الفصل التاسع

التغيرات الدماغية المستمرة مدى الحياة

إنَّ المرونة العصبية عمليةٌ مستمرة على مدى الحياة. تحدث بعض أشكال المرونة العصبية، مثل تعديل وصلات المشابك العصبية على نحوٍ مستمر، وهي ضرورية للوظائف الذهنية اليومية مثل التعلم والذاكرة (انظر الفصل الرابع). وعلى الجانب الآخر، يقتصر تكوين الخلايا العصبية على النمو في مرحلةِ ما قبل الميلاد، ويبلغ ذروته بين الأسبوع العاشر والأسبوع السادس عشر من نمو الجنين، وخلال تلك المرحلة ينتج الدماغ الجنيني ما يُقدَّر ﺑ ٢٥٠ ألف خلية عصبية في الدقيقة. يستمر الدماغ في إنتاج خلايا بعد الميلاد، لكنَّ معدل الإنتاج يتضاءل بسرعةٍ خلال السنوات الأولى من الحياة. يُنتج الدماغ البالغ خلايا جديدة أيضًا، لكنَّ قدرته على الإنتاج محدودة للغاية بحسبِ ما نعرفه (انظر الفصل الخامس).

وبالمثل، يبدأ تكوين المشابك العصبية في الرحم، وفي وقت الميلاد، يبلغ معدل تكوين المشابك العصبية مليونَي مشبك عصبي كلَّ دقيقة تقريبًا، لكن نشاط الجينات التي تشترك في تكوين المشابك العصبية يبلغ ذروته في عمر الخامسة تقريبًا. للخبرات المبكرة في الحياة آثارٌ مهمة على الدوائر العصبية النامية، ويبدو أنَّ هذه الآثار قد تستمر على مدار الحياة. وبناءً على هذا، يمكن للخبرات التي نمرُّ بها في طفولتنا أن تهيئنا لأنماطٍ محددة من السلوك عند بلوغنا.

تتَّسم المراهقة أيضًا بتغيرات بارزة في توزيع المادة البيضاء، وإلغاء عدد ضخم من المشابك العصبية؛ مما يقلل العدد الإجمالي للمشابك العصبية في الدماغ بمقدار ٤٠٪ تقريبًا. هاتان العمليتان كلتاهما ضروريتان لنضج الدماغ على النحو الملائم، وكلتاهما ترتبطان بتغيرات في السلوك. يحدث تكوين المشابك العصبية وتقليمها باستمرار على مدار الحياة أيضًا، ويعتقد العلماء الآن أنَّ كلتيهما مهمَّتان للغاية لعمل الدماغ بشكلٍ طبيعي (انظر الفصل الرابع).

يبدو أيضًا أنَّ الدماغ يمرُّ مع التقدُّم في العمر بتغيرات نمطية في المرونة العصبية ترتبط بتغيرات في الوظائف الذهنية؛ إذ يبدو أنَّ الشيخوخة أيضًا تتسم بتغيراتٍ دماغية بنيوية ووظيفية تسهم في التداعي المتزايد للوظائف الذهنية، إضافةً إلى القدرة على تعويض التغيرات الإدراكية المرتبطة بالسن أو تخفيفها.

المرونة العصبية في مرحلةِ ما قبل الميلاد

يعتمد نمو الدماغ على النحو الملائم اعتمادًا كبيرًا على التحفيز الحسي والنشاط التلقائي للدماغ في سن الرضاعة والطفولة المبكرة. وتُعَد التغيرات البنيوية والوظيفية التي يستحثها هذا النشاط ضرورية للغاية لتكوين دوائر عصبية صحية وفعَّالة. والحق أنَّ هذه العمليات من تغيرات المرونة العصبية الأشهر والمفهومة على أفضلِ نحوٍ من بين جميع تغيرات المرونة الأخرى، وذلك بفضل العمل الريادي الذي أجراه هوبل وفيسل في ستينيات القرن العشرين (انظر الفصل الثاني).

حقيقة الأمر أنَّ المرونة العصبية تبدأ في تشكيل الدوائر العصبية خلال تشكُّلها في الرحم. ففي منتصف الثلث الثاني من الحمل (الأسابيع من ٢٠ إلى ٢٣)، تبدأ الوصلات الطويلة النطاق للأنظمة الحسية في التشكل؛ مما يسمح للجنين بإدراك المحفِّزات البيئية المختلفة الأنواع، ويمكن لتلك المحفِّزات أن تعدِّل في هذه الدوائر قبل الميلاد بفترة طويلة، مثلما تفعل تمامًا في المرحلة المبكرة من الحياة.

بالرغم من ذلك، لا تزال معرفتنا عن المرونة العصبية السابقة للولادة محدودة، ويعود ذلك بدرجةٍ كبيرة إلى أنَّ دراسة هذه العمليات في الرحم أصعب كثيرًا. استخدمت الدراسات المبكرة التي أُجريَت في خمسينيات القرن العشرين تخطيطَ كهربية الدماغ: وضع أقطاب كهربية على بطن الأم لتسجيل أمواج الدماغ الجنيني خلال الميلاد. وبالرغم من أنَّ هذه الطريقة تقريبيةٌ بعض الشيء، فإنها أوضحت وجود أنماط محدَّدة لأمواج الدماغ ترتبط بإجهاد الجنين، وأشكال الشذوذ العصبي، وتلف الدماغ الذي يستمر عند الميلاد؛ مما يشير إلى أنَّ نشاط الدماغ خلال فترة الحمل قد ينبئ في بعض الأحيان بنتائج النمو.

يوجد اليوم العديد من الدراسات التي تستخدم تقنيات التصوير العصبي الوظيفي لدراسة وظائف دماغ الجنين. ويُعَد الجهاز السمعي هو المدروس على النحو الأفضل في الوقت الحالي بسبب سهولة توصيل المحفِّزات الصوتية إلى الجنين. وتبدأ خلايا الشَّعر الموجودة في قوقعة الأذن، والتي تحوِّل موجات الصوت إلى نبضات كهربية في العمل بحلول منتصف الثلث الثاني من الحمل، أما جهاز الرؤية على الجانب الآخر، فلا يستقبل سوى القليل جدًّا من المدخلات الحسية في هذا الوقت، ولا يعمل بشكل كامل إلا بعد الميلاد. ولهذا؛ تظهر قدرات التمييز السمعي في الرحم؛ مما يمكِّن حديثي الولادة من تمييز الأصوات التي سمعوها قبل الميلاد، ومن تمييز أصوات أمهاتهم من بين أصوات الآخرين، وتصبح ناضجة بالكامل خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من الحياة.1

يُثبت هذا العمل بوضوح أنَّ العمليات الإدراكية مثل الانتباه والذاكرة موجودة قبل الميلاد، ويستخدم الباحثون الآن العديد من تقنيات التصوير العصبي لمعرفة المزيد عن كيفية ظهور هذه العمليات وموعد ظهورها. لا يزال هذا العمل في مهده، لكننا سنعرف المزيد بالتأكيد مع زيادة تقدُّم معرفتنا ووسائلنا التكنولوجية. إنَّ فهم هذه العمليات على نحوٍ أفضل يمكن أن يمدَّنا ببعض الرؤى الثاقبة بشأنِ أمراضٍ مثل التوحُّد وصعوبة القراءة، وربما الفصام الذي صار البعض يعتبره الآن من اضطرابات النمو.

خبرات المرحلة المبكِّرة من الحياة

أوضحت دراسة بارزة نُشرت عام ٢٠٠٤ أنَّ جودة الرعاية التي تتلقاها الفئران من أمهاتها في مرحلة الطفولة تؤثِّر في سلوكها في مرحلة البلوغ. تقدِّم الأمهات من الفئران مستوياتٍ مختلفة من الرعاية لنسلها؛ إذ تعتني بعض الأمهات بنسلها وترضعه بوتيرةٍ أكثر من غيرها. والفئران التي تلعقها أمهاتها على نحوٍ متكرِّر، وتنظِّفها خلال الأسبوع الأول من الحياة، أفضل في التعامل مع التوتر والمواقف المخيفة في البلوغ، مقارنةً بالفئران التي لم تحظَ بالتواصل مع أمهاتها أو حظيت بالقليل منه. ترتبط هذه الاختلافات بتغييرات في نشاط المستقبِل الجيني: جلايكورتيكويد الموجود في الحُصين. يؤدي مستقبل الجلايكورتيكويد دورًا مهمًّا في الاستجابة للتوتر، والفئران التي تلقَّت من أمهاتها مستوياتٍ عالية من الرعاية، كانت تتمتَّع بمستوياتٍ أعلى من مستقبل الجلايكورتيكويد مقارنةً بتلك التي تلقَّت قدرًا أقلَّ من الاهتمام.

نُسِب السبب في هذه النتائج إلى تعديلات «فوق جينية» على الحمض النووي دي إن إيه، وهذه التعديلات تغيِّر تعبير الجينات من خلال تغيير البنية المادية للمنطقة الكروموسومية التي تتضمن الجينات. أدَّى اللعق والتنظيف المستمرَّان إلى تغييراتٍ فوق جينية فتحت المنطقة الكروموسومية التي تحتوي على جين المستقبِل جلايكورتيكويد، وسهَّلت من آلية تكوين البروتين، بينما أدَّى انخفاض رعاية الأم إلى تغييراتٍ فوق جينية أخرى أغلقت الكروموسوم وقلَّلت نشاط الجين.2
تسمح التغيرات فوق الجينية للفطرة والتربية أو للجينات والبيئة بالتفاعل أحدها مع الآخر، وتقدِّم طرقًا يمكن من خلالها نقل الصفات المكتسبة إلى أجيالٍ تالية، وهذه السلوكيات المرتبطة بها قابلة للانعكاس: حين تكون الأم الوالدة للفئران مهمِلة، ثم ترعى الفئرانَ أمهاتٌ أكثر اهتمامًا، يُزيل اللعق والتنظيف العلامات فوق الجينية التي تمنع التعبيرَ عن جين المستقبِل جلايكورتيكويد؛ فتصبح استجابة الفئران للتوتر شبيهةً باستجابة الفئران الوليدة التي تلقَّت جودةً عالية من رعاية أمهاتها منذ البداية. يمكن عكس هذه العلامات أيضًا من خلال علاج الفئران الصغيرة بمادة كيميائية تُعيق هذا النوع المحدَّد من التعديل فوق الجيني.3
تُشير دراسة متابعة أخرى أجراها الباحثون أنفسهم إلى أنَّ هذه النتائج تنطبق على البشر أيضًا. أجرى الباحثون تشريحَ ما بعد الوفاة لأدمغة ضحايا إساءة المعاملة في الطفولة ممن قاموا بالانتحار عند البلوغ، وقارنوها بأدمغة ضحايا الانتحار الذين لم يتعرضوا لإساءة المعاملة في الطفولة، وبأدمغة مَن ماتوا بأسباب أخرى. ووجدوا أنَّ منطقة الحُصَين لدى ضحايا الانتحار الذين تعرَّضوا لإساءة المعاملة في الطفولة، تحتوي على مستوياتٍ من مستقبِل جلايكورتيكويد للحمض النووي الريبوزي الرسول أقلَّ بدرجةٍ كبيرة من تلك التي توجد في المجموعتين الأخريين.4

في الأعوام الخمسة عشر الماضية تقريبًا، صار الباحثون مهتمين على نحوٍ متزايد باستكشاف العلاقة بين نمو الدماغ والحالة الاقتصادية الاجتماعية. إننا نعرف على مدار العديد من السنوات أنَّ الأشخاص الأفقر عادةً ما يتمتعون بمستوًى أقلَّ من الصحة، وأنهم يحصلون على مستوًى أقلَّ من الرعاية الصحية، ويموتون في سنٍّ أصغر ممن هم أفضل حالًا من الناحية المادية، وتوضح الصورة التي تتشكَّل لدينا الآن أنَّ النمو في فقر له تأثيرات خطيرة ودائمة على نمو الدماغ يمكن أن تؤثِّر على الصحة الذهنية والجسدية في البلوغ.

النمو في فقرٍ له تأثيرات خطيرة ودائمة على نمو الدماغ يمكن أن تؤثِّر على الصحة الذهنية والجسدية في البلوغ.

يصل الدماغ البشري إلى ٨٠٪ من حجمه البالغ في عمر السنتين، ويكتمل نموه تقريبًا في عمر العاشرة. لكننا نعرف الآن أنَّ تغيرات المرونة العصبية الموسعة تستمر في الحدوث حتى مرحلة متأخرة من المراهقة وما بعدها.

يوضِّح هذا العمل أنَّ الحالة الاقتصادية الاجتماعية ترتبط بصفةٍ عامة باختلافات في تكوين بعض البنى المحدَّدة في الدماغ وعملها. فالأطفال الذين يأتون من خلفياتٍ أفقرَ يتمتعون بحجمٍ أصغر من المادة الرمادية في منطقة الحُصَين على سبيل المثال، وتظهر لديهم أيضًا اختلافات في نشاط اللوزة الدماغية وقشرة الفص الجبهي، مقارنةً بمَن هم أفضل حالًا من الناحية المادية. ترتبط هذه السمات ببعض أشكال النقص في مجالات كالانتباه والذاكرة والتنظيم الانفعالي.5

تتطابق النتائج المستمَدة من دراسات الحالة الاقتصادية الاجتماعية والعوامل فوق الجينية، مع نتائج العديد من الدراسات التي أُجريَت على الحيوانات بشأن نتائج الإثراء البيئي، وكذلك مع الأبحاث المبكرة بشأن الحرمان من الأمومة. ويبدو أنَّ هذه النتائج تؤكد أنَّ التحفيز الذهني والعلاقات التي تنطوي على الحب ضروريةٌ لنمو الدماغ على نحوٍ سليم، وأنها تشير مباشرة إلى تدخلات متعددة يمكن أن تُخل بدائرة الفقر المفرغة؛ مما يعكس بعض نتائج الإهمال أو إساءة المعاملة في الطفولة، أو يُحد منها على الأقل.

يبدو أنَّ الدراسات التي أُجريَت على الأطفال المهملين في ملاجئ رومانيا الفقيرة، تؤيد هذه الفكرة. أدَّى الحرمان إلى إصابة معظم هؤلاء الأطفال بإعاقاتٍ إدراكية خطيرة وصعوبات في التعلم، لكنَّ هذه النتائج كانت قابلة للانعكاس جزئيًّا على الأقل من خلال الرعاية بالتبني؛ فكلما تلقَّى الطفل رعايةَ التبني في فترةٍ أبكر، قلَّت خطورة الاضطرابات فيما بعد.6 بالرغم من ذلك، فمن الصعب جدًّا اختبارُ ما إذا كانت التعديلات فوق الجينية المرتبطة بالتوتر في مراحل الحياة المبكرة، قابلة للانعكاس في البشر أيضًا، والعديد من الباحثين يركِّزون بدلًا من ذلك على دراسةِ ما يجعل بعض البشر أقدرَ من غيرهم على تحمُّل آثار التوتر والمِحن في الحياة المبكرة.

توضِّح دراسات تصوير الدماغ ارتباطاتٍ محدَّدة، لا علاقات سببية، بين الفقر وبين بنية الدماغ وعمله. والحق أنَّ مصطلح الحالة الاقتصادية الاجتماعية مفهوم معقَّد عادةً ما يتضمَّن مستوى تعليم الفرد ودخله ووظيفته، والفقر في الطفولة يسبِّب التوتر المزمِن، الذي يترك في حد ذاته تأثيرًا كبيرًا على نمو الدماغ، لكنه غالبًا ما تُسببه عوامل أخرى أيضًا مثل سوء التغذية؛ لذا فمن المحال في الوقت الراهن أن نحدِّد بدقةٍ تلك المكوِّنات التي قد تكون مؤثرة في نمو الدماغ. بالرغم من ذلك، يرى البعض أنَّ هذه النتائج قاطعة، وقد بدأت بالفعل في تشكيل سياسات تؤيد العديد من وسائل التدخل في السنوات الأولى من العمر.

مرحلة المراهقة

يصل الدماغ البشري إلى ٨٠٪ من حجمه البالغ في عمر السنتين، ويكتمل نموه تقريبًا في سن العاشرة. بالرغم من ذلك، فنحن نعرف الآن أنَّ تغيرات المرونة الموسعة تستمر في الحدوث حتى المراحل المتأخرة من المراهقة وما بعدها؛ ونعرف بناءً على هذا أنَّ الدماغ لا يصل إلى نضجه الكامل حتى منتصف العشرينيات، أو ربما حتى بعد ذلك.

تتمثَّل السمات النمطية التي يتسم بها المراهق في اضطراب الهرمونات وزيادة حدة المشاعر، وإعطاء قيمة كبيرة لاستحسان الأقران؛ ومن ثَم قد يخاطر المراهق بدرجةٍ كبيرة لنيل هذا الاستحسان. يكون المراهقون والشباب أكثرَ عرضة أيضًا للإصابة بالقلق والتوتر والاكتئاب والفصام، ويرتبط ذلك كله على نحوٍ وثيق بالتغيرات المستمرة التي تحدث في الدماغ من الطفولة المتأخرة حتى بدايات البلوغ. تخضع قشرة الفص الجبهي على وجه التحديد لتغيرات بنيوية ووظيفية ممتدة على مدار المراهقة، ونحن نعرف أنَّ هذه المنطقة لا تصل إلى النضج الكامل حتى نهايات العشرينيات. عادةً ما توصف هذه المنطقة من الدماغ بأنها مركز التفكير؛ فهي تعزِّز الوظائف التنفيذية مثل التخطيط واتخاذ القرار وتنظيم المشاعر.

يوضح فحصُ ما بعد الوفاة لعينات النسيج الدماغي من أشخاص في مراحلَ عمرية مختلفة، أنَّ كثافة أشواك الزوائد الشجيرية في قشرة الفص الجبهي تزداد في الطفولة لكنها تقل تدريجيًّا بعد سن البلوغ. علاوةً على ذلك، توضح الدراسات الطولية، التي تُفحَص فيها أدمغة المتطوعين كل عامَين، أنَّ كثافة المادة الرمادية وسُمك منطقة الفص الجبهي، يزيدان في أواخر الطفولة وبداية المراهقة، وتبلغ هذه الزيادة ذروتها في سن الثانية عشرة. وبالمثل، يزداد حجم المادة البيضاء في قشرة الفص الجبهي على نحوٍ ثابت خلال الطفولة والمراهقة، ثم يتوقف في فترة الشباب المبكِّر.

عادةً ما يُعزى السبب في زيادة كثافة المادة الرمادية إلى تكوين المشابك العصبية، ويُعزى السبب في نقصانها إلى تقليم المشابك العصبية، بينما يُعزى السبب في حجم المادة البيضاء إلى إعادة توزيع المايلين من خلال الخلايا الدبقية القليلة التغصن. لا يمكن لفحوصات الدماغ تأكيد أنَّ أيًّا من التغيرات الملحوظة يحدث بسبب هذه العمليات، لكنَّ هذه التغيرات تحسن الدوائر العصبية قبل الجبهية، وتعيد تنظيم وصلاتها المشبكية، وتعزِّز من اتصالها بمناطقَ أخرى من الدماغ. ونتيجةً لهذا، تزيد كفاءة قشرة الفص الجبهي؛ مما يؤدي إلى تحسين عملية اتخاذ القرار وغيرها من الوظائف التنفيذية الأخرى.7

الأبوة والأمومة

تُعَد الأبوة والأمومة من الخبرات الطبيعية الأخرى التي تستحث المرونة العصبية. غير أننا لا نزال في المراحل الأولى من فهم الكيفية التي تغيِّر بها تجربة الأبوة والأمومة من الدماغ. أُجريَت معظم الدراسات في هذا الموضوع حتى اليوم على القوارض، لكنَّ الباحثين بدءوا الآن في استخدام تقنيات التصوير العصبي الوظيفي للتعرف على التغيرات التي يمرُّ بها الدماغ البشري خلال فترة الحمل وما بعدها.

تقوم الفئران الحديثة الولادة بإصدار نداءات «التلوي» المنخفضة التردد حين تشعر بالجوع، والتلفُّظ بإشاراتٍ فوق صوتية عالية التردد حين تشعر بالانعزال. تتعلَّم الأم الاستجابة لكلتا الإشارتين على النحو الملائم، لكنها حين تتعرَّض لهما لأول مرة تبدأ عَصَبونات قشرتها السمعية الأساسية في تغيير استجاباتها للأصوات حتى تتمكن من معالجتها وتأويلها بشكل صحيح.

توضح التجارِب التي سُجِّل فيها نشاط هذه الخلايا أنَّ أصوات الفئران الصغيرة عالية التردد تزيد من نسبة العَصَبونات البينية السريعة الاستجابة في القشرة السمعية الأساسية لدى الأم، والتي تتلاءم مع تردد صوت أطفالها. قد يغيِّر هذا من توازن النقل العصبي الاستثاري والتثبيطي، والذي يؤدي دورًا مهمًّا في تحديد مدى تزامن نشاط مجموعات العَصَبونات السمعية مع نشاط غيرها من الخلايا في مناطق الدماغ الأخرى.

إنَّ التعرض لرائحة الفئران الصغيرة في حد ذاته يحسِّن من استجابات عَصَبونات القشرة السمعية الأساسية لدى الأم لأصوات الفئران، إضافةً إلى النشاط التلقائي للخلايا. يبدو أيضًا أنه يقلل من نشاط العَصَبونات البينية السريعة الاستجابة، والتي قد تغيِّر هي أيضًا من التوازن بين الاستثارة والتثبيط.

توضح بعض تجارب الحيوانات الأخرى أنَّ الأمومة المبكرة ترتبط بإعادة التنظيم البنيوي وزيادة حجم المادة الرمادية في مناطقَ متنوعةٍ بالدماغ، ومنها قشرة الفص الجبهي، والمهاد (الذي ينقل المعلومات الحسية إلى المناطق الملائمة في القشرة)، ومنطقة ما تحت المهاد (التي تكوِّن هرمونات الأمومة)، واللوزة الدماغية (التي تعالج المعلومات العاطفية)، والجسم المخطط (الذي يشترك في المكافأة والدافع).

يبدو أنَّ بعض هذه التغيرات شديد الصلة بموقف الأم تجاه صغارها؛ إذ يلاحظ الباحثون اختلافاتٍ أكبر في أدمغة الحيوانات التي تتفاعل أكثر مع صغارها مقارنةً مع الحيوانات التي تتفاعل أقل. وجميع هذه التغيرات تشكِّل سلوك الأمومة؛ إذ تُعِد الدماغ للأمومة وتزيد من دافع الأم لرعاية صغارها.8،9 (واتساقًا مع هذه النتائج، نجد أنَّ الأمهات الجدد اللائي يعانين اكتئابَ ما بعد الولادة أقلُّ حساسية لبكاء أطفالهن، وتظهر لديهن أيضًا درجةٌ أقل من التواصل بين المناطق الأساسية في الدماغ، إضافةً إلى تغير النقل العصبي للجلوتامات في قشرة الفص الجبهي، وذلك مقارنةً بمَن لا يعانين هذا الاكتئاب.)10 تؤكِّد دراسات التصوير العصبي الطولية أنَّ تغيرات بنيوية مماثلة تحدث لدى الأمهات من البشر بعد الولادة بفترة قصيرة. ومثلما أنَّ موقف الفأرة الأم تجاه صغارها يؤثِّر في مدى التغيرات الدماغية النابعة من الأمومة، فإنَّ موقف أمهات البشر تجاه صغارهن في خلال الشهر الأول من الميلاد، يتنبأ بدرجة زيادة حجم المادة الرمادية في الشهور القليلة التالية.

كانت الأمهات في المعتاد هنَّ المسئولات في الأساس عن رعاية الأطفال، وكانت أهمية الآباء تتمثَّل بصفة أساسية في دورهم لكسب العيش. غير أنَّ الرجال يصبحون أكثر انخراطًا في تربية أطفالهم على نحوٍ متزايد. صِرنا نعرف الآن أهمية العلاقة بين الأب والطفل، وقد بدأت الأبحاث في توضيح أنَّ الأبوة أيضًا تستحث بعض تغيرات المرونة في الدماغ.

في عام ٢٠١٤، نُشرت أول دراسة تصوير عصبي طولية تدرس التغيرات التشريحية الدماغية المرتبطة بالأبوة. أوضحت هذه الدراسة أنَّ بعض التغيرات التي تحدث شبيهةٌ بتلك التي تحدث لدى الأمهات الجدد. تُعَد فترة الشهور الأربعة الأولى التالية للميلاد فترةً أساسية لنمو الرابطة بين الأب والطفل، وخلال هذا الوقت تُلحَظ زيادة في حجم المادة الرمادية في منطقةِ ما تحت المهاد، واللوزة الدماغية، والجسم المخطط، وقشرة الفص الجبهي. وعلى العكس من ذلك، يُلحَظ انخفاض حجم مناطقَ أخرى من الدماغ مثل القشرة الجبهية الحجاجية، والتلفيف الحزامي، وفص الجزيرة. يعتقد الباحثون أنَّ هذه التغيرات ترتبط بتغيرات في سلوك الأب وموقفه؛ مما يجعل الارتباط مجزيًا ويعزِّز العلاقة بين الأب وطفله، لكنَّ الكيفية المحددة التي ترتبط بها هذه العوامل أحدها بالآخر، لا تزال غير واضحة على الإطلاق.11

الدماغ في فترة الشيخوخة

حينما تتقدَّم بنا السن، يبدأ معظمنا في اختبارِ تداعٍ في الوظائف الذهنية مرتبط بالسن، وذلك مثل الانتباه والتعلم والتبديل بين المهام، لكنَّ بعض الجوانب الأخرى من الإدراك مثل تذكُّر الحقائق والأشكال والقدرة على تنظيم الانفعالات، يمكن أن تتحسَّن في معظم الأحيان. يمكن تفسير هذه التغيرات جميعها، ولو جزئيًّا على الأقل، من خلال التغيرات التدريجية في بنية الدماغ ووظيفته.

يخضع الدماغ المتقدِّم في السن للعديد من مثل هذه التغيرات. تموت العَصَبونات على وجه التحديد، وتقل درجة تماسك المادة البيضاء، ويتضح ذلك بالدرجة القصوى في قشرة الفص الجبهي والحُصَين الذي يبدو لسببٍ ما أنه أكثرُ عرضة لآثار التقدم في السن. ونتيجةً لهذا، يقل حجم قشرة الفص الجبهي بدرجة كبيرة، ويقل الوزن الإجمالي للدماغ بدرجةٍ ملحوظة أيضًا.

حينما تتقدَّم بنا السن، يبدأ معظمنا في اختبارِ تداعٍ في الوظائف الذهنية مرتبط بالسن، وذلك مثل الانتباه والتعلم والتبديل بين المهام، لكنَّ بعض الجوانب الأخرى من الإدراك مثل تذكُّر الحقائق والأشكال والقدرة على تنظيم الانفعالات، يمكن أن تتحسَّن في معظم الأحيان.

توضح الأبحاث التي تُجرى على القوارض أنَّ عدد المشابك العصبية في منطقة الحُصَين لدى الفئران المسنَّة أقلُّ بكثير من عددها لدى الحيوانات الأصغر، ويرتبط ذلك بإعاقات في الذاكرة. تتسم الفئران المسنة أيضًا بضعف التقوية الطويلة الأمد، وهي أكثر عرضة لانعكاس عملية التقوية الطويلة الأمد لديها، وعرضة أيضًا للإخماد الطويل الأمد. إضافةً إلى ذلك، تصبح ديناميكيات شبكة الخلايا العصبية في الحُصَين معرَّضة للخطر أيضًا في الفئران المسنة، وقد رُبِط هذا بعيوب في التعلم المكاني.12
وفي البشر أيضًا، توضح دراسات تصوير الدماغ اختلافاتٍ بارزة في نشاط الدماغ، لكن بعض هذه الاختلافات يصعب تفسيره. فعلى سبيل المثال، تُلحَظ لدى البالغين الأكبر سنًّا درجةٌ أعلى من التنشيط لمناطق معينة من الدماغ رغم أنهم يؤدون مهمة التجربة المحددة لديهم بالدرجة نفسِها من الجودة التي يؤديها بها البالغون الأصغر سنًّا. ربما يكون السبب في هذا أنَّ أدمغتهم تعوِّض عن التغيرات المضرة المتعلقة بالسن من خلال استخدام موارد عصبية إضافية، لكن ربما يكون ذلك راجعًا أيضًا إلى كفاءةٍ أقل في معالجة المعلومات.13

وبناءً على هذا، بالرغم من أننا تعلمنا الكثير عن الدماغ في مرحلة الشيخوخة، فلا تزال العلاقة بين التغيرات البنيوية والوظيفية الملحوظة وبين تغيرات الوظائف الذهنية والسلوك غير واضحة بشكلٍ كامل. تبدو الاحتمالية ضعيفة بأن يكون ثَمَّة تغيُّر دماغي واحد مسئول عن التداعي الإدراكي المرتبط بالسن، ومن المرجَّح للغاية أن تؤدي دراسات تصوير الدماغ الطولية التي تصوِّر أدمغة الأشخاص أنفسهم على نحوٍ متكرر مع تقدمهم في السن، إلى اكتشافات جديدة في هذا المجال.

قد توجد بالطبع اختلافاتٌ مهمة بين الأفراد. فسوف يختبر معظمنا في نهاية المطاف التداعي الإدراكي المرتبط بالسن، وهو جزء طبيعي من التقدُّم في العمر. في معظم الحالات، يختبر الأشخاص تراكمًا تدريجيًّا للويحات الشيخوخة في الدماغ، وهي إحدى العلامات المَرضية المميِّزة لمرض ألزهايمر. تتألَّف اللويحات من ترسُّبات غير قابلة للذوبان من بروتينٍ صغير يُسمى أميلويد-بيتا، وتتراكم هذه الترسبات في الفراغات المحيطة بالخلايا العصبية. يعتقد معظم الباحثين في مجال ألزهايمر أنَّ اللويحات سامَّة لخلايا الدماغ، وأنَّ ترسُّبها هو السبب الأساسي لمرض ألزهايمر، لكن لا يزال من غير الواضح إذا كان ذلك صحيحًا أم لا. ربما لا تكون اللويحات سوى نتيجة للمرض لا سببه، وقد صار بعض الباحثين يعتقدون الآن أنَّ الأجزاء الصغيرة من بروتين أميلويد-بيتا هي السامة، وأنَّ تكون اللويحات تحمي النسيج الدماغي في واقع الأمر من خلال عزل هذه الأجزاء السامة.

بالنسبة لمعظم الأشخاص، يبدو أنَّ ترسب اللويحات الذي يحدث مع تقدُّم السن غير مؤذٍ نسبيًّا، لكنَّ شيخوخة الدماغ تتسارع لدى مجموعة صغيرة منهم على ما يبدو؛ مما يؤدي إلى ظهور هذا المرض. بالرغم من هذا، يبدو أنَّ غيرهم لا يتأثر على الإطلاق بآثار الشيخوخة. وبالرغم من بلوغ هؤلاء «المعمرين الفائقين» سن الثمانين، فإنهم يتفوقون على مَن هم أصغر سنًّا في أداء اختبارات الذاكرة، ومن الملاحَظ أنَّه عند موتهم يوجد لديهم كثافة أقل في اللويحات وكثافة أكبر في القشرة في بعض أماكن الدماغ، وذلك مقارنةً بممثلي عامل الضبط الأصحَّاء ممن هم في مثل سنهم.14
من المرجَّح أن تعود هذه الاختلافات إلى مجموعة من العوامل الجينية والبيئية والخبرات الحياتية. فعلى سبيل المثال، يتَّسم المعمرون الفائقون بدرجةٍ أقل من تواتر التنويعات الجينية التي تزيد من خطورة الإصابة بمرض ألزهايمر، وثَمة أدلة متزايدة على أنَّ بعض الأنشطة المعينة والاختيارات الحياتية، مثل التمارين البدنية والنظام الغذائي، وتعلم لغة ثانية، والعزف على آلة موسيقية، يمكن أن يوفِّر أيضًا بعض الحماية من مرض ألزهايمر وغيره من أمراض الخرف.15،16،17

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤