الفصل الأول

مقدمة إلى المرونة العصبية

إذا سألت في محرِّك البحث «جوجل» عن «إعادة تهيئة دماغك»، فستُعطيك خاصيةُ الاستكمال التلقائي الموجودة به قائمةً بأشهر مصطلحات البحث المستخدَمة مع هذه العبارة. ووفقًا لنتائج عملية البحث هذه، يمكنك على سبيل المثال إعادةُ تهيئة دماغك للحب وللسعادة ولتحقيقِ قدرٍ أكبر من النجاح في العمل، وحتى لإيجاد المعنى في حياتك. ومع الاطلاع على مزيد من نتائج البحث، تحصل على خياراتٍ أكثرَ مثل: إعادة تهيئة دماغك للتفكير بإيجابية، ولتنمية الثقة بالنفس، وللتمتُّع بنومٍ أفضل، ولتجنُّب التسويف. إذا كان الإنترنت جديرًا بالتصديق، فإنك تستطيع إعادةَ تهيئة دماغك لتحسين أي جانب من جوانب سلوكك؛ ومن ثَم فإن إمكانية تغيير حياتك تكمُن في قدرتك على التغيير الواعي لتلك الكتلة من اللحم التي تزن ١٫٤ كيلوجرامًا وتوجد في داخل رأسك.

فما معنى «إعادة تهيئة دماغك» في حقيقة الأمر؟ تشير هذه العبارة إلى مفهوم المرونة العصبية، وهو مصطلح عامٌّ للغاية يدل ببساطة على حدوث تغييرٍ ما في الجهاز العصبي. قبل خمسين عامًا فحسب، كان التفكير بأن الدماغ البالغ يمكن أن يتغيَّر بأي طريقة يُعَد نوعًا من الهرطقة. لقد قَبِل الباحثون أن الدماغ غير الناضج طيِّع، لكنهم اعتقدوا أيضًا أنه يزداد صلابةً بمرور الوقت، وكأنه صلصال يُصَب في قالب ثم يتحوَّل إلى بنيةٍ ثابتة مع انتهاء مرحلة الطفولة. كانوا يعتقدون أيضًا أننا نولد بجميع خلايا الدماغ التي سنمتلكها طَوال الحياة، وأن الدماغ غير قادر على إعادة تجديد نفسه؛ ومن ثَم فلا يمكن إصلاح أي تلف أو إصابات تُحيق به.

والواقع أن ذلك بعيدٌ كلَّ البعد عن الحقيقة؛ فليس الدماغ البالغ قادرًا على التغير فحسب، بل إن ذلك يحدث بالفعل على مدار الحياة، استجابةً لكل شيء نقوم به وكل خبرة نمرُّ بها. لقد تطوَّرت الأنظمة العصبية كي تمكِّننا من التكيف مع البيئة وتحديد المسار الأفضل في أي موقف محدَّد، بناءً على المعرفة المكتسبة من الخبرات الماضية. لا ينطبق هذا على البشر فحسب، بل على جميع الكائنات التي تمتلك أجهزةً عصبية. معنى هذا أن الأجهزة العصبية قد تطوَّرت لتتغير؛ ومن ثَم فالمرونة العصبية خاصيةٌ جوهرية متأصلة في جميع الأجهزة العصبية.

وبناءً على هذا، فإن مفهوم المرونة العصبية يتخلل جميعَ فروع أبحاث الدماغ، ويسلِّم علماء الأعصاب بأنَّ أي تجرِبة يقومون بها ستحفِّز تغييرًا ما في الجهاز العصبي للكائن الخاضع للدراسة. يضع مختلِف الباحثين تعريفاتٍ مختلفةً للمرونة العصبية، وفقًا للجانب المحدَّد الذي يدرسونه من الدماغ والسلوك، والحق أنَّ المصطلح غامض للغاية، حتى إنه صار بلا معنًى فعليًّا حين يُستخدم بمفرده دون توضيح للنوع الدقيق من تغيرات المرونة التي تحدث. على أي حال، فإنَّ الفكرة القائلة بأننا نستطيع تشكيل أدمغتنا عن قصد للتغيير من أنفسنا، فكرةٌ جذَّابة؛ ولهذا فقد أسرَ المفهوم مخيِّلة الجمهور.

«ليس الدماغ البالغ قادرًا على التغير فحسب، بل إنَّ ذلك يحدث بالفعل على مدار الحياة، استجابةً لكل شيء نقوم به وكل خبرة نمرُّ بها.»

لقد صارت المرونة العصبية كلمةً رائجة في الكثير من المجالات المختلفة في الوقت الحالي. وأصبحت عبارة «إعادة تهيئة دماغك» أشبه بشعار للمُتحدثين في مجال التحفيز ورُواد تطوير الذات، إضافةً إلى أن خبراء التعليم ومديري الأعمال يستدعونه في محاولاتهم لتعزيز التعليم وتحسين مهارات القيادة. بالرغم من ذلك، فكثيرة هي المفاهيم الخاطئة عن المصطلح، وعادةً ما يُساء تعريف المرونة العصبية في هذه السياقات، وكثيرًا ما تُفهَم على نحوٍ خاطئ. يعتقد البعض على سبيل المثال أنَّ المرونة العصبية لها قدراتٌ مدهشة في الشفاء، ويقول البعض إنهم يستطيعون تعزيزها ببعض المنتجات أو علاجات «العصر الجديد»، لكنَّ هذه المزاعم غالبًا ما تُضخَّم بدرجة هائلة، وفي بعض الأحيان تكون دون أساس على الإطلاق.

تاريخٌ موجَز عن المرونة العصبية

كثيرًا ما توصَف المرونة العصبية بأنها اكتشافٌ ثوري جديد، لكن المفهوم كان موجودًا بصورة أو بأخرى منذ ما يزيد على مائتَي عام. ففي بداية ثمانينيات القرن الثامن عشر، تعالج المراسلاتُ بين عالم الطبيعة السويسري شارل بونيه وعالم التشريح الإيطالي ميكيلي فينشينسو مالاكارني، احتماليةَ أن يؤدي التمرين العقلي إلى نمو الدماغ، وتَرِد في هذه المراسلات أيضًا طُرقٌ متعددة لاختبار الفكرة تجريبيًّا. قام مالاكارني بذلك حينذاك باستخدام جروَين توءمَين وطائرَين من مجموعة البَيض نفسِها. درَّب مالاكارني جروًا واحدًا من التوءمَين وطائرًا واحدًا من الطائرَين تدريبًا مكثفًا على مدار سنوات عديدة، ثم فحص أدمغتها جميعًا، وزعم أنَّ حجم المخيخ في الحيوان والطائر المدرَّبَين كان أكبر كثيرًا مما هو عليه في الحيوان والطائر غير المدرَّبَين.

بعد ذلك بفترة قصيرة، ناقَش الطبيب الألماني صمويل توماس فون سوميرينج الفكرةَ نفسَها في كتاب شهير في علم التشريح نُشِر عام ١٧٩١، وكتب فيه: «هل يؤدي استخدام القدرات الذهنية وتطويرها إلى تغيير التركيب المادي للدماغ تدريجيًّا، على النحو الذي نراه على سبيل المثال في العضلات التي تُستخدم كثيرًا فتصبح أقوى، وفي طبقة الجلد الخارجية التي تزداد سمكًا بزيادة العمل الشاق؟ ليس ذلك الاحتمال ببعيد، غير أنَّنا لا نستطيع إثبات ذلك بالمشرط بسهولة.»

وفي بداية القرن العشرين، أشار يوهان سبورزهايم، وهو أحد مؤسسي علم فِراسة الدماغ، إلى إمكانيةِ تحفيز تطوُّر القدرات العقلية وبنية الدماغ المرتبطة بها من خلال التمرين والتعليم. وكان جان بابتيست لامارك أيضًا — وهو من مُعارضي تشارلز داروين؛ إذ كان يرى أنَّ التطور يحدث من خلال وراثة الصفات المكتسبة — يعتقد أنَّ هناك مناطقَ متخصصةً في الدماغ تتطور من خلال الاستخدام الملائم للقدرات المرتبطة بها.1

في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، طوَّر عالِم الفسيولوجيا ثيودور شوان وعالِم النبات ماتياس شلايدن، نظريةَ الخلية التي نصَّت على أنَّ الخلايا هي وحدات البناء الأساسية لجميع الكائنات الحية. بالرغم من ذلك، لم تكن المجاهر المتوفرة في ذلك الوقت قويةً بما يكفي لإيضاح تفاصيل النسيج العصبي التي تتسم بقدرٍ أكبرَ من الدقة. فلم يكن من الواضح بعدُ ما إن كانت نظرية الخلية تنطبق على الجهاز العصبي أيضًا أم لا، وشهد القرن التاسع عشر جدالًا بشأن التركيب الدقيق للدماغ والحبل الشوكي. وانقسم الباحثون حينها إلى معسكرين: معسكر مؤيدي الخلايا العصبية الذين كانوا يعتقدون أنَّ الجهاز العصبي يتكوَّن كجميع الكائنات الحية الأخرى من خلايا، ومعسكر الشبكيين الذين كانوا يعتقدون أنَّه يتألَّف من رقاقة ممتدة من النسيج.

حُسِم الخلاف أخيرًا في تسعينيات القرن العشرين، ويعود الفضل في ذلك بدرجةٍ كبيرة إلى عالِم التشريح العصبي الإسباني سانتياجو رامون إي كاخال. فباستخدام التطور الذي أُحرِز في المجاهر والطرق الحديثة في الصبغ، فحص كاخال أنسجةً عصبية من أنواع مختلفة، ومنها النوع البشري، وقارن بينها، ثم وثَّق ملاحظاته برسوماتٍ جميلة؛ إذ كان فنَّانًا متمكِّنًا. وبناءً على عمله الخاص، إضافةً إلى أعمال آخرين، جمع أدلةً كافية تُقنع المجتمع العلمي بأنَّ النسيج العصبي يتكون من خلايا تُسمى بالعَصَبونات يتصل بعضها ببعض. وبذلك، أسَّس علم الأعصاب الحديث بصفته مجالًا مستقلًّا في حد ذاته، وهو يُعَد اليوم مؤسسَ هذا العلم.2

لقد تنبَّأ داروين بالمرونة العصبية في كتابه «أصل الإنسان» المنشور عام ١٨٧٤. فكتب فيه: «لقد أوضحت أنَّ أدمغة الأرانب المستأنسة أقلُّ في الحجم بدرجةٍ ملحوظة من أدمغة الأرانب البرية، ويمكن أن يُعزى السبب في ذلك إلى تقييدها في مكانٍ ضيق على مدار أجيال عديدة؛ فلم تستخدم قدراتها العقلية وغرائزها وحواسها وحركاتها الإرادية إلا قليلًا.»

fig1
شكل ١-١: (أ) رسم تخطيطي يوضِّح البِنى الأساسية في الخلية العصبية. (https://commons.wikimedia.org/wiki/Neuron#/media/File:Neuron_-_annotated.svg, CC BY-SA 3.0). (ب) عَصَبونات هرمية من طبقات مختلفة ومناطق مختلفة في القشرة المخية، وفقًا لرسومات كاخال.

بالرغم من ذلك، ظهر مصطلح «المرونة» للمرة الأولى عام ١٨٩٠ في كتاب بعنوان «مبادئ علم النفس» من تأليف ويليام جيمس. في هذا الكتاب يعرِّف جيمس المرونةَ على أنها «امتلاك بنية ضعيفة بما يكفي لأن تخضع لمؤثرٍ ما، لكنها قوية بما يكفي لئلا تخضع بالكامل على الفور»، وهو يشرح تشكيل العادات من منطلق تعزيز وصلات المشابك العصبية، وتكوين وصلات جديدة: «إذا كان السبب في العادات هو مطاوعة المواد للعوامل الخارجية، فيمكننا أن نرى على الفور المؤثرات الخارجية التي تصبح مادةُ الدماغ مطاوعةً لها، هذا إن كانت مثل هذه المؤثرات موجودة أصلًا … ويبدو أنَّ تلك التيارات المصغرة على نحوٍ لا نهائي، والتي تتدفَّق عبر [الجذور العصبية الحسية] هي الأكثر تأثيرًا في القشرة الدماغية. ففور أن تدخل التيارات، لا بد أن تجد طريقًا للخروج. وعند خروجها، تترك آثارها في المسارات التي تتخذها. والشيء الوحيد الذي «تستطيع» فعله باختصار هو تعميق المسارات القديمة، أو عمل مسارات جديدة.»

في عام ١٨٩٤، اقترح كاخال أنَّ المرونة تحدُث في الوصلات الموجودة بين الخلايا العصبية، وأنَّ التمرين العقلي يؤدي إلى نمو تفرُّعات ألياف عصبية جديدة. وقد قال في محاضرة ألقاها في الجمعية الملكية بلندن: «ليست نظرية التشجُّر الحر لغصونٍ خلويةٍ قادرة على النمو مرجَّحةً جدًّا على ما يبدو فحسب، بل مشجعة للغاية أيضًا. إنَّ شبكةً ممتدة مؤسَّسة مسبقًا، أي ما يشبه نظامًا من الأسلاك التلغرافية دون أي إمكانية لوجود محطات جديدة أو خطوط، هي شيءٌ صلب وغير قابل للتعديل؛ مما يعارض انطباعنا بأنَّ عضو التفكير طيِّع إلى حدٍّ ما … لا سيَّما خلال فترة النمو … يمكننا القول إنَّ القشرة المخية أشبه بحديقةٍ مزروعة بعددٍ لا يُحصى من الأشجار التي تمثل الخلايا الهرمية، وبسبب الأسلوب الذكي في الزراعة يمكنها مضاعفة فروعها وغرس جذورها على أعماقٍ أبعد، فتُنتج ثمارًا وزهورًا تختلف اختلافًا كبيرًا في تنوعها وجودتها.»

بعد ذلك بثلاث سنوات، أطلق عالِم الفسيولوجيا العصبية البريطاني، تشارلز شرينجتون على هذه الوصلات اسم «المشابك العصبية» synapses، وهو اسم مشتق من الكلمة اليونانية syn بمعنى «معًا» والكلمة haptein بمعنى «يشبك»، وذكر أنَّ المشابك العصبية هي على الأرجح المواقع التي يحدُث فيها التعلم. أشار شرينجتون بوضوح إلى تقوية المشابك العصبية: «لما كانت الخلية العصبية لا تمتلك أي فرصة في مضاعفة نفسها، فإنها توجِّه طاقتها المكبوتة إلى تقوية صلاتها مع رفاقها من الخلايا، استجابةً للأحداث التي تحفزها.»

عارَض البعض المفهوم القائل بأنَّ التعلم قد يحفز نمو تفرعات جديدة من الأنسجة العصبية، مشيرين إلى أنَّ الاختلاف في حجم الدماغ أقل كثيرًا من الاختلاف في حجم أي عضو آخر، وأنَّ حجم الدماغ يظل ثابتًا على مدار الغالبية العظمى من حياة الفرد. فنَّد كاخال هذا الاعتراض باقتراح «التضاؤل في أجسام الخلايا أو في مناطق أخرى لا ترتبط وظائفها بالذكاء على نحوٍ مباشر».

بالرغم من ذلك، يبدو أنَّ كاخال قد غيَّر رأيه بعد عشر سنوات. فقد ورد في كتابه «تداعي الجهاز العصبي وتجديده» المنشور عام ١٩١٣: «فور انتهاء النمو، تجفُّ ينابيع نمو المحاور والزوائد الشجيرية دون رجعة. في المراكز البالغة، تكون المسارات العصبية ثابتةً ومنتهية وغير قابلة للتغيير. يمكن لكل شيء أن يموت، وما من شيء يمكن أن يولد من جديد.» سرعان ما أصبح هذا الرأي إحدى العقائد الأساسية في علم الأعصاب، واتفق الباحثون على أنَّ الدماغ لا يتأثر ماديًّا بالتعلم أو الخبرة أو التدريب.3

ثورة في علم الأعصاب الحديث

استمرَّت هذه العقيدة حتى منتصف القرن العشرين. وفي ستينيات القرن، توصَّل عالِما الفسيولوجيا ديفيد هوبل وتورستن فيسل إلى مجموعة من الاكتشافات البارزة بشأن كيفية تأثير الخبرات الحسية في الدماغ النامي، وقدَّم عالِم الأعصاب بول باخ إي ريتا أدلةً على أنَّ الدماغ البالغ ليس ثابتًا بالرغم من كل شيء، وذلك باستخدام جهاز «تعويض حسي» أتاح لمكفوفي البصر «الرؤية» من خلال حاسة اللمس. إضافةً إلى ذلك، ذكر عدد من الباحثين الآخرين أنهم شهدوا ولادة خلايا جديدة في أدمغة حيوانات بالغة من أنواع مختلفة، لكنهم تعرَّضوا بصفة عامة للتجاهل أو السخرية.

بعد ذلك في عام ١٩٧٣، أعلن تيم بليس وتيري لومو، عن اكتشاف التقوية الطويلة الأمد (التي تُعرف اختصارًا ﺑ LTP)، وهي آلية فسيولوجية يمكن تعزيز المشابك العصبية من خلالها على مدار فترات طويلة من الزمن. وقد كان ذلك اكتشافًا بارزًا آخر. واليوم يُعَد تعديل المشابك العصبية هو الأساس الخلوي للتعلم والذاكرة؛ ولهذا فإنَّ التقوية الطويلة الأمد هي أكثر ما خضع من أنماط المرونة العصبية للدراسة، وأكثر ما نفهمه منها جيدًا. منذ هذا الاكتشاف الأولي، جمع الباحثون قدرًا هائلًا من المعرفة بشأن الآليات الجزيئية التي تقوم التقوية الطويلة الأمد على أساسها، وما يرتبط بها من العمليات. بالرغم من ذلك، فمن المفارقات أنَّ هذا العمل لا يخبرنا إلا بالقليل عن الطرق التي يمكن تحسينُ التعلم والذاكرة من خلالها.

في نهاية تسعينيات القرن العشرين، ظهر المزيد من الأدلة المباشرة على المرونة العصبية، وذلك مع اكتشاف الخلايا الجذعية العصبية في الدماغ البالغ. كان هذا الدليل هو أكثرَ ما أقنع المجتمع العلمي، وتحوَّل إجماع الآراء مرةً أخرى إلى تأييد المرونة العصبية التي أُشيد بها بصفتها اكتشافًا ثوريًّا جديدًا غيَّر جميعَ ما كنا نظن أننا نعرفه عن الدماغ. والآن مع توفُّر التقنيات التكنولوجية الأكثر تقدمًا، يمكن لعلماء الأعصاب تصوُّر الدماغ بتفصيلٍ غير مسبوق، والتدخل في النشاط العصبي بدقة هائلة. وقد كشفت هذه الطرق الجديدة عن العديد من الأنماط الأخرى للمرونة العصبية ووضَّحت بعض الآليات التي تقوم عليها.

تتجلى المرونة العصبية في الكثير من الأشكال على كل مستوًى من مستويات منظومة الجهاز العصبي، بدءًا من أدنى مستويات النشاط الجزيئي وحتى المستوى الأعلى المتمثل في الأنظمة على نطاق الدماغ بأكمله والسلوك.

تتجلى المرونة العصبية في الكثير من الأشكال على كل مستوًى من مستويات منظومة الجهاز العصبي، بدءًا من أدنى المستويات التي تتضمَّن النشاط الجزيئي وتركيب الخلايا المفردة ووظيفتها، وحتى المستويات المتوسطة المتمثلة في المجموعات المنفصلة من الخلايا العصبية وشبكات الخلايا العصبية الواسعة الانتشار، وحتى المستوى الأعلى المتمثِّل في الأنظمة على نطاق الدماغ بأكمله والسلوك. يحدُث بعض هذه الأشكال باستمرار على مدار الحياة، بينما لا يحدث بعضها إلا في فتراتٍ محدَّدة، ويمكن تحفيز الأنواع المختلفة كلٌّ على حدة أو تحفيزها معًا.

وبصفة عامة، يوجد نوعان أساسيان من المرونة العصبية. أولهما المرونة الوظيفية التي تتضمَّن تغيرات في جانبٍ فسيولوجيٍّ ما من وظيفة الخلية العصبية، مثل تكرار النبضات العصبية أو احتمالية إصدار إشارة كيميائية، وكلاهما يهدف إلى تقوية صلات المشابك العصبية أو يهدف إلى إضعافها، أو تغيرات في درجة التزامن فيما بين تجمعات الخلايا. ويتمثَّل النوع الثاني في المرونة البنيوية التي تتضمَّن تغيرات في الحجم على مستوى مناطق الدماغ المنفصلة وتشكيل مسارات عصبية جديدة، تنتج إما عن تفرعات جديدة من المشابك العصبية والأنسجة، أو عن نمو خلايا جديدة وإضافتها.

تحدث هذه الأنماط المختلفة من المرونة على نطاقٍ زمني واسع. فيمكن لتعديل المشابك العصبية أن يحدُث على نطاقٍ زمني من الملِّي ثانية، وتتشكَّل تفرعات المشابك العصبية والزوائد الشجيرية أو تُدمَّر في غضون عدة ساعات، ويمكن أن تولَد خلايا جديدة أو تُقتَل على مدار أيام. وتحدُث بعض الأنواع الأخرى من المرونة العصبية على مدار فتراتٍ زمنية أطول؛ فنضوج الدماغ على سبيل المثال يتضمَّن فترةً ممتدة من المرونة الزائدة التي تستمر من الطفولة المتأخرة حتى بداية البلوغ، ويؤدي فقدان المرء حاسةَ البصر أو السمع أو التعرُّض لتلفٍ في الدماغ إلى تغييرات تدريجية تحدُث على مدارِ أسابيع وشهور وسنين تالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤