الفصل السابع

البابوية في العصور المظلمة

طرأت على البابوية تقلُّبات عجيبة في القرون الأربعة الممتدة من «جريجوري الأكبر» إلى «سلفستر الثاني»؛ فأحيانًا كانت خاضعة للإمبراطور اليوناني، وأحيانًا أخرى للإمبراطور الغربي، وأحيانًا ثالثة خضعت للطبقة الأرستقراطية الرومانية، ومع ذلك فقد شيَّد البابوات الأقوياء، إبان القرنين الثامن والتاسع، بابوية قوية بحكم التقاليد، وذلك بانتهازهم للفرص السانحة كلما واتتْ. وإن للفترة الواقعة بين عامَي ٦٠٠ ميلادية و١٠٠٠م لَأهميةً كبرى في فهمنا للكنيسة في العصور الوسطى، وعلاقتها بالدولة.

لقد استطاع البابوات أن يستقلوا عن الأباطرة اليونان، وليس ذلك بفضل مجهوداتهم بمقدار ما هو بسبب جيوش اللمبارديين، الذين لم يشعر البابوات إزاءهم — رغم ذلك — بذرَّة من عرفان الجميل. وظلت الكنيسة اليونانية دائمًا — إلى حد كبير — تابعة للإمبراطور، الذي اعتبر نفسه قادرًا على الفصل في الأمور المتعلقة بالعقيدة الدينية، كما عدَّ نفسه صاحب الحق في تعيين الأساقفة وعزلهم، بل في تعيين البطاركة وعزلهم أيضًا. وجاهد رهبانُ الأديرة في سبيل استقلال الكنيسة عن الإمبراطور، ومن أجل ذلك كانوا — أحيانًا — يقفون إلى جانب البابا، على حين أن بطاركة القسطنطينية، رغم استعدادهم للخضوع للإمبراطور، أبَوا أن يعترفوا بأية تبعية على الإطلاق للسلطة البابوية، حتى لقد كان الإمبراطور أحيانًا على صلات من الودِّ مع البابا، أكثر مما كان بطريرك القسطنطينية مع البابا، وذلك حين كان الإمبراطور في حاجة إلى معونة البابا ضد البرابرة في إيطاليا. والسبب الرئيسي الذي أدى في النهاية إلى انفصال الكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية؛ هو رفض الأولى أن تخضع لتشريع البابوات.

بعد أن هَزم اللمبارديون البيزنطيين، كان البابوات على حقٍّ إذ خافوا من أن يغزوهم هؤلاء البرابرة العُتاة أيضًا، فأنقذوا أنفسهم بحِلف عقدوه مع الفرنجة الذين فتحوا — بقيادة شارلمان — إيطاليا وألمانيا، وكانت ثمرة هذا التحالف هي الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي كان لها دستور يوفِّق بين مصالح البابا ومصالح الإمبراطور. إلا أن نفوذ أسرة شارلمان قد أخذ في الانحلال السريع، وحصد البابا أول الأمر ثمرات هذا الانحلال، حتى لقد رفع نقولا الأول في النصف الثاني من القرن التاسع؛ سلطة البابا إلى ذروة لم يسبقها نظير حتى ذلك العهد، غير أن الفوضى التي عمَّت كل شيء أدت إلى استقلال الطبقة الأرستقراطية من الناحية العملية، وهي الطبقة التي فرضت رقابتها على البابوية في القرن العاشر، مما كان له أسوأ النتائج. وسنخصِّص فصلًا تاليًا للحديث عن الطريقة التي استطاعت بها حركة إصلاحية عُظمى أن تنقذ البابوية، بل والكنيسة بصفة عامة، من الخضوع للأرستقراطية الإقطاعية.

كانت روما في غضون القرن السابع لا تزال خاضعةً للقوة العسكرية التابعة للأباطرة، وكان على البابوات إما أن يخضعوا وإما أن يتعرضوا لنتائج العصيان. ولقد أطاع بعضُهم حتى بلغ بطاعته حد الزندقة، مثل «أو نوريوس»، وقاوم بعضُهم الآخر — مثل «مارتن الأول» — وسجنهم الإمبراطور. وكان معظم البابوات، من ٦٨٥م إلى ٧٥٢م سوريين أو إغريق، غير أن النفوذ البيزنطي أخذ في التدهور شيئًا فشيئًا كلما ازدادت رقعة اللمبارديين في إيطاليا. وفي ٧٢٦م أصدر «الإمبراطور ليو الإسْوَري» قراره الخاص بتحطيم التماثيل الدينية، فعُد ذلك القرار زندقة، لا في أرجاء الغرب وحده، بل في رأي حزب كبير في الشرق أيضًا، وقاوم البابوات هذا القرار مقاومة عنيفة موفَّقة، حتى انتهى الأمر سنة ٧٨٧م — في عهد الإمبراطورة أيرين (وكانت بادئ الأمر وصيَّة على العرش) — أن تَخلَّص الشرق من زندقة تحطيم التماثيل الدينية. ومهما يكن من أمر، فقد جرَت الحوادث في الغرب على نحو رفَع إلى الأبد رقابة بيزنطة عن البابوية.

وفي عام ٧٥١م تقريبًا، استولى اللمبارديون على «رافنا» عاصمة إيطاليا البيزنطية، وبينما عرَّضتْ هذه الحادثة البابوات إلى خطر اللمبارديين العظيم، فقد حررتهم من كل اعتماد على الأباطرة اليونان. وكان البابوات يؤْثِرون اليونان على اللمبارديين لأسباب عدة؛ فأولًا: كانت سلطة الأباطرة شرعية، على حين كان ملوك البرابرة يُعدُّون مغتصبين، إلا إذا اعترف بهم الأباطرة. وثانيًا: كان اليونان متحضرين. وثالثًا: كان اللمبارديون قوميين، على حين احتفظت «الكنيسة» بالروح الدولية الرومانية. ورابعًا: كان اللمبارديون من مُعتنقي مذهب أريوس، وظلَّ شيء من كراهيتهم قائمًا حتى بعد ارتدادهم عن ذلك المذهب.

وحاول اللمبارديون، في عهد الملك «ليوتبراند»، أن يغزوا روما سنة ٧٣٩م، فقاومهم البابا جريجوري الثالث مقاومة شديدة، وقد توجَّه بأنظاره إلى معاونة الفرنجة في ذلك. وكان الملوك الميروفنجيون — وهم سلالة كلوفس — قد فقدوا كل سلطان حقيقي في مملكة الفرنج التي كان يحكمها «عمداء القصر». وتصادَف في ذلك العهد أن كان «عمدة القصر» «شارل مارتل» رجلًا نادر المثال في القوة والمقدرة، وهو ابن سفاح مثل وليم الفاتح؛ فهو الذي كسب في سنة ٧٣٢م الموقعة الفاصلة عند «تور» ضد العرب، فأنقذ فرنسا، لتظل جزءًا من الدول المسيحية، وكان ينبغي أن تعترف له «الكنيسة» بالجميل في نصره هذا، غير أن الضرورة المالية قد اقتضته أن يضع يديه على بعض أملاك «الكنيسة»، فقلَّل ذلك جدًّا من تقدير رجال الكنيسة لفضله. ومهما يكن من أمر، فقد وافاه الأجل مع جريجوري الثالث سنة ٧٤١م، وجاء خَلَفه «ببين» على هوى «الكنيسة» تمامًا؛ ففي سنة ٧٥٤م، أراد البابا «ستيفن الثالث» أن يلتمس طريق الخلاص من اللمبارديين، فعبر الألب، وزار «ببين» وعقد معه حِلفًا أثبتت الأيام صلاحيته العظيمة للجانبين معًا؛ فالبابا كان في حاجة إلى حماية عسكرية، بينا كان «ببين» في حاجة إلى شيء لا يستطيع عطاءه إلا البابا، وأعني به شرعية لقبه باعتباره ملكًا، في مكان آخِر الملوك الميروفنجيين، وفي مقابل ذلك، تنازل «ببين» للبابا عن «رافنا» وشتَّى أملاك «النائب» (الإسكرخس) في إيطاليا. ولما كان من غير المحتمَل أن تعترف القسطنطينية بمثل هذه الهبة، فقد كان معنى ذلك انفصاله السياسي عن الإمبراطورية الشرقية.

لو بقي البابوات خاضعين للأباطرة اليونان لاتَّخذ تطورُ الكنيسة الكاثوليكية طريقًا يختلف عما اتخذه؛ ففي «الكنيسة الشرقية» لم يظفر بطريرك القسطنطينية قط باستقلاله عن السلطة العلمانية، ولا اكتسب السيادة على غيره من رجال الكنيسة، كالسيادة التي اكتسبها البابا؛ فالأساقفة جميعًا في الأصل متساوون، ولبثت هذه الوجهة من النظر قائمة إلى حد كبير في الشرق، فضلًا عن أن الشرق كان فيه بطاركة آخرون (غير بطريرك القسطنطينية)؛ فبطريرك في الإسكندرية، وآخر في أنطاكية، وثالث في أورشليم، بينما كان البابا هو وحده البطريرك في الغرب (وعلى كل حال فقد فقدت هذه الحقيقة أهميتها بعد الفتح الإسلامي). وكان غير رجال الدين في الغرب — على خلاف الشرق — أمِّيين، وظلوا كذلك عدة قرون، فهيَّأ ذلك للكنيسة في الغرب فرصة لم تتهيأ مثلها للكنيسة في الشرق. واكتسبت روما سمعة فاقت بها كل سمعة نالتها أية مدينة شرقية؛ وذلك لأنها مزجت أخبار الإمبراطورية بأساطير استشهاد بطرس وبولس، وبأساطير بطرس باعتباره أول بابا. وقد كان يمكن للإمبراطور أن يسابق بسمعته سمعة البابا، لكن ذلك كان مستحيلًا على أي ملك من ملوك الغرب، حتى لقد كان أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة في كثير من الأحيان خِلوًا من القوة الحقيقية، فضلًا عن أنهم لم يصبحوا أباطرة إلا حين توَّجهم البابا؛ لهذه الأسباب كلها كان تحرر البابا من السيادة البيزنطية شرطًا لا مندوحة عنه لاستقلال «الكنيسة» بالنسبة للملوك العلمانيين، ولقيام ملكية بابوية في النهاية داخل حكومة «الكنيسة الغربية».

وثمة وثيقتان ذاتا خطر عظيم تنتميان إلى هذه الفترة من التاريخ، هما وثيقة «هبة قنسطنطين»، ووثيقة «الأحكام البابوية الزائفة»، ولا تعنينا ها هنا وثيقة «الأحكام البابوية الزائفة»، لكننا لا بد أن نقول كلمة عن وثيقة «هبة قنسطنطين»، فلكي يخلع رجال الكنيسة على هبة «ببين» جوًّا من الشرعية القديمة في التاريخ؛ زوَّروا وثيقة قيل عنها إنها أمر أصدره «الإمبراطور قنسطنطين»، تنازل بمقتضاه — حين أنشأ روما الجديدة — للبابا عن روما القديمة وكل أراضيها الغربية، وجاءت العصور الوسطى التالية كلها فقبلت هذه الوصية الوراثية، التي كانت أساسًا لسلطة البابا الزمنية، على أنَّها وثيقة صحيحة. وأول من كشف عن تزويرها هو «لورنزو فالا» سنة ١٤٣٩م في عصر النهضة؛ فقد كتب كتابًا «في أنواع الرشاقة التي تتصف بها اللغة اللاتينية»، وهي أنواع لم تكن بالطبع ظاهرة فيما كُتب بها في القرن الثامن. والعجيب هو أنه بعد أن نشر «لورنزو فالا» كتابه ضد «هبة قنسطنطين»، ورسالة في مدح أبيقور، عيَّنه البابا «نقولا الخامس» أمينًا رسوليًّا؛ لأن «نقولا» كانت تهمه الدراسات اللاتينية أكثر مما تهمه «الكنيسة»، ومع ذلك فلم يكن من رأي «نقولا الخامس» أن يتنازل عن «أراضي الكنيسة» على الرغم من أن حق البابا فيها قائم على أساس هذه «الهبة» المزعومة.

ويلخِّص «س. ديلايل بيرنز C. Delisle Burns» فحوى هذه الوثيقة المشهورة فيما يأتي:١

يقول قنسطنطين بعد أن أوجز خلاصة للعقيدة النيقية وسقوط آدم، ومولد المسيح؛ إنه كان مصابًا بالجذام، وإنه وجد الأطباء لا خير فيهم، فالتمس لذلك «قساوسة الكابتول»، فاقترحوا عليه أن يذبح أطفالًا عدة، ليغتسل بدمائهم، لكنه أعاد الأطفال بغير ذبح لما سكبَتْه الأمهات من دموع، وفي تلك الليلة ظهر له بطرس وبولس، وقالا له إن «البابا سلفستر» كان مختبئًا في كهف على سُراقطى، وإن في مستطاعه أن يشفيه، فذهب إلى سُراقطى، حيث أنبأه «البابا العالمي» أن بطرس وبولس رسولان لا إلهان، وأَطلَعه على صور عرفها مما تذكَّره من حلمه، واعترف بذلك أمام «الأتباع» جميعًا، وعندئذٍ فرض عليه البابا سلفستر فترة يقضيها مرتديًا قميصًا من الشَّعر ليكفِّر عن نفسه، ثم عمَّده، وعندئذٍ رأى يدًا من السماء تلمسه، وشُفي من الجذام، وأقلع عن عبادة الأوثان. وبعدئذٍ «ظن هو وأتباعه وأعضاء مجلس الشيوخ ونبلاؤه، والشعب الروماني كله؛ أن من الخير أن يهب سلطة عليا لأبراشية بطرس»، ويجعلها مقدَّمة على أنطاكية والإسكندرية وأورشليم والقسطنطينية، وبعد ذلك شيد كنيسة في قصره في «لاتران»، وخلع على البابا تاجه، والتاج الثلاثي، والأردية الإمبراطورية، ووضع تاجًا مثلثًا على رأس البابا، وأمسك بلجام جواده، «وأوصى ﻟ «سلفستر» وأتباعه بروما وكل الأقاليم والمقاطعات والمدن في إيطاليا والغرب، بحيث تخضع «الكنيسة الرومانية» إلى الأبد». وبعد ذلك ارتحل إلى الشرق؛ «لأنه ليس من اللائق أن يكون لإمبراطور دنيوي شيء من السلطان في بلاد أمَر الإمبراطور السماوي أن تقوم فيها إمارات للأساقفة، وأن يكون بها رئيس الديانة المسيحية».

لم يخضع اللمبارديون استسلامًا ﻟ «ببين» والبابا، إلا أنهم مُنوا بالهزيمة في حروب متكررة مع الفرنجة. وأخيرًا اقتحم شارلمان — ابن «ببين» — إيطاليا سنة ٧٧٤م، وهزم اللمبارديين هزيمة مُنكَرة، واعتُرف به ملكًا عليهم، وبعدئذٍ احتل روما، حيث أكد هبة «ببين» بقبوله إياها. وقد رأى البابوان اللذان عاصراه، وهما «هدريان» و«ليو الثالث»، أن من صالحهما أن يعاوناه في مشروعاته بكل طريقة ممكنة؛ ففتح معظم ألمانيا، وأدخل السكسونيين في المسيحية باضطهادهم اضطهادًا عنيفًا، وأخيرًا أعاد إلى الوجود الإمبراطورية الغربية متمثلةً في شخصه؛ إذ توَّجه البابا إمبراطورًا في روما يوم ميلاد المسيح سنة ٨٠٠م. كان قيام الإمبراطورية الرومانية المقدسة بداية عهد جديد في دنيا الآراء النظرية في العصور الوسطى، ولو أنه لم يكن له كل هذه القيمة من الناحية العملية في تلك العصور؛ فقد كانت العصور الوسطى تتعلق بالأسانيد الشرعية تعلقًا شديدًا، حتى وإن كانت تلك الأسانيد من خلق الخيال. وكانت هنالك عقيدة خيالية سادت حتى ذلك الحين، مؤدَّاها أن الأقاليم الغربية من الإمبراطورية الرومانية السابقة كانت لا تزال خاضعة من الوجهة الشرعية للإمبراطور في القسطنطينية، الذي كان يُعتبر المصدر الوحيد لكل سلطة «شرعية»، وذهب شارلمان ببراعة في اختلاق الأسانيد الشرعية، إلى أن عرش الإمبراطورية كان خاليًا؛ لأن «أيرين» التي كانت في يدها مقاليد الحكم في الشرق (والتي أطلقت على نفسها لقب إمبراطور لا إمبراطورة) كانت مغتصِبة للعرش؛ لأنه محالٌ على امرأة أن تكون إمبراطورًا، واستمد «شارل» حقَّه في شرعية الحكم من البابا، وهكذا نشأ منذ البداية نوع عجيب من العلاقة بين البابا والإمبراطور، من حيث اعتماد كل منهما على الآخر؛ فلا يجوز لأحد أن يكون إمبراطورًا إذا لم يتوِّجه البابا في روما، ومن ناحية أخرى، لبث الأباطرة الأقوياء عدة قرون يزعمون لأنفسهم حق تعيين البابوات وخلْعهم. وكانت النظرية السائدة في العصور الوسطى عن شرعية سلطة الحكومة متوقفة على الإمبراطور والبابا، اللذين كان اعتماد كل منهما على الآخر ينتقص من قوتهما معًا، غير أنه لبث عدة قرون أمرًا لا مفرَّ منه، ولم ينفكَّ التشاحن قائمًا بينهما، فيكون في صالح هذا مرة، وفي صالح ذلك مرة أخرى، حتى انتهى الأمر بهذا التشاحن أن يصبح في القرن الثالث عشر اختلافًا لا سبيل إلى التوفيق فيه بين الطرفين، وانتصر البابا، لكنه سرعان ما فقدَ سلطته الأدبية بعد نصره ذاك. على أن البابا والإمبراطور الروماني المقدس قد استطاعا أن يظلا قائمين رغم هذه العراقيل؛ أما البابا فهو قائم حتى يومنا هذا، وأما الإمبراطور فقد لبث قائمًا حتى جاء نابليون. غير أن النظرية الدقيقة التفاصيل — التي سادت القرون الوسطى فيما يختص بسلطتَي البابا والإمبراطور — بطلَ كلُّ أثر لها إبان القرن الخامس عشر، وتحطمت وحدة البلاد المسيحية التي كانت متماسكة برباطها، على أيدي ملوك فرنسا وإسبانيا وإنجلترا، ذلك من حيث الأمور الدنيوية، أمَّا في الأمور الدينية، فقد تحطَّمت تلك الوحدة بفعل «حركة الإصلاح الديني».

ويلخص «الدكتور جيرهارد سيلجر Dr. Gerhard Seeliger»٢ شخصية شارل الأكبر وما أحاط به من ظروف على النحو الآتي:
«نمَتْ أصول الحياة القوية في بلاط شارل؛ فهناك نرى العظمة والعبقرية، وإلى جانبهما نرى الدعارة أيضًا؛ لأن شارل لم يكن حريصًا في اختيار الناس الذين يجتذبهم حوله، ولم يكن هو نفسه نموذجًا يُحتذَى. وقد أصابه ما أصابه من الإباحية التي لا تعرف الحدود، ممن أحبَّهم وانتفع بوجودهم. وكان يخاطَب بوصفه «إمبراطورًا مقدسًا»، ولو أن حياته لم يكن فيها من القداسة إلا قليل، هكذا كان يخاطبه «ألكوين Alcuin»، الذي يُثْني كذلك على «روترد» ابنة الإمبراطور الجميلة قائلًا إنَّها ممتازة بفضائلها على الرغم من أنَّها ولدت طفلًا من «الكونت رودريك صاحب مان»، ولم تكن زوجته، ولم يكن شارل ليرضى قط بانفصال ابنتَيه عنه، وعلى ذلك لم يكن يسمح بزواجهما، ولهذا كان مضطرًّا أن يتعرض لما يَنجُم عن ذلك من نتائج؛ فبِنته الأخرى كذلك — برْتا — كان لها ابنان من «أنجلبرت رئيس الدير الورع في سنت ركْيير». الحق أن بلاط شارل كان وكرًا لحياة غاية في انحلال الأخلاق.»

كان شارلمان بربريًّا مليئًا بالحيوية، يربطه التحالف مع «الكنيسة» من الوجهة السياسية، غير أنه لم يكلِّف نفسه عبء التقوى الشخصية الذي يُبهِظه بغير موجب، ولم يكن ملمًّا بالقراءة والكتابة، لكنه افتتح نهضة أدبية، وكان منحلًّا في حياته، ومغرمًا بابنتيه غرامًا جاوز الحدود، إلا أنه بذل كل مستطاعه في حث شعبه على الحياة الصالحة. واستغلَّ — مثل أبيه — حماسة المبشرين الدينيين استغلالًا بارعًا لنشر نفوذه في ألمانيا، غير أنه حرص على أن يطيع الباباواتُ أوامرَه، ولقد أطاع البابوات أوامره برغبة صادقة؛ لأن روما كانت قد باتت مدينة بربرية، لا يأمن فيها البابا على حياته بغير حماية خارجية. وانقلبت الانتخابات البابوية معارك حزبية صاخبة، وحدث سنة ٧٩٩م أن هجم أعداء البابا من أهل روما عليه، وسجنوه وتهدَّدوه بفَقء عينيه. أمَّا في عهد شارل، فقد خُيل للناس كأنما عهد جديد من النظام قد بدأ، لكن لم يبقَ بعد موته من ذلك إلا الأساس النظري.

وكان ما كسبَتْه «الكنيسة» — والبابوية بصفة خاصة — أصلب أساسًا مما كسبته الإمبراطورية الغربية؛ فإنجلترا قد تم تحويلها إلى العقيدة المسيحية على أيدي إرسالية تبشيرية من رجال الأديرة برعاية جريجوري الأكبر، ولبثت أكثر خضوعًا لروما بدرجة كبيرة من الأقطار التي اعتاد الأساقفة فيها أن يروا في بلادهم حكومة ذاتية. وأمَّا ألمانيا، فأعظم الفضل في تحويلها إلى المسيحية يرجع إلى مجهود «القديس بونيفس» (٦٨٠–٧٥٤م)، وهو مبشِّر إنجليزي، كان صديقًا ﻟ «شارل مارتل» و«ببين»، كما كان على أتم ولاء للبابا. وأنشأ «بونيفس» عدة أديرة في ألمانيا، وأسس صديقه «القديس جول» الدير السويسري، الذي يُسمى باسمه، ويقول بعض الثقات إن «بونيفس» هو الذي صبَّ الزيت المقدس على «ببين» عند تنصيبه ملكًا، واتبع في ذلك طقوسًا استمدها من «سِفر الملوك الأول».

وكان «القديس بونيفس» من أهل مقاطعة ديفُن (في إنجلترا)، وتلقَّى تعليمه في «إكستر» و«وِنْشستر»، وقصد إلى «فريسيا» سنة ٧١٦م، لكنه اضطُر إلى العودة بعد أمد قصير. وفي سنة ٧١٧م ذهب إلى روما. وفي ٧١٩م أرسله البابا جريجوري الثاني إلى ألمانيا ليقوم بتحويل الألمان إلى المسيحية، وليقاوم فعل المبشرين الأيرلنديين (ولنذكر أن هؤلاء المبشرين هم الذين أخطئوا في تحديد يوم الفصح، وفي الطريقة التي يُقصُّ بها الشَّعر في قمة الرأس). وعاد إلى روما سنة ٧٢٢م بعد أن أصاب كثيرًا من التوفيق، وعندئذٍ عيَّنه جريجوري الثاني أسقفًا، فحلف له يمين الولاء، وأعطاه البابا خطابًا إلى «شارل مارتل»، وكلَّفه القضاء على الزندقة، فضلًا عن تحويل الوثنيين إلى المسيحية. وفي سنة ٧٣٢م أصبح كبيرًا للأساقفة. وزار روما للمرة الثالثة سنة ٧٣٨م. وفي ٧٤١م عيَّنه «البابا زاخرياس» قاصدًا رسوليًّا، وكلَّفه إصلاح الكنيسة الفرنجية، وأسس كنيسة «فولدا»، التي وضع لديرها قانونًا أشد صرامةً من قانون «الدير البندكتي»، وبعدئذٍ اشترك في جدال مع أسقف سولزبرج الأيرلندي، واسمه «فرجيل»، الذي ذهب إلى أن ثمة عوالم أخرى غير عالمنا، لكنه رغم ذلك قد خُلعتْ عليه صفة القداسة. وفي سنة ٧٥٤م عاد «بونيفس» إلى «فريسيا»، فاغتاله الوثنيون هو ورفقاءه، وله الفضل في أن المسيحية الألمانية كانت بابوية لا أيرلندية.

وكانت الأديرة الإنجليزية — وبخاصة ما كان منها في يوركشير — ذات خطر عظيم في ذلك الوقت؛ إذ المدنية التي كانت قائمة في بريطانيا وهي خاضعة للرومان قد امَّحت آثارها، وتركزت المدنية الجديدة التي أدخلها المبشرون المسيحيون في الأديرة البندكتية تركيزًا تامًّا؛ تلك الأديرة التي كانت تستمد كل شيء من روما مباشرة، وكان «بيدَه الموقر» Bede راهبًا من «جارو»، وأنشأ تلميذه «إجبروت» — أول كبير للأساقفة في يورك — مدرسة كاتدرائية، هي التي تلقَّى فيها «ألكوين Alcuin» تعليمه.

و«ألكُوِين» شخصية هامة في ثقافة العصر، ذهب إلى روما سنة ٧٨٠م، وقابل «شارلمان» عند «بارما» وهو في طريقه إليها، فاستخدمه الإمبراطور في تعليم اللاتينية للفرنجة، وفي تعليم أفراد الأسرة المالكة. وقد أنفق أمدًا طويلًا من حياته في بلاط شارلمان، مشتغلًا بالتعليم وبإنشاء المدارس. وفي ختام حياته أصبح رئيسًا لدير «القديس مارتن» في «تور»، وكتب كتبًا عدة، بينها تاريخ منظوم للكنيسة في يورك؛ فعلى الرغم من أن الإمبراطور لم يظفر بشيء من التعليم، إلا أنه آمن إيمانًا شديدًا بقيمة الثقافة، واستطاع مدى فترة قصيرة أن يقلل من ظلمة العصور المظلمة، غير أن مجهوده في هذا السبيل كان سريع الزوال؛ فثقافة «يوركشير» قد أزالها الدنماركيون إلى حين، وثقافة فرنسا أفسدها النورمانديون، وأغار العرب على جنوبي إيطاليا، وفتحوا صقلية، بل هجموا على روما سنة ٨٤٦م، فقد كان القرن العاشر على وجه الجملة أظلم العهود في الأقطار المسيحية؛ لأن القرن التاسع قد وجد الخلاص على أيدي رجال الدين الإنجليز، وبفضل «جوهان سكوتس» صاحب الشخصية العجيبة، الذي سأزيد فيه القول بعد قليل.

إن انحلال قوة شارلمان بعد موته، وتقسيم إمبراطوريته؛ قد أدَّى أول الأمر إلى صالح البابوية، فرفع البابا نقولا الأول (٨٥٨–٨٦٧م) قوة البابوية إلى ذروة أعلى جدًّا مما كانت قد بلغته من قبل، فاعترك مع أباطرة الشرق والغرب ومع «شارل الأصلع» ملك فرنسا، ومع «الملك لوثار الثاني» ملك اللورين، ومع هيئة الأساقفة في كل بلد مسيحي تقريبًا، وكان التوفيق حليفه في الكثرة الغالبة من هذه المعارك؛ فرجال الدين في أقاليم كثيرة كانوا قد أصبحوا معتمدين على أمراء تلك الأقاليم؛ فبدأ جهادًا يحاول به إصلاح هذه الحال، وأعظم المحاولات التي دخل في ميدانها اثنتان؛ إحداهما خاصة بطلاق «لوثار الثاني»، والثانية حول خلع «إجناتيوس» بطريرك القسطنطينية خلعًا غير مشروع؛ فسلطة الكنيسة خلال العصور الوسطى كلها، كانت على صلة وثيقة بحوادث الطلاق بين الملوك، هؤلاء الملوك الذين كانوا رجالًا احتدمت فيهم العاطفة، فرأوا أن عدم قابلية الزواج للانفصال بين الزوجين عقيدة تصلح للرعية دون الملوك، غير أن «الكنيسة» وحدها هي التي كان في مقدورها أن تجعل الزواج شرعيًّا، فإذا أعلنت «الكنيسة» عن زواج أنَّه فاسد، كان الأرجح أن يعقب ذلك نزاع على وراثة العرش، يصحبه قتال بين أفراد الأسرة المالكة؛ وعلى ذلك كانت «الكنيسة» في مركز قويٍّ جدًّا، من حيث معارضة الطلاق والزواج غير الشرعي بين الملوك، وقد فقدت الكنيسة قوتها هذه في إنجلترا أيام «هنري الثامن»، لكنها استعادتها في عهد «إدوَرْد الثامن».

ولما طلب «لوثار الثاني» طلاقه، أجابه رجال الدين في مملكته إلى طلبه، غير أن «البابا نقولا» خلع الأساقفة الذين استسلموا، ورفض رفضًا قاطعًا أن يوافق على الطلاق الذي طلبه الملك، فسار على الفور أخو «لوثار» — وهو الإمبراطور لويس الثاني — نحو روما بقصد إيقاع الرعب في نفس البابا، لكنه ما لبث أن تولَّته المخاوف التي مبعثها الخرافات، وكرَّ راجعًا، فنفذت إرادة البابا آخر الأمر.

وأمَّا مسألة «البطريرك إجناتيوس» فكانت ذات أهمية خاصة؛ لأنَّها تبيِّن أنَّ البابا لم يزل قادرًا على إثبات وجوده في الشرق؛ فقد خُلع «إجناتيوس» الذي كان يمقته «بارداس» الوصي على العرش، ووُضع مكانه «فوتيوس» الذي كان إلى ذلك الوقت من غير رجال الدين، وطلبت الحكومة البيزنطية من البابا أن يوافق على هذا الإجراء، فأرسل البابا قاصدَين رسوليَّين يبحثان في حقيقة الأمر، فلما وصلا إلى القسطنطينية صادفا عوامل الإرهاب، فوافقا، وظلت الحقائق حينًا خافية على البابا، لكنه حين عرفها قام بإجراء حاسم؛ فجمع مجلسًا في روما للبحث في الأمر، وخلع أحد القاصدَين الرسوليَّين من أسقفيته، وكذلك خلع رئيس أساقفة سرقصَّة لأنه قام بتدشين «فوتيوس»، وقرر حرمان «فوتيوس» من التبعية للكنيسة، وخلع كلَّ من كان «فوتيوس» قد عيَّنهم في مناصبهم، وأعاد إلى تلك المناصب كل من خُلعوا بسبب معارضتهم له، فغضب الإمبراطور «ميخائيل الثالث»، وأرسل إلى البابا خطابًا شديد اللهجة، فأجابه البابا قائلًا: «لقد مضى اليوم الذي كان فيه الملوكُ قساوسةً، والأباطرةُ بابوات؛ إذ فصَلَت المسيحية بين المهمتين، وليس للأباطرة المسيحيين بدٌّ من البابا فيما يمس الحياة الأبدية، بينما البابوات لا حاجة بهم إلى الأباطرة إلا فيما يتعلق بالأمور الدنيوية العابرة.» وردَّ الإمبراطور و«فوتيوس» على ذلك بعقدهما مجلسًا قرر إخراج البابا من الكنيسة، وأعلنا زندقة الكنيسة الرومانية، غير أنه لم يمضِ على ذلك إلا وقت قصير حتى قُتل «ميخائيل الثالث»، وجاء خَلَفه «باسل» فأعاد إجناتيوس معترفًا اعترافًا صريحًا بحق البابا في الفصل في الأمر بما يراه. وتم هذا النصر بعد موت نقولا بقليل، والفضل فيه يكاد يرجع كله إلى الحوادث الثورية في القصر. وبعد موت «إجناتيوس» عُيِّن «فوتيوس» في منصب البطريرك من جديد، واتسعت الهُوة بين الكنيستين الشرقية والغربية، وعلى ذلك فلا يمكن القول بأن سياسة «نقولا» في هذا الأمر كانت سياسة ظافرة من حيث نتائجها البعيدة.

وأوشك «نقولا» أن يجد أن فرض إرادته على الأساقفة أعسر من فرضها على الملوك؛ فقد ظن رؤساء الأساقفة أنهم رجال في الطبقة الأولى من الأهمية، وكرهوا أن يذعنوا مستسلمين إلى ملك من بين رجال الكنيسة؛ غير أن «نقولا» كان من رأيه أن الأساقفة مَدينون بوجودهم للبابا، ونجح طِيلة حياته، على وجه الجملة، في أن يجعل لهذا الرأي سيادة على غيره. وكان يساور تلك القرونَ شكٌّ كبير في الطريقة التي يُعيَّن بها الأساقفة؛ ذلك أنهم بادئ ذي بدء كانوا يُنتخبون ببَيعة المؤمنين لهم في مدينتهم الكاتدرائية، ثم أصبحوا يُنتخبون بعدئذٍ — في كثير من الأحيان — من جماعة الأساقفة في الأقاليم المجاورة، وأحيانًا بعد ذلك كان ينتخبهم الملك، وأحيانًا البابا، وكان من المستطاع خلع الأساقفة لأسباب خطيرة، لكن الرأي لم يكن مقطوعًا به من حيث محاكمتهم؛ فهل يحاكَمون أمام البابا أم أمام جماعة من رؤساء الدين المحليين في الإقليم؟ كل هذه النواحي الغامضة في الأساقفة جعل قوة المنصب متوقفة على نشاط شاغلِه وقدرته. أمَّا «نقولا» فقد مدَّ من النفوذ البابوي إلى حدوده القصوى المستطاعة عندئذٍ، غير أن ذلك النفوذ البابوي في ظلِّ خلفائه عاد من جديد فاضمحلَّ إلى نطاق بالغ الضيق.

وإبان القرن العاشر، خضعت البابوية خضوعًا تامًّا لرقابة الأرستقراطية الرومانية؛ فلم تكن قد تحددت حتى ذلك الحين أية قاعدة لانتخاب البابوات؛ فأحيانًا كانوا يَدينون بارتقائهم لمناصبهم لإرادة الشعب، وأحيانًا للأباطرة أو الملوك، ثم أحيانًا أخرى — في القرن العاشر — يَدينون بذلك لذوي النفوذ المحلي في مدينة روما، ولم تكن روما عندئذٍ مدينة متحضرة، كما كانت لا تزال في عهد «جريجوري الأكبر»؛ فآنًا تنشب منازعات حزبية، وآنًا تقبض إحدى الأُسر الغنية على أزِمَّة الأمور بمزجها عواملَ القوة مع عوامل الرشوة والفساد. وبلغ الضعف والفوضى في أوروبا الغربية إبان تلك الفترة حدًّا جعل الأقطار المسيحية كلها تبدو على وشك الانهيار الكامل؛ فالإمبراطور والملك في فرنسا كانا عاجزَين عن كبح جماح الفوضى الضاربة في مُلكَيهما؛ نتيجة لأمراء الإقطاع الذين كانوا من الوجهة الاسمية أتباعًا لهما. وأغار المجريون إغارات متوالية على شمالي إيطاليا، كما أغار النورمانديون على الساحل الفرنسي، حتى حدث سنة ٩١١م أن مُنحوا نورمانديا في مقابل اعتناقهم للمسيحية. على أن الخطر الأعظم في إيطاليا وفي جنوبي فرنسا كان مصدره العرب؛ إذ كان يستحيل تحويلهم إلى المسيحية، ولم يكن لديهم أي احترام ﻟ «الكنيسة»، وقد تم لهم غزو صقلية قرب نهاية القرن التاسع، وثبَّتوا أقدامهم على نهر «جارليانو» بالقرب من نابلي، وهدموا دير «مونت كاسينو» وغيره من الأديرة الكبرى، ووطَّدوا مُقامهم في جزء من ساحل بروفانس، ومن ثَم أخذوا يُغِيرون على إيطاليا ووديان الألب، ويعرقلون بذلك وسائل الاتصال بين روما والشمال.

ووقفت «الإمبراطورية الشرقية» حائلًا دون غزو العرب لإيطاليا؛ إذ غلبَتْ عربَ «جارليانو» على أمرهم سنة ٩١٥م، غير أنها لم تكن من القوة بحيث تحكم روما كما فعلت بعد الفتح الذي تم على يدَي «جستنيان»، وأصبحت البابوية مدى ما يقرب من مائة عام تابعةً للأرستقراطية الرومانية، أو لأمراء «تسكولم». وكان أقوى الرومان نفوذًا في بداية القرن العاشر هما «عضو الشيوخ» «ثيوفيلاكت» وابنته «ماروزيا»، حتى لقد أوشكت البابوية أن تكون وراثية في أسرتهما، وكان ﻟ «ماروزيا» عدة أزواج تزوجوها واحدًا في إثر واحد، كما كان لها عدد لا يُحصَى من العشاق، وقد رفعت عاشقًا من هؤلاء إلى كرسي البابوية، وأطلقت عليه اسم «سرجيوس الثاني» (٩٠٤–٩١١م)، وكان ابنهما هو البابا «يوحنا الحادي عشر» (٩٣١–٩٣٦م)، وحفيدها هو «يوحنا الثاني عشر» (٩٥٥–٩٦٤م) الذي تولَّى البابوية وهو في سن السادسة عشرة، «وهو الذي أتمَّ تدهور البابوية بحياته الداعرة، ومغازلاته التي جعل قصر لاتران مسرحًا لها».٣ وربما كانت «ماروزيا» هي أصل الرواية التي شاعت عن بابا من الإناث، كانت تُدعى «البابا جان».
وطبيعي أن يفقد بابوات هذا العهد كل نفوذ مما كان أسلافهم قد احتفظوا به في الشرق، وكذلك فقدوا النفوذ الذي كان «نقولا الأول» قد نجح في نشره على الأساقفة شمالي جبال الألب. واستطاعت المجامع الإقليمية أن تؤكد استقلالها التام عن البابا، لكنها أخفقت في الاستقلال عن الملوك أو أمراء الإقطاع، وأخذ الأساقفة شيئًا بعد شيء يزدادون شبهًا بأعلام رجال الإقطاع من الدنيويين؛ «وهكذا يبدو أن «الكنيسة» نفسها وقعت فريسة لنفس الفوضى التي أنشبت أظفارها في المجتمع الدنيوي؛ فقد انطلقت الشهوات الخبيثة كلها بغير ضابط، وراح فريق من رجال الدين، كان لا يزال محتفظًا ببعض العناية بالدين وبخلاص الأرواح، كما كانت تقتضيه واجباته الدينية؛ أقول إنَّ ذلك الفريق من رجال الدين راح يرثي — على نحو لم يسبق له مثيل — لِما أصاب العالَم من تدهور، ويوجِّه أنظار المؤمنين إلى شبح نهاية العالم، ويوم الحساب.»٤

على أنَّك تخطئ مع ذلك لو ظننت أن خوفًا ملأ صدور الناس في هذه الفترة خاصة، بأن نهاية العالم واقعة سنة ١٠٠٠م، كما ذهب الظن بكثيرين؛ فقد آمن المسيحيون، منذ القديس بولس فصاعدًا، بأن نهاية العالم قريبة، لكنهم مع ذلك مضوا في أعمالهم الدنيوية المألوفة.

غير أنَّه يجوز لك أن تتخذ من سنة ١٠٠٠م حدًّا فاصلًا مناسبًا يبيِّن أحطَّ ما تدهورت إليه المدنية في أوروبا الغربية؛ وذلك لأنه منذ ذلك التاريخ بدأت الحركة الصاعدة، واستمرت في صعودها حتى سنة ١٩١٤م، وكان التقدم في المراحل الأولى يرجع أساسًا إلى إصلاح الأديرة، وأمَّا خارج طوائف الأديرة فقد أصبح معظم رجال الدين قُساة داعرين مشتغلين بأمور الدنيا؛ إذ أفسدتهم الثروة والسلطان اللذان جاءاهم من إحسان المتقين، وظلت هذه الظاهرة تعاود الحدوث مرة بعد مرة، حتى بين طوائف الأديرة نفسها، لكن رجال الإصلاح كانوا في كل مرة يحدث فيها مثل هذا التدهور؛ ينهضون بحماسة جديدة، فيعيدون الأخلاق إلى سابق مستواها.

وسبب آخر يجعل سنة ١٠٠٠م نقطة تحوُّل، وهو أنه في هذا التاريخ تقريبًا وقفت غزوات المسلمين والبرابرة الشماليين، على الأقل فيما يتعلق بأوروبا الغربية؛ فقد جاء القوط واللمبارديون والهنجاريون والنورمانديون على موجات متتابعة، وكانت كل جماعة من هؤلاء تعتنق المسيحية إثر مجيئها، لكنها كانت في الوقت نفسه تُضعِف من تقاليد الحضارة القائمة؛ فتحطَّم بنيانُ الإمبراطورية الغربية بحيث أصبحت ممالك بربرية كثيرة العدد، وفقدَ الملوك سلطانهم على أتباعهم، وعمَّت الفوضى أرجاء البلاد جميعًا، ولم تنقطع أبدًا أسباب القتال على نطاق واسع وعلى نطاق ضيق في آن معًا، وأخيرًا انتهى الأمر بكافة الأجناس القوية الشمالية التي جاءت فاتحةً؛ أن اعتنقت المسيحية، وألقت عصاها مستقرةً هنا أو هناك. غير أن النورمانديين — وهم آخر موجة من هاتيك الأجناس الفاتحة — قد برهنوا على استعداد ممتاز لديهم في تشرُّب الحضارة؛ فاستعادوا صقلية من العرب، وأمَّنوا إيطاليا ضد المسلمين، وأرجعوا إنجلترا إلى حظيرة العالم الروماني بعد أن كان الدنماركيون قد أخرجوها منه إلى حدٍّ كبير، هذا إلى أنَّهم ما كادوا يستقرون في نورمانديا حتى سمحوا لفرنسا أن تستعيد حياتها، بل إنَّهم أعانوها إعانةً مادية في هذا السبيل.

إنَّ استعمالنا لعبارة «العصور المظلمة» لنسمِّي بها الفترة الممتدة من سنة ٦٠٠م إلى سنة ١٠٠٠م؛ يبيِّن كيف أنَّنا نحصر كل انتباهنا إلى أوروبا الغربية وحدها بغير موجب؛ ففي هذه الفترة عينِها في الصين يقع عهد أسرة «تانج» المالكة، وهو أعظم عصر شهده الشِّعر الصيني، فضلًا عن أنه عصر بارز جدًّا إذا نظرت إليه من نواحٍ كثيرة غير ناحية الشِّعر. وكذلك ازدهرت مدنية الإسلام المتألقة من الهند إلى إسبانيا، فالذي أعوَزَ الأقطارَ المسيحية في هذا العهد لم يُعوِز المدنية، بل الأمر على نقيض ذلك تمامًا؛ فلم يكن في مقدور أحد إذ ذاك أن يقدِّر بأن أوروبا الغربية هي التي ستئول إليها السيادة فيما بعد، في القوة وفي الثقافة معًا. وإنه ليبدو لنا أن مدنية أوروبا الغربية هي المدنية، لكن هذه نظرة ضيقة الأفق؛ فمعظم ما تحتوي عليه مدنيتنا من مضمون ثقافي إنَّما جاءنا من شرقي البحر الأبيض المتوسط، من اليونان واليهود. وأمَّا عن قوة السلطان، فقد كانت السيادة فيها لأوروبا الغربية منذ الحروب البونية حتى سقوط روما، أعني على وجه التقريب خلال القرون الستة الممتدة من سنة ٢٠٠ قبل الميلاد إلى سنة ٤٠٠ بعد الميلاد، وبعد ذلك التاريخ لم يكن في أوروبا الغربية «دولة» يمكن موازنتها في قوة السلطان بالصين أو اليابان أو الخلافة الإسلامية.

ويرجع امتيازنا على هؤلاء منذ عصر النهضة؛ أولًا إلى العلم والطريقة العلمية، وثانيًا إلى الأنظمة السياسية التي أخذنا نشيِّدها على خطوات وئيدة خلال العصور الوسطى، وليس هنالك في طبائع الأشياء نفسها ما يحتِّم أن يستمر لنا هذا الامتياز؛ ففي الحرب القائمة٥ قد أظهرت روسيا والصين واليابان قوة حربية عظيمة، وهي كلها بلاد تمزج الأساليب الغربية بالأفكار الشرقية؛ الأفكار البيزنطية أو الكونفوشيوسية أو الشِّنْتوية، ولو تحررت الهند فستضيف إلى هذه العناصر الشرقية عنصرًا جديدًا، وليس من المستبعَد — فيما يبدو — أنَّ المدنية خلال القرون القليلة التالية — لو لبثت قائمة — ستكون أكبر تنوعًا مما كانت عليه منذ عصر النهضة؛ فثمَّة اتجاه سيادي في الثقافة، تتطلب محاربته مجهودًا أشق مما تتطلبه محاربة السيادة السياسية؛ فقد ظلت الثقافة الأوروبية كلها أمدًا طويلًا بعد سقوط الإمبراطورية الغربية — بل ظلت حتى عهد الإصلاح الديني — محتفظةً بلون من السيادة الرومانية، وهي اليوم مصطبغة في أعيننا بلون من سيادة أوروبا الغربية. والرأي عندي هو أننا لو أردنا حياة مطمئنة في الدنيا بعد هذه الحرب القائمة؛٦ وجب علينا أن نعترف لآسيا بالمساواة معنا، لا من الوجهة السياسية وحدها، بل من الوجهة الثقافية أيضًا، ولست أدري ماذا عسى أن يترتب على ذلك من تغيرات، غير أنِّي مؤمن بأنَّها ستكون تغيرات عميقة الأثر، وذات أهمية عظمى.
١  أنا أقتبس هذا النص من كتاب لم يُنشر بعد، عنوانه «أوروبا الأولى».
٢  «تاريخ كيمبردج لتاريخ العصور الوسطى» ج٢، ٦٦٣.
٣  تاريخ كيمبردج للقرون الوسطى، ج٣، ٤٥٥.
٤  تاريخ كيمبردج للقرون الوسطى، ج٣، ٤٥٥.
٥  يقصد الكاتب الحرب العالمية (١٩٣٩–١٩٤٥م). (المعرِّب)
٦  يقصد الكاتب الحرب العالمية (١٩٣٩–١٩٤٥م). (المعرِّب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤