الفصل الثامن عشر

أين الرواية بل أين النجوم وما
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرصًا وأحاديثًا ملفقة
ليست بنبع إذا عدت ولا غَرَبِ

لما خرجت الملكة وجواريها من خيمة الملك تبعهن الناسك كما يتبع الظل الشمس، والتفت إلى الملك قبل أن يخرج من باب الخيمة وقال له: «ويل لمن يرفض مشورة الكنيسة ليصغي إلى مشورة أعدائه! فسوف تجني ما جنت يدك.»

فقال الملك: «ليكن كما قلت.» ثم التفت إلى الحكيم وقال له: «أيتجاسر الدراويش على ملوككم كما يتجاسر هؤلاء النُسَّاك علينا؟» فقال الحكيم: «الدراويش إما عقلاء وإما مجانين؛ فالعقلاء يعرفون قدر الملوك، والمجانين لا عتب عليهم ولا ملام.» فقال الملك: «أظن أن صاحبنا من النوع الأخير، ولكن ما لنا وله، هات قل لي ما هي طَلِبَتُك؟» فقال الحكيم: «ألا تذكر أني نجيت نفسك من الموت؟» فقال: «وأظنك أتيت لتطلب نجاة نفس بنفس.» فقال: «نعم، أتيت لأطلب حجب دم هذا الفارس الذي لم يُغْوَ إلا كما أغوي جدنا آدم عليه السلام.» فقال الملك: «أَوَلا تذكر أن آدم مات من أجل غوايته؟» قال ذلك وهو عابس، ثم أظهر البشاشة وقال: «يا للعجب! ماذا جرى حتى اتفقت قوات الأرض وجاءتني تباعًا تطلب نجاة هذا الفارس؟!» ثم ضحك حتى استلقى على ظهره وكانت سورة الغيظ قد ابتدأت تنكسر من نفسه. فقال للحكيم: «إني أهبك مهما شئت من الهبات، وأما هذا الرجل فقد حكم عليه بالموت ولن يرد الحكم.» فقال الحكيم: «ليس لي بالهبات من أرب، ولا غرضَ لي إلا بهذا الفارس.» فقال الملك: «وما غرضك به؟» فقال: «إن الدواء الذي شفاك هو طلسم نطبخه بالصوم ومراقبة الكواكب، ولا بد من أن نشفي به اثني عشر شخصًا على الأقل كل شهر، وإلا زالت منه قوة الشفاء وتعرض الطبيب والمريض الأخير الذي داواه به للموت في مدة سنة، وأنا قد شفيت به أحد عشر شخصًا هذا الشهر ونجيتهم من الموت، ولا بد لي من نجاة الشخص الثاني عشر وإلا بطل فعله وتعرضتُ أنا وأنت للموت في سنة من الزمان.»

فقال الملك: «اخرج إلى المعسكر تر مئات من المرضى فاشف من شئت منهم. ومع هذا فلا أرى كيف أن نجاة إنسان من القتل تُعد شفاء وتكمل قصتك الملفقة.» فقال: «أتعلم كيف أن جرعة من الماء البارد شفتك من الحمى المحرقة؟ فإن كنت لا تعلم ذلك فلا تنفِ أمورًا لا تعلمها ولا تفهمها ولا تعرض حياتك وحياتي للخطر.» فأجابه الملك قائلًا: «لك أن تراقب النجوم والأفلاك وتلبس أقوالك بما شئت من التوريات والاستعارات، أما أنا فلا أخاف من النجوم ولا أرهب من الطلاسم.

والعلم في شهب الأرماح لامعةً
بين الخميسين لا في السبعة الشهب

كما قال شاعركم.» فقال الحكيم: «إني لأعجب أيها الملك كيف تنكر فعل هذا الطلسم؟! بل كيف تضن به على المرضى والمشرفين على الموت؟! أوَيصدق أن الملك الذي يذبح الناس بالألوف لا يستطيع أن يحجب دم إنسان واحد؟! فكأن الله خلقك نقمة للعباد لا رحمة لهم!

فاغتاظ الملك من هذا الخطاب وقال للحكيم: «إنا اتخذناك طبيبًا لنا لا مشيرًا علينا، فلا تتعرض لما لا يعنيك.» فرفع الحكيم صوته وقال: «أبهذا الجزاء يجازي ملوك الإفرنج من ينجي حياتهم من الموت؟!» فاعلم أيها الملك أنني سأذيع اسمك في المشرق والمغرب، في قصور الملوك وأكواخ الصعاليك وكل مكان يتغنى فيه الناس بمدح الأبطال والأقيال، وأبين لأهل الخافقين إنكارك للجميل ومجازاتك الإحسان بالسيئات.»

فلما سمع الملك ريكارد هذا الخطاب طار عقله وقال له: «ألي تقول هذا الكلام؟!» وقام إليه وهم بضربه. فقال له الحكيم: «اضرب لكي يتزكَّى وصفي لك بفعلك القبيح.» فأطرق الملك وجعل يتمشى في خيمته ذهابًا وإيابًا وهو يتنفس الصعداء ثم التفت إلى الحكيم وقال له: «قد اخترت جزاءَكَ، فاذهب وخذ هذا الاسكتسي فقد وهبتك إياه، وليتك طلبت تاجي ولم تطلبه.» ثم أخذ قلمًا وقرطاسًا وكتب سطرين وسلمهما له وقال: «خذه وليكن عبدًا لك، ولكن إياك وأن يرى وجهي.» فقال الحكيم: «سمعًا وطاعة.» وهم بالخروج فقال له الملك: «هل لك حاجة أخرى فنقضيها؟» فقال: «أطال الله عمر الملك، فقد وفاني وأوفى.» ثم خرج فنظر إليه الملك وهو خارج وقال: «كيف نجا هذا الفارس من العقاب الذي استحقه؟ ولكن لا ندامة في ذلك لأنه شجاع.» ثم نادى البارون ده فو، فدخل ودخل معه الناسك المتقدم ذكره، فالتفت الملك إلى البارون وقال له: «اذهب حالًا إلى خيمة هذا الذي يسمونه دوق النمسا، وادخل عليه وهو في بلاطه وبين بطانته وأظهر له ما شئت من الازدراء، وقل له إنه هو سرق العلم بيده أو بأمره، وعليه أن يرده إلى مكانه في ساعة من الزمان ويكون حاضرًا وقت نصبه هو وكل خواصه، مكشوفي الرءوس وليس عليهم شيء من حلل الشرف، وعليه أن يركز على الجانب الواحد من العلم علم النمسا منكوسًا مهانًا، وعلى الجانب الآخر رمحًا عليه رأس المشير الأقرب إليه أو الذي ساعده في هذه الفعلة الشنعاء، وقل له إنه إذا فعل كل ذلك ولم يخلِّ بشيء منه قط سامحناه عما بقي من ذنوبه.»

فقال البارون ده فو: «وماذا أفعل إذا أنكر الدوق أنه سرق العلم أو أنه يعلم من سرقه؟» فأجابه الملك: «قل له إننا نثبت ذلك في ميدان النزال ونفوض إليه أن يختار المكان والزمان والأسلحة.» ولكن قبل أن يخرج ده فو اعترضه الناسك وقال: «إنني باسم الله تعالى وباسم الحبر الأقدس رئيس الكنيسة على الأرض أحرم هذا العمل ولا أجيز لأميرين من أمراء النصارى قد تعاهدا على المحبة والإخاء أن يتقاضيا إلى السيف، فارجع أيها الملك عن عزمك، واعلم أن حياتك في خطر، وقد دنا الموت منك، وبعد الموت الدينونة!» فقال له الملك: «أيها الأب المحترم، أنتم معشر خدمة الدين تغتاظون إذا تعدينا على حقوقكم الدينية، فأعطوا ما لقيصر لقيصر ولا تتعدوا على حقوقنا.» فقال الناسك: «من أنا حتى أتعدى على حقوق الملوك؟! ولكنني أتوسل إليك على ركبتيَّ أن ترحم بلادك وترحم النصرانية كلها.» قال ذلك وركع أمامه على ركبتيه، فأنهضه الملك بيديه وقال له: «لا يليق أن تركع أمام المخلوق بهاتين الركبتين اللتين تركع بهما أمام الخالق، ومن هو هذا الدوق حتى أخاف على بلادي من أجله؟!» فقال الناسك: «نظرت في أبراج السماء ورقبت مطالع الكواكب، فعلمت منها أن مَنيَّتك قد حانت، وأن العدو ظمآن لشرب دمك!»

فتأفف الملك من هذا الكلام، وقال: ««تخرُّصًا وأحاديثًا ملفقة» وخرافات يعتقد بها عبَدة الأصنام، وما عهدي بالنصارى يرعونها سمعًا، فما أظنك إلا مهولًا.» فقال الناسك: «ما أنا من أهل التهويل، وقد أبقى لي الله عقلًا لأخدم به هذا الجهاد، فاسألني عن أمره ترني من أحكم الحكماء، واسألني عن غيره ترني كأحد المجانين.»

فتأمل الملك في الأمر قليلًا، ثم قال: «لا أرب لي بإيقاع الخلاف بين هذه الجنود، ولكن بم يعوضون عما وقع بي من الإهانة؟» فأجابه الناسك قائلًا: «هذا الذي أتيت لأجله مرسلًا من مجمع الأمراء الذي التأم الآن بأمر ملك فرنسا، فقد اتفقت آراؤهم على رد علم إنكلترا إلى الأكمة التي كان عليها، وعقاب كل من اشترك في سرقته وإطعام لحمه لغربان السماء ووحوش البرية.»

فقال الملك: «وماذا يفعلون بدوق النمسا وهو المتهم بهذا الفعل؟» فأجاب الناسك: «قد أجمعوا على أن يبرر نفسه بما يرتئيه بطريرك أورشليم.» فتهلل وجه ريكارد وقال: «هذا حسبي أيها الأب المحترم.» ثم جعل يتهكم على الدوق فانتهره الناسك، وقال له: «لا يليق بالملوك أن يغتاب بعضهم بعضًا، وإني لآسف جدًّا أن سيف النصرانية وعزها المشهود له بالحكمة والدراية، وهو في ساعة الرضى يصير كالأسد الكاسر في ساعة الغيظ، الله يعلم ضعف البشر وهو راض عنك، وقد أجل موتك إلى حين، ولكنك ستموت قتلًا وتذهب بلا عقب ولا يندبك أحد من شعبك؛ لأنك أفنيتهم بالحروب ولم تهتم براحتهم ورفاهتهم.»

فقال ريكارد: «ربما أموت بلا عقب، ولكن لا أموت بلا شهرة ولا بلا زوجة تبل تراب قبري بالدموع، وهذا حسبي من الدنيا وبه أمتاز عليك.» فتأوه الناسك وقال: «هل تخفى علي محبة الشهرة ولذة الحب؟! اعلم أيها الملك أني لست دونك حسبًا ونسبًا؛ فإني أنا ألبرك مرتمار سليل لوزينيان وكدفراي.»١ فقال ريكارد: «أأنت ألبرك مُرْتمار الذي ذاعت شهرته في الأقطار، فكيف سقطتَ من أوج مجدك واحتجبت عن الأبصار؟» فقال الناسك: «أنا هو ذلك الكوكب الساقط، وسأميط لك الستار عن ماضي حياتي، لعلي أنزع منك هذا العتوَّ وأجعلك تتواضع أمام إلهك وكنيستك: إنني كنت شريف النسب قوي الذراع سديد الرأي، وكان أشرف فتيات هذه البلاد وأعلاهن نسبًا يتسابقن إلى ضفر أكاليل الفخار لرأسي، ولكنني أحببت فتاة فقيرة لا حسب لها ولا نسب، فلما علم أبوها بذلك لم ير لها ملجأ غير الدير، فربطها بنذور الرهبنة. وكنت غائبًا في إحدى الغارات فرجعت ومعي غنائم لا تُقدَّر ولكنني لم أجد حبيبتي حيث تركتها! فخلعتُ عدة الحرب والجلاد ولبست ثوب الرهبنة، ولم يطل عليَّ الأمر حتى ارتفع مقامي بين الرهبان واشتهرتُ بالفضائل كما اشتهرت بالبسالة، ثم عُيِّنت معرفًا لدير من أديرة الراهبات فرأيت حبيبتي بينهن، ووسوس إلي الشيطان فجئت أمرًا فريًّا، فقتلتْ نفسها لتنجو من العار، فدفنتها في الكهف الذي أنا فيه؛ ومن ثم إلى الآن أقمع جسدي وأعذبه، ولم يُبق لي الله من العقل إلا ما أميز به تعاستي وشقاء حالي وأحض به المسيحيين على الجهاد، فلا تشفق علي ولا ترثِ لحالي، بل اتعظ بأمري واعتبر بمثالي، فإنك الآن في أوج المجد، فاطرح عنك كبرياءك وتَرَفَك وحبك لسفك الدماء، وإلا هبطتَ إلى حضيض الذل.»

فاغتاظ ريكارد من هذا الكلام ولكنه تجلد وحوَّله إلى المزاح، وقال: «قد طرحت كبريائي ووهبتها لرؤساء الكنيسة، وتَرَفي ووهبته لرهبانها، وحبي لسفك الدماء ووهبته للهيكليين.»

فقال الناسك: «إني أطلب من الله أن يفسح لك في الأجل سنة أخرى لترى فساد ظنونك وتَتَّضِع أمام كنيسته.» ثم صرخ صرخة شديدة وخرج من الخيمة، وأقام ريكارد بعد خروجه يتأمل في كلامه وفيما أنبأه به من دنو أجله وموته بلا عقِب، ثم قال في نفسه: «إن هذا الناسك يراقب النجوم ويعرف حوادث الغيب والاستقبال، فليتني سألته عن سارق العَلَم لعلَّه يعرف من هو.» وحينئذٍ دخل البارون ده فو وقال: «إن رئيس أساقفة صور بالباب، وهو يطلب الدخول على الملك ليكلمه في قضية سرية.»

١  من ملوك الصليبيين الذين تملكوا على القدس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤