الفصل التاسع

إصلاح الكنيسة في القرن الحادي عشر

للمرة الأولى — منذ سقوط الإمبراطورية الغربية — نرى أوروبا إبان القرن الحادي عشر تتقدَّم تقدمًا سريعًا، لا تبدِّده الأيام فيما بعد؛ فقد كان ثمَّة تقدُّم ما أثناء النهضة أيام شارلمان، لكنه أثبت أنه لم يكن تقدمًا على أساس متين. وأمَّا في القرن الحادي عشر، فقد كان الإصلاح ثابتًا ومتعدد الجوانب؛ بدأ بإصلاح الأديرة، ثم امتد بعدئذٍ حتى شمل البابوية وإدارة الكنائس. ولما دنا القرن من ختامه، أثمرت حركة الإصلاح بواكير الفلاسفة الاسكولائيين، وطُرد العرب من صقلية على أيدي النورمانديين، واعتنق الهنجاريون الديانة المسيحية، فأقلعوا عن أعمال النهب وقطع الطرق، وأدَّى الغزو النورماندي لفرنسا وإنجلترا إلى إنقاذ هذين القُطرين من عودة الاسكندنافيين إلى اجتياحهما، وبلغ فن العمارة حدًّا بعيدًا من السمو بغتة، بعد أن كان بربريًّا إلا في الجهات التي انتشر فيها النفوذ البيزنطي، وارتفع مستوى التعليم ارتفاعًا عظيمًا بين رجال الدين، كما ارتفع إلى درجة ملحوظة في الطبقة الأرستقراطية من غير رجال الدين.

كانت حركة الإصلاح في أولى مراحلها، لا تجد في عقول القائمين بها من الحوافز إلا الدوافع الأخلاقيَّة؛ ذلك أن رجال الدين — مَن انخرط منهم في سلك الطوائف ومَن لم ينخرط — قد تدهوروا في عاداتهم، فنهض رجال مخلصون للعمل على أن يسلك رجال الدين سلوكًا يتفق مع مبادئهم، لكن كان يكمن وراء هذا الدافع الخلقي الخالص؛ دافع آخر، ربما كان لا شعوريًّا في بادئ الأمر، لكنه أخذ في العلانية شيئًا فشيئًا، وأعني به الدافع إلى إتمام الفصل بين رجال الدين ورجال الدنيا، وبهذا الفصل تزداد قوة الفريق الأول؛ فكان من الطبيعي أن يؤدي انتصار الإصلاح في «الكنيسة» إلى نتيجة مباشرة، وهي النزاع العنيف بين الإمبراطور والبابا.

كان الكهنة يؤلفون طبقة قوية قائمة بذاتها في مصر وبابل وفارس، لكنهم لم يكونوا كذلك في اليونان أو روما. ونشأت التفرقة بين رجال الدين ورجال الدنيا نشأة تدريجية في أولى مراحل «الكنيسة المسيحية»، فإذا قرأنا عن «الأساقفة» في «العهد الجديد» وجدنا الكلمة لا تعني ما تعنيه الآن لنا، وقد كان للفصل بين رجال الدين وسائر الناس مَظهران؛ مظهر مذهبي وآخر سياسي، وكان هذا المظهر السياسي مرتكزًا على المظهر المذهبي، فاختص رجال الدين بطائفة من القدرات العجيبة، خصوصًا فيما يتعلق بالأسرار المقدسة، باستثناء التعميد، الذي كان في مستطاع أهل الدنيا القيام به، أمَّا الزواج والغفران والدعاء قُبيل الموت؛ فقد كانت مستحيلة بغير معونة رجال الدين، بل كان موضوع استحالة القربان إلى لحم المسيح ودمه أهم من ذلك كله في العصور الوسطى، ولم يكن غير القسيس يستطيع أن يقوم بمعجزة القداس، وإنَّما أصبح مبدأ تحويل القربان إلى لحم المسيح ودمه جزءًا من العقيدة الدينية في القرن الحادي عشر، لا قبله، ولو أنَّه كان قبل ذلك موضع إيمان عند الناس بصفة عامة.

وكان في مستطاع القساوسة — بما لهم من قدرات معجزة — أن يقرروا إذا كان الفرد من الناس قد كُتب عليه أن يقيم إلى الأبد في الجنَّة أو في النَّار، فلو مات وهو محروم من حق التبعية للكنيسة وجبَتْ عليه النَّار، أمَّا إذا مات بعد أن قام له القسيس بأداء الطقوس الواجبة كلها، فمصيره النهائي إلى الجنَّة، على شرط أن يكون قد تاب توبة صحيحة، واعترف بخطاياه اعترافًا صادقًا، ومع ذلك، فعليه قبل دخول الجنَّة أن يقضي بعض الوقت — وقد يكون هذا الوقت أمدًا بالغًا في الطول حدًّا بعيدًا — يعاني فيه آلام التطهير، وفي مقدور القساوسة أن يقصِّروا أمد هذه الفترة، لو قاموا بصلاة القدَّاس على روحه، وقد كانوا على استعداد للقيام بهذه الصلاة لو دُفع لهم في أدائها أجرٌ مالي مناسب.

وليكن معلومًا أن هذا كله كان موضع إيمان حقيقي راسخ، لدى القساوسة ولدى كافة الناس على السواء، ولم يكن مجرد مذهب ديني يعبِّرون عنه تعبيرًا صوريًّا رسميًّا، وكم من مرة أُتيح للقساوسة بفضل قواتهم المعجزة أن يظفروا بالنصر على الأمراء العُتاة وهم على رءوس جيوشهم. ومع ذلك، فقد كانت قوة الإعجاز عند القساوسة محدودة بشيئين؛ فهي أولًا محدودة إزاء غضبات طوائف الناس من غير رجال الدين، إذا انطلقت غضباتهم غير آبِهة بالأوضاع المقررة، فحطمتها، وهي محدودة ثانيًا بما كان بين رجال الدين أنفسهم من انقسام؛ فأهل روما لم يكونوا يُضمِرون من الاحترام لشخص البابا إلا القليل، قبل عهد جريجوري السابع، فلم يكن ثمَّة ما يردعهم عن اختطافه وسجنه، وتجريعه السم، ومُناصَبته القتال، كلما أغرَتْهم بمثل هذه الأفعال منازعاتُهم الحزبية الصاخبة، فكيف نوفِّق بين هذه الروح فيهم وبين ما كانوا يؤمنون به من عقائد؟ لا شكَّ أن تعليل هذا التعاون بين الفعل والعقيدة يرجع — إلى حد ما — إلى ضعفهم في ضبط أنفسهم، كما يرجع كذلك، من ناحية أخرى، إلى فكرة عندهم بأن التوبة مستطاعة عند الاحتضار، وسبب آخر، كان أقل ظهورًا في روما منه في سائر الأنحاء، وهو أن الملوك كانوا قادرين على طيِّ الأساقفة في بلادهم تحت إرادتهم، وبذلك يظفرون لأنفسهم من السحر الكهنوتي بمقدار يكفي لنجاتهم من اللعنة والعذاب؛ ولذلك كان لا مناص من تنظيم الكنيسة، وإيجاد حكومة موحَّدة تضم رجالها جميعًا، لكي تكون لرجال الدين قوة ونفوذ، ولقد تحققت هذه الأهداف خلال القرن الحادي عشر باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من إصلاح رجال الدين إصلاحًا خُلقيًّا.

وقد كان يستحيل أن تتحقق لرجال الدين قوتهم باعتبارهم طائفة واحدة؛ إلا على حساب تضحيات كبيرة من جانب أفراد منهم. والرذيلتان الكُبريان اللتان توجَّه نحوهما المصلحون الكنسيون جميعًا بمجهوداتهم؛ هما بيع المناصب الدينية، وتسَرِّي الغانيات، ولا بدَّ أن نقول كلمة في كلٍّ منهما.

أَثْرت «الكنيسة» من صدقات المحسنين الأتقياء، فأصبح كثيرون من الأساقفة يملكون الضِّياع الفسيحة، بل كان لقساوسة الأبراشيات — على وجه الإجمال — ما هيَّأ لهم في تلك العصور حياة رغيدة. وكان تعيين الأساقفة عادة — من الوجهة العملية — في أيدي الملك، غير أنه كان أحيانًا يُترَك لأحد أشراف الإقطاع التابعين للملك، وكان من المألوف أن يبيع الملك مناصب الأسقفية، حتى لقد أصبح هذا المورد في الحقيقة جزءًا هامًّا من موارده، فكان الأسقف بدوره يبيع كل ما يملك بيعه من امتيازات الكنيسة التي تخضع لسلطته، ولم يكن ذلك سرًّا يدور في الخفاء؛ فهذا هو «جربرت» (سلفستر الثاني) يمثِّل الأساقفة حين يتصورهم يقولون: «لقد دفعتُ ذهبًا وظفرتُ بالأسقفية، ولست أخشى شيئًا إذا أنا تصرفتُ على النحو الذي يردُّ لي ذهبي، فها أنا ذا أُعيِّن القسيس في مقابل الذَّهب، وأُعيِّن شمَّاس الكنيسة في مقابل كومة من الفضة، فانظر إلى الذَّهب الذي كنتُ دفعتُه، قد عاد موفورًا إلى كيس نقودي كما كان.»١ ولقد وجد «بطرس دميان» في ميلان سنة ١٠٥٩م أن كل رجل من رجال الكنيسة في المدينة — من كبير الأساقفة فنازلًا — متَّهم ببيع مناصب الكنيسة، ولم تكن هذه الحالة في ميلان شذوذًا بالنسبة لغيرها من المدن، فالكل في ذلك سواء.

كان بيعُ المناصب الدينية خطيئةً بالطبع، لكن ذلك لم يكن الاعتراض الوحيد الذي يُوجَّه إليه؛ فهو فضلًا عن ذلك قد جعل اختيار الرجال للمناصب الدينية يقوم على أساس الثروة لا الجدارة، وأكَّد سلطة غير رجال الدين في تعيين الأساقفة، وخضوع الأساقفة للحكام الدنيويين، كما كان من شأنه أن يجعل الأسقفية جزءًا من النظام الإقطاعي، أضف إلى ذلك كله أن الرجل إذا ما اشترى منصبًا لنفسه، وجَّه اهتمامه بطبيعة الحال إلى استرداد ما دفعه، وذلك من شأنه أن يشغله بأمور الدنيا أكثر مما يشتغل بالأمور الروحانية؛ فلهذه الأسباب لم يكن بدٌّ من شنِّ الحملة على بيع المناصب الدينية؛ لأنه جانب لا غنى عنه في جهاد الكنيسة في سبيل القوة.

وقُل شيئًا شبيهًا جدًّا بهذا عن عزوبة رجال الكنيسة؛ فكثيرًا ما تحدَّث مصلحو القرن الحادي عشر عن «التسرِّي»، مع أن الدقة في التعبير كانت تقتضيهم أن يتحدثوا عن «الزواج»، نعم إن رهبان الأديرة بالطبع كانوا محرومين من الزواج بحكم عهدهم الذي أخذوه على أنفسهم بالطهر، لكن لم يكن ثمَّة منعٌ ظاهر للزواج بالنسبة لرجال الدين العلمانيين؛ فقساوسة الأبراشيات في «الكنيسة الشرقية» يُباح لهم حتى اليوم أن يتزوجوا، وكان معظم أساقفة الأبراشيات في الغرب حتى القرن الحادي عشر متزوجين، وأمَّا الأساقفة فقد استندوا إلى عبارة قالها القديس بولس، وهي: «إذن فلا مندوحة للأسقف عن بعده عمَّا يُعاب؛ فيكون زوجًا لزوجة واحدة»؛٢ فالجانب الخلقي في هذا لم يكن واضحًا وضوحَه في مسألة بيع المناصب الدينية، غير أن الإصرار على عزوبة رجال الدين كان يستهدف غايات سياسية شبيهة جدًّا بالغايات التي تصدَّت إليها الحملة ضد بيع المناصب الدينية.٣
إذا تزوج القساوسة حاولوا بطبيعة الحال أن يورِّثوا أبناءهم أملاك «الكنيسة»، وكان في وسعهم أن يحققوا هذه الغاية بطريقة شرعية إذا أصبح أبناؤهم قساوسة بدورهم؛ ولذلك كان من أول الإجراءات التي اتخذها حزب الإصلاح — حين آلت إليه السلطة — أن يحرِّم تنصيب أبناء القساوسة.٤ غير أن الفوضى الضاربة في تلك العصور جعلت من الممكن للقساوسة — إذا كان لهم أبناء — أن يلتمسوا وسائل غير مشروعة لاقتطاع أجزاء من أراضي «الكنيسة» لأنفسهم، أضف إلى هذا العامل الاقتصادي حقيقة أخرى، وهي أنه لو كان القسيس رب أسرة كجيرانه، فإن ذلك لا يصوِّره في أعينهم متميزًا منهم كما تكون الحال لو امتنع عن الزواج؛ فقد كان الناس يُعجَبون إعجابًا شديدًا بالعزوبة منذ القرن الخامس على الأقل فصاعدًا، ولو أراد رجال الدين أن يظفروا باحترام الناس لهم احترامًا يتوقف عليه نفوذهم؛ فمن المفيد لهم جدًّا أن يختلفوا عن سائر الناس اختلافًا واضحًا، وذلك يكون بامتناعهم عن الزواج. وليس من شكٍّ في أن رجال الإصلاح أنفسهم كانوا يؤمنون بإخلاص أن الحياة الزوجية، ولو أنها ليست في الحقيقة بالحياة الآثمة، إلا أنها أحطُّ منزلةً من حياة العزوبة، فإنْ هي إلا نزول عند رغبات البدن الضعيف أمام شهواته، ويقول القديس بولس في ذلك: «إذا لم يستطيعوا العفة فليتزوجوا»٥ لكن رجل الدين الحقَّ ينبغي أن يستطيع «الامتناع مع العفة»؛ ولهذا كانت عزوبة رجال الدين ضرورة محتومة لكي تكون للكنيسة سلطة أدبيَّة.

ولننتقل بعد هذه المقدمات العامة إلى التاريخ الفعلي لحركة الإصلاح التي تناولت «الكنيسة» في القرن الحادي عشر.

ترجع بداية الحركة إلى إنشاء دير «كِلُوني» سنة ٩١٠م، على يدَي «وليم التقيِّ» دوق أكويتانيا، فقد كان هذا الدير منذ بدايته مستقلًّا عن كل سلطة خارجية، اللهم إلا سلطة البابا، فضلًا عن أن رئيسه قد جُعل له نفوذ على الأديرة الأخرى التي تَدين بفضل إنشائها إلى ذلك الدير، ولئن كانت الكثرة الغالبة من الأديرة في ذلك العصر غنية متراضية، فإن دير «كلوني» — على الرغم من اجتنابه التطرف في الزهد — قد حرص على أن يحتفظ لنفسه بالوقار والحشمة. ولما ذهب رئيسه الثاني «أودو» إلى إيطاليا أُعطيتْ له الرقابة على أديرة رومانية كثيرة، ولو أنه لم يوفَّق إلى النجاح في كل حالة؛ «فدَير فارفا، الذي انقسم على نفسه شُعبتين تتبعان رئيسين متنافسين، كانا قد قتلا سلفهما، اعترض على «أودو» إدخاله رهبانًا من دير «كلوني» في ديرهم، كما أنه تخلَّص من الرئيس الذي عيَّنه «ألبيرك» بقوة السلاح، بأن قتله بالسم»٦ (ألبيرك هو حاكم روما الذي دعا «أودو» للحضور إليها). وفي القرن الثاني عشر برُدتْ حماسةُ «كلوني» نحو الإصلاح، واعترض «القديس برنارد» على جمال بنائه؛ لأنه كان — كمعظم الجادِّين في عصره — يعتقد أن المباني الفخمة لرجال الكنيسة علامة من علامات الزهو الآثم.

وأنشأ المصلحون خلال القرن الحادي عشر طوائف دينية أخرى كثيرة؛ فأنشأ «روميوالد» الراهب المتقشف «طائفة كمالدوليسي» سنة ١٠١٢م، وكان من أتباعه «بطرس دميان»، الذي سنتحدث عنه بعد قليل. وأنشأ «برونو الكولوني» سنة ١٠٨٤م «طائفة الكرثوسيين»، التي لم تُقلِع قط عن صرامتها في التقشف. ونشأت «طائفة سستركيا» سنة ١٠٩٨م، وهي التي الْتَحق بها «القديس برنارد» سنة ١١١٣م، وقد الْتَزمتْ «قاعدةَ بندكت» التزامًا لا يحيد؛ فحرَّمت استخدام النوافذ ذات الزجاج الملوَّن، واستعانت في أعمالها بإخوان من غير رجال الدين، كانوا يطالبونهم بقطع العهود على أنفسهم، لكنهم يحرمون عليهم تعلم القراءة والكتابة، وأهمُّ ما كانوا يُستخدَمون فيه هو أعمال الزراعة، لكنهم كانوا يُستخدمون في أعمال أخرى كذلك، مثل البناء. ومن هذه الطائفة «السستركية» دير «فونتينز» في يوركشير (بإنجلترا)، وهو بناء يستوقف النظر، بالنسبة إلى كونه يتبع طائفة ظنت أن كل جمال من فعل الشيطان.

ولقد تطلَّب إصلاح الأديرة شجاعة ونشاطًا عظيمين، كما سيتبيَّن من حادثة «فارفا» التي لم تكن حادثة فريدة في نوعها بأية حال من الأحوال. وحيث نجح المصلحون في إصلاحهم كان أصحاب السلطة الدنيوية يؤيدونهم؛ فكان هؤلاء المصلحون وأتباعهم هم الذين مهدوا السبيل لإصلاح البابوية أولًا، ثم لإصلاح «الكنيسة» في جملتها ثانيًا.

على أن إصلاح البابوية كان معظمه أولَ الأمر من عمل الإمبراطور؛ فآخر بابا من البابوات الوراثيين هو «بندكت التاسع»، الذي اختير سنة ١٠٣٢م، وقيل إنَّه لم يكن عندئذٍ يتجاوز عامه الثاني عشر، وهو ابن «ألْبيرك» حاكم «تسكولم»، الذي صادفناه فيما سلف حين تحدثنا عن «أودو رئيس الدير»، فكان كلما ازدادت سنُّه ازداد فجورًا، حتى لقد جزع الرومان أنفسهم لفجوره، وأخيرًا بلغت فظاعته حدًّا لم يسعه معه إلا أن يقرر الاستقالة من البابوية لكي يتزوج، فباع البابوية لأبيه في العِماد، الذي أصبح فيما بعد «جريجوري السادس»، وعلى الرغم من أن هذا الرجل قد ظفر بالبابوية عن طريق الشراء، إلا أنه كان من رجال الإصلاح، وكان صديقًا ﻟ «هلدبراند» (جريجوري السابع)، ومع ذلك فطريقة حصوله على البابوية قد جاوزت من البشاعة الحدَّ الذي يمكن معه التسامح؛ فجاء الإمبراطور الشاب «هنري الثالث» (١٠٣٩–١٠٥٦م)، وهو المصلح التقي الذي أبَى أن يبيع المناصب الدينية، رغم فداحة ذلك بالنسبة إلى موارده، محتفظًا لنفسه بحق تعيين الأساقفة؛ جاء هذا الإمبراطور إلى إيطاليا سنة ١٠٤٦م، وكان عندئذٍ في عامه الثاني والعشرين، وخلع «جريجوري السادسَ» متهمًا إياه ببيع المناصب الدينية وشرائها.

احتفظ هنري الثالث لنفسه طَوال حكمه بحق تعيين البابوات وخلعهم، غير أنه استخدم هذا الحق استخدامًا حكيمًا جاء في صالح حركة الإصلاح؛ فبعد أن تخلَّص من «جريجوري السادس» عيَّن أسقفًا ألمانيًّا، هو «سويدجر البامبرجي»، وتنازل الرومان عن حقوقهم في الانتخاب، تلك الحقوق التي كانوا يطالبون بها، والتي كثيرًا ما تمتعوا بها فعلًا، فكانوا يسيئون استعمالها في كل حالة تقريبًا، ومات البابا الجديد في السنة التالية لذلك، ثم مات مُرشَّح الإمبراطور للبابوية بعد ذلك مباشرة — مات مسمومًا كما أُشيع — فاختار هنري الثالث أحد أقربائه، وهو «برونو التُّولي»، الذي أصبح «ليو التاسع» (١٠٤٩–١٠٥٤م)، وقد كان مصلحًا جادًّا، سافر كثيرًا، وعقد مجامع كثيرة، وأراد محاربة النورمانديين في جنوبي إيطاليا، لكنه لم يكن في ذلك موفَّقًا. وكان «هلدبراند» صديقًا له، بل تستطيع أن تقول إنه كان تلميذه، وعند موته عيَّن الإمبراطور بابا آخر، وكان آخِر من عيَّنه من البابوات، وهو «جبهارد الإيخستاني»، الذي أصبح «فكتور الثاني» سنة ١٠٥٥م، ومات الإمبراطور في السنة التالية، ثم مات البابا في السنة التي بعدها، ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، لم تعد العلاقات بين الإمبراطور والبابا كما كانت عليه من الود؛ فبعد أن اكتسب البابا سلطة أدبية بمساعدة هنري الثالث، راح يطالب أولًا باستقلاله عن الإمبراطور، ثم يطالب ثانيًا بتفوقه عليه، وبهذا بدأ الصراع العظيم الذي دام مائتي عام، وانتهى بهزيمة الإمبراطور؛ وعلى ذلك فإن سياسة هنري الثالث في إصلاح البابوية ربما كانت سياسة قصيرة النظر، إذا وضعنا النتائج البعيدة في حسابنا.

وحَكم الإمبراطورُ التالي — هنري الرابع — مدى خمسين عامًا (١٠٥٦–١١٠٦م)، وكان بادئ أمره قاصرًا، فتولَّت الوصايةَ عنه أمُّه «الإمبراطورة آجنيز»، واعتلى «ستيفن التاسع» كرسي البابوية عامًا واحدًا، فلما مات اختار الكرادلة بديلًا له، بينما استعاد الرومان حقوقهم الانتخابية التي كانوا قد تنازلوا عنها، واختاروا بديلًا آخر، ووقفت الإمبراطورة في صف الكرادلة، وقد اتخذ مرشحهم اسم «نقولا الثاني»، وقد كان عهده هامًّا على الرغم من أنه لم يدم أكثر من ثلاثة أعوام؛ ذلك أنه عقد صلحًا مع النورمانديين، وبهذا جعل البابوية أقل اعتمادًا على الإمبراطور. وقد حدَّد الطريقة التي يُنتخب بها البابوات؛ فجعلها تتم بمرسوم، يقتضي أن يقوم بالانتخاب أولًا الأساقفةُ الكرادلة، ثم يتلو ذلك انتخابٌ يقوم به سائر الكرادلة، ثم يجيء بعد ذلك انتخاب يقوم به رجال الكنيسة عامةً وشعب روما، الذي كان اشتراكه في الانتخاب — كما نعتقد — صوريًّا خالصًا، وأما من يقوم بعملية الانتخاب الحقيقية فهم الأساقفة الكرادلة. وجعل مقر الانتخاب هو روما إذا أمكن ذلك، على أنه يجوز إجراء الانتخاب في مكان آخر، إذا كانت الظروف تجعل إتمام الانتخاب في روما متعذرًا أو غير مرغوب فيه. ولم يكن للإمبراطور قسط في عملية الانتخاب؛ فجاء هذا المرسوم — الذي لم يُقبَل إلا بعد جهاد — خطوةً جوهرية في سبيل تحرير البابوية من رقابة غير رجال الدين.

واستصدر «نقولا الثاني» مرسومًا يقضي ببطلان التعيينات في المناصب الدينية في المستقبل، إذا كان المعيِّنون ممن ثبتت عليهم تهمة بيع المناصب الدينية. ولم يجعل للمرسوم قوة رجعية؛ لأنه لو فعل ذلك لأبطل الأغلبيةَ العظمى من تعيينات القساوسة القائمين عندئذٍ.

وبدأت معركة هامة في ميلان أثناء بابوية نقولا الثاني؛ وذلك أن رئيس الأساقفة اقتفى أثر التقاليد الأمبروزية (نسبةً إلى القديس أمبروز)، وطالَب بشيء من استقلاله عن البابا، وكان هو وأتباعه من رجال الكنيسة على تحالف مع الطبقة الأرستقراطية، كما كانوا جميعًا من أشد المعارضين لحركة الإصلاح، على حين تمنَّت طبقات التجار والطبقات الدنيا أن ينصرف رجال الكنيسة للتقوى؛ فقامت لذلك اضطرابات شعبية، طالَب فيها الناس بامتناع رجال الكنيسة عن الزواج، وتألفت حركة قوية للإصلاح، تُدعى «باتارين»، لمناهضة رئيس الأساقفة ومؤيديه. وكان البابا من أعوان الإصلاح، فأرسل سنة ١٠٥٩م إلى ميلان قاصدًا رسوليًّا، هو «القديس بطرس دميان» المشهور، وكانت ﻟ «دميان» رسالةٌ ألَّفها وأسماها «في قدرة الله التي لا تَحدُّها الحدود»، ذهب منها إلى أن الله في مستطاعه أن يفعل أشياء تضادُّ قانون التناقض، وأن يُلغِي الماضي (وهي نظرة رفضها القديس توما، وأصبحت تُعَد منذ عهده مخالفةً لأصول الدين). وعارض الطريقة الديالكتية، وقال عن الفلسفة إنها خادمة للَّاهوت، وقد كان — كما رأينا — من أتباع الراهب «روميوالد»، ولم يأخذ بنصيب في تسيير الشئون العامة إلا كارهًا؛ وذلك أن وقوف قداسته في جانب البابوية كان يُعتبر كسبًا عظيمًا، مما جعل أنصار الإصلاح يبذلون جهودًا متواصلة قوية لحمله على تأييد حركة الإصلاح، حتى أذعن أخيرًا لتمثيل البابا، وذهب ممثِّلًا له في ميلان، وهناك سنة ١٠٥٩م ألقى خطابًا على جمع من رجال الكنيسة في مضارِّ بيع المناصب الدينية، فثارت ثائرة رجال الكنيسة أول الأمر، حتى باتت حياته في خطر، لكن بلاغته الخطابية استمالتهم إليه آخر الأمر، وراحوا يعترفون بإثمهم واحدًا واحدًا، والدموع تنساب من محاجرهم، بل أضافوا إلى ذلك استعدادهم للإذعان إلى ما تأمر به روما. وفي عهد البابا التالي قامت منازعة بين البابا وبين الإمبراطور حول أسقفية ميلان، انتصر فيها البابا آخر الأمر، بمعاونة أعضاء الجمعية الإصلاحية «باتارين».

ولما مات «نقولا الثاني» سنة ١٠٦١م، كان «هنري الرابع» قد بلغ رُشده، فقام بينه وبين الكرادلة نزاع حول انتخاب رجل لمنصب البابوية؛ إذ إن الإمبراطور لم يوافق على مرسوم انتخاب البابا، ولم يكن مستعدًّا للتنازل عن حقوقه في ذلك الانتخاب، واستمر النزاع بين الفريقين ثلاثة أعوام، وانتهى بتغليب اختيار الكرادلة، دون أن يقتضي الموقف استخدام القوة استخدامًا صريحًا بين الإمبراطور ورجال الكنيسة، وإنما تقرر الأمر ورُجحتْ كفة على كفة؛ لِما كان يتمتع به البابا الذي اختاره الكرادلة من حسنات واضحة للعيان؛ لأنه كان رجلًا يجمع بين الفضيلة وخبرة الحياة، وتلميذًا سابقًا ﻟ «لانفرانك» (الذي أصبح فيما بعد رئيسًا لأساقفة كانتربري)، ولما مات هذا البابا — وهو إسكندر الثاني — أعقبه انتخاب «هلدبراند» (جريجوري السابع).

و«جريجوري السابع» (١٠٧٣–١٠٨٥م) من أبرز البابوات مكانةً، وقد كان بارزًا قبل ذلك بزمن طويل، وكان له تأثير قوي في توجيه السياسة البابوية؛ فإليه هو يرجع الفضل في أنْ باركَ «البابا إسكندر الثاني» «وليم الفاتح» في غزوته لإنجلترا، وكان يؤيد النورمانديين في إيطاليا وفي الشمال معًا، وكان يتمتع برعاية «جريجوري السادس»، الذي اشترى البابوية ليقاوم بيع المناصب الدينية، حتى لقد لبث «هلدبراند» بعد خلْع هذا البابا عامين في مطارح النفي، ثم أنفق الشطر الأكبر من بقية حياته في روما، ولم يكن واسع الاطلاع، لكنه كان يستلهم الوحي الأعظم من القديس أوغسطين، وكان قد تلقَّى تعاليمه لا من تآليف أوغسطين مباشرة، بل بواسطة بطله «جريجوري الأكبر»، وبعد توليه منصب البابوية اعتقد في نفسه أنه اللسان المعبر عن «القديس بطرس»، وأكسبه ذلك درجة من الثقة بالنفس، لم يكن ثمة ما يبررها لو وزَنَّاها بموازين الأمور الدنيوية، وقد اعترف بأن سلطة الإمبراطور هي الأخرى مستمَدة من أصل إلهي. وكان بادئ ذي بدء يشبِّه البابا والإمبراطور معًا بالعينين، لكنه لما اعتدل مع الإمبراطور فيما بعد أخذ يشبِّههما بالشمس والقمر — والبابا بالطبع هو الشمس. ولا بد للبابا أن يكون متفوقًا على زميله في الأخلاق، وعلى ذلك وجب أن يكون له حق خلْع الإمبراطور إذا خرج الإمبراطور على قواعد الأخلاق، وليس ثمة خروج على الأخلاق أبشع من مقاومة البابا. كل هذا كان يقع عنده موقع الإيمان الصادق العميق.

عمل «جريجوري السابع» على إقرار عزوبة رجال الدين، أكثر مما عمله في هذا السبيل أي بابا من سابقيه، وقد عارض رجال الكنيسة في ألمانيا؛ وعلى هذا الأساس وغيره مالوا نحو تأييد الإمبراطور، على أن عامة الشعب من غير رجال الدين كانوا في كافة أرجاء البلاد يؤْثِرون لقساوستهم العزوبة. وأثار «جريجوري» شغبًا واضطرابًا بين عامة الشعب ضد القساوسة المتزوجين وزوجاتهم، وكثيرًا ما عانى هؤلاء وأولئك من ذلك أفظع القسوة في سوء المعاملة، ودعا الشعبَ ألا يحضر القداس إذا قام به قسيس متمرد، وقرر أن الطقوس المقدسة على أيدي القساوسة المتزوجين باطلة، وأن أمثال هؤلاء القساوسة لا يجوز لهم دخول الكنائس، وكان كل ذلك يثير المعارضة بين القساوسة، والتأييد من جانب الشعب، وهكذا أصبح البابا حبيب الشعب، حتى في روما التي كثيرًا ما تعرضت فيها حياة البابوات للخطر.

وبدأت في عهد «جريجوري» المشكلة الكبرى الخاصة ﺑ «طقوس التنصيب»؛ وذلك أنه حين كان الأسقف يُنصَّب في أسقفيته، كان يُخلَع عليه خاتم وعصًا ليكونا رمزين لمنصبه، وكانت العادة أن يخلعهما عليه الإمبراطور أو الملك (حسب حالة الإقليم الذي يقع فيه التنصيب)، لأن الإمبراطور أو الملك هو السيد الإقطاعي للأسقف، فجاء «جريجوري» وأصرَّ على أن يخلعهما البابا، وكان هذا النزاع جزءًا من الجهاد في سبيل فصل السُّلَّم الكنسي عن السُّلَّم الإقطاعي، ودام النزاع أمدًا طويلًا، لكن البابوية قد ظفرت فيه آخر الأمر بنصر حاسم.

ووقع خلاف على منصب كبير الأساقفة في ميلان، أدَّى إلى حادثة «كانوسا»؛ ففي سنة ١٠٧٥م عيَّن الإمبراطورُ كبيرَ الأساقفة، بموافقة معاونيه، فاعتبر البابا ذلك اعتداءً على حقوقه، وهدد الإمبراطور بإخراجه من التبعية للكنيسة وبالخلع، فردَّ الإمبراطور على ذلك بجمع مجلس من الأساقفة في «ورمز»، وهناك أعلن الأساقفة خروجهم على الولاء للبابا، وكتبوا إليه خطابًا يتهمونه فيه بالزنا والحنث في اليمين، وبما هو شر من هذا وذاك، وهو سوء معاملته للأساقفة، وكذلك أرسل إليه الإمبراطور خطابًا يزعم فيه أنه فوق كل قضاء على هذه الأرض، وأعلن الإمبراطور وأساقفته خلع البابا، فقرر البابا إخراج الإمبراطور وأساقفته من التبعية للكنيسة، وأعلن أنهم أصبحوا مخلوعين عن مناصبهم، وبهذا تم إعداد المسرح للحوادث.

وكان النصر في الفصل الأول من الرواية للبابا؛ فالسكسون الذين كانوا من قبل قد ثاروا على «هنري الرابع» ثم عادوا فعقدوا معه الصلح؛ ثاروا عليه من جديد، وتحالف الأساقفة الألمان مع «جريجوري»، واهتز العالم كله هزة عنيفة للطريقة التي عامل بها الإمبراطورُ البابا؛ ونتيجةً لهذا كله، قرر هنري في العام التالي (١٠٧٧م) أن ينشد الغفران لدي البابا. وفي أعماق الشتاء، راح هو وزوجته وابنهما الرضيع، ومعهم طائفة قليلة من الأتباع، يعبرون ممر «مونت سنيس»، ووقف ضارعًا أمام قلعة كانوسا، حيث كان البابا مقيمًا، فتركه البابا أمام القلعة ثلاثة أيام، حافي القدمين، مرتديًا رداء التوبة، وأخيرًا سُمح له بالدخول، فلما تاب وحلف اليمين بأن يتبع في مقبل الأيام ما يأمر به البابا، في علاقته بمعارضيه من الألمان؛ غُفر له، وقُبل من جديد عضوًا في الجماعة المسيحية.

على أن نصر البابا كان نصرًا موهومًا؛ لأنه وقع في شَرَك القواعد التي يفرضها اللاهوت كما يعتقده هو، ومن هذه القواعد قاعدة تقضي بالغفران للتائبين، والعجيب أن ينخدع هنا بحيلة هنري، فيفرض أن توبته صادقة، وسرعان ما أدرك خطأه، ولم يعد في مستطاعه بعدئذٍ أن يؤيد أعداء هنري من الألمان، الذين أحسُّوا كأنما خانهم البابا؛ ومن ثَم أخذت الحوادث تجري في غير صالحه.

انتخب أعداء هنري من الألمان إمبراطورًا آخر، يُدعى «رودلف»، ورفض البابا أول الأمر أن يتخذ في أمر المنافسة بين «هنري» و«رودلف» قرارًا، حاسبًا عندئذٍ أن القرار في ذلك يكون هو مصدره، وأخيرًا لما تبيَّن خديعة هنري في توبته، وعانى من ذلك ما عانى، قرر سنة ١٠٨٠م قرارًا في صالح «رودلف»، غير أن «هنري» في ذلك الوقت كان قد تغلب على معظم معارضيه في ألمانيا، واستعان بمؤيديه من رجال الكنيسة على انتخاب بابا آخر، واستصحبه سنة ١٠٨٤م في حملة له دخل بها روما، وهناك توَّجه البابا صنيعته تتويجًا صحيح الطقوس، غير أنهما معًا اضطرا إلى التقهقر السريع أمام النورمانديين الذين جاءوا لإنقاذ «جريجوري»، وعندئذٍ اجتاح النورمانديون روما بأعمال السلب اجتياحًا فظيعًا، وأخذوا «جريجوري» معهم وغادروا المدينة، وظل البابا بمثابة السجين بين أيديهم، حتى جاءه الموت في العام التالي.

وهكذا بدا كأنما انتهت سياسته بالكوارث، لكن الحقيقة الواقعة هي أن خلفاءه نهجوا على منواله، بشيء من الاعتدال أدخلوه على سياسته، وكان الخلاف قد انتهى إلى حل وسط مؤقت في صالح البابوية، غير أن النزاع في جوهره كان يعز على التوفيق، وسنعود في فصول تالية إلى ذكر مراحله التي جاءت بعد ذلك.

وبقي علينا أن نقول كلمة عن النهضة العقلية في القرن الحادي عشر؛ فقد كان القرن العاشر خِلوًا من الفلاسفة، إذا استثنينا «جربربت» (البابا سلفستر الثاني ٩٩٩–١٠٠٣م)، وحتى هذا كان أقرب إلى عالم الرياضة منه إلى الفيلسوف. لكنه لما تقدم القرن الحادي عشر، أخذ يظهر رجال ذوو شهرة فلسفية بالمعنى الصحيح، وأهم هؤلاء هما «أنسلم» و«روسلين»، غير أن هنالك طائفة من الفلاسفة غيرهما تستحق الذِّكر، وكانوا جميعًا رهبانًا على صلة بحركة الإصلاح.

ولقد أسلفنا ذِكر «بطرس دميان» الذي كان أكبرهم سنًّا. ومن الشخصيات المهمة «برنجار التوري» (مات ١٠٨٨م)، وأهميته راجعة إلى كونه ينتمي إلى المذهب العقلي في الفلسفة إلى حد ما؛ فقد ذهب إلى أن العقل فوق النقل، ولما أراد أن يؤيد رأيه هذا استند إلى «يوحنَّا الاسكتلندي»، الذي وُجِّهت إليه الاتهامات في هذه المناسبة بعد موته. وأنكر «برنجار» تحوُّل القربان إلى دم المسيح ولحمه، ثم أُجبر مرتين على نقض ما قرر من قبل إنكاره، ونهض «لانفرانك» يحارب زندقاته في كتاب له عنوانه «جسد المسيح ودمه» (De Corpore et Sanguine Domini). وقد وُلد «لانفرانك» في «بافيا»، ودرس القانون في «بولونيا»، وأصبح ديالكتيًّا من الطراز الأول، غير أنه ترك الديالكتيك ليشتغل باللاهوت، ودخل دير «بك» في نورمانديا، حيث كان على رأس مدرسة هناك، وهو الذي عيَّنه «وليم الفاتح» رئيسًا لأساقفة كانتربري سنة ١٠٧٠م.

كان «القديس أنْسِلْم» — مثل «لانفرانك» — إيطاليًّا وراهبًا في بك، ورئيسًا لأساقفة كانتربري (١٠٩٣–١١٠٩م)، وكان وهو رئيس لأساقفة كانتربري يتبع مبادئ «جريجوري السابع»، وعندئذٍ وقع في نزاع مع الملك، وأشهر ما يشتهر به هو أنه مبتكر «الحُجة الوجودية» برهانًا على وجود الله، وهي كما يأتي في صورتها التي وضعها فيها: إننا نُعرِّف الله بأنه أعظم موضوع للفكر ممكن، وإذا كان ثمة موضوع للفكر لا يقابله مسمًّى موجود، كان هنالك موضوع للفكر آخر، شبيه به تمامًا، يتصف بالوجود، فيكون أعظم؛ وإذن فلا بدَّ أن يكون أعظمُ ما يطرأ على الفكر من موضوعات متصفًا بالوجود، وإلا لأمكن أن يكون هناك ما هو أعظم منه؛ وإذن فالله موجود.

ولم يحدث قط أن قَبِل رجال اللاهوت هذه الحُجة، ووُجِّه إليها النقد حينئذٍ، ثم أُسدل عليها ستار النسيان حتى جاء النصف الثاني من القرن الثالث عشر، وعندئذٍ دحضها «توما الأكويني»، ومنذ ذلك الحين كان لرأيه الشيوع بين رجال اللاهوت، لكن الحجة صادفت حظًّا أوفر بين الفلاسفة؛ فأحياها «ديكارت» في صورة أَدخلَ فيها بعض التعديل، وظنَّ «ليبنتز» أنه من الممكن تصحيحها بإضافة ملحق لها يبرهن على أن الله «ممكن»، واعتقد «كانْت» أنه قد هدمها هدمًا لا قيام لها بعده، ومع ذلك تراها — من بعض وجوهها — تكمن أساسًا لفلسفة «هجل» وأتباعه، وهي تظهر في مبدأ «برادلي» القائل: «إن ما يمكن وجوده، وما يتحتم وجوده؛ موجود.»

وواضح أن حجة لها مثل هذا التاريخ البارز لا بد من أخْذها بالاحترام، سواء كانت صحيحة أو باطلة. والمسألة على حقيقتها هي هذه: هل هناك أي شيء يمكننا أن نضعه موضع التفكير، بحيث نستطيع أن نبرهن على وجوده خارج تفكيرنا، معتمدين في البرهان على مجرد كوننا نفكر فيه؟ لو سُئل أي فيلسوف هذا السؤال لودَّ أن يجيب عنه بقوله نعم؛ لأن مهمة الفيلسوف هي أن يقول أشياء عن العالم، معتمدًا في قوله على مجرد التفكير أكثر منه على الملاحظة، ولو كان الجواب ﺑ «نعم» هو الجواب الصحيح؛ كان هنالك جسر يصل الفكرَ الخالص بعالم الأشياء، وإذا لم يكن جوابًا صحيحًا لم يكن هنالك مثل هذا الجسر. وترى أفلاطون في مثل هذه الصورة التي تتناول الموضوع بصفة عامة؛ يستخدم ضربًا من ضروب الحجة الوجودية ليبرهن على أن للمُثُل حقيقة موضوعية. لكن أحدًا قبل «أنسلم» لم يضع الحجة في صورتها المنطقية الخالصة، وهي إذ كسبت في الصفاء المنطقي؛ خسرت إعجاب الناس بها، لكن حتى هذا يُعَد حسنة من حسنات «أنسلم».
وأما بقيَّة فلسفة «أنسلم» فمستمَدة من «القديس أوغسطين»، ومنه اكتسبت كثيرًا مما بها من العناصر الأفلاطونية؛ فهو مؤمن بالمُثُل الأفلاطونية، ومنها يستمد برهانًا آخر على وجود الله، وباستخدامه بعض الحجج «الأفلاطونية الجديدة» يزعم أنه لا يبرهن على وجود الله وحده، بل يبرهن كذلك على صحة «الثالوث» (ولنذكرْ أن أفلوطين كان له «ثالوث»، ولو أنه ليس مما يعدُّه المسيحي متمشيًا مع أصول دينه). ويعتبر «أنسلم» العقلَ خاضعًا للإيمان، وهو يقول في ذلك: «إنني أُومِن لكي أفهم»، فهو يتبع أوغسطين في العقيدة بأنه بغير إيمان يستحيل على الإنسان أن يفهم. ويقول عن الله إنه ليس عادلًا ولكنه هو العدالة، ولنذكرْ أن «يوحنَّا الاسكتلندي» يقول أشياء كهذه، ومصدرهما المشترك هو أفلاطون؛ ﻓ «القديس أنسلم» — كسابقيه في الفلسفة المسيحية — يجري مع النزعة الأفلاطونية أكثر مما يتَّجه مع النزعة الأرسطية؛ ولهذا السبب تراه لا يتصف بالخصائص المميزة للفلسفة التي تُسمى «بالاسكولائية»، وهي الفلسفة التي بلغت ذروتها في «توما الأكويني». ويمكن اعتبار «روسلين» هو البادئ بمثل هذا الضرب من الفلسفة، وقد كان معاصرًا ﻟ «أنسلم»، ولو أنه يصغر عنه بسبعة عشر عامًا؛ ولذا ﻓ «روسلين» يحدد بداية طريق جديد، وسنتناوله بالحديث في فصل تالٍ.

حين يقال عن الفلسفة الوسيطة إنها كانت حتى القرن الثالث عشر أفلاطونية في جوهرها، فلا بد لنا أن نتذكر أن أفلاطون — باستثناء نُتَف من محاورة «طماوس» — لم يكن معروفًا لديها إلا عن طريق وسيط أو وسيطَين؛ فمثلًا كان يستحيل على «يوحنَّا الاسكتلندي» أن يعتنق الآراء التي اعتنقها لولا أفلاطون، لكن معظم العناصر الأفلاطونية في فلسفته تأتي من «محاكي ديونيسيوس»، وتاريخ هذا المؤلِّف محاط بالشكوك، لكنه قد يكون من المحتمل أن يكون تلميذًا ﻟ «بروكلوس» التابع للأفلاطونية الجديدة، ومن المحتمل كذلك ألا يكون «يوحنَّا الاسكتلندي» قد سمع قط ﺑ «بروكلوس»، أو قرأ سطرًا واحدًا ﻟ «أفلوطين». وإلى جانب «محاكي ديونيسيوس» كان «بيثيوس» مصدرًا آخر للأفلاطونية في العصور الوسطى، وهي أفلاطونية تختلف من وجوه كثيرة عن الأفلاطونية التي يستمدها الباحث الحديث من كتابات أفلاطون مباشرة؛ فهي تكاد تُسقِط من حسابها كل ما ليس له علاقة ظاهرة بالدين، ثم هي في الفلسفة الدينية قد أخذت توسِّع بعض النواحي وتزيد من أهميتها على حساب النواحي الأخرى. وكان «أفلوطين» قد بدأ بالفعل قبل ذلك يُحدِث هذا التغيُّر في الصورة التي صوَّرها عن أفلاطون. وكذلك كان العلم بأرسطو متقطعًا يقوم على نُتَف متناثرة، لكنه سار في اتجاه مضاد للاتجاه الذي سار فيه عِلْمهم بأفلاطون؛ فكل ما كانوا يعلمونه عن أرسطو حتى القرن الثاني عشر هو ترجمة «بيثيوس» ﻟ «المقولات» و«التعديلات»؛ وهكذا كانت فكرتهم عن أرسطو أنه ديالكتيكي خالص، وفكرتهم عن أفلاطون أنه فيلسوف ديني وصاحب نظرية المُثُل لا أكثر. ثم أخذوا خلال الشطر الثاني من العصور الوسطى يُعدِّلون شيئًا فشيئًا من هاتين الفكرتين الناقصتين، خصوصًا فكرتهم عن أرسطو. أمَّا فكرتهم عن أفلاطون فلم يتم تعديلها لديهم إلى أن جاءت النهضة.

١  تاريخ كيمبردج للعصور الوسطى، ج٥، فصل ١٠.
٢  تيموثاوس (الأول)، إصحاح ٣: ٢.
٣  راجع كتاب «تاريخ عزوبة رجال الدين»، لمؤلفه Henry C. Lea.
٤  تقرَّر في سنة ١٠٤٦م أن ابن رجل الكنيسة لا يكون أسقفًا، ثم بعدئذٍ تقرَّر ألا يكون عضوًا في الطوائف الدينية.
٥  الكورنثيين (أول)، إصحاح ٧: ٩.
٦  تاريخ كيمبردج للعصور الوسطى، ج٥، ٦٦٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤