الفصل الرابع عشر

الاسكولائيون الفرانسسكان

كان الفرانسسكان — على وجه العموم — أقل من الدومنيكان في نقاء عقيدتهم الأرثوذكسيَّة، وكانت الطائفتان متنافستين تنافسًا حادًّا؛ فلم يكن الفرانسسكان يميلون إلى قبول «القديس توما» حجةً لهم. وأهم رجال ثلاثة بين الفلاسفة الفرانسسكان هم: «روجر بيكُن»، و«دَنْس سكوتس»، و«وليم الأوكامي»، وكذلك نرى «القديس بونافنتورا»، و«متَّى الأكْواسبرطي» جديرَين بالنظر.

لم يصادف «روجر بيكُن» (حوالي ١٢١٤–حوالي ١٢٩٤م) في عصره إعجابًا عظيما، ولكنه في العصور الحديثة لقي من الثناء أكثر جدًّا مما هو جدير به، ولم يكن فيلسوفًا — بمعنى الكلمة الضيق — بقدر ما كان رجلًا ذا ثقافة واسعة، يميل بصفة خاصة إلى الرياضة والعلوم. وكان العلم في عصره مختلطًا بالكيمياء (بمعنى محاولة تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب)، كما قيل كذلك إنه كان مختلطًا بالسحر الأسود، وما انفكَّ «بيكن» واقعًا في إشكال؛ لما ظنَّه فيه الناسُ من زندقة وسحر. وحدث سنة ١٢٥٧م أنْ وضعه «القديس بونافنتورا» — قائد طائفة الفرانسسكان — تحت المراقبة في باريس، وحرَّم عليه النشر، لكن المندوب البابوي في إنجلترا — وهو «جاي دي فولكه» — أمَره أثناء تحريم النشر أوامر تُناقِض ذلك؛ إذ أمَره أن يكتب فلسفته في صالح البابا، وعلى ذلك أخرج في وقت قصير جدًّا ثلاثة كتب، هي: «السِّفر الأكبر Opus majus»، و«السِّفر الأصغر Opus minus»، و«السِّفر الأوسط Opus tetium»، والظاهر أن هذه الكتب قد أحدثت أثرًا طيبًا، حتى لقد أُبيح له سنة ١٢٦٨م أن يعود إلى أكسفورد التي كان قد أُبعِد عنها ليكون أشبه بسجين في باريس، ومع ذلك فما كان شيء قط ليُعلِّمه الحذر، فطَفِق يحاول النقد الهجائي، وأخذ يهجو كل العلماء المعاصرين، وبخاصة المترجمون عن اليونانية والعربية؛ إذ قال عنهم إنَّهم على درجة بشعة من العجز. وفي سنة ١٢٧١م كتب كتابًا أسماه «مجموعة دراسات فلسفية Compendium Studii Philosophae»، هاجم فيه جهل رجال الدين، ولم يكن لهذا الكتاب أثر في رفع مكانته بين زملائه. وحدث عام ١٢٧٨م أن استنكر «قائد الطائفة» كُتبه، وزُج في السجن أربعة عشر عامًا، ثم أُطلقَ سراحه سنة ١٢٩٢م، لكنه لم يلبث أن أَسلَم الروح.

كان موسوعيًّا في علمه، لكنه لم يعرف كيف يُنسِّق ذلك العلم. وهو يختلف عن معظم فلاسفة عصره في رفعه من قيمة التجربة العلمية، وضرب مثلًا نظرية قوس قزح ليوضح به أهمية التجارب العلمية. وقد أجاد كتابة الجغرافيا، وقرأ «كولمبس» الجزء الجغرافي من تآليفه، وتأثر به. وكان رياضيًّا جيدًا؛ فتراه يقتبس الجزأين السادس والتاسع من إقليدس. وبحث في المنظور ناسجًا على منوال المصادر العربية في ذلك. أمَّا المنطق فقد رآه دراسة لا تفيد، على حين رأى في الكيمياء من القيمة ما حَمَله على الكتابة فيها.

ولكي أصور بعض التصوير مدى علمه وطريقته في البحث، سأعمد إلى تلخيص بعض الأجزاء من «السِّفر الأكبر».

يقول إنَّ هنالك أربعة أسباب للجهل؛ الأول: اتباع سلطة ضعيفة غير ملائمة (ولما كان الكتاب قد كُتب من أجل البابا، فقد حرص على أن يقول إن ذلك لا يشمل «الكنيسة»). والثاني: تأثير العادة. والثالث: رأي الجمهور غير المتعلم (والأرجح أن هذا يشمل كل معاصريه ما عداه). والرابع: أن يُخفي المرء جهل نفسه بستار من حكمة ظاهرية. من هذه الأوبئة الأربعة — والرابع أفظعها جميعًا — تنبثق شرور الإنسانية.

إنك إذا أردت أن تؤيد فكرة، فمن الخطأ أن تبني حجتك على حكمة أسلافنا، أو على العادة، أو على الاعتقاد السائد، ومع ذلك فهو حين أراد أن يؤيد وجهة نظره هذه، راح يستند إلى مقتبسات من «سنكا» و«شيشرون»، و«ابن سينا» و«ابن رشد»، و«أدلارد الباثي»، و«القديس جيروم»، و«القديس خريسوستوم»؛ فالظاهر أنه قد رأى في هؤلاء الثقات برهانًا كافيًا على أن الباحث لا ينبغي أن يحترم رأي ذوي الكلمة المسموعة.

وهو يحمل نحو أرسطو احترامًا عظيمًا، لكنه ليس احترامًا غير محدود؛ «فأرسطو وحده — مع أتباعه — هو الذي أجمع الحكماء على أنه فيلسوف». وهو — ككل معاصريه تقريبًا — يستعمل كلمة «الفيلسوف» حين يتحدث عن أرسطو، لكنه ينبئنا بأن «الاستاجيري» نفسه (أي أرسطو) لم يبلغ غاية الحكمة الإنسانية، وبعده يأتي ابن سينا «أميرًا للفلسفة وزعيمًا لها»، ولو أنه لم يفهم قوس قزح فهمًا جيدًا؛ لأنه لم يدرك سببه الغائيَّ، وما سببه الغائي بناء على سِفر التكوين إلا بعثرة البخار المائي (ومع ذلك فحين أراد بيكن أن يبحث في قوس قزح، اقتبس من ابن سينا معجبًا به كل إعجاب). وهو من حين إلى حين يذكر شيئًا فيه معنى الأرثوذكسيَّة، كأن يقول مثلًا إن الحكمة الكاملة الوحيدة كائنة في الكتاب المقدس، كما يشرحه القانون الكنسي وكما تشرحه الفلسفة، لكنه يبدو أكثر إخلاصًا حين يقول إنه لا اعتراض على اكتساب المعرفة من الكفار. وهو يقتبس كثيرًا جدًّا من الفارابي،١ إلى جانب اقتباسه من ابن سينا وابن رشد، كما يقتبس كذلك من أبي معشر٢ وآخرين حينًا بعد حين؛ فهو يرجع إلى أبي معشر ليقيم الدليل على أن الرياضة كانت معروفة قبل «الطوفان»؛ إذ كانت معروفة لنوح وأبنائه، وأحسب أن هذا مثال لما قد نتعلمه من الكفار. ويُثني «بيكن» على الرياضة باعتبارها مصدر اليقين الوحيد (الذي لم يأتِ به الوحي)، ولأنها ضرورية للفلك والتنجيم.

ويتبع «بكين» رأي «ابن رشد» في أن العقل الفعال عنصر مستقل عن الروح في الجوهر، ويستند إلى كثيرين من رجال الدين البارزين، منهم «جروسْتست» أسقف «لنكلن»؛ لأنه هو كذلك يؤيد هذا الرأي، الذي لا يتفق مع ما ذهب إليه «القديس توما». ويقول إن الفقرات المأخوذة عن أرسطو، والتي يبدو فيها شيء من التناقض؛ إنَّما يرجع تناقضها الظاهري إلى سوء ترجمتها. وهو حين يقتبس من أفلاطون لا يرجع إليه مباشرةً، بل يرجع إليه خلال «شيشرون»، وربما رجع إليه خلال خطوتين؛ العرب نقلًا عن فورفوريوس، وليس معنى ذلك أنه كثير الاحترام ﻟ «فورفوريوس»، وحسْبنا أنه يصف فورفوريوس في الكليات بأنه «صبياني».

لقد صادف «بيكن» في العصور الحديثة ثناءً؛ لأنه أعلى من شأن التجارب العلمية مصدرًا من مصادر المعرفة، أكثر مما قدَّر الحِجاج الجدلي. وليس من شكٍّ في أن اهتماماته، وطريقة تناوله لموضوعاته؛ تختلف اختلافًا شديدًا عما كان سائدًا بين الاسكولائيين الخُلَّص. وهو في ميوله الموسوعية في تحصيل العلم شبيه بالمؤلفين العرب، الذين أثَّروا فيه بغير شك أثرًا كان أبلغ من تأثيرهم في الكثرة الغالبة من سائر الفلاسفة المسيحيين؛ فهم مثله يهتمون بالعلم، ويؤمنون بالسحر والتنجيم، على حين ظنَّ المسيحيون أن السحر خبيث، والتنجيم وَهْم. وهو يستثير الدهشة لأنه يختلف اختلافًا بعيدًا عن غيره من الفلاسفة المسيحيين في العصر الوسيط، غير أنه كان ذا أثر طفيف في عصره. ولا أحسبه كان ذا نزعة علمية بالدرجة التي يظنها فيه بعض الباحثين. وقد أَلِف المؤلفون الإنجليز أن يقولوا عنه إنه مخترع البارود، لكن ذلك زعم باطل بغير شك.

وأمَّا «القديس بونافنتورا» (١٢٢١–١٢٧٤م) — الذي بوصفه قائدًا لطائفة الفرانسسكان، حرَّم النشر على «بيكن» — فقد كان من طراز مختلف عن طراز «بيكن» كل الاختلاف؛ فهو ينتمي إلى أتباع «القديس أنسلم» في طريقة التفكير. وكان يذهب إلى ما ذهب إليه «القديس أنسلم» من حيث البرهان الوجودي. ورأى في النزعة الأرسطيَّة الحديثة تعارضًا جوهريًّا مع المسيحية. وكان يعتقد في صدق المُثُل الأفلاطونية، التي لا يعرفها معرفة كاملة إلا الله وحده. وهو لا ينفكُّ في كتاباته ذاكرًا لأوغسطين، غير أنه لا يسوق اقتباسًا واحدًا من العرب، ولم يقتبس من الوثنيين الأقدمين إلا قليلًا.

ومن أتباع «بونافنتورا» «متَّى الأكواسبرطي» (حوالي ١٢٣٥–١٣٠٢م)، لكنه كان أقل منه انصرافًا عن الفلسفة الجديدة. كان من الفرانسسكان، وأصبح كاردنالًا. وعارض «القديس توما» من وجهة نظر «أوغسطينية»، لكن أرسطو في رأيه قد بات هو «الفيلسوف»، يقتبس منه اقتباسًا متصلًا، وكذلك يذكر «ابن سينا» في مواضع كثيرة، ويقتبس من «القديس أنسلم» محترمًا إياه، وكذلك قل في موقفه من «محاكي ديونيسيوس»، لكن مرجعه الرئيسي هو «القديس أوغسطين». وهو يقول إنه لا مندوحة لنا عن الْتِماس طريق وسط بين أفلاطون وأرسطو؛ فمُثُل أفلاطون «خاطئة كل الخطأ»، وهي من شأنها أن تمكِّن لبناء الحكمة لا المعرفة، وكذلك أرسطو من ناحية أخرى قد انحرف عن الصواب، وهو يمكِّن لبناء المعرفة لا الحكمة، ثم ينتهي إلى هذه النتيجة، وهي أنَّ ما لدينا من معرفة قد جاءنا من الأشياء الدنيا والأشياء العليا سواء بسواء، أعني أنها قد جاءت من الأشياء الخارجية ومن التدليلات العقلية معًا.

وجاء «دَنْس سكوتس» (حوالي ١٢٧٠–١٣٠٨م) فمضى في طريق غيره من الفرانسسكان في معارضتهم للأكويني. وُلد في اسكتلندا أو في ألِسْتر، والْتَحق بالفرانسسكان وهو في أكسفورد، وأنفق أُخريات أعوامه في باريس. وقد عارض «القديس توما» بأن دافع عن «الحَبَل بلا دَنَس»، وأيدَتْه في ذلك جامعة باريس، ثم أيدَتْه آخرَ الأمر «الكنيسة الكاثوليكية» بأَسرها. وهو «أوغسطيني»، لكنه لم يتطرَّف في ذلك تطرُّفَ «بونافنتورا»، ولا تطرُّف «متَّى الأكواسبرطي». واختلافه عن «القديس توما» — كاختلافهما عنه — قد نشأ من إضافته إلى فلسفته قسطًا أوفر من الأفلاطونيَّة (عن طريق أوغسطين).

وهو يناقش — مثلًا — مسألة «هل يمكن معرفة أية حقيقة مؤكدة خالصة للإنسان العادي، إذا استخدم عقله بطريقة طبيعية، دون الاستعانة بشعاع خاص ينبعث له من الضوء الأزلي؟» ويقول إن ذلك مستحيل، وهو لا يؤيد وجهة نظره هذه في مُستهَلِّ نقاشه؛ إلا بفقرات يقتبسها من «القديس أوغسطين»، والمعضلة الواحدة التي تعترضه في هذا الصدد هي الرومان، الإصحاح الأول، ٢٠: «إن مخلوقات الله الخفيَّة عن الأبصار، التي أدركناها عن طريق ما صنعناه من أشياء؛ قد فُهِمت لنا فهمًا واضحًا من خَلق العالم.»

كان «دَنْس سكوتَسْ» واقعيًّا معتدلًا، آمن بحرِّية الإرادة، وله نزعات تميل به نحو المذهب «البلاجي». وذهب إلى أن الوجود لا يختلف عن الجوهر. وأهم ما كان يثير اهتمامه هو الإدراك المباشر، أعني أنواع الأشياء التي يمكن معرفتها بغير برهان، وهذه الأشياء ثلاثة أنواع: (١) مبادئ تُعرَف بذاتها. (٢) وأشياء تُعرَف بالخبرة. (٣) وأفعالنا. لكنه يستحيل علينا أن نعرف شيئًا قط بغير استضاءة إلهية.

ولقد اتبع معظم الفرانسسكان «دنس سكوتس» أكثر مما اتبعوا «الأكويني».

ذهب «دنس سكوتس» إلى أنه ما دام الوجود والجوهر لا يختلفان أحدهما عن الآخر، فلا بدَّ إذن أن يكون «مبدأ الفردية» — أعني المبدأ الذي بمقتضاه لا يكون شيء ما هو نفسه شيئًا آخر بعينه — أقول إن «مبدأ الفردية» لا بدَّ إذن أن يكون في الصورة لا في المادة. لقد كان «مبدأ الفردية» مشكلة من أهم المشاكل التي تعرضت لها الفلسفة الاسكولائيَّة، وما يزال إلى يومنا هذا مشكلة قائمة، وإن تكن قد اتخذت صورًا مختلفة في العصور المختلفة. وربما جاز لنا أن نقرر المشكلة على الوجه الآتي، دون الإشارة إلى أحد من المؤلفين (الذين تناولوها بالبحث).

من خصائص الأشياء الجزئية ما هو جوهري وما هو عرَضي، والصفات العرَضية للشيء هي تلك التي يمكن للشيء أن يفقدها دون أن يفقد ذاتيته، كلُبسك القبعةَ مثلًا إذا كنت رجلًا، وها هنا تنشأ المشكلة الآتية: إذا كان لدينا جزئيَّان ينتميان إلى نوع بعينه، فهل يختلف هذان الجزئيان دائمًا في الجوهر، أم هل يمكن للجوهر أن يكون متشابهًا تشابهًا تامًّا في ذَينِك الجزئيَّين معًا؟ يأخذ «القديس توما» بالرأي الثاني بالنسبة للعناصر المادية، وبالرأي الأول بالنسبة للعناصر غير المادية. وأمَّا «دنس سكوتس» فيعتقد بأن الشيئين الجزئيين المختلفين؛ لا بد أن يكون بينهما دائمًا اختلافات في الجوهر. ويبني «القديس توما» وجهة نظره على النظرية القائلة بأن المادة الخالصة تتألف من أجزاء لا يختلف بعضها عن بعض، ولا يمكن التمييز بينها إلا باختلافها في الوضع المكاني وحده؛ وعلى هذا فقد لا يختلف الشخص المتألف من عقل وجسم، اختلافًا فيزيقيًّا عن شخص آخر إلا في الوضع المكاني لجسده (يجوز أن يحدث هذا نظريًّا مع التوءمين الناشئين من بُوَيضة واحدة). وأمَّا «دنس سكوتس» فيرى من ناحية أخرى أنه لو كانت الأشياء متميزًا بعضُها عن بعض؛ فلا بدَّ أن يكون هذا التمييز قائمًا على اختلافها في الكيف، وواضح أن هذا الرأي أقرب إلى الأفلاطونية من رأي «القديس توما».

ولا بدَّ لنا من اجتياز مراحل عدة قبل أن نستطيع التعبير عن هذه المشكلة بلغة العصر الحديث، والمرحلة الأولى قد خطاها «ليبنتز» حين تخلَّص من التفرقة بين ما هو جوهري وما هو عرَضي في الصفات، وهي تفرقة — شأنها شأن تفرقات أخرى كثيرة أخذَها الاسكولائيون عن أرسطو — سرعان ما يتبدَّى بُطلانها إذا ما حاولنا أن نضعها في تعبير دقيق، وبزوال هذه التفرقة يصبح لدينا بدل «الجوهر» «كل القضايا التي تَصدُق على الشيء الذي نحن بصدده» (ومع ذلك فلا بدَّ أن نستثني — بصفة عامة — وضع الشيء في المكان والزمان). ويدافع «ليبنتز» عن رأيه باستحالة أن يكون شيئان شبيهين كل الشبه بهذا المعنى، وهذا هو مبدؤه المعروف باسم «ذاتية الفوارق غير المُدرَكة». ولقد توجَّه علماء الطبيعة إلى هذا المبدأ بالنقد، إذ قالوا إن الذرَّتين من ذرات المادة قد لا تختلفان في شيء إطلاقًا سوى اختلافهما في الوضع المكاني والزماني، وهو رأي ازداد صعوبةً بنظرية النسبية التي جعلت من المكان والزمان مجرد علاقات لا أكثر.

ولا مندوحة لنا بعد ذلك عن مرحلة أخرى نخطوها في سبيل تحديث المشكلة (أي: جعْلها ملائمة للتفكير الحديث)، وهي أن نتخلص من فكرة «العنصر»، وإذا ما فعلنا ذلك بات «الشيء» حُزمة من الصفات؛ إذ لا يعود أمامنا نواة تكون هي «الشيئية» الخالصة. وقد يظهر لنا أننا إذا ما نبذنا فكرة «العنصر»، لَزِم عن ذلك ضرورة الأخذ برأي أقرب إلى رأي «سكوتس» منه إلى رأي «الأكويني»، على أن هذا يتضمن صعوبة كبرى من حيث المكان والزمان. وقد تناولت هذه المشكلة من وجهة نظري في كتابي «بحث في المعنى والصدق»، تحت عنوان «أسماء الأعلام».

وأهمُّ اسكولائي بعد «القديس توما» هو «وليم الأوكامي»، الذي لا ندري عن ظروف حياته إلا حقائق غاية في التشويه والغموض؛ فربما جاءت ولادته بين عامَي ١٢٩٠م و١٣٠٠م، ومات في العاشر من أبريل، لكننا لسنا على يقين من العام؛ هل هو ١٣٤٩م، ١٣٥٠م؟ (والأرجح في ظنِّنا هو عام ١٣٤٩م؛ لأنه العام الذي نَشِب فيه «الموت الأسود».) ويذهب معظم الناس إلى أنه قد وُلد في «أوكام»، من أعمال مقاطعة «سَرِي»، غير أن «دِلايل بيرنز Delisle Burns» يفضِّل أن تكون ولادته في «أوكام» التابعة لمقاطعة يوركشير. وقد ذهب أولًا إلى أكسفورد، ثم إلى باريس، حيث كان أول الأمر تلميذًا ﻟ «دنس سكوتس»، ثم أصبح فيما بعد منافسًا له، وأخذ بنصيب في المعركة التي نشبت بين طائفة الفرنسسكان وبين البابا يوحنَّا الثاني والعشرين، حول موضوع الفقر؛ أمَّا البابا فقد اضطهد «الروحانيين» معتمدًا في ذلك على تأييد «ميخائيل السيزيني» قائد الطائفة، غير أن ذلك قد سبقه إجراء تنازَل الرهبان بمقتضاه عما كان لديهم من أملاك للبابا، في نظير أن يُسمَح لهم باستخدام تلك الأملاك دون التلوث بخطيئة المِلكية، لكن يوحنَّا الثاني والعشرين عاد فألغى هذا، قائلًا إن على الرهبان أن يقبلوا المِلكية قبولًا صريحًا، فثار عليه معظم أبناء الطائفة بزعامة «ميخائيل السيزينى»، ووقف «أوكام» إلى جانب «ميخائيل السيزيني»، وكان «أوكام» قد استدعاه البابا إلى أفنيون، ليجيب عن تُهَم الزندقة الموجَّهة إليه بخصوص تحوُّل مادة المسيح، كما وقف إلى جانب «ميخائيل السيزيني» أيضًا رجل آخر له مكانته العالية، وهو «مرسيليو البادوي»، فصدر أمر سنة ١٣٢٨م بإخراج هؤلاء الثلاثة من حظيرة الكنيسة، لكنهم فرُّوا من أفنيون، ولاذوا بالإمبراطور لويس، وكان لويس أحد مُطالِبَين بالإمبراطورية، وكان هو المُطالب الذي تؤيده ألمانيا، وأمَّا الآخر فكان يحظى بتأييد البابا؛ ولذا أمر البابا بإخراج لويس من حظيرة الكنيسة أيضًا، فرفع أمره إلى «مجلس عام»، ووُجِّهت تهمة الزندقة إلى البابا نفسه.

ويقال إن «أوكام» حين الْتَقى بالبابا قال: «دافع أنت عني بالسيف، وسأدافع عنك بالقلم.» ولقد استقر هو و«مرسيليو البادوي» — على الأقل — في ميونيخ تحت رعاية الإمبراطور، وهنالك أخذا يكتبان رسائل سياسية ذات خطر كبير، ولسنا على علم يقيني بما حدث ﻟ «أوكام» بعد موت الإمبراطور سنة ١٣٣٨م، فيقول بعضهم إنَّه وفَّق ما بينه وبين «الكنيسة»، لكن ذلك يبدو زعمًا باطلًا.

ولم تَعُد الإمبراطورية كما كانت في عهد «هوهنستاوفن»، وكذلك لم يعد للبابوية ما كان لها من مكانة رفيعة في النفوس، ولو أن دعاواها ما فتئت تزداد اتساعًا. وكان «بونِفِس الثامن» قد نقلها إلى أفنيون في بداية القرن الرابع عشر، وأصبح البابا تابعًا سياسيًّا لملك فرنسا. ولم تقف الإمبراطورية عند حد كهذا في تدهورها؛ إذ لم يعد في وسعها أن تطالب بأي ضرب من ضروب السيادة العالمية، حتى ولو كانت سيادة وهميَّة أبعد ما تكون عن السيادة الحقيقية؛ وذلك بسبب قوة فرنسا وإنجلترا، ومن ناحية أخرى كذلك أضعف البابا من حقه في المطالبة بالنفوذ العالمي في الأمور الدنيوية؛ وذلك بسبب خضوعه لملك فرنسا، وهكذا بات الصراع بين البابا والإمبراطور صراعًا بين فرنسا وألمانيا في حقيقته. وكانت إنجلترا في عهد «إدوَرْد الثالث» في حرب مع فرنسا، ولذلك كانت حليفة لألمانيا؛ ونتج عن ذلك أن تكون إنجلترا مناهِضة للبابوية كذلك. وطالب أعداء البابا بعقد «مجلس عام»، وهو السلطة الكنسية الوحيدة التي يمكن اعتبارها أعلى كلمةً من البابا.

وعندئذٍ تغيرت طبيعة المعارضة الموجَّهة إلى البابا؛ فبدَل أن تجعل نفسها مؤيدة للإمبراطور لا أكثر ولا أقل؛ اكتسبت صبغة ديمقراطية، خصوصًا فيما يتعلق بأمور الإدارة في «الكنيسة»، فأمدَّها هذا بقوة جديدة، انتهت بها في ختام الأمر إلى حركة «الإصلاح الديني».

ورغم أن «دانتي» (١٢٦٥–١٣٢١م) كان مجدِّدًا عظيمًا باعتباره شاعرًا، فقد كان باعتباره مفكرًا يتخلف عن عصره بعض التخلف، وكتابه «المَلكية De monarchia» يصطبغ بعض الشيء بالشروح «الغيبلينية»، ولو ظهر قبل ذاك بمائة عام لكان أكثر ملاءمة لروح عصره. وهو يعتبر الإمبراطور والبابا مستقلًّا أحدهما عن الآخر، وكلاهما مُعيَّن من الله. وترى في كتابه «الكوميديا الإلهية» أن للشيطان ثلاثة أفواه، ما فتئت أبدًا تلوك أسماء «يهوذا إسقريوط»، و«بروتس»، و«كاسيوس»، وثلاثتهم خائنون على حد سواء؛ فأولهم قد غدر بالمسيح، والثاني والثالث قد غدرا بقيصر. وإنه لجدير باهتمامنا أن نستطلع فكر «دانتي»، فهو هامٌّ في ذاته أولًا، وباعتباره صادرًا عن رجل من غير رجال الكنيسة ثانيًا، لكنه كان غير ذي أثر، ولم يكن يلائم عصره، إذ جاء متأخرًا على نحو مُوئس.

وعلى نقيض ذلك «مرسيليو البادوي» (١٢٧٠–١٣٤٢م)؛ إذ افتتح الصورة الجديدة التي اتخذتها المعارضة للبابا، وهي صورة لم يكن للإمبراطور فيها دور رئيسي سوى جلال الهيبة. وكان «مرسيليو» صديقًا حميمًا ﻟ «وليم الأوكامي» الذي تأثر به في آرائه السياسية، فهو من الوجهة السياسية أهم من «أوكام». وهو يذهب إلى أن أغلبية الشعب هي مصدر التشريع، وأن لهذه الأغلبية حق معاقبة الأمراء، وهو كذلك يطبِّق سيادة الشعب على «الكنيسة»، ويُدخِل في ذلك من ليسوا من رجال الدين؛ فلهؤلاء أن ينتخبوا ممثلين عنهم في «المجالس العامة»، وليس لغير «المجلس العام» وحده حق الفصل عن الكنيسة، وحق التأويل المعتمد لنصوص الكتاب المقدس؛ وبهذا يكون للمؤمنين جميعًا كلمة في تقرير العقائد. وليس للكنيسة حق في السلطة الدنيوية إطلاقًا، ولا يجوز فصل أحد عن الكنيسة إلا بموافقة السلطات المدنية، ولا ينبغي قط أن يكون للبابا سلطة خاصة به.

ولم يذهب «أوكام» إلى كل هذا الحد الذي ذهب إليه «مرسليو»، غير أنه أعدَّ طريقة ديمقراطية خالصة لانتخاب «المجلس العام».

وبلغت حركة المجالس الكنسية مداها في أوائل القرن الخامس عشر، حين مسَّت الحاجةُ إلى معالجة «الانشقاق الأعظم»، لكنها بعد أن أنجزت هذه المهمة فترَتْ حماستها. وقد كانت وجهة نظرها — كما تستطيع أن تلمس ذلك في «مرسليو» — مختلفة عن وجهة النظر التي اصطنعَتْها جماعة البروتستنت فيما بعد، ولو من الوجهة النظرية؛ فقد طالب البروتستنت بحق الحكم الخاص، ولم يكونوا يرغبون في الخضوع ﻟ «المجلس العام»، وكانوا يعتقدون أن الإيمان الديني ليس أمرًا يقرره جهاز حكومي كائنًا ما كان. أمَّا «مرسليو» فهو — على خلاف ذلك — لم يزل يهدف إلى وحدة العقيدة الكاثوليكية، غير أنه يودُّ لهذه الوحدة أن تتم بوسائل ديمقراطية، لا بوساطة السلطة المطلقة توضع في يدَي البابا. وأمَّا الكثرة الغالبة من البروتستنت، فكل ما فعلوه من الوجهة العملية هو أنهم حين آلت إليهم سلطة الحكم، استبدلوا الملك بالبابا لا أكثر ولا أقل، فلا هُم بذلك قد ضمنوا حرية الحكم الخاص، ولا هم ظفروا بطريقة ديمقراطية في تقرير المشكلات المذهبية، لكنهم في معارضتهم للبابا وجدوا ما يؤيدهم في مبادئ حركة المجالس الكنسية، ولم يجد «لوثر» مَن يُفضِّله من الاسكولائيين جميعًا غير «أوكام»، ولا بدَّ لنا ها هنا من القول بأن شطرًا كبيرًا من البروتستنت قد تمسَّك بمبدأ الحكم الخاص، حتى حيث كانت الدولة تَدين بالبروتستنتية، وتلك كانت نقطة الخلاف الرئيسية بين «المستقلين» و«البرزبيتريان» في الحرب الأهلية الإنجليزية.

كتب «أوكام» مؤلفاته السياسية٣ بأسلوب المجادلات الفلسفية، يعرض موضوعات مختلفة بما لها وما عليها من حجج، دون أن ينتهي في بعض الحالات إلى نتيجة، ولئن كنا اليوم نَألَف ضربًا أصرح من ضروب الدعاية السياسية، إلا أن هذه الصورة التي اختارها ربما كانت ذات أثر في عصره.

وسنعرض بعض الأمثلة لنوضح بها منهجه ووجهة نظره.

له رسالة طويلة تُسمى «ثماني مشكلات خاصة بسلطة البابا»؛ المشكلة الأولى هي: هل يمكن لرجل واحد أن يكون صاحب السيادة العليا بحق في «الكنيسة» و«الدولة» معًا؟ والثانية هي: هل السلطة مستمدة مباشرةً من الله أم لا؟ والثالثة هي: هل للبابا الحق في منح السلطة التشريعية الدنيوية للإمبراطور وسائر الأمراء؟ والرابعة هي: هل انتخاب الناخبين يُخوِّل للملك الألماني سلطة مطلقة؟ والخامسة والسادسة هما: ما هي الحقوق التي تكتسبها «الكنيسة» خلال حق فكر الأساقفة في صبِّ الزيت المقدس على الملوك؟ والسابعة هي: هل يصح الاحتفال بالتتويج إذا لم يقم به رئيس الأساقفة المنوط به هذا الاحتفال؟ والثامنة هي: هل يُخوِّل انتخاب الناخبين للملك الألماني حق التلقُّب بالإمبراطور؟ كل هذه كانت في ذلك العصر مشكلات حامية خاصة بالسياسة العملية.

وله رسالة أخرى في: هل يحقُّ للأمير أن يحصل على ممتلكات «الكنيسة» دون أن يستأذن البابا في ذلك؟ والمقصود بهذه الرسالة هو أن تبرِّر ﻟ «إدورد الثالث» فرض الضريبة على رجال الكنيسة، لتمويل حروبه مع فرنسا، ولنلاحظْ هنا أن «إدورد» كان حليفًا للإمبراطور.

ثم تأتي بعد ذلك رسالة عنوانها «مبادلة الرأي في قضية زوجية»، موضوعها: هل يحق للإمبراطور أن يتزوج ابنة عمه؟

وسنرى أن «أوكام» قد بذل كل جهد مستطاع ليكون جديرًا بحماية الإمبراطور له حمايةً يقوم عليها بسيفه.

ولقد آن الأوان أن ننتقل إلى التعاليم الفلسفية الخالصة التي أخذ بها «أوكام»، ولقد كتب «إرنست إ. مودي Ernest E. Moody» في ذلك كتابًا غاية في الجودة، عنوانه «منطق وليم الأوكامي»، وكثير مما سأذكره مستمد من هذا الكتاب، الذي يصطنع وجهة للنظر فيها بعض الخروج على الرأي المألوف، لكنها في رأيي وجهة صحيحة؛ فلدى المؤلفين في تاريخ الفلسفة اتجاه يميل بهم إلى شرح الفلاسفة في ضوء من يجيء بعدهم، لكنه اتجاه خاطئ في معظم الأحيان؛ فتراهم يعتبرون «أوكام» سببًا في تحطيم الفلسفة الاسكولائية، وممهِّدًا الطريق ﻟ «ديكارت» أو «كانْت» أو من شاءت المصادفة أن يكون موضوع الإعجاب عند الشارح من بين الفلاسفة المُحدَثين. ويرى «مودي Moody» — وأنا أوافقه على رأيه — أن ذلك كله خطأ؛ فقد كان «أوكام» — كما يعتقد مودي — مهتمًّا أولًا باستعادة الصواب الخالص من شوائب الخطأ إلى فلسفة أرسطو، بعد أن يُنقِّيها من مؤثرات أوغسطين والعرب، كذلك كانت هذه هي غاية «القديس توما» إلى حد كبير، غير أن الفرانسسكان — كما قد رأينا — آثروا المُضي في متابعة «القديس أوغسطين» متابعةً أدقَّ بكثير من متابعة «القديس توما» له، ومن رأيِ «مودي» أن شرح المؤرخين المُحدَثين ﻟ «أوكام» قد أفسدَتْه رغبتهم في خلق انتقال متدرِّج من الفلسفة الاسكولائية إلى الفلسفة الحديثة؛ فأدَّى ذلك بهم أن جعلوا الناس يقررون المذاهب الحديثة في فلسفته، مع أنه في حقيقة أمره لم يكن إلا شارحًا لأرسطو.

وأشهر ما يُعرف به «أوكام» مبدأ لا يَرِد في مؤلفاته، لكنه اتخذ اسم «نصل أوكام»، ومؤدَّى هذا المبدأ أن «الكائنات لا ينبغي أن تتكاثر بغير موجب»، فعلى الرغم من أنه لم يقل هذا، فقد قال شيئًا شديد الشبه به من حيث معناه، إذ قال: «إذا أمكنك أن تكتفي بالعدد الأقل، فمن العبث أن تستخدم عددًا أكبر»، ومعنى ذلك أنه إذا أمكن تعليل كل الحقائق في علم من العلوم، دون ضرورة فرْضنا لوجود هذا الكائن أو ذاك، فلا مبرر لعرض وجوده، ولقد وجدتُ هذا المبدأ مفيدًا أكبر الفائدة في التحليل المنطقي الذي قمتُ به.

كان «أوكام» من فريق الاسميين في المنطق، ولو أنه لم يكن كذلك في الميتافيزيقا كما يبدو، ونظر إليه فريق الاسميين في القرن الخامس عشر٤ نظرتَهم إلى مؤسس مدرستهم. وكان من رأيه أن أتباع «سكوتس» قد أساءوا فهْم أرسطو، وأن ذلك قد نشأ أولًا بتأثير «أوغسطين»، وثانيًا بتأثير «ابن سينا». لكنه يرجع كذلك إلى سبب سابق لهذين، وأعني به رسالة «فورفوريوس» في «مقولات» أرسطو، ولقد أثار «فورفوريوس» في هذه الرسالة ثلاث مشكلات: (١) هل الأجناس والأنواع عناصر؟ (٢) هل هي جسدية أم غير جسدية؟ (٣) وإن كانت الثانية فهل هي كائنة في الأشياء المُحَسة أم منفصلة عنها؟ أثار هذه المشكلات باعتبارها متصلة بمقولات أرسطو، وبهذا أدَّى بالعصور الوسطى إلى أن تفسر «الأورغانون» تفسيرًا مسرفًا في الميتافيزيقية. وحاول «الأكويني» أن يصحح هذا الخطأ، لكن «دنس سكوتس» أعاد الغلطة نفسها من جديد؛ والنتيجة هي أن أصبحت نظرية المعرفة والمنطق قائمين على الميتافيزيقا واللاهوت، وها قد جاء «أوكام» ليفصل بينهما مرة أخرى.

من رأي «أوكام» أن المنطق أداة تستعين بها فلسفة الطبيعة التي يمكن أن تكون مستقلة عن الميتافيزيقا؛ فالمنطق هو تحليل العلم الذي ينتقل من المقدمات إلى النتائج. وهذا العلم يدور حول أشياء، أمَّا المنطق فليس كذلك. والأشياء جزئية فردية، أمَّا الحدود المنطقية ففيها أسماء كلية، ومن شأن المنطق أن يعالج هذه الكليات، على حين يستخدمها العلم دون أن يحاول بحثها. ومهمة المنطق هي الحدود أو التصورات، لا باعتبارها حالات فيزيقية، بل لأن لها معاني؛ فقولنا «الإنسان نوع» ليس قضية عند المنطق؛ لأنه يتطلب معرفة بالإنسان، والمنطق يَهيم بأشياء خلَقها العقل خلقًا داخل نفسه، ولا يمكن وجودها إلا بوجود العقل. والتصور الكلي رمز طبيعي، عل حين أن اللفظة رمز اتفاقي، ولا بدَّ أن نميز بين اللفظة إذا أردنا بها أن تكون في ذاتها شيئًا، وبينها إذا أردنا بها أن تكون ذات معنًى، وإلا وقعنا في مغالطات، مثل: «الإنسان نوع، وسقراط إنسان، إذن فسقراط نوع».

والحدود التي تشير إلى أشياء؛ تُسمى «حدود المفهومات الأولى»، وأمَّا الحدود التي تشير إلى حدود فتُسمى «حدود المفهومات الثانية». والحدود في العلم تكون من ذوات المفهومات الأولى، وفي المنطق تكون من ذوات المفهومات الثانية. والحدود الميتافيزيقية فريدة في نوعها من حيث كونها تدل على أشياء مشارٍ إليها بألفاظ من ذوات المفهومات الأولى، وأشياء مشار إليها بألفاظ من ذوات المفهومات الثانية، في آن معًا. وهنالك على وجه الدقة ستة حدود ميتافيزيقية، هي: الوجود، والشيء، وشيء ما، وواحد، وحقيقي، وخيِّر،٥ وهذه الألفاظ كلها فريدة في أنه من المستطاع أن تُحمل كل منها على الأخرى، لكن المنطق يمكن أن يمضي في طريقه بغضِّ النظر عنها.
والإدراك العقلي إنما يكون لأشياء، لا لصور يُنتجها العقل؛ إذ الصور العقلية ليست هي ما يُعقَل، لكنها هي الأداة التي تُعقَل بها الأشياء، وما الكليات في المنطلق إلا حدود أو تصورات عقلية يمكن حملها على حدود أخرى كثيرة، أو صور عقلية أخرى كثيرة. والألفاظ «كليٌّ» و«جنس» و«نوع» حدود من ذوات المفهومات الثانية، ولذا فهي لا يمكن أن تدل على أشياء. ولما كانت لفظتا «واحد» و«وجود» يمكن تحويل الواحدة منهما إلى الأخرى؛ فإنه إذا وُجد كليٌّ كان ذلك الكلي واحدًا وشيئًا فردًا لا يتجزأ. وليس الكلي إلا رمزًا يشير إلى عدة أشياء، وفي هذا يتفق «أوكام» مع «الأكويني» ضد ابن رشد وابن سينا وأتباع أوغسطين؛ إذ كلاهما يذهب إلى أنه لا وجود إلا للأشياء الجزئية الفردة والعقول الجزئية الفردة، والأفعال التي يؤديها العقل (أداء يجعل كلًّا منها فعلًا جزئيًّا قائمًا بذاته). نعم إن «الأكوينى» و«أوكام» يعترفان معًا بوجود الكليات قبل الأشياء، لكنهما ما اعترفا بذلك إلا ليفسرا الخلق، فلا بد أن تكون الكليات في عقل الله قبل أن يستطيع الخلق، غير أن هذا الجانب ينتمي إلى اللاهوت، لا إلى تفسير المعرفة البشرية التي لا يعنيها إلا وجود الكليات بعد إدراك الأشياء. وحين يحاول «أوكام» تعليل المعرفة البشرية، تراه لا يسلِّم أبدًا بأن تكون الكليات أشياء، ويقول إنَّ سقراط شبيه بأفلاطون، لكن وجه الشبه بينهما ليس شيئًا ثالثًا يُسمى شبَهًا، إنما الشبَه حد من حدود المفهومات الثانية، وهو في العقل (وهذا كله لا غبار عليه).

ويذهب «أوكام» إلى أن القضايا الخاصة بالحوادث المستقبلة لا توصف بعدُ بالصدق أو بالكذب، وهو لا يحاول قط أن يوفِّق بين هذا الرأي وبين إحاطة الله بكل شيء علمًا، فهو هنا — شأنه في سائر المواضع — يحرر المنطق من قيود الميتافيزيقا واللاهوت.

ولعلَّه من المفيد أن نسوق بضعة أمثلة لمناقشات «أوكام»، يسأل: «هل الفرد الجزئي هو ما يعرفه العقل أولَ ما يعرف، من حيث ترتيب الخطوات في توالدها واحدة عن الأخرى؟»

ضد الرأي: الكلي هو موضوع العقل الأول والصحيح.

مع الرأي: موضوع الحس وموضوع العقل شيء واحد بعينه، والفرد الجزئي هو الموضوع الأول بالنسبة للحواس.

وعلى ذلك وجب أن يوضَّح معنى السؤال (ربما وجب ذلك لأن الحجتين المتعارضتين كلاهما قوي).

ويمضي في حديثه: «الشيء خارج النفس الذي لا يكون رمزًا، يدركه العقل أولًا بمثل هذا الإدراك (أي بالإدراك للجزئي الفرد)؛ وعلى ذلك فالجزئي يُعرف أولًا، ما دام كل شيء خارج النفس يكون جزئيًّا.»

ويمضي ليقول إن المعرفة المجردة تفترض دائمًا وجود «حدسيَّة» (أعني قائمة على الإدراك الحسي)، وهذه تنشأ عن الأشياء الجزئية.

وبعدئذٍ يَعدُّ أربعة شكوك يمكن أن تنهض ها هنا، ثم يأخذ في حلِّها.

ويختم بجواب إيجابي لسؤاله الأصلي، لكنه يضيف أن «الكلي هو الموضوع الأول على أساس أسبقية الشمول، لا على أساس أسبقية التوالد».

والمشكلة المتضمَّنة في هذا هي: هل الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة؟ وإلى أي حد يكون؟ ومما يجدر ذكره أن أفلاطون في محاورة «تياتيتوس» قد رفض تعريف المعرفة بالإدراك الحسي، ومن المؤكد أن «أوكام» لم يعرف محاورة «تياتيتوس»، ولو قد عرفها لاختلف معها في الرأي.

وهو يجيب بالإيجاب على السؤال القائل: «هل النفس الحاسة والنفس العاقلة متميزتان حقًّا في الإنسان؟» يجيب على ذلك بالإيجاب، ولو أن البرهان على ذلك أمر عسير، ومن حججه على ذلك: قد نرغب في شيء ما مدفوعين إلى ذلك بالشهوة، لكننا بالعقل نأباه؛ وإذن فالشهوة والعقل ينتميان إلى ذاتين مختلفتين؛ وحجة أخرى يسوقها، هي أن الإحساسات موجودة في النفس الحاسة وجودًا ذاتيًّا، لكنها ليست موجودة وجودًا ذاتيًّا في النفس العاقلة. كذلك يقول إن النفس الحاسة ممتدة ومادية، أمَّا النفس العاقلة فلا هي ممتدة ولا مادية. وهو هنا يستعرض أربعة اعتراضات — كلها لاهوتي٦ — ويردُّ عليها. وربما كان الرأي الذي أخذ به «أوكام» في هذا الموضوع غير ما كنا نتوقع منه، على أنَّه يوافق «القديس توما» ويخالف «ابن رشد» في ظنِّه بأن لكل إنسان عقله الخاص به، وليس العقل الفردي شيئًا غير مُشخَّص.

لقد كان ما كتبه «أوكام» مشجعًا على البحث العلمي، لإصراره على إمكان دراسة المنطق والمعرفة البشرية بغير رجوع إلى الميتافيزيقيا واللاهوت، وهو في ذلك يقول إنَّ أتباع أوغسطين قد أخطئوا في افتراضهم بأن الأشياء لا يمكن معقوليتها، والناس لا يمكن أن يُعقلوا في أول الأمر، ثم في إضافتهم ضوءًا من «اللانهاية» لتصبح المعرفة ممكنة، وهو في ذلك متفق مع «الأكويني»، وإن يكن قد اختلف عنه في درجة الأهمية التي يُلحِقها بجوانب الموضوع؛ وذلك لأن «الأكويني» كان قبل كل شيء من رجال اللاهوت، وأمَّا «أوكام» فقد كان فيما يتعلق بالمنطق فيلسوفًا علمانيًّا قبل أن يكون شيئًا آخر.

وكان من شأن الموقف الذي اتخذه لنفسه؛ أن ازداد الباحثون في المشكلات الجزئية ثقةً بأنفسهم، مثال ذلك تابِعُه المباشر «نقولا الأورزمي» (مات ١٣٨٢م)، الذي كان يبحث في نظرية الكواكب، ويُعتبر هذا الرجل إلى حد ما ممهدًا الطريق ﻟ «كوبرنيق». وقد بسط النظرية التي تجعل الأرض مركزًا للمجموعة الشمسية، والنظرية الأخرى التي تجعل الشمس مركزًا لتلك المجموعة، قائلًا إن كلًّا من هاتين النظريتين تفسر جميع الحقائق المعروفة في عصره، بحيث لم يكن هنالك وسيلة لتفضيل إحداهما على الأخرى.

لم يظهر بعد «وليم الأوكامي» أحد من الاسكولائيين الأعلام، ولم يَعُد الفلاسفة العظماء إلى الظهور من جديد، إلا في الشطر الثاني من عهد النهضة الأوروبية.

١  تلميذ الكِندي، مات سنة ٩٥٠م.
٢  فلكي (٨٠٥–٨٨٥م).
٣  انظر كتاب Guillelmi de Ockham Opera Politica، مطبعة جامعة مانشستر، ١٩٤٠م.
٤  مثل Ailly, Gerson, Heytesbury, Swineshead.
٥  لن أقف هنا لأنقد الطريقة التي استخدم بها «أوكام» هذه الألفاظ.
٦  مثال ذلك: في الفترة الواقعة بين «الجمعة الطيبة» و«يوم الفصح» هبطت روح المسيح إلى جهنم، بينما ظل جسده في قبر «يوسف الأرمازي»، فلو كانت النفس الحاسة متميزة من النفس العاقلة؛ فهل قضت النفس الحاسة للمسيح هذه الفترة في جهنم أم في القبر؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤