وله واجهات وأروقة، ويحتمل أنه كان قليل الارتفاع عظيم المساحة. وإذا أراد الإنسان أن يتخيل قصرًا مصريًّا في تلك الفترة فما عليه إلا أن يُرخِيَ لخياله العنان، من حيث العظمة والضخامة؛ إذ على ما يظهر كانت كل العناية موجَّهة إلى حسن الذوق في تنسيقه وزخرفته، وما بقي لنا من نتف صغيرة من زخرفة هذا القصر، يدل على أن «أمنحتب الثالث» كان مثله كمثل ابنه «أمنحتب الرابع» (إخناتون) يرغب في أن يجعل مناظر الطبيعة ممثَّلة داخل قصره لتكون متعة للعين، فلا بد أن مناظر طيور الماء وهي تسيح في أدغال نبات البشنين، والحمام وهو يرفرف في السماء الصافية الأديم، وغير ذلك مما صوَّره في مناظره، كانت تُدخِل على قلب هذا الفرعون السرور والغِبْطة، ولا بد أن حجرات هذا القصر كانت مؤثَّثة بأحسن ما يُنتِجه الفن المصري، من أنواع التصوير، والأداة الزخرفية الرشيقة، ولسنا مبالغين في هذا الخيال، ولا ذاهبين فيه شططًا، فإن فيما عُثر عليه من الأثاث الجنازي الفاخر في قبر «يويا» وزوجه «تويا»، وهما والدا الملكة «تي» زوج «أمنحتب الثالث» برهانًا ساطعًا على صِدْق ما تخيلناه. فقد وُجدتْ في هذا القبر قِطَع فنية من أحسن وأدقِّ ما أخرجه المفتنُّ المصري، وأحكم صناعته الصائغ الحاذق. ولسنا بذاهبين بعيدًا للبحث عن وصف قصر هذا الفرعون، ففيما خلفه لنا «توت عنخ آمون» من أثاث فاخر، وما كُشف عنه حديثًا من بقايا قصر «أمنحتب الرابع» في «إخناتون»، وقد كان يسكنه والده في آخر أيام حياته ما يُغني عن كل وصْف وتهويل. أما قصور عظماء القوم فسنتحدث عنها في حينها.

حقًّا كان قصر «أمنحتب الثالث» مقامًا من اللبِن ومثله في ذلك كمثل كل قصور الفراعنة، غير أنه على ضوء ما عُثر عليه فيه من بقايا، وعلى ضوء محاكاته لقصور ابنه «أمنحتب الرابع» التي سنصفها بعد، كان لا بد مزينًا بأجمل الزينة، ويجب أن نتصوره بوصفه بيتًا صيفيًّا ذا ألوان جميلة بهيجة، له ممرات وردهات وسُقُف خفيفة الوزن، محمولة على عَمَد مزخرفة، متكئة على قواعد من حجر، وله مظلات مصنوعة من ألوان زاهية تحجب أشعة الشمس المحرقة، مقامة بجانب بحيرته الصناعية، التي أقامها بخاصة، في مكان أُطلق عليه اسم «زعر وخا» (مقصد النعيم) وقد كان يتنزه على مياهها «أمنحتب الثالث» وبجواره زوجه الملكة «تي» في قاربه المسمى «تحن آتون» (قرص الشمس يطلع). ولا يبعد أن «أمنحتب» قد أقام هذا القصر في الجهة الغربية من النيل ليتسنَّى له حَفْر بحيرة «تاروجا» التي تُعَدُّ من أحسن مباهج عصره. ويُعَدُّ الاحتفال العظيم الذي أُقيم تخليدًا لإنجاز هذه البحيرة بما فيه من عظمة وأبهة ظلًّا من ظلال الحوادث العظيمة التي امتاز بها حكم هذا الفرعون، وقد سجل «أمنحتب الثالث» تاريخ حفر هذه البحيرة على جِعْران ليكون ذكرى باقيةً، كما فعل بتسجيل أعماله الأخرى الخالدة، فاستمع لما نُقش عليه: «السَّنَة الحادية عشرة الشهر الثالث من الفصل الأول اليوم الأول في عهد جلالة (ألقاب الملك) الفرعون «أمنحتب الثالث» معطي الحياة، والزوجة الملكية العظيمة «تي» العائشة. لقد أمر جلالته أن تُصنع بحيرة٩ للزوجة الملكية العظيمة «تي» في مدينتها «زعر-وخا». ذَرْعها سبعمائة وثلاثة آلاف ذراع واتساعها سبعمائة ذراع. وقد احتفل جلالته بعِيد فتح هذه البحيرة في الشهر الثالث من الفصل الأول اليوم السادس عشر، عندما ساح جلالته فيها بالقارب الملكي المسمى «آتون يسطع».» (راجع Breasted, A. R. § 869). ولا نزاع في أن إتمام هذه البحيرة في هذه المدة القصيرة لأكبر دليل على النظام المدهش والمهارة الفائقة في تنسيق نواحي العمل في البلاد، فهذه البحيرة التي يبلغ طولها أكثر من ميل ويبلغ عرضها نحو نصف ميل قد أُنجزت في خمسة عشر يومًا.

أهمية اسم القارب «تحن آتون»: على أن الأهمية الحقيقية للمؤرِّخ هنا، لم تكن في الواقع تُحصَر في بناء هذا القصر أو في حفر تلك البحيرة، بل ربما كانت الأهمية العظمى تنحصر فيما ينطوي عليه اسم هذا القارب الذي كان يمخر عباب البحيرة بالملك من معنًى عميق؛ وذلك لأن الاسم «تحن آتون» (قرص الشمس يسطع) كان أول مظهر رسمي لاسم إله جديد مُزج باسم هذا القارب «آتون» وسيكون له بعد خمسة وعشرين عامًا أكبر مكانة عند الفرعون، كما سيكون أكبر شؤم وأبغض شيء عند السواد الأعظم من المصريين. على أنه لا يمكن الجزم في هذه الآوِنَة بما إذا كان «آتون» الذي يحتفل «أمنحتب» بضوئه في اسم قاربه هو نفس «آتون» الذي كان يقصده والدُه «تحتمس الرابع» ثم ابنه «إخناتون» فيما بعد أم غيره، وإنْ كانت كل الدلائل والظواهر تدل على أنه هو بعينه كما سبق ذكره. وعلى أية حال فإن مجرد ظهور هذا الاسم في هذه الفترة، وبعد ذكره في عهد «تحتمس الرابع» يُعدُّ البذرة الأولى، لقيام هذا المذهب الجديد فيما بعد جملة.

وعلى أية حال، فإنا نجد «أمنحتب الثالث» قد بقي — ولو ظاهرًا — مؤمنًا بآلهة آبائه الأولين؛ مما جعله يستمر في إقامة المباني الضخمة لهم في «طيبة» وفي جميع أنحاء جهات القُطْر.

(٥-٢) قبر «أمنحتب» في أبواب الملوك

وبعد أن أتم «أمنحتب» بناء قصره السالف الذكر، وهو المُقام من اللبِن، أخذ يَنحَت لنفسه بيتًا للأبدية في أبواب الملوك، ولكنه كان أول مَن عرف كيف يُخفي قبره عن الأعين دون أسلافه، فبدلًا من إقامته في الجبانة الشاسعة المطلة على السهل المتصل بالنيل، فإنه أقامه في مضيق جبلي قاحل من الصحراء بعيدًا عن النيل على مسيرة ساعة من شاطئه. وهناك تحت عدَّة أروِقة عظيمة لضريحه حُفرت في جوف الجبل لعدة مئات من الأقدام، وهذا الطراز من الدفن قد اتخذه فيما بعدُ كثيرٌ من الفراعنة الذين خلَفوه. وهو يحتوي على ممرٍّ طويل يؤدِّي إلى حجرة بها عمودان ثم رواقان يوصِّلان إلى حُجْرة الدفن، ويحتويان على ستة أعمدة، ويتفرع من هذين الرواقين سبع حجرات،١٠ وقد أُحكم إخفاء مدخل المقبرة بمهارة فائقة، فقد جُعل خلف صخرة بارزة من الجبل، ولم يُفشِ سرَّ وجودها في هذه البقعة إلا شظيات الحجر الصغيرة التي تخلَّفتْ من نحت المقبرة ووضْعها عند الباب، ويدل ما تبقَّى على جدران المقبرة على أنها كانت مغطَّاة بمِلاط من الجَصِّ الملوَّن الذي سقط معظمه. ونعلم مما تبقَّى منه أن صناعته كانت أجمل بكثير من صناعة مقابر الملوك الذين جاءوا بعده. وقد زُيِّنتْ جُدْرانه برسوم تمثِّل رحلةَ الشمس في أقطار العالَم السفلي في مدة اثنتي عشرة الساعة خلال الليل.
وقد عُثر له على تابوت من الجرانيت الأحمر، وعلى بعض تماثيل «مجاوبين» بحجمٍ أكبر من المعتاد جدًّا، وصناعتها من الطراز الأول (راجع Maspero, “Struggle of the Nations”, p. 310). وكذلك بعض الأواني الجنازية.

وكذلك وُجد غطاء تابوته المصنوع من الجرانيت الأحمر.

(٦) آثار «أمنحتب» في طيبة الشرقية

(٦-١) طريق الكِبَاش

أما في طيبة الشرقية فقد أقام فيها عدَّة مبانٍ، نخص بالذكر منها: طريقًا لتماثيل «بوالهول» الذي يمثِّل الإله «آمون» برأس كبش، ويتألف من اثنين وعشرين ومائة تمثال نُحتت من الحجر الرملي. وتقع هذه الطريق أمام معبد الإله «خنسو» الحالي، وقد نُقش عليها اسم «أمنحتب الثالث»، والظاهر أن هذا الفرعون، قد أقام معبدًا في هذه النقطة في المكان الذي يحتلُّه معبد «رعمسيس الثالث» الحالي.

(٦-٢) البوابة الثالثة

وقد أقام «أمنحتب» كذلك بوابة بمثابة واجهة جديدة لمعبد الإله «آمون» العظيم، وتدل الكُشُوف الحديثة على أن معظم الأحجار التي ملأ بها هذا الفرعون جوف هذه البوابة كانت من معابد مَن سبقه، وبخاصة من معبدين صغيرين يرجع أحدهما للملك «سنوسرت الأول»، والثاني للملكة «حتشبسوت»، وكذلك وُجدت فيها أحجار من معبد للفرعون «أمنحتب الثاني» وغيره كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

وقد تَرك لنا هذا الفرعون وصف هذه البوابة على لوحته التي أقامها في معبده الجنازي على الضفة الغربية من النيل في طيبة (راجع Breasted. A. R. II, § 889). كما تَرك لنا بقايا نقش هام على البرج الجنوبي لهذه البوابة عند بنائها (راجع ibid. § 899). وهاك ما جاء على اللوحة الجنازية وصف بوابته بالكرنك:
ملك الوجه القبلي، والوجه البحري، «نب ماعت رع»، ابن الشمس «أمنحتب الثالث»، حاكم طيبة، الساهر على البحث عما هو مفيد، والملك الذي أقام أثرًا آخَر للإله «آمون»، وبنى له بوابة ضخمة جدًّا، قبالة «آمون رع» رب طيبة، مغشَّاة كلها بالذهب. وظلُّه الرُّوحاني في صورة كبش مرصَّع باللَّازَوَرْد، ومغشًّى بالذهب، وبالحجارة الكريمة العدة، وليس له نظير، ورقعتها مزيَّنة بالفضة، وبُرجاها عليها. وقد وُضعت لوحات من اللازورد في كل جانب من جوانبها، وبواباتها تصل إلى عنان السماء، مثل عَمَد السماء الأربعة، وعمد أعلامها تضيء أكثر من السموات ومغشاة بالسام، وقد أحضر جلالته لها ذهبًا من أرض «كاراي» من حملته الأولى المظفَّرة التي ذبح فيها «الكوش» الخاسئين.» أما النقوش التي وُجدت على برج البوابة نفسها فممزقة جدًّا، ولا يمكن أن نؤلف منها كلامًا متصلًا، غير أنه يمكن أن نفهم من مضمونها أن هذه البوابة كانت من أجمل البوابات وأثمنها. ويتألف المتن على وجه التقريب، من المدائح الملكية المعتادة، ثم ذكر القربان التي قدمت للإله «آمون» ثم الهدايا التي قدمها الفرعون للإله، من أزهار وفضة وذهب، ولازورد حقيقي، وفيروزج، وكل الأحجار الكريمة، والأواني الفاخرة من السام، مما لا تقع تحت حَصْر. وكذلك ذكرت لنا في هذه النقوش، الآثار المتصلة بهذه البوابة، وما قدمه لها الفرعون من عطايا وهدايا، وقد جاء فيها ذِكر مسلات لهذا الفرعون، ويحتمل أنها كانت مقاومة أمام هذه البوابة، ولا بد أنها قد أُزيلت لإقامة قاعة العمد الكبرى، والمسلات المعروفة «لأمنحتب الثالث» في الكرنك موجودة في المعبد في الجهة الشمالية، غير أنه لم يبقَ منه إلا قطع (راجع L. D. Text. III, p. 2)، وقد ذكرنا من قبل أن هذا الفرعون قد أقام مسلتين أمام معبده الجنازي، ولم يبقَ منهما أي أثر.

(٦-٣) سفينة الإله «آمون» في الكرنك

وكان «أمنحتب» مهتمًّا بسفينة الإله «آمون» المقدسة، التي كان يركبها في وقت الاحتفال بالأعياد العظيمة ليذهب لزيارة آلهة المعابد المجاورة، وبخاصة في «عيد الوادي» الذي كان ينتقل فيه من معبده بالكرنك إلى «طيبة» الغربية إلى معبد «الدير البحري» (راجع مصر القديمة ج٣)، وقد كان ذلك يُحتِّم استعمال سفينة كبيرة يوضع عليها القارب المقدس المسمى «وسرحات»، وأحسن صورة لهذا المنظر نجدها في الكرنك مصوَّرة على البوابة الثالثة التي أقامها الفرعون «أمنحتب الثالث» وهي على الجدار الشرقي لبرج البوابة الشمالي.

وقد ترك لنا هذا الفرعون وصفًا لهذا القارب الذي أمر بصنعه للإله «آمون» في لوحته التي كانت في معبده الجنازي (راجع Breasted, A. R. II. § 888). وهاك النص:

لقد صنعتُ أثرًا ثانيًا لمَن أنجبني، وهو الإله «آمون رع» رب طيبة، الذي مكَّننِي على عرشه، فصنعتُ له سفينة عظيمة لأجْل «عِيد بداية النهر»، واسمها «آمون رع في السفينة المقدسة» (وسرحات) من خشب الأرز الجديد الذي قطعه جلالته من أقاليم أرض الإله. وقد جرَّه (الخشب) على جبال «رتنو» أمراء كل الأقاليم. وقد كانت واسعة وكبيرة ولم يُصنع لها مثيل (من قبل)، وقد بُنيت جميعُها بالفضة وغُشِّيت بالذهب، ومحرابها العظيم من السام، وبذلك تملأ الأرض بضوئها، ومقدماتها كذلك لامعة، وتحمل التيجان العظيمة التي تلف أصلالها على كِلا جانبيها لحمايتها، وقد نُصبَتْ عَمَد الأعلام أمام (المحراب) موشَّاة بالذهب، وبينها مسلتان عظيمتان، وهي جميلة في كل نواحيها، وآلهة (أرواح) «بوتو» يقدمون لها عيدًا، وآلهة «نخن» (الكاب) يمدحونها، وإلها النيل الجنوبي والشمالي يضمان جمالها، ومقدماتها تجعل «نون» (النيل) يضيء كما تضيء الشمس عندما تطلع في السماء لتجعل سياحته البهية في عيد «أوبت» (الأقصر) في سياحته الغربية لملايين ملايين السنين.

هذا الوصف الممتع يَنقُصه بعضُ التفاصيل عن هذه السفينة. غير أنا قد وجدناها لحسن الحظ في الوصف الذي تركه لنا «رعمسيس الرابع» لسفينته الجديدة التي وصفها «رعمسيس الثالث» مع السفينة القديمة. فنجد فيها تفاصيل هامة عن حجم سفينة «آمون» فيقول مخاطبًا الإله «آمون»:
لقد صنعتُ لك سفينتك الفاخرة «وسرحات»، طولها ثلاثون ومائة ذراع على النهر، من خشب الأرز، وألواحها المدهشة مغشَّاة بالذهب الخالص حتى خط الماء، كما صُنع لسفينة «رع» عندما يُشرق مِن «بقت» (جبال خرافية تقع في الشرق)، فيجعل كل الناس تَحْيَا بمشاهدته فقط. ومحرابها العظيم من الذهب الخالص، المرصَّع بالأحجار الثمينة، مثل محراب معبد «عين شمس»، العظيم، وقد وضع في مقدمتها وفي مؤخرتها رءوس كِباش من الذهب، محلاة بأصلال، وعلى رءوسها التاج «آتف» (راجع Foucart, “Etudes Thebaines. La Belle Fete de la Vallee”, B. I. F. A. O, XXIV, p. 186).

موازنة بين سفينة آمون وسفينة أمير البحر نلسن: ومن ذلك نرى جليًّا أن السفينة المقدسة كان يبلغ طولها نحو أربع وعشرين ومائتي قدم، وتلك حقيقة تنطق بمهارة المصري في صنع السفن مما يدعو إلى الإعجاب والتقدير، وبخاصة إذا وازنَّا سفينة «آمون» المقدسة بسفينة أمير البحر الإنجليزي العظيم «نلسن»، التي انتصر بها على أسطول «نابليون» في موقعة «الطرف الأغر» عام ١٨٠٥، وهي التي كان يُطلَق عليها «فكتوري» (النصر)، فقد كان طولُها لا يزيد على ست وثمانين ومائة قدم. أيْ إن سفينة الإله «آمون» التي بُنيتْ عام ١٢٠٠ق.م، تُربِي عليها بنحو ثمانٍ وثلاثين قدمًا. وكانت سفينة «نلسن» هذه تُعَدُّ فخْرَ الأسطول الإنجليزي في عام ١٨٠٥ بعد الميلاد.

وقد أقام هذا الفرعون في معبد الكرنك عدَّة مبانٍ أخرى، كما أضاف نقوشًا على مباني الملوك الذين سبقوه.

(٦-٤) معبد آخر للإله «منتو»

ففي النهاية الشمالية من معبد الكرنك معبد للإله «منتو»، أقامه له وبنى أمامه بوابة ومسلتين من الجرانيت الأحمر (راجع Champollion, “Notices”, II, p. 271). وكانت عَمَد هذا المعبد ذات أضلاع كثيرة، وكان المعبد يحتوي قطعًا عدَّة من الجرانيت الأسود من تماثيل الملك والإلهة «سخمت» إلهة الحرب وزوج «منتو». وكذلك وُجد «لأمنحتب الثالث» تمثال حُفر في صورة «بوالهول»، وقد أَصلَح هذا التمثالَ الفرعون «مربنتاح» ونقشه باسمه، ثم «رعمسيس الخامس» و«البطالمة الثاني والثالث والرابع والسادس» (راجع Baedeker, “Egypt”, p. 161; Champollion, “Notices”, II, p. 272).

(٦-٥) معبد الإلهة موت

وفي النهاية الجنوبية من الكرنك أقام هذا الفرعون معبدًا كبيرًا له أهمية كبرى للإلهة «موت» زوج «آمون». وقد عُثر فيه على عدد عظيم جدًّا من تماثيل هذه الإلهة التي مُثِّلت برأس لبؤة تُعَدُّ بالمئات، وقد وُزعت على متاحف أوروبا بدلًا من بقائها في مكانها الأصلي، والبحيرة التي حُفرت حول جوانب هذا المعبد وخلفه لا تزال باقية. وقد أَصلَح هذا المعبد فيما بعدُ الفرعون «شيشنك» (راجع Mariette, “Karnak”, p. 15; Budge “Sculpture”, III–4; A. SV, p. 119–20; P. S. B. A., XXV, p. 217; Daressy, “Statues de Divinities”, p. 265–8).
وكذلك يُنسب إليه المبنى القديم لمعبد «خنسو» (راجع Rec. Trav. XXIII, p. 61).
وكذلك تَرك لنا فيه ملوكٌ كثيرون آثارًا عدَّة (راجع Porter and Moss, “Bibliography” II, p. 89–97).

(٦-٦) معبد الأقصر١١

أما في الأقصر نفسها فقد أقام «أمنحتب الثالث» معبدًا خاصًّا بالإله «آمون»، كما أقام له جدُّه العظيم «تحتمس الثالث» معبدًا خاصًّا في الكرنك، ويُعَدُّ المعبد الذي أقامَه «أمنحتب» في هذه الجهة أجمل معبد أُقيم في عهد الأسرة الثامنة عشرة من حيث الدقة الفنية والتنسيق في البناء. وتدل النقوش التي على جدرانه على أن «أمنحتب» قد أقامه على أنقاض معبد قديم كان قد أُقيم في عهد الدولة الوسطى (راجع Leiblein, “Aegyptische Genealogien” A. Z. VII. (1896) p. 122ff).
وقد وصل إلينا وصفُ هذا المعبد في نصين أحدهما على لوحة المعبد الجنازي الذي أقامه هذا الفرعون لنفسه على الضفة الغربية للنيل (راجع Breasted, A. R. II, §. 886). والثاني على عقد بوابة في المعبد نفسه (راجع L. D. III, Pl. 73, and Text. III, p. 80, 81)، والمعبد الحالي من عمل فراعنة عديدين، ولا يُنسب «لأمنحتب الثالث» منه إلا الجزء الجنوبي، ويعتقد الأستاذ «بتري» (راجع Petrie, “History”, II, p. 191). خلافًا لغيره من المؤرخين أن هذا المعبد لم يكن متصلًا بطريق الكباش بمعبد الكرنك في عهد «أمنحتب الثالث»، وذلك لأن محور هذا المعبد، وطريق الكباش، لا يوجد بينهما حبل اتصال، أو علاقة تصل أحدهما بالآخر. أما ارتباط معبد الأقصر، بمعبد الكرنك، فيرجع أصله إلى التغييرات التي عملها «رعمسيس الثاني».
fig6
شكل ٣: معبد الأقصر.

وهذا المعبد الفخم، يشمل خمسة أجزاء لها ثلاثة محاور مختلفة بعض الشيء، فالمحراب وهو المكان الذي ينتهي إليه الاحتفال بتمثال الإله ويوضع فيه مفتوح من الأمام والخلف وله قاعة أمامه، ورواق ذو عَمَد في الخلف، وحجرات جانبية، وأمام رواق العمد هذه ساحة مفتوحة. ثم قاعة عمد فيها أربعة صفوف، كل منها يحتوي على ثمانية أعمدة، محورها ينحرف بعض الشيء إلى الشمال، بدلًا من الشمال الشرقي مثل المحراب، وبعد ذلك ساحة يُحيط بها عمد بُنيت في اتجاه المحراب، وأخيرًا نجد أمام هذه الساحة والبوابة الضخمة، التي تُؤلِّف واجهة المعبد، طريقًا على جانبه أربعة عشر عمودًا، بمثابة مدخل، وأمامها بوابة أصغر من السالفة.

وصْف المعبد كما جاء في الوثيقة الأولى:

ملك الوجه القبلي، والوجه البحري، رب الأرضين «نب ماعت رع» (أمنحتب الثالث)، وارث رع، وابن الشمس، رب التيجان، «أمنحتب الثالث»، حاكم طيبة الذي رضي ببناء أقامه لوالده «آمون» رب «طيبة» في «إبت» الجنوبية (الأقصر) من الحجر الرملي الأبيض الجميل، وقد أقامه واسعًا كبيرًا، وقد زيد في جماله، وجدرانه من السام، ورقعته من الفضة، وكل أبوابه قد غشِّيت با … وبرجاه يصلان إلى عنان السماء، ويمتزجان بالنجوم، وعندما يراه القوم ينطلقون بالحمد لجلالته.

وإنه الفرعون «نب ماعت رع» الذي أرضى قلب والده «آمون» رب «طيبة» الذي وهبه كل مُلْكه، ابن الشمس، «أمنحتب» حاكم «طيبة» ضياء «رع».

الوثيقة التي على عتب المعبد:

لقد أقامه (المعبد) أثرًا لوالده «آمون رع» ملك الآلهة، فأقام له قصرًا جديدًا من الحجر الرملي الأبيض الجميل، وأعلى بناءه جدًّا وزاد في وسعه، وزيَّنه بالسام جميعًا، وبكل الأحجار الفاخرة الغالية؛ ليكون مأوًى للإله «آمون» ومكان استراحة لرب الآلهة، وقد عمل على غرار أفقه (مسكنه) في السماء، لأجل أن يُعطِي الحياة.

على أن ما جاء في النقش من بيان مثل: «الذي بنى المعبد … ونحت تماثيلهم وما كان مقامًا باللبِن أُقيم ثانية بالحجر.» يدل دلالة صريحة على أن هذا المبعد كان قد أُقيم على أنقاض معبد آخر من عهد الدولة الوسطى.

ولا نزاع في أن الجزء الذي أقامه «أمنحتب الثالث» في هذا المعبد الضخم، وهو الجزء الجنوبي، يمتاز بجمال الفن ودقة التنسيق، تلحظهما لأول وهلة عين المفتنِّ عندما نَقْرِنه بالمباني الأخرى التي أُقيمت في العهود التي تَلَتْ عصرَه، وهي التي تنقصها تلك المسحة الفنية الراقية والتناسُب الجميل الذي يمتاز به معبد «أمنحتب».

(٦-٧) معبد آخر بالقرب من الأقصر

وتشير لوحة معبده الجنازي إلى معبد آخر أقامه هذا الفرعون بالقرب من معبد الأقصر، غير أننا لا نعرف عن آثاره شيئًا، ويقول «برستد» عنه: إنه ربما يكون في المكان الذي لم يُكشف عنه بعدُ بين الأقصر والكرنك (راجع Breasted, A. R. II, § 887). وهاك النص الخاص بهذا المعبد:

وقد أقام جلالته معبدًا آخر لوالده «آمون»، وقد أقام له حظيرة بمثابة قربان إلهي قبالة «أبت الجنوبية» (الأقصر)، وهو مكان ملائم لوالدي في عيده الجميل، وقد أقمتُ معبدًا عظيمًا في وسطه مثل «رع» عندما يُشرق في الأفق. وقد غرستُ فيه كل الأزهار، وما أجمل «نون» (النيل) يجري في بحيرته في كل فصل! وخمره أغزر من المياه، كأنه النيل في تمام فيضانه، وقد خلقه رب الأبدية، وسِلَع هذا المبنى عديدة، فجِزْية كل الأقاليم تَرِد إليه، ويؤتَى لوالدي بإتاوات كثيرة من كل البلاد بمثابة قرابين. وقد وهبني كل أمراء الأقاليم الجنوبية، ومثلهم الشماليون، كل واحد منهم مثل جاره، وفضتهم، وذهبهم، وماشيتهم، وكل حجر فاخر ثمين في بلادهم بالملايين ومئات الآلاف وعشرات الآلاف. ولقد أقمتُه للذي أنجبني بقلب سليم على حسب ما نصبني لأكون شمسَ قبائل الأقواس التسعة.

من هذا النص نفهَم: أن معظم خيرات البلاد الأجنبية، كانت تتدفق على هذه المعابد، ولا بد أن كهنة هذا المعبد، كانوا ينعمون بحياة رضيَّة، كلها رخاء، خمرها أنهار، وفاكهتها مما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين، وقصورها مغشَّاة بالذهب، فُرشت بالأثاث الفاخر، مما يتخيَّله الإنسان في جنات النعيم. جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلًا.

(٦-٨) معبد «صولب»

ومن المعابد ذات الروعة والجلال التي أقامها «أمنحتب» في هذا العهد وخصَّها بعنايته معبده الذي أقامه في صولب. ويُعزَى اهتمام الفرعون بهذا المعبد إلى أنه أقامه لعبادته هو والإله «آمون» معًا. وهو في ذلك يُشبه معبده الجنازي الذي أقامه في «طيبة» الغربية، ويحتوي على عدَّة وثائق، ذُكر في إحداها اسم المعبد الذي لم تذكره النقوش التي دوَّنها هذا الفرعون على لوحة معبده الجنازي. وسنذكر هنا أولًا ما جاء على هذه اللوحة، ثم ما جاء على آثار المعبد نفسه. وهاك النصَّ الذي جاء على اللوحة خاصًّا بمعبد «صولب» (ibid § 890ff):

«ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نب ماعت رع»، محبوب «آمون رع» ابن الشمس، «أمنحتب الثالث»، حاكم طيبة. لقد أقمتُ آثارًا أخرى لآمون منقطعة النظير، لقد أقمتُ لك بيتك (الباقي) ملايين السنين في … «آمون رع» رب طيبة، المسمَّى «المضيء في الصدق» (خع-م-ماعت) رافلًا في السام، مأوًى لوالدي في كل أعياده، وقد بُني بالحجر الرملي الجميل، وغشِّي بالذهب كله، ورقعته زُيِّنت بالفضة، وكل أبوابه بالذهب. ونُصبت مسلتان على كلا جانبيه، وعندما يشرق والدي بينهما تراني من بين أتباعه. وقربتُ له آلافًا من الثيران وقِطَعًا من أحسن الأجزاء الخلفية (من الثور).» ثم يلي ذلك أنشودة لآمون وهي:

أنشودة «لآمون»: كلام آمون ملك الآلهة

يا بُنَيَّ من جسدي، يا محبوبي، «نب ماعت رع»
يا صورتي الحية، يا مَن صورته أعضائي
ويا مَن حملتْه لي «موت» سيدة «أشرو» في «طيبة»
وهي سيدة الأقواس التسعة التي نشأتك سيدًا وحيدًا للقوم
إن قلبي يفرح كثيرًا عندما أرى جمالك
وإني أقوم بعمل أعجوبة لجلالتك، وبذلك تجدد شبابك
وذلك لأني قد أقمتُك مثل شمس الأرضين
فعندما أوَلِّي وجهي شطر الجنوب أقوم بعمل أعجوبة لك
إذ أجعل أمراء «كوش» الخاسئين يتجهون نحوك
حاملين كل جزيتهم على ظهورهم
وعندما أولِّي وجهي شطر الشَّمال أقوم بأعجوبة أخرى لك
إذ أجعل ممالك أطراف «آسيا» يَسعَوْن إليك
حاملين كل جزيتهم على ظهورهم
ويُقدِّمون أنفسهم إليك مع أطفالهم
حتى تمنَحَهم نفس الحياة
وعندما أولِّي وجهي شطر الغرب أقوم أيضًا بعمل معجزة لك
إذ أجعلك تستولِي على التحنو (اللوبيين) فلا تُبقِي منهم باقية
وإنهم يبنون في هذا الحصن (بمثابة عبيد) باسم جلالتي
وهو محوَّط بجدار عظيم يصل إلى السماء (في ارتفاعه)
ومأهول بأبناء رؤساء النوبة
وعندما أولِّي وجهي شطر الشرق أقوم بعمل معجزة لك
إذ أجعل أقاليم «بنت» تأتي إليك
حاملين كل الأخشاب اللطيفة الحلوة في بلادهم
راجين منه (الملك) الأمانَ والنفس الذي هو هبته
يا ملك الوجه القلبي، والوجه البحري، وحاكم الأقواس التسعة، ورب الأرضين «نب ماعت رع» ابن الشمس ومحبوبه «أمنحتب الثالث»، حاكم طيبة، ومَن أرضتْ آثارُه قلبَ الآلهة لأجْل أن يعطي الحياة، والثبات، والرضا، والصحة، ولأجل أن يكون قلبه مبتهجًا مثل «رع» مخلدًا.

ومن هذا النص تعلم أن «أمنحتب الثالث» قد أقام مسلتين أُخرَيَيْن أمام هذا المعبد، وقد ذُكرا على نقش دوِّن على أحد الكباش التي أُقيمت أمام هذا المعبد. وبذلك يكون هذا الفرعون قد أقام أكثر من ثماني مسلات في «طيبة» و«صولب»، إلا أنه لم يبقَ منها واحدة في مكانها. أما القصيدة التي جاءت في آخر هذا النقش، فتُعدِّد لنا الممالك والأقاليم التي كان يسيطر عليها هذا الفرعون، والتي كان أهلها يأتون إليه صاغرين، مُحمَّلين بالجزية والهدايا، فكان يأتي إليه من الجنوب أهل السودان، ومن الشمال يَفِدُ عليه أهل آسيا حتى أقاصيها، ومن الغرب كان يُجلِب إليه أهل «لوبيا» الذين استولى عليهم وسخَّرهم في بناء هذا المعبد المحوَّط بسور عظيم، يصل ارتفاعه إلى عنان السماء، ومن الشرق كان يسعى إليه أهل بلاد «بنت» يحملون العطور والأشجار ذات الشذَى الذكي، ثم هم في الوقت نفسه يطلبون إليه أن يمنحهم نفس الحياة الذي هو مِلْك يدِه.

أما النقوش التي وُجدت على ما تبقَّى من جدران المعبد في تلك الجهة فلم نجد من بينها ما يدل على وصف المعبد في المكان المخصص بها عادة وهو العتب، ولكنا وجدنا ما يشير إلى ذلك في بعض النقوش، وبخاصة على تماثيل الكباش التي كانت مصفوفة على جانبي الطريق المؤدِّي إلى المعبد، وكذلك على الأُسُود المشهورة التي كانت مُقامة هناك، والمحفوظ بعضها الآن بالمتحف البريطاني.

أما النقش الذي وُجد على الكباش١٢ فهو:

يعيش الإله الطبيب «نب ماعت رع» ابن الشمس «أمنحتب الثالث»، لقد عمله بمثابة أثَرٍ لصورة «نب ماعت رع» رب النوبة، الإله العظيم، رب السماء، مقيمًا لنفسه حصنًا ممتازًا يحيط به جدار عظيم، تضيء شرفاته أكثر من السماء، مثل المسلات العظيمة التي أقامها الملك «أمنحتب الثالث» حاكم طيبة، لمدة مليون مليون من السنين، أبد الآبدين. يعيش الإله الطيب … لقد أقامه بمثابة تذكار لوالده «آمون» رب طيبة، فبنى له معبدًا فاخرًا، وقد أُقيم عظيمًا في سعته، وضخامته، وزيد في جماله. (بواباته) تصل إلى عنان السماء، وعمد أعلامه هي نجوم السماء، ويُرى من كلا جانبي النهر مضيئًا الأرضين.

وفي نقش ثانٍ على صورة كبش آخر قد ذُكر المعبد بأنه أُقيم في حصن «خع-م-ماعت» وأنه أُهدِي للإله «آمون»، كما جاء في نقش اللوحة الجنازية.

ومما يلفت النظر في رسوم هذا المعبد بعض مناظر الحفل بعيد إهداء المعبد، فنشاهد الفرعون ومعه رجال حاشيته يمرُّون في (البوابات) العظيمة التي أُقيمت فيه، وكان لكل بوابة اسم خاص بها، وتدل النقوش على أنها أُقيمتْ جميعًا من الحجر الرملي الأبيض الجميل، وقد أقام له طريقًا على غرار طريق معبد الكرنك يؤدي إلى داخل المعبد تحفُّه تماثيل «بوالهول» على كلا الجانبين، برءوس كباش، وهي رمز للإله «آمون»، وكذلك زُيِّن المعبد نفسه بتماثيل سباع ضخمة (انظر شكل رقم ٤) وصقور، وصُوَر حيوانات أخرى مقدسة كانت تُعبد في هذه المنطقة. وقد نُقل بعض هذه التماثيل إلى «نباتا» (جبال بركل) عاصمة بلاد «السودان». ويوجد كثير منها في متاحف أوروبا الآن، ففي «برلين» يوجد تمثالان كلٌّ منهما في صورة كبش، وكذلك توجد قاعدة تمثال صقر.١٣ أما في «لندن» فيوجد أسدان له، ولكن انتحلهما لنفسه الفرعون «توت عنخ آمون» (Lepsius, “Auswahl”, 13. A. B; “Rec. Trav.” XI. p. 212).
fig7
شكل ٤: أسد جبل بركل.

والنقوش التي على بعض هذه التماثيل لها أهمية تاريخية؛ إذ قد حَرَص «أمنحتب الثالث» على أن يذكر عليها تأسيس المعبد كما ذكرنا، وكذلك يمكننا أن نستخلص حقائق تاريخية أخرى من التغيُّر الذي حدث في نقوشها الأصلية؛ إذ نجد أن نقوش الإهداء التي دوَّنها «أمنحتب الثالث» على هذه التماثيل قد مُحيتْ في عهد الثورة الدينية التي قام بها «إخناتون»، مما يدل على أن اضطهاد «إخناتون» للإله «آمون» كان قد وصل إلى «صولب» جنوبًا، وأنه تجنَّى على اسم والده فمَحَاه؛ لأنه يشمل كلمة «آمون».

(٧) أعياد «سد» (العيد الثلاثيني)١٤ التي احتفل بها «أمنحتب الثالث»

تدل النقوش التي ظهرتْ حتى الآن عن عهد الفرعون «أمنحتب الثالث» على أنه احتفل بعيد «سد» مدة حكمه ثلاث مرات؛ الاحتفال الأول منها في السنة الثلاثين، والثاني في السنة الرابعة والثلاثين، والثالث في السنة السادسة والثلاثين. وقد كَشف أخيرًا الدكتور «أحمد فخري» عن مقبرة أحد عظماء رجال عهد «أمنحتب الثالث» يُدعَى «خيروف» كشفًا تامًّا بعد أن ظلت لا يُعرف عنها إلا شيء يسير (راجع Gardiner and Weigall, “A Topographical Catalogue of the Private Tombs at Thébes”, 32; Porter and Moss “Bibliography”, I. p. 152; Brugsch, “Thesaurus”, PP. 1120-1121, 1190–94.& A. S. XLII. p. 29ff.) وتمدُّنا الرسوم والنقوش التي كُشف عنها حديثًا في هذه المقبرة بمعلومات جديدة عن هذا العيد الغامض، فلم يكن قد اتَّفق بعدُ علماءُ الآثار على معنى كلمة «سد»، غير أن الجمَّ الغفير منهم يُترجِمها «بالعيد الثلاثيني» على الرغم من أن هذه الترجمة لا تتفق مع الواقع. ويَظهَر أن عيد «سد» كان يُحتفل به لتتويج الفرعون من جديد غير تتويجه الأول عند تولِّيه مهامَّ المُلْك؛ إذ يُقال إنه في الأزمان العريقة في القِدَم كانت تُقام شعيرة خاصة قد وُجد ما يُماثلها في الأزمان الحديثة في بلاد غير مصر. فقد كان يُقتل فيها المَلِك اعتقادًا من القوم أنه لم يَعُدْ بَعْدُ يتَّصِف بالصفات اللازمة التي تؤهِّله للقيام بوظيفة المَلِك. وجرْيًا على هذه الفكرة كانت تُذبح الحيوانات المقدسة من وقت لآخَر، أو بعبارة أخرى بعد مُضِيِّ زمن محدد على عبادتها. على أن هذه العادة قد مُحِيت على كَرِّ الأيام، وتقدُّم أسباب العمران بالنسبة للملوك، ولكن التقاليد كانت تفرض تضحية الفرعون؛ ولذلك كان يُقام احتفال خاص يُتوهَّم أنه قد مات، ثم يُتوَّج هو نفسُه من جديد، وبهذه المناسبة كان يُقام سُرادِق لتتويجه، وكان يَبتدئ الاحتفال حسب الشعيرة المَرْعِيَّة، وكان لزامًا على الملك عندئذٍ أن يُغيِّر اسمَه ويتخذ لنفسه قصرًا جديدًا.

ومن التقاليد التي تتصل بعيد «سد» كل المناظر التي يمثل فيها الفرعون ويجري أشواطًا في سباقات، وكذلك مناظر للرقصات الخاصة التي كان يرقصها أمام الإله، وكذلك مواكب أرواح الوجهين القبلي والبحري، وهم يحملون الفرعون على محفَّة كالتي نراها مثلًا في الأقصر على الجدار الجنوبي لحجرة الولادة.

وفي هذا العيد يظهر الفرعون كذلك لابسًا تاج الوجه القبلي وتاج الوجه البحري، ومُزَمَّلًا في عباءة، وجالسًا فوق منضدة مرتفعة. ولقد حاول علماء الآثار واللغة المصرية القديمة كلُّهم تفسيرَ كُنْه هذه الأحفال الخاصة بهذا العيد فلم يجدوا لذلك سبيلًا. ولكن يَظهَر أن النقوش والصور التي كُشف عنها حديثًا في مقبرة «خيروف» تُلقِي بعضَ الضوء على أصل هذا العيد، وبخاصة في كونه عيدًا لإحياء فرعون كَرَّة أخرى. ولا أدلَّ على ذلك من الدور الذي تلعبه «سفينتا الشمس» في هذا العيد، ووظيفة «سفينتي الشمس» كما جاء في متون الأهرام هي أنها كانت تسير بالإله «رع» من الشرق عند ولادته في الصباح وتغرب به في الغرب في سفينة أخرى خاصة كان ينتقل فيها عند الأصيل. فتسير به في العالم السُّفْلِيِّ أو عالم الأموات مدة ساعات الليل، ثم يَظهَر في الشرق مرة أخرى، وينتقل إلى سفينة النهار عائدًا إلى الحياة كرَّة أخرى، وهكذا دَوَالَيْك. وقد كان للفرعون سفينتان مثل سفينتي الإله «رع» وُجِدتا منحوتتين في الصخر بجوار هرم «خوفو»، وكذلك بجوار هرم «خفرع» خلال الدولة القديمة ليعمل فيهما سياحته مثل «رع»، أو مع الإله «رع» (راجع كتاب The Solar Boats, “Excavations at Giza”, Vol. VI, Part I).

وتدل النقوش على أن هذا العيد كان ينتظم عدَّة احتفالات تُقام حسب تقاليد العصر ومعتقداته؛ ولذلك لا نجدها تجتمع كلها في منظر واحد على ما يظهر، أو في مكان واحد على الآثار التي بَقِيتْ لنا حتى الآن. والظاهر أنه كان يُنحت بعض هذه الاحتفالات وتُصور على جدران «المقبرة»، أو في المعبد حسب اعتقاد صاحب المقبرة التي ستُرسم فيها هذه الاحتفالات. ومن الجائز أن المساحة التي كانت تحت تصرُّف الرَّسَّام لها دخْل في رسوم مناظر هذا العيد. وقد تَرك لنا «خيروف» في مقبرته بطيبة الغربية منظرين خاصين بالاحتفالات التي كانت تُقام في هذا العيد، كلٌّ منهما يختلف عن الآخر، فالأول يُفسِّر لنا العقيدة الشمسية، والثاني يوضِّح لنا العقيدة الأوزيرية، وكلاهما يدل على الحياة ثم الموت ثم الحياة ثانية وهكذا.

فالمنظر الأول خاص بالعيد الأول الذي احتفل به في العام الثلاثين من حكم «أمنحتب الثالث»، والثاني خاص بالعيد الثالث الذي أُقيم في العام السادس والثلاثين من حكمه أيضًا.

وسنورد هنا وصفًا موجزًا لمناظر العيد الأول كما جاءت على جدران مقبرة «خيروف» السالف الذكر. (راجع A. S. XLII, p. 29ff).

فيُشاهَد على الجدار الشمالي من الجزء المكشوف حديثًا منظر في طرفه الأيمن يُرى فيه الملك مرتديًا لباس العيد «سد»، وبجانبه الملكة «تي» جالسَيْن، والإلهة «حتحور» واقفة خلفَهما، وهما يُشرِفان على توزيع الهدايا التي كانت تحتوي على أطواق من الذهب وطيور وسمك من الذهب أيضًا، هذا إلى أشرافٍ كان يمنَحُهم الفرعون عطفَه. والمشهد الثاني يَظهَر فيه الفرعون والملكة خارجَيْن من باب القصر المزدوج يتقدَّمهما عشرة كهنة، كلُّ واحد منهم يحمل رمزًا قديمًا مقدسًا مرفوعًا على عَلَم، وأمامهم طائفة من الأميرات يحمِلْنَ سلات ويلْعَبْنَ بالصاجات. وفي الطرف الأيسر من المنظر نرى صورة «سفينة الشمس» (مهشَّمة) يجرُّها عشرون من كبار موظفي القصر. وتدل النقوش الخاصة بهذه السفينة على أنها «سفينة الليل» (أي التي يغرب فيها الإله دلالة على الموت)، وهي من النوع العادي، وفي وسطها حجرة على هيئة محراب صغير. ويُشاهَد في مقدمتها ستارة منظومة من حبات خرز معلقة في نهاية السفينة، ويعلوها صورة الإله «حور» الطفل وثلاثة أوتاد. وفي وسط هذا المحراب يُشاهَد الفرعون واقفًا بملابس عيد «سد»، وفي يده السوط والقضيب المعقوف، ويُرى خلفَه صورة امرأة ربما تكون الملكة «تي». وأمام المحراب يُشاهَد خمسة أشخاص أولهما صاحب المقبرة «خيروف». والثاني والثالث يحمل كلٌّ منهما لقب «القاضي والوزير» (أي وزير الوجه القبلي ووزير الوجه البحري). أما الرابع فإن النقش الدالَّ على وظيفته وُجد مهشَّمًا، وخامسها يُشاهَد خلف المحراب محرِّكًا سكان السفينة.

وأسفل هذا المنظر صورة هامة مثِّل فيها عذارى يرقصْنَ رقصة دينية، والنقش الذي يَصِف كل هذا المنظر يقول:

السنة الثلاثون الشهر الثاني من فصل الصيف السابع والعشرون من حكم جلالة «حور»، الثور القوي المشرق مثل العدالة، معطي الحياة ملك محبوبه «أمنحتب» حاكم طيبة معطي الحياة ملك الوجه القبلي والوجه البحري (نب ماعت رع) (رب العدالة رع)، ابن الشمس محبوبه «أمنحتب» حاكم طيبة معطي الحياة، لقد ظهر الملك عندما أُقيم الاحتفال بعيد «سد» عند باب قصره الكبير المزدوج وسمح للأمراء بالدخول في إيوانه، كذلك أقارب الملك الذين كانوا على رأس الشعب وهم أقارب الفرعون، وموظفو سفينة الشمس، ومديرو القصر، والأشراف الملكيون فكوفئوا بذهب الثناء في صور طيور وسمك مصوغة من الذهب، وخُلِع عليهم ملابس من نسيج «سسفو» ونسيج «وازو»، ثم صفوا في الموكب (كلٌّ على حسب درجته) ثم أكلوا بعد ذلك خبز الإفطار وقربان الفرعون، وبعد ذلك أُمروا بالذهاب إلى بحيرة جلالته ليجدفوا في السفينتين الملكيتين، وأمسكوا بأمراس مؤخرة سفينة الليل (مسكتت) وأمراس مقدمة سفينة النهار (معنزت) ثم جرُّوا الجالس على العرش العظيم ووقفوا على دَرَج سُلَّم عرش جلالته، وقد عُمل ذلك على حسب ما في السجلات القديمة، ومنذ القِدَم لم يحتفل القومُ بعيد «سد» احتفالًا يُضارِع هذا …

وهذا المتن الهام يَضَع أمامنا بوضوح الدور الذي كانت تلعبه كل من سفينتي الشمس في عيد «سد». والظاهر أن الفرعون كان بعدَ إقامة الولائم وبذْل العطايا للمُصْطَفَيْنَ الأخيار من بين أشرافه ورجال بلاطه يسير في موكب إلى البحيرة المقدسة، ولا بد أن تكون في هذا الوقت هي البحيرة التي حفرها «أمنحتب» للملكة «تي» في الجهة الغربية من «الأقصر»، أو تكون بحيرة المعبد بالكرنك وهو المرجح، وفيها ينزل الفرعون في سفينة الشمس الخاصة بالليل وهي التي تمثِّل الموت، ثم في سفينة النهار كلٌّ بدورها، ويجرُّها الموظفون، وهم فئة خاصة يسمَّوْن موظفي سفينتي الشمس. ولما كان عيد «سد» هو رمز موت الفرعون وإحيائه كما قدمنا، فالغرض إذن من هذا المنظر هو أن الفرعون كان ينزل أولًا في سفينة الشمس الليلية، وهذا الحادث يمثل موتَه وتوحيدَه مع «إله الشمس» المتوفَّى. وبعد أن يطوف حول البحيرة كان ينتقل إلى سفينة النهار وهذا رمز لولادته من جديد مثل إله الشمس عندما تشرق في الصباح، ثم يطوف حول البحيرة، وفي هذه الحالة كان العظماء الذين يجرُّون السفينة يُعتبَرون رمزًا للنجوم الثابتة التي لا تغيب؛ (النجم القطبي) والكواكب السيارة، أما الأشخاص الذين كانوا في السفينة مع الفرعون فيمثلون الآلهة الذين يكونون مع إله الشمس في السفينة.

ومعنى كل هذا أن الملك هو ابن إله الشمس، وكان يلعب كل الأدوار التي تمثل حياة هذا الإله الذي يُولَد في الصباح في الجهة الشرقية من السماء ثم يغيب في الجهة الغربية؛ أي يموت ليعود للحياة ثانية مولودًا جديدًا في الجهة الشرقية من السماء، وهذا ما يُرمز إليه عند الاحتفال بعيد «سد».

بَيْدَ أنه وُجد في الرسم الذي صَوَّر مناظرَه «خيروف» على جدران مقبرته في عيد «سد» الثالث حلقة ثانية في إحياء الفرعون كرة أخرى، أو بعبارة أخرى عقيدة ثانية في موضوع إحياء الفرعون تختلف عن العقيدة السابقة. وذلك أن العقيدة السابقة تمثل حياة الفرعون بحياة إله الشمس «رع» في السماء أو العقيدة الروحية. أما العقيدة التالية فتمثِّل حياته وموته بوصفه «أوزير» إله الموتى، أو بعبارة أخرى تمثل حياة الطبيعة المحسة التي تحيا ثم تموت ثم تحيا، وهكذا دواليك، وذلك على حسب زيادة النيل؛ فتحيا الطبيعة بحياته ثم تموت وتتجدد ثانية …

ولقد كان «أوزير» بخاصة يُعَدُّ في قديم الزمان ملكًا حكم على الأرض مدة ثم مات ثم أُعيد للحياة كرة أخرى وبقي يحكم في عالم الأموات. وقد رُسم منظر هذا العيد على الرواق الشمالي لمقبرة «خيروف»، فيُشاهَد في نهاية الطرف الأيسر الفرعون «أمنحتب الثالث» ومعه الملكة «تي» وكلاهما جالس على عرشه تحت مظلة فخمة. ويُلاحَظ أن العرش الذي تجلس عليه الملكة «تي» مزيَّن برسم «بوالهول» وهو يطأ تحت قدميه أعداء من السودانيين والآسيويين كما هي العادة. ولكن لما كانتِ الجالسة على العرش امرأة فإن صورة «بوالهول» تمشِّيًا مع ذلك مُثِّلت برأس امرأة، وكذلك الأعداء اللائي تطؤهن تحت قدميها أو المُصَفَّدات في الأغلال جاءت مناظرهن في صور نساء. ويقف أمام الملك والملكة «خيروف» صاحب المقبرة ويحمل لقب «الكاتب الملكي» ولقب مدير بيت الملكة «تي» وهو يقدِّم آنية من الذهب وقلائد للفرعون، ويشاهد كذلك أن الجزء الأعلى من صورة «خيروف» قد مُحي محوًا تامًّا، وفوق صورته نقش يصف تقديم الحُلِي ويشمل قلائد من اللَّازَوَرْد وحُليًّا من الذهب.

ويلاحظ أن جزء الجدار الذي خلف «خيروف» مقسم ثلاثة صفوف بعضها فوق بعض، وكلٌّ منها يشمل صورة «خيروف» يسير خلفه شخصان آخران، وأمام كل مجموعة منهم مَتْن مؤلَّف من سطرين أفقيين، غير أن الصور والمتن كليهما قد مُحي ولم يبقَ منها جميعًا إلا المتن الذي في الصف الأعلى، وهذه المتون تتحدث عن الدور الذي كان يقوم به «خيروف» في هذا الاحتفال بعيد «سد».

ففي المتن الأول نقرأ:

السنة السادسة والثلاثون. استعراض السمار الوحيدين، أمام عيد «سد» الثالث لجلالته بوساطة الأمير الوراثي والسمير الوحيد عظيم الحب والكاتب الملكي، مدير بيت الزوجة الملكية العظيمة «تي».

ومن ذلك نفهم أن «خيروف» كان يقوم بدور رئيس التشريفات في هذا الحفل.

وخلف هذا المنظر نجد على الجدار منظرًا آخر مقسمًا أربعة صفوف بعضها فوق بعض، أعلاها واسع والثلاثة الأخرى ضيقة، وكلها تمثل الشعائر المختلفة لهذا العيد.

في الصف الأعلى نشاهد «أمنحتب الثالث» واقفًا أمام تمثال «زد» الذي يمثل هنا الإله «أوزير» (ومعنى الكلمة: الثبات). وهذا التمثال يقف في محراب. وقد كُتب على الجانب الأيسر من العرش: «إني أقدِّم الغذاء، إني أقدم لك الطعام.» وفي داخل المحراب الذي تقف فيه صورة الإله «زد» نُقشت ستة أسطر أمام صورته هي:

إنه يعطي الحياة كلها والسرور كله والصحة كلها «أوزير» المسيطر على معبد «سكر» العظيم ملك الأحياء، والذي يثوي في ساحة جدران هذا الإله بعد إقامة «زد».

وخلف تمثال «زد» هذا ثلاثة أسطر هي:

الحماية والحياة كلها تحيط بك مثل «رع».» وعلى حافة المحراب: «لك الحياة والثبات والعافية والحكم على عرش «جب» (الأرض)، أنت يا أيها الكائن الطيب «وننفر» يا ابن «نوت» الذي يُقِيم في حجرة من بيته.» (يعني «أوزير»).

ثم يأتي بعد ذلك مشهد إقامة تمثال «زد» الذي يُرمز به للإله «أوزير» (والمنظر مهشَّم) فيُرى أمام «أوزير» شخصان يقدمان فروض الطاعة والخضوع، وهما كاهنان يُلقَّب كلٌّ منهما بلقب «عمود أمه» ويلاحظ أن العمود «زد» منحنٍ نحو اليسار يسنده رجل، والحبل الذي يشد به العمود له طرفان أحدهما في يد الفرعون والثاني في أيدي ثلاثة من أقاربه. وأمامهم رجل راكع يحمل في يده قربانًا مؤلَّفًا من خبز وجِعَة، وأمامه مائدة عليها قربان من الخضر والفاكهة والأزهار، ونُقش على العمود متن مهشَّم، نستطيع أن نفهم منه أن الفرعون يرفع العمود «زد» من الأرض. وفوق الحبل النقش التالي:

رفع العمود «زد» الفرعون نفسه لتضيء الأرض بعيد «سد» الثالث.

وكُتب فوق الكاهنين المنحنِيَيْن نقش مُحي أوله، ويَظهَر أن هذين الكاهنين كانا مكلَّفَيْن إعطاء الملابس، وليقفا على أقدامهما لعمل الحفل بإقامة تمثال «زد» أمام الفرعون. ونُقش أمام الملك ما يأتي: «رفع تمثال «زد» الملك نفسه ليعطيه الحياة مثل «رع» مخلدًا.»

ويقف خلف الملك زوجه «تي»، ونُقش أمامَها: «الزوجة الملكية العظيمة محبوبته «تي».» ويُشاهَد خلفَها موكب مؤلَّف من الأميرات اللائي كن مشتركات في إقامة تمثال «زد»، كما يدل على ذلك النقش الذي يفسر المنظر.

الأحفال: خصصت ثلاثة الصفوف التي أسفل منظر إقامة عمود «زد» لتوضح الأحفال المختلفة التي كانت تَقِيمها الكهنة والكاهنات في هذا المعبد.

فالمنظر الأول يبتدئ من اليسار ويُشاهَد فيه ثلاث غانيات يصفقن بأيديهن وأمامهن عشرة كُهَّان يرقصن بأوضاع مختلفة في جماعات، وقد كُتب بين جماعتين منهن «هذا الرقص يُعمل أمام تمثال «زد».» ويُرى أيضًا أربعة من هؤلاء الكهنة يغنون أغنية كُتبت أمامهم.

موكب القرابين: هذا المنظر يبتدئ بمغنِّيَيْن يصفقان على أيديهما ويغنيان أغنية كُتبت عليها أمامهما، وتتألف من أربعة سطور. وخلف المغنيين أربعة من حاملي القرابين وكلهم من أقارب الفرعون، ونُقش فوقهم إحضار الجِعَة والخضر وكل الأشياء اللذيذة الطاهرة إلى روح بتاح «سكر» عمود «أوزير».

أما المتن الذي أمام المغنِّينَ الأربعة فهو:

فتح الباب على مصراعيه للإله «سكر رع» في السماء لتجديد ضوء «آتوم»؛ لأجل أن نرى الضوء في الأفق، ولأجْل أن تملأ الأرضين بجمالك مثل السماء، وأنك ترسل أشعتك مثل «تحنت» (حجر براق لامع) مثل وقت ولادتك ومثل «آتوم» في السماء.

وخلف حاملي القرابين نشاهد طائفة من الرجال يرقصون رقصة حركاتها مثل حركات الراقصين في المنظر الأول. وهم كذلك مقسمون جماعتين، وقد كُتب في وسط الجماعتين التفسير التالي: «إقامة هذا المحفل في يوم … إقامة «زد» «أوزير» الفاخر أما التمثال الفاخر لبيت الإله «سكر».»

الصف الثاني: يوجد في هذا الصف منظران؛ الأول: للغناء والرقص، والثاني: يمثل الحرب بالعِصِيِّ وسيقان البردي.

ويبتدئ المنظر الأول منهما بصورة غريبة في بابها تشتمل على ثماني مغنيات، الاثنتان الأوليان منهن تضربان على الدفِّ، والباقيات يصفِّقْنَ بأيديهن، ويصحبهن المتن التالي: «مغنيات ومغنون لإقامة الشعائر والاحتفالات لنصب تمثال «زد».» ويلاحظ أن أربع راقصات يلبسْنَ ملابس رأس تُشبه التقيات الحالية لاصقة برءوسهن ويقمن برقصة استعملن فيها حركات بالجسم والأقدام والأذرعة، وقد نقش بينهن متن جاء فيه: «نساء أُتِي بهنَّ من الواحات لإقامة تمثال «زد».» غير أنه من المستحيل علينا أن نفهم لماذا أُحضِرْنَ من الواحات. وقد يحتمل أن الواحات الواقعة في غربي مصر لها علاقة بالأحفال الخاصة بإحياء «أوزير»، غير أن هذا يدل دلالة واضحة على العلاقة التي كانت بين الواحات وسكان مصر نفسها. وبعد هؤلاء الراقصات نشاهد كهنةً مرتِّلِين، يرقصون بأوضاع مختلفة، ثم كهنة يتحاربون، فبعضهم يتشاجر بقضبان بأيديهم في أوضاع مختلفة، وآخرون يتضاربون بسيقان البردي، وهم يمثلون أهل بلدة «ب» بالدلتا، وبلدة «دب» (بوتو) وغيرهم.

الصف الأسفل: وتستمر الاحتفالات في الصف الأسفل، وهو الصف الثالث والأخير، ويمكن تقسيمه ثلاثة أقسام؛ أولها: الجزء الذي في النهاية الشمالية من المنظر، ويمثل «خيروف» يتبعه بعض الموظفين الذين يحملون أشياء خاصة، والجزء الثاني: يمثِّل السفن المحمَّلة بالقرابين. أما الثالث: فيمثَّل فيه الثيران والحمير التي تطوف أربع مرات حول جدران «منف» وقد كُتب عليه: «طوافها حول جدران «منف» أربع مرات في هذا اليوم الذي يُنصب فيه عمود «زد» الفاخر للإله «بتاح سكر أوزير».» ومِن كل هذا يمكننا أن نفهم أن هذا الاحتفال بإقامة عمود «زد» هو رمز لإحياء الفرعون بعد موته، أو بعبارة أخرى تتويج الفرعون من جديد. كما تُوِّج أوزير من جديد على عالم الأموات.

(٨) آثاره خارج القُطْر

إن أقدم آثار مصرية مؤرَّخة وُجدت في أوروبا هي للملك «خيان»، ثم جعارين «أمنحتب الثالث» والملكة «تي»، وقد عُثر على عدد كبير منها بمناسبة الفخار الإيجي؛ فقد وُجدت جعارين في «مكينيا Mykenae» (راجع Sewell, “Tiles from Mycenae with the Cartouche of Amenhotep III”, P. S. B. A. XXVI, p. 258; Hall, “Discoveries in Crete and their Relation to the History of Egypt and Palestine”, P. S. B. A, XXXI. p. 141).
كما وجدت آنية هناك باسمه (Dusssaud, “Civilization Pre-Helleniques dans le bassin de la Mer Egée, (Paris 1910) p. 155).
وكذلك وُجدت جعارين باسم هذا الفرعون في جزيرة «رودوس» (راجع ibid. p. 203).
  • وفي «قبرص»: وجد للملكة «تي» جِعْران في إنكومي  Enkomi (راجع Murray, Smith and Walters, “Excavations in Cyprus”, IV, p. 608).
  • في سوريا: وفي «سوريا» وُجد إناءان عليهما اسم هذا الفرعون في غزة (راجع Petrie, “History”, II, p. 188).
  • في سينا: وفي «سرابة الخادم» في شبه جزيرة «سينا» قام هذا الفرعون بأعمال عظيمة لاستحضار المعادن والأحجار، وبخاصة الفيروزج، وقد وُجد له هناك لوحتان إحداهما مؤرَّخة بالسنة السادسة والثلاثين، وفيها يُشير قائد الحملة إلى البحر باسم «الأخضر العظيم»؛ مما يدل على أنه قام برحلة إلى هذه الجهات عن طريق البحر، ويلاحظ أن الفرعون قد مُثِّل على هاتين اللوحتين يتعبَّد للإلهة «حتحور» ربة «الفيروزنج» (راجع L. D. III, Pl. 71c). وكذلك عُثر له على مبانٍ هناك، وفخَّار مطليٍّ باسمه (راجع Petrie, “Researches in Sinai”, p. 74, 82, 108; Figs. 146, 5, 5; 148; 11, 12; 150. 12, 155. 7; Gardiner and Peet, “Sinai”, Pls. LIX, LXV–VI, 211, 222).
  • وفي القاهرة: يوجد عمود مؤلف من قطع أعمدة من عهد «أمنحتب الثالث» في جامع التركمان بباب البحر، وقد اغتصبه «مرنبتاح» و«ستناخت»، ويحتمل أنه أتى به من «هليوبوليس» (راجع Daressy, “Notes sur des Pierres Antiques du Caire”, Rec. Trav. XXXV. p. 46).
  • وفي الدلتا: أما في الدلتا فلم نعثر له إلا على آثار قليلة؛ أهمها أربعة تماثيل لموظفين من عهده، وُجدت في «تل بسطة» اثنان منها لحاكم يُدعَى «أمنحتب» وقاعدة واحدة لكاتب ملكي يُدعَى «خرفو»، ويلقَّب كذلك «مدير البيت»، وتمثال لم يُذكر عليه اسم صاحبه لكاهن وكاهنة، ولكن عليه مثل الآخرين اسم الفرعون (راجع Naville, “Bubastis”, p. 31–33).
  • وفي بنها: عُثر على قطعة حجر كبيرة من الجرانيت الأسود عليها اسم الفرعون واسم الثعبان الحارس «حرخنتي خاتي» (“Monuments Divers”, 63b).
  • وفي طرة: فتح هذا الفرعون محاجر جديدة في السنة الأولى من حكمه. وقد دَوَّن عمله هذا على جدران المحجر في «طرة» نفسها. وفي السنة الثانية من حكمه دَوَّن نقشًا آخر مثل النقش الأول، وقد جاء فيه: «السنة الثانية في عهد جلالة الفرعون (الألقاب) أمنحتب الثالث … أمر جلالته بفتْح حجرة جديدة لأجْل قطع أحجار «عيان» الجميلة لبناء معابده (لملايين) السنين، وذلك بعد أن وجد جلالته حجرات قطع الأحجار التي كانت في «عيان» بدأتْ تَظهَر مخرَّبة جدًّا منذ الأزمان السالفة. وقد كان جلالته هو الذي جدَّدها لأجْل أن يُعطَى الحياة والثبات والصحة مثل «رع» مخلدًا.» (راجعA. S. XI, 259 (L. D. III, Pl. 71. Cd.)).
    وقد وجد في معبد «كوم الحيطان» في «طيبة» قطعة من هذا الحجر مؤرَّخة بتاريخ المحجر باليوم الأول من السنة الأولى (Petrie, “History”, II; p. 189; Breasted, A. R., II. § 875).
  • وفي الجيزة: وفي منطقة الجيزة عُثر له على لوحة في الحفائر التي قامت بها البعثة الألمانية في هذه المنطقة. واللوحة توحي بأن هذا الفرعون قد قام بزيارة منطقة الأهرام مثل أسلافه. وهذه اللوحة تحمل طغراء الفرعون ومنظرًا مُثِّل فيه الملك وهو طفل صغير عريان، يقدِّم زهرة «البشنين» ﻟ «بوالهول» الذي مثِّل جالسًا على قاعدة عالية، ومتوجًا بقرص الشمس يكتنفه صلان، والظاهر أنه كان يوجد تمثال بين مخلبي «بوالهول» غير أنه مُحي. وتمثيل هذا الفرعون وهو طفل يُشير إلى أنه تولَّى المُلْك وهو لم يبلغ الحُلُم بعدُ (راجع Holscher, “Das Grabdenkmal des Konigs Chephren”, p. 107).
  • وفي منف: وُجد في معبدها اسم هذا الفرعون، كما وُجدت له مناظر نقلت معظم قِطَعها إلى «متحف بوستن» بأمريكا «وكوبنهاجن» (راجع Porter and Moss, “Bibliography”, III, p. 220).
    وكذلك وُجد صندوق أواني الأحشاء لقطة؟ أهداها «تحتمس» بن «أمنحتب الثالث»، وكان يشغل وظيفة كاهن الإله «بتاح» الأكبر (راجع Rec. Trav. XIV. p. 174-5).
    وتُعزَى أقدم مقابر للعجل «أبيس» لعهد هذا الفرعون، وقد كانت حجرة من الصخر يصل إليها الإنسان بممرٍّ منحدِر بُني فوقها مقصورة (راجع Mariette, “Le Serapeum de Memphis”, publie d’apres le Manuscrit de l’Auteur Par. G. Maspero (Paris, 1882) p. 117)، وقد وُجدت المقصورة للعجل الأول منقوشة، ويُشاهَد على جدرانها الفرعون «أمنحتب الثالث» مع الأمير «تحتمس» واقفَيْن أمام العجل أبيس (راجع Ibid, Texts, PP. 124–5).
    وكذلك وُجدت أربع أوانٍ من أواني الأحشاء عليها اسمه (راجع Ibid, Pl. I).
    وكذلك وجد إناء من المرمر عليه اسم الأمير «تحتمس» ابنه في «اللوفر» الآن (“Gauthier”, L. R. II, p. 336. (CIII))، كما عُثر على قطعة حجر من هذا العهد، وهي الآن في المتحف المصري (راجع Virey, “Catalogue”, 230).
  • ميدوم: وفي «ميدوم» وُجد نقش على الصخرة ذُكر عليه اسم «أمنحتب الثالث» (راجع Petrie, “Meydum”, p. 4). أُرِّخ بالسنة الثلاثين من حكمه (راجع Porter and Moss, “Bibliography”, III. p. 90).
  • كوم مدينة غراب: ووُجد في غراب مائدة قربان أهدتْها الملكة «تي» إلى الفرعون «أمنحتب الثالث»، وقد جاء عليها: «عملت آثارها لأخيها المحبوب «نب ماعت رع».» وكذلك وُجد غطاء صندوق وأنبوبة كحل ذُكر عليهما اسم الملك وزوجته وابنته «حنت تانب» (راجع Petrie, “Illahun”, Pls. XVII, XXIV)».
    وكذلك عُثر على وسادة عليها اسم الفرعون (راجع A. S. II. p. 142).
  • الكوم الأحمر: وفي الكوم الأحمر (بالقرب من المنيا) وُجدت له لوحة عليها لقبه (راجع A. S., XII, p. 93). أما اسمه فوُجد ممحوًّا، وكذلك وُجدت قطعة من الحَجَر عليها اسم «أمنحتب الثالث» في «هوارتة» (بالقرب من المنيا) (راجع Murray, “Guide”, p. 406). ويحتمل أنه وُجد في هذا المكان أيضًا ثلاثة تماثيل من الأبنوس للفرعون «أمنحتب الثالث» والملكة «تي» ولأمير آخَر (راجع Ippel and Roeder, “Denkmaler des Pelizaeus Museums zu Hildesheim (1921), PP. 70, 80, Abb. 23, 25).
    وبالقرب من هذه البلدة عُثر على قبرٍ سليمٍ لفرد يُدعَى «ثوتي» من عصر هذا الفرعون وعصر ابنه «أمنحتب الرابع»، وقد تجلَّى فيه فن العصر (راجع Chassinat, B. I. F. A. O., I, p. 226-7). وفي زاوية الأموات عُثر له على لوحة في الجبانة الحديثة، وهي محفوظة بالمتحف المصري الآن (راجع A. S. XII, p. 93 (VII))، ولوحة منحوتة في الصخر بالدير البحري مؤرخة بالسنة الأولى من حكم «أمنحتب الثالث» (راجع Rec. Trav, XXVI, p. 151-2).
  • البرشة: وفي البرشة وُجدت لوحة مؤرَّخة بالسنة الأولى من عهد «أمنحتب» في محجر (راجع P. S. B. A., IX, p. 195, 206).
  • العمارنة: وفي تل العمارنة وُجدت بطاقة بردية عليها اسم هذا الفرعون (راجع A. Z. XXXIII, p. 72)، وكذلك وُجدت خواتم باسمه (راجع J. E. A., VII, p. 182-3) كما عُثر على خمسة ألواح من المرمر باسمه هناك أيضًا (راجع Berlin Mus. 10586–8, 17955-6. Cartouches, “Aeg. Insch. Mus. Berlin”, II, p. 242)، وكذلك لوحة «لأمنحتب الثالث» و«تي» أمامهما القربان (راجع J. E. A., XII, Pl. 1. cf. p. 1-2)، ورأس «لأمنحتب الثالث» (راجع Berlin Mus. 21299)، وقِطَع من إناء أحمر من الجرانيت (راجع Frankfort, and Pendelbury, “The City of Akhenaton”, II, Pls. XLVII (3, 3) cf. p. 102. 108).
  • مسيخ: وفي «مسيخ» يوجد معبد لهذا الفرعون (راجع P. S. B. A., VII. p. 172).
  • ريانة: وفي «ريانة» يوجد حصن من اللبِن خُتمتْ بعضُ لَبِناته باسم «أمنحتب الثالث» (راجع Murray, “Guide”, p. 426).
  • الوجه القبلي: أما في الوجه القبلي فآثار هذا الفرعون منتشرة بدرجة عظيمة.
  • أرمنت: ففي «أرمنت» وُجدت قطعة من تمثال من الجرانيت الأسود باسمه (راجع Daressy, “Notes et Remarques”, Rec. Trav. XIX, p. 14).
  • دندرة: وفي «دندرة» وُجد نقش من عصر البطالمة لهذا الفرعون في صورة «حابي» (النيل) بطغراء «نب ماعت رع» على رأسه، وأيضًا تمثال لأمِّه «موت مويا». (راجع A. S. VIII, p. 146.)، أما في «الكرنك» وفي «الأقصر» و«طيبة» الغربية فقد تكلَّمنا عن آثاره هناك بإسهاب في مكانه.
  • الكاب: ويوجد له في الكاب معبد صغير مؤلَّف من حجرة مربعة ذات أربعة عَمَد وله ردهة، وقد بُني في الوادي الصحراوي خلف المدينة، وكان قد بدأ في إقامته والده وأتمَّه «أمنحتب» للإلهة «نخبت» (راجع L. D., III, Pl. 80). وكذلك يوجد اسم هذا الفرعون في المعبد الكبير الموجود بهذه البلدة (راجع Weigall, “Guide”, p. 328; Champollion, “Notices”, I, p. 266).
  • الردسية: وفي «وادي عباد» بالردسية الواقعة على بعد ٣٥ كيلومترًا من إدفو في الصحراء يوجد نقش على الصخر مذكور فيه اسم الفرعون «أمنحتب الثالث» (راجع A. S. IX, p. 76).
  • جبل السلسلة: وفي جبل السلسلة يوجد محراب عليه اسم هذا الفرعون في المحاجر هناك كان يعلوه صقر وقد سقط الآن بجواره (راجع P. S. B. A., XI, p. 233-4) وكذلك توجد مائدة قربان أُهديت إليه في السنة الخامسة والثلاثين من حكمه (راجع L. D. III, Pl. 81–c)، وكذلك وجد محراب عليه اسمه Weigall, “Guide”, p. 373، كما ذُكر اسم وزيره «أمنحتب» هناك (راجع A. S. IV, p. 197).
  • إلفنتين: وكان يوجد في «إلفنتين» معبد مِن أتم المعابد وأجملها من عهد هذا الفرعون، وقد كان حتى هدْمِه في نوفمبر عام ١٨٢٢ يحتوي على جزء من ألوانه الأصلية، وقد هُدم لاستعمال أحجاره لإقامة معسكر ليسكن فيه الجنود السودانيون الذين كَوَّن منهم «محمد على باشا» جيشًا. ويقول «لينان باشا»: «إن محمد بك الذي كان مكلَّفًا بتأليف هذا الجيش قد هَدَمَ المعبد لا جهلًا منه، بل عن قصد؛ ليمنع زيارة الأجانب لأسوان.» (راجع J. E. A., Vol. XXXII (1946) p. 59)، ولكن لحسن الحظ كان هذا المعبد قد رُسم في عهد الحملة الفرنسية، وكذلك وُجد في مخطوطات المستر «بانكس» وغيرها «ibid, p. 57»، والمعبد في ذاته كالمعابد الأخرى له بابان من الأمام والخلف، ويسير الاحتفال الديني فيه حتى المحراب، ويشتمل على قاعة عَمَد مؤلَّفة من سبعة أعمدة في الجانب وأربعة أعمدة في الأمام حول خارجه. ومن المميزات الغريبة لهذا المعبد أنه كان مقامًا على طوار أجوف يصل إليه الإنسان بسُلَّمٍ ذي درجات. وقد رُسمت صورة المعبد كما رُسم في وثائق «بانكس» (راجع ibid, Pl. VII).
  • أسوان: وقد عُثر له في «أسوان» على لوحة منحوتة في الصخر عليها أفراد يتعبَّدون إلى خرطوش «أمنحتب الثالث» (راجع Porter and Moss, “Bibliography” V, “Upper Egyptian Sites”, p. 222). ولوحة أخرى من المرمر باسم «أمنحتب الثالث» والملكة «تي» يتعبدان «لأوزير»، أهداهما «سبك نخت» مدير معبد آمون، وهي الآن في ميونخ (راجع ibid. p. 242). كما لا يزال في محاجرها التمثال العملاق الذي كان قد عُمل لهذا الفرعون ملقًى، وعلى الرغم من أن جزءًا منه لا يزال مدفونًا في الأرض، غير أنه من نسبة حجمه يمكن أن يُقدَّر ارتفاعه بنحو ٢٥ قدمًا، وفي هذه المحاجر نَقْش في الصخر يُرَى فيه النحات يتعبد لاسم هذا الفرعون ويقول فيه: «إنه قد نحت تمثال جلالته العظيم أحد الأمراء.» (راجع De Morgan “Cat. Mon.”, I. p. 62-3).
  • كونوسو: وفي «كونوسو» نقشه المؤرَّخ بالسنة الخامسة من حكمه على الصخر.
  • وادي السبوع: وله محراب في وادي السبوع (راجع A. S. IX, p. 184).
  • أمدا: وفي «أمدا» وُجد له لوحات، وأتم كذلك نقش المعبد القائم هناك (راجع Lacau, “Steles du Nouvel Empire”, No. 340278).
  • عنيبة: ووُجد له في عنيبة قطعة حجر عليها اسمه.
  • مرجيس: وفي قلعة «مرجيس» له معبد (راجع Gunn, “The Religion of the Poor in Ancient Egypt”, J. E. A. III (1916). p. 81).
  • بوهن: (وادي حلفا) وجدت لوحات باسمه (راجع Maciver and Woolley, “Buhen” p. 180, 81).
  • سمنة: وفي «سمنة» عُثر على لوحة عليها اسمه (راجع Brit. Mus. Budge, “Sculpture”, p. 114, 115).
  • سدنجا: وفي «سدنجا» الواقعة في شمالي «صلب» أقام هذا الملك معبدًا جميلًا، لا تزال بعض بقاياه تكريمًا للملكة «تي»، وبه نقش يقول: «إن «أمنحتب الثالث» قد أقام هذه الآثار للوارثة العظيمة القوية سيدة كل الأراضي «تي».» (راجع L. D. III. Pl. 82e–i).
  • نباتا: (جبل بركل) وفيها عُثر على بقايا محراب مُهدَى للإله «آمون» إله الشمس في جبل «بركل»، والظاهر أن «أمنحتب الثالث» كان أول مَن لحظ ميزة موقع هذا المكان، وحاول أن يجعل من قرية «نباتا» الساذجة بلدة مصرية كبيرة متمدينة، كما يوجد في «نباتا» آثار نقلت من «صولب» كما ذُكر آنفًا.

(٩) تماثيل الملك أمنحتب الثالث

نَحَت هذا الفرعون لنفسه عدَّة تماثيل ضخمة منها اثنان في «طيبة»، نُحت الجزء الأعلى من أحدهما في العهد الروماني، وله تمثال آخر بنفس الحجم مدفون خلف السابقَيْن، ورابع يبعد عن الأخير بعض الشيء، وكذلك مجموعة من أربعة تماثيل في قطعة واحدة من الحجر فُقدت رءوسها. (راجع Murray, “Guide” p. 464).
وقد نُقلت تماثيل ضخمة لهذا الملك مصنوعة من الحجر الجيري الأبيض من معبده الجنازي وكُسرت، وعُثر على بقاياها في مباني معبد «مرنبتاح» ومدينة «هابو» (Petrie, “History”, II, p. 195).
أما تماثيله العادية فيوجد منها اثنان من الحجر الجيري الأبيض في المتحف المصري (راجع Maspero, “Guide Boulaq” p. 422)، وتمثال من الجرانيت الأسود في المتحف البريطاني (راجع Budge, ibid, p. 115).
وكذلك رءوس أربعة تماثيل (راجع ibid. p. 115, 116).
  • وفي موسكو: له تمثال (راجع “Ancient Egypt” (1920) p. 125).
  • وفي أفنيون بفرنسا: توجد قاعدة تمثال عليها اسمه (راجع Moret, “Monuments Egyptiens du Musee Calvet à Avignon”, Rec. Trav. XXXV, p. 196).
  • وفي مجموعة سورما Saurma: توجد مجموعة مؤلفة من الملك وزوجه «تي»، ويوجد لهذا الفرعون ثلاث صور ممتازة تمثِّله في ثلاثة أدوار مختلفة (راجع Champollion, “Monuments” p. 232; L. D. III, Pl. 70). وقد شهد «شمبليون» تمثال «بوالهول» لهذا الفرعون في الكرنك (راجع Champollion, “Notices”, II, p. 272)، ومن الجائز أن أحد التماثيل الموضوعة الآن أمام كنيسة «سنت بطرس برج» له (راجع Lieblein, “Die Agyptische Denkmaler in St. Petersburg, Helsingfors, Upsala und Copenhagen (Christiania, 1873) p. 61).
ويوجد له تمثال مجاوب في المتحف البريطاني (راجع Budge, “Guide”, p. 153). هذا بالإضافة لتماثيله التي بالمتحف المصري.

(١٠) تماثيل الآلهة التي تُنسب لعهد «أمنحتب الثالث»

يُنسب إلى هذا العهد تماثيل عدة للآلهة والإلهات، وبخاصة تماثيل الإلهة «سخمت» المصنوعة من الجرانيت الأسود، وهي التي قد أُقيمت على وجه خاص في معبد الإلهة بالكرنك. كما يوجد تمثال واقف للإله «بتاح» من الديوريت في «تورين»، وآخَر جالس من الحجر الجيري الأبيض في تورين أيضًا، وفي مجموعة سابتيه Sabatier Coll. يوجد تمثال للإله «أنوب» من الحجر البازلت، وكذلك تمثال قِرْد يمثل الإله «تحوت» من حجر الكوارتسيت في المتحف البريطاني (راجع Budge “Guide”, p. 120. Petrie “History”, II, p. 176). وكلٌّ عليها اسمه (راجع Petrie “History”, II, P. 176).

(١١) عبادة أمنحتب الثالث

رأينا فيما سلف أن «أمنحتب الثالث» قد أقام معبده الجنازي ليُعبَد فيه هو، وكذلك أقام معبد «صولب»، وقال عنه إنه بناه لنفسه وللإله «آمون» بوصف أن كلًّا منهما إله. والواقع أنه لم يُعبَد بعد وفاته كما كان المنتظر؛ إذ في معبد «صولب» نجد ابنه «إخناتون» يَظهَر بملابسه الملكية العادية لا في الملابس الخاصة لعبادة الملك. وقد رأينا في أيام حياته أن بعض الموظفين كان يتعبَّد لتمثاله كما شاهدنا النحات «من» في أسوان. وكذلك في منف نجد هذا الفرعون يُعبد أيضًا (راجع Pap. Sallier. Verso, Pl. 2). ونشاهد منظرًا على لوحة لكاهن معبد «أمنحتب الثالث» يتعبد فيها للإله «أوزير» والإلهة «إزيس» و«أمنحتب الثالث» والملكة «تي» (راجع Champollion, “Notices”, II, p. 703)، وفي الكرنك نقرأ على تمثال صيغة القربان المعلومة تُتلَى للإله «سكر» والإله «نفرتم» ثم الإلهة «سخمت»؛ أي ثالوث «منف»، ثم للفرعون «أمنحتب الثالث» (راجع P. S. B. A., XI. p. 42)، وكذلك نجد منقوشًا على صخور «بجة» صورة «أمنحتب» كاتب الفرعون يتعبد له (راجع Porter and Moss, “Bibliography”, V, p. 256).

(١٢) الأسرة المالكة

نعلم مما ذكرنا أن الملكة «تي» كانت زوجه الشرعية، وأنها كانت مصرية المنبت، وليس فيها أيُّ دمٍ أجنبي كما يدَّعِي البعض. وقد ظَهَرَتْ على جوانب تمثالَيْ «ممنون» اللذين يُمثِّلان «أمنحتب الثالث» زوجها، وكذلك شاهدنا أنه كان يذكرها على كل الجعارين التي نشرها، كما كانت تَظهَر بجواره في كل المحافل الرسمية، كما نجد في معبد «صولب» وغيره مثل مقبرة «خيروف» (راجع Fakhry, A. S. XLII (1942) p. 449ff)، وكذلك ظهرت صورتها في مقبرة «حوي» في تل العمارنة (L. D. III, Pl. 100c.). وقد عُثر في مصنع مثال على قطعتين عملهما هذا بمثابة تجربة في تل العمارنة (Prisse, Art). وفيهما نشاهد وجهها، وقد عُثر على تماثيلها المجاوبة المصنوعة من المرمر في قبر زوجها (راجع Petrie, “Tell El Amarna” I, p. 6; “Description de l’Egypte” V, p. 60, 7).
وقد أَهدَتْ موائد قرابين لروح زوجها بعد موته، وقد بَقِيَ لنا منها واحدة في بلدة «غراب» (Petrie, “Illahun” Pl. XXIV)، وكذلك كُتب اسمها على صناديق زينة وُجدت في غراب أيضًا (ibid. Pl. XXIV). وكذلك في «تورين»١٥ وقد وجدوا اسمها منفردًا أو مع اسم «أمنحتب الثالث» على جعارين كثيرة، وفي حالتين وُجدت صورتاهما معًا (راجع Brit. Mus., Brocklehurst Coll.; Petrie. “Scarabs”, 1305–9)، ونجدها على جِعْران جالسة (راجع Brit. Mus. Petrie, “Scarabs”, 1308)، وقد ظهر اسمها منفردًا في محاجر «تل العمارنة»١٦ وظهرت مع الفرعون «أمنحتب» في مناظر معبده الواقع شمالي مقياس النيل «بأسوان» (Porter and Moss, “Bibliography”, V. p. 228)، أما الملكة «جيلوخبيا» فلم نسمع باسمها إلا مرة واحدة على جِعْران زوجها كما سبق، وأما أولاد «أمنحتب الثالث» فقد ظل علماء الآثار لا يعرفون عنهم الشيء الكثير حتى أثبتت الكشوف العلمية والأبحاث الطبية أنه أنجب «إخناتون» «وسمنخكا رع» «وتوت عنخ آمون»، وبناته هن «نفرتيتي» و«سات آمون»١٧ كما ذكر ذلك على الآثار. وكذلك ذُكر اسم بنتين له على معبد «صولب» وهما «آست» و«حنت مرحب» (راجع L. D. III. Pl. 86b). وقد جاء ذكر «سات آمون» على قطعة من صندوق من العاج (Brit. Mus. Archælogical Journal, VIII, p. 397.)، وكذلك نُقش اسمها على طبق في «تل العمارنة» (راجع Petrie, “Tell el Amarna”, Pl. XIII, 6).
وكذلك رُسمت جالسة على حجْر مربيتها «نبت كاباني» على لوحة من «العرابة المدفونة» (راجع Mariette, “Abydos”, II. p. 49). أما «حنت تانب» فلم نجد اسمها إلا على آنية كحل من الفخَّار المطلي، كُشف عنها في غراب (راجع Petrie, “Illahun”, Pl. XVII, 20). ويقول بتري: إن الأميرة «باقت آتون» هي ابنة «أمنحتب الثالث» كما تدل كل الظواهر على ذلك، وهي التي يُقال عنها إنها سابعة بنات «إخناتون» وأصغرهن، ويلاحظ أنها كانت ترافق الملكة «تي» وتسمَّى البنت الملكية، في حين أن بنات «إخناتون» كُنَّ يُدعَيْنَ بنات «نفرتيتي». وقد رَسَم صورتَها مفتنُّ البلاط «أوتا» الخاص بالملكة «تي» (راجع L. D. III. Pl. 100a). أما عن خرافة نسب «تي» إلى أصل «متني»، وأنها ليست مصرية فقد قضَى عليها الكشفُ عن مقبرة والدَيْها، وكلاهما مصري صميم، وكذلك اسماهما مصريان، وقد نصب «أمنحتب الثالث» كلًّا من والد زوجه «تي» ووالدتها في مكانة رفيعة في البلاط، كما بَنى لهم قبرًا فاخرًا في «وادي الملوك»، ونصب أخا «تي» المسمَّى «عانن» في وظيفة الكاهن الأعظم لمدينة «أرمنت» التي كان يُعبد فيها الإله «أمنتو» إله الحرب، وهو من أعظم الآلهة المصرية (راجع Kees, A. Z. LIII, p. 81).

(١٣) نهاية حكمه

ولا يزال هناك غشاء رقيق حول «أمنحتب الثالث» نفسه وكيفية انتهاء حكمه لا يجعلنا ننفذ إلى أعماق الحقيقة البحتة عن آخر أيامه؛ إذ دلَّتِ الكشوف الحديثة التي أُميط اللثام عنها في «تل العمارنة» أنه كان لا يزال على قيد الحياة حتى السنة التاسعة أو الثانية عشرة من حكم ابنه «إخناتون»، وعلى أية حال فإنه دفن في قبره الذي أُعِدَّ له في وادي الملوك، وهو الذي كَشف عنه «جولوه» Jollois و«دفلييه» Devilliers عام تسعة وتسعين وسبعمائة وألف من الميلاد. وقد نُقش على جدران دهاليزه وحُجَره صُوَر ملونة تمثل الفرعون يتحدث مع الآلهة المختلفة. ولم تكن جثته في القبر الخاص به الذي كان قد نُهب نهبًا تامًّا في العصور التي تَلَتْ دفنه، بل وُجدت في مقبرة حفيده «أمنحتب الثاني» كما ذكرنا من قبل. وهي محفوظة الآن في المتحف المصري.

ومما سبق نعلم أن «أمنحتب الثالث» يُعَدُّ على ما يتضح أعظم ملك قام بأعمال البناء والتعمير في عهد الأسرة «الثامنة عشرة»، وكان النشاط والاهتمام اللذان بذلهما الملوك السابقون له في الحروب الطاحنة، قد استغلَّهما هو في تصميم المباني التي أراد أن يُزيِّن بها بلادَه، وفي زيادة ثراء معابد الآلهة في الوجهين القبلي والبحري، وبخاصة في «طيبة» وفي «السودان»، ومع أنه كان لدى هذا الفرعون عَبِيدٌ لا يُحصَى عددُهم رهن إشارته، فلم يكن في استطاعته أن يَبنِي «رومة» في يوم واحد، كما يقول المثل السائر. ولا نزاع في أن زهرة مباني الأسرة «الثامنة عشرة» التي أقامها كانتْ تحتاج إلى الجزء الأكبر من سِنِي حكمِه، غير أننا لا نعرف التواريخ التي تمَّتْ فيها مبانيه الضخمة. وعلى كلٍّ فإن الوثائق التي تركَهَا لنا منقوشة على هذه المباني تَنطِق بعِظَم ما قام به هذا الفرعون في هذه الناحية.

fig8
شكل ٥: أمنحتب الثالث في أواخر أيامه.
والظاهر أن «أمنحتب» قد مات حوالي الخمسين من عمره ولم يبقَ ما يدلُّنا على شخصيته وخلقه إلا أثران، وهما موميته في متحف القاهرة، وهي التي قامتْ حولها الشكوك أولًا (راجع “Asiatic Review” Oct. 1927). ثم ثبت أنها له، ثم لوحته الصغيرة الشهيرة المحفوظة الآن في المتحف البريطاني، (انظر شكل رقم ٥) وهي التي مثِّل عليها جالسًا مع ملكته «تي» وأمامهما مائدة محمَّلة بكل ما لذَّ وطاب. وفي هذه اللوحة نشاهد رجلًا طَغَتْ عليه الشيخوخة قبل أوانِها، فأصبح مترهِّلًا منحنِيَ العُود بعض الشيء، يجلس جِلْسة الزاهد في كل ملاذِّ الحياة ومُتَعِها، فأصبح وقد شبع منها لا تُغرِيه ولا تجد سبيلًا إلى نفسه، فقد ملَّها وانقطعت بينهما كل الأسباب. فتراه وقد وضع إحدى ذراعيه إلى جانبه وذراعه الأخرى معتمدة على ركبته مسندًا بها ثقلَيْ رأسه وكتفيه المكدودتين. أما وجهُه فوجهُ إنسان متألِّم قد اعتاد الأوجاع والمرض، وهذه الأوجاع نعرفها من موميته، على الرغم مما أصابها من العَطَب الذي تسبَّب عن سرقة قبرِه ونقْلِ جثته من مكان إلى آخَر. ولحسن الحظ وُجد رأسُه سليمًا. وقد أسفر الفحص الطبي الذي قام به «إليوت سمث» على أن هذا العاهل العظيم كان يشكو آلامًا قاسية بسبب (خراريج) في أسنانه كما هي الحال في مصر حتى الآن.

والواقع أن البذخ والتَّرَف وعِيشة الاستهتار التي كانت تتميز بها حياة الفرعون وأفعاله، والتي تُنبِئ عنها بقايا قصره في مدينة «هابو» لأكبر دليل على ما أصابه في أواخر حياته من وَهن الصحة وترهُّل في الجسم على الرغم من صِغَر سِنِّه، وما كان ينتظر أن يتمَّ على يَدَيْه في مثل هذا الدور من حياته الذي يكون فيه الشخص قد نضج وتأهَّب لجليل الأعمال، ولا سيما أنه كان في أول حياته قد راضَ جسمَه وقوَّاه في الطِّراد الذي كان يَهوَاه، ولكن كل ذلك لا يُجْدِي نفعًا من رجل أرخَى لنفسه العنان في الملاذِّ والشهوات، على أن مومية الفرعون «رعمسيس الثاني» تحدثنا عن نفس القصة، ولكنها لم تكن في إسراف «أمنحتب»؛ إذ قد عاش «رعمسيس» نصف قرن أكثر منه، ومع ذلك فإن الحالة التي وُجدت عليها موميته من الوَهن تُنسَب جُلُّها للشيخوخة. ولا نكون مبالِغين إذا قلنا إنه لم يبقَ لنا من الماضي صورة حية تدلُّ على صاحبها في صِدْق تعبير مثل صورة «أمنحتب الثالث» هذه.

(١٤) الموظفون في عهد «أمنحتب الثالث» والحياة الاجتماعية في عصره

(١٤-١) أمنحتب بن حبي (ويُسمَّى كذلك حوي)

كان «أمنحتب بن حبي» المدير العظيم لبيت الفرعون، ويُعد من أكبر الشخصيات الذين خدموا الفرعون «أمنحتب الثاني»، بل قد يُعد أكبر شخصية بارزة في عهد هذا الفرعون إذا استثنَيْنا سمِيَّه «أمنحتب بن حبو» الذي سنعلم تاريخ حياته فيما بعدُ. ولم يكن «أمنحتب» هذا ينتسب إلى أسرة عريقة في المجْد، وإن كان ابنَ عمِّ الوزير «رع موسى» الذي سنتكلم عنه في دوره، وقد استطاع في مدَّة خدمته أن يَجمَع لنفْسِه وظائف عدَّة في الدولة ذات نفوذ عظيم، وها هي ذي ألقابه ووظائفه مُرتَّبةً على حسب أنواعها:
  • (١)

    ألقاب الشرف التقليدية: الأمير الوراثي، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد، والسمير العظيم الحب، والسمير الأكبر لرب الأرضين، والمدير الملكي، والقاضي (أو المبجَّل).

  • (٢)

    ألقاب الكهانة: كاهن «ورت حقاو»، والمشرف على الكهنة في بيت سخمت، ومدير أعياد «بتاح» القاطن جنوبي جداره وكل آلهة «منف»، والكاهن «إمي ورت».

  • (٣)
    ألقابه الهندسية والإدارية: (راجع J. E. A. Vol. XXIV. p. 19, 20). المشرف على الأعمال في «خنمت بتاح»، ومدير الأعمال، والمشرف على مخزن الغلال المزدوج في كل البلاد قاطبة، والمشرف على بيتَيِ الذهب والفضة، والمشرف على كل صُنَّاع الملك.
  • (٤)
    ألقابه الكتابية: الكاتب، وكاتب الملك، وكاتب الملك الحقيقي، ومحبوبه (راجع Davies, “The Tomb of Ramose”, Pls. IX, XI, XII, XIX)، وكاتب الفرعون للمجندين.
  • (٥)

    ألقابه بوصفه مدير البيت: مدير البيت، والمدير العظيم لبيت الملك، ومدير البيت «لمنف»، والمدير العظيم لبيت الفرعون في «منف».

نعوته

وقد كان «أمنحتب» يُنعت بالنُّعوت التالية: موضع ثقة سيده، ومَن رقَّاه الملك، والمحبوب من رب الأرضين، ومَن في قلب حور في بيته، وعَيْنا ملك الوجه القبلي، وأذنا ملك الوجه البحري، والحاكم الذي على رأس أشراف الفرعون، والرفيع المقام في مكانته، والمعظَّم في وظيفته، والفم الذي يمنح الرضا في مسكن الملك، والفم الذي يَبعث الرضا في كل الأرض قاطبة، ومَن يمدحه «بتاح» كل يوم، والواحد الممدوح الذي خرج من الفرج ممدوحًا، وصاحب الإله الطيب (Ibid Pls. IX, XI, XII, XIX). وقد عُثر لهذا الموظف العظيم من تمثال من الحجر الرملي وجده «بتري» في منف وعليه نَقْش طريف يحدثنا عن تاريخ حياته (Petrie, “Tarkhan I, & Memphis”, V, Pls. LXXVIII–LXXX). فيقول:

إن هذا التمثال قد مُنح بمثابة حظوة من الملك ووُضع في بيت «نب ماعت رع» المسمَّى المتَّحِد مع «بتاح»، وهو الذي أقامه جلالته حديثًا لوالِدِه «بتاح» القاطن جنوبي جداره في أراضيه المنزرعة غربي «حتكا بتاح» لأجْل الأمير الوراثي، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، ومحبوب رب الأرضين، العظيم في رتبته، والسامي في وظيفته، والحاكم الذي رأس أشراف جلالته، وعينا ملك الوجه القبلي، وأُذُنا ملك الوجه البحري …

والذي على علم بطريقة القصر، والفم الذي يمنح الرضا في مسكن الفرعون، وصاحب الكلام السامي؟ … وكاتب الفرعون الحقيقي، ومحبوبه «أمنحتب» يقول: إني أتكلم إلى فخامتكم، أنتم يا مَن ستأتون إلى الوجود، يا رجال المستقبل الذين سيعيشون على الأرض، لقد خدمتُ الإله الطيب والأمير «المرح» (؟) ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نب ماعت رع» عندما كنت فتيًّا وليس لي قريب. وعندما تقدَّمتُ في السِّنِّ … دخلتُ القصر عندما كان في سكنه الخاص حتى أرى «حور» في بيته هذا، ومشى الأشراف خلفي (؟) وقد منحني امتيازات عطف؛ وذلك بسبب أخلاقي السامية، ورقَّاني المدير العظيم للبيت، وكانت عصاي على رءوس القوم، وقد أصبحتُ ثَرِيًّا بالعبيد والماشية والأملاك من كل شيء مما لا يُحصى عددُه، ولم يكن هناك ما أرغب فيه بفضل سيد الأرضين «حور خع-م-ماعت» … ولقد أقمتُ العدل من أجل «رع»؛ لأني عَرَفتُ أنه يعيش عليه، وأنِفْتُ من قول الكذب، ولقد رقَّاني لأقوم بالمباني التي في بيته ملايين السنين، وهو الذي أقامه حديثًا في أراضيه المنزرعة غربي «حتكا-بتاح» (منف)، في حي «عنخ تاوي»، ولقد كان والده «بتاح» الذي … وأنتظر؟ بمثابة أثر لوالده «بتاح» بعمل ممتاز أبديٍّ بالحجر الجيري الأبيض من «عيان». ولقد كان جماله مثل أفق السماء، وكل أبوابه كانت من خشب الأرز المجلوب من المرتفعات (أيْ لبنان) من خيرة «جاو»، وغُشِّي بالذهب النُّضَار المجلوب من الصحراء، وبكل أنواع الأحجار الثمينة.

وكانت قاعاته وأبوابه من … عظيم … عمل خالد بمثابة قطعة حصينة، أمَّا بُحيْرته فقد حُفرت وغُرست فيها الأشجار، وصارت ساطعة بكل نوع من الأخشاب الثمينة المنتخبة من البلاد المقدسة، وقواعد أوانيه كانت من الفضة والذهب … وكل أنواع الأحجار الصلبة. وبعد أنْ تمَّ هذا البناء بصورة جميلة وقف جلالته قرابين جديدة مقدسة تحتوي على هِبَات يومية لوالده «بتاح» القاطن جنوبي جداره ولآلهة هذا البيت، فقد كانوا يمدُّون بالطعام الطيب إلى الأبد، وعين كهنة مطهرون، وكهنة من أولاد حكام «إنبو» (منف) وخُصصت حقول وماشية وعمال ورعاة من غنائم جلالته التي رجع بها من كل أرض، وقد شغل جلالته تمامًا كل وظائف هذا المعبد، وكان جلالته هو الذي أنجزها على هذا الوجه، كما تستحق عن طيب خاطر؟ … وقد جعل جلالته هذا البيت يقدِّم لمعبد «بتاح» المُؤَن لكل تماثيله مثل بيوت ملك الوجه القبلي والوجه البحري التي بجانب جلالته في المدينة الجنوبية (طيبة)، وقد كانت تحت مراقبة كل مدير بيت للفرعون … خبزها أبدي. والآن تأمَّل، لقد خَصَّصتُ أملاكًا من حقولي وعبيدي وماشيتي لأجْل تمثال «نب ماعت رع» الذي يُسمَّى … وهو الذي أقامه جلالته لوالده بتاح في هذا المحراب.

قائمة بذلك: عشرة ومائتا فدان ونصف أرورا. وفي الأقاليم الشمالية وعشرون ومائتا فدان من الحقول مما أُعطيتُه حظوة من الملك، فيكون المجموع ثلاثين وأربعمائة فدان ونصف فدان، هذا فضلًا عن … عشرة … ألف أوزة من التي تَضَع بيضًا، وألف خنزير،١٨ وألف خنزير صغير، وقد مدحني جلالته على ذلك، كما كنتُ ممتازًا في قلبه، ولقد رُفعتُ إلى سِنٍّ موقَّرة في حظوة الملك، وأسلمتُ هيكلي الجثماني إلى التابوت بعد حياة طويلة، وانضممتُ إلى قبري في الجبانة … وقد كان احترامي لدى رجال البلاط، وحبي عند كل الناس، وحظوتي كانت وطدت في القصر.

وقد منحني جلالته قربانًا مقدسًا مما قدَّم أمام تمثاله الخاص بالحفلات في بيته المسمَّى المتَّحِد مع «بتاح» الذي أقامَه في أرضه المنزرعة غربي «حتكا بتاح». وفضلًا عن ذلك فإنه عندما يشبع الإله نفسه بمأكولاته، ويتسلَّم هذا التمثال كذلك وجباته، تقدم المُؤَن أمام خادمه المطيع هذا (أيْ نفسي) على يدِ الكاهن المرتِّل الذي في بيته، وعلى الكاهن المطهَّر اللبيب أن يقدم قربانًا … (٢٧) … على حسب الشعائر المُتَّبَعة خلال اليوم.

قائمة بذلك: «فطائر بيت (المقدار المستعمل في الطهو ثلاثون) عشرون فطيرة، فطائر بيت (المقدار المستعمل في الخبز أربعون وحدة) ثلاثون فطيرة، وفطائر «بيت» (المقدار في الخبز مائة) مائة فطيرة، وفطائر برسن (المقدار المستعمل في الخبز أربعون) عشرون، فطيرة وفطائر برش (المقدار المستعمل في الخبز أربعون) ثلاثون فطيرة، فيكون المجموع مائتي رغيف مختلفة، وجِعَة (المقدار الذي استُعمل في صنعها ثلاثون) عشرة أباريق، ومن الشحم إبريقان، وساقٌ واحدة من كل مقدمة ثور يَرِد إلى هذا البيت، و«مَنٌّ» واحد من النبيذ، ووِطاب من اللبن، وفطائر من الخبز الأبيض اثنان، وإوزة واحدة، وخضر وستُّ حزم … وثلاث. وهكذا أقول: اصغوا أنتم يا أيها الكهنة المطهرون، والكهنة المرتِّلون، والكهنة التابعون للمعبد المسمَّى «المتَّحِد مع بتاح»، وكل مدير بيت للفرعون، سيعيش هنا فيما بعد في «إنبوا». لقد منحكم جلالته خبزًا وجِعَة ولحمًا وفطائر وكل ما لذَّ وطاب لأجْل أن تغذُّوا أنفسكم في بيته المسمَّى «المتحد مع آمون» في خلال كل يوم فلا تطمعوا في مؤنتي التي قرَّرها لي إلهي فضلًا منه عليَّ في قبري. على أني لم أذكر أكثر مما هو ملكي الخاص، ولم أطلب أيَّ شيء أكثر مما يجب، وذلك لأني لما تعاقدتُ على تخصيص هذا العَقَار بتمثال الفرعون الكائن في هذا البيت (المعبد) في مقابل منْحِي قربانًا مقدسًا من تلك القرابين التي تمرُّ بهذا التمثال المحفلي بعد أداء التضحية الخاصة بالشعيرة الدينية رغبة في تسجيل مؤنتي للأجيال، كنتُ رجلًا عادلًا على الأرض يَعرِف إلهه، وأنه سيزيد في جماله، كما عاملتُ خَدَم بيته معاملة طيبة، ولم أُقْصِ رجلًا عن مرتبه، ولم أغشَّ إنسانًا آخَر في ممتلكاته، ولم أغتصب أملاك آخرين بالخداع، وكنتُ أمقتُ الغشَّ، وإني أقول أيضًا: إن كل مدير بيت للفرعون من الذين سيكونون في منف، وكل كاتب وكل كاهن مرتل، وكل كاهن مطهر تابع لهذا المعبد، والكهنة غير المحترفين في كل المعبد، وكل مَن سيكون في هذا البيت إذا منعوا مؤنتي التي قرَّرها لي «بتاح القاطن جنوبي جداره» والإله الفاخر الذي يعيش على الصدق، والذي سوَّى صورتَه بنفسه، مما أعطانيه الملك «نب ماعت رع» لأجل أن أعمل قربانًا لقبري، بسبب عِظَم حظوتي عنده (فإن مثل هذا الشخص) سيزوره غضبُه، وستُنزَع وظيفتُه أمام وجهه، ويُعطاها رجلٌ يكون عدوًّا له، وستغيب عنه قرينتُه (رُوحه)، وسيسقط بيته على الأرض. أما كل مدير بيت للفرعون في «إنبوا» وكل كاتب، وكل كاهن مرتل، وكل كاهن مطهر لهذا المعبد، والكهنة غير المحترفين في كل المعبد، وكل مَن يلوذ بهذا البيت ويمنح الكاهن المرتل الذي في بيتي مؤنتي كل يوم، فإن هذا الإله الفاخر سيمدحه، وسيقضي حياته في سلام وبدون شجار، وسيرتفع إلى عُمْرٍ موقَّر، وتُسلَّم وظيفتُه إلى أولاده بعدَ عُمْرٍ طويل، وستكون كل سِنِيه سعيدة بدون حزن، وسيكون حسن السمعة بين الناس، ولن يَحِيق به شرٌّ؛ لأني كنتُ عادلًا ومنصفًا على الأرض، فقد أَعطيتُ الجائع خبزًا والعطشان ماء، وعملتُ كلَّ ما يُرضي الناسَ ويمدحُه الإلهُ.

ومما سبق نعلم أن «أمنحتب» قد درج إلى أعلى الرُّتَب بفضل مجهوداته وما امتاز به من الصفات العالية والخلق العظيم. فلم يَرِثْ وظائفَه من والدٍ صاحب ألقاب عظيمة أو عن أمٍّ لها نفوذ في البلاط، على أن مثل هذا النبوغ الشخصي كان من الأمور العادية في مصر القديمة. ولا نزاع في أن «أمنحتب» قد بدأ مجال حياته الحكومية كاتبًا، وقد كان هذا أول لقب حمله، ولا بد أنه أظهر براعة في هذه الوظيفة مما جعله يرقَى إلى وظيفة «كاتب الملك»، وهو لقب ظلَّ يحمِلُه حتى آخِرِ حياته، ثم رقي بعد ذلك إلى رتبة كاتب الملك الحقيقي (أيْ إنه كان أحد السكرتاريين الخصوصيين للفرعون «أمنحتب الثالث»).

أما وظيفة «كاتب مجندي الفرعون» فقد كانت اختصاصاتُها إطعام الجنود والعُمَّال وكسوتهم وتفقد أحوالهم العامة. ونحن بدورنا نعلم أن وظيفة الكاتب لم تكن قاصرة على المهارة في الكتابة وحدَها، بل كان لا بدَّ للكاتب من أن يكون قديرًا في الحساب وحلِّ المسائل الرياضية والميكانيكا المعقَّدة، كذلك وضع التصميمات الخاصة بالمشاريع العظيمة البنائية (راجع Papyrus Anastasi I & M. M. A. 18, Oct. Part. II. p. 6). فليس من المستغرب إذن أن يكون «أمنحتب» في أول حياته الحكومية قد أضاف إلى وظائفه أعمال المدير العظيم لبيت الفرعون، ورئيس الخزانة ومهندس البناء، وقد وصل إلى قمة مجْده بتولِّيه وظيفةَ المدير العظيم لبيت الفرعون في «منف»، إذ قد وصل بها إلى درجة عظيمة من الثراء والغِنَى والجاه ممَّا لم يَصِلْه أحد في جميع البلاد قاطبة إذا استثنينا سمِيَّه «أمنحتب بن حبو» الذي سنوفيه حقَّه في حينه.

أما مَهامُّ وظيفة رئيس الخزانة فكانت ثانوية بالنسبة لمهام المدير العظيم لبيت الفرعون، وأما لقب حامل خاتم ملك الوجه البحري فكان لقب شرف وحسب، وكان يحمله كل موظف من أصحاب الشهرة العظيمة في عهد الأسرة الثامنة عشرة، ومن الأفراد الذين كان يَكِلُ إلَيْهم الفرعون القيام ببعوث إلى البلاد الأجنبية. وما قام به «أمنحتب» بوصفه مهندسَ بناءٍ ظاهر لا يحتاج إلى إيضاح كثير؛ إذ إنه بوصفه مدير الأعمال، والمشرف على المباني في «خنمت بتاح» قد أقام معبد «أمنحتب الثالث» في «منف»، ويجوز أنه كذلك قام بالإضافات التي عملها هذا الفرعون في «معبد العرابة». وعلى الرغم من أن هذا المعبد لم يكن من الفخامة والعظمة بحيث يُضارِع المعبد الذي أقامه «أمنحتب بن حبو» في «طيبة» إلا أن ذلك لا يمنع من أن يكون على جانب عظيم من الأهمية والفخامة.

ولقد اشترك «أمنحتب بن حبي» بوصفه مواطنًا منفيًّا في الحياة الدينية الخاصة بمسقط رأسه؛ لذلك نَجِده كان يشغل وظيفة المشرف على كهنة الإلهة «سخمت» وهي زوج الإلهة «بتاح» وأمُّ الإلهة «نفرتم»، وهؤلاء يكونون ثالوث «منف»، وقد كان كاهنًا لإلهة أخرى برأس لبؤة وهي الإلهة المحلية «ورت حقاو»، والظاهر أنه كذلك كان يُشرف على كل الأعياد الدينية في «منف»، وبخاصة أعياد الإله «بتاح» أعظم آلهة هذه الجهة، ومن الجائز أن تكون الألقاب الدينية التي حَمَلها ألقاب شرف في معظم الحالات، وقد أخبرنا «أمنحتب» هذا أنه كان يختلف على القصر، وأنه كان على أحسن ما يكون مع الفرعون من الودِّ والحظوة، وليس من الصعب تصديق هذا، فقد كانتِ الصداقة التي بين الفرعون والرجل الذي ينهض بأعباء شئونه الخاصة ظاهرة بما كان بينهما من المنفعة المشتركة التي أحكمتْ أواصرها كتابة فيما يتعلَّق بالقربان الذي كان يُقدَّم لتمثال كلٍّ منهما، على أن هذا العمل لم يكن اغتصاب متاع من جهة الفرعون، ومن جهة أخرى لم تكن هبةً للفرعون من قِبَل مدير البيت، بل كان مجرَّد تبادل منفعة كما يحدث بين نِدَّيْن، قامت على مبدأ قِيمة دفعت مقابل قِيمة تسلمت؛ إذ إن مجرَّد قدرة «أمنحتب» على تخصيص ثلاثين وأربعمائة أرورا من الأرض للصَّرْف منها للمحافظة على تمثال لدليل قاطع على مقدار ما كان عليه هذا الرأسمالي من الغنى الفاحش.

والواقع أن «أمنحتب» كان مِن أول أمْره حتى نهاية المطاف موظفًا منفيًّا. وتدل ظواهر الأمور كلها على أنه تلقَّن تعليمَه الأول في «منف»، ونال أعلى وظائفه هناك، وأخيرًا دُفن في تربتها، وقد كان شعوره وعاطفته الدينية مع آلهة الوجه البحري، وبخاصة آلهة «منف» ولا أدلَّ على ذلك من أن الإله «آمون» والآلهة الطيبين لم يُذكروا على آثاره، (ومن المحتمل أنه سمِّي «أمنحتب»؛ تبرُّكًا باسم الفرعون «أمنحتب الثاني» الذي وُلد في عهده لا مِن أجْل الإله «آمون»، وقد كانت زوجة «مري» مغنية الإله «آمون» مما يدل على أنها كانت طيبية الأصل غير أن في ذلك شكًّا كبيرًا). وعلى الرغم من أن نشاط «أمنحتب» كان معظمه منحصرًا في «منف» لا يصح أن نعدَّه مجرَّدَ موظَّف إقليمي لا مكانة له في المجتمع المصري الراقي؛ إذ إنه مع ارتفاع «طيبة» إلى منزلة عاصمة الإمبراطورية، فإن «منف» قد ظلت أكبر مدينة، ومن وجوه كثيرة أهم مدينة في مصر. يضاف إلى ذلك أن «منف» بما منحتْها الطبيعة من جوٍّ لطيف ومركز وسط بالنسبة للإمبراطورية المصرية، كان فراعنة الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة يُفضِّلون الإقامة فيها معظم وقتهم أكثر من مُكْثِهم في «طيبة» عاصمة البلاد السياسية والدينية. ومع أن «أمنحتب» قد بدأ حياته رجلًا من عامة الشعب ثم دخل في خدمة الفرعون كما يقول هو من غير قرابة؛ أي دون أن يكون رجلًا من أسرة غنية وعريقة في الجاه لتُساعده، فإنه قد تسنَّم قمَّة المجد والقوة والنفوذ حتى إنه عند وفاته كان في مقدور ابنه «إبي» أن يحتلَّ مكانته التي أصبحتْ خالية بموته. وهذا دليل ناطق أمامنا على أنه كان من المستطاع لأسرة مصرية أن ترتفع في جيل واحد من الحضيض إلى مكانة علِيَّة تُهيِّئ لأفرادها أن يشغلوا أعظم مناصب الدولة. ولما كانت الأرستقراطية الوراثية غير معروفة في العادة في مصر في ذلك العصر، فلا بد أن «إبي» كان رجلًا من أصحاب الكفايات العظيمة والمهارة الفائقة.

ولدينا عدد عظيم جدًّا من آثار «أمنحتب» باقٍ حتى الآن مما يدعو للدهشة وهي:
  • (١)
    قبره الذي أقامه لنفسه في «منف»، والظاهر أنه كان بالقرب من المقبرة التي أقامها «حور محب» القائد العظيم والمَلِك فيما بعدُ؛ أي بالقرب من رأس الجسر «بسقارة»؛ وذلك لوجود قطع منقوشة من هذا القبر في هذه الجهة (راجع J. E. A. Vol. XXIV. p. 18). ومعظم الآثار التي سنذكرها هنا مستخرجة من هذا القبر.
  • (٢)
    محبرة كتابة نموذجية من المرمر موجودة الآن بمتحف «اللوفر» (Boreux “Guide Louvre” I. p. 66).
  • (٣)
    محبرة أخرى نموذجية من المرمر بمتحف «متروبوليتان» (Hayes, J. E. A. Ibid. p. 16).
  • (٤)
    محبرة أخرى نموذجية من المرمر بمتحف «فلورنس» (A. Z. Vol. XLIV. p. 89).
  • (٥)
    قضيب مكعب في متحف «فلورنس» (راجع J. E. A. Vol. II, p. 139).
  • (٦)
    لوحة من الحجر الجيري الأبيض بمتحف «فلورنس» (Rec. Trav. II. p. 124-5).
  • (٧)
    هرم صغير من الجرانيت الرمادي بمتحف «فلورنس» (Schiaparelli, “Cat. Florence” p. 89).
  • (٨)
    إناءان منقوشان من المرمر بمتحف «فلورنس» (A. Z. Vol. 44. p. 89).
  • (٩)
    هرم صغير من الجرانيت الأحمر في متحف «ليدن» (راجع Ibid).
  • (١٠)
    صندوق أواني أحشاء بمتحف «ليدن» (راجع ibid).
  • (١١)
    رِجْل كرسي من الخشب بمتحف «ليدن» (راجع Ibid).
  • (١٢)
    لوحة من الحجر الرملي (كوراتسيت) بمتحف القاهرة (Quibell, “The Monastery of Apa Jeremias”, p. 6, 146. Pl. LXXV).
  • (١٣)
    تمثال من (الكوارتسيت) من «منف»، وهو الآن بمتحف «أشموليان» بأكسفورد (راجع Petrie, “Tarkhan I. & Memphis”, V, p. 33–36. Pls. LXXVII–LXXX).
  • (١٤)
    تمثال من الجرانيت بالمتحف البريطاني الآن (Budge, “Guide to Sculpture”, p. 127. No. 448. Pl. XVII).

(١٤-٢) أمنحتب سورر

كان «أمنحتب» هذا يحمل اسم «سورر» أيضًا، وهو من كبار موظفي الفرعون «أمنحتب الثالث»؛ إذ كان يحمل الألقاب التالية: «الأمير الوراثي وكاهن الفرعون»، «عقي» وحامل المروحة على يمين الفرعون، والكاتب الملكي والحاكم، والسمير الوحيد الذي يقترب من سيده (أي المقرَّب) وحارس خطوات رب الأرضين، والمدير الملكي، والأمير على خبز قاعة القربان (“Excavations at Giza”, V. p. 94ff). والمدير العظيم لبيت الفرعون، وقد نحت أمنحتب قبره بالخوخة (رقم ٤٨)» ويحتوي على بعض مناظر (Porter & Moss “Bibliography”, I, p. 79) طريفة يظهر في واحد منها صاحب المقبرة في وظيفته «حامل المروحة على يمين الفرعون»، في حين نجد الفرعون نفسه يؤدي شعائر عيد الحصاد الذي تكلمنا عنه فيما سلف، كذلك نشاهد الإلهة «رنوتت» تُرضِع إله الحب «نبري» ويتعبد لكليهما «أمنحتب الثالث» (Davies, M. M. A, (1929). p. 48, fig 8. & Wilkinson. MSS. V. p. 126).

غير أن قبر هذا العظيم قد فَتَك به شيعة «إخناتون» فتكًا ذريعًا؛ إذ هشَّموا جزءًا كبيرًا من نقوش الجدران، ومما يلفت النظر أن شيعة «إخناتون»، قد مَحَوْا نقشًا بأكمله إلا علامة الأفق — فإنها تُركت أينما وُجدت؛ وذلك لوجود رمز الشمس فيها. وقد تُرك لقب الفرعون «نب ماعت رع» دون أن يُمسَّ بسوء، أما اسمه الذي يحوي كلمة «آمون (أمنحتب)»، فقد مُحي.

(١٤-٣) خيروف

كان «خيروف» من أكابر موظفي الدولة في عهد «أمنحتب الثالث»، ويقع قبره في «العساسيف» رقم (١٩٢)، وقد كشف عنه الدكتور أحمد فخري حديثًا بعد أن ظل موقعه مجهولًا بعد كشفه الأول. وقد وجد فيه مناظر جديدة لم تكن معروفة من قبل كما ذكرنا آنفًا.

والظاهر أن «خيروف» كان من أنصار المذهب الديني القديم فلم يَقبَل أن ينضمَّ إلى ديانة «إخناتون» وعصبيته، ويحتمل أن هذا هو السبب الذي من أجله قد مُحيَتْ صورته، وكذلك كل المتون التي تُشير إلى نشاطه، ويحتمل أن يكون الداعي لذلك أسباب أخرى غابت عنا. وعلى أية حال فإن أهم منظر كَشَف عنه الدكتور أحمد فخري هو منظر عيد «سد» الذي يُعدُّ من أهم الكشوف التي أماطتْ لنا اللثام بعض الشيء عن ماهية هذا العيد، وقد تكلمنا عنه فيما سبق، وقد بقي علينا هنا أن نُعدِّد ألقابَه ووظائفَه، وهي «الأمير الوراثي»، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد، والسمير العظيم الحب، ومدير بيت الزوجة الملكية العظيمة «تي»، والمشرف على الخزانة، وحاجب الفرعون الأول، ورئيس أسرار بيت الملك، والقاضي الذي في مقدمة رجال البلاط، والحاكم الذي في مقدمة المواطنين، وعظيم العظماء، وعظيم السُّمَّار، ومدير بيت الزوجة الملكية في بيت «آمون»، وكاتب الفرعون الحقيقي، والوحيد المتكلم عن المواطنين.

وقد عُثر على قاعدة تمثال لرجل يُدعَى «خيروف» نُقش عليها الألقاب: كاتب الملك، وكاتب الملك الحقيقي، ومحبوبه، ومدير البيت، ومدير القصر (راجع Naville, “Bubastis”, p. 33. Pl. XXXV, H).
وكذلك يوجد نقش على صخور «أسوان» يَظهَر عليه كاتب الملك، ومدير البيت «خيروف» يتعبَّد للإله «رع حور أختي» وهو يشاطر هذا الأثر مدير الخزانة، والمشرف على كتاب الملك رب الأرضين المسمَّى ﺑ «مرمس»، وهذا الذي أصبح فيما بعد نائب الملك في بلاد النوبة، (De Morgan, “Cat. Mon.” p. 39. No. 177). ومن المحتمل أن هذه النقوش كانت من آثار «خيروف»، نقشها قبل أن يقوم ببناء قبره (رقم ١٩٢) (راجع Ibid. p. 44, No. 4).

(١٤-٤) تحتمس الوزير

كان «تحتمس» هذا على ما يظهر وزيرًا لمصر في الوجه البحري أوائل حكم «أمنحتب الثالث» (Anthes, A. Z. (1936) p. 60–68). وألقابه هي: «الوزير، وعمدة المدينة، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، وسمير الملك، والذي يقترب من الإله نفسه، وفم «نخن» وكاهن «ماعت»، ومَن منح ذهب الاستحقاق ورئيس القضاة، والوزير، والذي في المكان المقدس في القصر الفرعوني (له الحياة والسعادة والصحة).»
والآثار التي عُرفت لهذا الوزير حتى الآن هي لوحة في «ليدن» (U. 14.) وأخرى في «فلورنس» (رقم ٢٥٦٥) ومحبرة نموذجية في متحف «برلين» (راجع Weil, “Viziere”, p. 81).

(١٤-٥) «بتاح مس» ابن الوزير «تحتمس»

كان «بتاح مس» ابن الوزير تحتمس من أعظم موظفي الدولة في «منف»؛ إذ كان يشغل منصب الكاهن الأكبر للإله «بتاح». وفي باكورة حكم «أمنحتب الثالث» كان يحمل الألقاب التالية: «الأمير الوراثي، ووالد الإله، ومحبوب الإله، ورئيس أسرار العرش العظيم، والكاهن «سم» والمدير العظيم للصناع (لقب الكاهن الأكبر للإله بتاح).» وفي السنة العشرين من حكم هذا الفرعون نجد أن «بتاح مس» يحمل لقب المشرف على كهنة الوجهين القبلي والبحري؛ (أي بمثابة وزير الأمور الدينية)، وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير الوحيد. وقد جاء ذكره على أثرين لوالده المسمى «تحتمس» الموجودين الآن في متحف «فلورنس» ومتحف «ليدن» (راجع Leemans, “Agyptische Monuments”, II. p. 248. No. 635).

(١٤-٦) مري بتاح

وهو ابن الوزير «تحتمس» وأخو الكاهن الأكبر للإله «بتاح» المسمى «بتاح مس» السالف الذكر، ونعرف «مري بتاح» هذا من آثار والده، ويحمل الألقاب التالية: الأمير الوراثي، والسمير الوحيد الحب، ومدير بيت «أمنحتب الثالث»، وعينا ملك الوجه القبلي وأذنا ملك الوجه البحري (راجع Weil, Ibid. p. 81).

(١٤-٧) «بتاح مس» ابن الكاهن الأكبر «منخبر»

كان «بتاح مس» هذا الكاهن الأكبر في «منف» في السنة الثلاثين من حكم الفرعون «أمنحتب الثالث»، وكان ابن الكاهن الأكبر المسمى «منخبر»، وألقابه هي: «الأمير الوراثي، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد، والكاهن «سم»، والمدير العظيم للصناع، ووالد الإله، ومحبوب الإله، ورئيس أسرار معبد «حتكا بتاح» (منف).» (راجع Schiaparelli, “Cat. Florence”. No. 1505). وقد خلفَه ابنُه «با-حم-نتر» كاهنًا أعظم للإله «بتاح» رب «منف» في نهاية حكم «أمنحتب الثالث» (راجع Anthes, A. Z. (1936). p. 60–86).

(١٤-٨) «بتاح مس» الوزير والكاهن الأكبر

كان «بتاح مس» يحمل لقب وزير الوجه القبلي في أوائل حكم «أمنحتب الثالث»، أما ألقابه فقد عُرفت من لوحة له موجودة الآن بمتحف «ليون» (B. I. F. A. O. Tome. XXX, PP. 499ff). وهي: «الأمير الوراثي، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والكاهن الأول للإله «آمون» وعمدة المدينة الجنوبية «طيبة» والوزير في المدينة الجنوبية، ووزير كل أعمال الملك.»
وفي السنة العاشرة من حكم هذا الفرعون كان يحمل الألقاب والوظائف التالية: «الأمير الوراثي، ووالد الإله، ومحبوب الإله، وعمدة المدينة، والوزير، والمشرف على كهنة الوجهين القبلي والبحري (وزير الشئون الدينية)، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والكاهن الأول للإله «آمون».» (Mariette, “Catalogue d’Abydos No. 408).

(١٤-٩) «أمنحتب» الوزير

كان «أمنحتب» هذا وزيرًا للفرعون «أمنحتب الثالث» من السنة الواحدة والثلاثين إلى السنة الخامسة والثلاثين، ولا نعرف أخباره إلا من عدة آثار صغيرة وهي: قاعدة تمثال، ولوحة، ثم محراب (Weil, Ibid. p. 85).
ولوحة محفوظة الآن بالمتحف البريطاني (A. Z, XIII. p. 124)، وتمثالان من «تل بسطة» (Naville, “Bubastis”, Pl. XXXV, 6. & Rec. Trav. XXVI. p. 83). ومنها نستخلص ألقابه التالية: «القاضي في بيت الفرعون، ورئيس الأرض قاطبة، والأمير الوراثي، والسمير الوحيد، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، وعينا الملك في الأرض كلها، والمقرب من «حور» في بيته، ومدير الأعمال … وحارس خطوات رب الأرضين، والعظيم في بيت الملك، والفم الوحيد الذي يُهدِّئ الشرَّ بكلامه (؟)، والمشرف على المدينة (عمدة) والوزير، وحاكم «نخن» ومُهدِّئ الخطوات في المكان المقدس (احترامًا له) والسمير الوحيد، محبوب سيده ومدير كل أعمال الفرعون في مقاطعات أرض المراعي في الشمال Weil. Ibid. PP. 85, 86; Naville, Ibid. p. 32

(١٤-١٠) رع موسى

يدل ما لدينا من النقوش على أن «رع موسى» قد خلف «أمنحتب» على كرسي الوزارة، ويحتمل أنه كان يشغل هذه الوظيفة في عهد اشتراك «إخناتون» في الحكم مع والده «أمنحتب الثالث»، وليس لدينا دليل مادي يؤكد هذا الزعم، وعلى أية حال فلم يكن «رع موسى» معارضًا لحركة الانقلاب الديني التي قام بها «إخناتون»؛ لأنه لو كان ضدها لمَحَا اسمَه من قبره كغيره من أعداء الانقلاب.

وقد كان والد «رع موسى» المسمى «نبي» يشغل بعض الوظائف العالية في الدلتا، وأمه «إبويا» كانت تُلقَّب «محبوبة حتحور» وكذلك كان قريب «أمنحتب» المدير العظيم لبيت الفرعون في «منف» ويحتمل أنه ابن عمه، ومن الجائز جدًّا أنه كان بينه وبين «أمنحتب» بن «حبو» صلة قرابة (راجع Davies “The Tomb of Ramose”, p. 2).
وألقاب «رع موسى» هي:
  • ألقاب الشرف: الأمير الوراثي، ووالد الإله، ومحبوب الإله، والسمير الوحيد، والسمير العظيم الحب، وحامل خاتم ملك الوجه البحري.
  • الألقاب الإدارية: حاكم المدينة (العمدة) والوزير، والمشرف على الوثائق، ومدير أعمال الآثار العظيمة، ومدير الوجه القبلي والوجه البحري، والفم الذي يُهدِّئ كل الأرض، ورئيس الأرض كلها (وكيل الملك).
  • الألقاب القضائية: رئيس القضاة، وفم «نخن»، وحارس «نخن»، وكاهن «ماعت»، والقاضي للفصل في المعاملات، وموزع العدالة، وموزع العدالة يوميًّا ومقدمها لقصر سيدها، ومَن يحكم بالعدل ويَمقُت الظلم.
  • ألقاب الكهانة: المشرف على كهنة الوجهين القبلي والبحري، والمشرف على كل معابد الوجه القبلي والوجه البحري، وأعظم الرائين، ورئيس أسرار الكلمات المقدسة (أو المشرف على الكتابة المقدسة)، ومدير القربان المقدسة، ورئيس أسرار الإلهتين، والعارف بأسرار العالم السفلي، ومَن يدخل في أسرار السماء والأرض، والكاهن سم، ومدير الموظفين كلهم.

علاقة «رع موسى» بالفرعون

الذي يقترب من سيده، وعينا حور في بيته، والذي ينفذ مبانيه بجدارة، ومن له ثقة رب الأرضين التامة، ورئيس أسرار بيت الملك، والمتمكن في حظوته مع سيد الأرضين، ومَن يحبه رب الأرضين لفضائله، والممدوح من الإله الطيب، ومَن يدخل القصر ويخرج منه وهو في حظوة.

علاقته بالموظفين

الذي يقدم القواعد المرشدة لرجال البلاط، وعظيم العظماء وقائد السُّمَّار.

علاقته بالشعب

ومَن يرتاح الناس بما يخرج من فمه، ومن يتكلم المواطنون عنه، ومَن يُرضي قلب رجال الدين (؟) (سكان عين شمس)، والشريف أو الموظف الذي على رأس المواطنين، ومَن يبحث عن أحوال البلاد.

وقد نُحت قبر «رع موسى» في صخور جبانة «شيخ عبد القرنة» ويحمل رقم ٥٥، ويُعدُّ من المقابر العظيمة المهيبة المنظر، وبخاصة من الوجهة الهندسية. وعلى أية حال فإن معظم مناظره ليس فيها ما يدعو للإعجاب أو الروعة؛ وذلك لأن المناظر القليلة التي نُقشت على جدرانه، على الرغم من قيمتها الفنية العظيمة، وبقائها محفوظة حتى الآن فإن جُلَّها خاص بمكانة «رع موسى» الاجتماعية ونفوذه، ولذلك جاءت خِلْوًا من كل ما كان يُنتَظَر من وزير أن يمثِّله لنا على جدران قبره، فقد كان يُعدُّ حاميًا للعدالة، وساهرًا على مصالح القوم، كما نشاهد ذلك في قبر الوزير «رخ مي رع» أو قبر الوزير «وسر».

على أن أهم ما يُلحَظ في قبر «رع موسى» هو التغير المفاجئ في أسلوب الفن. والظاهر أن بناء هذا القبر قد بدأ في أواخر عهد «أمنحتب الثالث»، وتدل معظم الزينة التي فيه على أنها كانت من أحسن ما أخرجه الطراز التقليدي، غير أنه قد لوحظ قبل الانتهاء منه أن «إخناتون» قد اعتلى عرش الملك؛ إذ نرى منظرًا يَظهَر فيه الملك الفتى «إخناتون» أو «أمنحتب الرابع» كما كان معروفًا في تلك الفترة جالسًا تحت مظلة ومعه إلهة العدل «ماعت»، ويُلحَظ أن طراز الرسم والنقش كان هو الطراز التقليدي، وليس فيه شيء من الشذوذ الذي نراه في طراز «تل العمارنة»، ولكن يَظهَر أن الأجزاء الداخلية جدًّا في المقبرة لم تكن قد تمت بعدُ عندما بدأ «أمنحتب الرابع» يفرض على المفتنِّين طرازه الجديد في الفن، والتخلي عن القواعد الفنية القديمة التقليدية، ولذلك نشاهد «رع موسى» يأمر برسم منظر كبير وفق طراز الفن الجديد، فيظهر فيه «إخناتون» وزوجه «نفرتيتي» يطلان من نافذة الظهور (الشُّرْفة) (Davies, Ibid. Pl. XXXIII)، وقد أحضرا أمامهما وفودًا من سفراء البلاد الأجنبية، وصُفَّ هؤلاء في صف واحد: وأربعة من العبيد، وثلاثة من الساميين، ولوبي. والمدهش أن هؤلاء الوفود قد أتَوْا فارغي الأيدي لا يحملون أية هدية خلافًا للمعتاد، أما المصريون فنشاهدهم منحنين بخشوع أمام الملك والملكة، في حين أن الأجانب كانوا معتدلين في وقفتهم، رافعين أيديهم فقط علامة على التعبد. وفي جزء آخر من هذا المنظر نشاهد «رع موسى» محملًا بالإنعامات من الذهب، ومستعرضًا ما ناله من حظ وفير لأصدقائه المعجبين (راجع Ibid. XXXIV, XXXV). على أن مثل هذا المنظر قد استُعمل مرارًا حتى أصبحتْ تسأمه العين، وتمله النفس في مقابر موظفي عهد «إخناتون» كما سنشاهد ذلك فيما بعد.

وعلى أية حال فإن معظم المناظر التي صورتْ على حسب الطراز الجديد كان قد وضع تصميمها بالمداد وحسب، وقبل أن يتم نحتُها كلها تُركت وهُجرت المقبرة كلية، وقد يُعزَى السبب في ذلك إلى أن «رع موسى» ترك «طيبة» وتبع سيده إلى «تل العمارنة»، وهذا على الرغم من أنه ليس لدينا أي أثر لأسرته أو له في العاصمة الجديدة.

وعلى الرغم من ذلك نجد أن قبر «رع موسى» قد اقتحمتْه شيعة «إخناتون» ومَحَوا اسم «آمون» غير أن صور «رع موسى» لم تُمسَّ بسوء. وعندما أُعيدتْ عبادة «آمون» ثانية نُشاهِد أن اسم هذا الإله قد أُعيد في كل مكان في القبر كما كان من قبلُ، كما أن اسم «إخناتون» وصُوَره، و«نفرتيتي» وأشكالها قد مُحيت؛ لأنهما قد فقدا مكانتهما وحقَّهما الشرعي في تولي عرش البلاد. وهنا نجد ثانية أن صور «رع موسى» لم يُصِبْها أيُّ أذًى، مما يدل على أنه قد أفلح في عدم إغضاب شيعة «إخناتون» وأتباع «آمون» على السواء، ولكن الأثري «ديفز» يظن أنه في الحالة الأخيرة ربما تُركت صُوَره بسبب علاقاته الأسرية، أو لأنه قد مات قبل أن يُطوِّح بنفسه بين أحضان الذين أساءوا إلى «طيبة» وإلهها. وقد جاء ذكر «رع موسى» على آثار أخرى غير قبره؛ ففي معبد «صولب» نراه مع وزير آخر (مُحِي اسمه) يتقدمان الفرعون «أمنحتب الثالث» إلى مدخل المعبد (L. D. III, Pl. 83). كما نشاهده في نقش على صخر في «سهل» يتعبد للإلهة «عنقت» وإلى طغراء «أمنحتب الثالث» (De Morgan, “Cat. Mon.” p. 90. No. 79). وله غير ألقابه العادية التي ذكرناها لقب «عينا الملك في الأرض كلها».

(١٤-١١) خع أم حات

كانت أهم الوظائف التي يقوم بأعبائها «خع أم حات» هي الإشراف على خزائن الأرض أو بعبارة أخرى كان في يده أقوات البلاد، ومن أجل هذا كان يشغل الوظائف التالية: المشرف على مخازن الحبوب لسيد الأرضين، والمشرف على مخازن الحبوب في الوجه القبلي والوجه البحري، والأمير الوراثي، وعينا ملك الوجه القبلي في مدن الجنوب، وأذناه في أقاليم الوجه البحري جميعها، والممدوح من الإله الطيب «أنوبيس»، ومدير أعياد «أوزير»، والقائم على بيت التحنيط، ورئيس صندوق «أنوبيس» (Loret, “La Tomb de Kha. m. ha” p. 115–124; Wresziniski, “Atlas” Pl. 203 & 190).

وقد نَحت «خع أم حات» مقبرته في جبانة «شيخ عبد القرنة» (رقم ٥٧)، وتُعَدُّ من أعظم المقابر التي أُقيمت في هذه الجبانة من حيث الفخامة في النقش، والإبداع في التصوير، والواقع أن النقوش التي على جدرانه قد تفوق نقوش مقبرة الوزير «رع موسى» في دقة خطوطها وحسن إبرازها، إذ نلاحظ في المناظر التي على جدران المقبرة أن المفتنَّ لم يستعمل في إبرازها ذلك الطراز المبالغ فيه الذي كان متبعًا في عهد العمارنة، ومع ذلك فإننا نشاهد فيها تلك الليونة والرشاقة في تخطيطها الأخَّاذ، وفي منظر تلك الظهور المحنية التي تمثِّل رجال البلاط يقدِّمون خشوعهم وإجلالهم للفرعون في وضع طبعي لا تمجُّه العين إذا ما قيس بتلك الصور المبالغ في إبراز أجزائها، وكان ذلك أهم ما يصبو إليه مفتنُّ عهد العمارنة.

ولا نعجب إذا رأينا قبر «خع أم حات» قد زُيِّن جزء من جدرانه ببعض المناظر التي تمثِّل لنا مهامَّ وظيفته الكبرى، وهي الإشراف على مخازن غلال الدولة، فقد صوَّر لنا المفتنُّ على الجدران مراحل محصول القمح من أول حرث الأرض حتى إقامة شعائر الاحتفال بخزن الحبوب وتقديم القربان للإلهة «رنوتت» إلهة الحصاد، وقد مُثِّلتْ هنا في صورة امرأة برأس ثعبان، وهي تُرضع ابنَها إله الحصاد «نبري» (Wreszinski, Ibid. Pl. 198).
وأهم ما يسترعي الأبصار هنا حادثة خاصة بمسح الأرض القائمة فيها سيقان القمح؛ إذ نشاهد أمام الموظفين الذين يحملون حبل القياس، ومَن في صحبتهم من الكَتَبَة رجلًا قد قوَّستْه السنون، وجعَّدتْ سحنتَه الشيخوخة ماشيًا وبيده عصًا (صولجان واس)، وكان يضرب بها ضربًا خفيفًا على لوحة صغيرة نُصبت في الأرض عند حدود حقل القمح (Wreszinski, ibid, Pls. 189, 191). على أن هذا المنظر ليس فريدًا في بابه؛ إذ نجده ممثلًا في منظر مسح الأرض، وأهمها على قطعة حجر من منظر ملون وُجد في مقبرة «بطيبة» وهي الآن بالمتحف البريطاني (Budge, “Wall Decorations of Egyptian Tombs Illustrated from Examples in the British Museum London”, Pl. 7)، إذ نجد على هذه القطعة متنًا يُخبرنا أن هذا الرجل المُسِنَّ الذي يحمل العصا (صولجان واس) يحلف بالإله الأعظم الذي في السماء أن لوحة الحدود (أو الشاهد) قائمة في مكانها، ويدل اليمين الذي حلفه، والصولجان الذي في يده على أنه موظف معين من قِبَل مصلحة المساحة ليُراجع أعمال المسَّاحين (وما أشبه البارحة باليوم! فلعَمْرُ الحق هذا هو نفس ما يحدث في أيامنا)، ومن المحتمل أنه يحمل هذا الصولجان في يده في هذه المناسبات بمثابة رمز لتأدية مأمورية، أما اللوحة فكانت لفصل حدود حقل عن حقل، أو بعبارة أخرى كانت توضع تأمينًا لفصل أملاك الأفراد بعضها عن بعض، ولعدم التعدِّي، وقد كانت أمثال هذه اللوحة تُختَم وتُسجَّل في مصلحة المساحة كما تحدثنا عن ذلك صراحة في نقوش الوزير «رخ مي رع»، وذلك عندما كان يُعدِّد لنا في قائمة واجباته اليومية: وعندما يأتي متظلم ويقول إن لوحة حدودنا قد زُحزِحت فلا بد أن يفحص ما قد دُوِّن بخاتم الموظف المسئول، وعلى ذلك يُعاد إليه ما اغتُصب منه بِيَدِ اللجنة التي زحزحت لوحته. على أن مثل هذا التسجيل كان ضروريًّا للفصل في المنازعات التي كانت تقوم بسبب زحزحة الحدود إما بسبب الفيضان أو بسبب استعمال السلطة أو بتعدي الجيران لزيادة أملاكهم. والواقع أن تعدي الجيران على الحدود كان بلا نزاع من الأمور الشائعة لأننا نقرأ في تحذيرات الحكيم «أمنحتب بن كانخت»: لا تزحزحن حجر حدود حقل القمح، ولا تغيرن موضع حبل القياس (راجع J. E. A. Vol. XII. p. 204)، ولا يمكن للباحث عندما يشاهد مناظر هذا القبر البديعة الصنع إلا أن يدهش منها لما تدل عليه من الثراء والنعيم الذي كانت ترتع في بحبوحته البلاد.
فنرى صاحب المقبرة مرتديًا أفخر الملابس عندما كان يقوم بتقديم القربان، فكان يرتدي ثوبًا منمَّقًا وحُلِيًّا ثمينة، وعلى رأسه شعر مستعار، صُفَّ ثلاثَ طبقات بعضها فوق بعض مجعَّدة تجعيدًا دقيقًا أنيقًا، غير أنه كان عاري القدمين، وقد يكون ذلك راجعًا إلى ما تحتمه الشعائر الدينية، وعندما كان يفحص مَسْح حقول القمح نراه مرتديًا حُلَّة بسيطة وقميصًا قصيرًا وشعرًا مستعارًا عاديًّا، ومنتعلًا حذاءً ضخمًا وحاميًا ساقه بدروع خاصة، وليس صاحب المقبرة وحدَه هو الذي تَظهَر عليه نضرة النعيم، بل تَظهَر كذلك على موظفيه؛ إذ نراهم يرتدون ملابس أنيقة وينتعلون أحذية جميلة، حتى أحقر العمال الذين يعملون في تعبئة سنابل القمح في سلات ضخمة كانوا ينتعلون أحذية. (انظر شكل رقم ٦) يُضاف إلى ذلك أنه في أوائل الأسرة الثامنة عشرة كان لكل من عظماء القوم عربة واحدة بجواديها تنتظر الركوب فيها للتنزُّه والعَوْدة من الحقول بعد فحصها. ولكنِ الآن نرى فضلًا عن عربة «خع أم حات» التي نشاهد سائقها وسائسها قد غَرِقا في النوم وهما في انتظار سيدهما، ما لا يقل عن أربع عربات أخرى تنتظر أصحابها، (راجع Wreszinski, Ibid. Pl, 192). بالقرب من شجرة، وهذه العربات كانت بطبيعة الحال لموظفين أقل رتبة من «خع أم حات» (Ibid. Pl. 191). ومن بين مناظر مقبرة هذا العظيم مشهد غير عادي يَظهَر فيه أسطول سفن نقل مصري قد رسا على الساحل في ميناء أجنبية. وهذه السفن كانت تحمل سلعًا من طراز ثقيل، والمقدمة مزينة برءوس ثيران، وكانت تسبح بالشرع والمجاديف معًا، وتُقاد بوساطة دفة واحدة، وتنتهي أطراف المجاديف كلها برءوس ملكية. ويُشاهَد الملَّاحون يذهبون إلى الشاطئ بعضهم يحمل حقائب تحوي سلعًا لا نعرف كنهها، غير أنه المقصود منها التجارة مع الأهالي في مقابل المحاصيل المحلية التي تنتجها هذه البلاد الأجنبية. وتدل شواهد الأحوال على أن أهالي هذه الجهة من الزنوج.
fig9
شكل ٦: خع أم حات يُشرِف على حقله.

محصول الحبوب السنوي

على أن أهم منظر صُوِّر في مقبرة «خع أم حات» هو حادث وقع في الاحتفال بالعيد الثلاثيني للفرعون «أمنحتب الثالث»، فقد مُثِّل هذا العاهل جالسًا على عرشه، ومثِّل أمامَه «خع أم حات» يقرأ وثيقة، وبجواره نقش يقص علينا أن الفرعون قد ظهر على عرشه لأجْل أن يتسلَّم تقريرًا عن الحصاد في الجنوب والشمال، وفوق «خع أم حات» النص التالي: «تقديم التقرير عن حصاد العام الثلاثين في حضرة الملك يشمل الحصاد الذي نَتَج عن الفيضان العظيم لأجْل العيد «سد» الذي احتفل به جلالته بوساطة المدير العظيم لأملاك الفرعون له الحياة والسعادة والصحة، ومعه رؤساء الجنوب والشمال من أرض «كوش» الخاسئة، حتى حدود نهرين.»

وتحت هذه الوثيقة الكلمات التالية: «المجموع ٣٣٣٣٣٣٠٠ بوشل من القمح.» وهذا في الواقع هو التقدير الوحيد لمحصول الحصاد على حسب التقارير الرسمية (أي ما كانت تنتجه مصر وما كان يَصِلها من البلاد الأجنبية التابعة لها). ولا شك في أن هذا يُعيد إلى ذاكرتنا في الحال قصة يوسف — عليه السلام — الذي كان قد جعله الفرعون على خزائن مصر لما تُنتِجه من غلال حتى يدخر منه في المخازن الفرعونية للسنين العِجَاف عندما تهدَّد البلاد بالقحط.

ولم يذهب نشاط «خع أم حات» سُدًى؛ إذ كافأه الفرعون على ما قام به من جليل الأعمال في تغذية البلاد؛ إذ نُشاهِده في منظر يرتدي أبهى حلل العيد، وفي ركابه جماعة موظفيه، والكل ماثلون أمام «أمنحتب الثالث» في حفل عيد «سد» وقد تسلَّم «خع أم حات» وموظفوه «ذهب الجدارة» من الفرعون؛ وذلك لما قاموا به من مجهود محمود، فقد زادوا محصول الحصاد في هذه السنة المباركة (Ibid, Pl. 203).
أما المناظر الجنازية في هذه المقبرة فتوجد بها بعض تفاصيل غريبة. ونخص بالذكر منها منظر الحج إلى «العرابة المدفونة»؛ إذ نشاهد في القارب الذي يجرُّ السفينة التي فيها المتوفَّى بعضَ متاع «خع أم حات» الخاص مثل عربته وجوادَيْها وسريره ووسادته (Ibid. Pl. 207). وفي منظر آخر نُشاهد الموكب الجنازي يسير في الماء إلى القبر الذي مُثِّل هنا في هيئة مبنًى منفرد وأمام بابه علم برأس صقر الغرب (Ibid. 209). وأغرب من ذلك منظر الحفل «بفتح الفم». وهذا الحفل كما سبقت الإشارة إليه كانت تُؤدَّى شعيرته في غالب الأحيان على مومية المتوفَّى أو على تمثاله، غير أن هذا الإجراء لم يُتَّبَع في مقبرة «خع أم حات»؛ إذ نشاهد بدلًا من المومية كرسيًّا خاليًا قد كُدِّست عليه الأزهار موضوعًا في محراب صغير يشبه الجوسق، وهذه الأزهار هي التي كانت تُمثِّل المتوفَّى، ولذلك كان يُقدَّم إليها القربان، وتؤدَّى إليها الشعائر التي كانت تؤدَّى للمومية من كل وجه، حتى النائحات والفتيات وصغار الأطفال الذين يقومون بدورهم في العويل والنحيب أمام هذه الأزهار كأنها مومية أو تمثال المتوفى الحقيقي.

(١٤-١٢) «أمنحتب» كاتب الفرعون

كان «أمنحتب» ضمن الموظفين الذين مُثِّلوا في مقبرة «خع أم حات» وألقابه هي: «كاتب الفرعون، ورئيس أسرار بيت التحنيط، والممدوح من الإله الطيب، والمقرب جدًّا من الفرعون في بيت التحنيط، والمشرف على بيتَيِ الذهب، والمشرف على بيتَيِ الفضة (أي رئيس الخزانة العام)، وكاتب الفرعون الحقيقي ومحبوبه (Loret, “La Tombe de Kha-m-ha p. 131-2)، وقبر هذا الموظف العظيم يقع كذلك في جبانة «شيخ عبد القرنة» (رقم ١٠٢)، وقد جاء فيه خلافًا لألقابه السالفة أنه كان يحمل لقب طفل الرضاعة (راجع Gardiner & Weigall “Catalogue”, No. 102)».

(١٤-١٣) با إري

كان أهم عمل يقوم به «با إري» هو وظيفة كاهن مطهر للإله «آمون»، وكذلك كان يحمل الألقاب التالية: «مطهِّر تاج آمون، ومطهِّر التاج، والمشرف على الأراضي الزراعية، والكاهن الأول للإله «بتاح» (في معبد طيبة)، وأول أولاد الملك أمام «آمون»، والمشرف على الأراضي الزراعية للإله «آمون» (راجع Scheil, “La Tombeau de Pari”, p. 584-5 & Hall, “Hieroglyphic Texts”, Vol. VII. Pl. VII). وبِكْر أولاد الملك أمام «آمون».»
ويقع قبر «با إري» هذا في جبانة «شيخ عبد القرنة»، ويحتوي على المناظر العادية التي نشاهدها في مقابر هذا العصر. ومدخل هذا القبر المصنوع من الحجر الرملي موجود الآن «بالمتحف البريطاني»، وقد رُسم على أحد جانبيه المتوفَّى وهو يتعبد إلى طغراء «أمنحتب الثالث»، وكذلك يظهر على الجانب الآخر وهو يرتدي جلد الفهد ليقوم بوظيفته الدينية (راجع Porter & Moss, “Bibliography” I, p. 144).

(١٤-١٤) «بانحسي» المشرف على الخزانة

ليس لدينا من آثار «بانحسي» هذا إلا قاعدة تمثال عُثر عليها في سرابة الخادم، ومنها نعرف أنه كان يحمل لقب المشرف على الخزانة، وكاتب الفرعون (Gardiner & Peet, “Sinai” Pl. LXV, No. 217).

(١٤-١٥) «منخبر رع» كاهن «آمون» الأول

كان «منخبر رع» يحمل لقب الكاهن الأول للإله «آمون»، ولقب ابن الملك رب الأرضين «أمنحتب»، وليس لدينا من آثاره إلا نقش على قطعة من عمود عُثر عليها في «بجة» Champollion “Notices” I, p. 161، وكان يجب أن نفهم اللقب الثاني على معناه الأصلي غير أن «جوتيه» لم يذكر «منخبر رع» هذا بين أولاد «أمنحتب الثالث» في كتابه عن ملوك مصر.

(١٤-١٦) «من» رئيس النحاتين

كان «من» يُلقَّب بالمشرف على الأعمال في الجبل الأحمر، ورئيس النحاتين للآثار الملكية العظيمة جدًّا، ولا بد من أنه يشير هنا إلى الجبل الأحمر القريب من القاهرة؛ لأنه كان مشهورًا بأحجاره العظيمة، وهي التي كان يفخر «أمنحتب الثالث» بأنه كان يقطع تماثيله منها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وقد عُثر له على نقش في صخور «أسوان» يُرى فيه وهو يتعبد إلى تمثال ضخم ﻟ «أمنحتب الثالث»، وكذلك نشاهد على هذه اللوحة ابنه «باق» يتعبد إلى صورة «إخناتون» الذي مُحي تمامًا، غير أن قرص الشمس الذي يمثِّل «آتون» لم يُمسَّ بسوء. ولما كان طراز الوجه كله يوحي بأنه من عهد الزيغ فإن من المحتمل أن تكون من عمل «باق» نفسه الذي عاش في عهد «إخناتون». (راجع De Morgan, “Cat. Mon.” p. 40. No. 174).

(١٤-١٧) «نب كابني» مرضعة بنت الملك «سات آمون»

كانت هذه السيدة تُلقَّب مرضعة الابنة الملكية «سات آمون» وكان ابنها «حقا نفر» كاتبًا في معبد «أوزير». وقد عُثر لهما على لوحة أَهدياها للإله «أوزير» في «العرابة المدفونة» (راجع Mariette, “Abydos”. p. 49; Rec. Trav. VII, p. 188).

(١٤-١٨) «نخت» الأمين على الأسلحة في السفينة الملكية «خع أم ماعت»

كان «نخت» هذا الأمين على الأسلحة في السفينة الملكية «خع أم ماعت»، وهي السفينة التي ذُكرَتْ على الجُعَل الذي سُجِّل عليه صيد الحيوانات التي طاردها «أمنحتب الثالث». وقد ورد اسم «نخت» ولقبه على مقبض سوط من الخشب موجود الآن في متحف «ليفربول» (راجع Newberry, “Historical Notes”, P. S. B. A. Vol. XXXV. p. 157)، ولدينا أسماء موظفين لهم علاقة بهذا القارب. منهم: «سا آست» الذي كان يُلقَّب حامل العلم على السفينة الملكية «خع أم ماعت» ثم «بتاح مس» وكان يحمل نفس اللقب. ولدينا كذلك لوحة في «المتحف البريطاني» نُقش عليها لقب ضابط لهذه السفينة (Ibid p. 158).

(١٤-١٩) «نفر سخرو» المشرف على خبز قاعة القربان

كان «نفر سخرو» من الأشراف المقرَّبين للفرعون كما تدل على ذلك ألقابه ووظائفه وهي: الأمير الوراثي، والمشرف على خبز قاعة القربان الواسعة، والأمير في البيت العظيم (المعبد الأهلي للوجْه القبلي)، وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير الأول الذي يقترب من «حور» (الملك) في قصره الخاص (أي الحريم)، وحارس خُطَا الفرعون، ومدير البيت، والكاتب الملكي، ومدير البيت لمعبد «أمنحتب الثالث» (الذي يُسمَّى «رع ساطع»).

وقبر هذا العظيم يقع في جبانة «شيخ عبد القرنة» (رقم ١٠٧) (راجع Porter & Moss, “Bibliography”, I, 136).

(١٤-٢٠) «حتب» حامل المروحة على يمين الفرعون

كان «حتب» يشغل وظيفة «حامل المروحة لابن الفرعون»، وقد وُجد له نقش بالقرب من «أسوان» مُثِّل عليه وهو يقوم بتأدية وظيفته وهي الترويح بالمروحة أمام «أمنحتب الثالث» والملكة «تي» (راجع De Morgan, “Cat. Mon.” p. 41, No. 181). ويُلاحَظ أن هذا اللقب كان في حالة «حتب» لقبًا فعليًّا، في حين أن لقب حامل المروحة على يمين الفرعون كان قد أصبح لقبًا فخريًّا وحسب.

(١٤-٢١) «حبي ختف» حاكم «منف»

لم نَجِد لهذا الموظف العظيم حتى الآن إلا نقشًا على الصخر الممتدِّ بين الفيلة وأسوان. ونُشاهِده مرسومًا عليه يتعبَّد إلى طغراء الفرعون «أمنحتب الثالث» الذي وُضع على مائدة صغيرة، وألقابه هي: الأمير الوراثي، وعينا الملك في الوجه القبلي والوجه البحري، وكاتب الملك الحقيقي ومحبوبه وحاكم «منف» (Ibid, I, p. 28. No. 8).

(١٤-٢٢) «سبك نخت» مدير بيت «آمون»

كان «سبك نخت» يحمل لقب مدير بيت «آمون»، وكان له ثلاثة أولاد كلهم كَتَبة في الخزانة. وقد ترك لنا واحد منهم وهو «سبك من» لوحة له بمفرده على الصخور الواقعة قِبَلَ «أسوان» على حافة النهر، وقد ظهر فيها وهو يتعبد لطغراء «أمنحتب الثالث»، ويلقب كذلك المشرف على بيت الذهب والفضة (راجع Ibid. I, p. 44, No. 2)، ويحتمل أن له نقشًا آخَرَ في شبه جزيرة «سيناء» يُلقَّب فيه فضلًا عن لقبه هذا بالقاضي (Gardiner & Peet “Sinai” Pl. LXV, No. 220).

(١٤-٢٣) «سبك حتب» كاتب الملك

كان يلقب بلقب كاتب الملك والمشرف على الخزانة (Ibid. Pl. LXV, No. 220).

وقد ذُكر اسمه ولقبه على قاعدة تمثال من المرمر.

(١٤-٢٤) «يويا» والد الملكة «تي»

كان يويا والد الملكة «تي» زوج «أمنحتب الثالث» الشرعية، وقد تكلمنا عنه بعض الشيء فيما سبق، وسنذكر هنا ألقابه كما وُجدت على بعض آثاره التي عُثر عليها في قبره الذي أُقيم في وادي الملوك (رقم ٤٦)، وهاك ألقابه: الأمير الوراثي، والسمير الوحيد الحب، وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير الأول بين السُّمَّار، وفم ملك الوجه القبلي، وأذنا ملك الوجه البحري، ووالد الإله، والمشرف على ثيران «آمون»، والممدوح من الإله الطيب، والممدوح كثيرًا في بيت الفرعون، وعين رب الأرضين، والمشرف على ثيران الإله «آمون» رب «أبو» (كفر أبو الحالي).

وكانت زوج «يويا» تُدعَى «تويا» وألقابها: ربة البيت (وهو اللقب العادي لأي امرأة متزوجة)، والوصيفة الملكية، ومغنية «آمون»، والأم الملكية لزوج الملك العظيمة، والكاهنة المغنِّية للإله «آمون»، والكاهنة العظيمة المغنية للإله «آمون» (Quibell, “The Tomb of Yuaa and Thuiu”, p. 18).
وقد كان «ليويا» و«تويا» غير الملكة «تي» ابنٌ يُدعَى «عانن» ذُكر على عدَّة آثار، فقد جاء اسمه على تابوت والدته «تويا» ولقب عليه الكاهن الثاني للإله «آمون» (Ibid. p. 19)، وكذلك ذُكر بهذا اللقب على تمثال موجود الآن «بمتحف تورين»، هذا فضلًا عن الألقاب الفخرية: حامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد، أعظم الرائين في بيت الأمير (أي هليوبوليس)، والكاهن «سم» في «إيون» الجنوبية (طيبة) (راجع Borchardt, A. Z. Vol. XLIV, p. 98).

(١٤-٢٥) «أمنحتب» التشريفاتي

كانت أعظم وظيفة يشغلها «أمنحتب» هي الكاهن «أمي خنت» أي التشريفاتي، وكذلك كان يحمل الألقاب التالية: التشريفاتي الأكبر (ومعناه الحرفي: الذي في الأمام) وكان نشاطه يمتد إلى المعبد والمقبرة والبلاط،١٩ والممدوح من رب الأرضين. ومزيِّن الفرعون في «البيت العظيم» (حيث تُعبَد الإلهة «نخبت» وهو معبد «قوص») (راجع J. E. A. Vol. XXX, p. 27. Note. 3). والذي يحرق القربان لرب الأرضين في بيت اللهيب (برنسر) للإله «آمون» (راجع Loret, “La Tombeau de l’am Xent Amenhotep”, p. 25. Mission. Arch Franç (1881–1884))، والممدوح من رب الأرضين، والطاهر اليدين الذي يجعل مديحه في بيت الإلهة «ورت حقا»، والمشرف على صناع «آمون»، والمشرف على صناع رب الأرضين. (Ibid. p. 30). وقبر هذا الموظف العظيم يقع في جبانة «شيخ عبد القرنة» غير أنه لم يُرقَّم بعدُ (راجع Porter and Moss, Ibid p. 193).

(١٤-٢٦) وسرحات المشرف على حريم الفرعون

كان «وسرحات» المشرف على حريم الفرعون، وقبره في الخوخة (رقم ٤٧) (راجع Porter & Moss, “Bibliography”, I. p. 78). وعلى الرغم من صِغَر حجم هذا القبر فإن نقوشه جميلة الصنع، غير أنها لم تتمَّ وخُرِّب بعضُها. ونشاهد في أحد مناظره «وسرحات» وخادمه، واقفين أمام «أمنحتب الثالث» والملكة «تي» (A. S. IV. p. 177. p. II). وصورة الملكة «تي» في هذا المنظر تُعَدُّ من أحسن صورة عرفت في كل الآثار المصرية حتى الآن، وقد صُوِّرت هذه الصورة عند الكشف عن المقبرة، ثم رُدم القبر ثانية لعدم أهميته، غير أنه حُفر من جديد بعدَ عدَّة سنين، ولكن بكل أسف كان اللصوص المحترفون قد سبقوا إلى حَفْر المقبرة وقطعوا صورة الملكة من على الجدار التي كانت عليه، وكان من جرَّاء هذا العمل الشائن أنْ مُحِيت بعض النقوش الخاصة بها حتى لا يُعلم من أين أتتْ هذه الصورة، وعلى أية حال فقد تسرَّبتْ هذه الصورة المنقطعة القرين إلى «متحف بروكسل» مجرَّدة من كل نقش يدل على شخصيتها، ولكن بالبحث وُجد أنها هي الصورة الأصلية، وهكذا أباح بعض علماء الآثار لأنفسهم أن يشتروا مثل هذه القطع المسروقة من المقابر دون أن يَسعَوْا حتى في ردِّها بعد تأكُّدهم من سرقتها إلى مكانها الأصلي حتى تكون تحفة لكل المتفرجين ودرسًا لأولئك الذين يعبثون بالآثار وتشويهها من أجْل بضعة دريهمات لا تسد حاجة ولا تشفي غليلًا.

(١٤-٢٧) قن آمون

«قن آمون»: تحتوي المقبرة رقم ١٦٢ الواقعة في طيبة الغربية على منظر فذٍّ من المناظر المنقوشة على جدران عظماء القوم في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وقد ظل اسم صاحبها مجهولًا لما أصاب نقوش المقبرة من محو إلى أن عُثر على بعض مخاريط أمام المقبرة عرفنا منها اسمه وألقابه. فقد كان «قن آمون» هذا يُلقَّب عمدة طيبة، والمشرف على مخازن غلال الإله آمون. وتدل الأحوال على أنه من المرجح جدًّا قد عاصر الفرعون «أمنحتب الثالث». أما المنظر الهام الذي وُجد على جدران هذا القبر فيمثل رحلة تجارية قام بها تُجَّار من سوريا إلى مصر بحرًا ووصلت سالمة، فنشاهد في الجزء الذي على اليسار في هذا المنظر صورة سفينتين شرعهما منتشرة وعلى اليمين من هاتين السفينتين تشاهد مجموعتين من السفن وقد مُثِّلتا في صفين الواحد منهما فوق الآخر. وعلى يمين هاتين المجموعتين من السفن نرى ثلاثة صفوف وُضعتْ بعضُها فوق بعض، توضِّح لنا كيفية إنزال السِّلَع وتفريغها وعرضها، والحادثة المسجَّلة هنا كانت بطبيعة الحال من الحوادث الكثيرة الوقوع في عهد مجْد الإمبراطورية ونموِّ ثروتها؛ أي عندما كانت آسيا لا تزال تَدِين لمصر بالسلطان، وكانتِ الأحوال مهيَّأة للتجارة الدولية (انظر شكل رقم ٧).
fig10
شكل ٧: لوحة قن آمون — السفن السورية في ميناء مصري.
والواقع أننا لن نَحِيد عن جادة الصواب كثيرًا إذا رأينا أن هذا المنظر يُمثِّل بداية سكك التجارة التي كانت تخرج من الثغور السورية، ويحتمل أنها هي التي قد أصبحت واسعة النطاق نامية عندما قام «ون آمون» التعس الحظ برحلته المشهورة (راجع كتاب الأدب المصري القديم جزء ١، ص١٦١ … إلخ) ثم وصلت قمتَها في تلك الرحلات التجارية التي كان يقوم بها الفينيقيون في أنحاء العالم، أما السفن التي حملت هذه التجارة البحرية المبكِّرة فليس هناك أي شك في أنها من طراز مصري من حيث الشكل والصنع (راجع Sàve-Soderbergh Navy p. 56). ومما يُلاحظ في هذا المنظر ما نُشاهده جاريًا على سطح السفينة الكبرى التي على اليسار؛ إذ نرى بحَّارَيْن يصعدان لطَيِّ الشراع، أحدهما يتسلَّق السارية والآخر يتسلَّق على الأمراس، في حين نرى اثنين آخَرَيْن يظهر أنهما ضابطان صغيران يعملان على إنزال عمود الشراع.

ويلاحظ كذلك في هذا المنظر أن مكانة الأشخاص الذين مُثِّلوا فيه على سطح السفن قد عُبِّر عنها بالطريقة المصرية المعتادة أي على حسب حجم صورة كل واحد، ويمكن رؤية ذلك بوضوح في السفينة الكبيرة التي على اليسار، فأهم شخصيتين بارزتين فيها هما بلا شك صاحبا السفينة والسلع التي تحملها، فنشاهد أحدهما يتَّجِه نحو الشاطئ مقدِّمًا قربانًا استعطافًا لإلهة الميناء في حين أن الآخر كان ينظر خلفه، والظاهر أنه كان يستدعي إليه شخصًا آخر. ويلي هذين في الحجم ضابط السفينة الذي يُشاهَد واقفًا وقفة شاذَّة على عمود مقدمة السفينة وبيده قضيبٌ لجَسِّ الماء بُولِغ في طُوله إلى حدِّ المستحيل، وكان ينظر خلفَه معطيًا الملَّاحين الذين كانوا يُطوُون الشراع الأوامر اللازمة.

وكذلك يُشاهَد على سطح السفينة بحَّار مُنحنٍ ليرفع إناءً ضخمًا مما تحمله السفينة، كما يُرى ضابطان صغيران لابسَيْن ملابس مزركشة كالتي يرتديها رؤساؤهم، يشدان الأمراس، وكان أحدهما يستند على صبيٍّ من صِبْيَة السفينة. أما الملاحون العاديون فكانوا يرتدون القميص القصير العادي ذا اللون الفاقع، وكذلك كان يلبس كل واحد منهم حول عنقه خيطًا يتدلَّى منه قرص مستدير مما يُذكِّرنا بنَوْط تحقيق الشخصية الذي كان يلبسه الجندي في أثناء الحرب. وهؤلاء البحارة كانوا حليقي الرءوس والأذقان معًا، ولم يُستَثْنَ منهم إلا ثلاثة في المجموعة السفلية التي على اليمين وهم الذين كانوا يحملون السلع إلى الساحل، وهؤلاء قد مُيِّزوا عن رفاقهم بلِحَاهم والهدابات المدلَّاة من وسطهم ومن أطراف قمصانهم، ولا نَعلَم إذا كانت هذه القمصان مصنوعة من النسيج أو من جلود الحيوان.

أما الأفراد الذين صُوِّروا خارج السفن فملابسهم بوجهٍ عامٍّ واحدة، فكلٌّ منهم يرتدي قطعة واحدة من نسيج الصوف ملفوفة على جسمه من أول الكعب، وقد لُفَّتْ حول الجسم بطريقة عجيبة، وتحت هذا اللباس يُشاهَد قميصٌ أبيض ذو كمين يستران الذراعين حتى الرسغين، ويتمنطق بحزام عُقد من الأمام عقدة متقنة مزركشة. وهذا الرداء الخارجي السالف الذكر يَظهَر عليه أنه زيٌّ جديد لم يَشِعِ استعماله إلا بعد عهد تحتمس الثالث. ويحتمل أنه مستعار من زي أهالي «خيتا». أما لبس النساء اللائي مثلن في الصف الأعلى من اليمين في المنظر فيُلاحَظ فيه (كشكشة) أفقية مؤلَّفة من ثلاث طبقات بعضها فوق بعض، وتُشبه بعض الشيء ملابس أهل «كريت» المتقنة الصنع، وقد أظهر المثال هذا الرداء شفيفًا إلى درجة ما مما يدل على أنه كان مصنوعًا من مادة خفيفة على عكس ملابس الرجال الثقيلة التي كانت أكثر صلاحية لجو شمالي بارِد. أما الجزء الثالث من هذا الرسم الواقع على اليمين فيمثل سوقًا للتجارة على الشاطئ نظمت في ثلاثة صفوف. وهنا يلاحَظ أن معظم السلع قد نُقلت من السفن إلى الشاطئ أمام «قن آمون»: (لم يظهر صورته في الرسم الذي نقله «ديفز») إذ يظهر أنه قد وجدها كانت قد هُشِّمت، فكان يمثل هنا بوصفه وكيل مشتريات مخازن آمون التي تحت إشرافه، ومن المحتمل كذلك أنه كان يقوم بهذه الوظيفة لحساب سلطة عُلْيَا أخرى. والسلع المعروضة للبيع تحتوي أوانيَ ضخمة من النبيذ والزيت، ومما يسترعي النظر من بينها ثوران لهما سنامان وهما من فصيلة أجنبية (اقرن هذين الثورين بما جاء في مقبرة «نب آمون» رقم ١٧، وكذلك ما جاء في مقبرة «باحق من» رقم ٣٤٣).

أما السلع الأخرى المعروضة للبيع فتشمل أوعية تحتوي على طرائف من أنواع مختلفة ونماذج مما أخرجتْه يَدُ الصياغ في صور أوانٍ من المعدن الثمين. ففي الصف الأسفل من اليمين تُشاهِد إناء ذا فوهة واسعة من طراز سوري معروف يحتمل أنه صنع من الذهب، وقد زُيِّن بصورة ثور واقف في داخله، في حين نُشاهِد في الصف الأوسط تاجرًا يحمل إناء طويلًا ضيق الرقبة صِيغ من الفضة (؟) وغطاؤه على هيئة رأس ثور. ويحتمل أن بعض السلع التي خفَّ حملُها وغَلَا ثمنُها — ولا عجب أن تكون من بينها المرأتان والصبي المصورة في الصف الأعلى — كان مآلها أن تُضمَّ إلى متاع «قن آمون» نفسه في مقابل السماح لأصحابها بالاتِّجار في الميناء المصرية بوصفه عمدة «طيبة» التي رَسَتْ عندها السفن، وكذلك بمثابة (عمولة) على المتاجر بوصفه (العميل) الذي يشتري لحساب الإله «آمون رع»، وعلى الرغم من أن البضائع التي كانت تحملها هذه السفن التجارية كانت تُباع بوساطة وكلاء لهم مكانتهم العالية مثل «قن آمون»؛ فإنه كان — على ما يظهر — يوجد بجانب ذلك تجارة صغيرة حرة تُباع بالتجزئة، ولذلك نرى في الصورة الممثلة على الشاطئ بجوار الماء حيث كانت ترسو السفن الأجنبية حوانيت صغيرة يقوم بالبيع فيها صغار التجار نساء ورجالًا وأمامهم السلع مكدسة وحركة التجارة فيها رائجة. فنشاهد في الصورة التي أمامنا ثلاثة حوانيت، والبضاعة المعروضة للبيع تحتوي قطع نسيج وأحذية، ومواد غذائية وأشياء أخرى لا يمكن معرفة نوعها على وجه التأكيد. ويُشاهَد في الحانوت الذي في الصف الأسفل تاجر سوري يحاول بيع إناء ضخم من النبيذ أو الزيت، في حين نلمح في الصف الذي فوقَه بحارًا عاديًّا حَجَبتْ رأسُه مقدمة السفينة عن الناظرين يَعرِض للبيع قضيبًا من الخشب الثمين، ويدل وجود الموازين الصغيرة الحجم وهي التي كان يستعملها رجلان من أصحاب الحوانيت على أنها كانت تُستخْدَم لوزن التِّبْر الذي كان يُتخذ مادة للمبادلة، ويجوز أنها كانت مستعملة لوزن كميات صغيرة من العقاقير الثمينة وما يشبهها.

وتشاهد كذلك في هذا المنظر امرأة أمام حانوت، وقد حدث بجوارها حادث له علاقة بإدارة الميناء؛ إذ نرى بعض البحَّارة قد ساقهم رئيسهم أمام ضابط من ضباط الميناء كان يُدوِّن أسماءهم أو عددهم. والواقع أن المنظر في مجموعِه يعرض أمامنا لمحة حية عن نواحي الحياة المصرية القديمة التي لا نحظى بمثلها إلا نادرًا؛ لذلك فإنا نقدِّم عظيم شكرنا الجزيل لعمدة «طيبة» «قن آمون» الذي أمر برسم هذه التحفة على جدران قبره، وكذلك نُبدِي عظيم إعجابنا بالمفتنِّ الذي وضع تصميمها، وأخيرًا نفخر بالمَثَّالين الأحداث الذين حفظوا لنا بمجهوداتهم صورة هذا المنظر الذي كان قد ضاع كل أمل في العثور على نسخة منه بعد تهشيم الأصل تهشيمًا لا يُرجَى الاستفادة منه.

(١٤-٢٨) سبكموسي

وكان يحمل لقب مدير الخزانة في عهد أمنحتب الثالث، وقد عُثر على قبره في بلدة «الرزيقات» الواقعة على الضفة الغربية من النيل على بعد ٢٠ كيلومترًا جنوبي الأقصر. وعلى الرغم من صغر حجم قبره فإنه يحتوي نخبة المناظر التي تصور لنا حياة هذا الموظف الدنيوية. وحجرة دفنه قد مُثِّلت على هيئة تابوت وقد نقش على جدرانها جنازة المتوفى، وحياته في عالم الآخرة، ويرى فيها القارئ أنها تصور لنا مضمون «كتاب الموتى» (The Burial Chamber of the Treasurer Hayes, “Sobkmose from Er Rizeihat”, New-York 1939).
١  راجع: Mercer, “The Tell El Amarna Tablets”, No. 26.
٢  راجع: “Cambridge Ancient History”, Vol. II. p. 250; Maspero “The Struggle of the Nations”, p. 625.
٣  راجع: Bouriant “Rec. Trav.” XIII, p. 172; Brugsch, Rec. LXII. (3); Porter and Moss, “Bibliography”, II, p. 3–5.
٤  راجع: Benson and Gourlay, “Temple of Mut”.
٥  المكان الذي يقف فيه الملك ليُتوَّج في قدس الأقداس.
٦  اسم هذا المعبد هو بيت آمون في غربي طيبة (راجع Spiegelberg, “Die Bauinschrift Amenophis III auf der Flinders Petrie-Stele”, Rec. Trav. XX, p. 49).
٧  وقد رُسم على كلٍّ من جانبَيِ التمثال الثاني العظيم (الجنوبي الغربي) صورة كلٍّ من الملكة «تي» والملكة «موت مويا» Porter and Moss. “Bibliography”, II, p. 160.
٨  راجع: Porter and Moss, “Bibliography”, I. p. 200.
٩  راجع: Bulletin de l’Institut de l’Egypte XX (1938) p. 51ff، حيث تجد رأيًا آخر عن سبب بناء هذه البحيرة.
١٠  راجع: Lefebure, “Les Hypogés Royaux de Thebes” in Mission Arch. Franç. III, p. 172-3; (Plan) “Description de l’Egypte Ancienne”, II, Pl. 79. (5); Porter and Moss, “Bibliography”, I, p. 28. And Plan, p. 22.
١١  (راجع ما كتب عن هذا المعبد ibid, p. 102ff).
١٢  واحد منها الآن بمتحف برلين Ausfuhrliches Verzeichniss des Berliner (“Museum”, p. 23, 24)، وقد وَجَد «لبسيوس» هذه التماثيل في جبل «بركل»؛ حيث نقلها «الأثيوبيون» من صولب (راجع L. D. III, Pls. 80, 90).
١٣  راجع: L. D. III, Pl. 80, 90.
١٤  راجع: J. E. A. Vol. V. p. 61ff. حيث نجد الآراء المختلفة عن أصل هذا العيد.
١٥  راجع: Rec. Trav. III. 127.
١٦  راجع: Petrie, “Tell El Amarna”, p. 4. Pl. XLII.
١٧  راجع: وقد تضاربتِ الآراء في زواجه من ابنته «سات آمون» وأن «توت عنخ آمون» هو ابن «أمنحتب الثالث» منها. وسنتناول هذا الموضوع ثانية (راجع Varille, A. S. Vol. XL. p. 651–7; A. S. XLV, p. 121).
١٨  دلَّتِ الكشوف الحديثة على أن الخنزير كان يُقدَّم فعلًا قربانًا؛ إذ عُثر على عظام خنزير في حجرة دفن الملك زد كارع أحد ملوك الأسرة الخامسة (راجع Prof. A. Batrawi A. S. XLII. p. 104).
١٩  فبوصفه تشريفاتيًّا للمَلِك كان يضع التاج على رأسه ويُزيِّنه بالحُلِيِّ (راجع Gardiner “Onomastica”, I. p. 23).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤