الفصل السادس

القديس بندكت وجريجوري الأكبر

كانت الكنيسة بصفة خاصة هي التي حافظت على ما تبقَّى من ثقافة روما القديمة، إبان الانهيار الشامل الذي طرأ على المدنية خلال الحروب التي لم تنقطع في القرن السادس والقرون التي تلَتْه، غير أنَّ الكنيسة قامت بهذه المهمة على نحو بعيد جدًّا عن الكمال، لأنَّ التعصب الديني والخرافة كانا سائدَين بين أعظم رجال الدين أنفسهم، وكانت العلوم الدنيوية يُظن بها الشر، ورغم ذلك كله فقد أعَدَّت الجماعات الكنسية أساسًا متينًا، مكَّن فيما بعد لقيام حركة إحياء العلوم وفنون الحياة المتحضرة.

وإنَّما يستوقف انتباهنا بصفة خاصة في الفترة التي نحن بصددها الآن؛ ثلاثةٌ من أوجه النشاط في الكنيسة؛ الأول: حركة الأديرة، والثاني: تأثير البابوية، وبخاصة في عهد جريجوري الأكبر، والثالث: إدخال البرابرة الوثنيين في المسيحية على أيدي المبشرين. وسأتناول كلًّا من هذه الثلاثة بكلمة على التوالي.

بدأت حركة الأديرة في مصر وفي سوريا في آنٍ واحد، وكان ذلك حول بداية القرن الرابع، وقد اتخذت صورتين؛ فإمَّا راهبون معتزلون في صوامعهم، وإمَّا أديرة. وكان «القديس أنطون» أول من اتخذ طريق الرهبنة المعتزلة. وُلد في مصر حوالي سنة ٢٥٠م، وانسحب من العالم حوالي سنة ٢٧٠م، ولبث خمسة عشر عامًا يقيم وحده في كوخ بالقرب من داره، ثم قضى بعد ذلك عشرين عامًا في عزلة بعيدة في جوف الصحراء، غير أن شهرته ذاعت في الناس، وودَّت جموع الشعب لو استمعت إلى مواعظه، وعلى ذلك جاء حوالي سنة ٣٠٥م ليعظ الناس، ويشجعهم على حياة الرهبانية المعتزلة. وقد كان يفرض على نفسه أقصى أنواع الخشونة في العيش، بحيث خفض مقادير الطعام والشراب والنوم إلى الحد الأدنى الذي تقتضيه إقامة الحياة. وكان الشيطان ما ينفكُّ يهاجمه بالرؤى الشهوانية، لكنه وقف وقفة الرجال في وجه هذا الدأب الخبيث الذي يبديه له الشيطان. ولما بلغت حياته ختامها، كانت الصحراء المصرية بالقرب من طيبة مليئة بالرهبان الذين اقتفوا مثاله، وترسَّموا مبادئه.

وبعد ذلك بسنوات قلائل — حوالي ٣١٥م إلى ٣٢٠م — أنشأ مصري آخر، هو باخوميوس، أول دير، حيث كانت الحياة بين رهبانه مشاعًا مشتركًا، ليس لواحد منهم ملكية خاصة، ويتناولون وجباتهم معًا، ويؤدون شعائر دينهم معًا. وقد غزت الرهبانية العالم المسيحي في صورتها هذه، أكثر مما غزتها في صورة الرهبانية المعتزلة التي اصطفاها القديس أنطون، وكان الرهبان في الأديرة التي نشأت على غرار ما صنعه «باخوميوس» يؤدون عملًا كثيرًا، خصوصًا في الزراعة، بدل أن ينفقوا وقتهم كله في مقاومة شهوات الجسد.

وفي نحو هذا الوقت نفسه نشأت الأديرة في سوريا وبلاد الجزيرة، فذهب الزهد فيهما إلى أبعد مما ذهب إليه في مصر، على بُعد ما بلغه في مصر؛ فكان «القديس سيمون ستايليت St. Simeon Stylites» وغيره من عُمُد الرهبان من أهل سوريا، وكان الشرق هو مصدر حركة الأديرة التي دخلت الأقطار التي تتكلم اليونانية، بفضل «القديس باسل» (حوالي ٣٦٠م) بصفة خاصة، الذي كانت أديرته أقل إمعانًا في الزهد؛ إذ كانت تضم ملاجئ للأيتام، ومدارس للصبيان (لم تقتصر على الصبيان الذين كان يُراد إعدادهم ليكونوا رهبانًا).

وكانت حركة الأديرة بادئ ذي بدء تلقائية خالصة، لم تدخل قط في ظل الكنيسة ونظامها، وكان «القديس أثناسيوس» هو أول من قرَّب مسافة الخلف بين رجال الكنيسة وبينها؛ فهو — إلى حد ما — الذي تمكَّن بفضل نفوذه أن يجعل القاعدة للرهبان في الأديرة أن يكونوا من القساوسة، وهو كذلك الذي أدخل الحركة في الغرب، حين كان في روما سنة ٣٣٩م. وجاء «القديس جيروم» وبذل جهدًا كبيرًا في دفع الحركة إلى الأمام، كما جاء «القديس أوغسطين» وأدخلها في أفريقيا. وكان «القديس مارتن» من مدينة «تُور» هو الذي بدأ قيام الأديرة في بلاد الغال، و«القديس باتريك» هو الذي بدأها في أيرلندا، و«القديس كولمبا» هو الذي أنشأ دير أيونا سنة ٥٦٦م. وكان رهبان الأديرة في الأيام الأولى — قبل أن يدخلوا في النظام الكنسي — مصدرًا للفوضى، فأولًا لم يكن هناك وسيلة للتمييز بين الزاهدين الحقيقيين وبين أولئك الذين اشتد بهم الفقر، فوجدوا منشآت الأديرة حياة رغيدة بالنسبة لحياتهم السابقة. وبالإضافة إلى ذلك قامت مشكلةٌ نتيجةً لتأييد الرهبان للأسقف الذي يحبون، تأييدًا محوطًا بالشغب والصخب، فكانوا بذلك يسبِّبون وقوع الجماعات الدينية (بل كادوا كذلك يوقعون المجامع الدينية) في الزندقة؛ فالجماعة الدينية (لا المجمع) في أفسوس، التي أيدت وجهة نظر الموحدين لطبيعة المسيح، كانت خاضعةً لحكم إرهابي قِوامه رهبان الأديرة، ولولا مقاومة البابا لجاز أن يدوم إلى الأبد انتصار الموحدين لطبيعة المسيح، ومثل هذه الفوضى لم يَعُد يحدث في العهود التالية.

والظَّاهر أنَّ وجود الراهبات قد سبق وجود الرهبان؛ فقد كان هنالك راهبات منذ منتصف القرن الثالث.

كان يُنظر إلى النظافة بعين الكراهية؛ فالقمل كانوا يسمونه «لآلئ الله»، كما كانوا يتخذونه علامة القدسية في حامله، وكان القديسون والقديسات يفخرون بأنَّ الماء لم يمس أقدامهم إلا حين استدعت الضرورة أن يعبروا الأنهار. على أنَّ رهبان الأديرة في القرون التالية كانوا ذوي نفع في نواحٍ كثيرة؛ إذ كانوا مزارعين مَهَرة، وبعضهم أبقى على شعلة العلم، أو أحياها بعد انطفاء، ولم يكن ثمة شيء من هذا في بداية الأمر، خصوصًا لدى الرهبان المعتزلين في الصوامع. ومعظم رهبان الأديرة لم يعمل شيئًا، ولم يقرأ قط إلا ما كان يقتضي الدينُ قراءته، وتصور هؤلاء الفضيلة على نحو سلبي خالص؛ إذ تصوروها امتناعًا عن الخطيئة، وبخاصة خطايا الجسد، نعم إن «القديس جيروم» قد حمل مكتبته معه إلى الصحراء، لكنه ظن فيما بعد أنه اقترف بذلك إثمًا.

واسم «القديس بندكت» هو أهمُّ ما تصادفه من أسماء في حركة الأديرة في الغرب، وهو مؤسس «الطائفة البندكتية». وُلد حوالي ٤٨٠م بالقرب من «سبوليتو» من أسرة «أَمبريَّة» نبيلة، ولما بلغ العشرين من عمره فرَّ من أسباب الترف وألوان اللذائد في روما، إلى حيث اعتزل الحياة في كهف، أقام فيه ثلاثة أعوام، وبعدئذٍ قلَّ جانب العزلة من حياته؛ ففي سنة ٥٢٠م تقريبًا أنشأ الدير المشهور في «جبل كاسينو» الذي استنَّ له «القواعد البندكتية»، وكانت هذه القواعد قد رُوعي فيها أن تلائم أحوال المناخ في البلاد الغربية، فتطلبت زهدًا أقلَّ ممَّا كان شائعًا بين رهبان مصر وسوريا؛ فقد كان هنالك قبل ذلك تنافس هدَّام في مدى إسراف الرهبان في ألوان التقشف، وكلما ازداد الراهب تطرفًا في تقشفه ازداد في اعتبارهم قدسيةً، فأزال «القديس بندكت» كل هذا، ورسم بأن ألوان التقشف التي تجاوز حدود القواعد لا يجوز اصطناعها إلا بإذن من رئيس الدير. وقد خُوِّل لرئيس الدير سلطة كبيرة؛ فهو يُنتخب مدى حياته، ويكاد يكون له الحكم المطلق على رهبانه (في حدود «قواعد الدير» والعقيدة الأرثوذكسية). ولم يَعُد لهؤلاء الرهبان الحقُّ في ترك ديرهم والالتحاق بدير آخر كيفما مالت بهم أهواؤهم. ولقد اشتهر البندكتيون فيما بعد باشتغالهم بالعلم، ولو أن قراءتهم كلها في أول الأمر كانت في خدمة الدين.

وللمؤسسات حياتها الخاصة بها، التي تستقل بها عما أراده لها مؤسسوها، وأقوى مثَل يوضح هذه الحقيقة هو مثَل «الكنيسة الكاثوليكية» التي لو شهدها يسوع، بل لو شهدها بولس، لأخذته الدهشة مما يرى. و«الطائفة البندكتية» مثَل آخر على نطاق أصغر؛ فرُهبانها يتعهدون الفقر والطاعة والطهر، ويقول «جِبُنْ» في ذلك ما يأتي: «لقد سمعت أو قرأت مرة الاعترافَ الصريح الذي اعترف به رئيس الدير البندكتي، وهو: إن تعهدي أن أعيش فقيرًا قد أكسَبَني مائةَ ألف «كروان» كل عام، وتعهدي أن أكون مطيعًا قد رفعني إلى مرتبة أمير ذي سيادة، وقد نسيتُ النتائج التي عادت عليه من تعهده أن يحيا حياة الطهر.»١ على أن ابتعاد «الطائفة البندكتية» عما أراده لها مؤسسها لم تكن كلها مما يستدعي الأسف، وذلك يَصدُق بصفة خاصة على الجانب العلمي؛ فقد اشتهرت مكتبة «جبل كاسينو»، والعالَم مدين لها في نواحٍ كثيرة بما اكتسبه البندكتيون فيما بعد من ميل إلى البحث العالمي.

أقام «القديس بندكت» في «جبل كاسينو» منذ نشأة الدير حتى وافاه الأجل سنة ٥٤٣م، وجاء اللمبارديون فنهبوا الدير قبل أن يتولى «جريجوري الأكبر» منصب البابوية بزمنٍ قليل، وقد كان هو نفسه تابعًا للبندكتية، وعندئذٍ فر الرهبان إلى روما، لكنهم حين خفَّت غضبة اللمبارديين عادوا إلى «جبل كاسينو».

وإنا لنعرف الشيء الكثير عن «القديس بندكت» من المحاورات التي كتبها البابا «جريجوري الأكبر» سنة ٥٩٣م: «نشأ في روما مشتغلًا بدراسة الحياة الإنسانية، لكنه لما رأى كثيرين يسقطون بسبب دراسة كهذه، فيحيون حياةً مستهترة خليعة، تراجع بقدمه التي كان قد خطا بها في خِضمِّ العالم؛ خشية أن يزلَّ هو الآخر لو أمعن في انغماسه، فيسقط في خليج خطر خالٍ من الإيمان بالله، وعندئذٍ ترك الكتاب الذي يطالعه، وخلَّف دار أبيه وثروة أبيه، بعزم مصمم على خدمة الله وحده، فالتمس مكانًا يستطيع فيه أن يحقق هدفه المقدس، وعلى هذا النحو ارتحل، مزوَّدًا بالجهل العليم، وبالحكمة التي تأتي من دراسة الكتب.»

ولم يلبث بعد ذلك أن اكتسب القدرة على إتيان المعجزات؛ وأول معجزاته إصلاحه غِربالًا مكسورًا بمجرد الدعاء؛ وقد علَّق أهل المدينة الغِربال على باب الكنيسة «حيث ظلَّ عدة أعوام بعد ذلك، إلى أن جاء اللمبارديون بما أحدثوه من ألوان المتاعب»، ثم ترك الغِربال وقصد إلى كهفه، لا يدري أحد من أمره شيئًا، اللهم إلا صديقًا واحدًا، جعل يمده بالطعام سرًّا، مدلِّيًا له إياه بحبل عُلق به جرس لينبه القديس أن طعامه قد نزل إليه، لكن الشيطان رمى الحبل بحجر فقطعه وكسر الجرس معًا، ومع ذلك فقد خاب رجاء عدو البشر في قطعه مدد الطعام عن القديس.

وبعد أن أقام «بندكت» في الكهف ما أرادتْه أهدافه في سبيل الله أن يبقى؛ ظهر «سيدنا المسيح» يوم «أحد الفصح» لأحد القساوسة، وكشف له عن مكان ذلك الناسك، وأمره أن يذهب إلى القديس ليقاسمه طعام يوم الفصح، وفي نحو الوقت نفسه وجده بعض الرعاة؛ «فعندما شهدوه أول الأمر خلال الشجيرات، ورأوا كساءه من الجلد، ظنوه حقًّا من الحيوان، لكنهم بعد أن عرفوا فيه خادم الله تحول كثيرون منهم إلى المسيحية بفضله، فتحولوا عن حياتهم الحيوانية إلى حياة الرحمة والتقوى والعبادة».

وكان «بندكت»، كسائر النُّساك الزاهدين، يعاني من غواية شهوات الجسد، «كان هنالك امرأة معيَّنة رآها يومًا فيما مضى، فوضع الروحُ الخبيثُ ذكراها في رأسه، وراح بذكراها يُشعِل الشهوة إشعالًا قويًّا في نفس خادم الله، وأخذت الشهوة المشتعلة تزداد في نفسه قوة، حتى كادت تغلبه اللذة على أمره، وجعل يفكر في النزوح عن الصحراء، لولا أن رحمة الله تناولته فجأة، فعاد إلى رشده، ورأى على مقربة منه أشجارًا كثيفة من العَوسَج وأشجارًا من القريص، فخلع ثيابه وألقى بنفسه وسطها، وراح يتمرَّغ فيها مدة طويلة، حتى إنه حين نهض، وجد لحمه كله ممزَّقًا تمزيقًا فظيعًا، وعلى هذا النحو استطاع بجروح جسده أن يشفي جرح روحه.»

وانتشرت شهرته في طول البلاد وعرضها، حتى الْتَمس منه رهبان دير معين — كان رئيسه قد مات لعهد قريب — أن يَخلُفه رئيسًا عليهم، وقبِل لكنَّه أصرَّ على مراعاة الفضيلة التي لا تتهاون في شيء، وبالغ في ذلك حتى ثارت ثورة الرهبان، وقرروا أن يسمِّموه بقدح من النبيذ المسموم، غير أنَّه رسم علامة الصليب على القدح فانكسرت هشيمًا على الأثر؛ ومن ثَم عاد إلى صحرائه مرةً أخرى.

لم تكن معجزة الغِربال هي المعجزة الوحيدة النافعة من الوجهة العملية، مما أتاه «القديس بندكت» من معجزات؛ فقد حدث يومًا لقوطيٍّ فاضل أنه كان يستعمل منجلًا في إزالة أشجار العَوسج، فطار رأس المنجل عن مقبضه، وسقط في ماء عميق، فلما أُنبئ القديس بما حدث أمسك بالمقبض في الماء، وعندئذٍ نهض الرأس الحديدي من مستقَره وألصق نفسه من جديد بمقبضه.

وأكل الحسد قلب قسيس في مكان قريب؛ لِما بلغه القديس من سمعة، فأرسل إليه رغيفًا مسمومًا، لكن «بندكت» عرف بإحدى معجزاته أن الرغيف مسموم، وكان من عادته أن يُطعِم بقرة معينة بالخبز، فلما جاءت البقرة في ذلك اليوم بعينه قال لها القديس: «باسم يسوع المسيح، سيدنا، خذي هذا الرغيف، واتركيه في مكان يستحيل على إنسان أن يراه فيه»، وأطاعت البقرة، حتى إذا ما عادت أُعطيت طعامها المألوف، ورأى القسيس الشرير أنه لم يستطع قتل «بندكت» في جسده، فصمم أن يقتله في روحه، فبعث إلى الدير بسبع نساء عاريات في سن الشباب، فخشي القديس أن يُغوَى أحد صغار الرهبان بالخطيئة، فارتحل هو حتى لا يعود عند القسيس من الدوافع ما يغريه بمثل هذه الأفعال، لكن القسيس لقي حتفه إذ سقط عليه سقف غرفته، ولحق أحد الرهبان ﺑ «بندكت» لينقل إليه الخبر فرحًا، ملتمسًا منه أن يعود، فحزن «بندكت» لموت الآثم، وفرض كفَّارة على الراهب لفرَحه بالخبر.

ولا يقتصر «جريجوري» على روايته للمعجزات، بل سمح لنفسه هنا وهناك أن يذكر بعض الحقائق التي وقعت ﻟ «القديس بندكت» في سيرة حياته؛ فبعد أن أنشأ اثني عشر ديرًا، ألقى مراسيه آخر الأمر في «جبل كاسينو» حيث كان «معبد» من معابد «أبولو» لا يزال قائمًا يقوم فيه الريفيون بعبادتهم الوثنية، «إذ لبث سواد الكفار المجانين حتى ذلك العهد يقدمون أخبث القرابين»، فهدم «بندكت» المذبح الذي كان يُقدَّم عليه القرابين، وأقام مكانه كنيسة، وحوَّل الوثنيين في المنطقة المحيطة بالمكان إلى العقيدة المسيحية، وغضب لذلك الشيطان:

«وغضب لذلك عدو البشر القديم، ولم يقتصر هذه المرة على أن يُظهِر نفسه للقديس في الخفاء أو في الحلم، بل ظهر له علانية أمام عينيه، واحتجَّ احتجاجًا صارخًا على ما لقيه على يديه من عنف، حتى لقد سمع الرهبان ضجة الشيطان في صراخه، لكنهم لم يستطيعوا أن يروه، غير أنه ظهر ظهورًا واضحًا للعين أمام القديس الوقور — فيما روى لهم — وكان أشد ما يكون وحشية وقسوة، كأنما أراد بفمه النافث للَّهب، وعينيه المشتعلتين، أن يمزقه إرْبًا إرْبًا. وسمع الرهبان جميعًا ما قاله الشيطان للقديس، أولًا بمناداته باسمه، فلما لم يتفضل عليه رجل الله بجواب انهال عليه لعنًا وسبًّا؛ ذلك لأنه لما ناداه صائحًا: «يا بندكت المبارك» ولم يجبه القديس مع ذلك، تحوَّل بغتة في نغمة النداء وقال: «يا بندكت الملعون غير المبارك، ما شأنك عندي؟ وفيمَ اضطهادك إياي على نحو ما تفعل؟»» وهنا تنتهي القصة، مما قد نفهم منه أن الشيطان تركه يائسًا.

لقد أطلت الاقتباس من هذه المحاورات؛ لأنها ذات أهمية من نواحٍ ثلاث؛ فأولًا هي المصدر الرئيسي لما نعرفه عن حياة «القديس بندكت» الذي أصبحت «قواعده» نموذجًا تنسج على منواله الأديرة الغربية فيما عدا أديرة أيرلندا، أو الأديرة التي أنشأها أيرلنديون، وثانيًا لأن هذه المحاورات تعطينا صورة ناصعة للجو العقلي الذي ساد أرقى الشعوب مدنيةً في أواخر القرن السادس، وثالثًا لأن كاتبها هو «البابا جريجوري الأكبر»، الذي هو الرابع والأخير بين «أعلام الكنيسة الغربية»، وهو من الوجهة السياسية من أبرز البابوات مكانةً، فلننتقل الآن إلى الحديث عنه.

يزعم «الموقَّر و. ﻫ. هَتُنْ، رئيس الشمامسة في نورثامبتن»٢ أن «جريجوري» هو أعظم رجل في القرن السادس، وأن منافسيه في هذه الزعامة — كما يقول — هما «جستنيان» و«القديس بندكت». ولا شكَّ أن الثلاثة جميعًا قد كانوا ذوي أثر عميق في العصور التالية؛ فأثَّر فيها «جستنيان» ﺑ «قوانينه» (لا بغزواته التي كانت وشيكة الزوال)، وأثر فيها «بندكت» بنظامه في الأديرة، وأثَّر فيها «جريجوري» بما جاء به للبابوية من ازدياد في سلطانها. وهو يبدو في المحاولات التي كنتُ الآن أقتبس منها صبيانيًّا سريع التصديق. أما باعتباره رجلًا سياسيًّا فهو ماهر قادر، على وعي تام بما يمكن أداؤه في العالم المعقد المتغير الذي كان يتحرك فيه. وإن التباين بين جانبَيه هذين لحقيقٌ بالدهشة، لكن أعمق الناس أثرًا في دنيا العمل كثيرًا ما يكونون في الصف الثاني من حيث قدرتهم العقلية.

وُلد «جريجوري الأكبر» — أول بابا سُمي بهذا الاسم — في روما حوالي سنة ٥٤٠م، من أسرة غنية نبيلة، والظاهر أن جده كان قد ارتقى إلى منصب البابوية بعد أن ماتت عنه زوجته. وكان له هو نفسه — وهو بعدُ في سن الشباب — قصر وثروة عريضة، وتلقى ما كان يُعَد تعليمًا جيدًا، ولو أن تعليمه ذاك لم يشتمل على دراية باليونانية التي لم يتعلمها قط، على الرغم من أنه أقام في القسطنطينية ستة أعوام. ونُصِّب عمدةً على مدينة روما سنة ٥٧٣م، لكن الدين ناداه، فاعتزل منصبه، ووهب ثروته لبناء الأديرة ولأعمال البر، وحوَّل قصره بيتًا للرهبان، واعتنق هو نفسه «البندكتية»، وانصرف بجهده كله للتأمل، وفرَض على نفسه ألوان التقشف، التي أضرت بصحته ضررًا دام معه، وأدرك «البابا بلاجيوس الثاني» مقدرته السياسية، فأرسله مبعوثًا ينوب عنه في القسطنطينية، التي لبثت روما خاضعة لها خضوعًا اسميًّا منذ عهد «جستنيان»، وأقام «جريجوري» في القسطنطينية من سنة ٥٧٩م إلى سنة ٥٨٥م، يمثل مصالح البابوية في بلاط الإمبراطور، ويمثل وجهة نظر البابوية في الأمور الدينية؛ في المناقشات التي كانت تنشأ مع رجال الدين المشارقة، الذين كانوا دائمًا أميلَ إلى الزندقة من رجال الدين في الغرب؛ من ذلك أن بطريرك القسطنطينية في ذلك الوقت ذهب — مخطئًا — إلى أن الأجساد يوم البعث ستكون غير مُدرَكة بالحواس، لكن «جريجوري» أنقذ الإمبراطور من الزلل في هذا الرأي الذي ينحرف به عن العقيدة الصحيحة، ومع ذلك فقد عجز عن إقناع الإمبراطور بالقيام بحملة ضد اللمبارديين، وكان ذلك هو الهدف الرئيسي من إيفاده إلى القسطنطينية.

وقضى «جريجوري» الأعوام الخمسة من ٥٨٥م إلى ٥٩٠م رئيسًا لديره، وعندئذٍ مات البابا، وتلاه جريجوري في البابوية، وكانت ظروف العصر غاية في الارتباك، لكن ارتباكها هذا نفسه قد هيَّأ فُرصًا عظيمة للسياسي القدير؛ فاللمبارديون كانوا يعيثون في إيطاليا فسادًا؛ وإسبانيا وأفريقيا كانتا في حال من الفوضى، سببها ضعف البيزنطيين، وتدهور «الفيسيقوطيين»، وغارات العرب؛ وفي فرنسا كانت الحروب قائمة بين الشمال والجنوب؛ وارتدَّت بريطانيا إلى الوثنية منذ الغزو السكسوني، بعد أن كانت قد اعتنقت المسيحية في عهد الرومان، وكانت لا تزال هناك آثار باقية من «مذهب أريوس»، ولم تكن زندقة «الفصول الثلاثة» قد امَّحت بأية حال من الأحوال. ولقد تأثر الأساقفة أنفسهم بفوضى العصر الصارخة، حتى لقد بَعُد كثير منهم بُعدًا شاسعًا عن الحياة المثلى، وبلغت المتاجرة بالمناصب الدينية مبلغًا مسرفًا، وظلت شرًّا مستطيرًا حتى النصف الثاني من القرن الحادي عشر.

حارب «جريجوري» كل هذه الأسباب التي تعمل على الفوضى محاربةً نشيطة حكيمة؛ فقبل تولِّيه منصب البابوية لم يكن لأسقف روما — ولو أنه كان معترَفًا له بالصدارة الأولى بين رجال الدين في تفاوت درجاتهم — أية قوة تشريعية خارج حدود أبراشيته؛ فمثلًا كان واضحًا غاية الوضوح أن «القديس أمبروز» لم يعتبر نفسه قط خاضعًا لسلطة البابا بأية حال من الأحوال، على الرغم من أنه كان مرتبطًا مع البابا في عصره بأوثق روابط الود. أمَّا «جريجوري» فقد استطاع بفضل خصائصه الشخصية أولًا، والفوضى السائدة ثانيًا، أن يوفَّق إلى اكتساب سلطة قَبِلها رجالُ الكنيسة في شتَّى أرجاء الغرب، بل قَبِلها — بدرجة أقل — رجال الكنيسة في الشرق أيضًا. ولقد استخدم سلطته هذه بوسائل، أهمها رسائل يبعث بها إلى الأساقفة وإلى الحكام العلمانيين في كافة أنحاء العالم الروماني، وكذلك كانت له غير ذلك وسائل أخرى؛ فكتابه «في حكم الراعي لرعيته» يحتوي على نصح يوجهه إلى الأساقفة، وكان ذا أثر عظيم في الشطر الأول من العصور الوسطى، وكانت الغاية من الكتاب أن يكون مرشدًا للأساقفة في واجباتهم، وقَبِله الأساقفة بهذه الصفة، وقد كتبه بادئ ذي بدء لأسقف «رافنا»، ثم أرسله كذلك إلى أسقف إشبيلية، حتى إذا ما جاء عهد شارلمان، كان الكتاب يُعطى للأساقفة عند تدشينهم؛ وقام بترجمته «ألفرد الأكبر» إلى الأنجلوسكسونية، وشاع في الشرق مترجَمًا إلى اليونانية. وفي الكتاب نصائح للأساقفة تتصف بالرصانة، إن لم نقل بالغرابة، كنصيحته إياهم ألا يهملوا أعمالهم الدنيوية، وتنبيههم إلى أن الواجب يقتضي ألا يوجَّه النقد للحكام، بل يُكتفى بتذكيرهم دائمًا بعقاب الجحيم إذا هم لم يتبعوا ما تنصحهم الكنيسة باتباعه.

ورسائل «جريجوري» غاية في الإمتاع، لا لأنَّها تصور شخصيته فحسب، بل كذلك لأنها تصور لنا عصره. ونغمته فيها هي نغمة ناظر المدرسة — إلا ما كان منها مرسَلًا إلى الإمبراطور وسيدات البلاط البيزنطي — فهو آنًا يحثُّ على شيء، وأحيانًا يقرِّع، ولا يبدي أبدًا أقل تودد في حقه في إصدار الأوامر.

ولنأخذ نموذجًا لرسائله؛ ما أرسله منها خلال عام واحد (٥٩٩م)، فالرسالة الأولى خطاب إلى أسقف كاجلياري في سردينيا، الذي عُرف بسوء سلوكه رغم كِبر سنِّه: «لقد نُبئتُ أنك قبل أن تحتفل بشعائر الصلاة يوم ميلاد المسيح، ذهبتَ لتحصد أولًا ما جاء به أصحاب المنح … وكذلك بعد أن فرغت من شعائر الصلاة لم تتردد في محو آثار ما نهبته نفسك … وإنَّما تفعل ذلك إذْ رأيتَ أنَّنا ما نزال نُبقي على كرامة شيبك، ونعاملك معاملة الرجل تقدمت به السنُّ على كل حال، ونظن أنَّك بحكم سِنك ستربأ بنفسك عن مثل هذا السلوك الأرعن، والانحراف في الفعل عن جادة الصواب.» وكتب في الوقت نفسه إلى أصحاب السلطة الدنيوية في سردينيا عن الموضوع نفسه، وتوجَّه باللوم إلى هذا الأسقف نفسه بعد ذلك؛ لأنه تقاضى الأجور على إجراء شعائر الجنائز، ولأنه كذلك أذِن ليهودي مرتدٍّ أن يضع «الصليب» وصورة «العذراء» في معبد من معابد اليهود؛ ولأنه فضلًا عن ذلك كان يسافر هو وغيره من أساقفة سردينيا بغير استئذان رجال السلطة في المدينة، ولا بدَّ من الإقلاع عن مثل هذا، ويتلو ذلك خطابٌ شديد اللهجة جدًّا بعث به إلى كبير القناصل في دلماشيا، يقول له فيه بين ما يقوله: «لسنا ندري كيف يمكن أن تكون أفعالك مُرضية لله أو للناس»، ثم يقول: «أمَّا عن محاولتك اكتساب رضانا، فاللائق بك أن تُرضي «مخلِّصك» بكل قلبك وروحك، وبعينين دامعتين، ليصفح عنك مثل هذه الأفعال.» ولست أعلم ماذا صنع هذا المنكود في تلك المناسبة.

ويأتي بعد ذلك خطاب إلى «كالينيكوس» نائب (أكرخَس) إيطاليا، مهنئًا إياه على نصره على السلافيين، وشارحًا له كيف يتصرف إزاء زنادقة «إستريا»، الذين أخطئوا فيما يتعلق ﺑ «الفصول الثلاثة»، وكذلك يكتب في هذا الموضوع إلى أسقف «رافنا». وإنَّا لنجد خطابا واحدًا — على سبيل الاستثناء — أرسله إلى أسقف سرقصَّة، أخذ «جريجوري» يدافع فيه عن نفسه، بدل اتهام غيره بالخطأ؛ والموضوع الذي كتب الخطاب في شأنه موضوع خطير، وهو: هل يجب لترنيمة «ألولويا» أن تُقال في موضع معين من القدَّاس؟ فهو يقول إن ما يصنعه هو (أي جريجوري) في ذلك الأمر، لم يستمده من تبعيته للبيزنطيين، كما يظن أسقف سرقصَّة، بل استمده من «القديس جيمز» عن طريق «جيروم» المبارك؛ فأولئك الذين ظنوا أنه خضع للطريقة اليونانية بغير موجب، قد أخطئوا الظن (ومسألة كهذه كانت أحد الأسباب لانقسام «المؤمنين القدامى» في الروسيا).

وهنالك عدة رسائل بعث بها إلى ملوك برابرة، ذكورًا وإناثًا؛ من ذلك أن «برونيتشايلد» ملكة الفرنجة أرادت أن تُخلَع الصُّدرة الكهنوتية على أسقف فرنسي معين، وكان «جريجوري» يريد أن يجيبها إلى رجائها، لكن شاء سوء الحظ أن يكون الرسول الذي أرسلته من الخوارج. ويكتب إلى «أجيلَلْف» ملك اللمبارديين مهنئًا إياه على نشره للسلام، لأنه لو كان سوء الحظ قد أراد للسلام ألا ينتشر، فماذا كان يترتب على ذلك (محوطًا بالخطيئة والخطر للفريقين معًا) سوى إراقة دماء الفلاحين التعساء، الذين يفيدون بكدحهم كلا الفريقين؟! وهو يكتب في الوقت نفسه إلى زوجة «أجيلَلْف»، وهي «الملكة ثيودلندا»، مطالبًا إياها أن تؤثِّر في زوجها بحيث يَثبُت على مسالكه الطيبة التي هو سالكها. ويكتب مرة أخرى إلى «برونيتشايلد» ينبِّه إلى خطأين وقعا في مُلكها؛ فالرجال يُرقَّون إلى مناصب الأسقفية دفعة واحدة وهم من غير رجال الدين، ودون أن يقضوا فترة للتمرين يكونون فيها قساوسة عاديين؛ واليهود يُسمَح لهم بامتلاك عبيد من المسيحيين. ويكتب إلى «ثيودورك» وإلى «ثيودبرت» ملكَي الفرنجة، يقول إنه نظرًا لما عُرف به الفرنجة من تقوى مثالية، فلا يريد أن يوجِّه إليهم إلا ألطف القول، لكنه لا يسعه إلا أن يشير إلى انتشار بيع المناصب الدينية في بلادهما. وكذلك يكتب مرة أخرى بخصوص إيذاءٍ وقع على أسقف تورين. وله خطاب أرسله إلى ملك من ملوك البرابرة، كان ثناء كله، وهو خطاب إلى «رتشارد» ملك الفيسيقوطيين، الذي كان يعتنق «مذهب أريوس»، لكنه أصبح كاثوليكيًّا سنة ٥٨٧م؛ فالبابا يكافئه على ذلك بأن يرسل له «مفتاحًا صغيرًا ينزعه من أقدس جسم، وهو جسم الرسول بطرس المبارك، لينقل إليه بركته، وملحقٌ به حديدة من سلاسله، لعلَّ تلك الحديدة التي طوقت عنقه وهو يُستشهد أن تُزيل عن عنقك أنت كل الخطايا.» وإنَّا لنرجو أن يكون صاحب الجلالة قد سُر لهذه الهدية.

وتراه يرسل تعليماته إلى أسقف أنطاكية فيما يختص باجتماع الزندقة في أفسوس، ويقول له: «لقد بلغ مسامعَنا أن أحدًا في كنائس الشرق لا يستطيع أن يظفر بأمر مقدس إلا إذا دفع الرشوة»، وهي مسألة على الأسقف أن يقوِّم اعوجاجها كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا. ويبعث إلى أسقف مرسيليا يؤنِّبه لتحطيمه تماثيل معينة كانت موضع عبادة، نعم إنَّ عبادة التماثيل باطلة، لكن التماثيل مع ذلك نافعة ولا بد من معاملتها بشيء من الاحترام. ويرسل إلى أسقفين في الغال يلومهما؛ لأن سيدة أصبحت راهبة، ثم أُرغمت فيما بعد على الزواج، «فلو كان الأمر كذلك … كان لك أن تتولَّى منصبًا في مكتب التخديم، فلستَ تستحق أن تكون أحد الرعاة.»

لقد أسلفنا طائفة من خطابات أرسلها «جريجوري» في عام واحد، فلا عجب أن يجد متسَعًا من وقته للتأمل، كما يقول هو نفسه متحسرًا على ذلك في إحدي رسائل هذا العام (رسالة رقم ١٠٢١).

ولم يكن «جريجوري» نصيرًا للدراسة العلمانية، وهو يكتب إلى «دزيديريوس» — أسقف فيين في فرنسا — يقول:

«لقد بلغ مسامعَنا ما لا نستطيع ذِكره إلا مع الشعور بالعار، وهو أن «أخوَّتكم» (أي: حضرتكم) مشتغلون بتدريس النحو لبعض الأشخاص، فأخذنا هذا الأمر على أنه انحراف، وصادف لدينا عدم القبول، حتى لقد تحول هذا النبأ في نفسي أنينًا وحزنًا؛ إذ الثناء على المسيح لا يجد مكانًا على لسان ينطق بالثناء على جوبتر؛ فبالقدر الذي يكون فيه هذا الأمر مكروهةً روايتُه عن قسيس يجب أن يُحقَّق تحقيقًا دقيقًا مستندًا إلى مختلف الشواهد، لنرى هل صحيح ما قيل عنك أو غير صحيح.»

ولقد دامت هذه العداوة تجاه العلوم الوثنية من قِبل «الكنيسة» أربعة قرون على الأقل حتى عهد «جيربرت» (سلفستر الثاني)، ولم تصبح «الكنيسة» نصيرة لدراسة هذه العلوم إلا منذ القرن الحادي عشر فصاعدًا.

ووقف «جريجوري» من الإمبراطور موقفًا أكثر احترامًا من موقفه إزاء ملوك البرابرة؛ فهو يقول في رسالة بعث بها إلى شخص كان يراسله في القسطنطينية ما يأتي: «إن ما يصادف القبول عند الإمبراطور البالغ حدًّا أقصى من التقوى، وكل ما يأمر بأدائه، وهو رهن بمشيئته، فليقرر ما يشاء، ثم يعمل على تنفيذ ما يقرره، وكل ما نتطلبه منه هو ألا يشركنا في خلع (أحد الأساقفة الأرثوذكس)، ومع ذلك فنحن تابعوه فيما يعمل ما دام في حدود التشريع، أمَّا إذا كان خارجًا على هذه الحدود فسنحتمله ما استطعنا إلى احتماله من سبيل، إلى الحد الذي لا يلحق بنا الخطيئة.» وحدث أن خُلع «الإمبراطور موريس» عن عرشه إثر ثورة من العصيان، كان زعيمها رجلًا مغمورًا اسمه «فوكاس»، وهو قائد فرقة في الجيش، ثم اعتلى هذا المغامر الجديد العرش، وراح يذبح أبناء «موريس» الخمسة على مرأًى من أبيهم، ثم ثنَّى على ذلك بقتل الإمبراطور الشيخ نفسه، وطبعًا لبس «فوكاس» التاج على يدَي بطريرك القسطنطينية، الذي لم يكن أمامه من بديل لذلك إلا الموت، لكن الذي يثير الدهشة حقًّا هو أن «جريجوري» الذي كان له في مقرِّه روما ضمان الأمان، لبُعد المسافة بينه وبين القسطنطينية، ومع ذلك جعل يكتب الرسائل المُترَعة بعبارات النفاق، يتملَّق بها هذا الغاصب وزوجته؛ فهو يكتب قائلًا: «الفرق بين ملوك الأمم وبين أباطرة الجمهورية، هو أن ملوك الأمم سادة على عبيد، أما أباطرة الجمهورية فسادة على أحرار … إنِّي لأضرع إلى الله القدير أن يصون قلبك برعاية رحمته، كلما فكرت فكرة أو فعلت شيئًا، وعسى أن يهديك الروح القدس الحالُّ في جسمك الحيواني، كلما أقمت العدل، وكلما راعيت الرحمة.» وكتب إلى زوجة «فوكاس»، وهي «الإمبراطورة ليونشيا» يقول: «أي لسانٍ يستطيع أن يتكلم، وأي عقلٍ يستطيع أن يفكر، وأي شكرٍ جزيل نحن مَدينون به لله القدير، على رصانة إمبراطوريتكم، التي أزاحت عن كواهلنا تلكم الأعباء البَواهظ التي لبثت جاثمة أمدًا طويلًا، وأعادت للإمبراطورية نِير سيادتها الرقيق.» ومن ذلك لا يسعنا إلا أن نفهم أن «موريس» قد كان وحشًا فظيعًا، مع أنه في حقيقة الأمر رجل كهل طيب القلب، والمدافعون عن «جريجوري» في ذلك يستندون إلى كونه لم يعلم شيئًا عن الفظائع التي ارتكبها «فوكاس»، لكنه لا شك قد عرف كيف اعتاد الغاصبون للعرش من البيزنطيين أن يسلكوا، ولم يتريث حتى يتحقق إن كان «فوكاس» قد جرى مَجرى غيره من الغاصبين، أم كان شذوذًا للقاعدة المألوفة.

كان إدخال الوثنيين في المسيحية جانبًا هامًّا من نفوذ «الكنيسة» الذي أخذ يزداد شيئًا بعد شيء. وكان القوط قد تم إدخالهم في العقيدة المسيحية قبل نهاية القرن الرابع على يدَي «أولفيلاس» أو «أولفيلا»، وذلك في غير صالح «المذهب الآريوسي» الذي كان عقيدة الوندال! ومهما يكن من أمر، فقد أصبح القوط بعد موت «ثيودورك» من معتنقي الكاثوليكية، وتم ذلك على خطوات تدرُّجية؛ فملك «الفيسيقوطيين» — كما رأينا — قد اعتنق العقيدة الأرثوذكسية في عهد جريجوري، واصطنع الفرنجة الكاثوليكية منذ عهد «كلوفس»، وتحول الأيرلنديون إلى المسيحية على يدَي القديس باتريك، قبل سقوط الإمبراطورية الغربية، والقديس باتريك هو سيد من سادة الريف في «مقاطعة سومرست»،٣ عاش بين الأيرلنديين من سنة ٤٣٢م حتى وفاته سنة ٦٤١م، ثم عاد الأيرلنديون بدورهم فبذلوا جهدًا كبيرًا في إدخال المسيحية في اسكتلندا وإنجلترا الشمالية، وكان «القديس كولمبا» هو أعظم المبشرين في أداء هذه المهمة، وهو غير «القديس كولمبان» الذي كتب الرسائل المستفيضة إلى «جريجوري» في تحديد يوم عيد الفصح، وفي غير ذلك من المسائل الهامة. وقد عُني «جريجوري» عناية خاصة بإدخال المسيحية في إنجلترا، فضلًا عن إدخالها في «نورثمبريا»، وكلنا يعلم كيف أنه قبل توليته منصب البابوية، قد رأى غلامين أشقرَي الشَّعر أزرقَي العيون، رآهما في سوق الرقيق في روما، فلما قيل له إنَّهما من «الإنجليز» أجاب: «بل قولوا إنهما من الملائكة.»٤ ولما تقلَّد البابوية أرسل القديس أوغسطين ليحوِّل الإنجليز إلى المسيحية، وفي رسائله خطابات كثيرة إلى «القديس أوغسطين» وإلى «أدلبرت» ملك الإنجليز، وغيرهما، في شأن هذه الإرسالية التبشيرية، وهو يأمر بألَّا تُهدم معابد الوثنية في إنجلترا، أمَّا الأوثان فتُحطم، وتبقى المعابد لتصبح كنائس بعد تدشينها. ويوجِّه القديس أوغسطين إلى البابا عدة أسئلة، مثال ذلك: هل يصح الزواج بين الرجل وابنة عمه أو خاله؟ وهل يجوز للزوجين اللذين كان بينهما اتصال في الليلة السابقة أن يذهبا إلى الكنيسة في صبيحة اليوم التالي؟ (ويجيب جريجوري على ذلك بقوله: نعم، إذا اغتسلا) وهكذا. وقد نجحت إرسالية القديس أوغسطين في ذلك كما نعلم، وهذا هو السبب في أنَّنا اليوم جميعًا من المسيحيين [يقصد الإنجليز].

إنَّ من أخصِّ الخصائص التي تميز الفترة التي كنا نتحدث عنها في هذا الفصل؛ هو أن أعلام رجالها لا يبلغون من العظمة مبلغ الأعلام من رجال عصور أخرى كثيرة، لكنهم رغم ذلك كانوا أعظم من هؤلاء من حيث عمق تأثيرهم في العصور التالية لعصرهم؛ فالقانون الروماني ونظام الأديرة والبابوية، كلها مَدين بتأثيره الطويل العميق — إلى حد كبير جدًّا — ﻟ «جستنيان» و«بندكت» و«جريجوري»، وعلى الرغم من أن رجال القرن السادس كانوا أقل مدنية من سابقيهم، إلا أنهم كانوا أكثر مدنية بكثير من أهل القرون الأربعة التالية، وقد وُفِّقوا في بناء أنظمة أدت في نهاية الأمر إلى تهذيب البرابرة. وإنه لممَّا يجدر ذِكره أن اثنين من الثلاثة الرجال الذين أسلفنا ذكرهم، كانا من عِلية أهل روما، وكان الثالث إمبراطورًا رومانيًّا. وقد كان «جريجوري» آخر الرومان بمعنى الكلمة الحقيقي الصحيح؛ فنغمته في إصدار الأوامر نغمة يبررها منصبه، لكنها فوق ذلك مستندة إلى أساس غريزي تمتد جذوره إلى كبرياء الأرستقراطية الرومانية، ولم تَعُد روما تنجب العظماء بعد عهده، أمدًا طويلًا جدًّا، لكنها في سقوطها قد نجحت في إخضاع أنفُس فاتحيها لنفوذها؛ فالتبجيل الذي أورثوه ﻟ «كرسي بطرس» قد كان نتيجة للهيبة التي أحسُّوها إزاء عرش القياصرة.

وجرى التاريخ في الشرق في اتجاه يختلف عن هذا الاتجاه؛ فقد وُلد محمد حين كان جريجوري في نحو الثلاثين من عمره.

١  من المرجع المذكور له آنفًا، فصل ٢٧، مذكرة ٥٧.
٢  تاريخ كيمبردج للعصور الوسطى، ج٢، فصل ٨.
٣  هكذا على الأقل ما يقوله Bury في كتابه عن «حياة القديس».
٤  في الإنجليزية تشابهٌ بين لفظتَي Angles وAngels، ومعناهما على التعاقب: «إنجليز» و«ملائكة». (المعرِّب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤