الفصل الثالث

ثلاثة من أساتذة الكنيسة

أربعة رجال يُطلق عليهم «أساتذة الكنيسة الغربية»، هم: القديس أمبروز، والقديس جيروم، والقديس أوغسطين، والبابا جريجوري الأعظم، والثلاثة الأولون من هؤلاء ينتمون إلى عصر واحد، أما الرابع فقد عاش في عصر متأخر، وسأعرض في هذا الفصل صورة لحيوات الثلاثة الأولين وعصرهم، على أن أعود في فصل تالٍ فأبسُط آراء القديس أوغسطين، الذي هو من وجهة نظرنا أهم الثلاثة جميعًا.

ازدهرت حياة «أمبروز» و«جيروم» و«أوغسطين» في الفترة القصيرة التي وقعت بين انتصار الكنيسة الكاثوليكية في الإمبراطورية الرومانية، وبين غزوات البرابرة، وكانوا كلهم في عهد الشباب حين كان «جوليان المارق» ممسكًا بزمام الحكم. وعاش «جيروم» عشرة أعوام بعد نهب روما على أيدي القوط بزعامة «ألارك». وعاش أوغسطين إلى أن قام الوندال بغارتهم في أفريقيا، ومات لما كان الوندال يحاصرون «هبو» التي كان هو أسقفًا عليها. ولم يكد ينقضي زمن «أمبروز» و«جيروم» و«أوغسطين» حتى أصبح البرابرة سادة على إيطاليا وإسبانيا وأفريقيا، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أصبح هؤلاء السادة من الزنادقة المعتنقين لمذهب أريوس. وتدهورت المدنيَّة مدى قرون، بحيث لم تستطع البلاد المسيحية أن تعود من جديد فتنجب رجالًا يجارون أمبروز وجيروم وأوغسطين في العلم والثقافة، إلا بعد ألف عام تقريبًا. ولبث أمبروز وجيروم وأوغسطين خلال العصور المظلمة والعهد الوسيط مرجعًا يوثق به، فهم الذين حددوا الأوضاع التي صُبت الكنيسة في قالبها، أكثر مما صنع أي رجل آخر في هذا السبيل؛ فنقول على وجه التقريب إنَّ «القديس أمبروز» هو الذي حدد لرجال الدين فكرتهم عن العلاقة بين الكنيسة والدولة. وقدَّم «القديس جيروم» للكنيسة الغربية إنجيلها اللاتيني، وكان لها حافزًا كبيرًا نحو الرهبنة في الأديرة. وأمَّا «القديس أوغسطين» فهو الذي صاغ للكنيسة لاهوتها الذي ظل حتى «الإصلاح الديني»، وكذلك صاغ شطرًا كبيرًا من الآراء التي اعتنقها فيما بعد لوثر وكلفن. ولن تجد إلا رجالًا قلائل بزُّوا هؤلاء الأساتذة الثلاثة في مدى تأثيرهم في مجرى التاريخ؛ فالمبدأ الذي أخذ به «القديس أمبروز» — موفَّقًا — من حيث استقلال الكنيسة بالنسبة إلى الدولة العلمانية؛ كان مبدأ جديدًا انقلابيًّا، ساد حتى حركة «الإصلاح الديني». ولما جاء «هبز» في القرن السابع عشر، وجعل يسدد إليه سهام نقده، فإنَّما كان يوجه حُججه إلى «القديس أمبروز» قبل أي إنسان آخر. وكذلك كان «القديس أوغسطين» في المقدمة في المناقشات اللاهوتية التي احتدمت إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ فالبروتستنت والجانسينيون يدافعون عنه، والكاثوليك الأرثوذكس يهاجمونه.

كانت ميلان — التي كان «أمبروز» أسقفًا عليها — هي عاصمة الإمبراطورية الغربية في أواخر القرن الرابع، فكانت واجبات «أمبروز» تقتضيه الاتصالَ الدائم بالأباطرة، الذين كان يتحدث إليهم عادةً كما يتحدث النِّد مع أنداده، بل كان يتحدث إليهم أحيانًا حديث الأعلى مع من هو أدنى منه. وعلاقاته بالبلاط الإمبراطوري تصور لنا تباينًا بين طرفين يتَّسم به ذلك العهد؛ فبينما كانت الدولة ضعيفة عاجزة، يحكمها أنانيون لا مبدأ لهم، ولا تسير قط على سياسة، اللهم إلا ما تمليه الضرورات العاجلة الناشئة مع الظروف الطارئة؛ كانت الكنيسة قوية قادرة، يقودها رجال على استعداد لتضحية كل مصلحة شخصية في سبيل صالحها، وتحدوها سياسة بعيدة المدى، بلغت من بُعد المدى حدًّا قرر لها النصر مدى ألف عام تَلَت. نعم إنَّ التعصب الديني والاعتقاد في الخرافة قد حدَّ من قيمة هذه المزايا، لكن التعصب والخرافة كانا — في ذلك العصر — شرطين لا مندوحة عنهما لأية حركة إصلاحية تريد النجاح.

كانت كل الفرص سانحة أمام «القديس أمبروز» لكي يحرز نجاحًا في خدمة الدولة؛ فقد كان أبوه — واسمه أمبروز كذلك — يشغل منصبًا ساميًّا؛ منصب عميد الغال، والأرجح أن يكون القديس قد وُلد في «تريفيس»، وهي مدينة ذات حامية عند الحدود، حيث كانت تُعسكِر الفِرق الرومانية لتَذود الجرمانَ عن البلاد. ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره نقلوه إلى روما حيث رُبي تربية جيدة، تشتمل على أساس متين في اللغة اليونانية. ولما شبَّ أخذ في دراسة القانون، فأصاب فيه نجاحًا عظيمًا. وفي عامه الثلاثين عُين حاكمًا على «لجْيوريا» و«إيمليا»، ومع ذلك فلم تمضِ عليه أربعة أعوام حتى استدبر مناصب الحكومة العلمانية، وأصبح أسقفًا على ميلان برغبة أجمع عليها الشعب، ففاز بهذا المنصب على منافس له من أتباع مذهب أريوس، وعندئذٍ تصدَّق بكل متاعه الدنيوي على الفقراء، وخصص كل ما تبقى له من حياته في خدمة الكنيسة، حتى لقد كان يتعرض أحيانًا في سبيل ذلك إلى خطر شخصي جسيم. وليس من شكٍّ في أن اختياره لهذا الطريق في حياته لم يكن الحافز إليه دوافع دنيوية، ومع ذلك، فلو كانت الدوافع الدنيوية هي التي حفزته إلى اختيار هذا الطريق لكان ذلك منه تصرفًا حكيمًا؛ فقد كان يستحيل عليه إذ ذاك أن يجد في «الدولة» — حتى لو ظفر فيها بمنصب الإمبراطور — مجالًا فسيحًا يبدي فيه مواهبه السياسية الإدارية، كالمجال الذي وجده في تصريفه لواجباته الكنسية.

وكان الإمبراطور في الغرب إبان التسعة الأعوام الأولى من أسقفية أمبروز؛ هو «جراتيان» الذي كان كاثوليكيًّا فاضلًا، لكنه كان قليل العناية بكل شيء؛ إذ اتجه بعنايته كلها إلى الصيد فأهمل شئون الحكم، واغتيل آخرَ الأمر، وخَلَفه في معظم أجزاء الإمبراطورية الغربية مغتصبٌ للعرش، اسمه «ماكسيموس»، أما في إيطاليا فقد خَلَفه أخوه الصغير «فالنتينيان الثاني» الذي كان لم يزل صبيًّا، فتولَّت أمه «يوستينا» السلطة الإمبراطورية أول الأمر، وهي أرملة الإمبراطور «فالنتينيان الأول»، ولما كانت تعتنق مذهب أريوس فقد كان لا مناص من قيام النزاع بينها وبين القديس أمبروز.

ولقد كتب القديسون الثلاثة الذين نتناولهم بالبحث في هذا الفصل عددًا لا يُحصَى من الرسائل، بقي لنا منها شيء كثير، ولذا فنحن نعلم عنهم أكثر مما نعلمه عن أي من الفلاسفة الوثنيين، وأكثر مما نعلمه عن سائر رجال الكنيسة في العصور الوسطى — ما عدا نفرًا قليلًا — فقد كتب القديس أوغسطين رسائل لعدد كبير جدًّا من الناس، كان معظمها يدور حول المذهب الديني أو حول تنظيم الكنيسة. وأما رسائل القديس جيروم فمعظمها موجَّه إلى سيدات، يتقدم إليهن بالنصح في كيف يحتفظن بالبكارة. وأما القديس أمبروز، فأهم رسائله وأمتعها موجَّه إلى أباطرة، ينبئهم فيها كيف قصروا عن أداء واجباتهم في هذا أو ذاك من الأمور، وأحيانًا كان يرسل لهم الرسائل مهنئًا إياهم على أدائهم لتلك الواجبات.

وكان أول موضوع عام تناوله أمبروز هو مسألة المذبح وتمثال النصر في روما، فقد كانت الوثنية أطول بقاء بين أسرات أعضاء الشيوخ في العاصمة، منها في أي مكان آخر، وكانت الديانة الرسمية في أيدي كهنة أرستقراطيين، فارتبطت بالعزة الإمبراطورية التي كان يشعر بها غزاة العالم، وكان تمثال النصر في مجلس الشيوخ قد أزاله قنسطنطيوس بن قنسطنطين، ثم استرده جوليان المارق على الدين، وعاد الإمبراطور جراتيان من جديد فأزال التمثال، وعندئذٍ تألَّف وفد من أعضاء مجلس الشيوخ، برئاسة «سيماخوس» عمدة المدينة، ليطالب بإعادة التمثال إلى مكانه مرة أخرى.

كان «سيماخوس» — الذي لعب كذلك دورًا في حياة أوغسطين — عضوًا ممتازًا في أسرة ممتازة؛ كان غنيًّا أرستقراطيًّا مثقفًا ووثنيًّا، نفاه «جراتيان» من روما سنة ٣٨٢م لاحتجاجه على إزالة تمثال النصر، لكن نفيه لم يطُلْ؛ إذ كان عمدة على المدينة سنة ٣٨٤م، وهو جد «سيماخوس» الذي كان والدًا لزوجة «بيثيوس»، والذي كان عَلمًا بارزًا إبان حكومة «ثيودورك».

احتج أعضاء الشيوخ المسيحيون، واستطاعوا بمعونة «أمبروز» والبابا «داماسوس» أن يأخذ الإمبراطور برأيهم، فلما مات «جراتيان» الإمبراطور تقدم «سيماخوس» وأعضاء الشيوخ الوثنيون بطلب إلى الإمبراطور الجديد «فالنتينيان الثاني» سنة ٣٨٤ ميلادية، فكتب «أمبروز» إلى الإمبراطور رسالة يحاول بها أن يقاوم الوثنيين في رغبتهم، قائلًا له إنه كما يجب على الرومان جميعًا أن يقدموا خدماتهم العسكرية إلى مليكهم، فكذلك يجب عليه هو (الإمبراطور) أن يقدم خدماته لله القدير،١ ويقول: «لا تسمحنَّ لأحد أن يستغل صغر سنك، فإذا كان من يطالبك بذلك كافرًا فليس من الصواب أن يغُل عقلك بأغلال خرافية، بل عليه أن يعلمك ويهديك بحماسته كيف ينبغي لك أن تكون أنت كذلك غيورًا على الديانة الحقة، لأنه يدافع عن الضلالات بكل ما يصاحب الحق من قوة العاطفة.» ويقول إن اضطرار الإمبراطور أن يحلف اليمين عند مذبح وثن من الأوثان؛ ضربٌ من ضروب الاضطهاد في رأي المعتنق للمسيحية، «فلو كان الأمر متعلقًا بقضية مدنيَّة لاحتفظ الطرف الثاني من طرفَي القضية بحقه في الرد، لكنها قضية دينية، وها أنا ذا — أنا الأسقف — أطالب بحقي … فلو صدرت الأوامر بغير ذلك فلا ريب في أننا — نحن الأساقفة — يستحيل علينا أن نحتمل ذلك احتمالًا دائمًا ثم نُغضي عنه، نعم قد يجوز لك أن تأتي إلى الكنيسة بعدئذٍ، لكنك لن تجد هناك قسيسًا، كلا ولا أحد هناك يقاومك.»٢

وتشير الرسالة التالية إلى أن مخصَّصات الكنيسة تحقق أغراضًا لم تحققها قط أموال المعابد الوثنية؛ «فأملاك الكنيسة هي أملاك الفقراء، فليعدُّوا كم أسيرًا دفعتْ معابدهم الفدية عنه، وأيَّ طعام تقدموا به صدقةً للفقراء، وإلى مَن ممَّن أصابهم النفيُ قد أعدُّوا وسائل العيش.» تلك كانت حُجة منه مُثقَلة بالنبأ، وهي حجة يؤيدها كل التأييد ما كان المسيحيون يؤدونه فعلًا من حسن الصنيع.

وكسب «القديس أمبروز» الموقف بدفاعه، لكن إمبراطورًا آخر جاء بعد ذلك — هو «يوجينيوس» — فوقف في جانب الوثنية، وأعاد المذبح والتمثال، ولم ينتهِ الأمر نهاية حاسمة في صالح المسيحيين إلا بعد هزيمة «يوجينيوس» أمام «ثيودوسيوس» سنة ٣٨٤م.

كان الأسقف بادئ ذي بدء على صفاء تام مع البلاط الإمبراطوري، فأرسل موفَدًا سياسيًّا إلى غاصب العرش «ماكسيموس» الذي خُشي من إمكان تفكيره في غزو إيطاليا، لكن لم يمضِ على ذلك الصفاء زمن طويل حتى نشب خلاف شديد في أمر مشكلة اختلف فيها الرأي؛ فقد طلبت «الإمبراطورة يوستينا» — باعتبارها من أتباع مذهب أريوس — أن تُخصَّص كنيسة في ميلان إلى أتباع ذلك المذهب، فرفض «أمبروز» هذا الطلب، ووقف الشعب إلى جانبه، واحتشدوا في جموع ضخمة في ساحة القضاء، فأُرسلَ جنود قوطيون من أشياع الآرية ليأخذوا بناصية الموقف، لكنهم هنالك تآخَوا مع الشعب، ويقول الأسقف في رسالة حامية بعث بها إلى أخته٣ ما يلي: «جاءني الأمراء ورجال القضاء واستحثوني على أن آمر بتسليم ساحة القضاء لأولى الأمر تسليمًا سريعًا، قائلين إن الإمبراطور في ذلك إنما يباشر حقوقه، ما دام كل شيء خاضعًا لسلطته، فأجبتهم بأنه لو كان يطلب مني شيئًا أملكه — مثال ذلك أن يطلب أرضي أو مالي أو أي شيء من هذا القبيل مما أملك — لما رفضت، على الرغم من أني قد وهبت ذلك كله إلى الفقراء، لكن الأشياء التي يملكها الله ليست خاضعة لسلطة الإمبراطور؛ «لو كنتَ تطلب أرضًا ورثتُها فهاك ما تطلبه، وإذا طلبتَ جسدي فلن أمتنع عن السير فورًا معك، هل تريد أن تصفِّدني بالأغلال أو أن تقذف بي في فم الموت؟ إن ذلك متعة لي، عندئذٍ لن تراني أدافع عن نفسي بجموع من الناس، كلا ولن أتشبث بمذابح القرابين ضارعًا لك أن تُبقي على حياتي، بل إني لأزداد سرورًا بأن أُقدَّم أنا نفسي ضحية في سبيل تلك المذابح، الحق أني صُعقت فزعًا حين علمت أن رجالًا مسلَّحين قد أُرسلوا للاستيلاء على ساحة القضاء (من أيدي الشعب) خشية مني أن تقع مذبحة إذا ما أصر الشعب على الدفاع عن تلك الساحة التي ازدحموا بها، وعندئذٍ تُضارُّ المدينة كلها بالسوء، ودعوت الله ألا يبقيني حيًّا بعد خراب مدينة عظيمة كهذه، بل قد يعم الخراب فيشمل إيطاليا بأسرها.»

ولم يكن الأسقف مغاليًا في مخاوفه هذه؛ لأنه لم يكن بعيدًا على الجند القوطيين أن يغوصوا في وحشية غاشمة كما فعلوا بعد ذلك بخمسة وعشرين عامًا، في حادثة انتهاب روما.

وكانت قوة «أمبروز» قائمة على أساس من تأييد الشعب، وقد اتُّهم بإثارتهم فأجاب: «كان في مستطاعي ألا أثيرهم، لكن الله وحده هو القادر على تهدئتهم»، ويقول إن أحدًا من أتباع مذهب أريوس لم يجرؤ على التقدم؛ لأن جموع الناس لم يكن بينهم رجل واحد من أتباع الآرية، ولقد صدرت له الأوامر رسميًّا أن يسلِّم ساحة القضاء، وأمر الجنود باستعمال القوة لو دعت الضرورة إليها، لكنهم في النهاية أبَوا أن يستعملوا القوة كما أُمروا، واضطُر الإمبراطور إلى التسليم، وبهذا اكتُسِبت معركة عظيمة في كفاح كان مرماه أن تستقل الكنيسة، وقال «أمبروز» مؤكدًا بأن «الدولة» لا بدَّ لها في بعض الأمور من الخضوع ﻟ «الكنيسة»، وبهذا دعم مبدأ جديدًا لا يزال له خطره حتى يومنا هذا.

وبعدئذٍ وقع الخلاف بينه وبين «الإمبراطور ثيودوسيوس»؛ فقد أُحرق معبد لليهود، وقرر «أمير الجانب الشرقي» بأن المعبد إنما أُحرق بتحريض من الأسقف القائم على الحي الذي يقوم فيه المعبد، فأمر الإمبراطور أن يُنزَل العقاب بمن ارتكبوا الفعل، وأن يُكلَّف الأسقف الآثم بإعادة بناء المعبد اليهودي، ها هنا وقف «القديس أمبروز»، فلا هو سلَّم باشتراك الأسقف في تدبير الإحراق ولا هو أنكره، لكنه كره من الإمبراطور أن يبدو مؤيدًا لليهود على المسيحيين، فماذا يحدث لو رفض الأسقف أن يطيع ما أمر به؟ إنه سيصبح شهيدًا لو استمسك برفضه، أو مارقًا على الدين لو استسلم، ثم ماذا يكون لو قرر «الأمير» أن يعيد بناء المعبد اليهودي بنفسه على حساب المسيحيين؟ في مثل هذه الحالة سيكون للإمبراطور «أمير» خارج على الدين، وستُنفَق أموال المسيحيين في تأييد الكفر؛ «فهل نفسح مكانًا لكفر اليهود — إذن — على حساب «الكنيسة»؟ وهل ننقل الميراث الذي ورثه المسيحيون بفضل المسيح، لنملأ به خزائن الكفار؟» ثم يمضي فيقول:

«لكن ربما كان حافزك إلى ذلك هو استتباب النظام أيها الإمبراطور، إذن فقل لي أيهما في رأيك أعظم شأنًا؛ مظهر من نظام أم قضية الدين؟! إنه لا مندوحة عن مسايرة الأحكام للدين، ألم يَبلُغك أيها الإمبراطور أنه لما أمر «جوليان» بإعادة بناء «معبد أورشليم» أُحرق في النار أولئك الذين كانوا يزيلون الأنقاض؟!»

فليس من شك في أن رأي «القديس أمبروز» هو ألا يُعاقَب على تدمير معابد اليهود بأية حال من الأحوال، وذلك مَثل يبيِّن كيف أخذت «الكنيسة» تحرض على كراهية الساميين بمجرد استيلائها على قوة السلطان.

وتلا ذلك نزاعٌ بين «إمبراطور» و«قديس»، فكان الموقف مشرفًا للثاني منهما؛ ذلك أنه حدث في سنة ٣٩٠ ميلادية، حين كان «ثيودوسيوس» في ميلان، أنه قتل الغوغاءُ في «تسالونيكا» قائدَ الحامية، فلما نمَى الخبر إلى «ثيودوسيوس» طار صوابه من الغضب، وأمر بانتقام فظيع؛ فجُمع الشعب في ميدان من المدينة، وانقضَّ الجند على الناس، فذبحوا منهم سبعة آلاف، على الأقل، في مذبحة لم يكن يُميَّز فيها بين إنسان وإنسان، وعندئذٍ أرسل «أمبروز» — الذي كان قد حاول أن يصرف الإمبراطور عن عزمه ولم يفلح — أرسل «أمبروز» رسالة إلى الإمبراطور تَفيض بالشجاعة العظيمة، أقامها على نقطة أخلاقية خالصة، وللمرة الأولى والأخيرة، جاءت رسائله خِلوًا من مسألة اللاهوت وقوة «الكنيسة»، قال فيها:

«حدث ما حدث في مدينة التسالونيين، مما لا نجد له مثيلًا فيما بين أيدينا من مدوَّنات التاريخ، وهو ما لم أستطع منع حدوثه، نعم حدث ما قلتُ عنه مرارًا قبل وقوعه — حينما رجوتُ ألا يقع — إنه سيكون أفظع الفظائع.»

إن داود قد اقترف الإثم مرة بعد مرة، ثم اعترف بخطيئته تائبًا،٤ فهلَّا صنع «ثيودوسيوس» مثل ما صنع داود! ويقرر «أمبروز» قرارًا بقوله: «لا أستطيع أن أقدم القربان إذا اعتزمتَ الحضور، أم هل يكون الفعل الذي يحرم بعد إراقة دم شخص واحد بريء؛ حلالًا بعد إراقة دماء ناس كثيرين؟! إني لا أظن ذلك.»

وكان أن تقدم الإمبراطور بتوبته، وقدم الكفارة علنًا في كاتدرائية ميلان بعد أن جُرِّد من رمز سلطانه، ولم يحدث أن نازع «أمبروز» في شيء منذ ذلك اليوم حتى وافته منيَّته سنة ٣٩٥م.

وبينما كان «أمبروز» ممتازًا كرجل سياسي، كنت تراه في نواحٍ أخرى لا يزيد على رجل يمثِّل العصر الذي يعيش فيه، فكتب — كما كتب غيره من المؤلفين من رجال الكنيسة — رسالة في الثناء على الاحتفاظ بالبكارة، ورسالة أخرى يحط فيها من شأن زواج الأرامل. ولما وقع اختياره على موضع معين تُقام فيه كاتدرائيته الجديدة كُشف من ذلك الموضع عن هيكلين عظيمين (قيل إنه علم بوجودهما في أحد أحلامه) فجاء كشفًا نافعًا، ووُجد أنهما يأتيان بالمعجزات، وأعلن أنهما هيكلان لشهيدين، وهو يذكر غير ذلك من المعجزات في رسائله، بكل ما كان يتَّسم به عصره من سذاجة في سرعة التصديق. وقد كان «أمبروز» أقل من «جيروم» في قدرته العلمية، وأدنى من «أوغسطين» في الفلسفة، أمَّا في السياسة فقد كان السياسيَّ الذي عرف بمهارته وشجاعته أن يوحد سلطة «الكنيسة»، ولذا فهو يُعَد سياسيًّا من الطراز الأول.

وأما «جيروم» فأشهر ما يُعرف به أنه المترجم الذي أخرج النسخة الشعبية للإنجيل، التي لا تزال حتى يومنا هذا هي الصورة الكاثوليكية الرسمية للكتاب المقدس؛ فإلى عهده كانت «الكنيسة الغربية» تعتمد في «العهد القديم» — أكثر ما تعتمد — على ترجمات مأخوذة من «الترجمة السبعينية للتوراة»، وهي ترجمات كانت تختلف عن الأصل العبري في نقط هامة؛ فقد رأينا كيف اعتقد المسيحيون بأن اليهود قد أخذوا — منذ نشأة المسيحية — يشوهون في النص العبري للتوراة، في المواضع التي بدت لهم كأنما تنبئ بقدوم «المسيح»، وهو رأي دل البحث العلمي الرصين على أنه باطل، وقد رفض «جيروم» الأخذ بهذا الرأي رفضًا قاطعًا، وقبِل معاونة الأحبار اليهود التي قدموها له سرًّا؛ خوفًا من طوائف اليهود، وقال دفاعًا عن نفسه ضد نقد المسيحيين له: «ليسأل اليهودَ كلُّ من تحدثه نفسه أن ينقد شيئًا في هذه الترجمة.» ولقد قوبلت ترجمته أول الأمر لقاء كريهًا بسبب قبوله للنص العبري على الصورة التي عدَّها اليهود صورة صحيحة، لكن ترجمته لم تلبث أن شقَّت طريقها، وقد يرجع ذلك إلى حد ما إلى تأييد القديس أوغسطين لها في جملتها، وكان هذا العمل من «جيروم» عملًا عظيمًا، وهو ينطوي على كثير من نقد النصوص.

وُلد «جيروم» سنة ٣٤٥م — بعد «أمبروز» بخمس سنين — في مدينة تُسمى «ستريدون»، التي لا تبعد كثيرًا عن «أكويليا»، وقد أُصيبت «ستريدون» بالدمار على أيدي القوط سنة ٣٧٧م. وكانت أسرته ميسورة العيش لكنها لم تكن بالغنيَّة. وفي سنة ٣٦٣م قصد إلى روما، حيث درس البلاغة واقترف الخطيئة، وبعد أن ارتحل في أرجاء الغال ألقى عصاه في «أكويليا» وأصبح من الزاهدين، وأنفق السنوات الخمس اللاحقة لذلك راهبًا في صحراء سوريا، فكانت حياته إبان مُقامه في الصحراء حياة توبة صارمة يكفِّر بها عما اقترف، كانت حياة دموع وآلام يعقبها فترات من النشوة الروحية، ثم كانت حياة تعاودها الذكريات المغرية بالغواية عن الحياة الرومانية، وقد أقام في كهف، يجمع قوته بنفسه، ويرتدي ثوبًا من الحَلْفاء.»٥ وبعد هذه الفترة من حياته سافر إلى القسطنطينية، وأقام في روما ثلاثة أعوام، حيث أصبح صديقًا للبابا «داماسوس» ومرشدًا له، وكان ما لقيه من تشجيع «البابا داماسوس» هو الذي دفعه إلى ترجمة الإنجيل.

كان «القديس جيروم» رجلًا كثير الاشتباك في المعارك، فاشتبك مع «القديس أوغسطين» حول سلوك «القديس بطرس»، وهو سلوك تشوبه بعض الشائبات من الريبة، إذا اعتمدنا في وصفه على رواية «القديس بولس» في «الغلاطيين، الجزء الثاني». وخاصم صديقه «رفينوس» بسبب اختلافهما في «أوريجن». وكان عنيفًا في مقاومته ﻟ «بلاجيوس» إلى الحد الذي حفز نفرًا من الغوغاء التابعين ﻟ «بلاجيوس» إلى مهاجمة ديره. والظاهر أنه بعد موت «داماسوس» اشتبك في خلاف مع البابا الجديد. وأثناء إقامته في روما كان قد اتصل بسيدات كثيرات ممن جمعن بين الأرستقراطية والتقوى، وقد حمل بعضَهن على اصطناع حياة الزهد، فكَرِه البابا الجديد هذا المسلك من «جيروم»، وشارك البابا في كرهه كثيرون من أهل روما؛ فمن أجل هذا، وغيره من الأسباب، غادر «جيروم» روما قاصدًا إلى بيت لحم، حيث أقام من ٣٨٦م حتى وافاه الأجل سنة ٤٢٠م.

وبين من استطاع تحويلهن من النساء الممتازات؛ سيدتان جديرتان بالانتباه بصفة خاصة، وهما الأرملة «بولا» وابنتها «يوستوخيوم»، فكلتاهما قد صحبتاه في رحلته المتعرجة الطويلة إلى بيت لحم، وقد كانتا من أعلى طبقة في طائفة الأشراف، ولا يسعك إلا أن تحس شيئًا من روح التعالي في موقف «القديس جيروم» منها، ولما ماتت «بولا» ودُفنت في بيت لحم أنشأ «جيروم» المقطوعة الآتية لتُكتب على قبرها:
ابنة سيبيو ترقد في هذا الجدث،
وهي سليلة أسرة بولس التي طبَّقت شهرتُها الخافقَين.
هي غصن من أَرومة «جراتش»، وهي في نسل أجاممنون درةٌ لامعة.
ها هنا ترقد السيدة بولا، التي أحبَّها
والداها حبًّا شديدًا، وابنتها هي
«يوستوخيوم»، وهي أولى سيدات الرومان
اللائي اخترن المشقة، وقصدن إلى بيت لحم في سبيل المسيح.٦
وبعض رسائل «جيروم» إلى «يوستوخيوم» تستوقف النظر بغرابتها؛ فهو ينصحها بالاحتفاظ ببكارتها، ويجعل نصحه لها في هذا الصدد مفصَّلًا صريحًا، غاية في التفصيل والصراحة، فهو يشرح المعنى التشريحي الدقيق لبعض العبارات التي وردت في «العهد القديم» في هذا الموضوع، واكتفت بالتلميح دون التصريح. وتراه في مدحه للذائذ الحياة في الأديرة يستخدم ضربًا من التصوف الغزلي؛ فالراهبة عروس المسيح؛ وقد أشيدَ بهذا الزواج في «نشيد سليمان». وهو يبعث لأمها برسالة هامة، كتبها حين أخذت الابنة العهد على نفسها: «أأنت غاضبة منها لأنها اختارت أن تكون زوجة الملك (يقصد المسيح) بدل أن تكون زوجة لأحد الجنود؟! لقد خلعتْ عليكِ ميزة كبرى، لأنك الآن قد أصبحتِ حَماة للإله.»٧
ويقول ﻟ «يوستوخيوم» نفسها في الخطاب نفسه (رقم ٢٢) ما يأتي:

احرصي أبد الدهر على أن تكون لغرفتك حرمة تحرسك، احرصي أبد الدهر على أن يلاعبك «العريس» داخل غرفتك، هل تؤدين الصلاة؟ إنك في الصلاة تتحدثين إلى «العريس»، هل تقرئين؟ إنه في القراءة يتحدث إليك؛ إنه إذا ما أخذك النعاس أتاك من خلف ووضع يده خلال ثقب الباب، وعندئذٍ سيهتز له قلبك، فستستيقظين وستنهضين لتقولي: «إنني نشوانة من الحب»، وعندئذٍ سيجيبك قائلًا: «إن بستانًا مستورًا هو بمثابة أختي وعروسي، إنها ينبوع مصون (في هذه الغرفة) ونافورة مختومة.»

وهو يشرح في الخطاب نفسه كيف أنه بعد أن قطع صِلاته بأقربائه وأصدقائه «وبما هو أصعب على النفس من هؤلاء وأولئك، وأعني انقطاعي عن الطعام الشهي الذي كنت قد تعودته»، فإنه لم يحتمل رغم ذلك كله أن يتنازل عن حريته، فنقلها معه إلى الصحراء؛ «وهكذا رغم ما كنت فيه من شقاء كنت أصوم بغية شيء واحد، وهو أن أتمكن بعدئذٍ من قراءة «شيشرون».» وبعد أن قضي أيامًا وليالي في تأنيب نفسه، كان يعود فيسقط مرة أخرى ويقرأ «بلوتوس»، وبعد هذه القراءة كلها بدا له أسلوب الأنبياء «قبيحًا منفِّرًا». وأخيرًا رأى في الحلم وهو محموم أن المسيح سأله يوم الحساب من ذا عساه أن يكون، فأجابه بأنه مسيحي، وعندئذٍ جاءه الجواب على جوابه يقول: «إنك كاذب، فأنت من أتباع شيشرون لا المسيح»، وأُمر به بعدئذٍ أن يُضرب بالسياط، وأخيرًا صاح «جيروم» من حلمه قائلًا: «مولاي، إذا أبقيتُ عندي بعد اليوم كتبًا دنيوية، أو إذا قرأتُ بعد اليوم مثل هذه الكتب؛ فقد أنكرتُك.» ثم يضيف إلى ذلك قوله: «إن هذا لم يكن نعاسًا ولا كان حلما فارغًا.»٨

وظل بعد ذلك بضعة أعوام يُدخِل في رسائله قليلًا من المقتطَفات المستمَدة من الأدب القديم، غير أنه ما قضى على هذه الحال فترة معينة حتى انتكس مرة أخرى إلى أشعار يقتبسها من «فيرجيل» و«هوراس»، بل ومن «أوفد» كذلك، لكن يظهر أنه كان يورد هذه الأشعار من ذاكرته، ويؤكد ذلك أنه كان يذكر بعضها مرة بعد مرة.

ولست أعرف كتابة تعبِّر بأجلَى مما تعبر به رسائل «جيروم» عن المشاعر التي أثارها في النفوس سقوطُ الإمبراطورية الرومانية، فهو يكتب سنة ٣٩٦م فيقول:٩

«إني لأرتعش فزعًا إذا ما تصورت كوارث زماننا؛ فقد لبث الدم الروماني، مدى عشرين عامًا أو يزيد، يُراق كل يوم بين القسطنطينية والألب اليوليوية. إن «سيثيا» و«تراقيا» و«مقدونيا» و«واقيا» و«تساليا» و«آخيا» و«إبروس» و«دالماشيا» و«البانونيا»؛ هذه كلها قد نزل بها السلب والنهب والتدمير على أيدي القوط والسارماتيين والقاضيين والعلانيين والهون والوندال وأهل المستنقعات … إن العالم الروماني يتهاوى للسقوط، ومع ذلك ترانا نشمخ برءوسنا عاليةً ومن حقنا أن نَحنيها ذلةً. ماذا بقي من الشجاعة — في ظنك — للكورنثيين، أو للآثينيين، أو لأهل لاسيديمونيا، أو لأهل أركاديا، أو من شئت من اليونان الذين يفرض البرابرةُ عليهم اليوم سلطانهم؟ وإني لم أذكر ها هنا إلا عددًا قليلًا من المدن، ولكنها مدن كانت يومًا عواصم دول لم تكن بالدول الحقيرة.»

ثم يمضي بعدئذٍ فيذكر كيف عاث الهون فسادًا في الشرق، ويختم قوله بهذه العبارة: «إن «ثيوسيديد» و«سَالسْت» لَيُصيبهما ما يشبه البكَم إذا ما أرادا أن يعالجا مثل هذه الأمور بما هي جديرة به.»

وكتب بعد ذلك بسبعة عشر عامًا، أي بعد نهب روما بثلاث سنين، فقال:١٠

«إنَّ العالم يهوِي إلى الخراب، نعم! لكن وا عاراه أن أقول إن آثامنا ما زالت حية مزدهرة! إن المدينة المشهورة، عاصمة الإمبراطورية الرومانية، قد ابتلعتها نار فظيعة دفعة واحدة، ولست تجد على ظهر الأرض مكانًا يخلو من رومان مشرَّدين في مطارح النفي، والكنائس التي كانت لها القدسية يومًا قد باتت اليوم أكوامًا من تراب ورماد، ومع ذلك فلا تشغل عقولَنا إلا رغبةُ الكسب، إننا نعيش كما لو كنا سنلاقي حتوفنا غدًا، ومع ذلك ترانا نبني كأنما سيمتد بقاؤنا في هذه الدنيا أبد الآبدين، إن جدراننا تلمع بالذهب، وكذلك سقوفنا ورءوس أعمدتنا، ومع ذلك يقضي المسيح أمام ديارنا عريانًا جائعًا في شخص فقرائه.»

هذه فقرة وردَتْ عرَضًا في رسالة إلى صديق اعتزم أن يتجه بابنته إلى البكارة الدائمة، ومعظم الرسالة يدور حول القواعد التي يجب اتباعها في تربية البنات اللائي يُراد بهن إلى الحياة العذرية، وإنه لمن العجيب أن يظن «جيروم» — على عمق شعوره بسقوط العالم القديم — أن احتفاظ النساء ببكارتهن أهم من الانتصار على الهون والوندال والقوط، فلا نراه يتجه بأفكاره مرة واحدة إلى تدبير إجراء مفيد من إجراءات السياسة العملية، ولا تراه يشير مرة واحدة إلى مضارِّ النظام الاقتصادي القائم، أو إلى الشر الذي ينجم عن الاعتماد على جيش قِوامه البرابرة. وقل ذلك بعينه عن «أمبروز» و«أوغسطين»، نعم قد كان «أمبروز» سياسيًّا، لكنه لم يكن كذلك إلا نائبًا عن «الكنيسة»، فلا عجب أن تندكَّ قوائم الإمبراطورية، ما دامت خير العقول وأقواها في ذلك العصر قد أبعدت نفسها إبعادًا تامًّا عن شواغل هذه الحياة الدنيا، لكننا نقول من ناحية أخرى إنه ما دام الدمار أمرًا لا مفرَّ منه؛ فقد كانت نظرة المسيحيين مُعدَّة خير إعداد لتبثَّ في نفوس الناس الصبر على المكاره، وتعينهم على الاحتفاظ بآمالهم الدينية، حين بدت آمال هذه الحياة عبثًا فارغًا، وإن أسمى ما يسمو بمكانة القديس أوغسطين هو التعبير عن هذه الوجهة من النظر في كتابه «مدينة الله».

وسأتحدث عن «القديس أوغسطين» في هذا الفصل من جهة كونه إنسانًا فقط، أمَّا باعتباره رجلًا من رجال اللاهوت وفيلسوفًا، فسيكون ذلك مدار بحثي في الفصل الآتي.

وُلد سنة ٣٥٤م، بعد «جيروم» بتسع سنين، وبعد «أمبروز» بأربعة عشر عامًا. وهو من أهل أفريقيا، وفي أفريقيا سَلَخ الشطرَ الأعظم من حياته. وكانت أمه مسيحية، أما أبوه فلم يكن كذلك، وبعد فترة قضاها معتنقًا للمانكية أصبح كاثوليكيًّا، وقام بتعميده «أمبروز» في ميلان، وعُين أسققًا على «هبو» التي لا تبعد كثيرًا عن قرطاجنة، سنة ٣٩٦م تقريبًا، ولبث هناك حتى جاءه الموت سنة ٤٣٠م.

وإنَّا لنعلم عن سِنيه الأولى أكثر جدًّا مما نعلمه عن معظم رجال الكنيسة في بواكير حياتهم، وذلك لأنه أنبأنا بها في كتابه «الاعترافات»، وهو كتاب نَسج على منواله رجالٌ مشهورون، أخُص بالذكر منهم «روسو» و«تولستوي»، ولا أظنه قد سُبق بكتاب شبيه يمكن مقارنته به. وإن «القديس أوغسطين» ليشبه «تولستوي» من بعض الوجوه، لكنه أعلى منه في مقدرته العقلية، وهو رجل جَموح العاطفة، كان في صباه أبعدَ ما يكون الإنسانُ عن مُثُل الفضيلة، لكن حافزًا باطنيًّا فيه جعل يسوقه سَوقًا إلى البحث عن الحق والتقوى. وهو مثل «تولستوي» في أنه عندما تقدمت به السنون تملَّكته فكرة اقترافه الخطيئة، التي جعلت حياته صارمة، وصبغت فلسفته بصبغة غير إنسانية، وحارب الزندقة حربًا عنيفة، لكن بعض آرائه قد عُدَّت بدورها زندقة حين أخذ بها «جانسيوس» في القرن السابع عشر، ومع ذلك فالكنيسة الكاثوليكية لم تشكَّ قط في سلامة آرائه من الوجهة الدينية، حتى اعتنقها البروتستنت.

ومن أولى أحداث حياته التي يرويها في «الاعترافات» حادثة وقعت له في صباه، ولم تكن في حد ذاتها مميزة له من سائر لداته، فالظاهر أنه اشترك مع بعض رفقاء سنه في سرقة ثمار شجرة من أشجار الكمثرى يملكها جار، مع أنه لم يكن جائعًا، وكان عند أبويه في الدار من الكمثرى ما يَفضُل الثمار التي سرقها، فلبث طوال حياته ينظر إلى هذه الفعلة نظرته إلى شرٍّ يكاد يجاوز كل حدود التصديق، فلو كان جائعًا حينئذٍ، أو لو لم يكن أمامه طريق للكمثرى غير تلك الطريق؛ لما كان للفعلة كل ما لها الآن من سوء، أما الفعلة كما وقعت فمثَل للشر الخالص، دفَع إليه حب الشر للشر، وهذا الجانب منها هو الذي يلطخها بسواد يستحيل وصفه، ولذا يضرع إلى الله أن يعفو عنه:
«إلهي انظر إلى قلبي، انظر إلى قلبي الذي أشفقتَ عليه وهو في قرار الهاوية، انظر واسمح لقلبي ينبئك النبأ، فإنه ما قصد هنالك إلا أن أكون شريرًا من غير داعٍ إلى الشر؛ إذ لم يكن ثمة ما يغري بتلك الفعلة الشنعاء إلا فعل الشر لذاته، لقد كانت عملية لعينة، ومع ذلك أحببتُها، أحببت هلاكي، أحببت زلَّتي، لا من أجل الثمرة في سبيلها زللت، بل أحببت الزلة لذاتها، يا لها من نفس شريرة هوت من السماء طريدةً من حضرتك، لا تنشد شيئًا وراء العار، بل تنشد العار للعار.»١١
وهكذا يمضي في مثل هذا مدى سبعة فصول، كلها يدور حول بعض ثمار الكمثرى، قطَفها من شجرة وهو في لهو من مزاحه الصبياني، وإن هذا ليبدو للعقل الحديث تفكيرًا به مرض،١٢ لكنه بدا في عصره تفكيرًا صوابًا، بل علامة من علامات القدسية. إن الإحساس بالخطيئة الذي كان قويًّا غاية القوة في عصره؛ قد جاء إلى اليهود ليكون طريقة توفِّق بين شعورهم بأهمية أنفسهم، وبين ما مُنوا به من هزيمة ظاهرة، ﻓ «يهوا» في رأيهم إله قادر على كل شيء، وهو مهتم بصوالح اليهود بصفة خاصة، فلماذا إذن لم يصيبوا نجاحًا؟ لأنهم عبدة أوثان، لأنهم تزوجوا من غير اليهود، وأهملوا طاعة شريعتهم. إن الله يرمي بغاياته إلى العناية باليهود وحدهم، ولكن لما كانت التقوى هي أعظم أنواع الخير جميعًا، وهي لا تتم إلا عن طريق إصابة الناس بالكوارث؛ فلا بدَّ أولًا أن ينزل باليهود ألوان العذاب، ولا بد لهم كذلك أن يروا في عذابهم علامة تنم عن حب الله لهم حب الوالد لولده.

وجاء المسيحيون فوضعوا «الكنيسة» موضع «الشعب المختار»، لكن التحوير — إذا استثنينا جانبًا واحدًا — لم يكن بذي أثر في إحساس الناس بالخطيئة؛ فالكنيسة عانت من النكبات مثلما عانى اليهود، فقد عكَّرت ألوانُ الزندقة صفوها، وارتدَّ المسيحيون أفرادًا عن دينهم، تحت ضغط الاضطهاد، إلا أن الإحساس بالخطيئة قد تطور تطورًا هامًّا — وهو تطور بدأ بالفعل وسار شوطًا بعيدًا لدي اليهود — وأعني به إحلال الخطيئة الفردية مكان الخطيئة الجمعية؛ فالأصل في بداية الأمر هو أن الأمة اليهودية هي التي اقترفت الخطيئة، وأن عقاب الخطيئة قد نزل باليهود جماعةً، لكن الخطيئة قد أصبحت مع تقدم الأيام أمرًا يتعلق بالشخص أكثر مما يتعلق بالجماعة، ففقدت بهذا التحول صبغتها السياسية، وكان هذا التحول جوهريًّا حين حلت «الكنيسة» محل الأمة اليهودية؛ وذلك لأن الكنيسة باعتبارها كائنًا روحيًّا، لا تخطئ، أما الفرد المخطئ فيُستطاع فصله عن جماعة «الكنيسة». إن الخطيئة كما قلنا الآن توًّا مرتبطة بشعور الإنسان بأهمية نفسه، لكنها فيما بعد تحولت فأصبحت أهمية الفرد لا أهمية «الكنيسة»؛ لأن الكنيسة لم تقترف قط إثمًا؛ ومن ثم أصبح اللاهوت المسيحي منقسمًا قسمين؛ أحدهما خاص ﺑ «الكنيسة»، والآخر بروح الفرد، ولقد كان الجانب الأول من هذين هو موضع اهتمام الكاثوليك في العصور التالية، بينما ركز البروتستنت اهتمامهم بالجانب الثاني. أما عند «القديس أوغسطين» فكلاهما قائم جنبًا إلى جنب، دون أن يشعر قط بأن ذلك يتضمن شيئًا من عدم الاتساق؛ فالذين قد ظفروا بالنجاة من الخطيئة هم أولئك الذين كتب لهم الله منذ الأزل خلاصًا، وفي هذا علاقة مباشرة بين الروح والله، غير أنه محال على إنسان عن أن يظفر بالنجاة إلا إذا عُمِّد، بحيث يصبح بفضل تعميده عضوًا في «الكنيسة»، وهذا يجعل «الكنيسة» حلقة اتصال بين الروح والله.

إن الخطيئة هي النقطة الجوهرية في العلاقة المباشرة (بين الروح والله)؛ لأنها هي التي تفسر كيف يمكن لإله خَيِّر أن يخلق للناس ألوان العذاب، وكيف يمكن — رغم هذا — أن تكون أرواح الأفراد هي أهم كائنات في العالم المخلوق بأسره، وإذن فلا عجب أن يكون اللاهوت الذي ارتكزت عليه حركة «الإصلاح الديني» صادرًا عن رجل كان إحساسه بالخطيئة خارقًا للمألوف.

وحسبُنا هذا القدر عن الكمثرى (المسروقة)، ولننتقل الآن إلى ما تقوله «الاعترافات» عن غير ذلك من الموضوعات.

يقص علينا أوغسطين كيف تعلم اللاتينية في غير عسر، وهو جالس إلى ركبتَي أمه، لكنه كره اليونانية التي حاولوا أن يعلموه إياها في المدرسة؛ لأنه كان هناك «يُساق سَوقًا عنيفًا، ويتوعَّدونه الوعيد القاسي والعقاب الأليم»؛ فبقيت معرفته باليونانية يسيرة إلى ختام حياته. وإن القارئ ليتوقع منه أن يمضي بعد هذه الموازنة بين تعلمه اللاتينية واليونانية إلى حيث يستنتج عبرة يؤيد بها الوسائل الرقيقة في التربية، لكن هاك ما يقوله في ذلك:

«فمن الجليِّ الواضح — إذن — أن حب الاستطلاع الحر له أثر في تشويقنا إلى تعلم هذه الأشياء، أكبر من أثر الإرغام المخيف فينا، لكن هذا الإرغام وحده هو الذي يكبح ذبذبات تلك الحرية بفضل شريعتك يا إلهي، شريعتك التي تتراوح قوانينها من عصا الأستاذ إلى محنة الشهيد؛ ذلك لأن شريعتك تعمل على تخفيف المرارة التي لا بدَّ منها للعيش الصحيح، تلك المرارة التي تعيدنا إلى حظيرتك من مجالات النعمة المؤذية التي تصرفنا عنك.»

فضربات الأستاذ التي فشلت في حمله على تعلم اليونانية قد شفَتْه من داء النعمة المؤذية؛ ولذا فهو يعدُّها — على هذا الأساس — أداة لا بد منها في التربية. وإنها لوجهةُ نظر تتفق والمنطقَ السليم عند أولئك الذين يجعلون الخطيئة أهم شواغل الإنسان. ثم يمضي فيقول إنه قد اقترف الإثم، ليس فقط حين كان تلميذًا يقول الكذب ويسرق الطعام، بل قبل ذلك أيضًا، وقد أسرف في هذا الصدد بحيث خصص فصلًا كاملًا (الكتاب الأول، الفصل السابع) للبرهنة على أن الرُّضَّع على أثداء أمهاتهم مفعمون بالخطايا، من شراهة في الغذاء إلى غيره، وغير ذلك من فظيع الرذائل.

ولما بلغ المراهقة غلبته شهوات جسده: «أين كنتُ، وكم بعدتُ عن لذائذ دارك يا ربَّاه، في عامي السادس عشر من عمر جسدي، حين استبدت بي الشهوة المجنونة التي تسترسل طليقة بسبب ميل الإنسان إلى الشر، وإن يكن الشر محرمًا بحكم تشريعك يا إلهي، أين كنتُ عندئذٍ حين أسلمتُ كل زمام نفسي لشهوة جسدي؟!»١٣

ولم يكلِّف أبوه نفسَه شيئًا من العناء ليمنع عن ولده هذا الشر، بل قصَر نفسَه على معونة أوغسطين في دراساته. أما أمه — القديسة مونيكا — فكانت على نقيض ذلك، تستحثُّه نحو الطهر، ولكن عبثًا حاولتْ، وحتى أمه هذه لم تحاول في ذلك الوقت أن تغريه بالزواج «خشية أن تقف الزوجة عَثْرة في طريق مستقبلي».

ولما بلغ السادسة عشرة قصد إلى قرطاجنة، «حيث رأيتُ فوضى العشق تضرب بموجها حولي، ولم أكن قد أحببت بعد، لكني وددت لو أحببت، وشعرت في أعماق نفسي بحاجة إلى الحب، ومن أعماق نفسي كرهت نفسي لانصرافي عما كنت بحاجة إليه، وبحثت عما يمكن أن يتعلق به حبي، فأحببت الحب، وكرهت حياة الدَّعَة … وإذن فقد حلا في عيني أن أحِب وأن أحَب، ثم يكون الطعم أحلى مذاقًا لو استمتعت بالشخص الذي أحب، وهكذا دنستُ صفاء الصداقة بقذر العشق الجنسي، وأظلمتْ صفحتها اللامعة بجحيم الشهوات.»١٤ وهو بهذه العبارة يصف علاقته بغانيةٍ أحبَّها مخلِصًا لها الحبَّ أعوامًا طِوالًا١٥ وأنجب منها طفلًا، أحبَّه كذلك، وانصرف إليه بعناية كبيرة يربِّيه تربية دينية بعد أن دخل هو المسيحية.
وجاء اليوم الذي رأى فيه — هو وأمُّه معًا — أنه لا بد أن يأخذ في التفكير في الزواج، وخطب فتاة رضيتْ بها أمه، وأصبح حتمًا عليه أن يفصم علاقته بغانيته، وهو في ذلك يقول: «إنه لما انتُزعتْ معشوقتي مني، باعتبارها عائقًا يحُول دون زواجي؛ تمزَّق قلبي وجُرح وأُدمي، لأنه كان عالقًا بها، وعادت إلى أفريقيا (كان أوغسطين حينئذٍ في ميلان) ناذرةً لك يا رباه ألا تصادق رجلًا آخر، تاركةً معي ابني الذي نَجلْتُه منها.»١٦ ومع ذلك فقد كان لا بد للزواج ألا يتم قبل عامين، بسبب صغر الفتاة، فاتصل خلال تلك الفترة بمعشوقة أخرى، كانت أقل من معشوقته الأولى علانية، ولم يعترف بها اعترافه بالأولى، فجعل ضميره يؤنبه تأنيبًا أخذ يزداد مع الأيام، وراح يدعو الله: «هَبْني الطهرَ والعفاف، لكن أمهِلني في ذلك حينًا.»١٧ وأخيرًا، وقبل أن يحين حينُ زواجه، ظفرت فيه النزعة الدينية بنصر كامل، ووهب بقية حياته لعزوبة لا تعرف النساء.
ولنَعُد إلى مرحلة سابقة من مراحل حياته؛ فقد حدث له في سن التاسعة عشرة أن بلغ حد الكفاية من البلاغة، فأغراه شيشرون بالفلسفة، وحاول أن يقرأ الإنجيل، لكنه لم يجد فيه شيئًا من قوة الأسلوب الشيشروني، فاعتنق المانوية في هذه المرحلة من حياته، مما أشاع في أمه الحزن، وكانت مهنته تعليم البلاغة، لكنه توجه باهتمامه إلى التنجيم، مع أنه تنكَّر للتنجيم فيما بعد ذلك؛ لأنَّه يتضمن في تعاليمه «أن السبب الذي لم يكن منه بدٌّ لخطيئتك كائن في السماء».١٨ وطالع الفلسفة بمقدار ما كان من الممكن أن تُطالَع الفلسفةُ في اللاتينية، وهو يذكر منها على وجه التخصيص «المقولات العشر» لأرسطو، التي قال عنها إنه فهمها بغير استعانة بمعلم: «وماذا أفدتُ وأنا مَن أنا؛ أخبث عبدٍ استعبدته العواطف الشريرة، ماذا أفدتُ من قراءتي — معتمدًا على نفسى — كلَّ الكتب التي يُطلَق عليها اسم الفنون «الحرة»، ومن فهمي لكل ما قرأت؟ … لأني قد أدرتُ ظهري للضوء، واتجهت بوجهي للأشياء المضاءة؛ ومن ثم كان وجهي نفسه … بغير ضوء.»١٩ وفي ذلك الوقت كانت عقيدته هي أن الله جسم كبير مضيء، وأنه هو نفسه جزء من ذلك الجسم، وليتَه ذكر لنا ذِكرًا مفصَّلًا اتجاهات العقيدة المانوية، بدل أن يكتفي بقوله إن أصحاب تلك العقيدة كانوا على ضلال.
ومما يستلفت النظر أن أولى الأسباب التي مالت بالقديس أوغسطين إلى نبذ تعاليم المانوية؛ كانت أسبابًا علمية، فقد تذكَّر — هكذا يروي لنا٢٠ — ما كان قد تعلمه من علم الفلك، مستمدًّا من مؤلفات خيرة الفلكيين، «وقارنتُه بما قاله ماني الذي كتب (وهو في حماقة من حماقات جنونه) في نفس الموضوعات كتابة كثيرة مستفيضة، فلم أقنع قط بشيء من تعليلاته في الاعتدال الشمسي، أو الانقلاب الشمسي، أو في الكسوف والخسوف، أو أي شيء من هذا القبيل، مما كنت تعلمتُه من كتب الفلسفة العلمانية، لكني كنت أطالَب بالتصديق، على الرغم من أنه لم يكن يطابق النتائج التي كانت تنتهي إليها العمليات الرياضية وتنتهي إليها مشاهداتي الخاصة، بل كانت على تضادٍّ تام.» وهو حريص على أن يذكر أن الأخطاء العلمية ليست في ذاتها علامة خروج على العقيدة الدينية، لكنها تكون كذلك إذا ما قال بها قائلها بروح الواثق من صدقه كأنه يقول شيئًا جاءه عن طريق الإلهام الإلهي. وإن الإنسان ليعجب متسائلًا: ماذا كان يكون رأيه لو عاش حتى عهد جاليليو؟
وأراد أسقف مانوي يُدعى «فاوست» أن يبدِّد له شكوكه، وكان «فاوست» هذا معروفًا بأنه أوسع أتباع هذا المذهب الديني علمًا، فالتقى به وأخذ يجادله «لكني وجدته أولًا جاهلًا جهلًا مُطبِقًا بالعلوم الحرة ما عدا النحو، وحتى النحو لم يكن علمه به يزيد على المستوى المألوف، غير أنه قرأ «خُطب تَلِي Tully’s Orations»، وكتبًا قليلة جدًّا مما كتب «سنكا»، وقرأ شيئًا من نَظم الشعراء، وطائفة من كتب خاصة بعقيدته الدينية، كانت تتميز بكونها مكتوبة باللاتينية وتجري على نسق منطقي، ثم أخذ يتدرب كل يوم على الكلام، فتمكن بفضل هذا كله أن يكتسب قدرًا من فصاحة القول، وازدادت فصاحته هذه إمتاعًا للسامع وتضليلًا له؛ لأنه جعل زمامها لعقله السليم، وضبطها بما وُهِبه من رقة طبيعية.»٢١
وجد «فاوست» عاجزًا كل العجز عن حل مشكلاته الفلكية، وهو يروي لنا أن الكتب المانوية «مليئة بالحكايات الخرافية الطويلة، عن السماء والنجوم والشمس والقمر»، وهي لا تتفق مع ما كشف عنه علماء الفلك، فلما سأل «فاوست» عن هذه الموضوعات اعترف «فاوست» بجهله اعترافًا صريحًا، «فازددت له حبًّا باعترافه هذا؛ لأن تواضع صاحب العقل الحصيف يستميلني أكثر مما تستميلني معرفته لهذه الأشياء التي رغبتُ في معرفتها، وهكذا وجدتُه في كل المسائل المستعصية الدقيقة.»٢٢

وإن هذه العاطفة منه لتدهشنا بسماحتها؛ لأن أحدًا لم يكن يتوقعها من أحد في ذلك العصر، كلا ولا هي متفقة كل الاتفاق مع الموقف الذي وقفه القديس أوغسطين فيما بعد إزاء الزنادقة.

وفي هذه الفترة من حياته قرر السفر إلى روما، وهو يقول إنه لم يقرر ذلك لأن راتب المعلم في روما أكثر منه في قرطاجنة، بل لأنه علم بأن الفصول الدراسية هناك أكثر نظامًا؛ فقد كانت الفوضى التي يُحدِثها الطلاب في قرطاجنة مما يجعل التعليم مستحيلًا تقريبًا، أمَّا في روما، فبينما كانت الفوضى هناك أقل منها في قرطاجنة، إلا أن الطلاب كانوا يراوغون في دفع أجور تعلُّمهم مراوغةَ محتال.

ولبث وهو في روما متصلًا بالمانويين، لكنه كان عندئذٍ أقل إيمانًا بصدقهم، وأخذ يفكر لنفسه بأن الأكاديميين قد يكونون على صواب في العقيدة بأن واجب الإنسان أن يشك في كل شيء،٢٣ ومع ذلك فقد ظل يوافق المانويين على رأيهم «بأننا لسنا نحن أنفسنا نقترف الخطيئة، بل توجد في دخيلتنا طبيعة ثانية هي التي تخطئ (ولست أدري ماذا عسى هذه الطبيعة الثانية أن تكون)». وقد ذهب إلى أن «الشر» ضرب من ضروب الكائنات القائمة بذاتها، وذلك يبين في جلاء أن مسألة الخطيئة قد شغلت ذهنه قبل دخوله المسيحية وبعده.
وبعد أن قضى ما يقرب من عام في روما أرسله العمدة سيماخوس إلى ميلان، استجابةً لرجاء تقدمت إليه به تلك المدينة تطلب معلمًا للبلاغة، وهناك في ميلان عرف «أمبروز»، «الذي كان العالم كله يعرفه رجلًا من خيرة الرجال»، وسرعان ما أحب «أمبروز» لطيبة قلبه، ولم يلبث أن آثر المذهب الكاثوليكي على مذهب المانويين، لكن الذي أمسك به حينًا هو روح الشك التي كان قد أخذها عن الأكاديميين، «ولو أني رفضت رفضًا قاطعًا أن أسْلِم زمام نفسي المريضة لهؤلاء الفلاسفة، لأنهم لم يكن لهم اسم المسيح، الذي هو طريق الخلاص.»٢٤

ولحقت به أمه في ميلان، فكان لها الفضل في التعجيل بخُطاه نحو اعتناقه للمسيحية؛ فقد كانت كاثوليكية متحمسة لعقيدتها غاية التحمُّس، ولذا تراه يكتب عنها دائمًا في نغمة التوقير، وقد زادت أهميتها له في ذلك الوقت خاصة؛ لأن «أمبروز» كانت لديه كثرةٌ من شواغل تحُول دون التحدث إليه حديثًا خاصًّا.

[وفي الاعترافات] فصلٌ غاية في الإمتاع٢٥ يقارن فيه بين الفلسفة الأفلاطونية والتعاليم المسيحية؛ فهو يقول إن الله قد هيَّأ له إذ ذاك «طائفة من كتب الأفلاطونيين مترجمة من اليونانية إلى اللاتينية، وفيها قرأتُ ما يأتي، لا بنصِّ حروفه، بل ما في معناه، مؤيَّدًا بالأدلة الكثيرة المختلفة، وهو «إنه في البداية كانت «الكلمة»، وكانت «الكلمة» إلى جانب الله، بل «الكلمة» كانت هي الله، وقُل ذلك بعينه عن الله في البداية، فهو صانع كل شيء، وبغيره لم يُصنع شيء، وما صنعه الله هو الحياة، والحياة نور الإنسان، والنور يسطع في الظلام، والظلام لم يستوعب النور. وعلى الرغم من أن نفس الإنسان «تشهد بوجود النور» إلا أنَّها ليست هي نفسها «ذلك النور»، لكنه الله، «كلمة» الله هي النور الحقيقي الذي «يضيء كل إنسان جاء إلى العالم»»، وإنه «كان في العالم، وهو صانع العالم، والعالم لم يعرفه»، لكنه «انبثَّ في دخيلة نفسه، ولم تتلقَّه دخيلةُ نفسه، فكل مَن تلقَّاه وهبه الله قوة يصبح بها ابنًا لله، بل إنه وهب هذه القوة لهؤلاء الذين آمنوا ﺑ «اسمه»»؛ إنني لم أقرأ ذلك هناك»، وكذلك لم يقرأ هناك أن «الكلمة قد تحولت لحمًا وأقامت بيننا»، ولا قرأ هناك «أن الله قد وضع من مكانة نفسه وأطاع حتى الموت، وأي موت؟ الموت على الصليب»، ولا قرأ هناك أيضًا «أن كل ركبة عليها أن تجثو عند ذكر اسم يسوع».

ووجد عند الأفلاطونيين — بصفة إجمالية — المذهب الميتافيزيقي الذي يقول ﺑ «الكلمة» (اللوغوس)، لكنه لم يجد عندهم مذهب التجسيد، ولا وجد المذهب الذي يتفرع عن التجسيد، وهو مذهب خلاص الإنسان. وترى في «الأورفيَّة» وغيرها من الديانات التي تقيم تعاليمها على الأسرار شيئًا قريب الشبه بهذه التعاليم، لكن يظهر أن القديس أوغسطين لم يكن ملمًّا بهذه الديانات، وعلى كل حال لم تكن تلك الديانات والمذاهب القديمة متصلة بحوادث التاريخ الحديث إذ ذاك، كما ارتبطت بها المسيحية.

ووقف القديس أوغسطين موقفًا معارضًا للمانويين الذين كانوا ثنائيين في مذهبهم؛ وذلك أنه لم يذهب إلى أن أصل الشر عنصر قائم بذاته، بل رأى أصل الشر في انحراف الإرادة.

وقد صادف الطمأنينةَ النفسية خاصة في كتابات القديس بولس٢٦ وأخيرًا، وبعد صراع باطني عنيف، دخل المسيحية (٣٨٦م)، وتنازل عن أستاذيته، وانصرف عن معشوقته وعروسه، وبعد فترة قصيرة قضاها في التأمل وهو معتزل عُمِّد على يدَي «القديس أمبروز»، واغتبطت أمه لذلك، لكنها لم تلبث بعد ذلك أن لقيت حتفها. وفي سنة ٣٨٨م عاد إلى أفريقيا، حيث أقام حتى ختام حياته، منصرفًا بكل همَّة إلى واجباته الأسقفية، وإلى كتابات يناقش بها ألوان الزندقة المختلفة؛ الدونية، والمانوية، والبلاجية.
١  يظهر أن هذه الوجهة من النظر قد مهَّدت الطريق إلى النظرة التي سادت عهد الإقطاع.
٢  الرسالة السابعة عشرة.
٣  الرسالة العشرون.
٤  هذه الإشارة إلى «أسفار صموئيل» بداية لحُجة إنجيلية طالما وُجِّهت إبان العصور الوسطى إلى الملوك، بل استُخدمت كذلك في الصراع الذي نشب بين «المتزمتين الدينيين» و«أسرة ستيوارت» (في إنجلترا)، وهي حجة تظهر كذلك في شعر «ملتن».
٥  «مختارات من أخبار آباء نيقيا وما بعد نيقيا»، ج٦، ص١٧.
٦  «مختارات من أخبار آباء نيقيا وما بعد نيقيا»، ج٦، ص٢١٢.
٧  المرجع السابق، ص٣٠.
٨  لبثت هذه العداوة إزاء الأدب الوثني قائمة في «الكنيسة» حتى القرن الحادي عشر، اللهم إلا في أيرلندا التي لم تعرف قط عبارة آلهة الأولمب، ولذا لم تخشَ «الكنيسة» وخطرها.
٩  الرسالة الستون.
١٠  الرسالة ١٠٢٨.
١١  الاعترافات، الكتاب الثاني، الفصل الرابع.
١٢  لا بد من استثناء مهاتما غاندي، إذ يصادفك في تاريخ حياته الذي كتبه عن نفسه فقراتٌ شديدة الشبه بالفقرة السالفة.
١٣  الاعترافات، الكتاب الثاني، الفصل الثاني.
١٤  الاعترافات، الكتاب الثالث، الفصل الأول.
١٥  المرجع نفسه، الكتاب الرابع، الفصل الثاني.
١٦  المرجع نفسه، الكتاب السادس، الفصل الرابع.
١٧  المرجع نفسه، الكتاب الثامن، الفصل السابع.
١٨  الاعترافات، الكتاب الرابع، الفصل الثالث.
١٩  المرجع نفسه، الكتاب الخامس، الفصل الثالث.
٢٠  المرجع نفسه، الكتاب الخامس، الفصل الثالث.
٢١  الاعترافات، الكتاب الخامس، الفصل السادس.
٢٢  الاعترافات، الكتاب الثاني، الفصل السابع.
٢٣  الاعترافات، الكتاب الخامس، الفصل العاشر.
٢٤  الاعترافات، الكتاب الخامس، الفصل الرابع عشر.
٢٥  الاعترافات، الكتاب السابع، الفصل التاسع.
٢٦  الاعترافات، الكتاب السابع، الفصل الحادي والعشرون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤