الفصل الثاني عشر

القرن الثالث عشر

بلغت العصور الوسطى ذروتها في القرن الثَّالث عشر؛ فالأجزاء التي أخذت شيئًا فشيئًا تتجمع ليتكوَّن منها بناء متكامل منذ سقوط روما؛ قد بلغت أبعد ما كان في مقدورها أن تبلغه من مدى الكمال، حتى إذا ما جاء القرن الرابع عشر بعد ذلك استصحب معه انحلالًا للنُّظم والفلسفات. وأمَّا القرن الخامس عشر فقد جاء ببدايات لنُظم أخرى وفلسفات أخرى لا نزال نعدُّها اليوم نُظمًا وفلسفات حديثة. وكان أعلام القرن الثالث عشر بالغين من العظمة حدًّا بعيدًا؛ «إنوسنت الثالث» و«القديس فرانسس» و«فردريك الثاني» و«توما الأكويني»؛ فهؤلاء على اختلاف مناصبهم يمثلون الأنماط التي ينتسبون لها تمثيلًا رائعًا. وكذلك تمت في القرن الثالث عشر أعمال ضِخام لم ترتبط ارتباطًا واضحًا بأسماء رجال أعلام؛ الكاتدرائيات القوطية في فرنسا، والأدب الابتداعي الخاص ﺑ «شارلمان» و«آرثر» و«أغاني الظلام» (نيبِلَنْجِنْليد)، وبداية الحكومة الدستورية في «العهد العظيم» (ماجنا كارتا)، ومجلس العموم (في إنجلترا). غير أن الأمر الذي يعنينا هنا بطريق مباشر هو الفلسفة الاسكولائيَّة، خصوصًا على النحو الذي وضعها فيه «الأكويني»، لكني سأترك هذا الجانب للفصل التالي، لكي أحاول أولًا رسم تخطيط عام للحوادث التي كان لها أبلغ الأثر في تكوين الجو العقلي الذي ساد ذلك العصر.

كان البابا «إنوسنت الثالث» (١١٩٨–١٢١٦م) هو الشخصية الرئيسية في بداية القرن؛ فهو سياسيٌّ بارع، ذو حيوية لا تنفد، ويؤمن إيمانًا راسخًا بمطالب البابوية المتطرفة، لكنه لم يكن يتحلى مع ذلك بالتواضع المسيحي. وعند تنصيبه وعظ الناس بآية من الإنجيل: «انظر، إني نصَّبتُك اليوم على الأمم والممالك؛ لتسحق وتحطم وتبيد وتخلع، ثم لتبني وتزرع.» وأطلق على نفسه ملك الملوك، وأمير الأمراء، وقسيسًا إلى أبد الآبدين بناءً على أمر «ملك الصدق». ولم يَدَع فرصة مواتية تفلت من يده، مما عساه أن يحقق له هذا الرأي الذي ارتآه في نفسه. وكان الملك الجديد في صقلية هو فردريك، الذي كان له من العمر ثلاث سنوات عندما تولى «إنوسنت» منصب البابوية، وكانت صقلية هذه قد فتحها الإمبراطور هنري السادس (مات ١١٩٧م)، الذي تزوَّج من «كنستانس» وارثة الملوك النورمانديين، وعندئذٍ اضطربت المملكة، وأحسَّت «كنستانس» الحاجة إلى معونة البابا، فجعلته وصيًّا على الملك الطفل فردريك، وظفرت منه باعتراف بحقوق ابنها في صقلية نظير اعترافها له بالسيادة للبابوية، وقامت بمثل هذا الاعتراف كذلك البرتغال وأراجون. وأمَّا في إنجلترا، فقد اضطُر الملك يوحنَّا بعد مقاومة عنيفة أن يُسلِم مملكته ﻟ «إنوسنت» لكي يعود فيتلقاها منه إقطاعية بابويَّة.

واستطاع أهل البندقيَّة إلى حد ما أن يغلبوه على أمره في موضوع الحرب الصليبية الرابعة؛ ذلك أن جنود «الصليب» كانوا سيبحرون من البندقيَّة، غير أن عقبات نشأت في هذا الصدد من حيث الحصول على ما يكفي من السفن؛ فكان أهل البندقيَّة وحدهم هم الذين يملكون السفن الكافية، لكنهم رأوا (لأسباب تجارية خالصة) أن فتح القسطنطينية أفضل جدًّا من فتح أورشليم؛ فهي على كل حالٍ تصلح أن تكون مكانًا متوسطًا يمكن الهجوم منه. ولم تكن الإمبراطورية الشرقية أبدًا على صفاء تام مع الصليبيين؛ فوجد أولو الأمر أن الضرورة تقتضي الاستسلام لما تريده البندقيَّة، وأخذت القسطنطينية ونُصِّب عليها إمبراطور من اللاتين. وكان «إنوسنت» بادئ ذي بدء مَغيظًا لهذا المسلك، لكنه عاد ففكر بأنه قد حانت الفرصة عندئذٍ لإعادة الاتحاد بين الكنيستين الشرقية والغربية (وتبيَّن أنَّ هذا الأمل هباء). وإذا استثنيت هذا المثل وحده، فلست أعرف أحدًا استطاع قط أن يغلب «إنوسنت الثالث» على أمره بأية صورة من الصور؛ فقد أمر بحملة صليبية كبرى على اﻟ «ألبيجنسيين» فاقتلعت الزندقة، واستأصلت جذور السعادة والازدهار والثقافة من جنوبي فرنسا. وخلع «ريموند» أمير تولوز لعدم تحمسه لهذه الحملة الصليبية، وظفر بمعظم إقليم اﻟ «ألبيجنسيين» لقائد تلك الحملة، وهو «سيمون دي مونتفورت» والد أبي البرلمان. واعترك مع الإمبراطور «أوتو»، وفزع إلى الألمان أن يخلعوه، فاستجاب له الألمان، وعملوا بما أشار عليهم به، فانتخبوا مكانه فردريك الثاني، الذي كان قد بلغ لتوِّه سن الرشد، لكنَّه لقاء تأييده لفردريك اقتضاه ثمنًا باهظًا من الوعود، وهي وعود قد اعتزم فردريك على نكثها في أقرب فرصة مستطاعة.

كان «إنوسنت الثالث» أول بابا عظيم خلا من عنصر القداسة؛ فقد أدَّى إصلاح «الكنيسة» إلى اطمئنان رجالها على سلامة مكانتهم الأدبية؛ ولذلك رأوا أنه لم تعد بهم حاجة إلى إتعاب أنفسهم بصفات القداسة، وأخذ الدافع إلى قوة السلطان، منذ عهد «إنوسنت» فصاعدًا، يتحول شيئًا فشيئًا بحيث يصبح هو أقوى عامل يسود البابويَّة، ولو أنه استثار مقاومة بعض رجال الدين حتى في عهده. وقد وضع قانون الكنيسة في صيغة تزيد من سلطة رجالها، ويقول «وولترفون درفوجلويد» إن هذا التشريع هو «أسود كتاب أخرجته الجحيم». وعلى الرغم من أن البابويَّة كان لا يزال أمامها انتصارات باهرة تظفر بها، إلا أنه أمكن التنبؤ بالطريقة التي ينتظر لتدهورها المقبل أن يتخذها، استنتاجًا من الحوادث التي وقعت بالفعل.

وذهب فردريك الثاني — وهو مَن كان «إنوسنت الثالث» وصيًّا عليه — إلى ألمانيا سنة ١٢١٢م، وانتُخب بمعونة البابا خلَفًا ﻟ «أوتو»، ولم يعش «إنوسنت» ليرى كيف كان هذا الرجل الذي رفعه عدوًّا لدودًا للبابويَّة.

أنفق فردريك — وهو من ألمع الحكام الذين شهدهم التاريخ — طفولته وصباه في ظروف عسيرة شاقَّة؛ فكان أبوه «هنري السادس» (ابن بارباروسا) قد هزم النورمانديين في صقلية، وتزوَّج من «كنستانس» وارثة المملكة، وأقام حامية ألمانيَّة كرهها الصقليون، لكنه لقي حتفه سنة ١١٩٧م حين كان فردريك قد بلغ الثانية من عمره، وعندئذٍ انقلبت «كنستانس» على الألمان، وحاولت أن تحكم بغيرهم مستعينة بالبابا، فقاوم الألمان ذلك، وحاول «أوتو» فتح صقلية، فكان ذلك سببًا لاعتراكه مع البابا. وكانت «بالرمو» التي قضى فيها فردريك طفولته، فريسةَ ضُروبٍ أخرى من المتاعب؛ فكان هنالك ثورات إسلامية، وحارب أهل بيزا وأهل جنوا بعضهم بعضًا، كما حاربوا سواهم سعيًا للحصول على الجزيرة، وكنت ترى ذوي المكانة العالية في صقلية لا يفتئون يغيِّرون من موقفهم؛ فهم ينصرون هذا الحزب مرة وذلك مرة، تبعًا لأي الحزبين سيدفع لهم ثمنًا أغلى لقاء خيانتهم، ومع ذلك كله، فقد كانت صقلية ذات حسنات من الوجهة الثقافية؛ إذ تلاقت فيها الحضارات الإسلامية والبيزنطية والإيطالية والألمانية، وامتزجت على نحوٍ لم يشهده أي مكان آخر، وكانت اللغتان اليونانية والعربية ما زالتا لغتين حيَّتين في صقلية، وتعلم فردريك الكلام الطلق بست لغات، كان فيها جميعًا حاضر البديهة في فكاهته، وكان ملمًّا بالفلسفة العربية خير إلمام، كما كانت تربطه بالمسلمين صلات من الود، مما آذى أصحاب التقوى من المسيحيين. وهو سليل «هوهنستوفن»، وكان يمكن حسبانه ألمانيًّا وهو في ألمانيا، لكنه كان من الوجهة الثقافية والعاطفية إيطاليًّا مصطبغًا بعض الشيء بلون بيزنطي وعربي. ونظر إليه معاصروه نظرة الدهشة التي أخذت تتحول تدريجًا إلى فزع، فأطلقوا عليه «عجيبة الدنيا والمجدد العجيب». ودارت حوله الأساطير وهو لم يزل بعدُ على قيد الحياة؛ فقيل إنه هو مؤلِّف كتاب عنوانه «المخادعون الثلاثة» De Tribus Imposioribus، والمخادعون الثلاثة هم موسى والمسيح ومحمد، وقد نُسب هذا الكتاب — الذي لم يكن له وجود — إلى كثيرين من أعداء الكنيسة واحدًا بعد واحد، وآخر هؤلاء هو سبينوزا.
وبدأ استعمال اللفظتين Guelfa وChibelline في مهد الخلاف الذي نشب بين «فردريك» و«الإمبراطور أوتو»، وهما لفظتان مُحوَّرتان من لفظتَي Welf وWaiblingen، وهما اسمان لأسرتَي الرجلين المتحاربين (كان ابن أخي أوتو سلفًا من أسلاف الأسرة المالكة البريطانية).

مات «إنوسنت الثالث» سنة ١٢١٦م، وفي سنة ١٢١٨م مات «أوتو»، الذي كان «فردريك» قد هزمه. وكان البابا الجديد «أونوريوس الثالث» بادئ الأمر على صفاء مع «فردريك»، لكن الصعاب سرعان ما نشأت؛ فأولًا أبَى «فردريك» أن يقوم بحملة صليبية، ثم اشتبك في خلاف مع اللمباردية التي تعاقدت مع بعضها سنة ١٢٢٦م في تحالف دفاعي هجومي يدوم خمسة وعشرين عامًا، وقد كرهتْ الألمان، وكتب أحد شعرائها أبياتًا من نار في هجائهم: «لا تحبَّ أهل ألمانيا، وأبعدْ عنك هذه الكلاب المجنونة»، والظاهر أن هذا القول فيه تعبير عن الشعور العام الذي ساد لمبارديا، فأراد «فردريك» أن يظلَّ في إيطاليا لينظر في أمر المدن، لكن «أونوريوس» مات سنة ١٢٢٧م، وخَلَفه «جريجوري التاسع»، وهو زاهد مشتعل بالحماسة، أحب القديس فرانسس، وأحبه القديس (وقد اعترف بقداسة القديس فرانسس بعد موته بعامين)، ولم يكن ثَمة شيء يَعدِل في أهميته الحربَ الصليبية، في نظر جريجوري؛ ولذا أخرج «فردريك» من حظيرة الكنيسة لعدم قيامه بتلك الحرب. وكان «فردريك» — الذي تزوَّج من ابنة ملك أورشليم ووارثة ملكها — راغبًا في الذهاب إلى هناك حينما يستطيع، وأطلق على نفسه اسم ملك أورشليم، وقد ذهب فعلًا إليها سنة ١٢٢٨م وهو لم يزل طريد الكنيسة، فأغاظ ذلك «جريجوري» أكثر مما كان قد أغاظه عدم ذهابه أولًا؛ إذ كيف يمكن لجماعة الصليبيين أن يلقوا بزمام قيادتهم إلى رجل قد حرمه البابا من التبعية للدين؟ ولما وصل فردريك أرض فلسطين صادَق المسلمين، وبيَّن لهم أن المسيحيين يهتمون بأورشليم على الرغم من أن أهميتها الحربية قليلة، ونجح في إقناعهم برد المدينة إليه في سلام، فزاد ذلك البابا غضبًا على غضب، فواجب المؤمن أن يحارب الكافر لا أن يفاوضه. ومهما يكن من أمر، فقد تُوِّج «فردريك» في أورشليم، ولم يستطع أحد قط إنكار ما بلغه من نجاح، وزالت الخصومة بين البابا والإمبراطور عام ١٢٣٠م.

وجاءت بعد ذلك سنوات قلائل من سلام، فكرَّس الإمبراطور نفسه فيها لشئون مملكة صقلية، واستعان برئيس وزرائه «بييرو دلا فِنْيا» في إذاعة تشريع جديد، استمده من القانون الروماني، وهو يضرب به مثلًا أعلى من المدنية للجزء الجنوبي من مُلكه، وسرعان ما تُرجم هذا التشريع إلى اللغة اليونانية لفائدة السكان المتكلمين بهذه اللغة. وأنشأ جامعة هامة في نابلي، وسكَّ النقود الذهبية التي سُميت ﺑ «الأوجستال»، وهي أول نقود ذهبية عرفها الغرب لعدة قرون. وجعل التجارة أكثر حرية، وألغى رسوم الجمارك في داخل البلاد، بل ذهب إلى حد أن دعا ممثلين منتخَبين عن المدن إلى مجلسه، الذي لم يكن له إلا سلطة استشارية على كل حال.

وانتهت فترة السِّلم حين عاد «فردريك» إلى صراعه مع «عصبة لمبارديا» سنة ١٢٣٧م، ووقف البابا إلى جانب «العصبة»، وأخرج الإمبراطورَ مرة ثانية من حظيرة الكنيسة، ولبثت الحرب قائمة لا تكاد تنقطع لحظة، منذ ذلك الحين حتى موت «فردريك» سنة ١٢٥٠م، تزداد شيئًا فشيئًا عند كلا الفريقين مرارة وقسوة وخيانة، وكانت سِجالًا، ينتصر فيها هذا الفريق مرةً وذلك مرة، ولم تَنتهِ إلى خاتمة حاسمة حين مات الإمبراطور، غير أن مَن حاولوا أن يَخلُفوه لم تكن لهم قوته، ومُنوا بالهزيمة تدريجًا، بحيث تركوا في النهاية إيطاليا مقسَّمة والبابا ظافرًا.

ولم يكن الصراع ليتأثر إلا قليلًا بموت البابوات؛ لأن كل بابا جديد كان يستأنف سياسة سَلَفه، لا يكاد يُدخِل فيها شيئًا من التبديل؛ فلما مات «جريجوري التاسع» سنة ١٢٤١م، انتُخب عام ١٢٤٣م «إنوسنت الرابع» الذي كان عدوًّا لدودًا ﻟ «فردريك»، وقد حاول «لويس التاسع» — رغم صلابته الدينية التي لم تعرف هوادة — أن يخفف من غضب «جريجوري» و«إنوسنت الرابع»، لكن ذهبت محاولته هباء؛ إذ رفض «إنوسنت» بصفة خاصة كل تقرُّب من جهة الإمبراطور، واستخدم ضده كل الوسائل التي لا تعرف لذْع الضمير؛ فأعلن أنه مخلوع، وشنَّ عليه حربًا صليبيَّة، وأخرج من حظيرة الكنيسة كل مؤيديه، وراح الكهنة يعظون الناس بالتنكر له، وثار المسلمون، ودبت مؤامرات بين كبار المتظاهرين بتأييده؛ فزاد هذا كله من قسوة «فردريك»، وأنزل أليم العذاب بالمتآمرين، وفُقِئت للأسرى أعينُهم اليمنى، وقُطعت أيديهم اليمنى.

وحدث مرة في هذا الصراع الجبار أن فكر «فردريك» في إنشاء دين جديد، يكون هو فيه «المسيح»، ويكون وزيره «بييرو دلا فنيا» في مكان القديس بطرس،١ فلئن أجفل من إعلان مشروعه هذا، فقد كتب في شأنه إلى «دلا فنيا»، لكنه آمن فجأة — حقًّا أو باطلًا — بأن «بييرو» يتآمر عليه، فأعماه، وعرضه على ملأ من الناس في قفص، غير أن «بييرو» أنقذ نفسه مما عسى أن ينزل به غير ذلك من عذاب، فانتحر.

كان النجاح مستحيلًا على «فردريك» بالرغم من مواهبه؛ لأن القوى المناهضة للبابويَّة في عصره كانت تتصف بالتقوى والديمقراطية، على حين كانت غايته تشبه أن تكون إحياء للإمبراطورية الرومانية الوثنية، فلئن كان مستنيرًا من الناحية الثقافية، إلا أنه كان رجعيًّا من الوجهة السياسية. وكان بلاطه يشيع فيه الروح الشرقي؛ فله حريم وخِصْيان، لكن بلاطه هذا هو الذي شهد نشأة الشِّعر الإيطالي، وكان هو نفسه ذا موهبة شعرية إلى حد. وفي صراعه مع البابوية نشر عبارات تثير الجدل حول خطر إطلاق الحكم لرجال الكنيسة، وهي عبارات لو قيلت في القرن السادس عشر، لَلقيتِ استحسانًا، لكنها وقعت على آذان صماء في عصره. وأمَّا الزنادقة، الذين كان ينبغي له أن يجعل منهم حلفاءه، فقد اعتبرهم ثائرين لا أكثر، واضطهدهم إرضاء للبابا، ولولا الإمبراطور لأمكن للمدن الحرة أن تقاوم البابا، لكنها رحبت بالبابا حليفًا لها، ما دام «فردريك» يتطلب منها الخضوع، وعلى ذلك فرغم تحرره من خرافات عصره، فقد اضطُر، بحكم كونه إمبراطورًا، إلى مقاومة كل ضروب الحرية السياسية، ولم يكن ثمَّة محيص له عن خيبة مسعاه، لكنه بين مَن خابت مساعيهم من رجال التاريخ، واحد من أمتعِهم سيرةً.

وإن الزنادقة الذين شنَّ عليهم «إنوسنت الثالث» حربًا دينيَّة، والذين تَعقَّبهم الحكام جميعًا بالاضطهاد (ومن بينهم في ذلك فردريك)؛ لجديرون بالدراسة، لذواتهم أولًا، ولأنهم ثانيًا يفتحون أعيننا على لمحة خاطفة من الشعور السائد عندئذٍ، إذ لولاهم لاستحال عليك تقريبًا أن تقع على إشارة واحدة في كتابات العصر، تنم عن ذلك الشعور.

وأهم مذاهب الزندقة وأوسعها انتشارًا هو مذهب فريق «الكثاريين»، الذين يُعرفون في جنوبي فرنسا باسم اﻟ «ألبيجنسيين». وقد جاء مذهبهم من آسيا عن طريق البلقان، وكان له أنصار كثيرون في شمالي إيطاليا، وكان هو مذهب الكثرة الغالبة في جنوبي فرنسا، بما في ذلك الأشراف الذين أرادوا ذريعة تبرر لهم أخذ أراضي «الكنيسة». ويرجع هذا الانتشار الواسع لمبادئ الزندقة إلى خيبة أمل الناس لإخفاق الحروب الصليبية، على أن السبب الرئيسي لهذا الانتشار هو نفور الناس من الناحية الخلقية إزاء ما جمعه رجال الكنيسة من ثراء، وما تردَّوا فيه من شرٍّ خبيث، وكان يسود الناسَ شعورٌ — يشبه شعور التزمُّت الديني فما بعد — بتحبيذ القداسة الشخصية، وكانت هذه القداسة الشخصية ممتزجة في الأذهان بالفقر، لكن «الكنيسة» كانت غنية ودنيوية إلى حد كبير، وكانت طائفة كبيرة جدًّا من القساوسة على انحلال خلقي فظيع، واتَّهم الرهبانُ الجماعات الدينية السابقة وقساوسة الأبراشيات، مُثبِتين عليهم سوء استخدام الاعتراف في سبيل الغواية، فرد أعداء الرهبان على هذا الاتهام، ويستحيل علينا أن نجد سبيلًا إلى الشك في أن أمثال هذه الاتهامات كانت تستند إلى أساس صحيح إلى حد كبير، فكلما طالبت الكنيسة لنفسها بالسيادة على أسس دينية؛ ازداد الناس ارتياعًا للفجوة العميقة بين ما يزعمونه وما يعملونه؛ فالعوامل التي أدَّت في النهاية إلى حركة الإصلاح الديني كانت قائمة في القرن الثالث عشر، وكل ما هنالك من فرق أساسي هو أن الحكام العلمانيين لم يكونوا عندئذٍ على استعداد بالمخاطرة بأنفسهم في تأييد الزنادقة، وكان السبب الأول في ذلك هو أنه لم تكن هنالك فلسفة في مستطاعها التوفيق بين الزندقة، وبين مطالبة الملوك بحكم الأرض التي يملكون.

وإنَّه ليستحيل علينا أن نعلم علم اليقين ماذا كانت اتجاهات «الكاثاريين» ما دمنا معتمدين كل الاعتماد على ما يقوله عنهم أعداؤهم، فضلًا عن أن رجال الكنيسة قد كانوا على دراية تامة بتاريخ الزندقة، ومال بهم هواهم أن يخلعوا اسمًا من الأسماء المألوفة على طوائف الزنادقة القائمة، وأن ينعتوها بكل الاتجاهات التي عُرفت بها الطوائف السابقة، فعلوا ذلك في أغلب الأحيان على أساس أوجهٍ من الشبه الضعيف بين ما هو قائم من تلك الطوائف وما قد سبق، ومع ذلك فلدينا من أخبارهم شيء كثير يوشك أن يكون صدقه موضع اليقين الذي لا يعرف الشك؛ فالظاهر أن «الكاثاريين» كانوا ثنائيين، وأنَّهم — كالغنوسطيين — كانوا يعتبرون «يهوا» المذكور في «العهد القديم» كائنًا خبيثًا، وأمَّا الإله الحق فهو لا ينكشف إلا في «العهد الجديد». وذهبوا إلى أن المادة شر بالضرورة، وآمنوا بأن أرباب الفضيلة لا تُنشَر أجسادهم يوم البعث، وأمَّا أصحاب الشر فسيُعانون من تناسخ أرواحهم في أجساد حيوانية؛ وعلى هذا الأساس كانوا نباتيين يحرمون على أنفسهم أكل اللحم، بل أكل البيض والجبن واللبن، غير أنهم كانوا يأكلون السمك لأنهم يعتقدون أن الأسماك لا تتوالد بالتناسل الجنسي. وكانت العلاقة الجنسية بكافة ضروبها كريهة لهم، وقال بعضهم إنَّ الزواج نفسه شر من الزنا؛ لأنَّه مستمر ولا يتنافى مع الذوق العام. ومن الناحية الأخرى لم يروا ما يمنع الانتحار. وقَبِلوا «العهد الجديد» بحَرفيته أكثر مما قَبِله الأرثوذكس أنفسهم بحرفيته. ولم يجيزوا لأنفسهم حلف الأيمان، وكانوا يديرون الخد الآخر (لمن يضربهم على خد). ويسجل مضطهدوهم حالة رجل اتُّهم بالزندقة، فدافع عن نفسه بقوله إنه أكل اللحم وكذب وحلف يمينًا وكان كاثوليكيًّا طيبًا.

على أن المبادئ العنيفة بالنسبة لغيرها من مبادئ تلك الطائفة؛ كانت مقصورة على جماعة منهم شذوا عن سائر زملائهم في قداسة أنفسهم، وكانوا يُعرَفون باسم «الكاملين»، وأمَّا الزملاء الآخرون فلهم أن يأكلوا اللحم، بل أن يتزوجوا.

وإنه لمما يمتع أن نتعقَّب هذه المبادئ إلى أصولها؛ فقد جاءت إلى إيطاليا وفرنسا عن طريق الصليبيين، من مذهب يُدعى أصحابه «البوجوميليين» في بلغاريا، وحدث في سنة ١١٦٧م، حين عقد «الكاثاريون» مجلسًا بالقرب من تولوز، أن حضر الاجتماعَ مندوبون بلغاريون. وأمَّا هؤلاء «البوجوميليون» فهم بدورهم نتيجة اندماج مذهبين؛ مذهب «المانوية» ومذهب «البوالسة»، و«البوالسة» جماعة أرمنية رفضت تعميد الأطفال، والتطهير قبل دخول الجنة، ودعاء القديسين، والثالوث؛ وانتشروا قليلًا قليلًا في تراقيا، ومن ثَم دخلوا أرض بلغاريا، وكان «البوالسة» أتباعًا ﻟ «مارسيون» (حوالي ١٥٠ ميلادية) الذي اعتبر نفسه تابعًا للقديس بولس، في نبْذ العناصر اليهودية من العقيدة المسيحية، والذي كان كذلك على شيء من الشبه بالغنوسطيين دون أن يكون واحدًا منهم.

وسأعرض لونًا آخر من الزندقة مكتفيًا بذلك، وهو زندقة «الولدانيين» الذين كانوا أتباعا ﻟ «بطرس والدو»، المتحمس الديني الذي بدأ سنة ١١٧٠م «حملة دينية» في سبيل مراعاة الناس لشريعة المسيح، وقد تنازل عن كل متاعه للفقراء، وأنشأ جمعية تُدعى «فقراء ليون»، وهم الذين عاشوا حياة الفقر وحياة الفضيلة الصارمة، وقد ظفروا بادئ ذي بدء بموافقة البابا، لكنهم أسرفوا بعض الإسراف في مهاجمتهم لدعارة رجال الكنيسة، فحكم عليهم «مجلس فيرونا» سنة ١١٨٤م، فقرروا من فورهم أن كل رجل طيب في مستطاعه أن يعظ وأن يبشر بتعاليم الكتاب المقدس، وعينوا لأنفسهم قساوسة، واستغنوا عن خدمات القساوسة الكاثوليك، وانتشروا حتى لمبارديا وبوهيميا، حيث مهدوا الطريق لظهور «الحوسيين». ولما اضطُهد اﻟ «ألبيجنسيون» نالهم شيء من ذلك الاضطهاد، ففرَّ كثير منهم إلى «بييدمونت»، واضطهادهم في «بييدمونت» في عهد «ملتن» هو الذي أمدَّه بموضوع مقطوعته الشِّعرية البادئة بقوله: «انتقم يا رباه للمذبوحين من أوليائك الصالحين.» ولا تزال هذه الطائفة باقية إلى يومنا هذا في الأجزاء النائية من وديان الألب وفي الولايات المتحدة.

فزعت «الكنيسة» لهذه الزندقة كلها، واتخذت إجراءات شديدة لقمعها، ورأى «إنوسنت الثالث» أنَّ الزنادقة يستحقون الموت، لأنَّهم خائنون للمسيح، وهو الذي دعا ملك فرنسا أن يشنَّ حملة دينية على اﻟ «ألبيجنسيين»، وقد تم ذلك فعلًا سنة ١٢٠٩م؛ إذ حُمِل عليهم حملة فيها من العنف ما لا يُسيغه عقل. وحدثت مذبحة مروعة بعد الاستيلاء على «كاركاسون» بصفة خاصة، وشَغل الأساقفةُ أنفسَهم بتطهير البلاد من الزنادقة، غير أن هذا الواجب قد أصبح يقتضي من العمل الكثير ما لا يستطيعه قوم لهم واجبات أخرى يؤدونها؛ لذلك أنشأ «جريجوري التاسع» سنة ١٢٣٣م محاكم التفتيش ليضطلعوا بهذا الواجب نيابة عن الأساقفة، ولم يكن للمتهمين في محاكم التفتيش بعد سنة ١٢٥٤م حقُّ الاستعانة بمن يدافع عنهم، وإذا ما حُكِم على المتهم بالإثم صودرت أملاكه، وبلغت المصادرة في فرنسا حد تاج الملك، وإذا ما ثبتت التهمة على المتهم، أسلموه إلى رجال السلطة العلمانية مشفوعًا بالدعاء له، لعلَّ حياته أن تنجو من الموت، غير أن السلطة العلمانيَّة إذا ما أمسكت عن إحراقه، تعرَّض رجالها أنفسهم إلى الوقوف أمام محكمة التفتيش، التي لم تجعل غايتها محاكمة الزندقة بمعنى هذه الكلمة المألوف، بل جعلت همَّها محاكمة السحرة والمشعوذين، وعُنِيت محاكم التفتيش في إسبانيا باليهود المتستِّرين، وكان القائمون عليها غالبًا من «الدومنيكان» و«الفرانسيسكان»، ولم تتسع دائرتها قط لتشمل اسكندناوة أو إنجلترا، لكن الإنجليز كانوا على أتم استعداد لاستخدامها في قتل جان دارك، وقد أصابت هذه المحاكم على وجه الجملة نجاحًا، وطمست عند بداية نشأتها زندقة اﻟ «ألبيجنسيين» طمسًا تامًّا.

تعرضت «الكنيسة» في بداية القرن الثالث عشر لخطر الثورة عليها، وكان ذلك الخطر عندئذٍ يوشك ألا يقلَّ قوةً عن نظيره في القرن السادس عشر، لكنها أُنقذت منه؛ ويرجع إنقاذها إلى حد كبير جدًّا إلى نشأة الطوائف المستحيية؛ فلقد عمل «القديس فرانسس» و«القديس دومنيك» للأرثوذكسية أكثر مما عمله في سبيلها أقوى البابوات أنفسهم.

كان «القديس فرانسس» الأسيسي (١١٨١م أو ١١٨٢–١٢٢٦م) من أحب الرجال الذين شهدهم التاريخ إلى قلوب الناس. وكان من أسرة مُوسِرة، ولم يكن في شبابه كارهًا للضروب المألوفة من ألوان المرح، ثم حدث له ذات يوم أن مرَّ راكبًا برجل أبرص، فاضطرم في نفسه دافع العطف فجأة، ونزل عن دابته وقبَّل المريض، ولم يمضِ عليه بعد ذلك طويل وقت حتى اعتزم أن يتنازل عن كل أملاكه الدنيوية، وأن يكرِّس حياته للوعظ وأعمال البر، وغضب لذلك أبوه الذي كان من رجال الأعمال ذوي المكانة المحترمة، لكنه لم يستطع أن يَثني ابنه عمَّا اعتزم. وسرعان ما جمع حوله جماعة من الأتباع، نذروا جميعًا أن يعيشوا عيش الفقر المدقع. ونظرت «الكنيسة» بادئ الأمر إلى هذه الحركة نظرة فيها شيء من الريبة؛ لأنها أشبهت جمعية «فقراء ليون» شبهًا شديدًا جدًّا، حتى لقد اتُّهم بالزندقة المبشرون الأولون الذين أرسلهم «القديس فرانسس» إلى الأماكن النائية، لأنهم مارسوا حياة الفقر فعلًا، بدل أن يكتفوا (مثل رهبان الأديرة) بمجرد النذر الذي ما كان أحد ليفهمه بمعناه الحقيقي الجاد. بَيد أن «إنوسنت الثالث» كان من الفطنة بحيث رأى لهذه الحركة قيمتها، لو أمكن حصرها في حدود الأرثوذكسية، حتى لقد اعترف سنة ١٢٠٩م أو سنة ١٢١٠م بهذه الطائفة الجديدة، ومضى «جريجوري التاسع» — الذي كان صديقًا شخصيًّا للقديس فرانسس — في تأييده، لكنه في الوقت نفسه كان يسنُّ من القواعد ما تضيق له نفس «القديس» بما فيها من حرارة التحمس واضطراب الدافع، فأراد «فرانسس» أن يفسر التعهد بحياة الفقر تفسيرًا بأدق ما يكون معنى الفقر، ولذا عارض في أن يكون لأتباعه بيوت أو كنائس، فإنما هم قوم يستَجْدون خبزهم، ولا تكون لهم بيوت يأوون إليها إلا ما تهيِّئه لهم ضيافة عابرة عند رجل كريم يصادفونه. وسافر عام ١٢١٩م إلى الشرق، وأخذ يبشر بمبادئه في حضرة السلطان الذي أكرم وفادته، لكنه ظلَّ محتفظًا بإسلامه، ولما عاد، وجد طائفة الفرانسيسكان قد أقامت لها دارًا، فتألم لذلك ألمًا شديدًا، غير أن البابا أغراه أو ألزمه بالقبول. وبعد موته اعترف به «جريجوري» قديسًا، لكنه خفف من قاعدته التي كان قد سنَّها في موضوع الفقر.

كان ﻟ «فرانسس» نُظراء في قداسته، لكن الذي يجعله فريدًا في نوعه بين سائر القديسين؛ هو شعوره بالسعادة شعورًا نابعًا من نفسه، وحبه للناس جميعًا، ومواهبه في نظم الشِّعر، وقد كانت طيبة نفسه، فيما يبدو دائمًا، كأنَّما هي طيبة لا تتطلب منه جهدًا، كأنه لم يكن في عنصره من شوائب الشر ما يحتاج منه إلى مقاومة؛ أحبَّ الكائنات الحية جميعًا، لا باعتباره مسيحيًّا وكفى، ولا باعتباره رجلًا يميل إلى الخير، بل أحب جميع الأحياء لأنه شاعر؛ فترنيمته التي نظمها قُبيل موته كان يمكن تقريبًا أن يكون ناظمها هو «إخناتون» عابد الشمس، ونقول تقريبًا؛ لأن للمسيحية أثرًا في مادتها، ولو أنَّه أثر لا يظهر إلا بالتحليل. وأحسَّ بواجب نحو المصابين بالبرص، من أجل أنفسهم، لا من أجل نفسه، فهو يختلف عن معظم القديسين المسيحيين الآخرين في أنه كان يهتم بسعادة غيره أكثر من اهتمامه بخلاص نفسه. ولم يُبدِ قط أي شعور بالتعالي على غيره، حتى بالنسبة إلى أقل الناس قيمة، أو إلى أكثر الناس شرًّا، وقال عنه «توما السَّلانوي» إنه كان بين القديسين أكثر من قديس، وبين الآثمين كان واحدًا منهم.
لو كان ﻟ «الشيطان» وجود، لهيَّأ له مستقبلُ الطائفة الدينية التي أسسها «القديس فرانسس» فرصةً لا مثيل لها للتنفيس عما تضطرم به نفسه، وذلك أن الخَلَف الذي أعقب القديسَ مباشرة في رئاسة الطائفة هو «الأخ إلياس» الذي تقلَّب في النعيم، وأجاز الابتعاد عن الفقر ابتعادًا تامًّا. وكانت المهمة الرئيسية التي اضطلع بها «الفرانسسكان» في السنوات التي تلَتْ مباشرةً موتَ مؤسس الطائفة؛ هي أن يجمعوا الأنصار المحاربين ليأخذوا بنصيب في الحروب المرة الدامية التي نشبت بين فريق «الجلفيين» (Guelfs) وفريق «الغيبليين» (Ghibellines). وفي بلاد كثيرة كان أكثر زعماء محاكم التفتيش التي نشأت بعد موته بسبع سنوات من طائفة الفرانسسكان، ولقد لبثت أقلية صغيرة من أتباعه تُسمى ﺑ «الروحانيين» متمسكة بتعاليمه الصحيحة، لكن عددًا كبيرًا من هؤلاء كان مصيره الحرق عند محاكم التفتيش؛ لاتهامه بالزندقة. وكان مذهب هؤلاء هو أنه لم يكن للمسيح ولا للرسل متاع يملكونه، فهم لم يملكوا حتى الثياب التي يرتدونها، فاتُّهم هذا الرأي منهم بالزندقة سنة ١٣٢٣م، بلسان «يوحنَّا الثاني والعشرين»، فالنتيجة النهائية لحياة «القديس فرانسس» هي قيام طائفة أخرى تُضاف إلى غيرها من الطوائف الغنية الفاسدة، وشدُّ أزر الكنيسة في سلطانها، وتمهيد الطريق لاضطهاد كل من امتاز بإخلاصه للأخلاق القويمة، أو لحرية الفكر. ولو تذكرنا أغراضه التي كان يهدف لها، وشخصيته الفاضلة، لاستحال علينا أن نتخيل نتيجة تكون فيها سخرية الدهر أكبر منها في هذه النتيجة.

وقصة «القديس دومنيك» أقل إمتاعًا بدرجة كبيرة من قصة «القديس فرانسس»؛ فهو من كاستيليا، ويُخلِص — مثل «لويولا» — للأرثوذكسية إخلاصًا فيه هوس التعصب، وغايته الرئيسية هي محاربة الزندقة؛ فاصطنع الفقر وسيلةً تؤدي به إلى هذه الغاية، ولقد شهد الحرب مع اﻟ «ألبيجنسيين» من أولها إلى آخرها، ولو أنه يقال إنه أَسِف لبعض ما ارتكب فيها من شنيع الفظائع. وقد أُنشئت «الطائفة الدومنيكية» سنة ١٢١٥م، أنشأها «إنوسنت الثالث» فصادفت نجاحًا سريعًا، ولست أعرف في «القديس دومنيك» من آثار الخصائص البشرية إلا اعترافه ﻟ «جوردان السكسوني» بأنه كان يحب التحدث إلى الشابات من النساء، أكثر من التحدث إلى العجائز، لكن «الطائفة» قررت في وقارها سنة ١٢٤٢م أنه لا بدَّ من حذف هذه العبارة من ترجمة حياة مؤسس الطائفة، التي كتبها «جوردان».

ولئن كان «الفرانسسكان» قد أبدوا نشاطًا في أعمال محاكم التفتيش، فقد كان «الدومنيكان» أكثر منهم نشاطًا في ذلك، لكنهم مع ذلك قد أدوا خدمة جليلة للإنسانية بإخلاصهم للعلم، ولم يكن هذا جزءًا من خطة «دومنيك»؛ لأنه قرر لرهبانه «ألا يحصلوا العلوم الدنيوية أو الفنون الحرة إلا بفتوى تجيز ذلك»، غير أن هذه القاعدة لم تُراعَ سنة ١٢٥٩م، وبعدئذٍ بُذل كل مجهود لتيسير الحياة العلمية ﻟ «الدومنيكان»؛ فلم يكن العمل اليدوي جزءًا من واجباتهم، وقُللت لهم ساعات العبادة لكي ينفسح لهم مجال الدراسة، ولقد أنفقوا جهدهم كله في التوفيق بين أرسطو والمسيح، وقام بهذه المهمة من هؤلاء «الدومنيكان» رجلان، هما «ألبرت الكبير» و«توما الأكويني»، على أحسن ما يمكن أن تؤدَّى؛ فكان ﻟ «توما الأكويني» من الوزن العلمي الساحق ما صرف «الدومنيكان» فيما بعد عن الإنتاج الفلسفي إلا قليلًا، وعلى الرغم من أن «فرانسيس» قد كره التحصيل العلمي أكثر مما كره «دومنيك»، إلا أن الأسماء التي لمعت في الفترة التي جاءت بعد ذلك العهد مباشرة، كلها من «الفرانسسكان»؛ «روجو بيكن»، و«دَنْس سكوتس»، و«وليم الأوكامى»، فهؤلاء جميعًا من «الفرانسسكان»، وسنخصص الفصول التالية لما أداه هؤلاء الرهبان للفلسفة من أبحاث.

١  راجع حياة فردريك الثاني، تأليف Hermaun-Kautovomicy.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤