الفصل الثالث

مرونة النمو

إنَّ الدماغ البشري عضوٌ بالغ التعقيد يحتوي من الخلايا العصبية على عددٍ يتراوح بين ٨٦ مليارًا و١٠٠ مليار، وعددٍ أكبر حتى من ذلك من الخلايا الدبقية، وما يقرب من كوادريليون مشبك عصبي شديد الدقة. ويتوقَّف عمل الجهاز العصبي بالشكل الملائم على تشكل جميع هذه الصلات على النحو الصحيح؛ فكيف ينمو مثل هذا العضو المعقَّد؟ لقد طوَّر الدماغ استراتيجيةً معينة للنمو، وهذه الاستراتيجية تتمثل في الإنتاج الوفير من كل شيء — بمعنى أنَّ الدماغ في مرحلة النمو ينتج من الخلايا العصبية عددًا أكبرَ كثيرًا مما يحتاج إليه في واقع الأمر، لكنه يقتل العديد منها، وأما تلك الخلايا التي تنجح في البقاء فتنتج كميةً زائدة من المشابك العصبية ثم تتخلَّص من المشابك العصبية المعيبة أو الفائضة. تخضع هذه العمليات للعوامل الوراثية، لكنها تعتمد بدرجةٍ كبيرة على البيئة والخبرات التي يتعرَّض لها الدماغ خلال المرحلة المبكرة فيما بعد الولادة، وتلك هي العوامل التي تضبط الدوائر العصبية ضبطًا دقيقًا في أثناء تأسيسها.1

عوامل النمو والانتحار الخلوي

في أواخر أربعينيات القرن العشرين، انضمَّت شابَّة تُدعى ريتا ليفي مونتالتشيني إلى مختبَر عالِم الأجنَّة المرموق فيكتور هامبرجر، وعزمت على فهم العلاقة بين الجهاز العصبي النامي وبين الأعضاء الأخرى والأنسجة التي يحفِّزها. أزال هامبرجر في تَجارِبه الأطرافَ النامية في أجنَّة الدجاج، ولاحظ أنَّ الخلايا العصبية الحسية الأساسية، التي تمدِّد الألياف إلى جلد الأطراف وعضلاتها، لم تعِش بسبب غياب أنسجتها «المستهدفة». استنتج هامبرجر من ذلك أنَّ الخلايا العصبية تعتمد على وجهتها النهائية بدرجةٍ كبيرة كي تنضج إلى نوعٍ محدَّد.

أما ليفي مونتالتشيني، فقد خمَّنت بدلًا من ذلك أنَّ إزالة الأنسجة المستهدفة جعلت الخلايا العصبية تمرُّ بعملية تنكُّسية من نوعٍ ما. وفي أثناء عملهما معًا، كرَّرا تجارب هامبرجر، وتأكَّدت لهما نتائجه الأولية. كانت إزالة برعمٍ طرفي تؤدي إلى موت الخلايا العصبية الحسية، وعلى العكس من ذلك، أدَّى زرع طرَف إضافي في الجنين إلى بقاءِ عددٍ أكبرَ من الخلايا على قيد الحياة. دفع هذا ليفي مونتالتشيني إلى طرح فرضية مُفادُها أنَّ الأنسجة المستهدفة توفِّر إشارة تغذية راجعة ضرورية لبقاء الخلايا العصبية، وأنَّ غياب هذه الإشارة أو وجودها بمستوًى منخفض، يؤدي إلى موت الخلايا.2
بعد ذلك، استمرَّت ليفي مونتالتشيني في محاولة تحديد الإشارة ووصف خواصها البيولوجية. وجد آخرون أنَّ الأعصاب كانت تنمو بسرعة إلى أورام قد زُرِعت في أجنَّة الفراخ؛ مما قاد ليفي مونتالتشيني إلى افتراض أنَّ النسيج المزروع كان يفرز عاملًا قابلًا للانتشار يدعم بقاء الخلايا العصبية. وفي أثناء العمل مع عالِم الكيمياء الحيوية، ستانلي كوهين، أضافت مونتالتشيني سمَّ ثعبان إلى خلايا عصبية تنمو في أطباق بتري، ووجدت أنَّ ذلك قد أنتج حصيلةَ ألياف عصبية أكبرَ من تلك التي أنتجتها الأورام.3
ونتيجةً لهذا، اقترح كوهين أن يدرُسا الغددَ اللعابية لدى الفئران، وهي المكافئ لسمِّ الثعبان في الثدييات. ومن حسن الحظ أنهما وجدا أنَّ الغدد اللعابية مصدرٌ ثريٌّ بإشارة التغذية الراجعة؛ لذا نجحا في تنقية الجزيء وإثبات أنه بروتين صغير أطلقا عليه اسم عامل نمو الأعصاب. شرع كوهين ومونتالتشيني بعد ذلك في إنتاج أجسام مضادة لمضاد عامل نمو الأعصاب، وأثبتا أيضًا أنَّ الأجسام المضادة أعاقت تأثير البروتين في القوارض الحديثة الولادة، وفي الخلايا العصبية التي تنمو في أطباق بتري. أوضحت هذه التجارب بشكلٍ حاسم أنَّ عامل نمو الأعصاب هو بروتين قابل للانتشار تفرزه أنسجةٌ معينة، وهو يعزِّز بقاء الخلايا العصبية وتمايزها.4

قدَّمت أعمال ليفي مونتالتشيني دليلًا مباشرًا على حدوث موت موسع للخلايا خلال مراحل النمو العصبي المبكرة، وشرحت بوضوح كيف أنَّ الإمداد العصبي يتوافق بشدة مع حجم الأعضاء وغير ذلك من الأنسجة المستهدفة. ووفقًا لفرضية التغذية العصبية، تُنتَج الخلايا العصبية بأعدادٍ فائضة في البداية ثم تتنافس على إمدادٍ محدود من عامل نمو الأعصاب المشتق من الهدف، وتلك الخلايا العصبية التي تستقبل الإشارة تنجو وتمرُّ بمرحلة النضج، أما التي لا تستقبلها فتذوي وتموت.

إنَّ عامل نمو الأعصاب هو أول عامل نمو يجري تحديده. وقد كان اكتشافه وتوصيفه معلمًا مهمًّا في فهمنا للنمو العصبي، وقد تشاركت ليفي مونتالتشيني وكوهين جائزةَ نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب عن عملهما هذا في عام ١٩٨٦.

ومنذ ذلك الوقت، أدَّى تطوُّر تقنيات الأحياء الجزيئية إلى تحديد العشرات مما يُسمى بعوامل التغذية العصبية، التي يعزِّز كلٌّ منها بقاء مجموعة محددة أو مجموعات من الخلايا في النظام العصبي النامي. وقد جرى أيضًا تمييزُ البروتينات المستقبلة في الغشاء، التي تستقبل هذه العوامل، وبدأنا في فهم بعض التفاصيل عن كيفية عملها: يؤدي الارتباط بين العامل وبين البروتين المستقبل إلى استيعاب الخلية لتركيبة البروتين المستقبل وعامل النمو، ثم نقلها ثانية إلى النواة؛ ومن ثَم تستطيع تنشيط البرامج الوراثية أو تعطيلها.5

سرعان ما اتضح بعد ذلك أنَّ الموت الموسع للخلايا من سمات النمو العصبي العادية في جميع الكائنات. تُسمى هذه العملية بالموت المبرمَج للخلايا. تنظم هذه العملية حجم تجمعات الخلايا العصبية، والمسافة الملائمة بين الخلايا وموقعها، وظهور الشكل والبنية، إضافةً إلى العديد من الوظائف الأخرى؛ ولهذا فهي سمةٌ ضرورية لنمو الدماغ على نحو سليم.

يخضع موت الخلايا لعوامل وراثية، وهو يستلزم جينات «قاتلة» تشفِّر إنزيمات «كاسبيز». خلال النمو، يؤدي غياب إشارات التغذية العصبية في نهاية المطاف إلى تنشيط الجينات المسئولة عن موت الخلايا. وفور تنشيط برنامج الانتحار الخلوي، تبدأ بروتينات «كاسبيز» في تحليل الخلايا من الداخل: يُجزَّأ الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين للخلية وبروتينات السقالة إلى قطعٍ صغيرة؛ مما يؤدي إلى تكثف الكروموسومات، وانكماش الخلية، وتكوُّن فقاعات على الغشاء، وكل ذلك يمنح الخلية المحتضرة مظهرًا مميزًا. وأخيرًا، تقوم خلايا مناعية تُسمى بالخلايا البلعمية بابتلاع البقايا الخلوية وإزالتها.6

تكوين المشابك العصبية

يتَّسم سلوك الخلايا العصبية غير الناضجة في الدماغ النامي بالتشوش وعدم التمييز؛ فتُكوِّن من الوصلات المشبكية العصبية أكثرَ مما تحتاج إليه بكثير، ثم تقوم بعد ذلك بالتخلص من الوصلات الزائدة وغير المتوافقة وغير المهمة.

يُفهَم تكوين المشابك العصبية (أو تخليق المشابك العصبية) على أفضلِ نحوٍ عند الموصل العصبي العضلي، حيث يتلامس طرف العَصَبون الحركي مع النسيج العضلي الهيكلي. كان كاخال قد اكتشف من قبلُ أنَّ الوصول إلى هذه المشابك ودراساتها أسهل كثيرًا من تلك الموجودة في الدماغ، التي هي أصغر كثيرًا وتتراص في مجموعاتٍ كثيفة. عبَّر كاخال عن ذلك في سيرته الذاتية بعنوان «ذكريات حياتي»، فكتب «بما أنَّ الغابة المكتملة النمو تبدو منيعة ولا يمكن اختراقها، فلماذا لا نلجأ إلى دراسة الغابة الصغيرة في مرحلة الروضة، إن جاز التعبير؟»

يتسم سلوك الخلايا العصبية غير الناضجة في الدماغ النامي بالتشوش وعدم التمييز؛ فتكوِّن من الوصلات المشبكية العصبية أكثر مما تحتاج إليه بكثير، ثم تقوم بعد ذلك بالتخلص من الوصلات الزائدة وغير المتوافقة وغير المهمة.

عند الموصل العصبي العضلي، يطلق العصب الحركي الناقل العصبي أسيتيل كولين، الذي يرتبط بالمستقبلات الموجودة على ألياف العضلة؛ مما يتسبَّب في انقباضها. بالرغم من ذلك، لا يكون طرَف العصب ولا العضلة جاهزين في البداية لأداء عملية إصدار الإشارة هذه. تأخذ نهاية الليف العصبي النامي شكل مخروط النمو، وهو بنية ديناميكية مغطاة بنتوءات تشبه الأصابع تُسمى بالأرجل الكاذبة الخيطية تكشف عن الإشارات الكيميائية في البيئة المحلية لإرشاد القمة النامية لليف العصبي إلى وجهتها الملائمة، مع وضع مواد جديدة في أثناء تقدُّمها. وبالمثل، لا تكون الكتلة العضلية غير الناضجة قد انقسمت بعدُ إلى خلايا عضلية مفردة، وتكون جزيئات مستقبل الأسيتيل كولين الخاصة بها موزَّعة بالتساوي تحت الغشاء.

إنَّ تكوين المشابك العصبية ونضجها يعتمدان إلى حدٍّ كبير على التفاعلات بين العصب غير الناضج والعضلة. عندما يمدُّ مخروط النمو طرفه المستدق إلى ألياف العضلة، فإنها تفرز دفقة من الأسيتيل كولين، ويؤدي هذا إلى إعادة توزيع مستقبلات الأسيتيل كولين التي تتجمع في البداية ثم تثبت في مواقع محددة بالغشاء. تزيد التغذية العصبية للعضلة من خلال العصب من قدرة المستقبلات الموجودة في العضلة بالفعل على التوصيل، وتحفِّز أيضًا تركيب جزيئات مستقبِلة جديدة، وتُدمَج هذه الجزيئات في غشاء العضلة.

ونتيجةً لهذا، تنقسم الكتلة العضلية في نهاية المطاف إلى أليافٍ عضلية مفردة، ولكلٍّ منها منطقة مختصة بالمستقبلات تُسمى بالصفيحة النهائية. عند اكتمال هذه العملية، سيوجد حوالَي ٢٠ ألفًا من مستقبلات الأسيتيل كولين لكل ميكرومتر مربع من الصفيحة النهائية، وهي كثافة تزيد بعدة آلاف الأضعاف عن كثافة المناطق الأخرى في غشاء العضلة.

في المراحل الأولى من النمو، تنقسم مخاريط النمو العصبي وترسل فروعًا من الليف العصبي غير مكتملة النمو إلى أكثر من ليف عضلي واحد. بالرغم من ذلك، فمع استمرار النمو، تنضج العَصَبونات، ويقل عدد الوصلات المشبكية العصبية تدريجيًّا. يؤدي النشاط الكهربي التلقائي إلى استمرار بعض هذه الوصلات، وتقويها الخبرة بدرجةٍ أكبر. تعتمد هذه العملية أيضًا على توفر عوامل النمو في خلايا العضلات، وإن كان ذلك بصفة جزئية على الأقل. وبهذا، فإنَّ فروع الليف العصبي التي لا تتلقى إمدادًا كافيًا من عوامل النمو تتقلص، والمشابك التي لا يقويها النشاط والتجربة تُنزَع؛ فيقدِّم كل عَصَبون حركي واحد التغذيةَ العصبية لليف واحد فقط.7

تختلف المشابك الموجودة في الدماغ والحبل الشوكي عن الموصلات العصبية العضلية في العديد من النواحي المهمة. فالموصِّل العصبي العضلي يربط العصب بالعضلة، لكن مشابك الدماغ تربط عناصر العَصَبونات بعضها ببعض، كأن تربط طرف العصب بجسم الخلية العصبية، أو بالمحور، أو بإحدى الزوائد الشجيرية. وبينما يتصل العصب الحركي الناضج بليف عضلي واحد، يُقدَّر عدد الوصلات المشبكية العصبية التي تشكِّلها العَصَبونات الموجودة في الدماغ مع الخلايا الأخرى ﺑ ١٠ آلاف وصلة. ونظرًا لصغر حجمها وتعقيدها وصعوبة الوصول إليها، فإنَّ ما نعرفه عن كيفية تكوين المشابك العصبية في الدماغ أقل بكثير. بالرغم من ذلك، يُعتقَد أنها تتبع الطريقة نفسها تقريبًا، التي تتشكَّل بها تلك الموجودة في الموصلات العصبية العضلية.

يبدأ تكوين المشابك العصبية لدى جميع الكائنات خلال النمو الجنيني ويستمر على مدار الفترة المبكرة بعد الولادة. وفي البشر، رُصدت المشابك العصبية الوظيفية عند مرحلة ٢٣ أسبوعًا من الحمل. تشير فحوصات بعد الوفاة القليلة التي أُجريَت حتى الآن إلى أنَّ المشابك العصبية تتكوَّن بمعدلات مختلفة في المناطق المختلفة من الدماغ، لكن عدد المشابك العصبية في معظم مناطق الدماغ أو جميعها تقريبًا، يصل إلى ذروته عادةً خلال السنة الأولى من الحياة. في القشرة البصرية على سبيل المثال، يعتمد تكوين المشابك العصبية واستقرارها على الخبرة البصرية بدرجة كبيرة (انظر ما يلي)، ويبلغ عدد الوصلات المشبكية العصبية أعلى درجات كثافته في الفترة من عمر الشهرين والنصف إلى ثمانية شهور. وعلى العكس من ذلك، تستمر بعض مناطق القشرة الأمامية النامية في تكوين مشابك جديدة حتى السنة الثالثة من العمر.8

التقليم المشبكي العصبي

تُستبعَد الوصلات العصبية غير المرغوب فيها من الجهاز العصبي النامي عن طريق عملية تُسمى بالتقليم المشبكي العصبي. وحتى وقت قريب نسبيًّا، كان الاعتقاد السائد هو أنَّ غالبية التقليم المشبكي في القشرة المخية يحدث عند البلوغ ويكتمل خلال مرحلة المراهقة المبكرة. بالرغم من ذلك، اتضح في السنوات القليلة الماضية أنَّ التقليم المشبكي في قشرة الفص الجبهي يستمر حتى العَقد الثالث من العمر قبل أن يستقر إجمالي عدد المشابك في الدماغ على المستويات التي توجد في مرحلة الرشد.9
بناءً على هذا، وبالرغم من أنَّ الدماغ البشري يصل إلى حجمه الكامل في سن السادسة عشرة تقريبًا، فإن قشرة الفص الجبهي لا تصل إلى النضج الكامل حتى تنتهي عملية التقليم هذه، وترتبط هذه التغيرات التدريجية في الدماغ بتغيرات في السلوك. ترتبط قشرة الفص الجبهي بالمهام المعقدة مثل اتخاذ القرار وتقييم المكافآت، ولأنها تستغرق وقتًا طويلًا حتى تصل إلى النضج الكامل، يركِّز المراهقون تركيزًا كبيرًا على نيل الاستحسان من أقرانهم، وكثيرًا ما يشتركون في سلوكياتٍ تتسم بالمخاطرة لتحقيق هذا. ونظرًا لأن تقليم المشابك العصبية يؤدي إلى تشذيب وتحسين الدوائر العصبية في قشرة الفص الجبهي خلال العَقدين الثاني والثالث من الحياة، فإن الوظائف التنفيذية تتحسَّن، ويتصرف البالغون على نحوٍ يتسم بالمسئولية بدرجةٍ أكبر.10

تحدث عمليتا تكوين المشابك العصبية وتقليمها على نحوٍ موسَّع في دماغ الجنين، وهما جوهريتان لنمو الدماغ بشكل ملائم. ومع ذلك، لا تقتصر أيٌّ من العمليتين على النمو؛ إذ يستمر الدماغ البالغ في تكوين مشابك جديدة والتخلص من المشابك غير المرغوب فيها على مدار الحياة، ونحن نعرف الآن أنَّ لهاتين العمليتين كلتيهما أدوارًا مهمة في التعلم والذاكرة وغير ذلك من جوانب عمل الدماغ بشكل ملائم (انظر الفصل الرابع).

الخبرات الحسية والمراحل الحرجة

إنَّ معظم ما نفهمه عن كيفية تشكيل الخبرة الحسية للدوائر العصبية النامية يأتي من مجموعة كلاسيكية أخرى من التجارب التي أجراها عالِما الفسيولوجيا ديفيد هوبل وتورستن فيسل في ستينيات القرن العشرين. فباستخدام أقطاب كهربية دقيقة لدراسة خواص الخلايا الموجودة في القشرة البصرية الأساسية لدى القطط، تمكَّنَا من تحديد عَصَبونات كانت تستجيب بانتقائية شديدة لمحفزات بصرية تتألف من قضبانٍ داكنة تتحرَّك في اتجاهات معينة.11 وأثبتا بعد ذلك أنَّ هذه الخلايا الانتقائية للاتجاه تترتَّب في أعمدة متعاقبة تستجيب للمدخلات البصرية من عين أو أخرى، على نحوٍ تفضيلي.12 وهذه الأعمدة تمنح القشرة البصرية الأساسية الشكل المخطط المميِّز لها، كما تمنحها أحد أسمائها الأخرى: القشرة المخططة.
إذَن، تتلاقى المدخلات الواردة من العين اليسرى والعين اليمنى في القشرة البصرية الأساسية، وتتنافس على المكان هناك، وقد أوضح هوبل وفيسل في مجموعة تجارب أخرى كيف أنَّ الخبرة البصرية هي التي تدفع هذه المنافسة. قام العالِمان بتربية هِرر حديثة الولادة بعد إغلاق عينها بالخياطة الجراحية، ووجدا أنَّ ذلك كان له تأثير كبير على نمو القشرة البصرية. ونتيجةً لهذا، لم تنمُ أعمدة السيادة العينية التي كانت في المعتاد ستستقبل المدخلات من العين المغلقة، بينما نمت الأعمدة التي تستقبل مدخلات من العين المفتوحة بدرجةٍ أكبر كثيرًا مما كان ينبغي لها. والأهم من ذلك أنَّ التجارب أوضحت أيضًا أنَّ هذه التأثيرات يمكن عكسها، بشرط أن يُعاد فتح عين القطط قبل سن معينة.13،14

كان ذلك تطورًا آخرَ مهمًّا في فهمنا للنمو العصبي. أوضحت هذه التجربة أنَّ نمو القشرة البصرية يعتمد على التحفيز البصري اعتمادًا كبيرًا، كما أنها أرست الفترة الحرجة، وهي إطار زمني ضيق من النمو يكون الجهاز العصبي خلالها حساسًا للغاية لمحفِّز بيئي محدَّد، بصفتها مفهومًا أساسيًّا في علم الأعصاب، وفي علم النفس أيضًا.

إنَّ هذا العمل، الذي نال عنه هوبل وفيسل فيما بعدُ جائزة نوبل، أدَّى أيضًا إلى علاجٍ فعَّال للغمش (العين الكسولة)، وهو مرض يصيب العين في ٤٪ تقريبًا من الأطفال. يحدث الغمش بسبب نمو العين بشكلٍ غير ملائم، ويؤدي إلى ضعف البصر، وعدم محاذاة العينين، وضعف في الإدراك الحسي للعمق. يمكن علاج هذا المرض بوضع رقعة على العين السليمة؛ مما يجبر الطفل على استخدام العين الكسولة؛ ومن ثَم يحفِّز نمو ذلك الجزء من المسار البصري. يأتي هذا العلاج بأفضل النتائج إذا بدأ قبل سن ثماني سنوات.

أوضحت أبحاثٌ تالية أنَّ الأجهزة الحسية الأخرى تعتمد هي أيضًا في نموها على الخبرة. واتضح منها أيضًا أنَّ توقيت الفترة الحرجة للمرونة في القشرة البصرية محكومٌ بنضج العَصَبونات البينية المثبطة. عادةً ما تمتلك العَصَبونات البينية أليافًا قصيرة يقتصر وجودها على مناطق مفردة من الدماغ، وهي تصنع الناقل العصبي، حمض جاما أمينوبيوتيريك (جابا)، وتطلقه، وهو ناقل عصبي يُثبط نشاط العَصَبونات. تؤدي العَصَبونات البينية أدوارًا مهمة في تكامل المعلومات وتنظيم نشاط شبكات الخلايا العصبية.

يحتوي الدماغ على أنواع مختلفة من العَصَبونات البينية، لكن العديد منها لم يوصَف جيدًا بعد، ومن المحتمل أننا لا ندرك أشكالها المختلفة ووظائفها على نحوٍ كامل. لكنَّ نوعًا واحدًا على وجه التحديد، وهو خلايا السلة، يبدو أنه مسئول عن المرونة في جهاز الرؤية النامي.

توجد خلايا السلة الكبيرة في القشرة البصرية الأساسية، لكنها تنضج ببطء. حين تفتح الفئران الحديثة الولادة عينَها لأول مرة، يُنقَل بروتين يُدعى «أوه تي إكس تو» Otx2 من الشبكية عبر العصب البصري إلى القشرة البصرية، حيث يتراكم داخل خلايا السلة الكبيرة. في هذه المرحلة، تكون خلايا السلة الكبيرة غير ناضجة بعد، وتكوِّن مع العَصَبونات المجاورة لها العديد من الوصلات التثبيطية الضعيفة. وحين يصل تركيز بروتين «أوه تي إكس تو» إلى مستوًى محدَّد، تدخل الجزيئات إلى النواة، حيث تُنشِّط برنامجًا جينيًّا يعزِّز نضج خلايا السلة الكبيرة.15
ومع ظهور هذا البرنامج، تبدأ خلايا السلة الكبيرة في تنقيح وصلاتها وتحسينها. تستقر بعض المشابك العصبية وتزداد قوَّتها، بينما يتم التخلص من البعض الآخر من خلال التقليم. في هذه الأثناء، تُغلَّف شبكة خلايا السلة الكبيرة الآخذة في النضج بشبكة من مصفوفة بروتينات خارج الخلية؛ مما يزيد من تعزيز وصلات المشابك العصبية الجديدة. وبهذا، تحسِّن الخبرة الحسية البنية المجهرية للقشرة البصرية عن طريق تحفيز نضج خلايا السلة الكبيرة؛ مما يُثبط المرونة من خلال تعزيز الدوائر العصبية الناشئة حين يصل تمثيلها للعالم إلى أكبر دقة ممكنة.16

تحسِّن الخبرة الحسية البنية المجهرية للقشرة البصرية عن طريق تحفيز نضج خلايا السلة الكبيرة؛ مما يُثبط المرونة من خلال تعزيز الدوائر العصبية الناشئة حين يصل تمثيلها للعالم إلى أكبر دقة ممكنة.

تماشيًا مع هذه الفكرة أيضًا، فإنَّ حذفَ أيٍّ من الجينات اللازمة لتصنيع الناقل العصبي جابا، أو تناول عقار يعوق أو يقلل التثبيط الذي يتدخل به جابا، يمنع مرونة أعمدة السيادة العينية المعتمدة على الخبرة من الحدوث لدى الفئران. وعلى المنوالِ نفسه، فإنَّ حقن عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ (BDNF)، وهو عامل نمو ضروري لبقاء خلايا السلة الكبيرة ونضجها، يسرِّع من انتهاء الفترة الحرجة. على العكس من ذلك، عند حقن إنزيم يعمل على تكسير الشبكة الموجودة خارج الخلية في أدمغة الفئران، يُعاد فتح الفترة الحرجة، ويحفِّز زرع عَصَبونات بينية غير ناضجة في أدمغة الفئران الحديثة الولادة فترةً ثانية من المرونة المتزامنة مع نضج الخلايا المزروعة.17
وبناءً على هذا، يتضح أنَّ «الفترات الحرجة» ليست حرجة بالدرجة التي كنا نعتقدها من قبل. إنَّ الاكتشاف المفاجئ بأنَّ توقيت الفترات الحرجة والتحكم فيها وإنهاءها يعتمد على نضج الدوائر المثبطة الطويلة المدى، قد طرح على الفور طرقًا يمكن أن تؤدي إلى «إعادة بدئها» لاحقًا في الحياة. والآن تُجرى التجارب السريرية بالفعل لاختبارِ ما إذا كان تناول العقاقير التي تمنع التثبيط الذي يُجريه الناقل العصبي جابا سيفيد البالغين المصابين بالغمش من خلال استعادة المرونة في القشرة البصرية، أم لا.18

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤