الفصل الثاني

التعويض الحسي

في بداية القرن التاسع عشر، بدأ علم الأعصاب في الازدهار؛ إذ بدأ الباحثون في فحص الدماغ وصياغة نظريات جديدة بشأن كيفية ارتباط بنيته وطريقة عمله بالسلوك والوظائف العقلية.

خلال النصف الأول من القرن كانت فِراسة الدماغ هي التي تغلب على المجال، وهي فرع من فروع العلم الزائف كان يحاول تحديد الصفات العقلية للأشخاص من قياسات الجمجمة. ساءت سمعة هذا النهج في نهاية المطاف، ممهِّدًا الطريق لنظريةٍ أخرى تُسمى بتموضع الوظائف الدماغية، وتقول بأنَّ الدماغ يتألف من مناطقَ تشريحية متمايزة يختص كلٌّ منها بأداء وظيفة محددة.

أدَّت الدراسات والأبحاث اللاحقة إلى تحديد مناطق الإحساس ومناطق الحركة في الدماغ؛ مما أوضح أنها ليست فقط مسئولة عن الشعور والحركة على الترتيب، بل إنَّ كلًّا منهما دائمًا ما يوجد في الجزء نفسه من الدماغ. وبهذا، حين وُلدَت العلوم العصبية الحديثة قرابةَ مطلع القرن العشرين، كانت الفكرة القائلة بأنَّ القشرة المخية تتألف من مناطقَ متمايزة مخصَّصة للغة واللمس والرؤية إلى آخرِ ذلك قد ترسَّخت بالفعل.

بالرغم من ذلك، ومع مرور الوقت، بدأت بعض الأدلة في الظهور لتؤيد أنَّ القشرة المخية مرنةٌ للغاية في واقع الأمر، وأنَّ ما يُسمى بتنظيم الدماغ وفقًا لوحداتٍ نمطية، ليس ثابتًا على أي حال. تأتي معظم هذه الأدلة من دراساتٍ أُجريَت على مكفوفي البصر والصُّم الذين حُرِمَت أدمغتهم تمامًا من نوع محدَّد من المدخلات الحسية. تُثبت هذه الدراسات بوضوح أنَّ هذه المناطق القشرية ليست متخصصةً بالدرجة التي كنا نعتقد أنها عليها من قبل؛ فليست المناطق البصرية والسمعية في القشرة على سبيل المثال قادرةً على معالجة المعلومات الواردة من أعضاءٍ حسيةٍ أخرى فحسب، بل يمكنها أيضًا المشاركة في العمليات غير الحسية كاللغة.

من فِراسة الدماغ إلى تموضع الوظائف الدماغية

تأسَّس علم فِراسة الدماغ على يد عالِم التشريح العظيم فرانز جوزيف جال، الذي ذكر أنه صاغ أفكاره للمرة الأولى وهو في عمر التاسعة. فحين كان جال تلميذًا في المدرسة، لاحظ أنَّ أحد زملائه في الفصل كان يتمتَّع بذاكرةٍ استثنائية للكلمات، ويتمتع أيضًا بعينين جاحظتين، وكان يعتقد أنَّ هاتين الصفتين تظهران معًا في آخرين. كتب جال عن ذلك قائلًا: «بالرغم من عدم امتلاكي أي معرفة سابقة، فقد استحوذت عليَّ فكرةُ أنَّ هذا الشكل للعينين يدل على ذاكرة ممتازة. وتساءلت في نفسي بعد ذلك: إذا كانت الذاكرة تتضح من خلال صفة جسدية، فلمَ لا ينطبق ذلك على سماتٍ أخرى؟ وكان ذلك هو الحافز الأول لجميع أبحاثي.»

«بالرغم من ذلك، فمع مرور الوقت بدأت بعض الأدلة في الظهور لتؤيد أنَّ القشرة المخية مرنةٌ للغاية في واقع الأمر، وأنَّ ما يُسمى بتنظيم الدماغ وفقًا لوحدات نمطية ليس ثابتًا على أي حال.»

بدأ جال في إلقاء محاضرات عن فِراسة الدماغ في عام ١٧٩٦، بعد تخرُّجه من مدرسة الطب بسنة واحدة، ونشر نظريته للمرة الأولى عام ١٨٠٨. كان يعتقد أنَّ المنطقة الموجودة فوق العينين هي المسئولة عن «ملَكة الانتباه للكلمات وتمييزها، وتذكُّر الكلمات، أو الذاكرة اللفظية.» بعد ذلك، وثَّق حالتَي رجلين لم يستطيعا تذكُّر أسماء الأقارب والأصدقاء نتيجةً لجروح بالسيف فوق العين، واعتبر ذلك تأكيدًا لملاحظاته المبكرة وهو في المدرسة.

وكان يعتقد أنَّ «الميول التخريبية» توجد فوق الأذن؛ إذ كانت هذه المنطقة بارزةً في طفلٍ آخرَ بالمدرسة كان «مولعًا بتعذيب الحيوانات»، وفي صيدلاني أيضًا أصبح فيما بعدُ منفِّذًا لحكم الإعدام. وذكر أنَّ الموضع الخاص بصفة «حب الامتلاك» يوجد أبعدَ إلى الخلف قليلًا؛ إذ بدت هذه المنطقة كبيرةً على نحوٍ غير متناسب في النشَّالين الذين قابلهم، ونسب «المثالية» إلى منطقةٍ كان يعتقد أنها بارزة في تماثيل الشعراء والكُتاب والمفكرين العظام، وهي تلك المنطقة التي يفركونها في رءوسهم خلال الكتابة.

جمع جال أربعمائة جمجمة تقريبًا على مدار حياته المهنية، ومنها جماجمُ مفكرين مشهورين وجماجمُ سيكوباتيين، واستندت نظريته في الأساس على القياسات التي أخذها منها. إجمالًا، زعم جال أنه حدَّد مواضعَ سبعة وعشرين من القدرات الذهنية، وحاجَج بأنَّ تسعة عشر منها، مثل الشجاعة والإحساس بالمكان واللون، يمكن أن توجد أيضًا في الحيوانات، بينما البعض الآخر، مثل الحكمة والشغف وحس السخرية، يتميز بها البشر.

وبالرغم من أنَّ علماء فِراسة الدماغ تعرَّضوا للانتقادات على الدوام، فقد استمر تأثيرهم حتى منتصف القرن التاسع عشر. وفي نهاية المطاف، فقدت الوسائل التي استخدموها مصداقيتها لأنها غير علمية، لكنَّ جال وزملاءه قد «انتقَوا» من أدلتهم ما يتفق مع نظريتهم وتجاهلوا أي أدلة تتعارض معها؛ ولهذا فبحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، صارت نظرية التموضع مقبولةً على نطاق واسع، ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى الفحوصات السريرية على المرضى بتلف في الدماغ.

في عام ١٨٦١، وصف طبيب فرنسي يُسمى بيير بول بروكا عددًا من مرضى السكتة الدماغية الذين دخلوا المستشفى التي كان يعمل بها، وجميعهم قد فقدوا القدرة على الحديث. وعند وفاتهم، فحص بروكا أدمغتهم، وأشار إلى أنها كانت جميعًا تالفةً في المنطقة نفسها من الفص الأمامي الأيسر. وبعد ذلك بعشر سنوات، وصف عالم الأمراض الألماني كارل فيرنيك مجموعةً أخرى من مرضى السكتة الدماغية، الذين فقدوا القدرة على فهم اللغة المنطوقة بسبب تلفٍ أصاب منطقةً من الفص الصدغي الأيسر.

وجد آخرون مزيدًا من الأدلة على تموضع الوظائف الدماغية. ومن الجدير بالذكر أنَّ عالِمَي الفسيولوجيا جوستاف فريتس وإدوارد هيتسيج قاما باختيار بعض الأجزاء من أدمغة الحيوانات وتعريضها للتحفيز بالكهرباء وتدميرها؛ وتمكَّنا بهذا من تحديد موضع القشرة الحركية الأساسية في التلفيف أمام المركزي، وأكَّدا أنَّ هذا الشريط من النسيج الدماغي في كلٍّ من نصفَي الدماغ يتحكَّم في حركات الجانب المقابل له من الجسم. غير أنَّ السبب في أنَّ نظريةَ تموضع القشرة الدماغية حازت قبولًا واسعَ النطاق، يعود بدرجةٍ كبيرة إلى العمل الذي قام به بروكا.1

واضعو خرائط الدماغ

بحلول مولد علم الأعصاب الحديث قرابة مطلع القرن العشرين، كانت الفكرة القائلة بأنَّ القشرة المخية تتكوَّن من مناطقَ تشريحية متمايزة تختص كلٌّ منها بوظيفة محدَّدة قد ترسَّخت بالفعل. ومع ذلك، فقد ظهر المزيد من الأدلة في بداية القرن العشرين، فترسَّخ المفهوم بدرجة أكبر.

وفي هذا الوقت تقريبًا، بدأ عالِم تشريح عصبي ألماني يُدعى كوربينيان برودمان، في فحص التركيب المجهري للدماغ البشري، ولاحظ أنه يستطيع تمييز الأجزاء المختلفة وفقًا لطريقة تنظيم الخلايا في كلٍّ منها. وبناءً على هذا الأساس، قسَّم برودمان القشرة المخية إلى اثنتين وخمسين منطقة، وميَّز كلًّا منها بعدد. ولا يزال تصنيف برودمان التشريحي العصبي يُستخدم حتى اليوم؛ فالمناطق التي ميَّزها بالأعداد ١ و٢ و٣ تشكِّل القشرة الحسية الجسدية التي تقع في التلفيف خلف المركزي، وتستقبل المعلومات الحسية من سطح الجلد، بينما المنطقة ٤ في تصنيف برودمان هي القشرة الحركية الأساسية، والمنطقة ١٧ هي القشرة البصرية الأساسية.

في عشرينيات القرن العشرين، ابتكر جرَّاح الأعصاب الكندي وايلدر بنفيلد طريقةً للتحفيز الكهربي لأدمغة مرضى الصرع وهم في كامل وعيهم، من أجل تحديد مكان النسيج الدماغي الشاذ الذي يتسبب لهم في نوبات الصرع. يمكن علاج الصرع بفعالية في العادة بالأدوية المضادة للتشنج، لكن بالنسبة إلى الأقلية من المرضى التي لا تستجيب للعقاقير، يمكن إجراء العمليات الجراحية كملاذٍ أخير لإزالة النسيج الشاذ وتخفيف حدة نوبات الصرع المنهِكة.

إنَّ الدماغ عضو في غاية التعقيد، ودائمًا ما تنطوي الجراحة العصبية على خطر التسبُّب في أضرار جانبية لمناطقَ تشارك في وظائف مهمة كاللغة والحركة. ولتفادي مثل هذه الأضرار، تعمَّد بنفيلد إبقاء مرضاه في حالة الوعي في أثناء التحفيز الكهربي للقشرة المخية؛ كي يتمكنوا من إخباره بما يشعرون به. وحين كان يحفِّز التلفيف خلف المركزي على سبيل المثال، كان المرضى يصفون شعورهم بإحساس اللمس على أحد أجزاء أجسادهم، وكان تحفيز التلفيف أمام المركزي يؤدي إلى اختلاج عضلات الجزء المقابل من الجسم، بينما كان تحفيز أجزاء من الفص الأمامي الأيسر إلى إعاقة القدرة على الحديث. وبهذه الطريقة، تمكَّن من رسم حدود النسيج الشاذ وإزالته دون الإضرار بالنسيج المحيط.

أجرى بنفيلد عملياتٍ جراحية لما يقرب من أربعمائة مريض، وفي أثناء ذلك حدَّد موضع المنطقة الحركية الأساسية في التلفيف أمام المركزي والمنطقة الحسية الجسدية الأساسية في التلفيف خلف المركزي. وجد بنفيلد أنَّ كِلا شريطَي النسيج الدماغي منظَّم طوبوغرافيًّا؛ أي إنَّ الأعضاء الجسدية المتجاورة تُمثَّل في مناطقَ متجاورة من النسيج الدماغي (مع القليل من الاستثناءات الطفيفة)، وأجزاء الجسد لا تُمثَّل في الدماغ بالتساوي؛ فالغالبية العظمى من القشرة الحركية الأساسية والقشرة الحسية الجسدية مخصَّص للوجه واليدين، وهي الأعضاء الأكثر بروزًا وحساسية في الجسم.

لخَّص بنفيلد هذه الاكتشافات المهمة في رسومٍ تخطيطية بعنوان «الأنيسيان» («الرجل الصغير») قد رسمها سكرتيره. أوضحت هذه الرسومات تنظيم القشرتَين الحركية الأساسية والحسية الجسدية، والنسبة المخصصة من نسيجهما لكلٍّ من أجزاء الجسم، ثم عُدلت هذه الرسومات لاحقًا لتصبح نماذجَ معروفةً ثلاثية الأبعاد.2

التعويض الحسي

جاءت الأدلة المبكرة على أنَّ هذا التموضع للوظائف الدماغية ليس ثابتًا، من الدراسات التي أجراها في أواخر ستينيات القرن العشرين بول باخ إي ريتا الذي بنى جهازًا يمكِّن مكفوفي البصر من «الرؤية» عن طريق حاسة اللمس. كان الجهاز يتكوَّن من كرسي معدَّل من الكراسي المخصَّصة لعلاج الأسنان، وبه أربعمائة دبوس هزاز، وكانت هذه الدبابيس موضوعةً في مسند الظهر ومرتَّبة في مصفوفة من عشرين دبوسًا طولًا وعرضًا، وتتصل بكاميرا كبيرة لتصوير مقاطع الفيديو تقف خلف الكرسي على حامل ثلاثي القوائم كبير الحجم.

عيَّن بول إي ريتا مجموعةً من مكفوفي البصر لاختبار الجهاز، وكان من بينهم عالِم نفسٍ فقدَ بصره في سن الرابعة. ولاستخدام الجهاز، كان الخاضعون للتجربة يجلسون في الكرسي فحسب مع تحريك الكاميرا ببطء من جانب إلى آخر باستخدام مقبض. وبينما يفعلون ذلك، كانت الصورة الموجودة على الكاميرا تُحوَّل إلى نمطٍ من الاهتزازات على مصفوفة الدبابيس المثبتة في مسند الظهر.

ومع التدريب المكثَّف، تعلَّم الخاضعون للتجربة استخدامَ أحاسيس اللمس لتأويل المشاهد البصرية بدقة، تبدأ بعد ساعة من التدريب بالقدرة على التمييز بين الخطوط الرأسية والأفقية والمنحنية، ثم القدرة على التمييز بين الأشكال. وبعد ما يزيد على عشر ساعات من التدريب تقريبًا، أصبحوا جميعًا قادرين على تمييز الأغراض المنزلية المشهورة، وتمييز الظلال والمنظور وحتى التعرُّف على أشخاصٍ آخرين من ملامح وجوههم.3
حاجَج باخ إي ريتا بأنَّ السبب في هذه القدرة هو آليات «تقاطع الأنماط»، التي تؤدي إلى تحويل المعلومات التي تعبِّر عنها حاسة واحدة في المعتاد مثل الرؤية، إلى حاسة أخرى، ويُعبَّر عنها من خلال هذه الحاسة، مثل اللمس أو الصوت. ومنذ ذلك الوقت، وثَّق الباحثون أمثلةً عديدة على مرونة تقاطع الأنماط باستخدام تقنيات التصوير العصبي الحديثة، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) والتحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة (TMS).

توضِّح دراسات تصوير الدماغ أنَّ القشرة البصرية الأساسية تنشط حين يقرأ المكفوفون بطريقة برايل التي تستلزم تحكمًا دقيقًا في الحركة وتمييز اللمس للتعرف على أنماط النقاط المرتفعة. يرتبط هذا التنشيط بزيادة نشاط المناطق البصرية التلوية المتعلقة بالتعرف على الأشكال، كما يرتبط بقلة النشاط في المنطقة الحسية الجسدية، مقارنةً بما يحدث لدى المبصرين. لا يحدث هذا النمط نفسُه مع الأشخاص الذين وُلِدوا مكفوفين ومَن فقدوا حاسة البصر في سنٍّ مبكرة فحسب، بل يحدث أيضًا مع من فقدوا بصرهم في مراحلَ متأخرة من الحياة.

يؤدي التدخل في نشاط القشرة البصرية باستخدام التحفيز عبر الجمجمة على سبيل المثال، إلى إعاقة الإحساس باللمس لدى المكفوفين دونًا عن ممثلي عامل الضبط من الأصحاء؛ مما يؤكد أنَّ النشاط في القشرة البصرية يرتبط بالفعل بمعالجةِ معلومات اللمس، وهو ليس نشاطًا عرضيًّا فحسب.

يمكن للمكفوفين أن يتعلموا التنقل من خلال تحديد الموقع بالصدى عن طريق إصدار أصوات نقر بألسنتهم أو بأقدامهم، واستخدام المعلومات الواردة في الصدى العائد لإدراك الجوانب المادية لمحيطهم. يستلزم ذلك قدرًا هائلًا من التدريب، لكنَّ مَن يصبحون بارعين فيه يستطيعون استخدامَ تحديد الموقع بالصدى للقيام بتصرفات في غاية التعقيد لا يستطيع معظمنا تخيُّل القيام بها دون الرؤية، مثل لعب ألعاب الفيديو أو ركوب دراجة. وحين يقوم المكفوفون بتحديد الموقع من خلال الصدى، تُعالَج معلومات الصوت في الأجزاء البصرية من أدمغتهم، لا الأجزاء السمعية.4،5
fig2
شكل ٢-١: فصوص الدماغ. في اتجاه عقارب الساعة، من اليسار إلى اليمين: الفص الأمامي، الفص الجداري، الفص القذالي، الفص الصدغي.
غالبًا ما يُقسَّم جهاز الرؤية إلى مسارَين متمايزين يمتدَّان بالتوازي عبر الفص القذالي في الجزء الخلفي من الدماغ: أحدهما مسار علوي يعالج المعلومات المكانية (مسار «المكان»)، ومسار تحتي يشارك في عملية التعرُّف على الأشياء (مسار «الماهية»). يبدو أنَّ هذه المنظومة تظل موجودة لدى مكفوفي البصر؛ فحين يتعلم المكفوفون تحديد الموقع بصدى الصوت، ينشط الجزء العلوي من القشرة البصرية عندما يحدِّدون مواقعَ الأشياء، وينشط الجزء السفلي عندما يميزون الأشياء.6

ونتيجةً لهذا، حين لا تحصل القشرة البصرية على المعلومات التي تستقبلها في الوضع الطبيعي، فإنها تبدِّل الأدوار وتعالج نوعًا آخرَ من المعلومات الحسية. والأكثر لفتًا للانتباه أنها تستطيع التكيف بطريقةٍ تمكنها من إجراء وظائف أخرى غير حسية، مثل اللغة. يوضح هذا النوع نفسُه من تجارب تصوير الدماغ أنَّ هذه المنطقة من الدماغ تنشط حين ينطق المكفوفون بكلماتٍ من فئة الأفعال، ويستمعون إلى اللغة المنطوقة، ويُجرون مهامَّ متعلقةً بالذاكرة اللفظية ومهامَّ المعالَجة اللفظية العالية المستوى.

إنَّ المكفوفين يتفوَّقون على المبصرين في هذه المهام، ويرتبط مستوى نشاط القشرة البصرية لديهم ارتباطًا وثيقًا بأدائهم في اختبارات الذاكرة اللفظية. توضِّح هذه الدراسات أيضًا أنَّ القراءة بطريقة برايل غالبًا ما تنشِّط الطرَف الأمامي من القشرة البصرية، بينما تنشِّط اللغةُ المنطقةَ الخلفية، ويجد البعض أنَّ القشرة البصرية اليسرى تصبح أكثر نشاطًا من اليمنى خلال المهام المتعلقة باللغة، وربما يكون السبب في هذا أنَّ مراكز اللغة توجد عادةً في النصف الأيسر من الدماغ. ومثلما أنَّ إعاقة نشاط القشرة البصرية يُخل بقدرة المكفوفين على معالجة أحاسيس اللمس وفهم طريقة برايل، فإنه يعيق أداءهم أيضًا في مهام الذاكرة اللفظية.7

يتضح في أدمغة الصُّم أيضًا تغيراتٌ مهمة ناجمة عن المرونة العصبية. ففي الأشخاص القادرين على السمع، تُعالَج معلومات الصوت التي تصل إلى الأذنين من خلال القشرة الصوتية الموجودة في الفص الصدغي. على الرغم من ذلك، فإنَّ هذه المناطق تنشط لدى مَن يولدون صمًّا استجابةً للمحفِّزات البصرية. يبدو أيضًا أنَّ الصُّم يتمتعون برؤيةٍ محيطية أفضل. ويرتبط هذا بزيادة المساحة الإجمالية للقرص البصري، حيث تخرج أنسجة العصب البصري من العين في طريقها إلى الدماغ، وإلى المادة المحيطة بحواف الدماغ؛ وهذا يشير أيضًا إلى أنَّ مسار «المكان» في جهاز الرؤية يُعتبر أقوى.

لا تقتصر المرونة العصبية لدى الصُّم على جهازي الرؤية والسمع. فباستخدام تصوير الانتشار الموتر لرؤية اتصالات الدماغ، وجد الباحثون أنَّ الصَّمم يرتبط بتغيراتٍ مهمة في المسارات العصبية البعيدة المدى، لا سيما التي تربط بين المناطق الحسية في القشرة المخية، وتلك البنية تحت القشرية التي تُسمى بالمِهاد.

يؤدي المِهاد العديدَ من الوظائف المهمة، لا سيما في نقل المعلومات على مراحلَ من أعضاء الحس إلى المناطق الملائمة في القشرة؛ ومن ثَم ينظم تدفُّق المعلومات بين المناطق المختلفة في القشرة. وعند المقارنة بين الصُّم والأشخاص القادرين على السمع، نجد أنَّ الصُّم يشهدون تغيراتٍ في التركيب المجهري للوصلات الموجودة بين المِهاد والقشرة في كل فص من فصوص الدماغ. يبدو من هذا أنَّ الصَّمم يحفِّز تغيرات تتعلق بالمرونة على نطاق الدماغ بأكمله؛ مما يؤدي إلى تغييرٍ عميق للكيفية التي تتدفَّق بها المعلومات عبر الدماغ.8
مع تقدُّم التكنولوجيا، تغيَّرت أجهزة التعويض الحسي كثيرًا عن الأداة المزعِجة الغريبة الشكل التي صمَّمها باخ إي ريتا. وبدلًا من استخدام هذه الأجهزة كأدوات تجريبية فحسب، صار العديد من مجموعات البحث يستخدمها الآن كأعضاء اصطناعية تساعد المكفوفين والصُّم على تعويض خسارتهم الحسية، وفي يونيو عام ٢٠١٥ منحت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية موافقتها على استخدام أحد هذه الأجهزة. هذا الجهاز هو «ذا برينبورت في١٠٠» (The BrainPort V100)، وهو يُعَد نسخةً مصغَّرة من جهاز باخ إي ريتا؛ إذ يتألف من كاميرا فيديو مثبتة على نظارة شمسية، ومصفوفة من الأقطاب الكهربية أبعادها ٢٠ في ٢٠ مثبتة على قطعة صغيرة مسطحة من البلاستيك توضع في الفم. يترجم أحد برامج الكمبيوتر الصور البصرية الواردة من الكاميرا وينقلها إلى الأقطاب الكهربية، فيستقبلها الشخص على هيئة الشعور بالوخز بنمط معيَّن على اللسان. وفي الاختبارات يتعلم ٧٠٪ من المكفوفين تقريبًا استخدامَ الجهاز للتعرف على الأشياء بعد سنة من التدريب.

المعالجة المتداخلة الوحدات النمطية وتكامل الحواس المتعددة

توضِّح دراسات العمى والصَّمم أنَّ القشرة المخية تتمتع بقدرة كبيرة على المرونة، وأنَّ تموضع الوظائف الدماغية ليس صارمًا بالدرجة التي كان يعتقدها علماء الأعصاب في القرن التاسع عشر. فيمكن للمناطق المخصصة لأداء وظيفة محددة في المعتاد أن تبدِّل دورها وتعالج نوعًا آخر من المعلومات، وقد اتضح أنَّ القشرةَ البصرية على وجه التحديد قادرةٌ على إجراء عدد من الوظائف غير البصرية.

في الظروف المعتادة، لا تكون المسارات الحسية في الدماغ منفصلةً تمامًا بل مترابطة؛ ومن ثَم يمكنها التفاعل معًا والتأثير بعضها على بعض بطرقٍ مختلفة. وبالرغم من أنَّ معظم المناطق الحسية الأساسية تختص بمعالجة المعلومات الواردة من عضو حسي واحد، فإنَّ معظم شركائها من المسارات التلوية تُسمى بمناطق الارتباط، وهي تجمع بين أنواع متعددة من المعلومات في عمليةٍ تُسمى تكامل الحواس المتعددة.

يمكن للمناطق المخصصة لأداء وظيفة محدَّدة في المعتاد أن تبدِّل دورها وتعالج نوعًا آخرَ من المعلومات، وقد اتضح أنَّ القشرة البصرية على وجه التحديد قادرةٌ على إجراء عدد من الوظائف غير البصرية.

تُعَد المعالجة المتداخلة الوحدات النمطية وتكامل الحواس المتعددة من الجوانب المهمة لعمل الدماغ بشكل طبيعي، وذلك مثلما يوضح تأثير مكجورك. يتمثَّل هذا التأثير في وهمٍ قوي ينشأ عند وجود تفاوت بين ما نسمعه وما نراه، وأفضل مثال على هذا التأثير هو مقطع فيديو لشخصٍ ينطق الحرف «جي»، ومُركَّب عليه صوت شخص ينطق الحرف «بي»، فيُسمَع على أنه الحرف «دي». إنَّ هذا الخطأ الذي يحدث دائمًا يثبت بوضوح أنَّ السمع والبصر يتفاعلان معًا، وأنَّ هذا التفاعل يساعد في إدراكنا للكلام.

إنَّ بعض الباحثين في الوقت الحالي يحاجُّون بأنَّ التعويض الحسي يشترك في بعض الخصائص مع حالةٍ عصبية تُسمَّى الحسَّ المرافق، أو هو صورة اصطناعية منها؛ ففي هذه الحالة يؤدي نوعٌ من المعلومات الحسية إلى مدركاتٍ في وحدة نمطية حسية أخرى.9 فعلى سبيل المثال، كان الفيزيائي ريتشارد فاينمان من أصحاب الحس المرافق الحرفي-اللوني؛ إذ كان كل حرف من الأبجدية يولِّد لديه الإحساس بلون محدَّد، فيرى حروفًا ملونة حين ينظر إلى المعادلات. وكان الفنان فاسيلي كاندينسكي من أصحاب حالة أخرى من حالات الحس المرافق. كان يشعر بأحاسيسَ صوتيةٍ استجابةً للألوان، وقال مرة إنه حاول خلق مُكافئ بصري لإحدى سيمفونيات بيتهوفن في رسوماته.

كان من المعتقَد في الماضي أن حالة الحس المرافق تُعَد من الحالات النادرة للغاية، لكن العلماء يعتقدون الآن أنها منتشرة إلى حدٍّ كبير نسبيًّا؛ إذ يختبرها على الأرجح شخصٌ واحد من كل مائة شخص أو أكثر. ومن بين أصحاب حالة الحس المرافق، يوجد ٤٠٪ لديهم قريبٌ ما يختبر الحالةَ نفسها؛ مما يشير إلى أنَّ للجينات دورًا كبيرًا فيها. بالرغم من ذلك، فيمكن لمَن لا يختبرون هذه الحالة أن يتعلموا من خلال التدريب الربطَ بين الحروف والألوان أو الأصوات لتحفيز اختبار حالة الحس المرافق، ومن المحتمل أن يكون هذا التعلم نتيجةً لمرونة التداخل ما بين الوحدات النمطية في المخ.

لا تزال الكيفيةُ المحدَّدة التي تحدُث بها مرونةُ تداخل الوحدات النمطية غيرَ واضحة، لكن المرجَّح أنها تتضمن عددًا من العمليات. خلال النمو، تتشكل الوصلات العصبية على نحوٍ اعتباطي إلى حدٍّ ما، ثم تُشذَّب بعد ذلك استجابةً للخبرات الحسية التي تنقحها وتضبطها على نحوٍ دقيق (راجع الفصل الثالث). وفي المعتاد، تُلغى الوصلات ما بين الوحدات النمطية، لكن بعضها يظل موجودًا للمعالجة المتعددة الحواس. وربما تنطوي مرونة تداخل الوحدات النمطية على «كشف النقاب» عن الوصلات والمسارات ما بين الوحدات النمطية المتداخلة التي كانت خاملة، أو تكوين وصلات جديدة تمامًا، أو كلا الأمرَين. يمكن أن تحدُث حالة الحس المرافق بسبب آلياتٍ مشابهة، وربما تؤدي الجينات المرتبطة بها دورًا في منع التقليم الملائم للمسارات ما بين الوحدات النمطية المتداخلة خلال نمو الدماغ.

إنَّ السؤال عن الكيفية التي تتخصَّص بها مناطق القشرة المخية في أداء وظائفَ معينةٍ مثيرٌ للاهتمام للغاية. والمرجَّح أنَّ هذا التخصُّص يحدُث نتيجةً لعوامل وراثية وعوامل بيئية أيضًا. فمن المحتمل أنَّ الخلايا الموجودة في منطقةٍ معينة تنشِّط توليفاتٍ محدَّدة من الجينات تهيئها لأداء وظيفة بعينها، بناءً على المكان المحدَّد الذي توجد فيه، والوصلات التي تكوِّنها. بعد ذلك، يمكن البناء على هذا المخطط الأولي بينما تنحت المعلوماتُ الحسية الدوائرَ النامية في الدماغ، ويمكن أيضًا تعديله كما تقتضي الحاجة في غيابِ نوع أو آخر من المعلومات. يؤيد هذا التصور دراسة أُجريَت عام ٢٠١٤، وأوضحت أنَّ حذف جين واحد يمكن أن يعيد تحديد هوية العَصَبونات الموجودة في القشرة الحسية الجسدية الأساسية لدى الفئران البالغة، بحيث تتمكَّن تلك الخلايا من معالجة معلومات واردة من وحدات نمطية حسية أخرى.10

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤