الفصل الحادي عشر

القرن الثاني عشر

يهمنا بصفة خاصة أربعة وجوه من القرن الثاني عشر، هي:

  • (١)

    الصراع المستمر بين الإمبراطورية والبابوية.

  • (٢)

    نشأة المدن اللمباردية.

  • (٣)

    الحروب الصليبية.

  • (٤)

    نمو الفلسفة الاسكولائية.

وهذه الوجوه الأربعة كلها لم تزل قائمةً في القرن التالي؛ أمَّا الحروب الصليبية فقد بلغت ختامها المشين بخطوات تدريجية، وأمَّا الحركات الثلاث الأخرى، فتراها قد بلغت في القرن الثالث عشر ذروة طريق لم يكن في القرن الثاني عشر قد تجاوز مرحلته الانتقالية؛ إذ حدث في القرن الثالث عشر أن ظفر البابا بنصر محقَّق على الإمبراطور، وحصلت المدن اللمباردية على استقلال آمن، ووصلت الفلسفة الاسكولائية أعلى ذُراها، على أن هذه كلها كانت نتائج لِما كان القرن الثاني عشر قد مهَّد له وسائل الإعداد.

وليست الحركة الأولى من هذه الحركات الأربع وحدها، بل كانت الحركات الثلاث الأخرى كذلك، كلها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بازدياد القوة البابوية والكنسيَّة؛ فقد كان البابا في تحالف مع المدن اللمباردية على الإمبراطور، وافتتح البابا «إربان الثاني» أولى حملات الحروب الصليبية، كما كان البابوات الذين جاءوا بعده أقوى مُعين للحملات الأخيرة من الحروب الصليبية، كذلك كان الفلاسفة الاسكولائيون جميعًا من رجال الدين، وحرصت مجالس الكنائس على أن تمسك بهؤلاء الفلاسفة حتى لا يجاوزوا حدود الدين الأصيل، فإذا ما ضلوا سبيلهم أرجعوهم إلى حظيرة الطاعة. ولا شكَّ أن إحساسهم بالنصر السياسي الذي ظفرت به الكنيسة، والذي شعروا بأنفسهم شركاء فيه؛ قد حفَّز فيهم أصالة التفكير العقلي.

إنَّ من بين الغرائب التي تقال عن العصور الوسطى؛ أنَّها كانت مبتكِرة مبدِعة دون أن تعلم أنها كذلك؛ فكل الطوائف عندئذٍ كانت تبرر سياساتها بحُجج قديمة عتيقة؛ فالإمبراطور قد استند — في ألمانيا — إلى المبادئ الإقطاعية التي سادت عهد شارلمان، واستند — في إيطاليا — إلى القانون الروماني وسلطة الأباطرة الأقدمين، وعادت المدن اللمباردية إلى ما هو أبعد من ذلك في القِدَم؛ إذ عادت إلى أنظمة روما الجمهورية، واستند حزب البابويَّة في مطالبه إلى «هبة قنسطنطين» المزوَّرة من جهة، وإلى العلاقات بين شاءول وصموئيل كما وردت في «العهد القديم» من جهة أخرى، واعتمد الاسكولائيون إمَّا على الكتاب المقدَّس، وإمَّا على الفلسفة كما تتمثَّل في أفلاطون أولًا، ثم في أرسطو ثانيًا. وحيثما كانوا مبتكرين حاولوا إخفاء ابتكارهم، وكانت الحروب الصليبية محاولة يُراد بها إرجاع الأمور إلى ما كانت عليه قبل ظهور الإسلام.

لكننا لا ينبغي أن ننخدع بهذه الرجعيَّة الظاهرة؛ فهي لم تكن رجعيَّة تطابق الوقائع إلا في حالة الإمبراطور؛ فالنظام الإقطاعي كان في مرحلة التدهور وبخاصة في إيطاليا، ولم تكن الإمبراطورية الرومانية إلا ذكرى؛ ولذلك هُزم الإمبراطور. وأمَّا مدن شمالي إيطاليا، فبينما كانت تبدي شبهًا قويًّا في مراحل تطورها الأخيرة بمدن اليونان القديمة، إلَّا أنَّها كانت تكرر الصورة نفسها لا عن تقليد، بل نتيجة لتشابه الظروف، وأعني بذلك وجود مجتمعات صغيرة غنية جمهورية تجارية عالية المدنية، تحيط بها مَلكيات ذات مستوًى أحطَّ من الثقافة، وكذلك ترى الاسكولائيين رغم تبجيلهم لأرسطو قد أبدَوا من ضروب الابتكار ما لم يُبدِه أي فيلسوف من العرب، بل قُل أكثر من أي فيلسوف منذ أفلوطين، أو منذ أوغسطين على أقل تقدير. وإنَّك لتصادف في عالَم السياسة أيضًا ما صادفته في عالَم الفكر من أصالة ممتازة.

صراع الإمبراطورية والبابوية

يتركَّز التاريخ الأوروبي منذ عهد «جريجوري السابع» حتى منتصف القرن الثالث عشر؛ حول الصراع في سبيل السلطان، بين «الكنيسة» من جهة، والملوك العلمانيين من جهة أخرى، وأقصد بهؤلاء أولًا الإمبراطور، وكذلك ملوك فرنسا وإنجلترا في مناسبات مختلفة. وكانت بابوية «جريجوري» قد انتهت بكارثة في ظاهر الأمر، غير أن سياسته قد استؤنفت بشيء من التعديل، على يدَي «إربان الثاني» (١٠٨٨–١٠٩٩م)، الذي أعاد إصدار الأوامر التي تَحرِم غير رجال الدين من تنصيب الأساقفة، وأراد للانتخابات الأسقفية أن تتم حرة من رجال الدين والشعب (وبالطبع كان المفروض في القسط الذي يناله الشعب في الانتخابات أن يكون صوريًّا خالصًا)، ومع ذلك، فمن الناحية العملية لم يناهض تعيينات السلطات العلمانية إذ رآها قائمةً على أساس سليم.

ولم يكن «إربان» بادئ ذي بدء آمنًا إلا في الأراضي النورماندية، لكن حدث في سنة ١٠٩٣م أن شقَّ «كنراد» بن هنري الرابع عصا الطاعة على أبيه، وتحالف مع البابا في غزو شمالي إيطاليا، حيث وقفت «عصبة لمبارد» — وهي تحالف من المدن، وعلى رأسها مدينة ميلان — إلى جانب البابا. وفي سنة ١٠٩٤م سار «إربان» في موكب الظفَر خلال شمالي إيطاليا وفرنسا؛ إذ انتصر على «فليب» ملك فرنسا، الذي رغب في طلاق زوجته، فأخرجه البابا من الكنيسة، لكنَّه عاد فخضع. وفي «مجمع كليرمونت» سنة ١٠٩٥م، أعلن «إربان» الحرب الصليبية الأولى، التي أحدثت موجة من الحماسة الدينية، فأدَّت إلى ازدياد سلطة البابا، كما أدَّت كذلك إلى مذابح فظيعة أطاحت بجماعات اليهود. وقضى «إربان» آخر سنة من حياته آمنًا في روما، وهي البلد الذي قلَّما يكون فيه البابوات آمنين.

وجاء البابا التالي «باسكال الثاني» من «كلوني» مثل «إربان»، ومضى في بذل الجهود في مسألة تنصيب الأساقفة، وأصاب النجاح في فرنسا وإنجلترا، غير أنه بعد موت «هنري الرابع» سنة ١١٠٦م، تغلَّب الإمبراطور الذي تلاه، وهو «هنري الخامس»، على البابا، الذي لم يكن رجلًا من رجال الدنيا، فسمح لجانب القداسة فيه أن يرجح على جانب الحس السياسي. واقترح البابا أن يكون للإمبراطور حق تنصيب الأساقفة، على أن يتنازل الأساقفة ورؤساء الأديرة مقابل ذلك عن أملاكهم الدنيوية، وتظاهر الإمبراطور بالقبول، لكن هذا التوفيق المقترَح لم يكد يُعلَن حتى ثارت ثائرة رجال الكنيسة على البابا، فانتهز الإمبراطور هذه الفرصة، وكان عندئذٍ في روما، وقبض على البابا، الذي استسلم للوعيد، وسلَّم في مشكلة تنصيب الأساقفة، وتوَّج هنري الخامس، لكنَّه حدث بعد أحد عشر عامًا أن تمت «اتفاقية ورمز» سنة ١١٢٢م، وبمُقتضاها أَرغَم البابا «كالكستس الثاني» «هنري الخامس» على التنازل عن حق التنصيب، وحق الرقابة على الانتخابات الأسقفية في برجندي وفي إيطاليا.

وإلى هنا كانت النتيجة الختامية للمعركة هي أن البابا — الذي كان فيما مضى خاضعًا ﻟ «هنري الثالث» — قد أصبح مع الإمبراطور على قدم المساواة، وفي الوقت نفسه زاد استقلال سلطانه في «الكنيسة» التي حكمها بمعونة مندوبين عنه؛ فعملت هذه الزيادة في القوة البابوية على تقليل الأهمية النسبيَّة للأساقفة، وأصبحت الانتخابات البابويَّة الآن حرة من رقابة غير رجال الدين، وبات رجال الكنيسة على وجه الإجمال أكثر فضيلة مما كانوا عليه قبل حركة الإصلاح.

نشأة المدن اللمباردية

وكانت المرحلة الثانية مرتبطةً بالإمبراطور «فردريك بارباروسا» (١١٥٢–١١٩٠م)، وهو رجل قادر نشيط، يحقق النجاح في أي مشروع يكون النجاح فيه في حدود المستطاع. وكان رجلًا مثقفًا يقرأ اللاتينية متمتعًا بما يقرأ، ولو أنه يتكلمها في مشقة، وكان عريض الثقافة الكلاسيكية، ومعجبًا بالقانون الروماني، ورأى نفسه وارثًا للأباطرة الرومانيين، وتعلقت آماله بالحصول على سلطانهم، غير أنه باعتباره ألمانيًّا لم يكن محببًا إلى نفوس الإيطاليين؛ فبينما كانت المدن اللمباردية راغبة في الاعتراف بسيادته الصورية، نهضت تعارضه حين أراد التدخل في شئونها، اللهم إلا المدن التي أَوجسَتْ خِيفةً من ميلان، فطلبت حماية «فردريك» من عدوانها. واستمرت في ميلان حركة «باتارين»، وامتزجت بميل إلى الديمقراطية يقلُّ حينًا ويزيد حينًا، وقامت معظم المدن في شمالي إيطاليا — وليس كلها — تناصر ميلان وتحالفها، في موقف واحدٍ ضد الإمبراطور.

وبعد اعتلاء «بارباروسا» العرش بعامين ظهر بمنصب البابوية «هادريان الرابع»، وهو إنجليزي قوي الحيوية، كان يقوم بالتبشير في النرويج، فكان بادئ ذي بدء على حُسن تفاهم مع «بارباروسا»؛ لأن اشتراكهما في عدو واحد قد سوَّى ما بينهما من خلاف؛ ذلك أن مدينة روما طالبت باستقلالها عنهما معًا، واستعانت في جهادها بزنديق قديس، هو «آرنلد البريشي»،١ وكانت زندقته ذات خطر بالغ؛ إذ ذهب إلى أن رجال الكنيسة الذين يملكون الضِّياع، والأساقفة الذين يملكون الإقطاعيات، والرهبان الذين يملكون الأملاك الخاصة يستحيل خلاصهم؛ وإنَّما أخذ بهذا الرأي لأنه اعتقد أن رجال الكنيسة لا بد لهم أن يُكرِّسوا أنفسهم كاملة للأمور الروحانية. ولم يشكَّ شاكٌّ في زهده الصادر عن طويَّة خالصة، لكنه عُد شريرًا على أساس زندقته، فقال «القديس برنارد»، الذي عارضه معارضة شديدة، ما يأتي: «إنه لا يأكل ولا يشرب، لكنه كالشيطان يجوع ويظمأ طالبًا دماء النفوس.» وكان سلف «هادريان» في البابوية قد كتب إلى «بارباروسا» يشكو إليه من «آرنلد» أنه يؤيد الحزب الشعبي الذي أراد أن ينتخب مائة عضو في الشيوخ، وقنصلَين، وأن يكون له إمبراطور خاص به، فطبيعي أن يشعر «فردريك»، الذي كان في طريقه إلى إيطاليا، بأن سمعته قد نِيل منها. وكانت مطالبة الرومانيين بالحرية الجماعية — وهي المطالبة التي أيَّدها «آرنلد» — قد أدَّت إلى شغب بين الناس قُتل فيه أحد الكرادلة؛ فما عَتَّم «هادريان» — الذي تم انتخابه للبابوية منذ قريب — أن أعلن روما بلدًا محرمًا؛ وكان ذلك خلال «الأسبوع المقدس»، فسادت الخرافات في نفوس الرومانيين، وخضعوا للبابا، ووعدوا بنفي «آرنلد»، الذي اختفى، لكن جنود الإمبراطور قبضوا عليه، وأُحرق، وقُذف برماد جسده في نهر «تيبر» خشيةَ أن يحتفظ به الناس أثرًا مقدسًا. وانقضت مدة لم يُتوَّج فيها «فردريك» إمبراطورًا، بسبب نفوره من أن يمسك للبابا لجام جواده وموضع قدمه من السرج حين يترجَّل عن صهوته. ثم توجَّه البابا سنة ١١٥٥م وسط مظاهر من سخط الشعب، الذي لم تُقمَع ثائرته إلا بمذبحة كبرى.

أما وقد تخلَّصوا من الرجل النزيه، فلم يعد ثمَّة ما يعوق الساسة العمليين من استئناف تنازعهم.

فما إن عقد البابا صلحًا مع النورمانديين حتى غامر سنة ١١٥٧م بالخروج على تحالفه مع الإمبراطور، ولبثت الحرب قائمةً، توشك ألا تنقطع مدى عشرين عامًا، بين الإمبراطور من جانب، والبابا ومعه المدن اللمباردية من جانب آخر، وكانت كثرة النورمانديين تناصر البابا، غير أن معظم القتال مع الإمبراطور قامت به «عصبة لمبارديا»، التي كانت تتحدث عن «الحرية»، وتستلهم الشعور الشعبي العميق، وحاصر الإمبراطور عدة مدن، حتى لقد تمكَّن سنة ١١٦٢م من الاستيلاء على ميلان التي دكَّها دكًّا، وأرغم أهلها أن يلتمسوا لأنفسهم مُقامًا في غيرها من البلاد. غير أنه ما مضت سنوات خمس حتى أعادت «العصبة» بناء ميلان، فعاد إليها سكانها الأولون، وفي السنة نفسها اعتمد الإمبراطور على بابا آخر٢ نُصِّب منافسًا للبابا القائم، واستصحبه إلى روما بجيش عظيم، وفرَّ البابا، وبدا كأنما أصبح نجاحه أمرًا عسيرًا، لكن الوباء تفشَّى في جيش «فردريك»، وعاد إلى ألمانيا وحده هاربًا. وعلى الرغم من أن صقلية، وكذلك الإمبراطور اليوناني، قد انحازا إلى جانب «عصبة لمبارديا»؛ فقد حاول «بارباروسا» محاولة أخرى، انتهت بهزيمته في معركة «لِنْيانو» سنة ١١٧٦م، واضطُر بعدئذٍ إلى عقد السِّلم، مسلِّمًا للمدن بكل مقومات حريتها، على أن شروط الصلح لم تُفِد نصرًا كاملًا لا للإمبراطور ولا للبابا في النزاع القائم بينهما.

وكانت خاتمة «بارباروسا» ظاهرية، إذ إنَّه سنة ١١٨٩م ذهب في الحرب الصليبية الثالثة، ومات في السنة التالية.

كانت نشأة المدن الحرة هي التي تبيَّن أن لها أعظم الأهمية في النهاية، بالنسبة إلى هذا الجهاد الطويل؛ فقد كانت سلطة الإمبراطور مرتبطة بالنظام الإقطاعي المتداعي، وسلطة البابا على الرغم من أنها كانت لم تزل في ازدياد، إلا أنها كانت معتمدة إلى حد كبير على حاجة العالم إليه ليقف مناهضًا للإمبراطور؛ ولذلك فقد أخذ ينهار حين لم تَعُد الإمبراطورية خطرًا يُخاف بأسه. أما سلطة المدن فقد كانت مستحدثة جاءت نتيجة لتطور اقتصادي، ومصدرًا لهيئات سياسية جديدة. ولم يمضِ طويل وقت على المدن الإيطالية حتى طوَّرت لونًا من الثقافة غير الدينية، ولو أنَّ ذلك التطور لم تظهر آثاره في القرن الثاني عشر، وبلغ هذا اللون الجديد من الثقافة أسمى ذُراه في الأدب والفن والعلم، وإنَّما تمكنتْ من أداء هذا كله بمقاومتها الموفَّقة ﻟ «بارباروسا».

كانت المدن الكبرى كلها في شمالي إيطاليا تعتمد في حياتها على التجارة، وقد عملت الظروف الأكثر استقرارًا في القرن الثاني عشر على أن يزداد التجار ثراء عن ذي قبل، ولم تُضطر المدن البحرية؛ البندقية وجنوا وبيزا إلى المقاتلة في سبيل حريتها؛ ولذلك كانت أقل عداوة للإمبراطورية من المدن القائمة على سفح الألب، وهي المدن التي كانت تهمُّه؛ لأنها الطرق المؤدية إلى إيطاليا؛ ومن أجل هذا كانت ميلان أهم المدن الإيطالية في ذلك العصر، وأجدرها بالنظر.

كان أهل ميلان حتى عهد هنري الثالث يُرضيهم عادة أن يتبعوا رئيس أساقفتهم، لكن حركة «باتارين» التي ذكرناها في فصل سابق قد غيرت هذا؛ فرئيس الأساقفة كان يناصر طبقة الأشراف، بينما قامت حركة شعبية قوية تناهضه وتناهض الأشراف معًا؛ ونتج عن ذلك بدايات للديمقراطية. ونشأ دستور، كان حكام المدينة بمقتضاه ينتخبهم أهل المدينة. وظهرت في كثير من المدن الشمالية — وبخاصة في بولونيا — طبقة متبحِّرة في العلم من رجال القانون العلمانيين، كانت عليمة بالقانون الروماني، أضف إلى ذلك أن الطبقة الغنية من غير رجال الدين؛ كانت أكثر جدًّا في درجة ثقافتها من طبقة الأشراف الإقطاعيين فيما يقع شمالي جبال الألب. وعلى الرغم أن المدن التجارية الغنية قد ناصرت البابا على الإمبراطور، فإنها لم تكن تنظر إلى الأمور نظرة دينية، نعم إنَّ كثيرًا منها اصطنع ألوانًا من الزندقة كزندقة «التزمُّت الديني»، كما فعل التجار في إنجلترا وهولندا بعد حركة الإصلاح الديني، وقد كان ذلك إبان القرنين الثاني عشر والثالث عشر، إلا أنَّها مالت فيما بعد نحو أن تكون حرة التفكير، تتعصب للكنيسة بمجرد الكلام، وتخلو من كل ورعٍ بمعناه الحقيقي. وكان «دانتي» آخر رجل من النمط القديم، و«بوكاتشيو» أول رجل من النمط الجديد.

الحروب الصليبية

ليست تعنينا الحروب الصليبية هنا باعتبارها حروبًا، لكن لها أهمية خاصة فيما يتصل بالثقافة؛ فقد كان طبيعيًّا من البابوية أن تتزعم حركة الحروب الصليبية من حيث تحريكها في النفوس؛ لأن هدفها ديني (في الظاهر على الأقل)، وهكذا ازدادت قوة البابوية بالدعاوة للحرب، وبما استثير في أنفس الناس من حماسة دينية. ونتيجة هامة أخرى لتلك الحروب، هي ذبْح عدد كبير من اليهود، ومن لم يُذبح منهم كان في الغالب يُجرَّد من أملاكه، ويُرغَم على التنصُّر إرغامًا؛ ففي زمن الحرب الصليبية الأولى، كان هنالك اغتيالات لليهود في ألمانيا على نطاق واسع، وحدث ذلك نفسه في إنجلترا في زمن الحرب الصليبية الثالثة، عند اعتلاء «ريتشارد قلب الأسد» العرش. وكانت يورك — حيث بدأ أول إمبراطور مسيحي عهده في الحكم — مشهدًا للفظائع التي تقع على نطاق واسع ضد اليهود، فترتاع لها النفوس على نحو منقطع النظير. وقد كان لليهود قبل الحروب الصليبية ما يكاد يكون احتكارًا للتجارة في البضائع الشرقية خلال أوروبا كلها. أمَّا بعد الحروب الصليبية، فقد تحولت هذه التجارة تحولًا كبيرًا إلى أيدي المسيحيين؛ نتيجة لاضطهاد اليهود.

وكذلك كان للحروب الصليبية نتيجة أخرى من نوع مختلف عن النتيجتين السابقتين كل الاختلاف، وهي تشجيعها الاتصال الأدبي مع القسطنطينية؛ فنتج عن هذا الاتصال إبان القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، ترجماتٌ كثيرة من اليونانية إلى اللاتينية، فلئن كان هناك من قبل تجارة كثيرة لم تنقطع أسبابها من القسطنطينية، وبخاصة مع أهل البندقية، إلا أن التجار الإيطاليين لم يُعنوا قط بدراسة الآداب اليونانية القديمة، فشأنهم في ذلك شأن التجار الإنجليز أو الأمريكان في شنغهاي، لم يُعنوا أبدًا بالآداب الصينية (يُلاحَظ أن ما تعلمه أوروبا عن الأدب الصيني مستمدٌّ أساسًا من المبشِّرين).

نمو الفلسفة الاسكولائية

تبدأ الاسكولائية، بمعنى الكلمة الضيق، في أوائل القرن الثاني عشر، وهي تتميز — باعتبارها مدرسة فلسفيَّة — بمميزات معينة محددة؛ فأولًا: حصرت نفسها في حدود ما يظنُّه المؤلف متمشيًا مع أصول الدين الصحيح، فإذا ما هاجم مجلس ديني آراءه رأيته في الأغلب ميالًا إلى التراجع فيها، ولا ينبغي أن نعزو هذا إلى الجُبن وحده؛ إذ هو شبيه بخضوع القاضي لقرار محكمة الاستئناف. وثانيًا: كان أرسطو — في حدود الدين الصحيح — يزداد رجحانًا على أنه حجة عُليا؛ وذلك لأنهم أخذوا يزدادون به علمًا إبان القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ولم يعد أفلاطون يحتل عندهم المكانة الأولى. والثالث: هو العقيدة القوية في «الديالكتيك» وفي التدليل القياسي؛ فالمزاج العام للاسكولائيين مزاج يهتم بالدقة في التفصيلات والمنازعة فيها، أكثر من اهتمامه بالغموض التصوفي. ورابعًا: ازدادت مشكلة الكليات أهميةً، حين وجدوا أن أرسطو وأفلاطون لا يتفقان على الرأي فيها، على أنه من الخطأ أن نظن بأن مشكلة الكليات كانت هي المهمة الرئيسية التي عُني بها الفلاسفة في تلك الفترة من الزمن.

كان القرن الثاني عشر — في هذا الأمر وفي أمور أخرى — يمهِّد السبيل للقرن الثالث عشر الذي تنتمي له أعظم الأسماء، ومع ذلك فالرجال الأولون لهم أهمية الرائدين الذين شقوا الطريق؛ فكنت ترى عندئذٍ ثقة عقلية جديدة، كما ترى — على الرغم من احترامهم لأرسطو — تدريبًا حرًّا قويًّا للعقل، حينما وجدوا أن القواعد الجامدة لا تجعل التأمل الفكري مصدرًا للخطر. وعيوب الطريقة الاسكولائيَّة هي العيوب التي لا مندوحة عن حدوثها نتيجة للاهتمام الزائد ﺑ «الديالكتيك»، وهذه العيوب هي: عدم الاهتمام بالحوادث الواقعة وبالعلم. والإيمان بالتدليل العقلي في الأمور التي لا يفصل فيها غير المشاهدة. والوقوف أطول مما ينبغي عند الفوارق والدقائق اللفظيَّة. وقد انتهزنا فرصة سابقة فذكرنا هذه العيوب بالنسبة لأفلاطون، غير أنها عند الاسكولائيين أكثر تطرفًا منها عند أفلاطون.

وأول فيلسوف يمكن اعتباره اسكولائيًّا بالمعنى الدقيق، هو «روسلان»، ولسنا نعلم عنه شيئًا كثيرًا؛ فقد وُلد في «كومبين» حوالي ١٠٥٠م، وتعلَّم في «لوش» ببريطانيا، حيث تتلمذ عليه «أبلار»، واتُّهم بالزندقة أمام مجمع انعقد في «ريمز» سنة ١٠٩٢م، وتراجع عن أقواله خوفًا من رجمه بالحجارة بأيدي رجال الكنيسة، الذين كانوا يتعطشون لمثل هذا الاعتداء، وفرَّ إلى إنجلترا، لكنه هناك بلغ من التهور حدًّا أباح له أن يهاجم «القديس أنسلم»، وفرَّ هذه المرة إلى روما، حيث تودد إلى «الكنيسة». وقد اختفى من وجه التاريخ حوالي ١١٢٠م، وتاريخ وفاته ضَرْب من التخمين الخالص.

ولم يبقَ لدينا من كتابات «روسلان» إلا خطاب أرسله إلى «أبلار» في مسألة «الثالوث»، وهو في هذا الخطاب يُصغِّر من شأن «أبلار» ويسخر من خَصْيه، حتى لترى «أوبَرْوِج Ueberweg»، الذي قلَّما عن شعوره، مضطرًّا أن يقول إنه لم يكن في أغلب الظن رجلًا ظريفًا. وباستثناء هذا الخطاب، نعتمد في العلم بآراء «روسلان» قبل كل شيء على المناظرات الكتابية بين «أنسلم» و«أبلار»؛ فبناء على ما يقوله «أنسلم» ذهب «روسلان» إلى أن الكليات هي مجرد «أنفاس الصوت»، فلو أخذنا هذه العبارة حرفيًّا، كان رأيه هو أن الكليات حادث جسدي، يحدث حين ننطق بكلمة، لكنه يتعذر علينا أن نفرض بأن «روسلان» قد ذهب إلى رأي فيه كل هذا الحمق. ويقول «أنسلم» إن «روسلان» من رأيه أن كلمة إنسان لا تدل على وحدة، بل هي مجرد اسم مشترك. ولما كان «أنسلم» أفلاطونيًّا صميمًا، فقد عزا هذا الرأي ﻟ «روسلان» على اعتبار أن هذا الأخير لا يعترف بالوجود الحقيقي إلا لما هو محسوس، والظاهر أنه قد ذهب بصفة عامة إلى أن الكل الذي يحتوي على أجزاء؛ ليس له وجود حقيقي إلى جانب وجود أجزائه، وأن اسمه مجرد لفظة؛ إذ الوجود الحقيقي هو للأجزاء وحدها. وقد كان ينبغي لهذا الرأي أن ينتهي به — وربما انتهى به فعلًا — إلى فلسفة ذرِّية متطرفة، وعلى كل حال فقد أدَّى به إلى مشاكل في مسألة «الثالوث»؛ إذ اعتبر أن «الأشخاص الثلاثة» عناصر ثلاثة متميزة بعضها عن بعض، وليس سوى الاستعمال اللفظي هو الذي يمنعنا من القول بأن ثمة «آلهة ثلاثة». والبديل الآخر لهذا الرأي — وهو البديل الذي لا يقبله — هو، على حد رأيه، أن نقول إن التجسيد ليس ﻟ «الابن» وحده، بل كذلك ﻟ «الأب» و«الروح القدس»، غير أنه سحب كل هذا التفكير لدى مجمع ريمز سنة ١٠٩٢م، بالقدر الذي قيل إنه يحتوي على زندقة، ويستحيل علينا أن نعلم علم اليقين ماذا ارتأى في موضوع الكليات، غير أنه من الواضح أنه كان على الأقل أقرب إلى أن يكون من فريق الاسميين في هذا الموضوع.
وكان تلميذه «أبلار» (وتُكتب بالإفرنجية إمَّا Abelard أو Abailard) أقرب منه وأبرع. وُلد بالقرب من «نانت» سنة ١٠٧٩م، وكان تلميذًا ﻟ «وليم شامبو» (وهو واقعي) في باريس، ثم أصبح معلمًا في المدرسة الكاتدرائية بباريس، حيث ناهض آراء «وليم» واضطره إلى تعديلها. وبعد أن قضى فترة خصَّصها لدراسة اللاهوت تحت إشراف «أنسلم اللاووني» (وهو غير أنسلم كبير الأساقفة). عاد إلى باريس سنة ١١١٣م، واكتسب سمعة نادرة باعتباره معلمًا، وعندئذٍ أحبَّ «هلواز» ابنة أخت «الكاهن فولبيرت»، فأمر الكاهن بخَصْيه، وألزمه كما ألزم «هلواز» أن ينسحبا من العالم، أمَّا هو فيلجأ إلى دير «القديس دنيس»، وأمَّا هي فإلى دير للراهبات في «أرجنتيل». ويقول عالم ألماني يُدعى «شمبدلر» إن الرسائل المشهورة التي تبادلاها؛ قد خلقها «أبلار» خلقًا بخياله الأدبي، وليس في وسعي أن أحكم على صدق هذه النظرية، غير أني أقول إن شخصية «أبلار» ليس فيها ما يجعل هذه النظرية مستحيلة؛ فقد كان دائمًا مغرورًا مجادلًا مزدريًا لغيره، وأضاف إلى هذه الصفات بعد أن حلَّت به كارثة صفتَي الغضب والذلة. وخطابات «هلواز» تنم عن إخلاص أعمق مما تنم عليه رسائله هو، وليس بعيدًا أن يكون قد أنشأ رسائله لتكون بلسمًا لكبريائه الجريح.

ولم يزل معلمًا ناجحًا نجاحًا عظيمًا حتى وهو في عزلته، فقد أحبَّ الشبابُ براعته ومهارته الجدلية، وعدم تبجيله لمعلميهم الأقدمين. وأمَّا الرجال المتقدمون في السنِّ فقد أحسوا نحوه بكراهية تقابِل حبَّ الشُّبان له. وفي سنة ١١٢١م وُجِّهت إليه في «سواسون» تهمة كتاب عن الثالوث خارج على أصول الدين، ولما استسلم استسلامًا أرضى ذوي الأمر؛ جعلوه رئيسًا لدير «القديس جلداس» في بريطانيا، حيث وجد الرهبانَ أجلافًا متوحشين. وبعد أن قضى أربع سنوات تعِسة في هذا المنفى، عاد إلى مكان فيه مدنيَّة بالنسبة إلى ما كان فيه من قبل. وتاريخه بعد ذلك يكتنفه الغموض، فلا نعلم إلا أنه مضى في حرفة التعليم موفَّقًا فيها أعظم التوفيق، وذلك بناءً على ما يقوله «يوحنَّا السالسبري». وفي سنة ١١٤١م وُجِّهت إليه تهمة أخرى في حادثة «القديس برنار»، وكان اتهامه هذه المرة في «سانس»، فاعتزل في «كاوني»، ومات في السنة التالية.

وأشهر كتاب ﻟ «أبلار» هو كتاب «نعم ولا» (Sic et non)، الذي أنشأه في عامَي ١١٢١-١١٢٢م؛ فهو في هذا الكتاب يقدم مناقشات جدلية تؤيد وتعارض عددًا كبيرًا من المسائل، ولم يحاول في أغلب هذه الحالات أن يصل في المسألة المبحوثة إلى نتيجة حاسمة؛ فواضح أنه يحب الجدل لذاته، ويعدُّه أداة نافعة لإرهاف القوى العقلية. وكان للكتاب أثر عميق في إيقاظ الناس من نعاسهم تحت معتقداتهم الجامدة؛ فرأيُ «أبلار» القائل بأنَّ الديالكتيك (بغض النظر عن الكتاب المقدس) هو الطريق الوحيد إلى الحقيقة، قد كان له في زمانه أثر مفيد في تخليص الناس من تلوُّن أفكارهم بلون التعصب، وفي تشجيع استخدام العقل استخدامًا جريئًا. نقول ذلك عنه، على الرغم من أننا نعتقد أنه رأي لا يمكن لفيلسوف تجريبي أن يقبله، وهو يقول أنْ لا شيء — فما عدا الكتاب المقدس — صوابه لا يقبل الخطأ، ﻓ «الرسل» و«الآباء» أنفسهم معرَّضون للخطأ.
وكان تقديره للمنطق مبالغًا فيه، من وجهة النظر الحديثة؛ وذلك لأنه اعتبره العلم المسيحي الذي لا علم سواه إطلاقًا. واستغل اشتقاق كلمة Looic (منطق) من كلمة Logos (الكلمة)؛ ففي إنجيل القديس يوحنَّا قد وردَ: «في البداية كانت الكلمة»، وذلك — في رأيه — برهان على عظمة المنطق.
وأهميته الكبرى هي في المنطق ونظرية المعرفة. وفلسفته تحليل نقدي لغوي إلى حد كبير، ورأيه في الكليات — وأعني بالكليِّ ما يمكن حمله على أشياء كثيرة مختلفة — هو أننا لا نحمل (من المحمول في المنطق) شيئًا، إنما نحمل لفظًا، وهو بهذا القول من فريق الاسميين، لكنَّه يعارض «روسلان» حين يذكر أن «مجرد الصوت» (عند نطق اللفظة) هو في ذاته شيء؛ فنحن حين نقول عن محمول القضية إنه لفظة، فلسنا نريد بذلك الحادثة الجسدية التي تحدث عند نطقها، بل نريد اللفظة باعتبارها معنًى، وهو هنا يستند إلى أرسطو، ويقول إن الأشياء يشبه بعضها بعضًا، وهذه المشابهات بين الأشياء هي التي تصدر عنها الكليات، لكن نقطة الشبه بين شيئين شبيهين، ليست هي في ذاتها شيئًا، وتلك هي غلطة المذهب الواقعي، ثم يهاجم الواقعية بما هو أشد من ذلك، مثال ذلك قوله إنَّ المدركات العامة ليست تدل على طبائع الأشياء، إنَّما هي صورة ذهنية لأشياء كثيرة اختلط بعضها ببعض، ومع ذلك كله فهو لا ينكر المُثُل الأفلاطونية إنكارًا تامًّا؛ فهي موجودة في العقل الإلهي نماذجَ للخلق، وهي في حقيقة أمرها مدركات الله العقلية.

وسواء كان هذا كله صوابًا أو خطأ، فهو بغير شك دليل على قدرة عظيمة، وأحدث المناقشات في موضوع الكليات لم تزد على ذلك كثيرًا.

ولم يستطع «القديس برنار» — الذي لم يكن له من القداسة ما يكفي أن يجعل منه رجلًا ذكيًّا٣ — أن يفهم «أبلار» فوجَّه إليه اتهامات ظالمة؛ إذ قرر أن «أبلار» يعامل «الثالوث» بمثل ما عامله به «آريوس»، وينظر إلى رحمة الله نظرة «بلاجيوس»، ويرى في «شخص المسيح» رأي نسطور، وهو حين يجاهد في البرهنة على أن أفلاطون مسيحي، يقيم الدليل على وثنيته هو، وفضلًا عن ذلك، فهو يهدم كل فضل للعقيدة المسيحية حين يذهب إلى أن العقل البشري في وسعه أن يفهم الله فهمًا كاملًا. والحقيقة أن «أبلار» لم يذهب إلى هذا الرأي الأخير إطلاقًا، وكان دائمًا يترك مجالًا فسيحًا للإيمان الديني، ولو أنه — مثل القديس أنسلم — قد ذهب إلى أن «الثالوث» يمكن البرهنة عليه بالعقل، دون رجوع إلى الوحي، نعم قد حدث له ذات مرة أن جعل «الروح القدس» هو نفسه «الروح الأفلاطوني» للعالم، لكنه سرعان ما تخلى عن هذا الرأي لما تبيَّن له ما فيه من زندقة. وليس ببعيد أن يكون اتهامه بالزندقة راجعًا إلى تعاليمه؛ وذلك لأن ما جرى عليه من نقد العلماء، قد جعله بغيضًا بغضًا عنيفًا لدى أصحاب النفوذ جميعًا.

كان معظم علماء ذلك العصر أقل تحمسًا للديالكتيك من «أبلار»؛ فقد كان ثمة حركة إنسانية — وبخاصة في «مدرسة شارتر» — تُعجَب بالعصر القديم، وتتبع أفلاطون و«بيثيوس»، وتجدد عند الناس اهتمامهم بالرياضة؛ فذهب «أدلارد» من أهل «باث» إلى إسبانيا في أوائل القرن الثاني عشر، ونتج عن رحلته تلك أن ترجم «إقليدس».

وكانت هنالك حركة صوفية قوية، تخالف الطريقة الاسكولائيَّة الجافة، وزعيم تلك الحركة الصوفية هو «القديس برنار» الذي كان أبوه فارسًا، مات في الحرب الصليبيَّة الأولى، وكان هو نفسه راهبًا من رهبان «سِسْتر»، وفي سنة ١١١٥م أصبح رئيسًا لدير «كليرفو» الذي كان حديث النشأة، وكان ذا أثر قوي جدًّا في السياسة الكنسية؛ يقاوم البابوات المصطفين، ويناهض الزندقة في شمالي إيطاليا وجنوبي فرنسا، ويعرقل جموح الفلاسفة المغامرين بكل ما وسِع الدينَ الأصيل من حُجة، ويحفز الناس على القيام بالحرب الصليبية الثانية. وكان غالبًا موفَّقًا في مهاجمته للفلاسفة، لكنه بعد أن مُنِيت حربه الصليبية بالفشل، لم يستطع إقناع «جلبرت دي لا بوريه» الذي وافق «بيثيوس» موافقةً بدَتْ مجاوزةً للحد المقبول في رأي هذا القديس الذي راح يتصيَّد الزنادقة. وهو على الرغم من تعصبه واشتغاله بالسياسة، كان رجلًا ذا مزاج ديني أصيل، وضع ترانيم باللاتينية ذات جمال رائع.٤ وأخذ التصوف يزداد استيلاء على نفوس أولئك الذين تأثروا ﺑ «القديس برنار»، حتى انقلب التصوف شيئًا يشبه الزندقة لدى «يواقيم الفلوري» (مات ١٢٠٢م)، على أن نفوذ هذا الرجل قد ظهر في عصر تالٍ لذلك العصر. و«القديس برنار» وأتباعه ينشدون الحقيقة الدينية، لا عن طريق التدليل العقلي، بل في التجربة الذاتية والتأمل، وربما كان «أبلار» و«برنار» متشابهين في نظرهما إلى الأمر من جانب واحد.
وأحسَّ «برنار» بحسرة — باعتباره متصوفًا متدينًا — لانغماس البابوية في شئون دنيوية، وكَرِه السلطة العلمانية. وعلى الرغم من أنه راح يبشِّر بحرب صليبية، إلا أنه فيما يظهر لم يعلم بأن الحرب تتطلب نظامًا، ويستحيل على الحماسة الدينية وحدها أن تتولى أمرها. وآلمه أن يرى الناس قد اتجهوا بانتباههم كله إلى «قانون جستنيان لا إلى قانون الله»، وارتاع حين علم بأن البابا يحمي منطقة نفوذه مستعينًا بقوة عسكرية؛ فمهمة البابا روحية، ولا ينبغي له أن يحاول توجيه دفة الحكم توجيهًا فعليًّا، ولكنه يمزج بهذه النظرة تبجيلًا لا حد له للبابا، الذي يسميه «أمير الأساقفة، ووارث الرسل، ووارث نفوذ هابيل، وسلطة نوح، وأبوة إبراهيم، ونظام «ملك الصدق» Melchizedek، ووقار هارون، وقوة موسى، وقضاء صموئيل، ونفوذ بطرس، وشفاعة المسيح». وطبعًا كانت النتيجة النهائيَّة لنشاط «القديس برنار» هي ازدياد سلطة البابا في الشئون الدنيوية.

ولئن لم يكن «يوحنَّا السالسبري» مفكرًا هامًّا، إلا أن له قيمة في علمنا بعصره؛ لأنه كتب تاريخًا لذلك العصر هو أقرب إلى أحاديث الشائعات، فقد كان أمينًا للسر عند ثلاثة رؤساء لأساقفة كانتربري، كان «بِكِتْ» أحدهم، وكذلك كان صديقًا ﻟ «هارديان الرابع». وعُيِّن في أواخر حياته أسقفًا ﻟ «شارتر» حيث مات سنة ١١٨٠م. وهو رجل له مزاج المتشككين، إذا استبعدت أمور العقيدة الدينيَّة، وهو يطلق على نفسه صفة «الأكاديمي» (بالمعنى الذي يستخدم به القديس أوغسطين هذه الكلمة). ولم يكن احترامه للملوك مفرطًا؛ «فالملك الجاهل حمار متوَّج». وهو شديد الاحترام ﻟ «القديس برنار»، لكنه كان على بينة تامة بأن محاولته التوفيق بين أفلاطون وأرسطو لا بدَّ منتهية إلى فشل. وأعجب ﺑ «أبلار»، لكنه سخر من رأيه في الكليات كما سخر كذلك من رأي «روسلان» فيها. وعنده أن المنطق مقدمة مفيدة للعلوم، لكنَّه في حد ذاته خالٍ من دم الحياة وعقيم. وهو يقول إنَّه من الممكن التقدم على ما أنتجه أرسطو، حتى في المنطق؛ فاحترامنا للمؤلفين الأقدمين لا يجوز أن يقف حجر عثرة في سبيل تدريب عقولنا على النقد. وكان أفلاطون في رأيه لا يزال هو «أمير الفلاسفة». وقد كان على صلة شخصية بمعظم علماء عصره، وشارك مشاركة ودية في المجالات الاسكولائيَّة؛ وحدث أن عاد إلى مدرسة فلسفيَّة يزورها بعد انقطاع دام ثلاثين عامًا، فابتسم إذ رأى أصحابها ما يزالون يناقشون المسائل عينها. وإن المحيط الاجتماعي الذي كان يتحرك فيه لشديد الشبه بحجرات جلوس الطلبة في جامعة أكسفورد منذ ثلاثين عامًا. وعندما دنت حياته من ختامها كانت المدارس الكاتدرائيَّة قد أفسحت مكانها للجامعات، ولبث حبل الجامعات — على الأقل في إنجلترا — موصولًا منذ ذلك اليوم حتى الآن، على نحو يستوقف النظر.

أخذ المترجمون إبان القرن الثاني عشر يزيدون شيئًا بعد شيء من عدد الكتب اليونانية، التي يستطيع الباحثون الغربيون أن يتناولوها. وكان ثمَّة ثلاثة مصادر رئيسية لمثل هذه الترجمات؛ القسطنطينية، وبالرمو، وطليطلة. وكانت طليطلة أهمها جميعًا، غير أن الترجمات الواردة منها كانت في أغلب الأحيان ترجمة عن العربية، لا عن اليونانية مباشرة؛ ففي الربع الثاني من القرن الثاني عشر أنشأ «رئيس الأساقفة ريموند» في طليطلة كلية المترجمين، وكان عمل هؤلاء غزير الثمر؛ ففي ١١٢٨م ترجم «جيمز البندقي» لأرسطو كتاب «الأناليطيقا» وكتاب «الطوبيقا» و«السفسطة». ووجد الفلاسفة الغربيون كتاب «التحليلات الثانية» عسيرًا. وترجم «هنري أرستبوس» من أهل كاتانيا (مات سنة ١١٦٢م) «فيدون» و«مينون»، لكن ترجماته لم يكن لها أثر مباشر؛ فعلى الرغم من أن معرفة العلماء بالفلسفة اليونانية في القرن الثاني عشر كانت ناقصة، إلا أنهم أدركوا في وضوح أنه لا يزال كثير من تلك الفلسفة ينتظر الغرب ليستكشفه. ونشأ لدى الناس شغف بتحصيل معرفة أوفى عن القدماء، ولم يكن نِير الأرثوذكسية حينئذٍ من القسوة بحيث يُظن أحيانًا؛ فقد كان في وُسْع أي إنسان أن يكتب كتابه، ثم يسحب منه أجزاءه الخارجة على الدين إذا ألزمته الضرورة بذلك، بعد مناقشة علنية وافية. وكان معظم فلاسفة ذلك العصر من الفرنسيين، وكانت فرنسا ذات أهمية عند الكنيسة؛ لأنها ثِقْل تقاوم به الإمبراطورية. وأمَّا من الوجهة السياسية، فقد كانت كثرة رجال الكنيسة العلماء يميلون إلى الجمود، مهما يكن ما ظهر فيهم من زندقات في عالَم اللاهوت، وذلك هو ما زاد من فظاعة «آرنولد البريشي» الذي كان شذوذًا لتلك القاعدة. وتستطيع أن تنظر إلى الاسكولائيَّة الأولى كلها من الوجهة السياسيَّة نظرتَك إلى نتيجة تفرعت عن جهاد «الكنيسة» في سبيل السلطان.

١  قيل عنه إنَّه تلميذ ﻟ «أبيلار»، لكن ذلك مشكوك في صحته.
٢  كان هناك بابا منافس في معظم الأحيان إذ ذاك، فلما مات هادريان الرابع، طالب بالبابوية رجلان، هما إسكندر الثالث وفكتور الرابع، وأخذا يتجاذبان فيما بينهما عباءتها، ولما فشل فكتور الرابع (وكان هو البابا المعارض) في اختطاف العباءة، حصل من أعوانه على بديل لها، كان قد أمر بإعدادها، لكنه في عجلته لبسها مقلوبة بطنًا لظهر.
٣  «ليست عظمة القديس برنار كائنة في صفاته العقلية، بل في مقومات شخصيته» (الموسوعة البريطانية).
٤  الترانيم اللاتينية في العصر الوسيط بقوافيها وأوزانها، فيها تعبير — يتصف بالسموق أحيانًا، وبالوداعة والرقة أحيانًا — عن خير جوانب الشعور الديني في تلك العصور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤