الفصل الثامن

الإدمان والألم

إنَّ قدرة الدماغ على المرونة العصبية تتضمَّن قدرتنا على التعلم من الخبرة لتكوين ذكريات واكتساب مهارات جديدة، إضافةً إلى قدرتنا على التكيف والتعافي من إصابات الدماغ، أو تعويضها على الأقل وتخفيف أي تلف قد حدث. فالعلاقة بين الدماغ والسلوك ليست أحادية الجانب. ذلك أنَّ خبراتنا وسلوكياتنا تستحثُّ بعض تغيرات المرونة في الدماغ، ويمكن لهذه التغيرات أن تؤثر بدورها في سلوكياتنا المستقبلية وخبراتنا. والحق أنَّ نتائج المرونة العصبية غير مرغوبة على الدوام.

يُعَد الألم والإدمان هما المثالين الأكثرَ وضوحًا من بين أشكال المرونة العصبية المضرَّة. تنشِّط العقاقير المسبِّبة للإدمان نظامَ المكافأة في الدماغ وتستحوذ عليه، ويمكن للتغيرات الناتجة أن تستمر فترةً طويلة بعد خروج المادة الفعَّالة من الدماغ؛ مما يؤدي إلى الاشتهاء والسلوك القهري والسعي للحصول على هذه المادة المسببة للإدمان. ويمكن للألم الطويل الأمد أن يحفِّز إعادة تنظيم دوائر الحبل الشوكي التي تشترك في معالجة المحفِّزات المؤلمة ونقلها إلى الدماغ، ويمكن لهذه التغييرات أيضًا أن تستمر فترةً طويلة بعد زوال المحفِّز الذي سبَّب الألم في البداية؛ مما يؤدي إلى حالاتٍ مُزمِنة من الألم يمكن أن تستمر شهورًا أو سنوات.

تنشِّط العقاقير المسبِّبة للإدمان نظامَ المكافأة في الدماغ وتستحوذ عليه، ويمكن للتغيرات الناتجة أن تستمر فترةً طويلة بعد خروج المادة الفعالة من الدماغ؛ مما يؤدي إلى الاشتهاء والسلوك القهري والسعي للحصول على هذه المادة المسبِّبة للإدمان.

المكافأة والدافع والإدمان

إنَّ العقاقير المخدِّرة والدوائية المسبِّبة للإدمان تعمل على نطاق أنظمة الدماغ المعنية بالمكافأة والدافع. ويُعَد أهم هذه الأنظمة هو المسار الوسطي الطرفي الذي يبدأ في منطقةٍ صغيرة بالدماغ الأوسط تُسمى بالسقيفة البطنية. وتحتوي منطقة السقيفة البطنية في الدماغ البشري على ما يقرب من ٤٠٠ ألف خلية عصبية. تكوِّن هذه الخلايا الناقل العصبي، الدوبامين، وتُفرِزه، وتُرسِل أليافها المحورية الطويلة إلى النواة المتكئة، وهي جزء من مجموعة من البنى تحت القشرية التي تُسمى بالعُقد القاعدية، وهي مسئولة عن التعلم الإجرائي وتكوين العادات والتحكم في الحركات الإرادية. تتصل النواة المتكئة بدورها بالعديد من المناطق الأخرى في الدماغ، بما في ذلك بعض أجزاء القشرة المخية المعنية بالذاكرة واتخاذ القرار، واللوزة الدماغية، وهي بنيةٌ صغيرة تشبه اللوزة وتُعنى بالخوف والقلق وتعيين المشاعر لخبراتنا.

تتعاون هذه البنى في المعتاد لترجمة الدافع إلى تصرفات موجَّهة بأهداف للحصول على مكافآت طبيعية مثل الطعام والماء والجنس. تؤدي النواة المتكئة دورًا مركزيًّا في هذه العمليات. فكلُّ ما نجده ممتعًا يتسبَّب في تنشيط عَصَبونات السقيفة البطنية وإطلاقها للدوبامين في النواة المتكئة التي تقيِّم مدى المكافأة وفقًا لكمية الدوبامين التي أفرزتها العَصَبونات. ولهذا السبب، تشتهر النواة المتكئة بأنها «مركز المكافآت»، ويشتهر الدوبامين بأنه «جزيء المتعة»، بالرغم من أنَّ كليهما يؤدي العديدَ من الوظائف الأخرى أيضًا.1

إنَّ جميع العقاقير المسبِّبة للإدمان تستهدف السقيفة البطنية وتعمل عليها بطريقة أو بأخرى لتعزيز نقل الدوبامين؛ مما يؤدي إلى زيادة تركيز الناقل العصبي فيها وفي النواة المتكئة أيضًا، وغير ذلك من المناطق المتصلة بها. يزيد النيكوتين من معدل إطلاق عَصَبونات السقيفة البطنية المنتِجة للدوبامين، من خلال التأثير في مستقبلات النيكوتين الموجودة على أسطح العَصَبونات، أما أشباه الأفيونات والقنبيات والبنزوديازيبينات، فتزيد من معدل إطلاق العَصَبونات بطريقةٍ غير مباشرة من خلال تثبيط نشاط العَصَبونات البينية الموجودة في السقيفة البطنية والمنتِجة للناقل العصبي «جابا»، بينما تمنع المنبِّهات النفسية مثل الكوكايين والأمفيتامينات والإكستاسي (حبوب السعادة)، ناقل الدوبامين، وهو غشاء بروتيني يقوم في المعتاد بإعادة امتصاص الدوبامين فور أن تُفرزه العَصَبونات في الصدع المشبكي.

fig5
شكل ٨-١: المسار الوسطي الطرفي في الدماغ البشري (مسار المكافآت).
تستولي العقاقير المخدرة على مسار المكافآت لأنها أقوى من المكافآت الطبيعية في تعزيز إفراز الدوبامين في المسار الوسطي الطرفي. إنَّ جرعةً واحدة من الكوكايين أو المورفين أو النيكوتين أو الكحول أو البنزوديازيبينات، تستحث التقوية الطويلة الأمد في السقيفة البطنية (انظر الفصل الثالث)، ويستمر هذا التأثير فترةً تصل إلى أسبوع. يمكن للمواد المسبِّبة للإدمان أن تؤدي أيضًا إلى تغيراتٍ بنيوية في الخلايا العصبية: يزيد تعاطي الكوكايين أو غيره من المحفزات القريبة منه كثافةَ أشواك الزوائد الشجيرية في السقيفة البطنية، بينما يؤدي التعاطي المزمن للهيروين إلى تقليل كثافة هذه الأشواك. يأتي معظم هذه النتائج من تجاربَ أُجريَت على شرائحَ من نسيج الدماغ الأوسط المستخرج من دماغ الفئران، لكن دراسات المسح الدماغي في البشر تؤكد أنَّ العقاقير المسبِّبة للإدمان تزيد من تركيز الدوبامين في النواة المتكئة، وأنَّ هذه الزيادة شديدة الارتباط بالآثار الممتعة لهذه المواد.2،3

يمكن رؤيةُ الإدمان على أنه الانتقال من الاستخدام الترفيهي حين يُستخدم العقَّار إراديًّا للحصول على المتعة فحسب، إلى الاستخدام الإدماني حين يفقد المستخدِم القدرةَ على التحكم في التعاطي، ويصبح مجبَرًا على إيجاد العقَّار وتناوله رغم أنه قد يترك آثارًا عكسية. فور أن تصبح السيطرة للعقَّار، يدخل المدمِن دائرةً مفرَغة تتمثل في تناول العقَّار بشرهٍ للوصول إلى النشوة، ثم يبدأ في الشعور بأعراض الانسحاب التي تحفِّز الاشتهاء الذي يؤدي بالمستخدِم إلى البحث عن العقَّار وتناول المزيد منه.

ولأنَّ جميع الأنشطة الممتعة تعزِّز من إفراز الدوبامين في النواة المتكئة، فيمكن أن تصبح إدمانية هي أيضًا، وتوجد الآن بعض الأدلة التي تشير إلى أنَّ أنشطة كالمقامرة والجنس والتسوق يمكن أن تؤدي إلى تغيرات دماغية مماثلة؛ مما يؤدي بالأشخاص إلى ممارستها بطريقةٍ قهرية.

يعتقد العلماء الآن أنَّ الانتقال من التعاطي الترفيهي إلى مرحلة الإدمان يُصحَب بسلسلة من التغيرات البنيوية والوظيفية في مسار المكافآت بالدماغ. إذَن، فالتعاطي المبدئي لمادة إدمانية يستحثُّ التقوية الطويلة الأمد في السقيفة البطنية والنواة المتكئة؛ مما يُنتج آثارًا مُبهِجة. ومع التعاطي المستمر تبدأ بعض التغيرات في الحدوث في أجزاء المسار التي تشترك في الذاكرة والوظائف التنفيذية. ويتعلم المتعاطي الربطَ بين تعاطي العقَّار وبين أشخاص محدَّدين أو بيئات وأدوات محدَّدة، وتعزِّز كل جرعة تالية من السلوكيات التي تؤدي إلى تعاطي العقَّار. يتكيف الدماغ بطريقةٍ تجعل المتعاطي يبالغ في تقييم تأثيرات المكافئة التي يخلِّفها العقَّار، ويصبح تعاطي العقَّار إدمانيًّا وقهريًّا.4
ولأنَّ جميع الأنشطة الممتعة تعزِّز من إفراز الدوبامين في النواة المتكئة، فيمكن أن تصبح إدمانية هي أيضًا، وتوجد الآن بعض الأدلة التي تشير إلى أنَّ أنشطة كالمقامرة والجنس والتسوق يمكن أن تؤدي إلى تغيراتٍ دماغية مماثلة؛ مما يؤدي بالأشخاص إلى ممارستها بطريقةٍ قهرية. إننا نعرف الآن أنَّ الأدوية الطبية المستخدَمة لعلاج مرض باركينسون يمكن أن تؤثِّر بدرجةٍ ملحوظة في مثل هذه السلوكيات. يحدث مرض باركينسون بسبب تداعي الخلايا المنتجة للدوبامين في منطقةٍ أخرى من الدماغ الأوسط تُسمى بالمادة السوداء؛ مما يؤدي إلى اضطرابات في الحركة ومشكلات إدراكية. يمكن تخفيف حدة بعض هذه الأعراض من خلال عقاقير تزيد من مستويات الدوبامين في الدماغ، لكن لأنَّ هذه العقاقير تؤثِّر هي أيضًا في المسار الوسطي الطرفي، فيمكن أن تؤدي، في حالات نادرة، إلى المقامرة المرضية أو فرط النشاط الجنسي، أو غير ذلك من السلوكيات القهرية.5

مسار الألم

يؤدي الألم الجسدي الوظيفةَ التطورية القديمة والمهمة المتمثلة في تنبيهنا إلى الإصابات التي يمكن أن تهدِّد الحياة. لكنه قد يؤدي أيضًا إلى إنتاجِ أساليبِ تكيُّفٍ طويلةِ الأمد في الجهاز العصبي؛ أي تغيرات قد تسهم في تشكيل صور متعددة من الألم المرضي الدائم.

تحدث قدرتنا على الإحساس بالمحفِّزات المؤذية من خلال العَصَبونات الحسية الأساسية في الجهاز العصبي المحيطي. وتتجمَّع أجسام خلايا هذه العَصَبونات التي تحس بالألم في عناقيد في عُقَد الجذر الظهرية، وهذه العُقَد توجد خارج الحبل الشوكي مباشرة. تحتوي هذه العَصَبونات على نسيجٍ ليفي واحد ينقسم إلى فرعين بالقرب من جسم الخلية. يمتد أحد الفرعين إلى بقعةٍ محدَّدة تحت سطح الجلد مباشرة، وهو يتضمن مختلف المستقبلات الحساسة لأنواع محددة من المحفزات المؤلمة مثل الضغط الميكانيكي الشديد، ودرجات الحرارة الساخنة والباردة إلى حدٍّ مؤذٍ، وبعض مكوِّنات المزيج الكيميائي الذي يفيض من الخلايا التالفة. ويمتد الفرع الآخر مسافةً أقصرَ كثيرًا حتى ظهر الحبل الشوكي، حيث يكوِّن مشابك عصبية مع العَصَبونات الحسية الثانوية التي تتصل بالدماغ.6

حين تنشط هذه العَصَبونات المستشعرة للألم، تُنتِج نبضات عصبية تنتقل عبر الحبل الشوكي إلى العَصَبونات الثانوية الموجودة في الحبل الشوكي، والتي توصِّل الإشارات إلى القشرة الحسية الجسدية. وبعد أن تتم معالجة هذه الإشارات، نصبح واعين بالألم ونتصرَّف لإيقافه كي نمنع حدوث أي ضرر إضافي يمكن أن يحدث.

قد تحدث تغيراتُ المرونة على الطرف المحيطي للعَصَبونات المستشعرة للألم تحت الجلد، وكذلك على المشابك العصبية التي تكوِّنها مع العَصَبونات الحسية الثانوية. وسرعان ما يؤدي تنشيط مستشعرات البروتين إلى إعادة توزيعها في طرف العصب ويغيِّر من خواصها الوظيفية لتقليل الحد الأدنى الذي يتم تنشيطها عنده. يتسبَّب هذا في الحساسية المفرطة للنسيج التالف، فنشعر بالألم تجاه المحفِّزات التي تكون غير مؤذية في حالات أخرى؛ مما يساعد في الإصلاح من خلال تقليل التلامس مع النسيج التالف. ويؤدي أيضًا إلى زيادة معدل تنشيط العَصَبونات المستشعرة للألم، وزيادة احتمالية إفراز الناقل العصبي من أطرافها العصبية في الحبل الشوكي.

عادةً ما تكون هذه التغيرات القصيرة الأمد قابلة للانعكاس. بالرغم من ذلك، ففي ظروفٍ معينة، يمكن أن تحدث تعديلات طويلة الأمد في نظام الألم. فخلال حدوث الالتهاب، يمكن لعوامل النمو الصادرة من الخلايا التالفة أن تعزِّز من تكوين مستقبِلات الألم ونقلها، وكذلك جزيئات إصدار الإشارة المرتبطة بها في الخلايا العصبية المستشعِرة للألم؛ مما يؤدي إلى تحسيس الخلايا لهذه المحفِّزات المؤلمة. بعد ذلك، يمكن لتيارات الدفقات التي تولِّدها هذه الخلايا أن تستحث التقوية الطويلة الأمد في المشابك العصبية بالحبل الشوكي. يضخم هذا من استجابة العَصَبونات الثانوية إلى إشارات الألم الواردة؛ فتنتج الإشارات المتكررة المنخفضة التردد خرجًا أكبر على نحوٍ مستمر، وهي عملية تُعرَف باسم التعاظم.7،8
يرتبط الألم المزمِن أو المستمر أيضًا بتغيراتٍ وظيفية وبنيوية في القشرة الحسية الجسدية الأساسية، لكن الأنواع المختلفة من الألم والإصابات تؤثِّر في هذه التغيرات بطرقٍ مختلفة. ففي متلازمة النفق الرسغي على سبيل المثال، يزيد التمثيل القشري للأصابع المؤلمة، وربما يؤدي ذلك إلى تفاقم الألم الذي يشعر به المصابون بها، بينما يتضاءل تمثيل أجزاء الجسد المصابة في حالات الألم النطاقي المعقَّدة، وربما يعود ذلك إلى إساءة الاستخدام. تحدث إعادة التنظيم القشري في خطوات متعددة: في غضون دقائق من الإصابة المبدئية، «تبرز» الوصلات التي كانت مثبطة، وقد يحدث بعد ذلك تبرعم للمحاور العصبية في النسيج الذي يُعاد تنظيمه.9

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤