الفصل الثاني

البنود والشروط

(١) ما أهمية الاسم؟

في مشهد النافذة الشهير في مسرحية «روميو وجولييت» لشكسبير، نرى العاشقَين قلقَين بشأن ما بين أسرتَيهما من خصومة تُهدِّد بالتفريق بينهما. تقول جولييت في تفاؤل: «وما أهمية الاسم؟ فما نطلق عليه الوردة سيكون له نفس الرائحة الجميلة لو حمل أي اسم آخر.»1 وتقترح على روميو أن يتخلَّى عن اسمه، كما لو كان اسمه هو المشكلة الحقيقية، مع إقرارها بأنه سيظل نفس الرجل الذي تُحبه مهما كان اسمه. فالمصطلح الذي يُستخدم في وصف حالة ما ينطبق عليها، ولا ينطبق عليها في الوقت ذاته. الوردة وردة. والورم ورم.
ليس من السهل الفصل بين الشيء في حد ذاته والمصطلح الذي نستخدمه في الإشارة إليه. وعلاوةً على ذلك، فإن المصطلحات التي نطلقها على الأشياء تُشكِّل طريقة حديثنا عنها بوجه عام، وتُشكِّل، على مستوًى أعمق، طريقة تفكيرنا فيها واستجابتنا لها. ستُشخَّص الإصابة بالسرطان لدى واحد من كل رجلَين، وواحدة من كل ثلاث نسوة،2 ومع ذلك، قلَّما يُفكِّر أحدٌ في ماهية الورم أو معناه قبل أن يعرف شخصًا أُصيب به أو يُصاب هو نفسه به. كثيرون من بيننا سيُضطرون، فقط حينئذٍ، إلى معرفة معنى الورم ومعنى أن يُصاب به المرء. كتبت إس لوتشلان جين في مذكِّراتها التي تُعَد أيضًا كتابًا في علم الاجتماع، بعد تشخيص إصابتها بالسرطان وخضوعها للجراحة الأولى: «كلمة السرطان بكل دلالتها الاسمية تعني كل شيء … ولا شيء».3 وبعد إزالة ورمها، كانت تجرِبتها مع السرطان لا تزال في بدايتها.
كلمة cancer «السرطان» لها معانٍ كثيرة. فهي تعني باللاتينية «حيوان السرطان»، الذي يُشير إلى البرج الرابع في الأبراج الفلكية، وإلى مَن يُولَدون في فترة هذا البرج الفلكي التي تمتد بين أواخر يونيو وأواخر يوليو. وحسب من تسأله عن المنتمين لبرج السرطان، سيُقال لك إنهم أوفياء، أو أقوياء الإرادة، أو عاطفيُّون، وهي صفات يمكن أن تتماشى أيضًا مع المعنى الطبي للسرطان؛ فهو يتآلف بشدةٍ مع الجسم الذي يظهر فيه، ويتصف بالعناد، وقد يُحدث ضررًا عاطفيًّا مهولًا، على الرغم من تجرُّده من الإحساس. من المنتمين إلى برج السرطان رائد الأعمال إيلون ماسك صاحب شركتَي تيسلا وسبيس إكس، والممثِّل الحائز على جائزة الأوسكار توم هانكس، والكاتب النافذ البصيرة جورج أورويل، وأميرة ويلز ديانا. لا يربط بينهم سوى المصادفة، مثلما تُعَد المصادفة أقوى رابط (لا يمثل رابطًا) بين حالات السرطان. وفي مقال عن تجرِبة أورويل عندما كان مريضًا في أحد المستشفيات عام ١٩٢٩، كتب عن رجل رآه يموت بسبب تليُّف الكبد (أو ربما سرطان الكبد)، ويتساءل قائلًا: «أي سلاح ممَّا اخترع البشر يُقارِب في قسوته بعضَ الأمراض الشائعة ولو قليلًا؟»4

تُسمَّى علامة هذا البرج الفلكي، التي يعود تاريخها إلى قديم الزمان، نسبةً إلى الكوكبة الخافتة التي تُرى بأوضح صورة في شهر مارس، عند النظر إليها من نصف الكرة الشمالي. وبينما لا يظهر تجمُّع «النثرة» النجمي في هذه الكوكبة بوضوح كافٍ للعين المجرَّدة، كان عالم الفلك جاليليو جاليلي أول من درسه في عام ١٦٠٩، باستخدام تلسكوب صنعه بنفسه، وأُدرِج في دليل تشارلز مسييه للأجسام الفلكية في عام ١٧٦٩، ويمكن رؤيته في شكل نقاط لامعة متفرِّقة بالمنظار في يومنا هذا. ورغم الربط بين هذه الكوكبة النجمية وحيوان السرطان، فإنها ليست شديدة الشبه به، والأسطورة الإغريقية التي وضعت فيها هيرا سرطانًا في السماء ليس المقصود بها ذلك الكائن القشري الذي تدوسه الأقدام. ومع ذلك، أصبح لكلمة «السرطان» وجود بين النجوم، وذُكرت في إحدى القصص.

أطلق أبقراط — الإغريقي الذي من المرجَّح أن يكون قد صاغ قَسَم الأطباء الذي يتعهَّدون فيه بعدم إلحاق الضرر، والذي عُدِّل ليلائم العصر الحديث — على كتلة من الخلايا الخبيثة في أول الأمر اسم karkinos «كاركينوس»، وكان ذلك في عام ٤٠٠ قبل الميلاد تقريبًا. ولا يتضح السبب الذي جعله يتذكَّر «حيوان السرطان» عند رؤية الورم. ربما كان الورم صلبًا مثل صدفة السرطان، وربما يكون قد استُخدم في استئصاله من جسم المريض كماشة، شبيهة بمخلب السرطان. ويبدو أن فيلسوفًا رومانيًّا قد ترجم المصطلح في وقت لاحق إلى كلمة cancer اللاتينية التي تعني «حيوان السرطان». وكذلك لا يزال للمصطلح القديم karkinos وجود؛ فقد اشتُق منه المصطلح المعاصر carcinoma، الذي يُشير إلى أي سرطان يبدأ في الخلايا الظهارية التي تبطِّن أسطح الجسم (بما فيها القنوات والغدد) من الداخل والخارج. ودائمًا تقريبًا ما تكون سرطانات الثدي والرئتَين والكبد والبنكرياس والقولون من هذا النوع؛ أي تكون أورامًا تنشأ أصلًا من الخلايا الظهارية لتلك الأعضاء.
السرطان مُفرد، لكن المرض متعدِّد. إذ يوجد أكثر من مائة نوع من السرطان، وكل حالة من حالات الإصابة به، وكل تجرِبة من تجارِب معاناته تختلف عن الأخرى. وحتى في زمننا الحديث، بعد آلاف السنين من تسمية أول كتلة من الخلايا الغريبة التي تنمو نموًّا مفرطًا، كتبت جين في كتابها: «خبيث: كيف يتماهى السرطان معنا حتى يُصبح نحن»: «تتحلَّل ملموسية الكلمة تدريجيًّا إلى حيرة شديدة للأطباء والمرضى على حد سواء، بشأن ما تعنيه على وجه التحديد.»5

أمَّا الورم فهو على الأقل شيء مادي؛ لذا فهو أقل إثارة للحيرة من التجرُّد الذي يتسم به مصطلح السرطان، أو التعدُّد الذي يوحي به. فأحيانًا ما يُمكن تحسُّس الورم تحت الجلد؛ فالمريض يمكنه أن يلمس بإصبعه حجم الورم وشكله، وأن يسمح للطبيب بأن يتلمَّسه أيضًا. وفي بعض الأحيان، يمكن رؤية الورم بالأشعة السينية، أو من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي، الذي تُستخدم فيه مغناطيسات وأمواج راديوية لرسم مخطَّط بما يحويه الجسم من مياه ودهون؛ أو عبر الموجات فوق الصوتية، حيث يمكن تحويل انعكاسات الموجات الصوتية ذات التردُّدات التي تفوق ما يستطيع البشر سماعه إلى صور مرئية. يظهر الظل الذي يمثِّل الورم في صورة نقطة أو لطخة أو بقعة من الضوء في وسط الظلام الذي يُمثِّل خلفية الجسم البشري المصوَّر على الشاشة. فكل ما هو صلب، مثل العظام والقلب والورم، يظهر في شكل درجة طفيفة من اللون الأبيض على خلفية مائلة للسواد تمثِّل الجسم كالكون.

وكلمة tumor مشتقة من كلمة لاتينية تعني «التورُّم». والورم هو بالفعل فرط نمو في جزء ما، أو كتلة من الأنسجة ذات حجم كبير إلى حدٍّ يضر بالجسد أو لا يلائمه. وتنتشر الخلايا على نطاق واسع، وتتكتَّل في شكلٍ لا يلائم ما حوله. والمصطلح الطبي المُعبِّر عن شيء كهذا داخل الجسم هو neoplasm، وهو مشتق من عبارة تعني «نموًّا جديدًا». ليس كل ورم سرطانًا، وليس كل سرطان ورمًا. الورم شيء جديد ومختلف. في بعض الأحيان، يبدو شيئًا عاديًّا غير مختلف، باستثناء أنه مجرَّد حجم زائد — زائد بكثير — لكن الورم غير المألوف، الذي لم يمرَّ به المرء من قبلُ، هو الذي يحمل تأثيرًا فارقًا جدًّا.
في عام ٢٠١٢، أذاعت قناة «سي إن إن» تقريرًا عن استئصال ورم غير سرطاني من ساق رجل فيتنامي يُدعى نجوين دوي هاي، كان الورم ينمو لديه منذ أن كان في الرابعة من عمره، ووصل وزنه إلى مائة وثمانين رطلًا، بالغًا بذلك ضعف وزن الرجل آنذاك.6 وفي عام ٢٠٠٩، أفاد طبيبان، في دورية طبية خاضعة لمراجعة الأقران، بإزالة ورم على المبيضَين وزنه خمسون رطلًا، وكان غير ضار نسبيًّا لولا حجمه ووزنه؛ إذ كانت المريضة قد لاحظت تورُّمًا في البطن قبل عامَين أعجزتها ضخامته عن الأكل أو المشي.7 وصحيح أن الأورام البالغة الضخامة بالغة الندرة، لكن الصحف الشعبية التي تُركِّز على إحداث إثارة تنشر من وقتٍ إلى آخر قصصًا عن إزالة أورام يُفترَض أن وزنها مائة رطل، أو حتى ثلاثمائة رطل استغرقت في النمو إلى أن خرج حجمها عن السيطرة. ولأن الورم ليس مجرَّد تورُّم عادي، تُذهلنا قدرته على مواصلة النمو. وفي عالم يُحِب الزيادة في كل شيء، تُعَد الأورام غير الضارة نسبيًّا كثيرةً للغاية، ولا نفهم ذلك. وما يجعل هذه الأورام الضخمة الغريبة تُثير مزيدًا من الاستغراب، أنها لا تنذر بموت المصاب بها كما قد يفعل السرطان.
حتى التكتُّلات البالغة الصِّغَر في الثدي قد تُدخل أذهاننا وحياتنا في دُوامة لأننا نربط الأورام بالسرطان. لكن الأورام ليست كلها سرطانية، وليست كل التكتُّلات أورامًا. فالشامة ورم، لكنها شامة فحسب، إلا إذا تحوَّلت، أو إلى حين أن تتحوَّل، إلى شيء آخر. فالتكتُّل الذي يظهر في الثدي قد يكون كيسًا مليئًا بسوائل يكبر ويصغر مع ارتفاع الهرمونات وانخفاضها، وقد يكون ورمًا غُديًّا ليفيًّا، «بالإنجليزية fibroadenoma»، وهو ورم غالبًا ما يكون ملمسه ككرةٍ مطَّاطية صغيرة ملساء تحت الجلد. والمقطع Oma اللاحق بآخر الكلمة هو في الحقيقة مصطلح طبي لاتيني يعني الورم. والورم الغدي الليفي كتلة من الأنسجة الضامة الليفية، «كما يعني المقطع fibro-»، والغدية «المقطع adeno-»، التي لا تُمثِّل في العادة أي تهديد على الصحة. لكن الكارسينوما «ورم الخلايا الظهارية» والساركوما «الورم اللحمي» والبلاستوما «الورم الأرومي»، مصطلحات تشير إلى أنواع من السرطان بِناءً على نوع الخلايا الذي يبدأ نشوء الورم منه أصلًا. احترس من الورم غير اللطيف أو غير الحميد، فهو نذير شؤم.
وكلمة Benign؛ أي «حميد»، مشتقة من كلمات لاتينية تعني «وُلِد طيِّبًا» — وكلُّ مَن هو مصاب بورم يأمل أن يكون من هذا النوع. فالشيء الحميد لا يُمثِّل تهديدًا. العِصيُّ والأحجار قد تُحطِّم عظامك، لكن الشيء الحميد لن يضرَّك أبدًا. فالشيء الحميد يكون لطيفًا وعطوفًا، كجدتك؛ وهذا معنى المقطع Oma بالألمانية. الورم الحميد قد لا يُلاحظ. ولا يُلقى له بال. فهو غير مؤثِّر.

والورم الحميد لا يمتدُّ إلى أماكن بعيدة، ولا يغزو الأنسجة المحيطة في المعتاد. فهو يبقى على حاله، ويظل في مكانه. بَيد أن الورم الحميد يواصل النمو، ويضغط على الأعضاء القريبة والأوعية الدموية. وكلما زاد حجمه وقُربه من الأعضاء الحيوية، زاد الضرر الهائل الناجم عن الورم الذي لا ضرر له في المعتاد. لكن نمو الورم عادةً ما يكون بطيئًا، وهو ما قد يُفسِّر كيف أن السيدة الهندية المصابة بورم على المبيض وزنه خمسين رطلًا، بدون أي أعراضٍ أخرى أو أي أعراضٍ شديدة، تشير إلى تدهور الصحة، اعتادت وجود هذا الشيء الغريب داخلها عدة أشهر، حتى صارت عاجزةً عن التحرُّك بدون مساعدة وهي تحمل تلك الكتلة الزائدة، فقرَّرت أخيرًا اتخاذ إجراء بشأنها. بعض أنواع الأورام تُنتج هرموناتٍ قد تُسبِّب ضررًا مثل الإنسولين أو الكورتيزول، لكن معظم الأورام هي أورام فحسب، ولا حاجة لعلاجها إلا حينما تؤدِّي أعراضٌ إضافية ناتجة عنها إلى إعاقة سير حياة المريض.

وأحد الاستثناءات من قاعدة انعدام ضرر الأورام الحميدة نسبيًّا هو الورم الرباطي، وهو الورم الذي يصيب الأنسجة الضامة التي تدعم العظام والعضلات. وهو حالة نادرة، لا تُشخَّص الإصابة به في الولايات المتحدة إلا لدى تسعمائة شخص في العام، وهو ما يُصعِّب العثور على معلومات إحصائية دقيقة عنه.8 ونظرًا إلى أن الورم الرباطي لا يمكنه الانتشار في أماكن بعيدة في الجسم، يعتبر حميدًا. ومع ذلك، فقد يغزو الأنسجة المحيطة، وقد تتكرَّر الأورام الرباطية حتى بعد استئصالها جراحيًّا. وخيارات العلاج هي الجراحة أو العلاج الكيميائي أو الإشعاعي، بجانب الأدوية التي تُقلِّل الأعراض، مثل الألم والالتهاب. فمن جوانب عديدة، قد يُعتبر الورم الرباطي سرطانًا، وغالبًا يُعالج على هذا الأساس. أهو وردة ليست وردةً في الحقيقة؟

علاوةً على ذلك، قد يشير الورم الرباطي إلى الإصابة بداء السلائل الورمي الغدي العائلي، وهي حالة وراثية تؤدِّي في بعض الأحيان إلى نمو مئات أو حتى آلاف السلائل — وهي زوائد دقيقة على البطانة المخاطية — في الأمعاء، وإذا تُركت بدون علاج؛ فقد تُسبِّب سرطان القولون. وما يحدث لدى المصابين بهذه الحالة هو أن طفرةً جينيةً في جينات كبح الأورام تؤدِّي إلى تثبيط استجابة الجسم المعتادة للخلايا الشائخة. بعبارة أخرى، لا تُسبِّب الطفرة الجينية السرطان مباشرة، لكنها تُصعِّب على الجسم قَتْل خلايا القولون التي قد تكون مسرطنةً في مهدها، أو مَنْع الورم الرباطي من النشوء في البطن أو الكتف أو الساق. فاللائمة لا تُلقى على الورم لأنه نما، بل على الجسم لأنه لم يمنع النمو. والجسم لا يتعمَّد إحداث الفوضى، لكن الأمر أشبه بأن يتوقَّف الجسم عن تنظيف نفسه جيدًا بانتظام.

وإذا عدنا بالزمن إلى الوراء بالقدر الكافي، نجد أن كلمة Malignant؛ أي «خبيث»، مشتقة من العبارة اللاتينية «وُلِد سيئًا». فالورم يولد إمَّا طيِّبًا وإمَّا سيِّئًا، ويتعامل معه الجسم تعاملًا إمَّا طيِّبًا وإمَّا سيِّئًا. الكلمة اللاتينية malignantem تعني «يضع خُططًا خبيثة»، فكأن السرطان يتعمد التآمر علينا. في القرن السادس عشر، بدأ الكُتاب البروتستانت يطبِّقون هذا المبدأ اللاتيني على الكنيسة الكاثوليكية، فجماعة ecclesiam malignantem، أو «الكنيسة الخبيثة»، كانوا، فيما يُعتقد، أتباعًا ﻟ «ضد المسيح».9 وبالطبع ليس للورم إرادة أو نية مُبيَّتة أو خبث تجاه عضو معيَّن أو شخص معيَّن. ولكن عندما يعلم شخص بإصابته بورم خبيث — أي سرطان — قد يعتبر الورم شيئًا مخادعًا، بل وشريرًا أيضًا. كتبت الباحثة الأدبية سوزان جوبار: «شعرت بأن جسمي تعرَّض لخيانة أو أنه خانني، لكني لم أفهم لماذا أو متى أو كيف تحديدًا انتهك الكِيان الشرير حدود جسمي حتى بلغ أعماقه».10 هكذا تتعدَّى الأورام الخبيثة علينا، وهي تسعى للنيل منا. كتب موخيرجي عن هذا المرض الذي يفوق كل الأمراض خطورة: «تصوُّر السرطان في شكل قريننا البشع الخبيث المرافق لنا يظل يطارد أذهاننا؛ لأنه صحيح، على الأقل جزئيًّا.»11

(٢) ما الدنيا إلا مسرح كبير

في مسرحية شكسبير، «كما تشاء»، يذكر أحد الشخصيات هذه الحكمة المتبصِّرة التالية: «ما الدنيا إلا مسرح كبير، وما كل الرجال والنساء إلا ممثِّلون، لهم لحظات يخرجون فيها منه، ولحظات يدخلونه فيها، وكل شخص عندما يحين وقته يؤدِّي عدة أدوار.»12 ففي يوم ما، قد تؤدِّي امرأة ما دور محامية تدير مكتب المحاماة الخاص بها، ثم في اليوم التالي، ترتدي رداء المستشفى، وتُسلم جسدها، وتَزِنُ خياراتها في كفَّتَي ميزان السرطان الظالم. ربما تكون لحظة خروجها أقرب ممَّا كانت تظن عندما بدأت تحفظ جُملَ دورِها. فلديها الآن أشياء أكثر تود قولها، وتتمنى لو سُمح لها بأداء مشهد إضافي.
وكما أنَّ الدنيا مسرح للمرء؛ فالجسم البشري مسرح تتجسَّد على خشبته مُصادفة حدوث الورم. فالكلمة الإنجليزية stage، التي تعني «مسرحًا أو مرحلة»، مشتقة من الكلمة اللاتينية التي تعني «يقف» أو «يضع»، والورم يضع نفسه في مكانٍ ويأخذ وضعيته استعدادًا لبداية رحلته، ويُحدِث تأثيره، داخل الجسم. أمَّا في حالة الأورام الخبيثة، فكلمة stage لا تعني فقط المسرح الذي يؤدِّي عليه المرض دوره فحسب، بل تعني أيضًا الخطوة أو المرحلة من مراحل تطوُّر الورم. فالسرطان له مراحل.
  • المرحلة الصفرية: السرطان في هذه المرحلة لا يكاد يكون سرطانًا أصلًا. بل مجرَّد علامة بسيطة غير مؤكَّدة على حالة شاذة تُنذر بأنها ستكون خبيثة، لكنها لا تتغير. ولا يعلم المرء حينئذٍ ما إذا كان سيَنْتُج عنها أي شيء. لكن اختصاصي الأشعة النابه يمكنه اكتشافها بالتصوير الإشعاعي لبعض أجزاء الجسم بوسائل تتطوَّر تطوُّرًا متزايدًا؛ ومن ثَم يُحدَّد اسم الحالة التي تُكتشف، وتُعالَج إن أمكن. فإذا لم يمكننا تسمية شيء ما وعلاجه، عادةً لا نبحث عنه.

    وفي بعض الأحيان، تؤدِّي هذه التسمية العددية إلى الانتظار والمراقبة، وفي أحيان أخرى تؤدِّي إلى الاستئصال الجراحي. والواقع أنه في بعض الحالات، يؤدِّي إجراء الخزعة بهدف التيقُّن من تشخيص ما إلى إنهاء المشكلة كلها. نعالج الورم في هذه الحالة ليس لما هو عليه، ولكن لِمَا قد يتحوَّل إليه، وقد لا يتحوَّل إلى شيء البتة. المرحلة الصفرية هي المرحلة الاستثنائية التي قد يؤدِّي فيها العلاج إلى الشفاء من المرض بسرعة نسبيًّا، والشفاء كلمة يتجنَّب الأطباء استخدامها عادةً عند الحديث عن السرطان حتى وَهُم منهمكون في علاج المرضى منه. إذ يَندُر أن يُقال لأي مريضة بالسرطان إنها قد شُفيت، لكن ما يُقال هو أنها خالية من السرطان.

    ومع ذلك، فليست كل السرطانات قابلةً للاكتشاف في هذه المرحلة من التطوُّر. فالصفر يُشير إلى السرطان القنوي الموضعي، وهو المرحلة الصفرية من سرطان الثدي، أو المراحل التي حدثت فيها للتو الإصابة بسرطانات الجلد أو الرئة أو عنق الرحم أو الرحم. لا يوجد حتى الآن مراحل فارقة تشير إلى قُرب الحدوث، أو الحدوث للتو، في سرطان البنكرياس أو الغدد الليمفاوية أو أنواع أخرى كثيرة من السرطان. صحيح أن هذه المرحلة قد تكون موجودةً لدى أي نوع من السرطان، لكن المهم في أي مرحلة هو القدرة على رؤيتها على أفضل نحو ممكن، وإجراء الفحوص لاكتشافها بدقة نسبية، وعلاجها.

  • المرحلة الأولى: الطب مرتبط بالأصول اللاتينية لمصطلحاته ارتباطًا وثيقًا جدًّا لدرجة أن مراحل تطوُّر السرطان غالبًا ما يُرمَز إليها بأرقام رومانية بدلًا من الأرقام العربية الشائعة الاستخدام. وتعني المرحلة الأولى وجود ورم موضعي لم يَغزُ الأنسجة المحيطة به، ولم يُرسِل خلاياه الخبيثة إلى العُقَد الليمفاوية القريبة، أو الأجزاء الأخرى من الجسم.
    لكن تقسيم المراحل أصبح أكثر تعقيدًا من ذلك. إذ يمكن وضع تقسيم أدق. فسرطان الثدي من المرحلة الأولى «أ» يشير إلى ورم حجمه أصغر من سنتيمترَين ولا يطال غددًا ليمفاوية، لكنَّ سرطان الثدي من المرحلة الأولى «ب» يشير إلى ورم صغير يشمل رقعًا متفرِّقةً في غدة واحدة إلى ثلاث من الغدد الليمفاوية في الإبْط، على ألَّا تكون كل مساحة رقعة أكبر من مائتَي خلية أو ملليمترَين، وإلا فقَدْ يتحوَّل التشخيص إلى المرحلة الثانية.13 فعلى الرغم من انتشار سرطان الثدي ووصوله إلى العقد الليمفاوية، يعني هذا التقسيم أن السرطان في المرحلة الأولى «ب» يتصرَّف على نحو أقرب إلى المرحلة الأولى «أ» من المرحلة الثانية، ويُمكن التعامل معه على هذا الأساس.
  • المرحلة الثانية: على حسب نوع السرطان، عادةً ما يتقرَّر أنه من المرحلة الثانية عندما يتخطَّى الورم حجم المرحلة الأولى. أو يغزو الأنسجة المحيطة به، أو يفعل الشيئَين معًا. قد تكون الخلايا الضارة قد وصلت إلى الغدد الليمفاوية في طريقها إلى إحداث ضرر في مكان آخر، ولكن لم يُكتشَف ضرر في أي مكان آخر بعد. أي إن كل شيء لا يزال موضعيًّا إلى حد نسبي.

    ويمكن تقسيم احتماليات سرطان الثدي من المرحلتَين الثانية والثالثة إلى عدة احتمالات تمزج بين حجم الورم وتأثيره في العُقَد الليمفاوية، فيما تكون تسميته بالفئتَين «أ» و«ب»، على نحوٍ يشبه خطوطًا عريضة لأول ورقة بحثية يُعدها الطالب في المدرسة الثانوية بِناءً على ما يعرفه أو يظن أنه سيُجدي نفعًا من أجل أن ينجح في هذه المادة الدراسية على الأقل، إن لم يكن على درجة من التفوُّق تُمكِّنه من معرفة ما عليه أن يفعله لاحقًا. في سرطان البنكرياس، تنقسم المرحلتان الأولى والثانية انقسامًا فرعيًّا إلى «أ» و«ب»، استنادًا إلى حجم الورم وما إذا كان قد وصل إلى العقد الليمفاوية القريبة، لكن لا حاجة إلى تقسيم المرحلة الثالثة، فأي تقسيم فيها لن يجدي نفعًا في اتخاذ القرار أو توقُّع تطوُّر سرطان البنكرياس وتأثيره في عمر المصاب. فعندئذٍ يكون الأمر قد قُضي.

  • المرحلة الثالثة: المرحلة الثالثة، كما هو متوقَّع، أسوأ من المرحلة الثانية. إذ يكون الورم فيها قد غزا العقد الليمفاوية أو الأوعية الدموية أو العقد الليمفاوية والأوعية الدموية معًا. «التطوُّر» يعني «المضي قُدُمًا»، والمرحلة الثالثة تعني أن الورم كان يتطوَّر بوتيرة بطيئة لكنها ثابتة، منتظرًا إطلاق العِنان لنفسه. أي إنَّ المرض تطوَّر، ومستمر في التطوُّر. وبذلك يكون ماضيًا في طريقه إلى أعضاء الجسم الأخرى، لكنه لم يصِل إليها بعد.
    وفي هذا الصدد، لا تتحدَّث كارلا مالدن عن التقسيم إلى مراحل بمعناه الإكلينيكي، لكنها كتبت عن التشخيص الأَوَّلي لسرطان القولون الذي أُصيب به زوجها بأسلوب يعكس معنى مرحلة السرطان للمريض ولأسرته؛ إذ قالت: «كل ما حدث في الساعات القليلة التالية كان بمثابة سباق بين الأخبار السارة والأخبار المحزنة. وصل إلى العقد الليمفاوية — نعم، الكبد — لا؛ وكنت أبكي في الحالتَين، مهما كانت الأخبار.»14 وكتبت إيف إنسلر في مذكراتها عن مراحل سرطان المبيض بتركيز أكبر على الجانب الإكلينيكي: «ولمَّا كان أعضاء فريق مركز «مايو» الطبي أكثر تمسُّكًا بالتسميات الحرفية؛ فقد قرَّروا أني مصابة بالسرطان من المرحلة الرابعة «ب» (كان السرطان في عقدي الليمفاوية وفي منطقة الأربية). فيما كان أفراد مركز «بيث إسرائيل» الطبي يرَون أني في المرحلة الثالثة «ب». وفي الحالتَين كنت في المرحلة «ب». أي إن كل الاحتمالات كانت سيئة.»15 كل الاحتمالات سيئة، وليست بالوضوح الذي قد يتبادر إلى الذهن عندما يقدِّم طبيب تشخيصَه واثقًا من نفسه متشحًا بمعطفه الأبيض. أوه، ما أشد رغبة المرء في نيل المركز الأول! أوه، وما أشد رغبته في الحصول على المرتبة «أ» دائمًا عندما تكون الفئة «ب» احتمالًا واردًا.
  • المرحلة الرابعة: لا تستمر مراحل السرطان إلى ما لا نهاية. فلا يمكن تقسيم مراحل السرطان إلى ما يتخطَّى المرحلة الرابعة. فإعادة الترقيم، على غرار ما ذكره نايجل تافنل بخصوص مكبِّر الصوت الذي كان يمتلكه في فيلم «سباينال تاب»، لن تعدو كونها مسألةً متعلِّقةً بدلالات الألفاظ، لكن نطاق تطوُّر المرض يبقى كما هو. ففي المرحلة الرابعة، وحتى لو أُطلِق عليها اسمٌ آخر، لن يختلف خطر السرطان. فالورم ورم، والمرحلة مرحلة.

    في المرحلة الرابعة، يكون السرطان قد انتشر ووصل بالفعل إلى أجزاء بعيدة في الجسم. فسرطان الثدي إذا تحوَّل إلى سرطان نقيلي، قد يصل إلى أي مكان تقريبًا، وربما حتى إلى العظام أو الكبد أو الرئتَين. لا يمكن التقسيم الفرعي لهذه المرحلة، مع أن سرطان الرئة يمكن تقسيمه إلى المرحلة الرابعة «أ»، التي تظل فيها عملية النقيلة في منطقة الصدر؛ والمرحلة الرابعة «ب»، التي تصل فيها عملية النقيلة إلى أماكن بعيدة جدًّا، ربما حتى إلى المخ.

    وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ كلمة metastasis «أي النقيلة»، مشتقة من كلمة يونانية تعني التغيُّر أو التحوُّل، وإذا عُدنا إلى زمن أبعد في الماضي، نجدها تعني «تحوُّلًا في الوضع من مكان إلى آخر». والمعنى الأوَّل يوحي بتعديل داخلي أو تحوُّل في الحالة، في حين يوحي المعنى الثاني بتحرُّك خارجي في الموقع أو الجغرافية. يُتيح المعنى الأول، عند تطبيقه على السرطان، طريقةً للتفكُّر في المرض؛ بينما يُتيح المعنى الثاني طريقةً لاعتبار السرطان شيئًا. بحلول ستينيات القرن السابع عشر، أصبح التعريف الثاني للكلمة يُستخدَم مصطلحًا طبيًّا،16 يشير على وجه الخصوص إلى المراحل الأخيرة من السرطان التي ينتقل فيها من أحد أماكن الجسم إلى مكان آخر، سواءٌ أزيل جراحيًّا من مُرتَكزه الأصلي أم لا. وتشير عملية النقيلة كذلك إلى أنَّ الجسم نفسه قد تحوَّل، فلم يَعُد يحتوي على السرطان في جزء منه فحسب، بل بات السرطان مستشريًا في أرجائه، ولم يَعُد الجسم يحوي سرطانًا، بل أصبح السرطان مجتاحًا له. وعلى نفس المنوال، حدث تغيُّر في خيارات العلاج ورعاية المرضى، وقد طرأ جُلُّ هذا التغيُّر في الرعاية التسكينية وتخفيف الأعراض، وليس في القضاء على المرض، كما طرأ تحوُّل في عقلية المريض والطبيب؛ إذ صاروا يعتبرونه مرضًا مزمنًا أو قضاءً مُبرَمًا.

لا وجود لمرحلة خامسة من السرطان؛ فعملية النقيلة هي نهاية كل شيء.

تُحدَّد مرحلة السرطان عند تشخيصه، ولا سبيل إلى تغييرها إلى مرحلة سابقة أو حتى لاحقة. فإذا شُخصت الإصابة بسرطان الثدي من المرحلة الثانية لدى امرأة ما، ثم انتشر المرض لاحقًا إلى أجزاء أخرى، أو ظهرت أورام ثانوية منه في أماكن أخرى؛ فقد يبدو سرطانًا من المرحلة الرابعة ويُعالَج على هذا الأساس، لكنه في الوثائق الرسمية يظل سرطانًا من المرحلة الثانية انتشر. خضع لورنس — زوج مالدن — لجراحة وعلاج كيميائي. وتقول مالدن: «(بعد ذلك) صَدمَنا تكرار حدوثه مرةً ثانيةً بقدر ما صدَمَتنا الأولى تقريبًا، إن كان هذا ممكنًا.»17 شُخِّص السرطان لديه في المرحلة الثالثة، لكنه كان قد انتشر. إذ كان لديه «ثلاث عقيدات بالغة الصِّغَر في التجويف البريتوني» و«طبقة تغلُّف الكبد.»18 تعلَّق الزوجان بقشةِ أنَّ السرطان لم يغزُ الكبد نفسه بعد، لكن النقيلة نقيلة. لم تكُن الحالة بعيدةً عن المرحلة الرابعة، ولو لم يكُن السرطان قد شُخِّص حتى ذلك الحين؛ لشُخِّص آنذاك بأنه من المرحلة الرابعة. السجلات الطبية تُعرِّف مرحلة المرض وقت تشخيصه. ولا يُعاد تشخيصه لدى المرضى، لكنهم إمَّا أن يتحرَّروا بإعلان خُلوهم من السرطان، أو يُطْبِق عليهم بأورامه الثانوية؛ أي إنهم منذ مرحلة التشخيص الأوَّلي يتأرجحون أو يتمايلون إلى هذا الاتجاه أو ذاك.

وعند التشخيص، تبدأ المعركة. إذا استؤصِل السرطان، تنزاح الغُمة. وإذا تطوَّر، فإنَّ المصطلحات لا تُواكب هذا التطوُّر ولا تُوَصِّفه بدقة بقدر ما يتفاقم، وينتزع شيطان السرطان مُراده. يُجبِر السرطانُ المصابَ به على استرجاع كل ذكريات الماضي، أو تُلاحقه ذكريات الماضي؛ لعلمه بأن الغد قد لا يأتي. وحتى إذا نجح العلاج، فتجرِبة السرطان تجعل المرء يُدرك أنه لا أحد يعيش إلى الأبد، ومع ذلك، فحتى المريض بالمراحل الأخيرة من السرطان كثيرًا ما يرى بلوغه يومًا آخر أمرًا مرجَّحًا، أو ممكنًا على الأقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤