الفصل الرابع

جزء لا يتجزَّأ

(١) الفحص

كلمة screen من الكلمات الغريبة؛ فلها معنيان متضادان؛ أي تعني شيئًا وأيضًا تعني نقيضه إلى حد ما. فالفعل منها قد يعني حَجْب شيء ما عن الرؤية بحاجز. والحاجز الشبكي السلكي الذي يضعه شخص على نافذة لمنع دخول الحشرات تُطلَق عليه الكلمة الإنجليزية نفسها، وهذا الحاجز يكون كالشبكة التي يُمكن للمرء أن ينظر من خلالها إلى العالم. وعلى الجانب الآخر، فالفعل يعني أيضًا أن يفحص الشخص شيئًا ما بعناية ومنهجية للبحث عن سمات محدَّدة. أي إن الفعل يعني الإخفاء أو الكشف، الردع أو الاكتشاف.

وفحص السرطان هو ذلك البحث المنهجي، وهو محاولة الكشف عن الورم الخبيث قبل أن تظهر أعراضه على الشخص. ففي معظم الحالات، كلما اكتُشِف المرض في مرحلة أبكر، كان العلاج أسهل، وزادت احتمالية بقاء المريض حيًّا فترةً طويلة. فإذا وُجدت الوسيلة لرؤية الورم قبل أن يعي الشخص بوجود أي شذوذ عن الوضع الطبيعي، فلم لا تُستغل تلك الوسيلة في إجراء فحص أدق؟ مسحة عنق الرحم التي تُجرى سنويًّا من سن الحادية والعشرين للكشف عن سرطان عنق الرحم، والتصوير الشعاعي للثدي للكشف عن سرطان الثدي بدءًا من سن الخامسة والأربعين، وتنظير القولون للكشف عن سرطان القولون والمستقيم في سن الخمسين، الذي يتكرَّر بعد ذلك كل عشر سنين، والأشعة المقطعية للكشف عن سرطان الرئة في سن الخامسة والخمسين التي تُجرى للمدخِّن المفرط، كلها طرق للفحص يُرجَّح أن تقي من الوفاة الناجمة عن السرطان بين مجموعة سكانية كبيرة.

وتشير الإحصاءات إلى أنَّ فوائد أنظمة الفحص هذه تفوق مخاطر الفحص نفسه بكثير. فالتصوير الشعاعي للثدي والتصوير المقطعي المحوسَب يُعرِّضان أنسجة الجسم للإشعاع المؤيَّن، الذي يُعَد النوع الأقوى بين نوعَي الإشعاع؛ إذ تكفي قوته لتغيير بنية الجزيئات، ليس فقط بإثارة الإلكترونات، بل أيضًا بنزع أحدها. أمَّا الإشعاع غير المؤيَّن الذي ينتج من الضوء أو الحرارة أو الموجات الراديوية أو الموجات الميكروية، فهو أقل خطورةً بكثير على أنسجة الجسم. وبالطبع، نتعرَّض للإشعاع المؤيَّن كل يوم وطوال الوقت، من الإشعاع الكوني والرادون الذي يتسرَّب من الأرض. وبينما نتنفَّس الهواء ونشرب الماء ونأكل النباتات والحيوانات المحيطة بنا، تحمل أجسامنا نفسها نظائر مشعة. وبعض المهن؛ مثل العمل في مناجم اليورانيوم، أو ارتياد الفضاء، أو عمل الطيارين، أو مضيفي الطيران، تُعرِّض أصحابها لقدر أكبر من الإشعاع المؤيَّن الطبيعي، أو أحد إشعاعات الخلفية الأخرى. غير أن أكبر مصدر للإشعاع المؤيَّن الناتج بفعل البشر ويتعرَّض له معظمنا هو أشعة التصوير الطبي.

تقدِّر الجمعية الأمريكية للسرطان أن «جرعة الإشعاع المستخدمة في التصوير الشعاعي للثديَين [الذي تُلتقَط فيه وضعيتان لكل ثديٍ] تكاد تعادل نفس القدر من الإشعاع الذي تتعرَّض له أي امرأة من محيطها الطبيعي في حوالي سبعة أسابيع.»1 فإذا بدأت امرأة الخضوع للتصوير الشعاعي للثدي في سن الخامسة والأربعين، وامتثلت لتوصيات الجمعية الأمريكية للسرطان بأن واصلت إجراء الفحص كل عام حتى سن الرابعة والخمسين، ثم أجرته كل عامَين بعد ذلك؛ فستكون قد خضعت للتصوير الشعاعي للثدي عشرين مرة — وما يعادل مائة وأربعين أسبوعًا إضافيًّا من التعرُّض لإشعاع الخلفية يوميًّا — بحلول الرابعة والسبعين من عمرها. وهذه المرأة ستكون قد تعرَّضت لإشعاع بقدر مكافئ لِمَا تعرَّضت له امرأة أكبر منها بثلاث سنوات تقريبًا لم تُجرِ تصويرًا شعاعيًّا للثدي قط. ومع أن الأشعة السينية من المسبِّبات المعروفة لسرطانات البشر، لا تبدو لهذه المعلومة عن خطر التصوير الشعاعي للثدي أهمية كبيرة على نطاق عدد كبير من السكان على مرِّ الزمان. ومع ذلك، فمن وجهة نظري وبدون دلائل مباشرة على العلاقة السببية، سيُسبِّب التصوير الشعاعي للثدي مع مرور الوقت إصابةً واحدةً بسرطان الثدي بين كل ألف امرأة.2 علاوةً على ذلك، يزداد التعرُّض للإشعاع في تقنية التخليق المقطعي الثلاثي الأبعاد الأحدث، والسيدات ذوات الأثداء المكتنزة أو المفرطة الاكتناز — اللاتي يزداد خطر إصابتهن بالسرطان عن غيرهن، وتصعب رؤية أثدائهن بالتصوير الشعاعي للثدي — قد يخضعن لتصوير الثدي الشعاعي بتصوير أكثر من منظرَين للثدي في المرة.
لكن المخاطر الأقرب والأسهل في القياس من بين مخاطر التعرُّض للضرر من التصوير الشعاعي الروتيني للثدي تكمن في طبيعتنا المرتابة ورغبتنا في علاج كل ما يبدو غير طبيعي. إذ يؤدِّي الفحص إلى التدقيق بدقة متناهية إلى حد أنَّ بعض الكتل الغريبة الحميدة تُكتشَف ويُجرى لها خِزعة، وبعض السرطانات التي لم تكُن لتنتشر أبدًا تُكتشف وتعالَج. فعشرة في المائة ممَّن يخضعن للفحص يُعاد استدعاؤهن لإجراء مزيد من الفحوص.3 وفي الواقع، يقترح المعهد الوطني للسرطان أن ٥٤ في المائة من كل سرطانات الثدي، و٢٠ في المائة من سرطانات الثدي التي تُكتشَف بالفحص، تمثِّل إفراطًا في التشخيص.4 بعبارة أخرى، يؤدِّي البحث المدقق المنهجي عن شيء ما إلى الكشف عن شيء يستحق الفحص بمزيد من الدقة. وهذا التدقيق الإضافي يعني التصوير بالرنين المغناطيسي، وهو مكلِّف، والخِزعة، وهي تشهد التدخُّل في الجسم بأدوات طبية. وفي أغلب الأحيان يتبيَّن أن الشيء الشاذ ليست له أي أهمية تقريبًا؛ إذ إن ٩٥ في المائة ممن يُستدعين للمزيد من الفحوصات لا تُشخَّص إصابتهن بالسرطان.5
أُعيدَ استدعائي في العديد من المرات التي خضعت فيها للفحص. وكشف تدقيق الفحص في نهاية المطاف عن قدرٍ كافٍ من شيءٍ معيَّن، صحيح أنه لم يكُن سرطانًا، لكنه لم يكن تافهًا تمامًا، وكان كافيًا ليجعلني أعكف الآن على إجراء التصوير الشعاعي للثدي والتصوير بالرنين المغناطيسي بالتناوب كل ستة أشهر، ضمن خطة للتدقيق المُشدَّد تجعلني موقنةً بأنَّها مجرَّد مسألة وقت قبل أن يظهر على الشاشة السرطان الذي يبحث عنه اختصاصي الأشعة، ويؤتي البحث ثماره. وهذا الشعور الطفيف بالحتمية الذي يُحدثه البحث المدقق يتعارض تمامًا مع الإحصاءات. كلمة scrutiny؛ أي «التدقيق»، مشتقة من كلمة لاتينية تعني «يبحث»، وتوحي أصول الكلمة وتطوُّر معناها تاريخيًّا بالبحث بين القُمامة على أمل العثور على شيء ذي قيمة. ومع أنَّني صرت أكثر عرضةً للإصابة بسرطان الثدي، لا يزال احتمال عدم إصابتي به ضِعْف احتمال تشخيصه لديَّ في نهاية المطاف.

وتكون جدوى الفحص في أعلى درجاتها حينما يكون خطر الإصابة مرتفعًا. فلأنني الآن أعيش في ولاية كاليفورنيا الجنوبية التي يغلب عليها الطابع الصحراوي بدلًا من إلينوي ذات الصيف الرطب ومواسم العواصف، لا أضع حواجز شبكيةً سلكيةً على نوافذ منزلي. فهذه الحواجز لا تمنع دخول العناكب المنتشرة في كل مكان على أي حال، والبعوض أو العث الذي يظهر أحيانًا ليس بالعبء الكبير. وتُعَد الحاجة إلى الحواجز في بعض المناطق الجغرافية أشد من الحاجة إليها في مناطق أخرى، وحتى في الأماكن التي يوجد فيها الكثير من الحشرات، تزداد الحاجة إليها في الطقس الدافئ أكثر من البارد. أي إنَّ قرار تركيب الحواجز على نوافذ المنزل — كقرار فحص الجسم — ينبغي أن يعتمد على الموقف والسياق.

لهذه الأسباب، عندما تلقَّت الكاتبة العِلمية كريستي أشفاندن أمرًا من طبيبتها المتخصِّصة في أمراض النساء بأن تجري أول تصوير شعاعي للثدي في الأربعين من عمرها، قرَّرت ألَّا تمتثل للأمر. فباستخدام حسابات احتمالية الإصابة الخاصة بالمعهد الوطني للسرطان، وجدت أن احتمالية إصابتها، وفقًا لتاريخها العائلي، متوسطة، وتقول عن ذلك: «احتمال عدم إصابتي بسرطان الثدي مذ ذاك وحتى بلوغي التسعين من عمري يبلغ ٨٩ في المائة. وهذه الاحتمالات ترضيني.»6 وقد استنتجت من بحثها أن خضوع السيدات للفحص بتصوير الثدي الشعاعي في الخمسينيات من عمرهن يقلِّل خطر الموت بنسبة طفيفة تقل عن ١٠ في المائة، ولا تمثِّل هذه النسبة نفعًا كافيًا من وراء الفحص — وفقًا لتقديرها — بالمقارنة باحتمال تعرُّضها للتشخيص المفرط. ولو كان خطر إصابتها بسرطان الثدي أكبر، ربما بسبب تاريخ عائلي مع المرض، لربما كانت ستتوصَّل إلى نتيجة مختلفة. في السنوات الأخيرة فقط، التي أصبحت فيها فحوص السرطان أكثر انتشارًا، بدأت المناقشات تطعن في اتباع معيار الرعاية الصحية هذا عَبر المجموعات السكانية، وتشير إلى ضرورة اتخاذ القرارات المتعلِّقة بفحوص السرطان وفقًا لحاجة كل فرد على حدة.

يُستخدم التصوير الشعاعي بالطبع في التشخيص وفي الفحص، وهذا التمييز بين الاستخدامين مهم. كانت أمي تلتزم بفحص الثدي بالتصوير الشعاعي سنويًّا، لكن سرطان الثدي الذي أصيبت به شُخِّص عندما شعرت بكتلة بعد عدة أشهر من فحص الثدي بالتصوير الشعاعي. وهذا السرطان الذي ينشأ في الفترات الفاصلة بين الفحوص ليس نادرًا. عندما تشعر أي امرأة بكتلة، خاصةً بعد الأربعين، يُرجَّح أن يطلب منها طبيبها إجراء الفحص بالتصوير الشعاعي والموجات فوق الصوتية للتدقيق في الأمر. وهذه الأشعة السينية والموجات فوق الصوتية تشخيصية لأنَّ موضع الكتلة يكون قد حُدِّد بالفعل، ومن المرجَّح أن يتضمَّن التصوير الشعاعي للثدي صورًا لمناظر إضافية، ربما من زوايا إضافية وعن قُرب أكبر. فبينما يُعَد الفحص نظرةً مُدقِّقة للبحث عن أي شيء غير طبيعي، يُعَد التشخيص إلقاء نظرة مدقِّقة على شيء من المعلوم وجوده لتحديد ما إذا كان غير طبيعي. والفارق بينهما يشبه الفارق بين التجوُّل في أرجاء مدينة لا تعرفها جيدًا على أمل أن تصادف مطعمًا جيدًا عندما تدرك أن وقت الغداء قد حان؛ واستخدام خريطة وأنت جائع بالفعل للوصول إلى مطعم زكَّاه لك صديق تثق فيه.

fig5
شكل ٤-١: صورة شعاعية لثديٍ فيه سرطان واضح مُشار إليه بسهم. المصدر: الدكتور دوايت كوفمان، المعهد الوطني للسرطان.

(٢) السم، أو الشيطان الآخر

كانت كلمة Poison؛ أي «السُّم»، تعني في الأصل «الشراب»، وحتى الآن تُستخدم الكلمة في الإنجليزية في السؤال عن المشروب الكحولي الذي يفضِّله أحد الرفاق، وذلك بعبارة ترجمتها الحرفية «اختر سُمَّك». وفي مسرحية «عُطيل»، أشار شكسبير عدة مرات إلى الشراب — النبيذ على وجه الخصوص — بالشيطان. ومن الطرق الأساسية لعلاج السرطان استخدام خليط من الكيماويات السامة، حيث يُستخدم شيطان في مواجهة شيطان آخر، وتُحارَب النار بالنار (حسب تعبير شكسبير أيضًا)، على أمل ألَّا تشتعل النيران في الجسم بأكمله. وفي الواقع، يُشعِل رجال إطفاء حرائق الغابات حرائق متعمَّدةً ومحكومةً من أجل القضاء على الوقود الذي قد يغذِّي النيران الآخذة في الامتداد، وبذلك يُستخدم التهديد نفسُه لاحتواء التهديد المندلع وإنقاذ الأراضي.
وفي المحاضرة التي ألقاها باول إرليش، الذي يُعتبر في العموم أبا العلاج الكيميائي، بمناسبة تسلُّمه جائزة نوبل عام ١٩٠٨، قال: «أعتقد أن من الحقائق المعترف بها بوجه عام ولا مراء فيها أن كل ما يحدث في الجسم، بما فيه امتصاص المواد المغذية والهدم الأيضي، يجب أن يُعزى في نهاية المطاف إلى الخلية وحدها، وعلاوةً على ذلك، تختلف خلايا الأعضاء المختلفة عن بعضها بطريقة محدَّدة، ولا تُنفِّذ وظائفها المختلفة إلا بواسطة هذا الاختلاف.»7 وصحيح أنَّ هذه الحقيقة المعترف بها بوجه عام ولا مراء فيها لم تكن على الدوام وسيلةً لفهم الجسم البشري، لكن الميكروسكوب ازداد استخدامه في أواخر القرن السابع عشر، ونقل دراسة الأمراض من مرحلة التركيز على التشريح إلى مرحلة التدقيق في أصغر الأجزاء العاملة في الجسم: الخلايا. كان إرليش قد ابتكر طرقًا لصبغ الأنسجة لرؤية خلايا الجسم والأجزاء المكونة لها بمزيد من التفصيل. وتمكَّن من رؤية اختلافات بين الخلايا الشبيهة لم يسبقه أحد إلى اكتشافها، وشرع في تصنيف أنواع خلايا الدم واكتشاف أنواع التيفود في عَيِّنات البول. كما فسَّر طريقة نجاة الخلايا من السُّميات وإنتاجها للأجسام المضادة، وقد كان ذلك عملًا رائدًا في مجال علم المناعة، وسببًا أساسيًّا في حصوله على جائزة نوبل.
وفي نهاية خطابه، روَّج إرليش لإمكانية وجود حلٍّ سحري لكل مرض، قائلًا: «علاج تام بحقنة واحدة، تعطي نتيجةً أشبه بما أسميه therapia sterilisans magna».8 وهذه العبارة اللاتينية تعني استخدام جرعة كبيرة بالقدر الكافي من علاج سام للقضاء على العدوى أو المرض بدون إلحاق ضرر كبير بالمريض. ومع أنَّ هذا النهج غالبًا ما لا يبلغ مفعول الحل السحري عند تطبيقه عمليًّا، فإنَّه أساس العلاج الكيميائي؛ أي استخدام الكيماويات السامة في مكافحة السرطان وبعض الزوائد الحميدة مثل الأورام الرباطية.

ولأن كل عقار من عقاقير العلاج الكيميائي يعمل بطريقة مميَّزة خلال طور محدَّد من أطوار نمو الخلايا، فإنَّ المزيج المناسب بين العقاقير وتوقيت العلاج الكيميائي بالغ الأهمية في تحقيق فعالية العلاج. فعقار الأوكساليبلاتين عامل مؤلْكِل يقوم عمله على إتلاف الحمض النووي في الخلية حتى لا تتكاثر، وعقار الفلورويورواسيل-٥ مضاد للأيض يحل محل أجزاء من الحمض النووي العادي والحمض النووي الريبوزي خلال الطور الذي تُنتِج فيه الخلايا نسخًا من الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي استعدادًا للانقسام الخلوي؛ أمَّا عقار الإرينوتيكان، فهو يعترض عمل الإنزيمات، وهي بروتينات متخصِّصة تستخدمها الخلية في فصل شرائط الحمض النووي. غير أن هذه العقاقير لا تميِّز بين الخلايا الخبيثة والحميدة، بل تبث سمها في كل مكان لأن الورم في نهاية المطاف جزء لا يتجزَّأ من الجسم. وهكذا يسبِّب الأوكساليبلاتين اعتلال الأعصاب في الأيدي والأقدام، ويسبِّب أيضًا قُرَح الفم. وبينما يُعطَى المرضى أدوية مضادة للقيء والغثيان أيضًا، قد يسبِّب الفلورويوراسيل-٥ الغثيان والقيء والإسهال، ويُحدث في الفم طعمًا معدِنيًّا خلال حقنه. وقد ينخفض عدد خلايا الدم أيضًا. أي إنَّ سُمية هذه العقاقير قد تمثِّل خطرًا على الحياة.

لذا فإن هدف إرليش في توفير علاج يحقِّق الشفاء التام بحقنة واحدة يُعَد صعب المنال في العلاج الكيميائي للسرطان؛ لأن الجرعات اللازمة للقضاء على السرطان تضر المريض أيضًا. وهذه المسألة لها أهمية خاصة عند فنسنت ديفيتا، الرئيس السابق للمعهد الوطني للسرطان ومن بعده مركز ييل للسرطان، الذي اكتشف أن، في بدايات استخدام العلاج الكيميائي: «العديد من الأطباء، ومع أنني أوضحت ذلك بعناية [يقصد الالتزام بالدقة الشديدة في تحديد مقادير الجرعات العلاجية ومواعيدها]، أجرَوا — في أكبر مراكز السرطان وفي المراكز الطبية الأكاديمية وفي العيادات الخاصة — تعديلًا موحَّدًا على جرعة العقاقير وتوقيتها.»9 فبينما كان الأطباء يُحاولون تقليل الأعراض الجانبية بتقليل الجرعات والمباعدة بين مرات الحقن، جعلوا العلاج الكيميائي أقل فعالية، والسرطان الذي في جسم المريض أشد مقاومةً للعلاج.

يَستحضر السرطان إلى الذهن فكرةَ الحتمية، وأنَّ حدوث كل شيء متعلِّق به مسألة وقت ليس إلَّا، من حيث احتمالية الإصابة به في الأساس، وتوقُّع تطوُّر المرض وتأثيره في العمر المتبقي فور التشخيص، واحتمالية التوصُّل إلى الاكتشاف العلمي الفارق القادم في الوقاية منه أو علاجه. الوقت فكرة مجرَّدة يضع لها التشخيص بالسرطان حدودًا مادية، كما لو أن التشخيص يشغل ساعة تدق عقاربها إلى حين الوصول إلى متوسط فترة مواصلة العيش بعد التشخيص. وعلاج السرطان أيضًا مسألة توقيت؛ لأنه يهدف إلى ضرب الخلايا بقوة كافية وبتكرار كافٍ لمنع تعافيها. وغالبًا ما تُصبح حياة المريض محدَّدةً ومنظمةً وفقًا لنظام العلاج الكيميائي أو الإشعاعي، ووفقًا للفحوص الدورية للكشف عن عودته الممكنة، هذا إن جرى العلاج على ما يرام.

ونظرًا إلى أن هذه العقاقير بالغة السمية، وتتضمَّن أعراضها الجانبية الغثيان وفقدان الشَّعر واحتمال تسبُّبها في إهلاك الجسم وجعله عرضةً للعدوى أو حتى للموت كالمرض نفسه؛ اتجهت رغبة الأطباء في البداية إلى تقسيم جرعات العلاج الكيميائي بفواصل زمنية كبيرة بحيث يتسنَّى للمريض وقت كافٍ للتعافي قبل أخذ الجرعة التالية. لكن ديفيتا وآخرين معه — استنادًا إلى فهمهم لأطوار حياة الخلية وتأثير خلائط العقاقير — دعَوا إلى اتباع نهج لا هوادة فيه. فبينما يأخذ المريض في التعافي بين جرعات العلاج، تتعافى خلايا السرطان أيضًا. وعلاوةً على ذلك، فخلايا السرطان الناجية من العلاج تتكيَّف، ممَّا يجعل العقاقير أقل تأثيرًا مع مرور الوقت. فللقضاء على السرطان بالكامل، لا يمكن منحه هو أو المريض الوقت الكافي للتعافي قبل إطلاق الجرعة السامة التالية عليهما. بل إن الكلمة الإنجليزية toxic، التي تعني «سامًّا»، أصلها يوناني معناه «السم الذي يُوضَع على سن السهم»، والعلاج الكيميائي يصبح شبيهًا بهذا السلاح، يتتابع فيه العلاج المَحْقون قطرةً تلو الأخرى من أسنان الإبر إلى الوريد كالسهم المصوَّب نحو العدو؛ أي الورم.
في أواخر الستينيات من القرن العشرين، أوردت دراسة مدتها أربع سنوات أُجريت على خلائط العلاج الكيميائي أنَّ معدَّل الوصول إلى الهدأة التامة — التي لا يتبقَّى فيها دليل على وجود المرض، وهي تختلف قليلًا عن الشفاء — في داء ليمفومة هودجكين كان هائلًا؛ إذ بلغ ٨٠٪، وأن معدَّل الانتكاس كان يأخذ في الانحدار مع مرور الوقت لدى المرضى الذين شاركوا في الدراسة.10 يُعَد مرض هودجكين — وهو ليس ورمًا صلبًا محدَّد الشكل — من أكثر أنواع السرطان قابليةً للعلاج الآن؛ وأحد أسباب ذلك أنَّ باحثين مثل ديفيتا أدركوا أنه «عند النظر إلى العقد الليمفاوية المأخوذة من مرضى داء هودجكين تحت الميكروسكوب، تبيَّن أن الخلايا الخبيثة محاطة بكرات دم بيضاء تحارب العدوى، وخلايا ليمفاوية وخلايا أخرى مرتبطة بالالتهاب. أي إن خلايا السرطان كانت أقليةً في الحقيقة … وخطر ببال [ديفيتا] أنه حتى عندما يكون المريض في مرحلة متأخِّرة من المرض، يكون العدد الفعلي لخلايا السرطان منخفضًا نسبيًّا على الأرجح.»11 ونظرًا إلى أن العدد الكلي لخلايا السرطان بدا أكثر قابليةً للسيطرة مقارنةً بالسرطانات الأخرى، اعتبر الباحثون مرض هودجكين مرشَّحًا جيدًا للعلاج الكيميائي الناجح على نحو يستحيل تطبيقه على أنواع السرطان الأخرى إلى الأبد. افترضوا أنه، من الناحية النظرية، وجود خلايا أقل يعني أنَّ كميةً محدَّدةً من العقاقير الكيميائية ستقتل نسبةً أكبر من هذه الخلايا، وبذلك يقل إجمالي عددها مرةً تلو أخرى قبل أن تفوق سُميةُ العقاقير قدرة الجسم على التحمُّل. صحيح أنَّ البعض لا ينجو من مرض هودجكين، وأنَّ هذه الجهود الناجحة المبكرة في استخدام العلاج الكيميائي والإشعاعي أدَّت إلى بعض الآثار الجانبية الخطرة على المدى البعيد، منها حدوث مشكلات في القلب وبعض السرطانات الثانوية. لكن العلاج الكيميائي بخليط جديد من أربعة عقاقير (وخليط أجدد من سبعة عقاقير) على عدة جرعات يُحتسب توقيتها بعناية — عادةً ما تكون كل أسبوعَين في دورة مدتها ثمانية وعشرون يومًا — مَنَح المرضى أفضليةً تُعزِّز احتمالات النجاة بشدة، على نحو يشبه فكرة إرليش للعلاج السحري therapia sterilisans magna.12

(٣) الإخبار بالوقت، وإهدار الوقت، وقتل الوقت

عندما يقدِّم أطباء الأورام العلاج وفقًا لِمَا يُسمِّيه الباحثون «الأفضلية التي تعزِّز احتمالات النجاة»، قد تؤدِّي هذه الأفضلية إلى التعافي، كما هو ممكن في حالة ليمفوما هودجكين، أو قد تُقاس الأفضلية بالأسابيع. تضع الإحصاءات والتجارب الشخصية مع السرطان حدودًا لمفهوم الوقت.

ويصرِّح ديفيتا تصريحًا مباشرًا بأن كسب المزيد من الوقت هو هدفه الأول والأوحد تقريبًا؛ إذ يقول: «أريد أن يبقى المرضى على قيد الحياة إلى حين ظهور العلاج الجديد حتى يتمكَّنوا من الاستفادة منه».13 ويساوره القلق من أن الأطباء لا يبذلون جهودًا كافية، ولا يجرِّبون كل الحلول — حتى عندما تواجههم أصعب الاحتمالات — لكسب المزيد من الوقت مع كل مريض. فهو يَعتبر أن انخفاض جودة حياة المريض ما هو إلا حالة مؤقتة يعاني خلالها المرضى من أجل الفائدة الأكبر، التي يُعرِّفها بأنها كم الحياة وإمكانية عيش المريض فترةً طويلةً بما يكفي للاستفادة من الاكتشاف العلمي الفارق القادم.
يناقش الجَرَّاح أتول جواندي في كتابه «أن تكون فانيًا»، مسألة تفضيل قيمة الكم — أي الوقت — على الكيف — أي جودة الحياة — لدى المرضى المُشْرِفين على الموت. ويناقش بالتفصيل الحدود التي قد يبلغها الأطباء في محاولتهم الحفاظ على حياة المريض. وفي مثال على ما وصفه بالتركيز المنتشر لدى الأطباء للحفاظ على حياة المريض مهما كلَّف الأمر — وهو التركيز الذي يعتقد ديفيتا أنه مُفتقَد وليس منتشرًا في الحقيقة — سَرَد جواندي قصة شابة مصابة بسرطان نقيلي في الرئة: «خطوة تلو خطوة، وصلت سارة إلى الجولة الرابعة من العلاج الكيميائي الذي كان احتمال تغييره لمسار مرضها ضئيلًا، واحتمال تسبُّبه في أعراض جانبية منهكة للغاية كبيرًا.»14 ما يجد فيه جواندي مشكلةً ليس العلاج نفسه، بل التركيز الضيِّق الأفق على خيار العلاج التالي، ثم الذي يليه؛ أي الطبيعة المتدرِّجة لنقاش يُسلِّط كل تركيزه على العلاج الطبي ولا شيء غيره. فالهدف الأساسي المتمثِّل في الحفاظ على حياة المريض أقصى تقريبًا كل التفكير في التطوُّر المحتمل للمرض، والتطوُّر المحتمل عَبر العلاجات التي تُصبح فاعليتها أقل فأقل، وانخفاض جودة حياة سارة، والطرق التي قد تنتهي بها حياتها، كما حدث بالفعل.
وينتقد جواندي ما تبنَّاه ديفيتا من إصرار وتفاؤل نوعًا ما عندما أشار إلى دراسة كان الأطباء يميلون فيها إلى المبالغة في تقدير الوقت المتبقي لمرضاهم، مبالغةً شديدةً في بعض الأحيان، خاصةً عندما يكونون على دراية كافية بحالة المرضى، فضلًا عن دراسة أخرى فيها «أكثر من ٤٠ في المائة من أطباء الأورام يُقِرون بتقديم علاجات يعتقدون أنها من المحتمل ألَّا تكون فعالة.»15 وهذا الموقف يوحي بأن الأطباء يعتقدون أنهم في مستشفى ليك ووبيجان العام الذي ظهر في البلدة الخيالية التي ابتدعها جاريسون كيلور في برنامج إذاعي، حيث يكون كل الأطفال أفضل من المتوسط، وكل مرضى السرطان يتجاوزون المتوسط الإحصائي حتى مع تطوُّر المرض وتدهور صحتهم. وبينما يساور ديفيتا القلق من تشاؤم الأطباء المفرط وإحجامهم عن بعض خيارات العلاج، يساور جواندي قلق آخر من إفراط الأطباء في مقاومة تشاؤمهم وتقديمهم علاجات مفرطةً وقد تكون ضارة، وتعليقهم الآمال على مَن تُفيد الإحصاءات بوقوعهم ضمن منطقة الذيل الطويل في توزيعات الاحتمالات، وبأنهم يعيشون مدةً أطول بكثير من متوسط مدة البقاء على قيد الحياة بعد التشخيص.
وعند قراءتي لِمَا كتبه ديفيتا عن إشرافه على علاج صديقه من سرطان البروستاتا، لا يسعني سوى ملاحظة كثرة تكرار استخدام ضمير المتكلِّم في بداية الجمل، ما يعكس سيطرة الطبيب على عملية اتخاذ القرار ووضع خطة العلاج، كما لو كان يلعب لُعبةً يسعى فيها إلى التغلُّب على السرطان بقدر سعيه إلى الحفاظ على حياة صديقه. فمعركة الحفاظ على حياة المريض تُفهَم على أنها معركة الطبيب، أو تحدٍّ مهني وشخصي ينبري له ديفيتا دومًا. وعند تطرُّقه إلى من يعتقدون أن علاج السرطان في مراحله المتأخِّرة — السرطان النقيلي — بكل شراسة لا يستحق العناء، يقول: «عندما يذكر طبيب ذلك، يكون ما يعنيه عادةً هو أن الأمر لا يستحق عناءه هو.»16 يختلف ديفيتا في الرأي مع جواندي، ويتجاهل الدراسات الحديثة التي تقول إن الرعاية التسكينية للمرضى في المراحل المتأخِّرة تؤدِّي إلى تدخُّل علاجي أقل، ومعاناة أقل، وزيادة في مدة البقاء على قيد الحياة.17 ومع أنه يؤكِّد في جزء تالٍ أن الأطباء عادةً ما يعجزون عن وضع أنفسهم مكان المرضى، يزيل ديفيتا الحد الفاصل بين أهدافه وأهداف مرضاه؛ إذ يختتم كلامه قائلًا عن تطبيق مزيدٍ من العلاج الكيميائي على المرضى الذين صاروا في غاية الهشاشة لكن أجسامهم ما زالت تعمل: «لن نخسر شيئًا بتجربة ذلك.»18 وبينما قد تستحق استجابة الجسم للعلاج الكيميائي تحمُّل الآثار الجانبية، وتعطي المريض مزيدًا من الوقت، وبينما قد يتخطَّى بعض المرضى متوسِّط فترة البقاء على قيد الحياة، يوجد مرضى مثل أمي قد يكون لديهم ما يخسرونه.
فبعدما تعافت أمي من الجراحة التي تعذَّر فيها استئصال ورمها، بدأ طبيب الأورام في علاجها بالفولفيرينوكس، وهو مزيج من عدة عقاقير؛ الأوكساليبلاتين والفلورويوراسيل والإيينوتيكان والليوكوفورين، مُصمَّمة للعمل معًا على تقليص الورم، وهو ما يخفِّف أعراض السرطان ويؤخِّر مرحلة النقيلة. هذا المزيج من العقاقير خطوة متعارف عليها في علاج سرطان البنكرياس النقيلي لدى المرضى الأصحاء من كل الجوانب الأخرى باستثناء هذا السرطان، ويُروَّج له على أنه ناجح لأنه يطيل عمر المريض فترةً تفوق الفترة التي يُتيحها العلاج الكيميائي الآخر الأقل سُميةً بأربعة أشهر. بعبارة أخرى، فإنَّ مرضى سرطان البنكرياس النقيلي الذين يخضعون للعلاج بفولفيرينوكس كل أسبوعين لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر يواصلون العيش بعد التشخيص لمدة ١١٫١ شهرًا.19 أمَّا أمي، التي لم يكن سرطانها قد صار نقيليًّا بعدُ عندما بدأت العلاج الكيميائي، فلم تعِش بعد التشخيص إلا أقل من عشرة أشهر.

وخلال خضوعها لهذا العلاج، عاشت أمي بيدَين خَدِرتَين، وبثور في الفم، وتقيُّؤ، وسلس في البول. وسبَّبت لها جَولتا العلاج الأخيرتَان ردود فعل فورية وأشد حِدة، وبلغت من الهُزال أنها سقطت أرضًا مرتَين، وأُصيبت بكسر في الحوض في حين أنها، لولا ذلك، كانت على وشك الاستمتاع بشهرَين من الراحة النسبية بعد إنهاء جولة من العلاج الكيميائي بست حُقن. وبينما لم تُصَب بالألم الحاد الذي يُصاحب نمو الأورام، وبينما كان الضعف والهزال سينالان منها حتى لو لم تخضع للعلاج، يُعَد العلاج الكيميائي سلاحًا ذا حدَّين للمرضى في المراحل المتأخِّرة.

(٤) بوابة إلى القلب: المنفذ الطبي

عندما شُخِّصت إصابة أمي بالسرطان من المرحلة الثالثة، وكان ورمها قد اخترق جدار شريان فتعذَّر استئصاله جراحيًّا، قرَّرت أن تخضع للعلاج الكيميائي، ليس لأنه كان سيطيل عمرها — مع أنه أطاله بلا شك لعدة أسابيع أو شهور — بل لأنه ربما كان سيُقلِّل الألم الذي كانت ستشعر به مع ضغط الورم على أعضائها وأوعيتها الدموية. فعلى الرغم من الآثار الجانبية الشديدة التي يُحدثها العلاج الكيميائي، كان علاج أمي تسكينيًّا؛ إذ كان مُصمَّمًا لجعلها تشعر بأكبر قدر من الراحة لأطول وقت ممكن.

ففي البداية، تلقَّت مزيج فولفيرينوكس من خلال قسطرة مركزية مُدخَلة طرفيًّا، وهو أنبوب يُدخَل في وريد في الذراع ويمتد إلى الأعلى نحو القلب. وكانت أداةً ثقيلةً غريبة الشكل ملتصقةً بذراع أمي من الداخل، تتعارض مع كُمَّيها وحركتها. ولأن الأنابيب كانت ممتدةً خارج جسمها، كانت القسطرة تتعرَّض للتلف أو الكسر بسهولة، وكثيرًا ما كانت تنسد فجأة. وكذلك زاد خطر إصابتها بعدوى، وبالفعل أصيبت أمي ذات مرة بثلاث عدوات معًا في آنٍ واحد.

عندما اتضح أن القسطرة لا تعمل على ما يُرام — فقد تسبَّبت في انتفاخ أوردة ذراعَيها، بجانب العدوى التي تسبَّبت فيها — خدَّر الأطباء أمي وزرعوا منفذًا طبيًّا في حجم عملة معدِنية صغيرة تحت جلدها بالقرب من الترقوة.

ووفقًا لوكالة مراكز مكافحة الأمراض، كانت أمي واحدةً من نحو ٦٥٠٠٠٠ شخص يخضعون للعلاج الكيميائي سنويًّا في الولايات المتحدة.20 وكان المنفذ الطبي قد أصبح جزءًا لا يتجزَّأ من علاج الكثيرين منهم، خاصةً من يواصلون الخضوع للعلاج وهم موقنون بفكرة أن بعض السرطانات يمكن اعتبارها حالات مزمنةً ينبغي إدارتها طوال العمر مثل مرض السكري.

ونظرًا إلى أن العديد من العقاقير المستخدمة في العلاج الكيميائي سامة لدرجة أنها تُتلف الأوعية الدموية الصغيرة والأنسجة المحيطة بها بسهولة، لا يمكن أن تُحقن مرارًا وتكرارًا بالحَقن الوريدي العادي في أوردة اليد أو الذراع. وفي الحالات المثالية، تدخل عقاقير العلاج الكيميائي الوريد الأجوف مباشرة، وهو وريد كبير يؤدِّي إلى الأُذين العلوي الأيمن في القلب لا يتلف بنفس السهولة. ونظرًا إلى عدم وجود صِمام بين الوريد الأجوف وحُجيرة القلب هذه، فهو أيضًا أقرب شيء ممكن إلى القلب. فعندما تدخله العقاقير، تُسحب بسرعة إلى القلب وتُدفَع بكفاءة إلى أنحاء الجسم، بضرر أقل، وانتشار أسرع.

وصحيح أنَّ بعض الوسائل الأقدم مثل القسطرة المركزية المُدخلة طرفيًّا وقسطرة هيكمان، التي تتدلَّى من الجسم عبر فتحة في الصدر، تعتمد على هذه الطريقة في توصيل العقاقير، وتؤدِّي أداءً جيدًا نسبيًّا في مهمَّة توصيل عقاقير العلاج الكيميائي. ولكن نظرًا إلى بقاء أجزاء منها خارج الجسم؛ فقد تُصعِّب هذه الأدوات أداء المهام اليومية، بجانب جذبها للعدوى. فعلى سبيل المثال، قد تُثبَّت قسطرة هيكمان لدى بعض المرضى في نفس المكان الذي يستقر عليه حزام الأمان. وكذلك فإنَّ القسطرة المركزية المُدخَلة طرفيًّا وقسطرة هيكمان على حد سواء تتطلَّبان تصريف ما بهما من سوائل يوميًّا لإبقاء الأنابيب خالية، وبذلك تذكِّر صاحبها بالمرض طوال الوقت، فضلًا عن أنها مزعجة. ما تتطلَّبه رعاية المصاب بالسرطان هو جهاز ما لنقل العقاقير تُثبَّت كل أجزائه داخل الجسم تمامًا؛ لذا لاقى المنفذ الطبي، الذي يحقِّق هذَين الهدفَين، رواجًا سريعًا عند طرحه للاستخدام في ثمانينيات القرن العشرين.

وتتذكَّر الممرِّضة المعتمدة لحالات الأورام المتقدِّمة روندا بيكيت الأيام السابقة لظهور المنفذ الطبي، قائلة: «محاولة العثور على وريد يمكن حقنه عند مرضى السرطان الذين انتُهكت أوردتهم بأفضل مُلصقات القساطر ليست بالأمر اليسير. كما أن المعاناة الناجمة عن وجود المرء في موضع المفعول به ليست أمرًا يسيرًا أيضًا.»21 مهما بلغت خبرة الممرِّض، تُعَد الأوردة الصغيرة المعرَّضة للتلف مشكلةً مُخيفة، بل مؤلمة في أغلب الأحيان، لكل من له صلة بها. وذكرت أيضًا أن بعض عقاقير العلاج الكيميائي تسبب حَرقًا أو ندوبًا أو تغيُّرًا في اللون مع مرور الوقت، تاركةً بذلك علامات دائمةً على المرض وعلاجه، حتى إذا تعافى المريض تمامًا من السرطان. تصف بيكيت المنفذ الطبي بأنه «نعمة إلهية للمريض والممرِّض.»22 وقد ذكر مُمرِّضو أمي أيضًا عن الجهاز أنه أراحهم وأراح مرضاهم. وقد أصبح الجهاز الآن يُثبَّت لدى كل من يخضع للعلاج الكيميائي ممَّن أعرفهم.
تُذكِّرنا كلمة port، «المنفذ» وتعني أيضًا «الميناء»، بصورة السفن التي تُبحر حاملةً البضائع. فالميناء هو المكان الذي تُنقل فيه البضائع من البحر إلى البر، أو العكس عندما تُرسل من مكان إلى آخر. وعلى نفس المنوال، المنفذ الطبي هو أيضًا مدخل إلى الجسم، ونقطة نفاذ يمكن منها إدخال العقاقير القوية من العالم الخارجي إلى السائل الذي يدور في الجسم. ونظرًا إلى إمكانية سحب الدم من المنفذ، فإنه يُعَد أيضًا نقطةً يمكن إخراج السوائل من خلالها.
الجانب المسطَّح من المنفذ الذي يستقر تحت الجلد مباشرةً بالقرب من الترقوة هو غلاف ذاتي الغلق من السيليكون. وهذا الغلاف أو الغشاء يستطيع تحمُّل المئات من وخزات الإبر، ربما حتى ٢٠٠٠ وخزة (بل وربما أكثر، حسب حجم الإبرة) وذلك بدون تسريب أو تمزُّق.23 ويستقر تحت الغشاء مستودع صغير تخرج من جانبه الخلفي قسطرةٌ تدخل الوريد الكبير الذي يعلو القلب. تُصنع بعض هذه المستودعات من التيتانيوم، في حين يُصنع بعضها الآخر من الفولاذ غير القابل للصدأ أو البلاستيك أو خليط ما من المواد. وكذلك فالمنافذ والقسطرات المتصلة بها قد تختلف في شكلها وحجمها. ومع ذلك، فنظرًا إلى أن المنفذ له وظيفة واحدة، يظل التصميم الأساسي كما هو بصرف النظر عن نوع المنفذ: غشاء ومَدخل نفاذ وقسطرة. وبعد زراعة المنفذ، يصبح جزءًا من الجسم. يستقر تحت الجلد متصلًا بالقلب تقريبًا، وجزءًا لا يتجزَّأ من مريض السرطان.

الأجهزة الطبية المزروعة داخل الجسم تزداد رواجًا. صحيح أننا كائنات حية عضوية، لكن كثيرين منا يحملون في أجسامهم أجزاءً ميكانيكية. فأختي لديها شريحة معدِنية ومسامير في ظهرها. وحَماي خضع لجراحة لاستبدال ركبته. وإحدى عمَّاتي كان لديها منظِّم لضربات القلب. بعض الناس لديهم دعامات شريانية لتحسين تدفُّق الدم لديهم، وآخرون لديهم قواقع تُزرع في الأذن لتحسين السمع. عندما يُدخَل أحد هذه الأشياء في جسم شخص، فإنه يصبح جزءًا منه، يستخدمه الجسم ويعتمد عليه ليعمل على النحو الأمثل.

غير أنَّ المنفذ الطبي يختلف اختلافًا طفيفًا؛ فهو جزء من الجسم وكذلك ليس جزءًا منه. فهو أداة تُسهِّل الأمور على المريض ومقدمي الرعاية لمرضى السرطان، لكن الجسم نفسه لا يستخدم الجهاز استخدامًا معيَّنًا، ولا يعتمد عليه في أي وظيفة بعينها. وعندما تنتفي الحاجة إليه، يُزال بإجراء جراحي بسيط. وبهذه الطريقة، يظل المنفذ كِيانًا منفصلًا، حتى وإن استقرَّ بالكامل داخل جسم الشخص.

صديقتي باتريشيا جريس كينج، كاتبة القصص الخيالية، كان في جسمها منفذ طبي خلال علاجها الكيميائي قبل إجراء جراحة سرطان الثدي. وكتبت في مدوَّنتها عن تجرِبتها: «كنتُ مفرطةً في التركيز على ثديي الأيسر والكتلة التي كانت فيه، لكني أصبحت الآن أركِّز أيضًا على المنفذ الجديد فوق ثديي الأيمن مباشرة؛ إذ أشعر بأنه أحدث توازنًا جيدًا. فالمنفذ يوجد الآن فوق ثديي الأيمن لمحاربة و«قتل» السرطان الذي في ثديي الأيسر. كلما تحسَّست المنفذ يخطر ذلك ببالي، وهو أمر جيد.»24 بعبارة أخرى، منح المنفذ باتريشيا شعورًا بالقوة؛ لأنه كان يرمز للإجراء الذي شرعت فيه لتدمير الورم الموجود داخلها. كان جزءًا من جسمها، ولو مؤقتًا، وجزءًا من تفكيرها أيضًا، وإضافةً تستغرب ترحيبها بها بينما تحتاج إليها.

أمَّا أمي، فلم تكن منشغلةً بمنفذها معظم الوقت. فعند مريض السرطان — خاصةً لو كان توقُّع تطوُّر المرض وتأثيره في عمره المتبقي سيئًا — غالبًا ما يحتل المنفذ مرتبةً متأخرةً على قائمة الاهتمامات. ومع ذلك، فعندما كان وقت الوخز بإبرة يحين، كانت تتذكَّر المنفذ وتمتن لأنه جعلها لا تحتاج إلا إلى وخزة واحدة، فالمنفذ نعمة لمرضى السرطان والطاقم الطبي على حد سواء؛ لأن سحب الدم من الأوردة الصغيرة الضعيفة لدى مريض يتلقَّى العلاج الكيميائي قد يكون صعبًا ومؤلمًا. ولمَّا فقدت أمي بعض وزنها، ازداد بروز كتلة المنفذ، وأصبح وسيلةً أخرى تُذكِّرها بمرضها، ورمزًا إلى أنها مريضة بالسرطان، مميِّزًا إياها بطريقة بسيطة، لكنها ذات مغزًى عمَّا كانت عليه منذ أشهر قليلة ماضية. كانت من وقت لآخر تمرِّر أصابعها على المنفذ بذهن شارد، وتتحسَّس الجلد برفق، كما لو كانت تذكِّر نفسها بأنه كان في هذا المكان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤