الفصل الثالث

الكوكب الأرجواني: جولة قصيرة في عالم البورفيرينات والجزيئات الحلقية الكبيرة ذات الصلة

أبهيك جوش
جامعة ترومسو، النرويج

وُلد أبهيك جوش في كلكتا بالهند وحصل على الدكتوراه في عام ١٩٩٢ من جامعة مينيسوتا، وعمل مع الأستاذ المتميز بول جاسمان. وبعد إنجاز أبحاثِ ما بعد الدكتوراه مع البروفسيورَين لاري كيو ودافيد بوشان، عبَر المحيط الأطلنطي في ١٩٩٦ وشغل منصبًا جامعيًّا في جامعة ترومسو في النرويج؛ حيث يعمل الآن أستاذًا للكيمياء وعالمًا رئيسيًّا في مركز الكيمياء النظرية والحاسوبية. ومن ١٩٩٧ إلى ٢٠٠٤، شغل منصب زميل كبير في مركز الكمبيوتر الفائق بسان دييجو. وبعد ذلك، أصبح أستاذًا زائرًا في جامعة أوكلاند بنيوزلندا، وذلك لمرات عديدة. وتتضمن اهتماماتُه البحثية الكيمياءَ الحيوية غير العضوية، وكيمياء المواد، والكيمياء الحاسوبية، وقد نشر حوالي ١٢٥ ورقة بحثية وحرَّرَ كتاب «أصغر الجزيئات الحيوية»، الذي يُعَد من أكثر الكتب مبيعًا عن الجزيئات الثنائية الذرة وتفاعلاتها مع بروتينات الهيم. وخارج نطاق العمل، يستمتع جوش بالسفر والتنزه ومشاهدة الطيور، وكل ما يتعلق بالتاريخ الطبيعي، خاصةً بصحبة ابنه أفرونيل.

مرحبًا أنجيلا

من الجيد أن تصلني أخبار منك ثانية. عظيم أنكِ قد درستِ هنا لمدة فصل دراسي واحد. وإنه لأمر جريء منكِ جدًّا، إذا كنتِ لا تمانعين في أن أقول لكِ هذا، أن تتركي جنوب كاليفورنيا المشمس في يناير وتتجهي إلى جامعة في أقصى شمال العالم كطالبة أجنبية. حسنًا، يجب أن نشكر العم كارل (ملاحظة المحرر: هذا الشخص هو البروفيسور كارل وامسر الذي كتب الفصل السادس عشر) الذي ساعدكِ في اتخاذ هذا القرار. أنا مسرور أن كل شيء سار على ما يرام بالنسبة إليكِ، سواء على المستوى العلمي أو الشخصي. وأعضاء مجموعتي ما زالوا يتكلمون عن الأوقات العظيمة التي قضوها معكِ، وسمعت أنكِ على تواصل منتظم معهم من خلال الفيس بوك. إن جدول عملي المشغول والتزامات سَفَري لم تسمح لي حقيقةً أن أعرفكِ خارج وقت العمل، ولكني مسرور أننا رتبنا معًا عددًا من حفلات الشواء. لقد كانت تلك الأمسيات التي قضيناها على الممر البحري الضيق رائعة!

بدا أنكِ كنتِ تستمتعين بتحضير البورفيرينات والكورولات، ومتراكبتها الفلزية في معملنا في ترومسو، وأنا سعيد بأنكِ تفكرين في اتخاذ هذا المجال مجالًا مهنيًّا محتملًا لكِ. اسمحي لي بإعطائك مقدمة عن هذا المجال مركِّزًا على الأساسيات، ولكنْ مع الإشارة أيضًا إلى بعض التوجهات البحثية المثيرة. البورفيرينات رائعة حقًّا! ما زلتُ أتذكر تجربتي الأولى معها من حوالي ٢٠ عامًا؛ أتذكر كيف أن ترشيح قارورة من الرواسب السوداء المقززة قد خلَّفَ مجموعة من البلورات الأرجوانية اللامعة من رباعي فينيل البورفيرين! لقد كان الأمر أشبه بالسحر، وما زلت منذ ذلك الحين واقعًا تحت تأثيره. حسنًا، الجمال من الممكن أن يكون اعتبارًا مهمًّا على نحوٍ مدهش في العلم، ولكن بالطبع توجد أيضًا أسباب عديدة «عقلانية» للاهتمام بالبورفيرينات وتنوعها البنائي. في السطور التالية، سوف أعرض لكِ عينة صغيرة من عالم البورفيرينات والمركبات ذات الصلة؛ الكوكب الأرجواني، كما أسمِّيه أحيانًا.

(١) البورفيرينات موجودة في كل مكان

البورفيرينات موجودة في كل مكان في العالم، وأشهر أشكالها (شكل ٣-١) هي الهيم، تلك الصبغة الحمراء التي تعطي الهيموجلوبين لونه الأحمر؛ والكلوروفيل، وهو بورفيرين مختزل، وهو المسئول عن اللون الأخضر للنباتات. الهيكل الأساسي لهذه الجزيئات ربما نشأ من نوعٍ ما من عملية التجمع الذاتي من جزيئات أصغر، على نحوٍ مشابه لبعض عمليات تخليق البورفيرين والكورول المنفذة في وعاء واحد، التي قمتِ بها في ترومسو. ما يسحرني هو كيف أن الهيم والجزيئات ذات الصلة قد أصبحت أشبه بالتروس الأساسية والمهمة في آلة الحياة. إن حقيقة أنها موجودة في كل مناحي الحياة — مثل العتائق، والبكتيريا وحقيقيات النوى — تدل على أنها أصبحت جزءًا من علم الأحياء مبكرًا جدًّا أو قريبًا جدًّا من بداية الحياة. إن دورها قد زاد بشدة حيث أدى وجود الكلوروفيل إلى حدوث عملية التمثيل الضوئي، وبالتدريج إلى غلافٍ جوي غني بالأكسجين وحياة تقوم على الأكسجين. اليوم، من الثابت أن العوامل المرافقة — التي هي عبارة عن بورفيرينات — تلعب مجموعة من الأدوار الكيميائية الحيوية المتنوعة بنحو مدهش. بالتأكيد الهيموجلوبين والميوجلوبين معروفان لكِ بوصفهما حاملَين للأكسجين في كثير من أعضاء المملكة الحيوانية، أما الذي ربما لم تسمعي عنه فهو أن هذه البروتينات تتفاعل أيضًا مع أكسيد النيتريك، وهو جزيء ثنائي الذرة معروف على نحوٍ متزايد كإشارة بيولوجية واسعة الانتشار («الهرمون الأصغر»). ويوجد أمثلة أخرى عديدة؛ فالبروتين المحتوي على الهيم سيتوكروم P450 يستخدم الأكسجين لأكسدة روابط C–H إلى C–OH، وهي عملية صعبة جدًّا للكواشف العضوية أو الإنزيمات «العضوية الخالصة». ويعد بروتينا الهيم السيتوكرومان بي وسي حلقة وصل أساسية في سلسلة نقل الإلكترونات الخاصة بعملية التنفس. لاحظي من شكل ٣-١ تركيب العوامل المرافقة B12 التي بينما تشبه بوجهٍ عامٍّ الهيم (أيْ بروفيرين الحديد)، فهي أيضًا مختلفة بنحو واضح: B12 مشبع أكثر بكثير من البورفيرينات الأروماتية والمترافقة بالكامل، ويحتوي أيضًا على الكوبلت بدلًا من الحديد. أيضًا في شكل ٣-١، يظهر F430، وهو عامل مرافق مشبع بدرجة عالية وشبيه ببورفيرين النيكل، الذي يوجد كجزء من الإنزيم «مختزلة ميثيل كوانزيم إم». إنَّ هذا الإنزيم الموجود في العتائق الميثانية (التي تعيش في أوساط لاهوائية مثل الحقول المغمورة بالماء ومعدات البقر) يحفز الخطوة الأخيرة في الإنتاج البيولوجي للميثان. أستطيع إعطاء المزيد من الأمثلة، ولكن أعتقد أنكِ فهمتِ النقطة التي أصبو إليها، وهي أن البورفيرينات موجودة في كل مكان، والأمر الأهم هو أن هذه البروتينات الجديدة المحتوية على الهيم، التي لها وظائف مدهشة، ما زالت تُكتشَف وبخطوات منتظمة.
fig9
شكل ٣-١: «ألوان الحياة»: بعض الجزيئات المندرجة تحت البورفيرينات ذات الأهمية البيولوجية.
لا أريد هنا التركيز على التفاصيل البنائية لبروتينات الهيم؛ بدلًا من ذلك، سوف أركز على الهيم نفسه وأحاول إعطاءك فكرة عن وظائفه. إن السيتوكروم P450 هو مثال جيد في هذا الشأن؛ فبعد أن يرتبط مركزُ الحديد الثنائي في الهيم بالأكسجين الجزيئي، يدخل في عددٍ آخَر من التفاعلات (الموضحة في شكل ٣-٢، ولكني لن أشرحها هنا بأي قدر من التفصيل)؛ مما يؤدي إلى إنتاج مركب وسطي نشط جدًّا يُسمَّى «مركب آي». هذا نوعٌ لافت للنظر ذو مركز محدد، وإذا نظرتِ في الفصل الخاص بالحديد في كتاب الكيمياء غير العضوية الذي درستِه في السنة الثانية الجامعية، فربما تجدين شرحًا بسيطًا يقول إنه يوجد في حالتَي الأكسدة +٢ و+٣ في مركباته. هذا صحيح تمامًا، ولكنه يخبركِ أيضًا أن النوع مفهوم غريب جدًّا! حسنًا، دعيني أتوقف قليلًا هنا: إن كتابة ليست صحيحة تمامًا؛ فالمركب الأول ربما من الأفضل وصفه كمركز متحد مع شارد للجين. وأيًّا ما كان الوصف التفصيلي، فالنقطة الأساسية أن حالة الأكسدة الكلية للهيم رُفعت بمستويَين استثنائيًّا فوق ، مما أعطى المركب الأول القوة لنزع ذرة هيدروجين من واحدة من روابط C–H القوية المعروفة هذه.
fig10
شكل ٣-٢: الآلية العامة للسيتوكروم P450.
إن المركبات الوسطية للفلزات الانتقالية ذات التكافؤ العالي تمثِّل لي علاقة الأخذ والعطاء الرائعة بين الكيمياء والأحياء. بالطبع، الكيمياء هي أساس كل ما في علم الأحياء؛ فبنحو ما، علم الأحياء «هو» الكيمياء، أو كما يقول أحدهم بنحو أكثر حيوية، علم الأحياء هو الكيمياء التي «تعمل»! إن الأقل تقديرًا هو كم الأمور الكيميائية الجديدة بنحو جوهري التي نتعلمها من الأنظمة البيولوجية. على سبيل المثال، لولا اكتشافنا للسيتوكروم P450 وأنزيمات الحديد الأخرى، لكانت معرفتنا بكيمياء الحديد الأساسية ستصبح محدودة جدًّا عما هي عليه الآن. في نفس الإطار، يتطلب الإنتاج البيولوجي للميثان قدرًا كبيرًا من المعرفة الأساسية المتعلقة بكيمياء النيكل، القائمة على العامل المرافق F430 الذي ذكرته. هذه الكيمياء تشتمل على كلٍّ من الحالتين +١ و+٣ غير العاديتين للنيكل، الذي يوجد عادة في صورة أيونات +٢. بالمثل، تتضمن الكيمياء الحيوية للعامل المرافق B12 قدرًا كبيرًا من كيمياء الكوبلت؛ فبالنسبة إلى كل الجزيئات العجيبة التي حلمنا بها وخُلقت بواسطة علماء الكيمياء غير العضوية، فإنهم قد تعلَّموا شيئًا أو اثنين بشأنها من الطبيعة التي ظهرت قبلنا بمليارات قليلة من السنين.

(٢) من جنوب كاليفورنيا إلى شمال النرويج

دعيني أحكي لكِ قليلًا عن رحلتي بصفتي باحثًا كيميائيًّا أكاديميًّا. لقد كان التوظيف الجامعي في الولايات المتحدة صعبًا في السنتين التاليتين مباشَرةً لحصولي على الدكتوراه (١٩٩٣‏-١٩٩٤)؛ لذا، تركت اختياراتي مفتوحة، وكنتُ على استعداد للانتقال إلى أي مكان آخَر من العالم، إذا كان ضروريًّا. أضيفي إلى هذا السيناريو أن مشرفي في الدراسات العليا، بول جاسمان، وهو أستاذ كيمياء عضوية فيزيائية مميز جدًّا، قد تُوفي فجأة؛ وبذلك، أكون قد فقدت أبًا وداعمًا كبيرًا لي. لحسن الحظ، تعاونتُ بقوةٍ مع عالم كيمياء نظرية سويدي من جامعة مينيسوتا، هو البروفيسور جان ألملوف، أثناء سنوات الدراسات العليا، ويومًا ما سألني إنْ كنتُ فكَّرتُ من قبلُ في العمل في أوروبا. ذكر أن جامعة ترومسو بالنرويج بها مكان شاغر، وأنهم مهتمون بشخص مثلي؛ عالِمٍ تجريبي يميل إلى الجانب النظري. وبعد نظرة سريعة على الخريطة (ترومسو عند ٧٠ درجة شمالًا تقريبًا)، لا بد أنني قد أصابتني الحيرة، لكن جان أكَّدَ لي أن الموقع ينبغي ألَّا يقلقني، وأن فصول الشتاء هناك أكثر اعتدالًا بكثير منها في مينيابوليس. والمدهش أن جان عرف عن أمر هذه الوظيفة الشاغرة من صديقه البروفيسور أود جروبن، من جامعة ترومسو، الذي كان في هذا الوقت يقضي إجازته البحثية التي تستمر لمدة عام في مينيابوليس. وفي غضون أسبوعين، وفي حفلٍ ببيتِ أود، حاوَلَ جان وأود إقناعي بالذهاب إلى ترومسو، وقرَّرتْ زوجتي ذات الروح المغامرة تجربةَ الذهاب إليها، وذلك إذا جاءنا عرضٌ من هناك. تقدَّمتُ رسميًّا لجامعة ترومسو وانتظرت. إن عجلة التوظيف الأكاديمي تدور ببطء في النرويج؛ لذا لم أجد مشكلةً في أن أحصل على وظيفة بحثية مؤقتة في كاليفورنيا قبل إمكانية الانتقال إلى النرويج. بالإضافة إلى ذلك، كنتُ في يناير ١٩٩٤، في زيارتي الأولى لكاليفورنيا بسبب مؤتمر جوردون للفلزات في علم الأحياء، وإذ كنتُ آتيًا من مينيابوليس المتجمدة، فقد شعرت بتأثر شديد في اللحظة التي خرجت فيها من مطار لوس أنجلوس؛ إذ أُعجبت بالنسيم الخفيف، والخضرة، والأزهار، والبنات والأولاد الذين كانوا يرتدون السراويل القصيرة! حسنًا، رأيت أن «عليَّ» قبول الوظيفة المؤقتة في كاليفورنيا قبل أن أشغل أي وظيفة في النرويج!

في مايو ١٩٩٥، دُعِيت للنرويج لإجراء مقابلة، سار كل شيء فيها على ما يرام. أود وزوجته اللذان أصبحا فيما بعدُ صديقَين جيدَين لي، كانا مُضيفَين شديدَي الكرم؛ فقد قضينا ذات يوم وقتًا رائعًا ونحن نتناول تَرْمَجانًا محمَّرًا، بينما كانت القمم الثلجية في النافذة الثابتة تتحوَّل إلى اللون الوردي في شمس منتصف الليل. لم يكن صعبًا أن أقتنع بالعمل في ترومسو، وخصوصًا أن الجو كان رائعًا خلال تلك الزيارة التي استمرت أربعة أيام، وهو الأمر الذي لا يكون دائمًا مضمونًا كما تعرفين! انتهى الصيف وأصبحنا في الخريف، ويومًا ما، جاء عرض من ترومسو في صندوق بريدنا في كاليفورنيا. لم أقم في حقيقة الأمر ببحثٍ جيد عن عمل مناسب في الولايات المتحدة حتى ذلك الوقت، وتساءلت كثيرًا في نفسي إن كنت أتخذ الطريق السهل بقبول وظيفة في النرويج البعيدة. ناقشنا الأمر على العشاء في مطعمنا الصيني المفضل في مدينة ريفرسايد، وقررت قبول العرض؛ فقد كانت وظيفة دائمة، ورغم أن ترومسو لا تستطيع توفير كل الإمكانيات المتاحة في أي جامعة أمريكية كبيرة، فقد كانت مكانًا معقولًا تمامًا للعيش والدخول في السلك البحثي. بالإضافة إلى ذلك، كانت المناطق المفتوحة — التي كانت دائمًا اعتبارًا مهمًّا بالنسبة إليَّ — مذهلة؛ لذا، قبلت العرض ولكني طلبت تأجيلًا قصيرًا (ومُنِحت إياه) لأن ابننا، الذي وُلد في ذلك الخريف، لم يكن عمره ليسمح بالسفر وهو مولود منذ فترة قصيرة جدًّا.

آمل ألَّا أكون قد جعلتكِ تشعرين بالملل دون داعٍ بعرضِ جانبٍ من قصة حياتي، ولكني حقيقةً أريد أن أوضح نقطة محددة. بالنسبة إلى معظم العلماء، الحياة ليست طريقًا مستقيمًا يمكن توقُّعه: طالب متفوق جدًّا في المرحلة الثانوية دراسات عليا مع أستاذ معروف وظيفة بحثية فيما بعد الدكتوراه مع عالم حاصل على جائزة نوبل أو ما يناظره ٥–١٠ عروض عمل للاختيار منها. إن مسار حياتي كان أكثر تعقيدًا، وقد كانت له انتكاسته؛ فقد ذكرتُ من قبلُ وفاةَ مشرف رسالة الدكتوراه خاصتي، وقد مات جان أيضًا قبل أن أبدأ وظيفتي في ترومسو، أضِفْ إلى ذلك تحديات أخرى مثل فترات عدم العمل القصيرة والعلاقات المحطمة — تلك التجارب الشائعة جدًّا التي يمر بها الشباب — ويمكن أن يبدو معجزةً صغيرة أن كثيرًا جدًّا من الناس قد أصبح لهم مسارات مهنية أكاديمية ناجحة في العلم. إن وظائف البحث الأكاديمي في العلم قليلة نسبيًّا؛ لذا فمسألة أن تعمل بالوظيفة التي تحلم بها بالكاد تكون مضمونة، حتى بعد حصولك على الدكتوراه، أو عملك بوظيفة بحثية مؤقتة فيما بعدها. إن العلم بالتأكيد مسار مهني أصعب مُقارَنةً بالقانون والطب والمحاسبة وتكنولوجيا المعلومات وما شابهها؛ حيث سوق العمل أكبر وأكثر تعطشًا لخريجي الدراسات العليا الجدد. ومع ذلك، حتى في مجال الفنون فإن العمل قاسٍ أيضًا؛ فأنا لي عدد من الأصدقاء الفنانين، وعند نقطة معينة صادفوا جميعًا فتراتٍ كان المستقبل فيها غامضًا أمامهم أكثر مما صادفتُ بكثير. أنا مسرور أني استمررتُ في هذا المسار، وكنت على استعدادٍ لاقتناص أي فرصة تلوح لي، وأنا اليومَ لا يمكن أن أترك مجالي وأعمل في مجالٍ آخَر.

(٣) مشابهات البورفيرينات

أتيت إلى ترومسو في ربيع ١٩٩٦. أقول الربيع لأننا كنا في أبريل، لكن الجليد كان لا يزال سميكًا على الأرض. لحسن الحظ، الطقس كان رائعًا، كما هو في الربيع عادة هنا؛ لذا كنا في حالة معنوية عالية. وكان لديَّ بالفعل بعض المشاريع المستقلة في طور التنفيذ: لقد درست نظرية الكثافة الوظيفية، والتي هي بالأساس صيغة بديلة للكيمياء الكمية، وذلك إلى حد كبير كهواية خلال سنوات ما بعد الدكتوراه، واستخدمتها لاستكشاف التركيبات الإلكترونية للعديد من متراكبات الفلزات الانتقالية. وقد كانت تلك النظرية لا تزال جديدة جدًّا على علماء الكيمياء غير العضوية، والفلزات الانتقالية كانت مجالًا مفتوحًا على مصراعيه للاستكشاف. ولكني سوف آتي للكيمياء النظرية فيما بعد. اهتمامي الأول في ذلك العام هو أن أبدأ برنامجًا تجريبيًّا، وقد كان هذا أسهل في تصوره من تنفيذه؛ إذ أصبح لديَّ معمل فارغ بخزانات طرد غازات غير قياسية ولم يكن لديَّ طلاب؛ فمن منا سمع عن المنح البحثية في النرويج في تلك الأيام؟ أود جروبن أعطاني بعض النصائح الجيدة حول كتابة طلبات المنح في النرويج، وقبل نهاية عامي الأول، كان لديَّ عدد قليل من الطلاب، سواء على مستوى الماجستير أو الدكتوراه. المعامل كانت لا تزال تُمثِّل مشكلة كبيرة؛ فإذا كانت خطوط شلينك (هل تذكرين الأدوات الزجاجية الغريبة الشكل التي كنتِ تستخدمينها أحيانًا للتعامل مع المركبات الحساسة للهواء؟) من الصعب صنعها في معمل الأدوات الزجاجية البدائي الخاص بنا، فإن صناديق القفازات كانت حلمًا بعيدًا. لحسن الحظ، كان العمل يجري على قدمٍ وساقٍ في مجال البورفيرينات، والتي كنت متحمسًا لاستكشافها وكانت لا تتطلب الكثير فيما يتعلق بالأدوات المعملية.

fig11
شكل ٣-٣: تكاثف البيرول والألدهيد كمصدر للجينات حلقية كبيرة.
ما كان يحدث هو أن الكيميائيين المتخصصين في البورفيرينات كانوا يعزلون العديد من الجزيئات الحلقية الكبيرة من المادة اللزجة السوداء المتكونة في نهاية عمليات تخليق البورفيرينات المعتادة التي تتم بطريقة الوعاء الواحد. فأنتِ لا تحصلين فقط على البورفيرينات، ولكن أيضًا على البورفيرينات المعكوسة النيتروجين والكورولات والسابفيرينات، والعديد من البورفيرينات الممتدة؛ باختصار، غابة من الجزيئات (شكل ٣-٣). بعض هذه الأنظمة الحلقية مثل الكورولات والسابفيرينات (ولكن ليس البورفيرينات المعكوسة النيتروجين)، كانت معروفة سابقًا ولكن فقط كنواتج نهائية لعمليات تخليق مرهقة وذات خطوات عديدة. لكن كنا نستطيع حينها أن نصل إليها بسهولة شديدة. والأهم من ذلك، كان من الممكن التلاعب بالظروف حتى يمكن أن نحصل بنحو انتقائي على إحدى الجزيئات الحلقية الكبيرة بدلًا من المجموعة الكاملة للجزيئات. لم يكن لدينا فهم كبير للحركية والديناميكا الحرارية للمسارات التي بموجبها تتجمع ذاتيًّا مونمرات البيرولات والألدهيدات والأوليجومرات المتعددة الخاصة بها في هذه الحلقات المدهشة، ولكن هذا لم يزعجنا؛ فقد كنا في سعادة غامرة أن هذه اللجينات كونت نفسها، ولم نُرد شيئًا أكثر من أن نستكشف قدرتها على الارتباط بالفلزات وخواصها الأخرى.

صديقي الإسرائيلي الرائع زيف جروس قال لي منذ فترة قصيرة إن الكورول يمكن الحصول عليه من البيرول والبنزالدهيد خماسي الفلور تحت ظروف معينة بدون مذيب. وبالرغم من أنه أكد على أهمية الألدهيد الذي به نقص إلكتروني، فقد وجدنا أن هذا التفاعل أدى أيضًا إلى تخليق كورولات من ألدهيدات غنية بالإلكترونات. أحد طلابي في مرحلة الدكتوراه، يُدعى إيريك ستين، أثبت أن التفاعل عمل ليس فقط للبيرول، ولكن أيضًا ﻟ ٤،٣-ثنائي فلور البيرول (الذي يمثل تخليقه مشكلة كبيرة؛ لسوء الحظ)، مما يؤدي لتخليق كورولات مفلورة بالكامل عند المواقع بيتا للبيرولات. بدا لفترة، كما لو أن الكورولات المستبدلة يمكن الحصول عليها بسهولة وثقة كما هي الحال بالنسبة إلى لبورفيرينات. لقد كنا مندهشين ومحبطين عندما وجدنا أن عملية تخليق الكورول الموثوق فيها لم تعمل على نحوٍ جيد مع بيرولات أخرى مستبدلة مثل ٤،٣-ثنائي كلور البيرول و٤،٣-ثنائي إيثيل البيرول. لم ندرس التفاصيل بعد، ولكن يبدو أن تخليق الكورول في وعاء واحد حساس تمامًا للتأثيرات الفراغية، خصوصًا للمجموعات عند المواقع بيتا للبيرولات. أتطلَّع لتأكيد هذه الفرضية، وهي محاولة جديرة بالاهتمام في رأيي، باعتبار أن عمليات التخليق البسيطة هذه في خطوة واحدة تعطي لجينات معقدة ومفيدة.

(٤) منجم ذهب لاختصاصيِّي التحليل الطيفي

كنتيجة لهذه الدراسات، جمعنا بسرعة كمًّا كبيرًا من لجينات الكورول ذات بدائل فرعية متنوعة على نحوٍ نظامي. وقد حولناها مباشرة إلى متراكبات فلزية متنوعة: المنجنيز، والحديد، والكوبلت، والنحاس، والفضة، والموليبدنوم، والعديد غيرها. هذه المتراكبات ثبت أنها بمنزلة منجم ذهب حقيقي فيما يتعلق بمجال التحليل الطيفي، وأنا مسرور بشدة لأن نتائج هذه الدراسات تُعتبر مساهمة مدهشة حقيقةً للتركيب الإلكتروني غير العضوي. أنجيلا، قيمة هذه المعارف المهمة ربما يكون من الصعب عليكِ قليلًا تقديرها مقارنة، مثلًا، بمجهودنا لتطوير خلايا شمسية اعتمادًا على الكورولات والبلورات السائلة. ولكن يجب أن تدركي أن أساسيات الكيمياء (والعلم بصفة عامة) تكون دائمًا مهمة، وبدون معرفة جيدة للأساسيات، من الصعب أن نساهم بإبداع في المسائل العلمية الواقعية المعقدة (شكل ٣-٤).
عند الحديث حول التحليل الطيفي، دعينا نبدأ بتعريف طيف الامتصاص الإلكتروني (الذي غالبًا ما يُسمَّى بطيف الضوء المرئي وفوق البنفسجي، أو ببساطة الطيف). حسنًا، إنه منحنًى يُظهر امتصاص الضوء من جانب مادة معينة كدالة للطول الموجي (أعتقد أنكِ تعرفين ذلك؛ فقد درستِ على الأقل عشرة أطياف من هذا النوع في كل يوم عملتِ في معملي). إن امتصاص الضوء (أي، الفوتونات) يثير الإلكترونات من مدارتها («الأصلية») المستقرة إلى مدارات ذات طاقة أعلى (والتي غالبًا تكون غير مشغولة قبل ذلك). إن القمم في طيف الضوء المرئي وفوق البنفسجي ومن ثَمَّ تُناظر طاقات الحالات المثارة، وببعض الخبرة والتحليل، تخبرك بالكثير حول التركيب الإلكتروني للجزيء محل البحث. وبالنسبة إلى بورفيرين بدون فلز انتقالي عند المركز، تُناظر هذه الطاقات عادةً إثارات نظام باي الأروماتي؛ أي، الشبكة الدائرية الكبيرة للإلكترونات ذات الارتباط الضعيف نسبيًّا. وفي وجود أيون فلز انتقالي تناسقي، بكل إلكترونات d خاصته، يصبح الطيف أكثر تعقيدًا قليلًا ولكن في الوقت ذاته أكثر إثارة في تحليله.
fig12
شكل ٣-٤: كورولات فلزية مُخلقة في مختبرنا. إن العديد من التوليفات من M وX وY — وليس كلها — قد جرى تخليقها.
إن كورولات الفلزات الانتقالية أكثر خصوصية لأنها تكون عادةً ذات تكافؤ عالٍ. ربما تتذكرين العشرات والعشرات من القوارير في معملنا التي تحتوي على متراكبات الكروم الخماسي والحديد الرباعي والنحاس الثلاثي والفضة الثلاثية؛ إنها تُعَد مجموعة مدهشة جدًّا وذلك بالنظر إلى ندرة حالات الأكسدة هذه. نتذكر أن هذه الحالات من الأكسدة تحدث للبورفيرينات، إن حدثت على الإطلاق، فقط في شكل مركبات وسطية نشطة بدرجة عالية. والآن، لنلقِ نظرة على أطياف الضوء المرئي وفوق البنفسجي لعائلة من كورولات النحاس، ببدائل متعددة في الوضع بارا على مجموعات الفينيل للكورولات في الوضع ميزو (شكل ٣-٥). سوف ترين أن الأطياف، خصوصًا القمة الأكبر (المسماة نطاق سوريت)، تتحرك إلى أطوال موجية أكبر بنحو واضح عندما يصبح البديل في الوضع ميزو مانحًا للإلكترونات على نحوٍ متزايد. هذا السلوك يكون في تعارض واضح مع ذلك الملاحظ للمشتقات البورفيرينية المشابهة، التي تبقى أطيافها تقريبًا بعضها فوق بعض. إن أبسط تفسير لذلك هو أن نطاق سوريت للكورولات لا يتضمن نظامَ باي حلقيٍّ كبير (كما يفعل مع أي متراكب فلز-بورفيرين «بسيط»)؛ بدلًا من ذلك، يمتلك ما يُسمَّى بمكون انتقال الشحنة؛ وهو إثارة إلكترون من مجموعات الفينيل الطرفية إلى قلب التكافؤ العالي للجزيء. وتشير الدراسات النظرية إلى أن هذا التفسير البسيط في الحقيقة يكون صحيحًا مع كورولات النحاس. أجد بعض السعادة لكوني مشتركًا فيما قد يراه البعض وكأنه اكتشافٌ أكاديمي نوعًا ما والمتمثل في أن نطاقات سوريت المتنقلة لكورولات النحاس تُعَد من أفضل الأمثلة على انتقالات تحرُّك الشحنة، والتي لا يوجد مثلها أساسًا بالنسبة إلى البورفيرينات، وهذا شيء يستحق أن أفتخر به.
fig13
شكل ٣-٥: أطياف الامتصاص الإلكتروني لسلسلة من كورولات النحاس ذات بدائل متنوعة على نحوٍ نظامي.

(٥) نهاية الوضوح

ذكرت بالفعل أن العديد من الكورولات الفلزية ذات تكافؤ عالي، ولكن هذا ليس القصة كاملةً. إن لجين الكورول الثلاثي الأنيون تسهل أكسدته، ولجين الكورول في كثير من الكورولات الفلزية من الأفضل أن يوصف كشارد . ويصف علماء الكيمياء غير العضوية مثل هذه اللجينات بالمريبة، وهو وصف خيالي لكنه معبِّر يعني أن اللجين لا يمكن وصفه بدقة باستخدام تركيب لويس بسيط. وكانت البروفيسور إف آن ووكر من جامعة أريزونا، بتوسان أول من قدم دليلًا ملموسًا بالاعتماد على طيف الرنين المغناطيسي النووي على أن بعض كورولات الحديد، وخصوصًا متراكبات Fe(corrole)Cl، كانت مريبة؛ أي، لم تكن تمامًا، ولكن كان الأفضل أن توصف بأنها . كان هذا وصفًا مذهلًا وقد استطعت إثباته بسرعة من خلال الحسابات الخاصة بنظرية الكثافة الوظيفية، ولو بطريقةٍ كيفية بعض الشيء. ولسوء الحظ، لم يتقبل الجميع هذه الصورة للتركيب الإلكتروني للكورول الفلزي، وتبِع ذلك جدل كبير، كان مزعجًا وحتى مؤلمًا، ومع ذلك، وبالنظر إلى الأمر مرة أخرى، أجد أنه لم يكن على الإطلاق خطوة سلبية في رحلة بحثنا عن الكورولات.

ما زلت أتذكر مؤتمرًا في مدينة نيويورك للجمعية الكيميائية الأمريكية؛ حيث جلسنا أنا وآن في مقهًى في الدور السابع والأربعين نناقش أبحاث الكورولات. بدت آن متجاهلة تمامًا للإطلالة البانورامية حولنا وكان من الواضح أنها منزعجة بسبب ما كنا نرى أنه جدل لا حاجة له. وعندما رجعت إلى حجرتي بالفندق، لم أستطع منع نفسي من الشعور بالسعادة وقلت في نفسي: هذه مجموعة من أبرز علماء الكيمياء غير العضوية الذين أعرفهم، يتجادلون بشأن هل كان نصف إلكترون تابعًا للحديد أم للجين! من يهتم بشيء بسيط كهذا؟ تذكرت شيئًا كتبه بيتر ميدور وهو أن الخلافات العلمية تُثير كثيرًا من الشغف لأنها تدور حول أمور تافهة؛ فهي قد لا تتضمن مبالغ كبيرة من المال، ولكن تتضمن أفكارًا ومفاهيم يتمسك بها العلماء ويرفضون التخلي عنها.

ومع ذلك، دعيني أتوقف لحظة لأقول إن الكثير من الباحثين يهتمون بطبيعة الحديد ذي التكافؤ العالي. أخبرتكِ من قبل أن هذا النوع يوجد كمركبات وسطية في بعض الإنزيمات المهمة مثل السيتوكروم P450؛ لذا، لا يوجد بالتأكيد تقصير في الاهتمام بالمسألة التي ندرسها، رغم غرابتها. وحيث إنه لم تكن هناك توجهات تجريبية أكثر وضوحًا للتعامل مع المسألة، فقد تطلعت للوصول إلى توجُّهٍ نظري، يكون أكثر حسمًا من استخدام نظرية الكثافة الوظيفية، بحيث يُنهي الجدل تمامًا. وفي النهاية، استطعت فعل ذلك، ولكن الأمر أخذ سنوات من التفكير والتخطيط والعمل الجاد.
مؤخرًا جدًّا، أظهر لي خطٌّ دليليٌّ غير متوقع أهمية كون اللجينات مُريبة في كيمياء الكورولات الفلزية. أحد طلابي (ويدعى أبراهام أليميهو) استطاع الحصول بالأشعة السينية على التركيبات البلورية لاثنين مختلفين من كورولات النحاس، والاثنان امتلكا على نحوٍ غريب بنيةً غير مستوية تشبه السرج؛ تذكَّري أن النظام الحلقي للكورولات أروماتي (إنه على نحوٍ ما يُعَد نسخةً أكبر من البنزين)، وأن الكورولات الفلزية، بوجهٍ عام، من غير المتوقع أن تكون غير مستوية. علاوة على ذلك، وبما أن الكورولات ينقصها واحد من جسور الكربون التي في الوضع ميزو الموجودة في البورفيرينات، فإنها أكثر صلابة من البورفيرينات لتشوه عمودي على المستوى. لقد بدا من غير المحتمل أن التركيبات الغريبة ذات الشكل السرجي لكورولات النحاس يمكن أن تنشأ عن قوى الرص البلورية الضعيفة؛ بدلًا من ذلك، تُظهر التركيبات بوضوح وجود تأثير إلكتروني محدد قيد العمل. وباستخدام حسابات نظرية الكثافة الوظيفية، حددنا الطاقة اللازمة لتغيير شكل البنية المستوية للكورولات الفلزية المختلفة إلى البنية التي على شكل سرج. إن منحنيات الطاقة الناتجة تُظهر بوضوح أن كورولات النحاس لها الشكل السرجي أصلًا، بينما معظم الكورولات الفلزية الأخرى تكون مستوية. وكما هو الظن، ينشأ الشكل السرجي الأصيل لبنية كورولات النحاس من تفاعل مداري معين بين النحاس والكورول. لا أريد هنا مناقشة التفاصيل، ولكن ثمرة تحليلنا أن كورولات النحاس ليست متراكبات d8Cu(III) بسيطة، كما اعتقدنا؛ فهي حتى في حالاتها الأرضية المغناطيسية المعاكسة، تُعد كيانات مزدوجة. لقد ذكرت تلك النتائج باختصار لآن في آخر اجتماع للجمعية الكيميائية الأمريكية في مدينة سولت ليك، وقد بدت سعيدة أن رؤاها الأولية قد انعكس صداها في سياق آخر.

(٦) دور النظرية

أعرف أنكِ لم تحصلي على نحوٍ رسمي على مقدمة في الكيمياء الكمية، ولكنكِ ربما عرفتِ أشياءً قليلة عن المدارات الجزيئية. ربما تعرفين أيضًا أنه قد تكون الأداة الأكثر أهمية المتاحة لدينا اليوم للدراسات النظرية للتركيب والربط هي نظرية الكثافة الوظيفية؛ فهي تعتمد على نظرية أساسية في الميكانيكا الكمية، والتي تنص على أن الطاقة والخواص الأخرى لأي نظام إلكتروني في حالته الأرضية تُحدَّد بالكامل بالكثافة الإلكترونية. إنها تُعَد طريقةً لحل معادلة شرودنجر التي تركِّز على الكثافة الإلكترونية، وهي مختلفة في فلسفتها عن الطرق الكمية الأولية ab initio المعتمدة على الدالة الموجية. ومن أهم مزايا تلك النظرية هي سرعتها النسبية وأنها تعطي عامةً نتائج جيدة فيما يتعلق بالفلزات الانتقالية. واليوم، يرى معظم علماء الكيمياء غير العضوية والعضوية أن الكيمياء الكمية ونظرية الكثافة الوظيفية مترادفان في الغالب (مما قد يسبب صدمة لبعض العلماء التقليديين) وأن شعبية الطرق الكمية الأولية قد قلَّت كثيرًا عما كانت عليه الحال في السابق.
إن معاوني الأساسي أثناء سنوات الدكتوراه، جان ألملوف، عالم نظري رائع يعتمد على الطرق الكمية الأولية. وبالعمل معه في البداية، ثم بالعمل بنفسي، أدركت جيدًا متى يمكن أن نستخدم نظرية الكثافة الوظيفية، والأحيان النادرة نوعًا ما التي لا نستطيع فيها ذلك. لقد ذكرت من قبلُ أنني أُثمن بوجه خاص الأمور التي يبدو أنها تتحدى التطوير النظري (ارجع للقسم الذي يتحدث عن نظرية الكثافة الوظيفية). إن عددًا من هذه الأمور قد حُلت بطريقة مرضية بطرق كمية أولية عالية المستوى. وتُعد دراسة طاقة حالة اللف المغزلي لمتراكبات الفلزات الانتقالية مثال جيد في هذا الشأن. إن نظرية الكثافة الوظيفية غالبًا غير مضمونة لحساب الفرق في الطاقة بين الحالات المنخفضة والعالية المغزل الخاصة بمتراكب فلز انتقالي، والمميزة بالأعداد الممكنة القصوى والدُّنيا من الإلكترونات المفردة. لحسن الحظ، يمكن أن تعالج الطرق الكمية الأولية هذه المشكلة. لكن الكورولات الفلزية تمثِّل مشكلة أكثر تعقيدًا. فعندما نتعامل مع كورول كلوريد الحديد على سبيل المثال، فإن الطريقة المثلى لا يجب أن تزودنا بوصف جيد بحالات اللف المغزلي للحديد فقط ولكن أيضًا أن تصف حالات التأكسد على كلٍّ من الفلز واللجين على نحوٍ صحيح؛ أي، هل كان لجين الكورول 3− أم •2−. وهذه المتطلبات يُجرى الوفاء بها من خلال ما يُسمَّى بالطرق الكمية الأولية المتعددة التراكيب.
إن القيام بالحسابات الكمية الأولية العالية المستوى ليس بالأمر السهل، ودراسة نظام منخفض التماثل مثل البورفيرين أو الكورول على حدود ما يمكن فعله اليوم. ولزيادة فرصي في النجاح، تعاونت مع اثنين من الممارسين (في الحقيقة البنائيين) الرواد في الكيمياء الكمية الحديثة المتعددة التراكيب، بيتر تايلور من مركز الكمبيوتر الفائق بسان دييجو (بالمناسبة، كان بيت صديقي الرئيسي في سان دييجو) وبيورن روس من جامعة لوند، السويد. ورغم هذا التجمع الهائل من الخبرة، فقد اختبرت حسابات كورولات كلوريد الحديد مهارتنا وبراعتنا لأقصى حد. وبعد سنوات من العمل الجاد والبدايات الخاطئة، حصلنا على نتائج واضحة وحاسمة وظهرت للنور صورتنا المبكرة لتركيب إلكتروني واضح، .
هناك ميزة مهمة للنظرية العديدة التراكيب وهي أنها لا تسمح فقط بتوصيف الحالة الأرضية للنظام ولكن أيضًا حالات مثارة عديدة. أملي كان أن تؤكد هذه الحسابات ليس فقط الحالة الأرضية ﻟ ، ولكن أن تُظهر أيضًا أن حالة FeIV كانت أعلى قليلًا في الطاقة. وكان هذا سيضع نهاية للجدل. لكن لم يكن هذا ما انتهت إليه الأمور؛ فقد أظهرت الحسابات أن «كل» الحالات المنخفضة الطاقة ﻟ Fe(corrole)Cl من الأفضل وصفها ﮐ ! فقط هي مختلفة بالنسبة إلى حالة اللف المغزلي لمركز Fe(III) وطبيعة الازدواج — سواء أكان متوازيًا أم غير متوازٍ — مع شارد الكورول؛ حالة Fe(IV) لا مكان لها؛ لذا، نجحنا في النهاية فيما نريد؛ وبدا الأمر وكأنه نهاية عهد.

(٧) من الأساسيات إلى التطبيقات

حسنًا، أنجيلا، آمل ألا أكون فقدتكِ بالكامل وسط تفاصيل التركيب الإلكتروني للكورولات الفلزية؛ فقد أردت إعطاءك لمحةً عن كيفية قيام أحدهما بمثل هذه التحليلات باستخدام مزيج من التحليل الطيفي، وتحديد التركيب بالأشعة السينية، والحسابات الكيميائية الكمية، بالإضافة إلى تقنيات أخرى لم تتَح لي الفرصة لتناولها. هذه الطرق لا تزال مفيدة، حتى لو تحركنا بعيدًا نوعًا ما عن اكتشاف الجوانب الأساسية للبورفيرينات والكورولات لتطويرها كمواد وظيفية عالية التقنية.

هناك جهد كبير دائر في معملنا لتطوير خلايا شمسية صبغية قائمة على الكورولات، التي قد سمعتِ عنها بالتأكيد من عمك كارل، الذي كان لي معه تعاون مدهش في السنوات القليلة الأخيرة. إن تلك الخلايا يُجرى تطويرها على غرار مصفوفات حصد الضوء المتعلقة بالتمثيل الضوئي، ولو على نحوٍ أبسط كثيرًا. ومثل الآخرين في المجال، نحن نفضل استخدام البورفيرينات (أو في حالتنا، الكورولات) المخلقة بدلًا من الكلوروفيلات لأن المواد المخلقة تكون أكثر خشونة وأسهل في معالجتها على نحوٍ كبير. إن تلك الخلايا في الحقيقة تتكون من صبغة عضوية مرتبطة مع التيتانيا أو شبه موصل آخر ذي تركيب نانوي، وهي من حيث المبدأ، أرخص بكثير في تصنيعها من الخلايا الشمسية العادية المعتمدة على السليكون البلوري. وبفرض قيامهما بالمهمة المتوقعة منها، فهي تستطيع أن تُحدث ثورةً في مجال تحويل الطاقة الشمسية.

ثمة تطبيق آخر محتمل للكورولات في مجال العلاج الضوئي الديناميكي للسرطان وبعض الأمراض الأخرى مثل الصدفية والضمور البقعي. يتضمن العلاج وضع بورفيرين أو صبغة أخرى على النسيج المتأثر والتعرض لإشعاع أحمر أو تحت أحمر قريب. إن الأضواء المرئية الأخرى ليس لها تأثير لأن جسم الإنسان غير مُنفذ إلى حد كبير للأطوال الموجية الأقصر. إن الضوء يثير البورفيرين إلى حالة أحادية مثارة، ومن هناك «يَعبر بين الأنظمة» إلى حالة ثلاثية مثارة تستمر لفترة أطول نسبيًّا. تذكَّري أن الأكسجين الجزيئي، الذي يوجد عمومًا حولنا في الأنسجة، هو حالة ثلاثية أرضية (أي، له اثنان من الإلكترونات المفردة مع لف مغزلي متوازي). إن البورفيرين في الحالة الثلاثية ينقل طاقته الزائدة إلى الأكسجين الجزيئي، الذي، يثار، نتيجةً لذلك إلى حالته الأحادية. وهكذا، يتفاعل الأكسجين الجزيئي في حالته الأحادية بقوة مع المادة العضوية، التي هي، في هذه الحالة، الورم أو نسيج مريض آخر. وهكذا تهلك الخلايا المهاجَمة، بعد تدميرها من قِبل الأكسجين الجزيئي في حالته الأحادية، بوجهٍ عام عن طريق الموت الخلوي المبرمج. وباستخدام معرفتنا المنهجية بتأثيرات البدائل، طورنا عددًا من الكورولات لها قدرة عالية على الامتصاص في المنطقة الحمراء وتحت الحمراء القريبة. أتمنى أن أكتب لكِ أننا عملنا على محسس جديد رائع يمكن استخدامه في مجال العلاج الضوئي الديناميكي، ولكن عملية الاختبار لا تزال جارية ونحن نتطلع بشدة للناتج الذي ستُسفر عنه.

إن المركبات الممتصة للضوء الأحمر والضوء تحت الأحمر القريب تكون أيضًا ذات أهمية كبيرة للتصوير الطبي الحيوي، خاصةً نوع التصوير المعتمد على «الامتصاص الثنائي الفوتون» (الذي هو ظاهرة مثيرة للاهتمام يحدث فيها امتصاص متزامن لفوتونين بواسطة جزيء). إن هذه العملية التي تكون عادة ذات شدة قليلة جدًّا (إذ إن أطياف الضوء المرئي وفوق البنفسجي المعروضة فيما سبق كلها تتضمن امتصاصًا أحادي الفوتون)، من الممكن أن تكون قوية على نحوٍ هائل عند استخدام مشتقات البورفيرينات الثنائية والقليلة الوحدات، وكذلك بعض التجميعات فوق الجزيئية المرتبطة بارتباط ضعيف. مرة ثانية، المركبات الممتصة للضوء المرئي العادية ليست مفيدة هكذا بسبب الامتصاص القوي لمعظم الأطوال الموجية المرئية من قبل الأنسجة البشرية. وهناك ميزة كبيرة لعامل التصوير المعتمد على الامتصاص الثنائي الفوتون وهي أنه يمكن تمييزه بدقة شديدة في أي نسيج أو مادة حيوية أخرى لأن النسيج المحيط لا يكون له أي امتصاص خلفي. مرة أخرى، نحن مهتمون جدًّا بعمل بعض من الكورولات خاصتنا كمركبات ممتصة للضوء تعتمد على الامتصاص الثنائي الفوتون.

بالمناسبة، إذا أُصبتِ بالحيرة من كثرة المشروعات المشار إليها أعلاه وتساءلتِ إن كان هناك خيط مشترك يجمع بينها، فالإجابة هي «نعم». كلها تنبع من اهتمامنا بأساسيات البورفيرينات والكورولات، وتركيبها الإلكتروني وأطيافها ونشاطها الكيميائي. نحن ببساطة نتتبع هذه الاهتمامات من أجل الوصول إلى نتائجها المنطقية؛ أي، بعض تطبيقاتها المفيدة. وهناك مثال رائع في هذا الشأن وهو صديقكِ الرائع آدم تشامبرلين الذي يتمحور مشروع ما بعد الدكتوراه خاصته حول الحسابات على الكمبيوتر الفائق ذات النطاق الواسع المتعلقة بالامتصاص الثنائي الفوتون للبورفيرينات والكورولات والذي يحاول أن يصوغ قواعد بسيطة لتصميم مركبات قوية ممتصة للضوء قائمة على الامتصاص الثنائي الفوتون. إنه عالم نظري على نحوٍ أصيل، ولكنني لن أكون مندهشًا إذا أصبح بعد عامين أحد المشتركين في تطوير عامل تصوير جديد رائع يقوم على الامتصاص الثنائي الفوتون. إن البحث النظري والتطبيقي يسيران جنبًا إلى جنب في معملنا، وأعتقد أن هذا أمر رائع على نحوٍ كبير؛ فمن المهم ألا نركز على أحدهما دون الآخر.

حسنًا، أتمنى أن تكوني قد استمتعتِ بتلك الجولة القصيرة في كوكبنا الأرجواني! أنا بالتأكيد أتطلَّع لرؤيتك ثانيةً قريبًا، ربما في اجتماع الجمعية الكيميائية الأمريكية القادم في سان دييجو. وإذا رغبتِ في زيارتي ثانيةً هنا في النرويج، فأنتِ بالطبع مرحَّب بكِ. أتمنى لكِ التوفيق في سنتك الجامعية الثانية.

أبهيك

قراءات إضافية

  • Ghosh, A. A perspective of pyrrole-aldehyde condensations as versatile self-assembly processes (mini review). Angewandte Chemie International Edition, 2004, 43, 1918–1931.
  • Ghosh, A. (Ed.). The Smallest Biomolecules: Diatomics and Their Interactions with Heme Proteins, Elsevier, Amsterdam, 2008.
  • Milgrom, L. R. The Colours of Life: An Introduction to the Chemistry of Porphyrins and Related Compounds, Oxford University Press, Oxford, 1997.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤