الفصل الخامس

التخليق العصبي في البلوغ

كانت البنية الدقيقة للجهاز العصبي موضوعًا لمناقشةٍ محتدمة على مدار القرن التاسع عشر. ففي نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وبعد فحص أنسجةٍ نباتية وحيوانية تحت المجهر، اقترح العالمان الألمانيان ثيودور شوان وماتياس شلايدن أنَّ الخلايا هي وحدات البناء الأساسية في جميع الكائنات الحية، وهو الرأي الذي صار يُدعى بنظرية الخلية. غير أنَّ المجاهر المتوفِّرة في ذلك الوقت لم تكن قوية بما يكفي لتوضيح المشابك العصبية، والتي يبلغ حجمها من ٢٠ إلى ٤٠ نانومترًا تقريبًا (والنانومتر يساوي جزءًا واحدًا على المليار من المتر)؛ ومن ثَم فقد ظل من غير الواضح ما إن كان ذلك ينطبق على الجهاز العصبي أيضًا أم لا.

انقسم الباحثون إلى معسكرَين. اعتقد بعضهم أنَّ الدماغ والحبل الشوكي يتكوَّنان من شبكة متواصلة من النسيج، بينما حاجَج آخرون بأنَّ الجهاز العصبي يتكوَّن من خلايا على غِرار جميع الكائنات الحية. ومع التحسينات التي أُجريَت على الفحص المجهري وأساليب تصبيغ العينات وتصويرها، تمكَّن الباحثون من رؤية النسيج العصبي بتفصيلٍ متزايد، وبحلول مطلع القرن العشرين حُسمت المناقشة القائمة منذ وقت طويل أخيرًا.1

وبفضل عمل كاخال بدرجةٍ كبيرة، بدأ الباحثون في تقبُّل ما يُعرَف باسم المبدأ العصبي، الذي نصَّ على أنَّ ثَمة خلايا متخصصة تُدعى بالخلايا العصبية هي الوحدات البنيوية والوظيفية الأساسية للدماغ والحبل الشوكي. كان كاخال وآخرون قد درسوا كيفية نمو الدماغ في الإنسان وغيره من الحيوانات، ووصفوا المراحل المختلفة التي تمرُّ بها الخلايا العصبية في عملية النضج: الميلاد عن طريق الانقسام الخلوي، ثم نمو الألياف وامتدادها، وأخيرًا التكوُّن الدقيق للوصلات المشبكية. ولأنهم لم يروا أي خلايا عصبية غير ناضجة في البالغين قط؛ فقد استنتجوا أنَّ بنية الدماغ تصبح ثابتة بعد الميلاد بفترة قصيرة.

في كتابه الصادر عام ١٩١٣ بعنوان «تداعي الجهاز العصبي وتجديده»، ذكر كاخال أنَّ المسارات العصبية في الدماغ والحبل الشوكي لدى البالغين «ثابتة وغير قابلة للتغيير». حظي هذا الاستنتاج بالقبول على نطاق واسع، وسرعان ما أصبحت الفكرة القائلة بأنَّ دماغ الثدييات البالغ لا يُخلِّق أي خلايا جديدة مبدأً أساسيًّا في علم الأعصاب الحديث. اتفق معظم الباحثين على أنه بالرغم من تخليق كمية هائلة من الخلايا العصبية والدبقية خلال النمو، فإنَّ هذه العملية تنتهي بعد الميلاد مباشرة. ومن ثَم؛ فقد نتج عن ذلك أننا نولد بجميع الخلايا الدماغية التي ستكون لدينا على مدار الحياة بأكملها، وأنَّ الخلايا التي تتلف بسبب المرض أو الإصابة بجرح لا تُعوَّض أبدًا.

استمر هذا المبدأ مترسخًا لحوالَي قرن من الزمان، بالرغم من أنَّ بعض الأدلة التي تُنافي هذه الفكرة قد بدأت في الظهور في بداية ستينيات القرن العشرين، بعد ظهور تقنية تصوير الإشعاع الذاتي بالثايمدين المعالج بالتريتيوم. في هذه العملية، تُحقَن الحيوانات بالثايمدين المشع، الذي تمتصه الخلايا ويُدمج في الحمض النووي الحديث التكوين الموجود في الخلايا الحديثة الولادة. بعد ذلك، تُشرَّح أدمغة الحيوانات، وتُستخدَم الأشعة السينية للكشف عن أي نشاط إشعاعي.2
بدأ جوزيف أولتمان وجوبال داس، الباحثان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في استخدام هذه التقنية لفحص أنواع مختلفة من الحيوانات، وسرعان ما نشرا دليلًا على نمو خلايا دماغية جديدة في التلفيف المسنَّن، والبصلة الشمية، والقشرة المخية لدى الفئران، وفي القشرة المخية لدى القطط أيضًا.3 تكرَّرت هذه النتائج المبدئية وتأكَّدت لدى آخرين في بداية ثمانينيات القرن العشرين، لكن المجتمع العلمي تلقَّاها بالتشكك، وتجاهلها بصورة كبيرة.4،5

وبعد فترة قصيرة، ظهرت أدلةٌ أخرى من الطيور المغردة. فذكرُ الكناري البالغ جنسيًّا يتعلم أغنيةً جديدة كلَّ عام كي يتغزل في الزوجات المحتملة، وثَمة نواتان في الدماغ تتحكَّمان في تعلم هذه الطيور للأغاني وإنتاجها. أجرى فرناندو نوتيبوم الباحث بجامعة روكفلر مجموعةً من التجارب التي أوضحت أنَّ حجم هاتين النواتين الدماغيتين يَتذبذب مع الفصول؛ إذ وجد أنَّ كليهما أكبر في الربيع بدرجةٍ ملحوظة عما يكونان عليه في الخريف.

طرح نوتيبوم فرضيةً مفادها أنَّ السبب في هذه التغيرات يعود إلى زيادة عدد المشابك العصبية والخلايا داخل نواتَي إنتاج الأغاني ثم نقصانه. عند انتهاء موسم التزاوج، يموت عدد كبير من الخلايا مما يؤدي إلى تضاؤل حجم النواتين، أما في الربيع فتتجدَّد النواتان من خلال إنتاج خلايا عصبية جديدة حتى يتعلم الطائر الغناء من جديد. إنَّ نوتبيوم لم يكتشف رابطًا واضحًا مباشرًا بين الدماغ والسلوك فحسب، بل إنَّ نتائجه قد «أثبتت أيضًا بدرجةٍ لا بأس بها من اليقين أنَّ الخلايا العصبية تُولد في مرحلة البلوغ وتُدمَج في الدوائر الموجودة بالفعل.»6،7
وأخيرًا، حطَّمت سلسلةٌ من الاكتشافات والأساليب المتطورة الاعتقادَ الراسخ بأنَّ دماغ الثدييات يفتقر إلى القدرة على تجديد نفسه. في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، بدأت إليزابيث جولد وزملاؤها بجامعة برينستون في نشر أدلة على وجود خلايا عصبية حديثة الولادة في منطقة الحُصَين لدى الفئران البالغة، ثم نشروا بعد ذلك أدلةً على وجودها في كلٍّ من منطقة الحُصَين والقشرة المخية لدى قردة المَكَّاك. إنَّ القردة أقرب تطوريًّا إلى البشر من الفئران بدرجة كبيرة؛ ومن ثَم فقد رفع ذلك الآمال باحتمالية أنَّ الدماغ البشري يستمر هو أيضًا في تكوين خلايا جديدة على مدار الحياة.8
أدَّى تطوير تقنيات جديدة باستخدام الأجسام المضادة الموسومة بالفلوريسنت، التي ترتبط ببروتينات خلوية محدَّدة، إلى تمكُّن الباحثين من التمييز بين الخلايا العصبية والخلايا الدبقية في عينات النسيج التي يفحصونها. وفي عام ١٩٩٢، قام اثنان من الباحثين في جامعة كالجاري في ألبرتا بكندا، باستخدام هذه الطرق لتحديد الخلايا العصبية الجذعية في أدمغة الفئران البالغة ثم عزلها.9 يُقال إنَّ هذه الخلايا العصبية الجذعية «متعددة القدرات» لأنها تحتفظ بحالتها الجنينية غير المتمايزة؛ ومن ثَم يمكنها تشكيل أيِّ نوع من الخلايا الموجودة في الدماغ. غير أنها تنقسم على نحوٍ غير متناظر؛ لذا فبينما تستطيع تشكيل خلايا عصبية ودبقية جديدة، تستطيع في الوقت نفسه تجديدَ نفسِها إلى ما لا نهاية.

كشفت الأبحاث التالية أنَّ أدمغة الفئران البالغة تحتوي على مجموعتين منفصلتين من الخلايا الجذعية العصبية. خلال مرحلة النمو المبكرة، يتألَّف الجهاز العصبي من أنبوبٍ مجوَّف يمتد على طول ظهر الجنين، وتمتلئ بطانة هذا الأنبوب العصبي بالخلايا الجذعية التي تنقسم لتُنتج خلايا عصبية غير ناضجة تنتقل عبر سُمك الأنبوب. عند الطرف الأمامي من الأنبوب، تصطدم موجاتٌ متتالية من الخلايا المنتقلة بعضها ببعض لتشكِّل طبقات القشرة المخية، طبقةً تلو الأخرى من الداخل إلى الخارج. وفيما وراء ذلك، تنتقل أعداد أصغر إلى الخارج لتكوين الحبل الشوكي.

في الحيوانات البالغة، يقتصر وجود الخلايا الجذعية على مكانَين منفصلين داخل جدران البطينين الجانبيين: منطقةِ ما تحت البطين التي تُكوِّن الخلايا التي تنتقل عبر تيار الهجرة المنقاري إلى حافة البصلة الشمية، والتلفيف المسنَّن من الحُصَين، والتي تظل خلاياها الجديدة بالقرب من مكان ميلادها وتتمايز إلى خلايا عصبية حبيبية.10
يبدو أنَّ الخلايا العصبية التي تتشكَّل في هاتين المنطقتين ضرورية للغاية لعمل الدماغ والسلوك. فالتجارب التي تستخدم الهندسة الوراثية لقتل الخلايا الجديدة التشكيل فور ميلادها أو في نقطة زمنية محدَّدة في حياة الحيوانات، توضح أنَّ إضافة خلايا عصبية جديدة إلى البصلة الشمية ضروريٌّ لتكوين ذكريات شمية جديدة، بينما تسهم الخلايا المضافة إلى منطقة الحُصَين في الذاكرة المكانية، والتعرُّف على الأشياء، وفصل الأنماط، وهي العملية التي يميز بها الدماغ بين الأنماط المتشابهة من النشاط العصبي.11
يمكن لعوامل بيئية محدَّدة تنظيم العملية بما يؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في معدل إنتاج الخلايا العصبية الجديدة. فعلى سبيل المثال، يحسِّن النشاطُ البدني والثراء البيئي وتعلُّم المهام من تكاثر الخلايا الجذعية العصبية، إضافةً إلى تعزيز بقاء الخلايا الحديثة الولادة، بينما يؤدي الإجهاد وبعض أنواع الالتهاب والحرمان الحسي إلى نتيجة معاكسة.12

يحسِّن النشاطُ البدني والثراء البيئي وتعلُّم المهام من تكاثر الخلايا الجذعية العصبية، إضافةً إلى تعزيز بقاء الخلايا الحديثة الولادة، بينما يؤدي التوتر وبعض أنواع الالتهاب والحرمان الحسي إلى نتيجة معاكسة.

fig4
شكل ٥-١: بيئات التخليق العصبي في أدمغة القوارض والبشر.
حدث تطوُّر أساسي آخر عام ١٩٩٨ مع نشر دراسة محورية قدَّمت أول دليل على أنَّ الدماغ البشري يُنتِج هو أيضًا خلايا جديدة على مدار الحياة. فقد أدرك الراحل بيتر إريسكون وزملاؤه أنَّ الأطباء كانوا يحقنون مرضى السرطان بالبروموديوكسيوريدين لرؤية نمو أورامهم ومراقبتها. وعلى غِرار الثايمدين المعالج بالتريتيوم، يُعَد البروموديوكسيوريدين نظيرًا لإحدى القواعد الكيميائية الأساسية الموجودة في الحمض النووي؛ ولهذا يدخل في الحمض النووي الحديث البناء في الخلايا العصبية الوليدة. حصل إريكسون وزملاؤه على الموافقة بفحص أدمغة خمسة من هؤلاء المرضى بعد موتهم. وحينها عالجوا عينات من النسيج الحُصَيني بأجسامٍ مضادة ذات وسوم فلورية مختلفة ترتبط بالبروموديوكسيوريدين وبالبروتينات التي تعبِّر عنها الخلايا العصبية دون الخلايا الدبقية، وقد كشفت التجربة عن خلايا عصبية وليدة في العينات الخمسة كلها.13
في نهاية المطاف، عُزلَت الخلايا الجذعية العصبية من الدماغ البشري أيضًا. ففي القوارض، تستمر هاتان المجموعتان من الخلايا الجذعية العصبية في توليد خلايا جديدة على مدار الحياة، لكنَّ معدل إنتاج الخلايا العصبية الجديدة يقل مع العمر، ويتضح النمط نفسُه أيضًا في منطقة الحُصَين في الدماغ البشري.14
بالرغم من ذلك، توجد اختلافات مهمة. فتيَّار الهجرة المنقاري يوجد في الدماغ البشري، وبه أيضًا «شريطة» مميزة تتفرَّع باتجاه قشرة الفص الجبهي. لكن من الواضح أنَّ هذا المسار يظل نشطًا حتى مرحلة الطفولة المبكرة فحسب. تحدث الهجرة المكثفة حتى عمر ثمانية عشر شهرًا فحسب، ثم تنحسر لدى الأطفال الأكبر سنًّا، وتصبح شبه منعدمة في البالغين. وفي هذا الصدد، يبدو أنَّ البشر مثال فريد بين الثدييات.15،16
على الجانب المقابل، أوضحت دراسةٌ أجراها باحثون من السويد عام ٢٠١٣ أنَّ الحُصَين البشري ينتج ما يقرب من ٧٠٠ خلية كل يوم — أي إن نحو ١٫٧٥ في المائة من إجمالي عدد الخلايا الموجودة في ذلك الجزء من الدماغ تتغيَّر كل سنة — وأثبتت أيضًا أنَّ هذا المعدل لا يقل إلا بدرجة طفيفة مع التقدم في العمر.17 وفي وقتٍ أقرب، نشرت المجموعة نفسُها دليلًا على التخليق العصبي لدى البالغين في منطقة الجسم المخطط بالدماغ البشري، وهو بنية توجد تحت القشرة وتسهم في التحكُّم في الحركة والمكافأة والتحفيز. يبدو أنَّ هذه الخلايا تنشأ في منطقةِ ما دون البطين، ثم تشكِّل عَصَبونات بينية تقتصر أليافها على المنطقة القريبة، وتتخذ إشاراتها التثبيطية دورًا ضروريًّا في عمل الدوائر العصبية.18

إنَّ السؤال المهم هو ما إذا كان تكوين الخلايا العصبية في أدمغة البشر البالغين يحقِّق أيَّ هدف، مثلما هي الحال لدى الطيور والقوارض؟ تُعَد درجة تكوين الخلايا العصبية في الحُصَين البشري لدى البالغين قريبةً من تلك التي نراها في القوارض؛ لذا فثَمة احتمالية كبيرة بأن يكون لهذه الخلايا العصبية الجديدة مساهمةٌ في عمل الدماغ، لكن لا يوجد دليل مباشر على ذلك حتى الآن.

في الفئران البالغة، يحفِّز عقار الفلوكستين (بروزاك)، ومضادات الاكتئاب القريبة منه، عمليةَ تكوين الخلايا العصبية في منطقة الحُصَين. قادت هذه النتيجة بعض الباحثين إلى تخمين أنَّ تكوين الخلايا العصبية ربما يؤدي دورًا مهمًّا في تحسُّن الاكتئاب وعلاجه. لقد أدَّت التجارب التي أُجريَت على حيوانات وأُلغيَ فيها تكوين الخلايا العصبية في منطقة الحُصَين تمامًا، إلى نتائج متضاربة: ففي بعضها يظهر على الحيوانات زيادةٌ في الاستجابة للتوتر، وزيادة في السلوكيات المشابهة لسلوكيات الاكتئاب، بينما لا تظهر هذه الاستجابات في بعض التجارب الأخرى.

إنَّ الاكتئاب في البشر يرتبط بانخفاض حجم الحُصَين بالفعل، لكن ليس من الواضح بأي حال من الأحوال أنَّ السبب في هذا الانخفاض يعود إلى ضعف تكوين الخلايا العصبية. ربما يكون ضعف تكوين الخلايا العصبية واحدًا من عوامل عديدة تسهم في هذا المرض المعقَّد، وربما يكون أكثرَ أهميةً في بعض الحالات عن غيرها. وبالمثل، أثبتت الدراسة التي أوضحت أنَّ الخلايا العصبية تُضاف باستمرار إلى الجسم المخطَّط، أنَّ الخلايا التي تولَد في مرحلة البلوغ تنضب في حالة مرض باركينسون، لكن لا يزال من غير الواضح أيضًا ما إن كان لهذه الحالة صلة بضعف تكوين الخلايا العصبية أم لا وكيف تحدث.19،20 وثَمة جانب سلبي محتمل آخر لتكوين الخلايا العصبية في مرحلة البلوغ. إنَّ السرطان يظهر حين تنقسم الخلايا دون تحكُّم وتنتشر في الجسم؛ لذا فمن المحتمل أنَّ مجموعات الخلايا الجذعية العصبية الموجودة في الدماغ البشري البالغ، يمكن أن تسهم في تكوُّن أورام الدماغ.21

يرى المتشككون أنَّ أعداد الخلايا التي ينتجها الدماغ البشري البالغ أقلُّ كثيرًا من أن تشكِّل أهميةً وظيفية. وهم يحاجُّون أيضًا بأنَّ إضافة خلايا جديدة قد يؤدي إلى الإخلال باستقرار الدوائر العصبية الموجودة؛ ومن ثَم فليست العملية بأكملها سوى إحدى البقايا التطورية التي ورثناها من أسلافنا.

يُعَد عالِم الأحياء العصبية التنموية باسكو راكيتش، الباحث في جامعة ييل، أكثرَ هؤلاء المتشككين صراحةً في التعبير عن رأيه. في بداية سبعينيات القرن العشرين، أجرى راكيتش سلسلةً من الدراسات البالغة التأثير، التي توضِّح كيفية انتقال الخلايا العصبية غير الناضجة عبر أدمغة القرود في مرحلة النمو، وقد ظل يدرُس القرود منذ ذلك الوقت. لقد فشل مراتٍ عديدةً في إيجاد دليل على تكوين الخلايا العصبية البالغة في القشرة المخية للقرود، وهو ينتقد طرق التمييز المستخدَمة في الكشف عن الخلايا الحديثة الولادة.

يرى المتشككون أنَّ أعداد الخلايا التي ينتجها الدماغ البشري البالغ أقلُّ كثيرًا من أن تشكِّل أهميةً وظيفية.

استنادًا إلى دراساته على القرود، يقدِّر راكيتش أنَّ الخلايا العصبية المضافة إلى الدماغ البشري البالغ ستستغرق سنةً على الأرجح كي تصل إلى نضجها الكامل. يرى راكيتش أنَّ هذا يستبعد احتمالية أنَّ بروزاك والعقاقير القريبة منه تؤدي فعاليتها من خلال تحفيز تكوين الخلايا العصبية؛ إذ إنها لا تستغرق سوى ستة أسابيع لتحقيق نتائجها. بالرغم من ذلك، توجد بعض الأدلة على أنَّ الخلايا العصبية الوليدة في الدماغ البالغ تحسِّن من المرونة المشبكية؛ لذا يجادل البعض بأنَّ فترة عام كامل من عدم النضج يمكن بالفعل أن تجعل الخلايا العصبية الوليدة أكثرَ قدرة على المساهمة في عمل الدماغ.22

وبالرغم من الجدال، فسرعان ما أدَّى اكتشاف تكوين الخلايا العصبية والخلايا الجذعية العصبية في الدماغ البشري البالغ إلى ارتفاع الآمال بوجود علاجات بالخلايا الجذعية للإصابات والأمراض العصبية، وإلى اقتراح أسلوبين محتملين للكيفية التي قد تتطوَّر بها مثل هذه العلاجات. فنحن نعرف أنَّ الخلايا الجذعية يمكن أن تنقسم استجابةً لتعرُّض الدماغ لإصابةٍ ما؛ مما يشير إلى احتمالية استخدام آلية الإصلاح الذاتي هذه ذات يوم، من خلال تشجيع الخلايا الجذعية العصبية الذاتية النمو على استخدام خلايا جديدة تنتقل إلى موقع الإصابة، وتحل محلَّ الخلايا التالفة أو الميتة. أما الاستراتيجية الأخرى، فهي زرع خلايا جذعية في الدماغ، وتوجيهها إلى موقع الإصابة.

لا يزال فهمنا لبيولوجيا الخلايا الجذعية العصبية غير مكتمل على الإطلاق، ويواجه الباحثون الذين يحاولون تطويرَ مثل هذه العلاجات صعوباتٍ تقنيةً كبيرة. ومن أمثلة ذلك: أي أنواع الخلايا الجذعية هو الأنسب للزراعة، وهل يُحتمل أن تكون الأنواع المختلفة أنسبَ لمرضٍ محدَّد أو نوع محدَّد من الإصابة؟ وما العدد الأمثل الذي يمكن زراعته من الخلايا؟ وكيف يمكن التأكد من أنَّ الخلايا المزروعة ستعيش لفترة طويلة بما يكفي لأن تندمج وتساعد في استعادة الوظائف العصبية؟

وبسبب هذه الصعوبات، لا يزال علاج الأمراض العصبية والإصابات بالخلايا الجذعية أبعدَ ما يكون عن تحقيقِ كاملِ إمكانياته، والحق أنَّ التجارب السريرية التي أُجريَت حتى اليوم قد باءت جميعها بالفشل.23 وبالرغم من هذا، فقد أدَّى وعي الجمهور بهذه القضايا إلى زيادة كبيرة في سياحة الخلايا الجذعية إلى الدول التي تسمح قوانينها المتساهلة للتجار المنعدمي الضمير، بأن يبيعوا للمرضى اليائسين علاجاتٍ غير مصرَّح بها، بل قد تكون خطرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤