الفصل الخامس

التطور الأخضر

تيرنس جيه كولينز
جامعة كارنيجي ميلون

تيرنس جيه كولينز (تيري) الحاصل على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف، وزميل الجمعية الملكية في نيوزيلندا، يشغل كرسي البروفسير تيريزا هاينز للكيمياء الخضراء في جامعة كارنيجي ميلون حيث اشتغل بالتدريس منذ عام ١٩٨٧. البروفسير كولينز هو أحد مؤسسي مجال الكيمياء الخضراء، وهو يدير معهد العلوم الخضراء في جامعة كارنيجي ميلون، كما أنه أستاذ فخري وخريج مميز في جامعة أوكلاند في نيوزيلندا. حصل كولينز على ٢٠ جائزة مهنية في مجال الأبحاث والقيادة التربوية، واخترع مقلدات إنزيم البروكسيديز ذات وزن جزيئي منخفض، يُطلق عليها منشطات اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو (TAML)® وهي تحفز تفاعلات المؤكسدات الطبيعية مثل بيروكسيد الهيدروجين لتطهير الماء من العديد من الملوثات المستعصية ومسببات الأمراض القوية. وضع كولينز أول مقرر جامعي في الكيمياء الخضراء بدأ تدريسه منذ عام ١٩٩٢، وهذا المقرر قيد التطوير كي يصبح مجانيًّا ومتاحًا عبر شبكة الإنترنت، ويهدف إلى الإسهام في إعادة توجيه التقنية نحو الاستدامة. يكتب كولينز ويحاضر على نطاق واسع حول أهمية الدور الذي يلعبه الكيميائيون والأمل المنعقد عليهم في تسخير قدراتهم الابتكارية المذهلة للقضاء على الأخطار التي تسببها الكيماويات والعمليات الكيميائية. وهو أحد مؤسسي «جرين أوكس كاتاليستس إنك»؛ وهي شركة تابعة لجامعة كارنيجي ميلون.

عزيزتي أنجيلا

شكرًا لك على بريدك الإلكتروني. أشعر بالسعادة لاهتمامك الشديد بالكيمياء الخضراء. يحتاج العالم حقًّا إلى كيميائيين من الشباب الأذكياء أمثالك، على الأخص من أجل التركيز على تطوير المنتجات والعمليات المستدامة. في الحقيقة، في كل مرة يقرر كيميائي شاب أن يركز في مسيرته المهنية على التعامل مع التحديات العلمية للاستدامة، أعتقد أننا نتخذ خطوة مهمة نحو بناء البُعد التقني للحضارة المستدامة. ربما ستسلكين مثل هذا الطريق وتتخصصين في مجال الكيمياء الخضراء. إذا كان الأمر كذلك، آمل أن ألتقي بك يومًا وأرحب بك شخصيًّا كمساهمة في المهمة الحيوية للكيمياء الخضراء. إن الجانب الأكثر تشجيعًا في مسيرتي المهنية هو أن الكيمياء أعطتني ميزة لا تضاهى في العمل مع أناس متألقين ورائعين بحقٍّ؛ هم طلاب وأساتذة وكيميائيون بحثيون وعلماء في مجال الصحة البيئية وأنصار للصحة البيئية وموظفون حكوميون. أتمنى لك حظًّا وافرًا مثلي.

(١) الكيمياء والاستدامة والرضا

كنتِ قد طرحتِ عليَّ سؤالًا حول كون الكيمياء تعطي معنًى لحياتي. وإجابتي: نعم بكل تأكيد! لقد منحتني الكيمياء عقودًا من الرضا والإشباع، وأشعر أنني محظوظ للغاية لأن مسيرتي المهنية قد تبلورت على هذا النحو. لقد وفَّرت لي ملعبًا رائعًا للتفاعل بين الخيال والتفكير التحليلي. إنها تمكِّنني من الاحتفاظ الدائم بتركيزي من خلال وضعي في حالة من التحدي المستمر مع معارف جديدة مذهلة. فيما وراء المحتوى التقني، تُعَد الكيمياء جزءًا لا يتجزأ من كل شيء تقريبًا يُهم الوجود البشري، وهذا وضَعَ أمامي تحديًا مستمرًّا يتطلب مني أن أطوِّر من تفكيري على نحوٍ دائم، ليس فقط في مجال العلوم ولكن في الحياة عمومًا. الأهم من ذلك أن مسيرتي في مجال الكيمياء جلبت لي اتصالًا فكريًّا حميمًا مع أهم التحديات التقنية المنطقية التي تواجه البشرية ونحن نعمل جاهدين من أجل بناء حضارة مستدامة.

إن العمل على مشاركة الكيميائيين في الاستدامة وفي التقنية وفي جوانب أخرى؛ أمرٌ حيوي لضمان مستقبل مشرق لأحفادنا، ولقد أدركت في السنوات الأخيرة كم هي بغيضة بعض مفاجآت السُّمية المصاحِبة للكيماويات التجارية، وكذلك المشكلات الثقافية المتعلقة بكيفية تعاملنا معها. هكذا، بالقرب من نهاية الرسالة، سوف أكتب عن التحول الذي يحدث في فهمنا للمواد الخطرة. الموادُّ الكيميائية اليومية التي كانت تبدو حميدةً في وقتٍ من الأوقات، ليست كذلك في حقيقة الأمر. في بعض الأحيان، تهدِّد السُّميات الجديدة — لا سيما اختلال الغدد الصماء — الصحةَ والبيئة (وكذلك استدامة المشروع الكيميائي) بطرق مروعة بدأنا للتو نأخذها في الاعتبار. يمكن لمركبات اضطراب الغدد الصماء أن تُغير التطور الخلوي عند تركيزات مناسبة بيئيًّا؛ مما يُلحق الضرر بالكائنات الحية، ومنها البشر. بما أنني لا أستطيع أن أتصور أنه يمكن أن يكون لحضارتنا العالية التقنية مستقبلٌ جيد دون مشروع كيميائي قوي، فقد ضممتُ صوتي إلى أصواتِ مَن يعتقدون أن الوقت قد حانَ لنصبح منهجيِّين ويَقِظين بشأن تخفيض المواد الكيميائية الخطرة، لا سيما مركبات اضطراب الغدد الصماء، والتخلص منها. الكيماويات الخَطِرة تقوِّض جميع الأشياء الجيدة بحقٍّ التي أسهم بها الكيميائيون في المجتمع.

وهناك بُعْدٌ آخَر يتعين علينا مواجهته إذا كنا نرغب في إحرازِ تقدُّمٍ سريع في خفض المواد الخَطِرة والتخلص منها. منذ بضع سنوات، وجدتُ نفسي أتساءل عن السبب في أن المؤسسة الكيميائية — لا سيما وهي مُمثَّلة في نقاباتها — تُهمِل، بل تُنكِر أيضًا، أهمية التحذيرات الكثيرة جدًّا المتعلقة بمركبات اضطراب الغدد الصماء. ولأنني تعلمت الكثير عن هذه القضايا، توصَّلتُ إلى استنتاجٍ مُفادُه أن المال حقَّق انتصارًا على الصحة والبيئة بطرق غير مقبولة تمامًا؛ ومن ثَمَّ تعيَّنَ عليَّ محاولةُ فهمِ كيفيةِ حدوث كل هذا، وأن أسأل عن الجوانب الإيجابية والسلبية المتعلقة بأسلوب عمل المؤسسة الكيميائية فيما يتعلق بالنهوض بالاستدامة. لقد حاولتُ أن أشرح للآخرين ما تعلمته، من خلال التدريس والكتابة والخطابة وغيرها من الوسائل، ومنها موقع إلكتروني تعليمي نعكف على تطويره من أجل الربط بين الكيمياء الخضراء والساحة الفكرية الأوسع نطاقًا للاستدامة.

توصَّلتُ قبل بضع سنوات إلى نتيجةٍ مُفادُها أن أهم إرث شخصي لي هو أن أساهم في تطوير مسار التقنية الصحية التي تهدف إلى تحقيق الاستدامة في المستقبل، وقد أصبح هذا هو السياق الأوسع الذي ينسجم معه برنامج أبحاثي اليومي. بالنسبة إليَّ، هو يجلب الكمال الفكري مع العمق التقني. حققت قدرًا كبيرًا من الرضا الشخصي في أبحاثي المتعلقة بتخليق منشطات اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو، وهي محفزات أكسدة متجانسة خضراء فعالة تحاكي إنزيمات البروكسيديز بفعالية. ولكن فيما وراء تخطيط وتنفيذ الأبحاث، أرى أن أعضاء هيئة التدريس الدائمين موجودون في موضع فريد يتيح لهم الحديث بصراحة عن فهمهم لمسائل الاستدامة. في الواقع، سُنَّ التثبيت الوظيفي لحماية حرية الكلمة؛ حيث يستطيعون التعليق على مسائل مهمة وعاجلة دون أن يفقدوا عملهم (مصطلح التثبيت الوظيفي اشتُقَّ من مصطلح ألماني معناه «حرية التدريس»). عبَّرتُ عن وجهة نظري حول هذا الأمر في مجلة «إنفيرونمنتال ساينس آند تكنولوجي»؛ حيث عارضتُ الفكرة القائلة بأنه ينبغي على العلماء أن يستمسكوا فحسب بالعلم، وأن يتركوا الآخرين يقرِّرون ما يفعلون به. البُعد التقني لحضارتنا يُؤسَّس خطأً بطرقٍ لا حصرَ لها؛ مما يخلع صفة عدم الاستدامة على كل شيء آخر. من المهم أن العلماء، وخاصة الكيميائيين منهم، يدرسون ويعلقون على مساراتنا التقنية غير المستدامة. كلما كنا أكثر انفتاحًا على هذه التحديات، زادت احتمالات أن نطوِّر بدائل مستدامة. الجوانب المنطوية على مشكلات معقدة تشمل الطاقة ومواد التغذية والكيمياويات السامة. الكيمياء الخضراء هي فرع من فروع الكيمياء يتعين علينا أن ننظر فيه بصدق إلى مشكلاتنا إذا كنا سنبدأ في امتلاك القدرة على مواجهتها بطريقة منهجية، بما يشمل على وجه الخصوص مشكلات مثل اختلال الغدد الصماء التي تُعَد الأهم. في الكيمياء الخضراء بمعناها الحقيقي، سينعم الباحثون بالرضا اليومي بفضل إيمانهم بأن ما يفعلونه مهم بحقٍّ لرفاهية البشر، بل لرفاهية كل شيء حي في واقع الأمر.

وصلت إلى حيث أنا بطريقة غريبة وخاصة. سأشرح أجزاء من الرحلة في الأجزاء التالية. بما أنك تبدئين رحلتك الكيميائية، سأركِّز على أول تطوُّر حدث لي، وأبدأ ببعض الذكريات البعيدة حول أحوالي حين كنت طالبًا في السنة الثانية في تخصُّص الكيمياء في بداية فترة السبعينيات من القرن العشرين في جامعة أوكلاند في نيوزيلندا. على مر السنوات التي تفصلني عن ذلك الوقت، أعتقد أن بعض الأمور المهمة للطلاب الجامعيين تغيَّرت كثيرًا، بينما ظلت أمور أخرى على حالها تقريبًا، وسوف أتناول تلك الأخيرة بشيء من التأمل. سوف أناقش باختصارٍ الناسَ والأفكار والتجارب التي جذبتني للكيمياء، كما سأسلِّط الضوء على خبرات الدكتوراه وما بعدها؛ تلك الخبرات التي تضم أهمَّ أسس حياتي المهنية المستقلة.

ما جذبني إلى الكيمياء كان حالةَ الرضا المستمَدة من الدراسات المختبرية. و«الرضا» كلمة في محلها تمامًا؛ إذ حقَّق لي العمل في المختبرات الجامعية ارتياحًا عميقًا، وعلمت أنه بإمكاني أن أصبح مشاركًا بسعادة في عالم الكيمياء بقية حياتي. وكما ستجدين اليومَ في كثير من الجامعات، فإنه في بداية فترة السبعينيات في أوكلاند، كان لدينا مختبر تمهيدي لطلاب السنة الأولى، واستُتبع هذا في السنتين الثانية والثالثة من الدرجة العلمية التي مدتها ثلاث سنوات بمقررات متخصصة في الكيمياء العضوية، والكيمياء غير العضوية، والكيمياء التحليلية، والكيمياء الإشعاعية، والكيمياء الفيزيائية. وقد استمتعت بجميع المختبرات التدريسية، لا سيما مختبر الكيمياء غير العضوية الذي بدأته في سنتي الثانية وتابعته وصولًا إلى سنتي الثالثة وخلالها. كانت المختبرات المتخصصة تُفتح لنا كثيرًا طوال الأسبوع لمدة ست ساعات على الأقل إن لم تخُنِّي الذاكرة. كان بمقدور الطلاب قضاء أي وقت يشاءون بعد ذلك، وكنت أمكث فيه أطول وقت ممكن متى تيسَّر ذلك. تحدثت مع عدد من الأساتذة كي يسمحوا لي بتنفيذ مشروع صيفي مستقل من تصميمي في مختبرات الكيمياء الإشعاعية والعضوية. هذه المختبرات التدريسية كانت المكان الذي بدأنا فيه إجراء تجارب باستخدام مواد كيميائية حقيقية.

واليوم، نادرًا ما تجد إمكانيةً مثل هذه للوصول المفتوح إلى مختبرات تدريسية، وأتخيل أن الوضع سيكون على هذا النحو بالنسبة إليك. لكن هذا يقابله عدد متزايد من الفرص يحظى بها الكيميائيون الطلاب للعمل في مجموعات بحثية. وأوصيك بشدة أن تشاركي في أبحاث طلابية بجامعة كاليفورنيا، سان دييجو؛ لأن التجربة ستُعِينك على فهم مزايا وتحديات الأبحاث. ستكتسبين مهارات فنية من شأنها أن تمنحك بدايةً قوية وسريعة عندما تصلين إلى مرحلة الدراسات العليا. بالنسبة إليَّ، لم يكن لدينا برنامج بحثي للطلاب؛ لذا، كان من الممتع في المختبرات الطلابية، عوضًا عن ذلك، أن أخوض تجربةَ تحضيرِ مركباتٍ وصُنْع بلورات ودراسة خواص أوجدت بداخلي الرغبةَ في تعقُّب درجات علمية أعلى في الكيمياء.

(٢) تأمُّل أوائل مسيرتي المهنية

كان أهم شخصين في تطوُّري العلمي هما وارين روبر المشرف على رسالة الدكتوراه خاصتي، وجيم كولمان المشرف على أبحاثي ما بعد الدكتوراه. في نيوزيلندا، كان على الطلاب الذين يرغبون في الاستمرار بعد حصولهم على درجة البكالوريوس، بعد دراسةٍ مدتُها ثلاث سنوات، أن يبدءوا بالسعي لنيل درجة الماجستير التي مدتها عام واحد، وتتضمن أطروحةً بحثية كبيرة. كنتُ محظوظًا إذ جرى تكليفي لنيل درجة الماجستير في العلوم بالانضمام إلى مجموعة وارين روبر البحثية في مجال كيمياء الفلزات العضوية (أجل، في هذه الأوقات، كان يُكلفنا بذلك رئيس القسم). وسرعان ما أسرَني تحضير ودراسة مركبات لم يرها أحد من قبل. درست مركبات الكربين الحلقية لبحث الماجستير، وكنت محظوظًا للحصول على منحة دراسية اعتمادًا على هذا الجهد من أجل نيل درجة الدكتوراه تحت إشراف البروفسير روبر. إنها تجربة موجهة للحياة! في رسالة الدكتوراه، انصبَّ تركيزي على معقدات الثيوكربونيل للروثينيوم والأوزميوم، وذلك تحت الإشراف الرائع للبروفسير روبر. أعددت أكثر من ١٠٠ مركب جديد، وتعرفت على تفاعلات الارتحال الأولى للجينات الهيدريد وصولًا إلى لجين الثيوكربونيل، واختزاله على خطوات طول الطريق إلى لجين الميثيلثيولات الذي يمكن بعد ذلك نزعه من الفلز بحامض في صورة الميثيلثيول (شكل ٥-١). رغم أنه ثبت في نهاية المطاف أن الآلية مختلفة؛ فقد اعتبرنا كيمياء اختزال لجين الثيوكربونيل هذا نموذجًا للتفاعلات المتتالية في الاختزال الحفزي لأول أكسيد الكربون إلى الميثانول، وتلك كانت عملية مهمة جدًّا في الصناعة في ذلك الوقت، ولا تزال كذلك.
fig33
شكل ٥-١: اختزال متدرج للثيوكربونيل على الأوزميوم.
fig34
شكل ٥-٢: مسار تخليقي لإنتاج معقد الثيوكربونيل أوزميوم صفر التكافؤ Os(CS)(CO)2(PPh3)3 بغرض استخدامه في تفاعلات جديدة للأكسدة والإضافة.
لم تكن تجربة الدكتوراه سهلةً على الأقل في بدايتها؛ فقد أمضيت الثمانية عشر شهرًا الأولى وأنا أسعى لتخليق متعدد الخطوات ومضنٍ لما كان سيصبح مادتي الأساسية الأولية، وهي معقد ثيوكربونيل الأوزميوم بتكافؤ صفر (شكل ٥-٢). كانت الفكرة هي استخدام هذا النوع المختزل في دراسة تفاعلات جديدة للإضافة والأكسدة. أتذكَّر أنني شعرت بالسعادة عندما شممتُ الرائحة الكريهة للميثيلثيول في الخطوة الأخيرة؛ حيث كان هذا يعني أن التفاعل يسير على ما يُرام. ولكنني لم أستطع قطُّ الحصولَ على قدر كافٍ من المادة الأولية من أجل استخدامها في إنجازِ شيءٍ مهم، وغالبًا ما كان ينتج عن التفاعل زيت داكن يصعب التعامل معه. لم يتمخَّض عن مجهوداتي البحثية الكثير من النتائج الجديدة. سعيت جاهدًا لتغيير الأمور، ولكنني شعرت بالتأكيد أن الأشياء لم تكن تسير على ما يرام معظم الوقت.
البروفسير روبر هو باحث على قدر عالٍ من التدقيق، وقد وُهِب ذاكرة رائعة. لقد قرأ كل شيء ذي صلة بمجال اهتمامه، وأوصى في يومٍ ما بخطةِ عملٍ استنادًا إلى شيء كان قد فرغ من قراءته لتوِّه (الخطوتان الأوليان في شكل ٥-١) للحصول على لجين الثيوكربونيل على الأوزميوم، وكان ذلك فعَّالًا من الناحية الكمية؛ إذ أمَدَّني بالقدر الذي كنت بحاجة إليه من معقد الثيوكربونيل، بحيث لم يكن يفصلني عن الحصول على مادة رباعي أكسيد الأزوميوم الأولية سوى ثلاث خطوات. لم أرتكب أي أخطاء في المختبر تقريبًا، وتمكنت من إكمال التفاعلات الواردة في شكل ٥-١، إضافةً إلى تفاعلات أخرى كثيرة. إنه لَأمر رائع أن تجرب إحساس الباحث عندما يسير بحثه على ما يُرام. لكنني كثيرًا ما أشعر بأن المشقَّة التي واجهتُها في النصف الأول من تجربة الدكتوراه علَّمَتْني الدرس الأكثر أهميةً، وهو أن «الإصرار أحد العوامل الحاسمة للنجاح في العلم». تخرَّجتُ في مدةٍ تزيد قليلًا على ثلاث سنوات — كانت فترة الحصول على درجة الدكتوراه في نيوزيلندا أقصر مقارَنةً بالمعايير الأمريكية المطبَّقة حينذاك.

كانت مجموعة روبر في أوكلاند بيئةً مدهشة للعمل والدراسة؛ ففي كثير من الأحيان، كان الطلاب يتناولون وجبة الغداء مع البروفسير روبر، وكنا نستمتع جميعًا بالحديث حول القضايا المطروحة على الساحة آنذاك. كان البروفسير روبر يمتلك رؤية متحفظة عن العالم، وكنت أنا وعدد من زملائي الطلاب أكثر تحرُّرًا. كان يروق لنا مجادلة البروفسير روبر حول قضايا عالمية، وقاد هذا إلى سِجالات ممتعة عديدة؛ حيث تجادلنا حول المعنى الأشمل لأمور علمية وغير ذلك، كما انخرطنا في حوارات مَرِحة كانت أساسًا لصداقات طويلة الأمد. وقد ثبت أن هذه الخبرات تشكِّل أساسًا لأشكال التعاون العلمي الذي لا يزال مستمرًّا داخل الحرم الجامعي إلى اليوم بين هؤلاء الذين جمعَتْهم في السابق علاقةُ زمالةٍ خلال مرحلة الدراسات العليا، والذين يعملون حاليًّا أعضاءً بهيئة التدريس في أوكلاند. وكان هذا التعاون على الأخص مع جيمس رايت، بالإضافة إلى صداقة شخصية رائعة مع البروفيسورة بيني براذرز.

بعد أن حصلت على درجة الدكتوراه عام ١٩٧٨، كنت محظوظًا بقبولي بصفتي زميل ما بعد الدكتوراه لدى المجموعة التابعة للبروفسير جيمس بي كولمان في جامعة ستانفورد. ألهمني البروفسير كولمان بتوجيهاته البحثية لي بطرق تختلف عن طرق البروفسير روبر وإن كانت بنفس القوة والتأثير. جيم كولمان يمتلك فهمًا رائعًا للصورة الكلية للعلم وقدرة على الوصول إلى جوانب بحثية من المأمول أن تُكتشف فيها أشياء في الكيمياء من شأنها أن تُغير العالم. في هذه المجموعة، شاركت في مشروعات البورفيرينات الفلزية وأصبحت كفؤًا بدرجة ما في الكيمياء العضوية بفضل ما تعلمته. تعرفت على أشياء مدهشة تستطيعين أن تتعلميها عبر تقنيات الكيمياء الكهربية بالإضافة إلى الكثير من الجوانب البحثية الأخرى التي كانت جديدة بالنسبة إليَّ. كانت مجموعة كولمان كبيرة ومؤثرة دوليًّا على نحوٍ مبهر. كانت المجموعة مليئة بطلاب وحاملين لدرجة دكتوراه بارزين. وكانت المهارات الفنية لدى أفراد المجموعة متنوعة واستثنائية. تعلمت من أناس ينتمون إلى ثقافات أخرى كيف ينظرون إلى الأشياء بطرقهم الفريدة. استطعت أن أخوض تجربة إلى برنامج كبير تُعقد خلاله ندوات بحثية وأن أحظى باحتكاك مباشر مع الكثير من قادة الكيمياء حينذاك وأن أتفاعل شخصيًّا معهم. عملت من آنٍ لآخر مُقدِّمًا للمتحدثين في تلك الندوات وكان هذا مصدر استمتاع خاص بالنسبة إليَّ. وفي بعض الأحيان، عند سفر البروفسير كولمان، كنت أحل محله وأُدرِّس نيابة عنه الكيمياء العضوية لطلاب الفرقة الثانية الكبيرة الحجم، كان هذا بالنسبة إليَّ تحديًا مفيدًا للغاية. وحتى أكون صادقًا، أقول إن التجربة كانت تمثِّل في الوقت ذاته صدمة ثقافية بطريقة ما أو بأخرى ولكن خوض الصدمات الثقافية إحدى طرق النمو السريع.

كانت مجموعة كولمان تعمل في مشروعات عديدة ومتنوعة لكن أغلبها كان يهدف إلى إنتاج مقلدات إنزيمات أكسدة. كان هذا ولا يزال جانبًا بحثيًّا محمومًا؛ حيث تسهم الكثير من المجموعات الاستثنائية حول العالم في تطويره؛ لذا في الوقت الذي كان الطلاب وحاملو الدكتوراه التابعون لمجموعة كولمان يُعَلِّمونني مجموعة هائلة من المهارات الفنية، كنت أتعلم أيضًا من الكتاب الرائع لكفين سميث الذي عنوانه «البورفيرينات والبورفيرينات الفلزية» بالإضافة إلى الأبحاث والمراجعات التي أعدَّها الكثير من الكيميائيين البارزين في مجال البورفيرينات.

ومثلما كانت الحال بالنسبة إلى درجاتي العلمية في جامعة أوكلاند، كانت جامعة ستانفورد تجربة إيجابية وجَّهت مسار حياتي. فالمشرفون والأشخاص الذين عملت معهم صنعوا فارقًا هائلًا بالنسبة إليَّ. كان البروفسير كولمان ملهمًا جدًّا فيما يتصل بالحاجة إلى الإبداع العلمي وإمكانية تحقيق أشياء رائعة إلى حد أن مجرد وجودك معه كان يجعلك تؤمن بأنك قادر على الخروج من مجموعته وصنع كيمياء جديدة من أجل الارتقاء بالعالم. خلال الفترة التي قضيتها هناك، حقق البروفسير باري شاربلس (الذي كان في السابق من بين حاملي الدكتوراه التابعين لمجموعة كولمان) اكتشافًا في كيمياء الأكسدة الحفزية الانتقائية التماثلية التي نال بفضلها جائزة نوبل، وكان من الرائع التحدث إليه وإلى مجموعته بينما كان يحدث هذا. لكن الأهم من ذلك أن جيم كولمان كان يعرف كيف يجعلك تؤمن بنفسك كعالم.

لقد حاولت جاهدًا أن أستلهم الصفات العظيمة التي كان يتمتع بها كولمان وروبر خلال تدريب طلابي وأن أنقل جانبًا منها إلى برنامج الكيمياء في جامعة كارنيجي ميلون. حرية التعبير عن الذات في العلوم هي العنصر الأكثر قيمة الذي يجب أن يكون جزءًا لا يتجزأ من الدراسات العليا. كان البروفسير كولمان عدَّاءً شغوفًا، وكان ينفِّس عن نفسه عن طريق العدْو في تلال ستانفورد الجميلة مع حملة الدكتوراه أو الطلاب الذين كانوا يملكون من العزم ما يكفي لمحاولة مواكبته. وفي مكتبة ستانفورد قرب انتهائي من أبحاث ما بعد الدكتوراه، تخيلت البرنامج البحثي الذي شغل اهتمام مجموعتي لمدة ٣٠ عامًا. ناقشت أهدافي مع البروفسير كولمان أثناء عدْونا معًا وكان تحمُّسه لأفكاري يعني الكثير بالنسبة إليَّ.

(٣) التخطيط لحياة مهنية مستقلة

حفازات الأكسدة المتجانسة المفيدة قليلة نسبيًّا. وقد كان من بين أهم الأهداف في مجال البورفيرينات عام ١٩٨٠، عندما بدأت حياتي المهنية المستقلة في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، الرغبة في إنتاج مقلدات فعالة ذات جزيئات صغيرة لإنزيَمي المونوأوكسيجينيز والبيروكسيديز. كانت مجموعة كولمان تُركِّز على تقليد إنزيمات السيتوكروم P450 وإنزيمات المونوأوكسيجينيز التي تُنشط الأكسجين ليؤكسد الركائز العضوية من خلال مركبات الحديد-أوكسو الوسطية؛ ومن ثَمَّ في ١٩٨٠، قررت، استنادًا إلى ما تعلمته تحت إشراف البروفسير كولمان، أن أحاول إنتاج مقلدات إنزيمات بيروكسيديز الحديد التي تعمل على تنشيط بيروكسيد الهيدروجين. هذه الإنزيمات لها حالات الحديديك الساكنة. إنها تتفاعل مع بيروكسيد الهيدروجين وتُنتج مركبين وسطيين مؤكسدين، حديد (٤)-أوكسو (كاتيون شق البورفيرين)؛ اثنان من المكافئات المؤكسدة فوق حالة الحديديك الساكنة يُطلق عليهما المركب الأول و(بورفيرين) حديد (٤)-أوكسو الذي يمكن الحصول عليه عن طريق اختزال إلكترون واحد يُطلق عليه المركب الثاني.

كنت بالإضافة إلى ذلك، مُحفَّزًا بالتفكير في مسألة أنه إذا أمكن إنتاج مقلدات بيروكسيديز فعالة، فقد تُستخدم في تعقيم الماء باستخدام بيروكسيد الهيدروجين بدلًا من الكلور. في أواخر فترة السبعينيات من القرن العشرين، أدرك العلماء أن التعقيم باستخدام الكلور، وهو عملية أكسدة معقدة في الأساس، يؤدي إلى نواتج مُكلوَرة ثانوية. بعض هذه النواتج مسرطن لا سيما الكلوروفورم. نبَّهت الصحافة الصفراء الناس إلى أن بعض حالات السرطان كانت مرتبطة على الأرجح بالتعرُّضات الناتجة؛ لذا في عام ١٩٨٠، عايشت جدلًا حول إمكانية تحقيق هذا ودعوات من جانب المهتمين بالصحة البشرية لإيجاد مقلدات بيروكسيديز صغيرة الجزيئات وتكون فعالة واقتصادية. كان من غير الممكن مقاومة هذه التوليفة وجعلتني أُثابر على مدى ١٥ عامًا في المضي قدمًا نحو أهدافي، حتى تمكَّنَّا فعلًا من إنجاز مقلدات بيروكسيديز مفيدة وظيفيًّا عام ١٩٩٥.

مع مرور السنين، تعلمتُ أشياء أخرى كثيرة حول مشكلات السُّمية المرتبطة بصناعة الكلور. منذ فترة طويلة، توصَّلتُ إلى نتيجةٍ مُفادها أن بعض ترسُّبات الكلور السامَّة بغيضة للغاية بحيث ينبغي إعادة هيكلة جوهرية للصناعة بدرجة حساسية تَتواءمُ مع الصحة والبيئة أعلى بكثير مِمَّا يسود ثقافتنا حاليًّا. وعلى وجه الخصوص، نظرًا لأننا يجب أن نُقلِّل ونتخلَّص من الكيماويات المسبِّبة لاختلال الغُدَد الصمَّاء (صناعة الكلور مسئولة عن بعض الكيمياويات الأساسية المسبِّبة لاختلال الغُدَد الصماء)، تُواجِه قطاعات كثيرة من صناعة الكيماويات تحدِّياتٍ كبيرة وسوف تكون بحاجةٍ إلى الكثير من المساعدة. ولكن تستطيعين أن تقرئي عن أفكاري وآرائي بشأن هذه الموضوعات إذا رغبتِ.

(٤) تصميم لجيني لمقلَّدات بيروكسيديز

في مسيرتي المِهنية المستقلَّة لمدَّة ست سنوات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ولأكثر من عِقدين في جامعة كارنيجي ميلون، شرعتُ في إنتاج أنظمة استخلاب لابورفيريني لجيني لدَعْم تحفيزٍ مُشابِه لبيروكسيديز الحديد. تضمَّنَتْ مسائل التصميم تحديدًا للخواصِّ التي تحتاج الأنظمة اللجينية إلى امتلاكها لتُعطي عوامِلَ حفزية مُفيدة. وبدا معقولًا أن اللجينات الاستخلابية المشتملة على أربعة أنيونات وأربعة مواقع ارتباط مع قُدرة إمداد إجمالية عالية، من شأنها أن تجعل مُركَّبات حديد-أوكسو الوسطية التفاعُلية عاليةَ التكافؤ أسهلَ في الوصول إليها للدرجة التي تجعلها تقوم مقامَ مُركَّبات وسطية تُشبِهُ البيروكسيديز في أكسدة المتفاعِلات العضوية. نَحَّيتُ الانشغال البالِغ بشأن تثبيت الحالة جانبًا ورأيتُ أن نتراجَعَ عن هذا الأمر إذا أضحى يُمثِّل مشكلة. تبيَّنَ أن الإفراط في تثبيت الحالة يُمثِّل مُشكلة مع المنجنيز؛ استطَعْنا تحضير المعقَّدات الأولى الثابتة للمنجنيز (٥)-أوكسو ووجَدْنا طريقة للتراجُع لكنها كانت مُعقَّدة. لا شيء يُضاهي البساطة، وكما ثبَتَ في أنظِمَتِنا التَّخليقِيَّة كما هي الحال في الإنزيمات، فإن الحديد له خصوصية في تحقيق نَوعٍ مُعيَّنٍ من البساطة الجميلة ضِمن السِّياق الأوسع للتعقيد. هذا ينطبِقُ على الحلقات الحفزية للجينات الحديد الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو كما هي الحال في الحلقات الحفزية الإنزيمية، تمامًا تلتئِمُ سيمفونية مُعقَّدة في لحنٍ جميل.

الأهمُّ من ذلك، أنَّني أدركتُ في عام ١٩٧٩ أنَّهُ عندما يكون هناك نظام لجيني ومُعقَّد اشتقاقي بمقدوره الاضطلاع بهذه المهمة، فإنه سيكون بحاجةٍ إلى أن يكون على درجةٍ عالية من مُقاومة التأكسُد والتحلُّل المائي. بدأنا بتصميم أنظمة لجينية لا حلقية ثُنائية الأميدو-ثنائية الفينولات. في سبعينيات القرن العشرين، أوضحَ ديل مارجروم بجامعة بوردو أن الأميدات العضوية المنزوعة البروتون تُشكِّل روابط تَساهُمية قوية من النوع سيجما مع الفلزات. يبدو أن المكوِّن الأساسي C(O)–N مُؤكسد خامل. بدَتْ حساسية الأكسدة كما لو أنها ستبقى في المجموعات العضوية للنظام ، لذلك أصبحَتِ الأميدات اللَّبناتِ الأساسيةَ لأنظِمة اللجينات الاستخلابية لدينا، وأصبحتِ المهمة المطلوبة هي إيجاد أجزاء R– و ، خاملة الأكسدة بدرجةٍ تكفي للاتِّحاد معها. وانتهت الحال بأن انصبَّ التركيز خلال الخمسة عشر عامًا الأولى من المشروع على استخدام التصميم التكراري للتحكُّم في حركية عمليات تَحلُّل اللجينات الحفزية المرشَّحة التي كُنَّا نعمل على تصميمها.
fig35
شكل ٥-٣: (أ) نظام لجيني أولي (١٩٨٠) مُرتبط مع الأوزميوم في برنامجنا لتطوير العوامل الحفَّازة، و(ب) نموذج أوَّلي لمنشِّط اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو (١٩٩٥).
fig36
شكل ٥-٤: بروتوكول تصميم العوامل الحفَّازة الذي قاد إلى اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو.
لم يكن النظام الأول الذي بدأتْ مجموعتي في تطويره (شكل ٥-٣أ) يختلف اختلافًا كبيرًا عن أنظمة اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو التي قدَّمَت في عام ١٩٩٥ حلًّا لتحدِّي مُحاكاة البيروكسيديز (شكل ٥-٣ب). لكن النظامَين اللجينِيَّين مُختلفان تمام الاختلاف أحدهما عن الآخر في السِّمات الأكثر دِقَّةً وخفاءً لتصميمها. أدَّت أحلام اليقظة في مكتبة ستانفورد إلى بروتوكول تصميم تكراري فيما يتعلَّق بكيفية تحقيق المرء لأنظمة لجينية مُؤكسدة قوية (شكل ٥-٤)، وقد اتَّبَعَتْ مجموعتي هذا البروتوكول خلال السِّنين الثلاثين الفاصلة. وما زِلنا نَستخدِمُه بهدف تحسين عوامِلنا الحفَّازة حتى يومِنا هذا. وسُرعان ما تعلَّمْنا أن الحديد الذي ترتبط به اللجينات غير الحلقية يميل إلى إعطاء أنواعٍ ثُنائية الوحدات (ديمر) شبيهة بثُنائية وحدات الكروم الذي وَصفناهُ بالأشعَّة السينية البلَّورية. كانت ثمة آثار للأشعَّة تحت الحمراء في اهتزازات لجين الأميد التي أشارت إلى تناسُق الأميدو-O عندما أردْنا الترابُط الحصري أميدو-N. ولكنَّنا وجدْنا أن الأوزميوم أعطى مُعقَّدات أُحادية النواة مُستقرَّة مائيًّا من نوع التنسيق-N الذي كُنَّا نبحث عنه؛ لذا درسنا أولًا تفاعُلات التحلُّل التأكسُدي للجين على الأوزميوم وقرَنَّا ذلك بالتصميم التكراري الموضَّح في شكل ٥-٤. ساعَدَنا الثبات التناسُقي الفائق للأوزميوم مُقابل الحديد في جعْلِ تحلُّل اللجين غير مُهم. بحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين، تمكنَّا من وضْع مجموعة من القواعد التي ساعدتْ في الحصول بالأكسدة والتحليل المائي على عوامل تحفيز أكسدة مُتجانسة قوية. في ذلك الوقت كُنَّا على بُعد تكرار لجيني واحد من مُعقَّدات الحديد التي تُحاكي إنزيمات البروكسيديز على نحوٍ جيِّد للغاية. بحلول عام ١٩٩٥، أنتَجْنا مُنشِّطات اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو.

وبأوزانٍ جُزيئية في نطاق ٥٠٠ دالتون، مُنشِّطات حديديك اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو هي في الواقِع نُسَخ مُصغَّرة من إنزيمات البروكسيديز، التي لها أوزان جُزيئية تتراوَح بين نحو ٤٠ كيلودالتون إلى ٢٥٠ كيلودالتون. تُظهر مُنشِّطات حديديك اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو أداءً مُثيرًا للإعجاب في الكيمياء مِثل البيروكسيديز. في تركيزات ضئيلة (نانومولار إلى ميكرومولار مُنخفض)، تعمل العوامل الحفَّازة حديديك اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو على تسريع كيمياء البيروكسيد لتحليل مجموعةٍ كبيرة من المواد الكيميائية المتغلغِلة والمقاوِمة في الماء. مِثال ذلك الإيثينيل إسترادايول، وهو عنصر نَشِط في حبوب منْع الحمل يظهر في المياه البيئية؛ حيث يُمكن أن يُلحِق الضَّرَر بالحياة المائية عند تركيزات مُعيَّنة. فعند تركيز ٨٣ نانومولار، يُمكِن للعامل الحفَّاز حديديك اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو أن يُحطِّم ما يقرُب من ١٠٠٠ من مُكافئات الإيثينيل إسترادايول (٨٠ ميكرومول) خلال ١٥ دقيقة في درجة حرارة الغرفة مع زيادةٍ صغيرة من بيروكسيد أكسيد الهيدروجين فوق مُتطلَّبات التمعدُن. تحت هذه الظروف، يُعالِج كيلوجرامًا واحدًا من العامل الحفَّاز حديديك اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو فوق ٢٠٠٠٠ طن من المياه. مثال آخَر هو خُماسي كلورفينول، وهو مادة ملوِّثة شديدة الثَّبات، تُدمَّر بالكامل إلى حدود الكشف وتُمعدَن تقريبًا خلال دقائق في درجة حرارة الغرفة. الأهمُّ من ذلك أن الديوكسينات ليست مُنتجاتٍ ثانويةً قابلة للكشف ضِمن حدود جهاز طيف الكتلة في المختبرات الوطنية الألمانية للبيئة في نيوهيربرج في بافاريا — تؤدِّي أكسدة الفينولات المكلورة في الغالب إلى الديوكسينات. وتشمل قائمة المركَّبات القابلة للتحلُّل الأدوية والمبيدات الحشرية والصَّبغات ومكوِّناتِ البنزين العضوية والمستحضَرات الصيدلانية والمركَّبات العضوية المكلورة والعضوية الكبريتية والملوِّثات الملونة ذات الرائحة الكريهة المرتبِطة بمُخلَّفات مصانع اللبِّ والورق وغير ذلك. كما يعمل حديديك اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو/بيروكسيد أيضًا على قتْل الجراثيم البكتيرية، وهي الأصعب من مُسبِّبات الأمراض بالإضافة إلى الميكروبات الأخرى. على أرض الواقع، تتمثَّل الفِكرة في تنظيف مَجاري النَّفايات من المواد الكيميائية و/أو مُسبِّبات الأمراض الدائمة بطريقةٍ خضراء قبل إطلاقها في البيئة.

ومِثلما كان مُوجِّهِيَّ وزُملائي مُهمِّين للغاية في المراحل الأولى من رِحلتي في الكيمياء، فإن الطُّلَّاب المتخرِّجين (والطلَّاب الجامعيين) وباحِثي ما بعدَ الدكتوراه، والباحِثين الكبار جعلوا الحياة اليومية في الكيمياء مصدرَ استمتاعٍ كبير. ليس الأمر مِثاليًّا دائمًا لأيٍّ مِنَّا، لكن، جملةً، كانت ولا تزال رحلةً رائعة. أشعُر بالفخر بإنجازات طُلَّاب الدراسات العُليا وباحثي ما بعد الدكتوراه. الأعضاء الكبار من فريقنا في معهد كارنيجي ميلون للكيمياء الخضراء يشمل ألكسندر ريابوف (مُعلِّم الكيمياء الحركية) وسوشيل خيتان (زميلَنا المتخصِّص في الكيمياء العضوية والمبيدات الحشرية ومُسبِّبات الأمراض وخبير المتفجِّرات). في طريقنا إلى مُنشِّطات اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو. طوَّرْنا الكثير من كيمياء التناسُق الجديدة وتعاوَنَّا على نطاقٍ واسِع مع عُلماء بارزين أمثال إيكارد مونك وإميل بومينار وجيمس رايت وديتر لونوار وكارل فيرنر شرام وأقلَّ كثيرًا مع آخرين.

لا يزال بحثُنا المستمر يهدُف إلى تصميم عوامل حفَّازة أفضل للأكسدة بينما لا نزال نُحاول تحسين كفاءة مُنشطات حديديك اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو. نعمل أيضًا على فهم آليات التفاعُلات الحفزية لمنشِّط حديديك اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو، بتطوير العلوم الأساسية المطلوبة لفهم كيف يمكن استخدامها في تطبيقات عملية، ومُحاولة ضَمان كون المحفِّزات وعملياتها خضراء بحقٍّ. لفترة من الوقت، انصبَّ تركيز كولن هورفيتس وهو أستاذ أبحاث سابق بالمعهد، على تطوير الفُرَص التجارية والآن يشغل منصِب رئيس تكنولوجيا المعلومات الخضراء للعوامل الحفَّازة للأكسدة الخضراء وهي شركة تسويق مُنشطات اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو. يمكنك قراءة المزيد عن مُنشِّطات اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو من الأبحاث التي نشرناها، والتي يمكن العثور عليها من المراجِع أدناه إذا رغبتِ في ذلك. تُعتَبَر مُنشطات اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو مِثالًا مُهمًّا للكيمياء الخضراء الفاعِلة، ولكن بالنسبة إلى بقية هذه الرسالة أودُّ أن أُشارِكَك بعض الأفكار حول الكيمياء الخضراء، والتي أعتقِد أنها ستشغَلُ جيلكم من الكيميائيين لعقودٍ قادمة.

(٥) الكيمياء الخضراء

مُنشِّطات اللجينات الحلقية الكبيرة الرباعية الأميدو مِثال مُهمٌّ للكيمياء الخضراء الفعَّالة. سُمِّيت الكيمياء الخضراء وعُرِّفت بواسطة بول أنستاس بأنها «تصميم مُنتجَات وعمليات كيميائية تُقلِّل أو تزيل استخدام أو توليد المواد الخطِرة» وفيما بعدُ قُدِّمت في كتابٍ من تأليف بول أناستاس وجون فارنر بعنوان «النظرية والتطبيق». هناك العديد من التعريفات لكن تعريف أناستاس الأصلي هو التعريف المفضَّل لي. برنامجنا الخاصُّ بتصميم العوامل الحفَّازة ينسجِم بِشدَّة مع الكيمياء الخضراء للدكتور أناستاس حتى إنَّني تواصلتُ معه بمُجرَّد أن سمعتُ عنه في عام ١٩٩١. أصبحَتِ الكيمياء الخضراء جُزءًا مُهمًّا للغاية من حياتي وجهود مجموعتي اليومية. واليوم، نُساعد في تطوير المجال من خلال العمل مع الآخرين على تطوير المناهج الدراسية والمشاركة في توحيد الكيمياء الخضراء مع العلوم الصحية البيئية. تتولَّى المجموعة غير الهادفة للرِّبح للكيمياء الخضراء المتقدِّمة قيادة هذه الشراكة الاستراتيجية، التي ألهمها بيت مايرز، ناشِر مجلة «أخبار الصحَّة البيئية» ورائد عالمي في تَمكينِنا جميعًا من فَهم مُسبِّبات اضطراب الغُدَد الصمَّاء لنا. ومن ثَمَّ سأختتم هذه الرسالة بإلقاء الضوء على ما أعتقِد أنَّها إمكانات تحويلية في الكيمياء الخضراء فيما يتعلَّق بالحدِّ من التأثيرات البيئية والصحية الضارَّة للكيمياء وإعادة تَوجيهها نحوَ الاستدامة.

نحن جميعًا نعيش في عالَم يتغيَّر فيه فَهمنا لِما تَعنيه العلوم والتكنولوجيا للتقدُّم البشري. في القرون الأخيرة، أعطتنا العلوم والتكنولوجيا الجديدة قوًى لم تكُن تملِكُها البشرية من قبل قط. في رأيي، عَلَّمَنا هانز جوناس كيف نُفكِّر بطريقةٍ أفضل في الآثار الأخلاقية وذلك في كتابه الرائع «المسئولية الواجبة: بحثًا عن الأخلاق من أجل العصر التكنولوجي». بإعادة صياغة الفكرة التي طرحها جوناس، من السهل أن تُدرِك أنه لو كان قُدِّر لك العَيش قبل ٥٠٠ سنة، فإن قوَّتَك الشخصية كانت ستُصبح أقلَّ بكثيرٍ مِمَّا هي عليه اليوم. في العام ١٥٠٠، كان سيتعيَّن عليك أن تلتقي بالناس لتُؤثِّر فيهم. أما اليوم فيُمكِنك التأثير في الناس في جميع أرجاء العالَم بصورةٍ شِبه لحظية عبْر الوسائل الإلكترونية. منذُ وقتِ ليس ببعيد، شاهَدْنا جميعًا تاريخ الاتصالات المهمِّ وهو يُصنَع عندما أحاط الشعب الإيراني العالم عِلمًا بمُشكلات ما بعد الانتخاب من خلال آلاف الرسائل ومقاطِع الفيديو المرسلة خِلسةً عبر طُرق إلكترونية لا حصر لها. في العام ١٥٠٠، لم يكن لدَيك على الأرجح أن تُغامِر بالابتعاد كثيرًا عن منزلك. اليوم، يُسافِر الناس إلى جميع أنحاء العالَم بسرعةٍ ملحوظة ودون مَشقَّة. لو أنكِ عشتِ حياةً طويلة قبل العام ١٥٠٠، فالأرجح أنكِ قابلتِ ثلاثة أو أربعة أجيال، مُعظمهم كانوا مُقيمين في البلدة التي عشتِ فيها والتي ربما كانت صغيرةً ومَحمِيَّة بجُدران قوية. ربما كنتِ ستَعتبِرين العالَم الطبيعي خارجَ الجُدران مكانًا خطِرًا نِسبيًّا. لم تَكوني تعرفين على الأرجح مُسبِّبات الأمراض، بالرغم من شِدَّة فتْكِها بِسُكَّان بلدتك. تفكيركِ في أنَّ ما كُنتِ تفعلينه كلَّ يوم كان يُمكن أن يُصبح ذا تأثيرٍ عميق على الصحة البدنية ورفاهية الناس الذين سوف يعيشون بعد ٥٠٠ سنة وكذلك على حيوية الطبيعة بدا غريبًا إن لم يكن سخيفًا تمامًا. لكن اليوم، فكرة أنَّ ما نفعل كلَّ يوم، على نحوٍ فرديٍّ وجماعي، قد يُؤثِّر على رفاهية البشر والمحيط البيئي في العام ٢٥٠٠ واقعية جدًّا. وهي أمرٌ مَحتوم كذلك، في واقِع الأمر.

أخذَتْ حضارَتُنا مَساراتٍ عديدة خاطئة في التطوُّر التقني، وهذه المَسارات قادَتْنا بعيدًا عن مُستقبِل مُستدام. وكمثالٍ مَحلي لذلك، لنتأمَّل ولاية بنسلفانيا وموقفها من الطاقة. بلغ عدد سكان هذه الولاية ١٢٫٥ مليون نسمة في أكتوبر ٢٠٠٨. صَنَّفت وزارة الطاقة بنسلفانيا الثالثة في انبعاثات الكربون (٢٨٤ مليون طن متري) بعد تكساس (نحو ٢٥ مليون نسمة، ٦٢٥٫٢ مليون طن متري)، وكاليفورنيا (نحو ٣٧ مليون نسمة، ٣٩٥٫٥ مليون طن متري)؛ لهذا، نَصيب الفرد من تلوُّثِ الغلاف الجوِّي في ولاية بنسلفانيا هو من أسوأ ما يكون. ظلَّتْ ولاية بنسلفانيا ولاية فحمٍ كبيرة لمدَّةٍ طويلة لكن خلال السنوات الأخيرة، عُثر على مُستودَع كبير للغاز في عُمق الأرض في صخرة رُسوبية تعود للعصر الديفوني وتُدعى «مارسيلس شيل». يقَعُ جُزء كبير من حقل الغاز الهائل هذا تحت ولاية بنسلفانيا ويُعتقَد أنه من الممكن حاليًّا استخراج نحو ١٠٪ من هذا؛ أي ٥٠ تريليون قدَم مُكعبة. «عملية التكسير» المستعملة تتضمَّن حقْن المياه والرمل ومئات المواد الكيمائية عند ضغط عالٍ في الصخر على طول أعمدة الحَفر الأفقية المنتشِرة من عمودٍ رأسي مركزي. يحدُث تكسير للصخر على طول المسالك الأُفقية أولًا عن طريق التفجير وبعد ذلك عن طريق حقْن سوائل التكسير تحت ضغطٍ مُرتفِع. وتشمل المواد الكيميائية المحقونة في هذه الموائع مُسرطنات وموادَّ تُسبِّب اضطرابات في النمو. تعود نِسبة كبيرة إلى السطح مع الغاز وتتجمَّع في حُفَر مفتوحة مِمَّا يؤدي إلى تلوُّث المياه والهواء والتربة. بعض الناس يمرَضون بسُرعة. يُمكن لكثيرٍ من الناس إشعال عود ثقاب في حوض المطبخ الخاص بهم وسوف تتوهَّج المياه التي تخرُج من الصنبور. لكن قيمة الأموال التي يتعيَّن الحصول عليها كبيرة. وفي الوقت الراهن، غالبًا ما يُعدُّ تعدين الغاز محليًّا دفعةً قوية للاقتصاد. الأسئلة الصَّعبة المرتبِطة بتغيُّر المناخ في الماء وجَودة الهواء والصحَّة يَطغى عليها الحماس الذي تُولِّده الإمكانات الاقتصادية القصيرة المدى؛ لذا، من المحتمَل أن تُطوِّر بنسلفانيا حقل مارسيلس لدعم الاقتصاد المحلي. وبيعت بالفعل أغلب حقوق التنقيب على أراضي الولاية. وفي حين أنَّنا سنحصل على الطاقة والدخل على المدى القريب، فإن الجُزر المنخفِضة والأراضي الساحلية في أرجاء العالم من المرجَّح أن تَستمِرَّ في الاختفاء تحت الماء. من المرجَّح أن تُسهِم أنشِطتُنا فيما يتَّصِل بالفحم والغاز الطبيعي في ذَوبان الجليد وارتفاع منسوب المياه. وستكون المياه العَذبة والأراضي في ولاية بنسلفانيا مُلوَّثة بالمواد الكيميائية المستخدَمة في التكسير والمعادن التي تصِل إليها. بعض هذه المواد الكيميائية والمعادن شديد السُّمِّية، ربما لفترةٍ قادمة طويلة جدًّا. وإذا اعتبرْنا بالتاريخ، فإن شركات التنقيب عن الغاز واستكشافه لن تدفع تعويضًا عن هذه الأضرار البالغة التي تلحَقُ بالصحَّة والبيئة.

في عام ٢٠٠٥، أقرَّ الكونجرس قانون الماء النظيف، وغيره من القوانين التي تحمي الصحة والبيئة. التراجُع عن هذا شيء يُمثِّل خطورة على الصحة والبيئة. وانسجامًا مع ثقافتنا، أعتقِد أن أفضل سبيل للخروج من هذه الأزمة (مع ترك الغاز مكانه) يكمُن في قُدرة قادة البلاد على الإبقاء على أسعار الطاقة مُنخفضة من خلال الترويج السريع للطاقة الشمسية المستدامة حيث يُمكن أن يُقدِّم الكيميائيون الكثيرَ من الإسهامات. إذا أرسَتِ الطاقة الشمسية دعائمها بالسرعة الكافية، فمِن الممكن أن تلعب ولاية بنسلفانيا دَورًا مُهمًّا عن طريق تحويل بعض مواردها الهائلة من الوقود الأحفوري نحو التوسُّع في تصنيع وإنتاج المعدَّات التي يحتاجها التحوُّل إلى الطاقة الشمسية. البنسلفانيون فخورون بحقيقة أنَّ جميع أجزاء طواحين الهواء الكبيرة تُصنَّع في ولايتهم؛ نأمُل أن يكون لنا إسهام قوي في تطبيقات تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربية وغير ذلك من تطبيقات الطاقة المتجدِّدة.

يُسلِّط جوناس الضوء على تحديات الطاقة وغيرها من تحديات الاستدامة من خلال حثِّنا على الارتقاء بعقلِيَّتنا بوجهٍ عام؛ فهو يدعو بأسلوبٍ نثري قوي إلى وَضْع أخلاقياتٍ جديدة تؤكد مَسئوليتنا في تسخير قُوانا الهائلة في تحسين حياة البشر في المستقبل؛ «المسئولية ترتبِط ارتباطًا وثيقًا بالقوة». ويقترِح جوناس أخلاقيات جديدة، قد نُطلِق عليها اليوم أخلاقيات الاستدامة، للتعامُل مع القوى التي يتأتَّى لنا استخدامها من خلال العلم والتكنولوجيا «في سبيل حماية حياة الإنسان وبشريته من تجاوزات القوة الخاصَّة به». المبدأ الأسمى لهذه الأخلاقيات هو أنه ينبغي على المرء أن «يتصرَّف بحيث تكون الآثار المترتِّبة على أفعاله مُتوافِقة مع ديمومة الحياة البشرية الحقَّة». نظرًا لأنَّ الكيمياء تُمثِّل إلى حدٍّ كبير جُزءًا لا يُستهان به من قوتنا الجديدة، لا سيما أننا نعيش في عالَمٍ تتسبَّب فيه المواد الكيميائية المخلَّقة في اضطراب الغُدَد الصمَّاء؛ ثَمَّة تشابُك وَثِيق وغير قابل للفصل بين أخلاقيات الاستدامة والكيمياء. لذلك، خلال تدريسي للكيمياء الخضراء، أطلب من طُلَّابي أن يقرءوا ويُقيِّموا كتاب «المسئولية الواجبة: بحثًا عن الأخلاق من أجل العصر التكنولوجي» لجوناس وكتاب «مُستقبلنا المسروق» لكولبورن ودومانوسكي ومايرز وكتاب «الخداع والإنكار» لماركوفيتس وروزنر. يذهلني في كل عام المقالات التي أقرؤها بسبب بلاغتها وعُمق أفكارها.

تذكَّري دائمًا أن الفكرة الأساسية للكيمياء الخضراء بسيطة؛ وهي أن كيميائيِّي الكيمياء الخضراء يُصمِّمون حلولًا لمواجهة المخاطر من أجل بناء تكنولوجيا مُستدامة. وفي سبيل الاعتناء بالعالَم من أجل البشر في المستقبل، يجب علينا ابتكار طاقةٍ آمنة، لا سيما من خلال سَنِّ قوانين تُشرِّع التحويلات الجذَّابة فنيًّا للطاقة الشمسية إلى طاقةٍ كهربية وكيميائية والتي من شأنِها أن تشهد تحسُّنًا بمرور الوقت. يجب أن نُطوِّر كيمياء المواد الأولية المتجدِّدة لصُنع منتجات عالية القيمة من مادَّةٍ نباتية حديثة بدلًا من مادة نباتية أُحفورية. ويجب علينا التقليل من المركَّبات الخطرة أو إزالتها من القاعدة التكنولوجية. كلما زادت درجة الخطورة، زادت أهمية تحدِّي تصميم الكيمياء الخضراء. من المؤكد أن كيميائيي الكيمياء الخضراء يتعيَّنُ عليهم أن يفهموا على مستوًى أعمق الأخطار التي يُصمِّمون حلولًا من أجل مُجابهتها بها، وهذا الشرط يطرَح مَهامَّ جديدة ومُثيرة لا سيما فيما يتعلَّق بالسُّمِّيات الأكثر تعقيدًا، مثل اضطرابات الغُدَد الصمَّاء التي تحتاج إلى خِبرةٍ مُتعدِّدة التخصُّصات. ولهذا السبب، يعمل كيميائيُّو الكيمياء الخضراء جنبًا إلى جنبٍ مع علماء الصحة البيئية في سبيل بناء تحالُفٍ يهدُف إلى تحقيقٍ قائم على العِلم لتخليص العالَم من معيقات التنمية.

أنجيلا، أعتقِد أنَّ الأمور سوف تَسير على ما يُرام بالنسبة إلى حضارتنا بفضل الشباب أمثالك. سوف يُشرِف جيلك على تحوُّلٍ في الأبحاث الكيميائية في الجوانب الثلاثة العامَّة التي نُوقِشت أعلاه. وعندما تُصبحين أستاذةً في علم الكيمياء، أعتقِد أنك ستعتبرين أنه من الطبيعي تمامًا تدريس أخلاقيات الاستدامة في فصول الكيمياء. إنَّني على يقينٍ من أنك سوف تُواصِلين التوسُّع في تعليم السُّمية والسُّمية البيئية في مناهج الكيمياء الأساسية لتأهيل الكيميائيين على نحوٍ أفضل لتصميم حلولٍ فعَّالة مع أخذ صحة الإنسان والبيئة في الاعتبار. وبينما تتوسَّع الكيمياء الخضراء ويلتحِق المزيد من الشباب بها، سيُصبح جيلك هو الأهم في بناء البُعد التكنولوجي للحضارة المستدامة.

خالص التحية
تيري

قراءات إضافية

  • Anastas, P. T.; Warner, J. C. Green Chemistry: Theory and Practice, Oxford University Press, Oxford, New York, Tokyo, 1998.
  • Colborn, T.; Dumanoski, D.; Myers, J. P. Our Stolen Future, Penguin Group, New York, 1996. Available at http://www.ourstolenfuture.com.
  • Collins, T. J. Green chemistry. In Macmillan Encyclopedia of Chemistry, Vol. 2, Lagowsky, J. J. (ed.), Simon and Schuster Macmillan, New York, 1997, pp. 691–697. Available at http://www.chem.cmu.edu/groups/collins/.
  • Collins, T. J. Toward sustainable chemistry. Science 2000, 291, 48-49.
  • Collins, T. J. Persuasive communication about matters of great urgency: Endocrine disruption. Environmental Science & Technology 2008, 42, 7555–7558.
  • Collins, T. J.; Walter, C. Little green molecules. Scientific American 2006, 294, 82–90.
  • Collins, T. J.; Khetan, S. K.; Ryabov, A. D. Iron-TAML catalysts in green oxidation processes based on hydrogen peroxide. In Handbook of Green Chemistry, Anastas, P. T.; Crabtree, R. H. (eds.), Wiley-VCH Verlag GmbH and KgaA, Weinheim, 2009.
  • Grossman, E. Chasing Molecules: Poisonous Products, Human Health and the Promise of Green Chemistry, Island Press, Washington, DC, 2009.
  • Jonas, H. The Imperative of Responsibility: In Search of an Ethics for the technological Age, University of Chicago Press, Chicago, 1984.
  • Markowitz, G.; Rosner, D. Deceit and Denial: The Deadly Politics of Industrial Pollution, University of California Press, Berkeley, CA and Los Angeles, 2002.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤