الفصل الثامن

يوحنَّا الاسكتلندي

أعجبُ مَن يثير الدهشة من رجال الدين في القرن التاسع هو «يوحنَّا الاسكتلندي» (الذي يُكتب في الإنجليزية على صورتين؛ فإمَّا John the Scot، أو Johannes Scotus)، وقد يضاف إليه أحيانًا اسم «إريجينا»١ (التي تُكتب في الإنجليزية على وجهين؛ فإمَّا Eriugena، أو Erigena). وقد كان يكون أقل إثارة لدهشتنا لو أنَّه عاش في القرن الخامس أو في القرن الخامس عشر؛ فهو أيرلندي يعتنق الأفلاطونية الجديدة، ومثقف بالثقافة اليونانية، ومؤمن بالمذهب البلاجي، ويأخذ بمذهب وحدة الوجود. وقد أنفق شطرًا كبيرًا من حياته في رعاية «شارل الأصلع» ملك فرنسا. ولم يُصِبه اضطهاد على الرغم من بُعده عن الأرثوذكسية بُعدًا لا شك فيه، إذا صح ما نعلمه؛ فقد رفع العقل فوق مرتبة الإيمان، ولم يأبهْ قط بسلطة رجال الدين، ومع ذلك قصَد إليه رجال الدين ليكون حَكمًا بينهم فيما نشب بينهم من خلاف.
ولكي نفهم إمكان وجود رجل كهذا، لا بدَّ من توجيه أنظارنا أولًا إلى الثقافة الأيرلندية في القرون التي تلَتْ «القديس باتريك»؛ ففضلًا عن الحقيقة المؤلمة ألمًا أشد ما يكون الألم، وهي أن «القديس باتريك» كان إنجليزيًّا، فثمَّة حقيقتان أُخريان لا تكادان تقلَّان عن هذه الحقيقة إيلامًا؛ الأولى هي أنه قد كان في أيرلندا مسيحيون قبل ذهابه إليها، والثانية هي أنه مهما يكن ما صنعه هناك في خدمة المسيحية الأيرلندية، فلم تكن الثقافة الأيرلندية مَدينةً له بأي فضل؛ ففي عهد غزوة الغال (كما يقول مؤلِّف من الغال) على يدَي «أتِلا» أولًا، ثم على أيدي القوط والوندال و«ألارِك» ثانيًا، «هرب كل العلماء المقيمين على نفس الجانب من البحر الذي وقعت عليه الغزوات، وعبروا البحر إلى البلاد الواقعة في الجانب الآخر منه، وهي أيرلندا وغيرها مما فروا إليه من بلاد، حاملين معهم إلى أهالي هذه البلاد تقدمًا في العلوم بعيد المدى»،٢ فلو كان أحد من هؤلاء الرجال قد لاذ بالفرار إلى إنجلترا، فلا بدَّ أن يكون الإنجليز والسكسون والجوت قد جذُّوا عنقه، أمَّا أولئك الذين قصدوا إلى أيرلندا فقد نجحوا — بالاشتراك مع المبشرين — في نقل جانب كبير من المعرفة والحضارة اللتين كانتا في طريقهما إلى الزوال عن أرض القارة الأوروبية؛ فلدينا شاهد قوي يبرر لنا أن نقول إنَّ الأيرلنديين قد حافظوا خلال القرون السادس والسابع والثامن، على قسط من المعرفة باليونانية، إلى جانب دراسة للآثار الأدبية اللاتينية القديمة جعلت هذه الآثار مألوفة.٣ وكانت اللغة اليونانية معروفة في إنجلترا منذ عهد «تيودور» رئيس أساقفة كانتربري (٦٦٩–٦٩٠م) الذي كان هو نفسه يونانيًّا، تلقَّى علمه في أثينا. ومن الجائز أن يكون العلم بها قد انتشر كذلك في الشمال بفضل المبشرين الأيرلنديين؛ فيقول في ذلك «مونتاجيو جيمز Montague James»: «إنَّه خلال الشطر الثاني من القرن السابع، كان التعطش للمعرفة على أشده في أيرلندا، وكانت حركة التعليم في أنشط حالاتها هناك؛ ففي أيرلندا كانت اللغة اللاتينية (واليونانية بدرجة أقل) تُدرس من وجهة النظر العلمية … وقد اندفع الأيرلنديون فيما بعد بحماسة نحو التبشير من جهة، ثم اضطرتهم الظروف القَلِقة في بلادهم من جهة أخرى أن يرحلوا إلى القارة الأوروبية أفواجًا، وعندئذٍ استطاعوا أن يكونوا أداة فعَّالة في إنقاذ أجزاء من الأدب، الذي كانوا قد عرفوا من قبل كيف يَقدُرونه قدرَه.»٤ ويصف لنا «هيرك الأوكسيري Heiric of Auxerre» حوالي سنة ٨٧٦م؛ هذه الهجرةَ التي قام بها العلماء الأيرلنديون زَرافاتٍ زَرافاتٍ، فيقول:
«إن أيرلندا قد ازدرَتْ أخطار البحر، وجعلت تهاجِر إلى شُطآننا بجموع من فلاسفتها، هجرةً توشك أن تنتقل فيها برُمَّتها؛ فكل علمائها الأعلام يقضون على أنفسهم بالنفي خارج بلادهم، نزولًا على دعوة سليمان الحكيم لهم»، والمقصود هنا من سليمان الحكيم هو شارل الأصلع.٥

لقد كانت حياة العلماء أحيانًا كثيرة حياةً متنقلة كحياة البدو، بحكم الظروف القاهرة؛ ففي بداية الفلسفة اليونانية كان كثير من الفلاسفة رجالًا فروا من وجه الفرس، وفي نهاية تلك الفلسفة اليونانية، أي في عهد «جستنيان»، انقلب الوضع وفرَّ الفلاسفة إلى الفرس. وفي القرن الخامس — كما قد رأينا الآن توًّا — فرَّ العلماء من الغال إلى الجزر الغربية خوفًا من الألمان، وفي القرن التاسع عادوا ففروا من إنجلترا وأيرلندا، خوفًا من الاسكندناويين. وفي يومنا هذا، اضطُر الفلاسفة الألمان أن يذهبوا في فرارهم إلى ما هو أبعد من الجزر الغربية؛ خلاصًا من بني وطنهم، ولست أدري هل تنقضي مدة تبلغ من الطول ما بلغَتْه المدة بين القرنين الخامس والتاسع، قبل أن يحدث فرار آخر في اتجاه عكسي كالذي حدث في القرن التاسع.

إنَّنا لا نعرف إلا قليلًا جدًّا عن الأيرلنديين في تلك الأيام التي حافظوا أثناءها — بالنيابة عن أوروبا — على تقاليد الثقافة القديمة؛ فمما نعرفه أنَّ هذه الحركة العلمية مرتبطة بالأديرة، فكانت لذلك مليئة بروح التقوى، كما تدل على ذلك كفاراتهم، لكنَّها — فيما يبدو — لم تكن حركة تُعنَى كثيرًا بدقائق اللاهوت. ولما كانت حركة تتبع الأديرة أكثر مما تتبع الأساقفة؛ فلم تصطبغ باللون الإداري الذي اتَّسمت به الدراسات الدينية في القارة الأوروبية منذ «جريجوري الأكبر» فصاعدًا. وأيضًا لما كانت تلك الحركة في أساسها مقطوعة الصلات القوية بروما؛ فقد ظلَّت تنظر إلى البابا كما كان يُنظَر إليه في عهد «القديس أمبروز»، لا كما أصبح يُنظَر إليه فيما بعد. ويذهب بعض الذاهبين إلى أن «بلاجيوس» أيرلندي، وإن يكن هناك احتمال أن يكون من أهل بريطانيا، ومن الجائز أن تكون زندقته قد لبثت قائمة في أيرلندا، حيث لم يستطع أولو الأمر أن يقتلعوها من جذورها، كما فعل أولو الأمر في بلاد الغال، رغم ما صادفهم في ذلك من عسر. وإنَّ هذه الظروف لتعيننا بعض الشيء على تعليل تلك الحرية والجِدَّة الخارقتين اللتين تتميز بهما تأملات «يوحنَّا الاسكتلندي».

ولسنا ندري شيئًا عن بداية حياة «يوحنَّا الاسكتلندي» أو نهايتها؛ إذ كل ما نعرفه هو الفترة الوسطى من حياته، التي استخدمه خلالها ملك فرنسا؛ فالمفروض أنَّه وُلد سنة ٨٠٠م تقريبًا، وأنَّه مات حوالي سنة ٨٧٧م، على أنَّ التاريخين كليهما ضرْب من التخمين. وكان في فرنسا إبان العهد الذي كان منصبُ البابوية فيه مُسنَدًا إلى البابا نقولا الأول، فصادف — في سيرة حياته — نفس الأشخاص الذين صادفناهم عند ذِكر ذلك البابا، مثل شارل الأصلع، والإمبراطور ميخائيل، والبابا نفسه.

كان شارل الأصلع هو الذي دعا «يوحنَّا» إلى الحضور إلى فرنسا حوالي سنة ٨٤٣م، وكان هو الذي نصَّبه رئيسًا لمدرسة البلاط. وقد قام خلاف حول الجبر والإرادة الحرة بين «جوتسشوك» الراهب، وبين رجل مهمٍّ من رجال الدين، وهو «هنكمار» رئيس أساقفة ريمز؛ أمَّا الراهب فكان يأخذ بمبدأ الجبر، وأمَّا رئيس الأساقفة فكان يأخذ بمبدأ الإرادة الحرة، وأيَّد «يوحنَّا» رئيسَ الأساقفة برسالة عنوانها: «في الجبر الإلهي»، غير أنَّه أسرف في تأييده إسرافًا لا يتفق مع الحكمة؛ فالموضوع شائك، وكان «أوغسطين» قد تناوله بالبحث في كتابته عن «بلاجيوس»، لكنَّه كان من المخاطرة أن توافق على رأي أوغسطين في ذلك، وكانت مخاطرة أشد أن تخالف رأيه، ما دامت الموافقة أو المخالفة مصبوبة في عبارة صريحة. كان «يوحنَّا» مؤيدًا للإرادة الحرة، وقد كان من الجائز أن يمضي رأيه في ذلك دون أن يسترعي أنظار الرقباء، لكن الذي أثار عليه ثائرة الغضب هو الطريقة الفلسفية الخالصة، التي عالج بها وجهة نظره، وليس معنى ذلك أنَّه ادَّعى بأنه ينكر شيئًا مما أقرَّه اللاهوت، لكنَّه ذهب إلى أنَّه اعتمد فيما يقول على أساس من الفلسفة، وهو أساس لا يعتمد على الوحي، وهو يساويه، بل يفوقه قوة، وزعم بأن العقل والوحي كلاهما مصدران للصدق، ولذا فلا يمكن أن يقع بينهما اختلاف، لكن إذا حدث أن خُيِّل إلينا ذات مرة أنَّهما مختلفان؛ كان العقل أحقَّ لدينا بالقبول. إنَّ الديانة الصحيحة في رأيه هي بعينها الفلسفة الصحيحة، والعكس صحيح أيضًا، وهو أن الفلسفة الصحيحة هي بعينها الديانة الصحيحة، فأصدر مَجمعان دينيان حكمهما على كتابته هذه بالكفر، وذلك في عامَي ٨٥٥م، ٨٥٩م، وأطلق المجمع الأول من هذين على تلك الكتابة اسم «عصيدة الاسكتلندي».

ومع ذلك فقد نجا من العقاب بسبب تأييد الملك له؛ إذ يظهر أن قد كانت بينه وبين الملك علاقة الود الذي ترتفع معه الكُلفة، فلو كنَّا لنأخذ بما يرويه «وليم من أهل مالمزبري William of Malmesbury» قلنا إنَّ الملك سأل «يوحنَّا» مرةً وهو يتعشى معه: «ما الذي يُفرِّق بين «الاسكتلندي» وبين السكِّير؟»٦ فأجابه «يوحنَّا» بقوله: «لا يُفرِّق بينهما إلا مائدة العشاء.» ومات الملك سنة ٨٧٧م، وبعد هذا التاريخ لا نعلم شيئًا عن «يوحنَّا»، فيذهب بعض القائلين إلى أنَّه هو أيضًا مات في السنة نفسها، وتذهب روايات أخرى إلى أن «ألفِرِد الأكبر» قد دعاه إلى إنجلترا، وهنالك أصبح رئيسًا لدير «مالمزبري» أو دير «أثلني»، وبعدئذٍ قتله الرهبان، غير أن الحقيقة، فيما يظهر، هي أن هذا القضاء المنحوس قد نزل برجل آخر اسمه «يوحنَّا».

وقام «يوحنَّا» بعد ذلك بترجمة كتاب فيه محاكاة ﻟ «ديونيسيوس» من اللغة اليونانية، وقد كان لهذا الكتاب شهرة عظيمة في العصور الوسطى؛ ذلك أنَّه لما جعل القديس بولس يعظ في أثينا، تعلَّق به بعض الناس وآمنوا به، وبينهم رجل يُدعى «ديونيسيوس الأريوباجيتي» (الأفعال، فصل ١٧، ٥٤).

ولسنا نعرف اليوم عن هذا الرجل شيئًا غير هذا، لكن العصور الوسطى عرفت عنه كثيرًا جدًّا؛ فقيل إنَّه سافر إلى فرنسا وأنشأ دير «القديس دنيس» — أو هكذا ما يرويه على الأقل «هلدوين»، الذي كان رئيسًا للدير قُبيل وصول «يوحنَّا» إلى فرنسا — فضلًا عن أنَّه كان المؤلفَ المعروف لكتاب هامٍّ، يوفِّق بين الأفلاطونية الجديدة والمسيحية، وتاريخ هذا الكتاب مجهول، لكنَّه لا شكَّ يقع قبل سنة ٥٠٠م وبعد أفلوطين، وقد انتشر ذكره والإعجاب به في بلاد الشرق، وأمَّا في الغرب فلم يكن معروفًا على نطاق واسع، حتى جاء الإمبراطور اليوناني ميخائيل، وأرسل سنة ٨٢٧م نسخة منه إلى «لويس التقيِّ»، الذي أعطاه بدوره لرئيس الدير «هلدوين» الذي أسلَفْنا ذِكره. ولما كان «هلدوين» هذا يؤمن بأن كاتب الكتاب هو تلميذ القديس بولس، ذلك الرجل المشهور الذي أنشأ الدير الذي كان «هلدوين» رئيسًا له؛ فقد أحبَّ أن يعلم ما يحويه ذلك الكتاب، غير أن أحدًا لم يستطع أن يترجم عن اليونانية، حتى جاء «يوحنَّا» فقام بالترجمة التي لا بدَّ أن يكون قد أدَّاها مغتبطًا؛ لأن آراءه الخاصة كانت قريبة الشبه جدًّا بآراء «محاكي ديونيسيوس»، الذي أصبح منذ ذلك الحين فصاعدًا، ذا أثر قوي في الفلسفة الكاثوليكيَّة في الغرب.

وأُرسلت الترجمة التي قام بها «يوحنَّا» إلى «البابا نقولا» سنة ٨٦٠م، فأساء ذلك إلى البابا؛ لأنَّه لم يُستأذَن قبل نشر الكتاب، وأمر «شارل» أن يُرسَل «يوحنَّا» إلى روما، وهو أمر كان نصيبه الإهمال. أمَّا عن مادة الكتاب، وعن القدرة بصفة خاصَّة، التي أبداها «يوحنَّا» في الترجمة؛ فلم يجد البابا شيئًا يُعاب، فقد قد عرض البابا الترجمة على «أناستاسيوس» أمين مكتبته — وهو عالم باليونانية ممتاز — عرضها عليه ليرى رأيه فيها، فدهش «أناستاسيوس» أن يرى رجلًا من قُطر بعيد همجي، قد ألمَّ بهذه المعرفة العميقة باللغة اليونانية.

وأعظم مؤلفات «يوحنَّا» كتاب (باليونانية) «في تقسيم الطبيعة»، وهو كتاب لو جاء في العصور الاسكولائية لوُصِف بأنَّه «واقعي»، ومعنى ذلك حينئذٍ هو أنه يذهب إلى ما ذهب إليه أفلاطون من أن المعاني الكلية تأتي قبل الجزئيات، وقد أدخل في الطبيعة ما ليس له وجود إلى جانب ما هو موجود؛ فالطبيعة كلها تقع في أربعة أقسام: (١) ما يَخلُق ولا يُخلَق. (٢) ما يَخلُق ويُخلَق. (٣) ما يُخلَق لكنَّه لا يَخلُق. (٤) ما لا يَخلُق ولا يُخلَق. وبديهي أنَّ القسم الأول هو الله، والقسم الثاني هو المُثُل (الأفلاطونية) الكائنة في الله، والثالث هو الأشياء التي تقع في المكان والزمان، والعجيب أنَّه يجعل القسم الرابع دالًّا على الله كذلك، لا باعتباره «خالقًا»، بل باعتباره «نهاية» و«غاية» للأشياء جميعًا؛ فكل شيء يفيض عن الله بالإشعاع، يجاهد أن يعود إليه، وعلى ذلك تكون نهاية هذه الأشياء كلها هي نفسها بدايتها، والقنطرة التي تصل «الواحد» بالكثرة، هي «الكلمة» (اللوغوس).

وهو يُدخِل أشياء متنوعة في عالم اللاوجود، مثل الأشياء المادية التي لا تنتمي إلى العالم المعقول، والخطيئة؛ لأنَّها تعني فقدان النموذج الإلهي. وليس يتمتع بالوجود الكياني إلا ذلك الذي يَخلُق ولا يُخلَق؛ فهو جوهر كل شيء؛ إذ الله هو بداية الأشياء ووسطها ومنتهاها، ولا يعلم الناس، بل لا يعلم الملائكة شيئًا عن جوهر الله، بل إنَّه مجهول لنفسه بمعنًى من معاني هذه الكلمة؛ «إنَّ الله لا يعرف نفسه، هو لا يعرف ما هو، لأنَّه ليس مما يُسأل عنه بكلمة «ما»؛ فمن وجه من الوجوه، تراه غير معلوم لنفسه وغير معلوم لأي عقل كائنًا ما كان.»٧ ويمكن رؤية وجود الله في وجود الأشياء، ويمكن رؤية حكمته في النظام الذي ينتظم الأشياءَ، وفي حركة الأشياء يمكن رؤية حياته، ووجوده هو «الأب»، وحكمته هي «الابن»، وحياته هي «الروح القدس»، لكن «ديونيسيوس» على صواب في قوله باستحالة إطلاق اسم كائنًا ما كان على الله إطلاقًا صحيحًا، وثمَّة ضرْب من اللاهوت الإيجابي، الذي يرى أن «الله» هو الحق وهو الخير وهو الجوهر إلخ، غير أن هذه الألفاظ — التي تُثبِت صفات إيجابية لله — ليست صوابًا إلا على سبيل الرمز؛ وذلك لأن كل هذه المحمولات لها أضداد، مع أن الله لا ضدَّ له.

وطائفة الأشياء التي تَخلُق وتُخلَق؛ تشمل كل العلل الأولى، أو النماذج الأولى، أو المُثُل الأفلاطونية. ومجموعة هذه العلل الأولى هي «الكلمة» (اللوغوس)، وعالم المُثُل أزلي، ومع ذلك فهو مخلوق؛ فبفعل «الروح القدس» تكون هذه العلل الأولى سببًا في نشأة الأشياء الجزئية، على أن مادية هذه الأشياء الجزئية وهْمٌ من الأوهام، وحين يقال إنَّ الله خلق الأشياء من «لا شيء»، فهذا اللاشيء لا بدَّ أن يُفهَم على أنَّه الله نفسه، بمعنى أنَّه يسمو على كل معرفة.

والخَلْق عملية أزليَّة، والعنصر الذي منه تتكون الأشياء المحدودة بحدود المكان والزمان؛ هو الله. وليس المخلوق كائنًا متميزًا عن الله، بل إن المخلوق كائن في الله، والله يُبدي نفسه في المخلوق على نحو يجلُّ عن الوصف؛ «إنَّ الثالوث المقدس يحب نفسه فينا وفي نفسه،٨ وهو يرى نفسه، ويحرك نفسه».

ومصدر الخطيئة هو الحرية؛ إذ نشأت الخطيئة لما اتجه الإنسان إلى نفسه بدل أن يتجه نحو الله. وليس للشر أسباب من الله؛ لأنَّ الله لا يحتوي على فكرة الشر، فالشر هو لا كائن وليس له أساس؛ لأنَّه لو كان ذا أساس يصدر عنه لكان ضرورة محتومة، إنَّما الشر حرمان من الخير.

و«الكلمة» (اللوغوس) هي المبدأ الذي يُرجِع الكثرة إلى «الواحد»، ويُرجِع الإنسان إلى الله؛ فهي إذن «مُخلِّص» العالم، وباتحاد الإنسان بالله يصير جزؤه الذي يُحدِث هذا الاتحاد جزءًا إلهيًّا.

ولا يوافق «يوحنَّا» أتباع المذهب الأرسطي في إنكاره العنصريةَ على الأشياء الجزئية، ويصف أفلاطونَ بأنه ذروة الفلاسفة، غير أن الثلاثة الأنواع الأولى من أقسام الطبيعة كما يذكرها؛ مستمَدة بطريق غير مباشر من مبادئ أرسطو التي يسميها: المحرِّك الذي لا يتحرك، والمحرك الذي يتحرك، والمتحرك الذي لا يُحرَّك، وأمَّا القسم الرابع في تقسيم «يوحنَّا» — وهو قسم ما لا يَخلُق ولا يُخلَق — فمستمَد من مذهب «ديونيسيوس» القائل بأن كل الأشياء ترجع إلى الله.

وواضح من الخلاصة السابقة أن «يوحنَّا الاسكتلندي» لم يكن متمسكًا بالدين في أصوله الأولى؛ فمذهبه في وحدة الوجود الذي يرفض به أن يجعل للمخلوقات حقيقة عنصرية؛ مُنافٍ للعقيدة المسيحية، وتفسيره للخلق الصادر من «لا شيء» يستحيل أن يقبله أي لاهوتي عاقل، و«ثالوثه» الذي يشبه ثالوث أفلوطين شبهًا قريبًا، لا يحتفظ بالمساواة بين «الأشخاص الثلاثة»، ولو أنَّه يحاول أن يتحوَّط في هذه النقطة. هذه الزندقات تبيِّن استقلال عقله، وإن الإنسان ليدهش أن يراها في القرن التاسع، ويجوز أن قد كانت نظرته «الأفلاطونية الجديدة» شائعة في أيرلندا، كما كانت شائعة بين «الآباء اليونان» في القرنين الرابع والخامس، ومن الجائز لو عرفنا أكثر مما نعرفه الآن عن المسيحية الأيرلندية من القرن الخامس إلى القرن التاسع؛ لوجدنا «يوحنَّا» أقلَّ إثارةً لدهشتنا منه الآن. ومن جهة أخرى، يجوز أن يكون معظم ما وردَ لديه من أنواع الزندقة راجعًا إلى تأثير «محاكي ديونيسيوس»، الذي ظنَّه الناس خطأً أنه مُتمشٍّ مع أصول الدين، بسبب علاقته المزعومة بالقديس بولس.

ولا شكَّ في أن رأيه عن الخلق بأنه لم يقع في الزمان؛ هو كذلك من قبيل الزندقة، وهو رأي يضطره إلى القول بأن ما ورد في سِفر «التكوين» عن الخَلْق إنما أُريدَ به التشبيه؛ فلا ينبغي أن نأخذ الجنة وخروج آدم بالمعنى الحرفي. وهو يصادف مشكلات في موضوع الخطيئة، شأنه في ذلك شأن سائر موحِّدي الوجود؛ فهو يرى أن الإنسان لم يكن في الأصل مخطئًا، ولما كان خِلوًا من الخطيئة كان بغير تميز بين الذكر والأنثى، وهذا القول يناقض بالطبع العبارة القائلة بأن الله «خَلَق الذَّكر والأنثى». ويذهب «يوحنَّا» إلى أن انقسام البشر ذكورًا وإناثًا، إنما جاء نتيجة لاقتراف الخطيئة؛ ففي المرأة تتجسد الطبيعة البشرية الشهوانية الساقطة، وسيعود هذا التميز بين الذَّكر والأنثى فيَمَّحي في نهاية الأمر، وسيكون لنا جسد روحاني خالص.٩ وما الخطيئة إلا إرادة انحرف مجراها عن جادة الصواب، بحيث افترضت الخير في شيء فأخطأت؛ لأنَّه لم يكن خيرًا، وعقابها على ذلك طبيعي، وهو عبارة عن الكشف عن حقيقة شهواتها الآثمة، لتتبيَّن كم هي عبث وغرور، على أن العقاب لا يمتدُّ إلى الأبد، فمن رأي «يوحنَّا» — وهو في ذلك مثل «أوريجن» — أنه حتى الشياطين ستجد خلاصها في النهاية، ولو أنَّها ستتأخر في ذلك عن سائر الناس.
كان لترجمة «يوحنَّا» لكتاب «محاكي ديونيسيوس» تأثير كبير في الفكر الوسيط، مع أن كتابه Magnum Opus في تقسيم الطبيعة؛ لم يكن له إلا تأثير طفيف جدًّا، ووُجِّهت إليه تهمة الزندقة مرارًا، ثم انتهى الأمر سنة ١٢٢٥م بأن أمَر «البابا أونوريوس الثالث» بأن تُحرَق كل نسخة من هذا الكتاب، وشاء حُسن الحظ ألا يُنفَّذ أمره هذا تنفيذًا يحقِّق له كل ما أراد.
١  إضافة هذا الاسم هي من قبيل اللغو الذي لا يفيد جديدًا؛ لأنها تجعل اسمه «يوحنَّا الأيرلندي الذي هو من أيرلندا»؛ ذلك أن لفظة «اسكتلندي» كانت تعني «أيرلنديًّا» في القرن التاسع.
٢  تاريخ كيمبردج للعصور الوسطى، ج٣، ص٥٠١.
٣  هذا الموضوع مبحوث بعناية في تاريخ كيمبردج للعصور الوسطى، ج٣، فصل ١٩، والنتيجة التي ينتهي إليها البحث تؤيد معرفة الأيرلنديين لليونانية.
٤  المرجع المذكور آنفًا، ص٥٠٧-٥٠٨.
٥  المرجع المذكور آنفًا، ص٥٢٤.
٦  «الاسكتلندي» في الإنجليزية معناها Scot (وهو اسم يوحنَّا الاسكتلندي)، و«سكِّير» معناها Sot، والعلاقة اللفظية واضحة بين الكلمتين في الإنجليزية، لكنها بالطبع غير ظاهرة في الترجمة العربية. (المعرِّب)
٧  راجع «برادلي» Bradley في قصور كل عمليات الإدراك؛ فهو يرى أن لا حقيقة تكون صوابًا كل الصواب، على أن خير حقيقة يمكن الوصول إليها ليست مما يخضع في تصويبه للعقل.
٨  قارن ذلك بمذهب سبينوزا.
٩  قارن ذلك بما يقوله القديس أوغسطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤