الفصل الخامس

الداخل/الخارج

(١) السرطان في الأجواء؟ السرطان في العائلة؟

في ديسمبر ١٩٥٢، بعد سلسلة من الأخطاء الميكانيكية ومشكلات في الاتصال بين الأشخاص في مفاعل إن آر إكس النووي في مختبرات تشوك ريفر في ديب ريفر بأونتاريو، قبع مليون جالون من المياه المشعة — التي تُعتبر حساءً مُسرطِنًا — في قبو المبنى الذي كان فيه المفاعل. حينئذٍ كان ضابط في البحرية الأمريكية، عمره ثمانية وعشرون عامًا واسمه جيمي كارتر، يحمل تصريح دخول سريًّا للغاية، فاصطحب طاقِم صيانة على متن قطار إلى كندا للمساعدة في عملية التنظيف التي استغرقت عدة أشهر.

من المسلَّم به الآن عمومًا — ولو لم يكن واضحًا بنفس القدر حينئذٍ — أن أي زيادة في التعرُّض للنشاط الإشعاعي تزيد من خطر الإصابة بالسرطان. كانت حداثة سن كارتر وتعرُّضه لقدر كبير من الإشعاع المؤيَّن سببَين لزيادة احتمالية إصابته بالسرطان، وخاصةً اللوكيميا. ومع ذلك، يُعَد التعرُّض للنشاط الإشعاعي — أي نوع الإشعاع الذي تتحلَّل فيه أنوية الذرات — من عوامل الخطر التي تُرجِّح حدوث الإصابة وليس العوامل التي تُحتِّم حدوثها. بعبارة أخرى، لا توجد جرعة محدَّدة من الإشعاع من المؤكَّد أن كل من يتجاوزها يُصاب بالسرطان. بل إن السرطان الناتج عن الإشعاع عملية عشوائية تحدث على مر السنين وعلى نطاق مجموعات سكانية؛ لذا يستحيل تقريبًا الجزم بأيِّ السرطانات — أو أيِّ الوفَيَات الناتجة عن السرطان — قد نتج من التعرُّض للإشعاع. فالعُرضة للخطر تعني عدم اليقين بشأن ما قد يكون أو قد لا يكون.

سُجِّلَت الصلة بين التعرُّض للمواد المشعة واللوكيميا في الوثائق لأول مرة بين الناجين من القصفَين الذريَّين في اليابان، وظهرت أيضًا بعد حادثة محطة تشيرنوبل للطاقة النووية التي وقعت في ١٩٨٦. فبعد الحادثة، تُوفي واحد وعشرون من عُمَّال التنظيف بسبب متلازمة الإشعاع الحادة، وعانى عشرات الآخرين التسمُّم الإشعاعي الذي يسبِّب أعراضًا مثل الغثيان والانخفاض في أعداد خلايا الدم في غضون يوم تقريبًا من الإشعاع. وبعد عشرين عامًا من الحادثة، التي لا تزال أسوأ الحوادث النووية قاطبة، ذكرت منظمة الصحة العالمية أنَّ بعض «التحقيقات الحديثة تشير إلى تضاعف معدَّل الإصابة باللوكيميا لدى مَن تعرَّضوا لأكبر قدر من الإشعاع بين عُمَّال تنظيف تشيرنوبل [٣٥٠٠٠٠ عامل].»1 ومع ذلك، فما من سبيل لمعرفة أيِّ السرطانات نشأ عن المشاركة في عملية التنظيف، وأيها كان سيحدث على أي حال.
وفي كتابه «لماذا ليس الأفضل؟»، يصف كارتر التحضيرات للعمل الخطر الذي أدَّاه في تشوك ريفر، قائلًا: «خرجنا جميعًا إلى ملعب التنس، وكان لديهم نسخة مطابقة للمفاعل في ملعب التنس. كنا نسرع إلى هناك حاملين مفاتيح الربط ونُحكم ربط الكثير من المسامير والصواميل.»2 كانوا يتدرَّبون على نموذج ليتمكَّنوا من إجراء هذه الأعمال بأسرع وقت ممكن فور دخولهم المبنى، وعندما كان عملهم يبدأ بجدٍّ على قدم وساق، كان النموذج يُستخدم لتتبُّع التقدُّم المحرَز، وكان كل مسمار وصامولة في النموذج يُزال فور أن يُزال من المفاعل نفسه. فعندما كان الرجال يدخلون المبنى، كانوا يعملون بأسرع وقت ممكن في مهام محدَّدة قصيرة للغاية.
وينقل كارتر إلينا ما حدث قائلًا: «امتصصنا الحد الأقصى من النشاط الإشعاعي المسموح به في السنة خلال دقيقة وتسعة وعشرين ثانية.»3 وبعد ذلك بستة أشهر، كان بَولُ كارتر ما يزال مُشِعًّا.

وفي ١ أبريل ١٩٧٩، زار جيمي كارتر — وكان رئيسًا حينذاك — محطة الطاقة النووية في جزيرة «ثري مايل»، بعد أيام قليلة من الانصهار الجزئي لمفاعل نووي هناك. ومن المفارقات أن الحادث وقع بعد أسبوعَين من إطلاق فيلم «ذا تشاينا سيندروم» أو «متلازمة الصين»، الذي ظهر فيه مفاعل نووي يقع فيه حادث. ومع أن حادثة ثري مايل ليست بفداحة حادثة تشيرنوبل؛ فقد كانت أسوأ حادثة نووية في الولايات المتحدة. حتى إن إزالة آثارها استغرقت أربعةً وعشرين عامًا. ولم يَثبُت وجود صلة بين الحادثة وزيادة انتشار سرطان البنكرياس بين السكان المجاورين.

أودى سرطان البنكرياس بحياة والد جيمي كارتر وإخوته الثلاثة. فقد مات السير جيمس إيرل كارتر عام ١٩٥٣ في الثامنة والخمسين من عمره. ومات بيلي كارتر عام ١٩٨١ في الحادية والخمسين من عمره. وماتت روث كارتر عام ١٩٨٣ في الرابعة والخمسين من عمرها. وماتت جلوريا كارتر سبان عام ١٩٩٠ في الثالثة والستين من عمرها. وحتى أمه أصيبت بسرطان الثدي الذي صار نقيليًّا وانتشر حتى وصل إلى بنكرياسها. كان تاريخ العائلة مع سرطان البنكرياس حافلًا لدرجة أن جيمي كارتر ظل لفترة من الوقت يخضع للفحص بالأشعة المقطعية مرتَين سنويًّا للكشف عن المرض، ثم استبدل به أشعة الرنين المغناطيسي نظرًا إلى ارتفاع احتمالية الإصابة بالسرطان عند التعرُّض المتكرِّر للأشعة المقطعية.4 وبدا أطباء كارتر على يقين من أن كارتر كان يتأرجح بين الإصابة بالسرطان وعدم الإصابة به، وأن حالته تتطلَّب متابعةً منتظمةً للتيقُّن من حالة جسمه.

يذكِّرني ذلك بالقط الخيالي الذي وضعه إرفين شرودنجر في صندوق محكم الغلق مع كمية صغيرة من مادة مشعة وقنينة من السُّم. عندما تتحلَّل الذرَّة الأولى في المادة المشعة، يتحرَّر السُّم، ويَنفق القط بالطبع، إذن، فبعد ساعة من ذلك يكون القط قد نفق حتمًا. ومع ذلك، فخلال ساعة من المحتمل أن تكون ذرة قد تحلَّلت أو لا تكون أي ذرة قد تحلَّلت. وإلى حين تفقُّدنا لِمَا بداخل الصندوق، تظل النتيجة غير محسومة، وتحوم ظلال من عدم اليقين وصلت بشرودنجر إلى افتراض أنَّ القط قد مات وأنه لا يزال حيًّا في الوقت نفسه؛ أي إنه في حالتَين متساويتَين في درجة الاحتمال. وكان جزء من مقصده أن عدم اليقين على المستوى المجهري يُترجَم إلى عدم يقين على مستوى الأشياء التي تُرى بالعين المجرَّدة، وأن الملاحظة المباشرة هي مصدر اليقين.

(من النقاط الهامشية المثيرة للاهتمام أن شرودنجر يعطيني عذرًا لكتابة هذا الكتاب تحديدًا، ولمحاولتي فهم شيء قد يصعب استيعابه بالكامل؛ ففي كتابه «ما هي الحياة؟» يقول: «يتملَّكنا شعور طاغٍ بأننا الآن فقط نبدأ في الحصول على مادة موثوق بها للربط بين كل ما نعرفه وتكوين صورة كاملة، ولكن على الجانب الآخر، بات من ضروب المستحيل أن يفهم عقلٌ واحد أكثر من جزء صغير متخصِّص من هذه الصورة فهمًا تامًّا. لا أرى مهربًا آخر من هذه المعضلة (كي لا نخفق إلى الأبد في تحقيق هدفنا الحقيقي) إلا أن يجازف بعضنا بالشروع في تجميع الحقائق والنظريات، ولو كانت معرفتهم ببعضها غير مباشرة وغير كاملة، مع تقبُّل خطر الظهور بمظهر الحمقى.»5 فكما يقول في نهاية هذه المقدمة، يجب موازنة ميل البشر إلى التفكير في الموت بالتأمُّل في الحياة، وذلك من خلال هذه المخاطرة بالكتابة التي تُجمِّع الحقائق والأفكار، حتى عندما تكون ناقصةً إذا اقتضت الضرورة.)
الحقيقة أن الفحص الواحد بالأشعة المقطعية يعادل القدر الذي يتعرَّض له المرء في عام كامل من الإشعاع اليومي في بيئتنا. والغريب أن فهم خطر الإصابة بالسرطان بسبب التصوير الطبي الذي أصبح الآن شائعًا هو أمر بالغ الصعوبة، حيث يُستشهد بمجموعة مرجعية قياسية قوامها الناجون من القصفَين الذريَّين في اليابان الذين يبلغ عددهم ٢٥٠٠٠ ناجٍ، فمعظمهم تعرَّض لِمَا يكافئ إشعاع التصوير بالأشعة المقطعية من مرة إلى ثلاث مرات.6 إذ يؤدِّي الاستشهاد بهذه المجموعة إلى إضعاف الصلة بين الأشعة المقطعية والسرطان؛ فالناجون من القنبلة الذرية تعرَّضت أجسامهم بالكامل للإشعاع، في حين أن الأشعة المقطعية عادةً ما تُجرى على جزء من الجسم فحسب. علاوةً على ذلك، فنظرًا إلى أن الإصابة بالسرطان تخضع للاحتمالات، لا تُقدِّم المجموعة المرجعية إجابةً واضحةً على سؤال أيٌّ من السرطانات قد نشأ بسبب التعرُّض للإشعاع. وبينما تتجه الآراء العامة إلى عدم وجود قدر من الإشعاع يمكن اعتباره آمنًا تمامًا، يرى أطباء الطوارئ أن التصوير بالأشعة المقطعية لا يمثِّل أي خطر.7 وعلى الجانب الآخر، تفيد دراستان أُخريان بأن «٢٩٠٠٠ حالة سرطان مستقبلية يمكن عزوها إلى فحوص الأشعة المقطعية البالغ عددها ٧٢ مليون فحص التي أُجريت في البلاد [الولايات المتحدة] في ٢٠٠٧»؛ وبأنه من الممكن أن «تحدث إصابة إضافية بالسرطان كل ٤٠٠ إلى ٢٠٠٠ فحص منتظم للصدر بالأشعة المقطعية.»8

لذا، فبينما اعتقد أطباء جيمي كارتر في أول الأمر أن خطر إصابته بسرطان البنكرياس كان كبيرًا لدرجة أنه يفوق خطر فحوص الأشعة المقطعية؛ فقد حدت بهم الفحوص المتكرِّرة إلى إعادة التفكير عندما ظلَّ عدد الفحوص يتزايد. فكأنهم كانوا متيقنين من أنهم سيكتشفون سرطان البنكرياس بعد فحوص قليلة لدرجة أنهم لم يُلقوا بالًا لأي خطر أو تكاليف أو إزعاج من استمرار الفحوص. لم تخضَع أمي لفحوص الأشعة المقطعية إلا بعد تشخيص إصابتها بسرطان البنكرياس، وذلك لمتابعة تطوُّره. ونظرًا إلى أنها كانت في العَقْد الثامن من عمرها بالفعل، ولم يكن متوقَّعًا لها أن تعيش أكثر من عام آخر، لم يكن خطر التعرُّض للإشعاع الناتج عن التصوير الطبي ذا أهمية كبيرة؛ لأن السرطان الناتج عن الإشعاع عادةً ما يستغرق ظهوره وتطوره عقدًا من الزمن وقد تطول هذه المدة إلى أربعين عامًا. فلو صحَّ تخمين طبيب الأورام المشرف على حالة أبي أنَّ تعرُّضه للإشعاع المؤيَّن خلال خدمته العسكرية هو ما أصابه بسرطان الكبد؛ فهذا يعني أن ظهوره استغرق أكثر من عشرين عامًا.

ربما تحمل عائلة كارتر طفرةً جينيةً تجعلهم أكثر عُرضةً لسرطان البنكرياس، وقد يكون جيمي الوحيد بين إخوته الذي شاءت الصُّدفة ألَّا يرث المرض نتيجةً لإلقاء حجر نَرد الحمض النووي. ولكن، حتى إذا كان الشخص حاملًا لهذه الطفرة الجينية، فقد لا يصاب بالمرض أبدًا؛ لأن هذه الطفرة الجينية عامل خطر يرجِّح حدوث الإصابة ولا يحتِّمها، عامل خطر يشير إلى حالة من عدم اليقين بين عدة احتمالات، وليس نتيجةً محدَّدةً أو علاقةً سببيةً مؤكَّدة. ونظرًا إلى أن عائلة كارتر كانت مشتغلةً في الزراعة؛ فقد تعرَّضوا أيضًا لمبيدات الآفات والكيمياويات الأخرى التي ربما زادت خطر الإصابة بالسرطان. علاوةً على ذلك، كان جيمي كارتر الوحيد في عائلته الذي لم يكن مدخِّنًا، والتدخين من عوامل الخطر المعروفة التي تسبِّب سرطان البنكرياس وسرطان الرئة.

أُصيب جيمي كارتر بالسرطان في النهاية، ولكنه لم يكُن من النوع الذي كان متوارثًا في عائلته. فقد شُخِّصت إصابته بسرطان الميلانوما النقيلي في خريف عام ٢٠١٥. ويُعتقد أن السبب الأساسي للميلانوما — بغض النظر عن عوامل الخطر الأخرى مثل الجينات الموروثة — هو الإشعاع غير المؤيَّن من أشعة الشمس التي تُتلف الحمض النووي لخلايا الجلد، وتتسبَّب في التسرطن أو التكاثر السريع للخلايا، وتُثبِّط عمل الجينات الكابحة للأورام. وكذلك كان للون جلده الفاتح وتقدُّمه في السن وكونه ذكرًا دورٌ في تحوُّل الاحتمال إلى حقيقة. هذا النوع الأقل شيوعًا والأشد فتكًا من سرطانات الجلد كان قد انتشر حتى وصل إلى دماغه وكبده بحلول وقت اكتشافه. وكان كارتر في التسعين من عمره. أي إنَّ كارتر مرَّ بعقود العمر التي يزداد احتمال إصابة المرء بالسرطان فيها بدون أن يلوح للمرض أثر.9 يبلغ احتمال مواصلة العيش لخمس سنوات للمصابين بالميلانوما من المرحلة الرابعة من ١٥ إلى ٢٠ في المائة.10 وبالطبع كان قد تخطَّى بكثير التوقُّعات الإحصائية لحياة شخص وُلد عام ١٩٢٤.

(٢) الإفراد

عولج جيمي كارتر بجراحة لاستئصال ورم من كبده، وبعلاج إشعاعي لتقليص آفات في دماغه، وبعقار بمبروليزوماب، وكان عقارًا جديدًا للمعالجة المناعية اعتمدته وكالة الغذاء والدواء الأمريكية في سبتمبر ٢٠١٤ لعلاج الميلانوما، وأتاحته للمرضى في المملكة المتحدة في شهر مارس من العام التالي. وهذا العقار — الذي اعتمدته وكالة الغذاء والدواء لعدد قليل من السرطانات منها الميلانوما النقيلية غير القابلة للاستئصال التي كان كارتر مصابًا بها — يأخذ شكل مسحوق يُخلَط بالماء ويُحقَن وريديًّا كل ثلاثة أسابيع. ومع أنه لا ينجح مع كل مرضى الميلانوما، ويُقلِّص الأورام لدى واحد فقط تقريبًا من كل أربعة متلقين في الحقيقة؛ فقد قلَّص الآفات التي كانت في دماغ كارتر حتى تعذَّرت رؤية أي أثر للأورام الثانوية النقيلية هناك. ولا يعلم أحد على وجه اليقين سبب فعاليته الشديدة لدى بعض المرضى أو بعض السرطانات دون الآخرين «مع أن الأبحاث الحديثة تُفيد بأن بعض الطفرات تجعل الخلايا السرطانية أوضح للجهاز المناعي»، وأن «احتمالية نجاح العقاقير تبلغ أقصاها في حالة الأورام التي تنشأ عن التعرُّض لمسبِّبات السرطان المحدثة للطفرات»، مثل الميلانوما الناتجة عن التعرُّض للشمس وسرطان الرئة الناتج عن التدخين.11
يستهدف عقار بمبروليزوماب جينَين — هما PD-1 وPD-L1 — يُحدِثَان مفعولًا أشبه بمفعول جهاز التخفِّي؛ إذ يسمحان لخلية السرطان بالتخفي بين الخلايا الأخرى لتجنُّب الخلايا التائية في الجسم. يرمز حرفا PD المكوِّنان لاسم الجين إلى عبارة الموت المُبرمج. فموت الخلايا، أو الاستماتة، عملية طبيعية شديدة التنظيم عظيمة النفع، تموت فيها المليارات من خلايا الجسم كل يوم، على عكس النخر، وهو موت الخلايا الناتج عن الإصابة بجرحٍ ما. PD-1 هو بروتين يوجد على سطح الخلية المناعية. «وبروتين PD-L1 الموجود على سطح خلية السرطان يتصافح مع PD-1 فيما يشبه الهدنة، فيوقف ذلك الهجمة المناعية ويسمح للسرطان بالتكاثر بلا عائق.»12 وفي بعض السرطانات — يُحتَمَل أن ما كان كارتر مصابًا به كان واحدًا منها — عندما يظهر PD-L1، فإنه يحفِّز PD-1 الذي يُعَد مثبِّطًا للمستقبلات، ويربك ذلك الخلايا التائية المُختصة بمهاجمة الخلايا المريضة. بعبارة أخرى، عندما يُثبَّط PD-1، يسمح ذلك للجسم بمهاجمة نفسه، وعندما يُنشَّط، يسمح ذلك للجسم بالتسامح مع نفسه. عندما تُنشِّط خلية سرطانية نقطة تفتيش PD-1 الموجودة على الخلية التائية، يتسامح النظام المناعي للجسم مع خلية السرطان. لأن تلك المصافحة تدل على صحة الخلية، فإنَّ آلية مكافحة الأمراض في الجسم تَحسب خلية السرطان خليةً سليمة. لكن عقار بمبروليزوماب وبعض العقاقير القليلة الأخرى تكون فعالة ضد بعض حالات الميلانوما المتأخِّرة؛ لأن الميلانوما — أو بعض حالاتها على الأقل — تستخدم طريقة التخفي هذه، والعقار يستطيع منع تلك المصافحة والسماح بهجوم جهاز المناعة. ويجري العمل على ابتكار عقاقير أخرى لتعطيل PD-L1 الموجود على خلية السرطان، كما أن احتمال الجمع بين أكثر من علاج يفتح مجالًا لآمالٍ أكبر.

فنظرًا إلى أنَّ الميلانوما تثير استجابةً مناعيةً — لأنها تتلاعب بجهاز المناعة — فإنها تستلزم نهجًا موجَّهًا في العلاج بالعقاقير. علاوةً على ذلك، يدوم تعطيل قدرة الورم على إخفاء نفسه مدةً أطول ممَّا تُسفر عنها العلاجات التقليدية؛ لأن الجهاز المناعي يستمر في تمييز الخلايا المريضة حتى وهي تتغيَّر وتتكيَّف. فما دام منع التخفِّي أو المصافحة ممكنًا، لن يتسامح الجسم مع الخلايا التي لا تبدو سليمة، حتى إذا لم تبدُ كما كانت بالضبط منذ شهر أو سنة. لذا فمقاومة العقاقير التي قد تعوق العلاج الكيميائي لا تبدو مشكلةً في حالة العلاج المناعي.

وفي طريقة أغرب لتنشيط جهاز المناعة، تُسلَّط على خلايا السرطان فيروسات مثل فيروس الحصبة أو شلل الأطفال؛ ليدمِّر الجهازُ المناعي خلية السرطان وهو يظنها مرضًا آخر. فهي طريقة لمحاربة النار بالنار، حيث يُخدع الجسم لمحاربة السرطان الذي لا يُميِّز أنه عدو؛ وذلك بإظهاره في شكل مرض يعتبره الجسم شيطانًا ويقاتله.

التلاعب بجهاز المناعة إحدى السمات العديدة التي بات من المفهوم الآن أنها تُميِّز خلايا السرطان، وهو من الطرق المميِّزة لتكاثر خلايا السرطان التي لم تكن مفهومةً جيدًا منذ عقدَين من الزمان. فلِعقود عديدة، كان الباحثون ينظرون إلى السرطان من الخارج، أمَّا الآن فقد باتوا يرصدونه من الداخل إلى الخارج.

ويركِّز ما يسمَّى الآن بالعلاج الموجَّه على واحدة أو أكثر من هذه السمات المميِّزة. إذ تشرح روندا بيكيت — الممرِّضة ذات الباع الطويل مع الأورام — كيف تستهدف العقاقير الجديدة هذه السمات، قائلة: «تعمل العقاقير الموجَّهة بعدة طرق منها: (١) إعاقة الإشارات الكيميائية الخاصة بالنمو والانقسام أو وقفها تمامًا، (٢) تغيير البروتينات الموجودة في بيئة الخلية كي تموت، (٣) منع نمو الأوعية الدموية الجديدة، (٤) دعم جهاز المناعة، (٥) حمل السُّميات إلى خلايا السرطان لتدميرها.»13 وفي الحقيقة، فأُولى هذه السمات تُشير إلى سمتَين بالفعل، تُعدَّان بمثابة ضربة مزدوجة من أجل التكاثر الناجح: وهما النمو السريع الجامح، والقضاء على نظام إبطاء نمو الخلايا. والأهم في كل ذلك، ونظرًا إلى أن خطر الورم الأصلي على مدة حياة الشخص أقل بكثير من خطر السرطان الثانوي النقيلي، فإن «خلية السرطان الناشئة تُعيد تنشيط هذه القدرة على الانتقال، وهي سمة أخرى لها أهمية بالغة للخلية الجنينية الآخذة في التكوُّن.»14 وهذه السمات المميِّزة للسرطان تنطبق أيضًا على الجنين الذي ينمو ليُكَوِّن جسم الإنسان. بعض العلاجات الموجَّهة تركِّز على سمة واحدة من السمات، في حين تُحدث علاجات أخرى عدة تغييرات في الخلايا الضارة. وفي معظم الحالات تُستثنى الخلايا السليمة من هذه التغييرات.
في مسعى كان منذ عشر سنوات ضربًا من التكهُّن على غير هدًى، ولا يزال حتى الآن حدسيةً رياضيةً في طريقها إلى التطبيق العملي، يُجري الباحثون استكشافًا نظريًّا وحوسبيًّا لأدلة تجريبية حديثة على بِنية التباين الكروموسومي في خلايا السرطان. فمن الممكن أن تكون الخلايا الجذعية للسرطان — وهي خلايا غير متمايزة يمكنها إنتاج العديد من الخلايا المتمايزة — قادرة على تكييف معدَّل حدوث نوع من الطفرات لا تنفصل فيه الكروموسومات بشكل صحيح عند انقسام الخلية. ويقترح هذا النموذج أن خلايا السرطان يمكن اعتبارها ما يطلق عليه «أشباه الأنواع»؛ إذ تحمل الخلايا المنحدرة منها طفرات عديدة، على عكس الأنواع التي غالبًا ما يكون النَّسل فيها نُسخًا مطابقةً لها تمامًا في التركيب الجيني. وشبيه النوع غير مستقر؛ فهو ليس له نمط جيني واحد يمكن استهدافه، بل يتسم بطفرات مختلفة في عدة أماكن. ومع ذلك، فإذا ثبتت صحة هذا النموذج، يُصبح من المستبعد أن تكون هذه القدرة على تكييف أخطاء انفصال الكروموسومات ونقلها ناتجةً عن تاريخ تطوُّر ورم واحد محدَّد. وبدلًا من ذلك، يُرجَّح أن تكون سمة الخلايا السرطانية هذه من سمات الخلايا الجذعية بوجه عام، تُلاحظ في الخلايا الجذعية السرطانية بوجه خاص. وإذا صحَّ ذلك؛ فمن المرجَّح أنَّ هذه السمة الموجودة في الخلايا الجذعية يُعاد تنشيطها في خلايا السرطان، ربما بفعل عدة عوامل منها العوامل البيئية. وقد يُمثِّل فهم إعادة التنشيط التي تُميِّز خلايا السرطان طريقةً جديدةً لعلاج السرطان، فإذا أمكن إعادة تنشيط سمة من سمات خلايا السرطان، فمن المفترض أن يكون تعطيلها ممكنًا أيضًا.15

بعبارة أخرى، فالسمات التي تميِّز خلايا السرطان عن الخلايا السليمة — مثل التخفي عن جهاز المناعة، والانقسام الخلوي السريع غير المستقر وما إلى ذلك — لطالما صعَّبت علاج السرطان، وخاصةً بسبب صعوبة الموازنة بين قتل خلايا السرطان وبين الحفاظ على الخلايا السليمة لتجنُّب إيذاء المريض بلا داعٍ. وفي السنوات الأخيرة، تحديدًا منذ مطلع القرن الجديد، تمكَّن الباحثون من فحص خلايا السرطان بدقة أكبر للتعرُّف على طريقة تعطيل السمات المميِّزة لها، وإيقاف الخصائص التي تجعل الخلية تتصرَّف وتتكاثر كخلية سرطانية. وقد أصبحت هذه السمات مستهدفة؛ أي صارت نقاط ضعف بعدما كانت نقاط قوة.

ومع أن فهم الاختلافات الجزيئية والخلوية إنجاز علمي فارق في ابتكار العلاجات الجديدة، فإن خلايا السرطان تختلف في نوع التغيُّرات التي تُظهرها. فالتغيُّرات التي تظهر في خلية لسرطان الرئة تختلف عن تغيُّرات خلية سرطان القولون، ويحدث ذلك حتى في النوع الواحد من السرطان؛ فقد تظهر في خلايا الميلانوما لدى شخص ما طفرات جينية تختلف عمَّا يظهر لدى شخص آخر. أي إنَّ السرطان ليس مجموعة أنواع من مرض واحد فحسب، بل توجد أيضًا اختلافات في كل نوع من أنواعه، وهو ما يجعل مداواته بعلاج سحري واحد ضربًا من المستحيل.

توحي كلمة target؛ أي «التوجيه نحو هدف محدَّد»، بأن هذا النهج في العلاج يمثِّل معركةً بالفعل؛ فالكلمة يرجع أصلها إلى فكرة درع الجندي، ثم أصبحت تعني الهدف الذي يُطلَق عليه النار. فعلاج السرطان الموجَّه يستهدف سمةً محدَّدةً لدى كل خلية سرطانية لا تُميِّزها عن الخلية السليمة فحسب، ولكنها أيضًا تُعَد مكمن خطورتها. فالعلاجات الموجَّهة لا تضرب خلايا السرطان فحسب، بل تضربها في الصميم. العلاج الموجَّه كالسم الذي يحمله طرف سهم مصوَّب بدقة، وليس كالعلاج الكيميائي الذي يُنهك الجسم كله كهراوة ذات رأس مسطَّح غير مدبَّب. وبتعبير شكسبير في مسرحية هاملت، يعاني مريض السرطان من مقاليع حظه العثر وما يرميه به من سهام، بيد أن هذه السهام المسمومة هي السلاح الجديد الذي يُستخدَم في وجه موجات السرطان المتلاطمة.

(٣) هامش (غير) خالٍ

تمامًا كاعتقادي أني أعرف ماهية الورم — ذلك الشيء الذي هو أنت، وليس أنت — فإني أدرك أيضًا أن الورم ليس مميَّزًا إلى الدرجة التي أظن. فعندما يَستأصل جرَّاحٌ ورمًا، يكون الهدف من ذلك هامشًا خاليًا؛ أي نظيفًا وخالصًا من الورم بحيث تكون نتيجة أي فحص للكشف عن الورم هناك سلبية. بعبارة أخرى، يُعتبر أنَّ الجراح قد استأصل الورم بالكامل إذا لم تتبقَّ أي خلايا سرطانية على حواف الجزء الذي استُؤصل. إذ تُصبَغ كتلة النسيج المستأصلة ليتمكَّن أي اختصاصي أمراض من رؤية أي خلايا سرطانية على حافتها الخارجية. وعندما يكون الهامش خاليًا تمامًا، يُعتقد أن استئصال أي أنسجة إضافية لن يحسِّن النتائج التي تتحقَّق للمريض.

لكن بعض السرطانات، وتحديدًا التي تنشأ من الأنسجة الظهارية — أي الأسطح والبطانات الداخلية للجسم في الثدي أو البروستاتا أو المثانة أو الرئة أو الفم — يحيط بها مجال مؤثِّر، فتطرأ على الخلايا الواقعة خارج حدود الورم — ولو كانت غير خبيثة — تغيراتٌ جزيئية. ولأنَّ الخلايا الظهارية تنقسم وتتكاثر مرارًا، يبدو أنها أكثر تأثُّرًا من غيرها بهذا المجال المؤثِّر، حيث تكون الخلايا التي تبدو سليمةً بِنيويًّا متغيِّرةً من الناحية الجينية أو فوق الجينية أو الكيميائية الحيوية. طرح الباحثون فكرة سرطنة المجال المحيط لأول مرة عام ١٩٥٣ ليفسِّروا ظهور أورام منفصلة في الوقت نفسه تقريبًا16 — وهو ما يُعرَف بالورم الأصلي المتعدِّد المراكز، أو الأورام الأساسية المتعدِّدة — وليفسِّروا تكرار ظهور الأورام في المكان أو العضو الذي استُؤصل منه الورم الأساسي بالكامل. وهذا المفهوم يشير إلى أنَّ الخلايا سليمة من ناحية التشريح المجهري للأنسجة، لكنها متغيِّرة، من الممكن أنها تتمدَّد على مجال محدَّد، مانحةً الفرصة للسرطان. بعبارة أخرى، ينتشر السرطان — أو بالأحرى احتمال نشوئه — في النسيج الظهاري حتى قبل أن يكون سرطانًا بالفعل.
السؤال عن الحد الذي يبدأ بعده الورم — أو الحد الفارق بين الجزء السليم من الجسم والجزء الذي يبدأ من عنده المرض — أكثر تعقيدًا ومراوغةً ممَّا افترضتُ سابقًا. فسرطنة المجال تُدخِل الوقت في الحسابات — فيُطرح السؤال: متى تحديدًا تنتهي حدود الصحة ويبدأ المرض؟ — وما يرتبط بهذا السؤال من تبعات. وهكذا تُذكِّرني سرطنة المجال بقصة الأطفال «هذا هو المنزل الذي بناه جاك»:
فهذا هو الورم الذي بناه الجسم؛
وهذا هو النسيج الذي يُحيط بالورم الذي بناه الجسم؛
وهذه هي خلايا النسيج الذي يُحيط بالورم الذي بناه الجسم؛
وهذه هي التغيُّرات في خلايا النسيج الذي يُحيط بالورم الذي بناه الجسم؛
وهذه هي الجينات التي سبَّبت التغيُّرات في جُزيئات النسيج الذي يُحيط بالورم الذي بناه الجسم، وهذا هو ضوء الشمس أو السجائر أو …

وهكذا تستمر هذه التجرِبة الفكرية في محاولة تتبُّع أصول الورم والصلات السببية التي تزداد تعقيدًا.

لا شك في أن تجرِبتي الفكرية فيها تبسيط مُفرِط لعلاقة السبب والنتيجة، وللتطوُّر خطوةً بخطوة. فلا سبب محدَّد لإصابة شخص ما بالسرطان، بل يوجد الكثير من الاحتمالات الشرطية التي تحمل أسبابًا ونتائج. علاوةً على ذلك، يُقر المعهد الوطني للسرطان بوجود «افتتان قائم منذ أمد بعيد بالفارق بين الأورام الحميدة والخبيثة، ولكن لم تَرد إلا تقارير قليلة عن أعمال حديثة هادفة إلى تشخيص الفروق الوظيفية بين هذَين النوعَين من الأورام، اللذَين تختلف درجة خطورتهما على المريض اختلافًا كبيرًا».17 الورم ورم في نهاية المطاف. وبينما توجد فوارق بين الأورام، وبينما قد يترتَّب على هذه الفوارق الحياة أو الموت، فالباحثون لا يفهمون إلى حد كافٍ حتى الآن ما يُميِّز الورم الخبيث عن الحميد، كما لا يفهمون لماذا قد تتحوَّل بعض الأورام الحميدة إلى خبيثة. فكل ما تعلَّمناه لا يكفي إلا لمعرفة ما لا نزال نجهله. والقدرة على تحديد ما نجهله وسيلة لتعلُّم المزيد.

وعلى الرغم من الإقرار بعدم معرفة معنى كون الورم خبيثًا على وجه التحديد، تُعَد دراسة سرطنة المجال محاولةً لفهم عملية تطوُّر السرطان خطوةً تلو خطوة، وتوحي بوجود نطاق فاصل بين الخلايا السليمة والخبيثة. لهذا لا يقتصر هذا المجال البحثي على تحديد هوامش الورم وتطوُّر المرض، لكنه يمتد إلى تقييم احتمالية الإصابة والكشف المبكِّر، وربما اكتشاف الورم الخبيث قبل أن يتكوَّن. ومع أنَّ المرأة لا يمكن أن توصف بأنها حبلى قليلًا، فهل يُمكن أن يكون المرء مصابًا بخلايا خبيثة قليلًا أو ستصبح خبيثةً عمَّا قريب؟ ماذا لو تبيَّن أن السرطان لا ينطبق عليه أن يكون أحد خيارَين لا ثالث لهما، ولا يَصِح وصفه بالوجود أو العدم، بل اتضح أنه يظل يقترب إلينا تدريجيًّا على الدوام؟

لو صحَّ الافتراض الأخير، فأي شذوذ في الجينات أو التعبيرات الجينية أو الكيمياء الحيوية هو الذي يشير إلى سرطنة المجال؟ وما الظروف التي تؤدِّي إلى نشوء مجال مؤثِّر؟ وما الذي يحدث ويجعل المجال يُنشئ خلايا السرطان؟ أو كما جاء في السؤال الأوَّل من قائمة الأسئلة البحثية المُحفِّزة التي وضعها المعهد الوطني للسرطان، «في الأورام التي تنشأ من مجال مؤثِّر قبل أن يُصبح خبيثًا؛ أيٌّ من خصائص خلايا هذا المجال يمكن استخدامها لتصميم استراتيجيات لتثبيط تطوُّر الأورام في المستقبل؟»18
هذا السؤال يَحُث علماء مثل زميلي ماركو بيسوفي على تعرُّف التغيُّرات الخلوية في مراحل ما قبل التحوُّل إلى ورم خبيث، وهي تغيُّرات تَظهر في الورم ولا تَظهر في «الخلية الطبيعية حقًّا»، ويحثهم على أن يشرعوا بعد ذلك في استخدام هذه المعلومات في تصميم طرق لمنع تطوُّر السرطان.19 ومع ذلك، فعندما تحدَّثت مع بيسوفي عن عمله، قال إن المعضلة الفلسفية تكمن في تعرُّف «الخلية الطبيعية حقًّا». بل كيف لنا، نظرًا إلى أن سرطنة المجال تجعلنا نفهم أن حافة الورم ليست واضحةً كما كنا نظن، أن نعرف أين ينتهي تأثير المجال؟ وأين يوجد الحد الفاصل بين مرحلة ما قبل التحوُّل إلى ورم خبيث، والمرحلة الطبيعية؟ ولأن الإجهاد التأكسدي على أنسجة الجسم يتراكم مع مرور الوقت، تتغيَّر خلايانا مع تقدُّمنا في العمر، ولا تظل بنفس الجودة التي كانت عليها قبل عقدَين من الزمان. فالزمان، لا المكان؛ أي عمر الجسم، لا جغرافيته، هو ما قد يكون البُعد الذي يُميِّز فيه بين الطبيعي وغير الطبيعي. فالخلايا الطبيعية في عمر العشرين ستكون مختلفةً في الستين، ولكن هل هذا الاختلاف يجعلها غير طبيعية حقًّا؟ في أي عمر تكون خلايا الجسم في أقصى حالاتها الطبيعية؟ أم إنَّ تعريف الحالة الطبيعية نفسها يتغيَّر مع تقدُّم العمر؟ وعند أي نقطة تُصبح الخلية المتغيِّرة غير طبيعية حقًّا، خاصةً إذا كانت كل الخلايا تتغيَّر؟ وهل النقطة التي تُصبح عندها الخلايا غير طبيعية حقًّا هي نفسها التي تُصبح عندها غير سليمة؟ فمن الممكن جدًّا ألَّا يكون كل ما هو غير طبيعي غير سليم بالضرورة.

علاوةً على ذلك، ليس من الواضح تمامًا حتى الآن ما إذا كانت سرطنة المجال تسمح بنشوء الورم منه، أم إن الورم هو ما يُحدث المجال المؤثِّر في الأنسجة المحيطة به. أيهما يُسبِّب الآخر؟ المنطقي أن يعتقد المرء أن الشر الأكبر ينشأ عن الأصغر؛ أي إن المجال هو الذي يسبِّب الورم، وقد كان ذلك هو أساس السؤال الأول من الأسئلة المحفِّزة التي طرحها المعهد الوطني للسرطان، وهو سؤال يهدف إلى التوصُّل إلى إجابات تُسفر عن التدخُّل في السرطان ومنعه. لكن ماذا لو كان الورم هو الذي يُنشئ المجال ليحتاط من احتمال استئصاله بأن يترك وراءه نسخةً مستقبليةً من نفسه إذا تمَّت إزالته؟ ماذا لو كان الورم يُغيِّر البيئة المحيطة به بقدر ما تُصبح البيئة مواتيةً له؟ لو صحَّ ذلك؛ لاختلف تأثير مجال ما قبل الخبث عن تأثير مجال ما بعد الخبث، لكنَّ سرطنة المجال لا تُعرَّف، حتى الآن، إلَّا بالأنسجة المحيطة بالأورام السرطانية.

من الشواغل التي تنشأ عن مثل هذا التفكير في مرحلة ما قبل التحوُّل إلى ورم خبيث مسألة الإفراط في العلاج، خاصةً في حالة سرطان البروستاتا وسرطان الثدي اللذَين ركَّزت بحوث بيسوفي عليهما. فسرطان البروستاتا نفسه قد يُعَد «طبيعيًّا حقًّا»، مجرَّد أثر جانبي شائع مع التقدُّم في العمر. فقد أظهر تحليل تسع وعشرين دراسة من دراسات تشريح الجثث أُجريت بين عامَي ١٩٤٨ و٢٠١٣ أن ٥٩ في المائة من الرجال فوق التاسعة والسبعين يصابون بسرطان البروستاتا.20 وعند هؤلاء الرجال كان المرض يحدث عرضيًّا، وذلك بالمعنى الإكلينيكي: أي إنه لم يظهر في أي فحوص جسدية خضعوا لها خلال حياتهم، وكذلك بالمعنى العامي الدارج: أي إنه لم يُحدِث أي اختلاف مهم في حياتهم. فإذا كان معظم الرجال الثمانينيين يصابون بسرطان البروستاتا، ثم يموتون لسببٍ آخر دون أن يُدركوا أنهم مصابون بالسرطان، فهل لنا أن نتساءل عمَّا إذا كان ينبغي أن نعالج كل السرطانات تحت أي ظروف؟
إذن، فالخصائص التي تُعَد طبيعيةً تتغيَّر مع مرور الوقت. الصحة حالة يكون المرء فيها كاملًا سليمًا، نتاج اجتماع كل أجزائه معًا. وكلمة normal؛ أي «طبيعي»، مشتقة من كلمة لاتينية تعني «مربع النجار»، وهو أداة قائمة الزاوية. أي إنَّ الطبيعي شكل أو نمط، بقدر ما هو قاعدة معيارية أو مسطرة يُقاس بها. وكلمة Disease؛ أي «المرض»، مشتقة من كلمتَين معناهما «بدون راحة»، وفي معلومة غريبة من عجائب علم أصول الكلمات، نجِد أن أحد المعاني الفرنسية الأقدم لكلمة ease يعني «توفُّر مساحة للكوع»؛ أي وجود هامش من المساحة الشاغرة حول الجسم. وإذا توسَّعنا في هذا التفكير اللُّغوي، يمكن اعتبار الكوع مربع النجار الخاص بالجسم. لكن الفرق هو إمكانية تغيير زاويته.

(٤) فن السرطان

الورم من القيود الكثيرة التي تكبِّل الحياة. وقد استقرَّ رأي فنَّانين في مجالات مختلفة — منهم الرسامون والموسيقيون والكتاب — منذ وقت طويل على نتيجة أشار إليها أيضًا باحثون أحدث عهدًا هي:
الحياة اليومية ملأى بالعقبات، فهل يمكن أن تتخطَّى التأثيرات الإدراكية للصعوبات الهدف الحالي أو المهمة الحالية بالتحديد؟ … رأيُنا أنه إذا لم يكُن عند الناس ميل إلى الانفصال المبكِّر عن الأنشطة الجارية، فستجعلهم العقبات يتراجعون ويتبعون طريقةً أشمل في التعامل مع الأمور تُشبه الطريقة الجشطلتية وتسمح لهم بالنظر إلى «الصورة الكبيرة» والجمع المفاهيمي بين معلومات لا يبدو بينها ترابط.21

بينما تبدو القيود في شكل موانع أو عراقيل، نَجِد أنها في الحقيقة — على الأقل عندما يلتزم الفرد بمهمته — غالبًا ما تمثِّل وسيلةً للإبداع، وتوسعة آفاق العقل والابتكار، ليس فقط في المهمة الحالية، ولكن أيضًا بوجه أعم. علاوةً على ذلك، تشير الدراسات إلى أننا عندما نواجه العقبات، غالبًا ما نُقدِّر المهام التي نعكفُ على إتمامها، ونتمرَّس في التفكير الكلي — أي الواسع الأفق والشامل — كلما استجدَّت ظروف غير متوقَّعة.

قد نعتبر أنفسنا فنانين نرسم حياتنا، نُخرج «مربع النجار» خاصتنا، ونُشمِّر عن سواعدنا لبذل الجهد اللازم. حياتنا أعمال قيد الاستمرار. قد ينظر المرء إلى الحياة والفن معتبرًا إياهما صورتَين من عملية خَلقٍ واحدة. العقبة أو العائق الذي يمثِّله الورم هو قيد بغيض يعوق الحياة. ولتكن على ثقة في أن قيدًا يُهدِّد الحياة كالسرطان يجب ألَّا يُنظر إليه نظرة رومانسية تعتبره ضرورةً لعيش حياة أفضل.

ومع ذلك، وبينما نواصل مهمة العيش، فإن قيد السرطان يعيد تركيز اهتمامنا على المهام الضرورية والأهداف الراسخة في الوجدان، ويفتح آفاقًا أرحب لحل المشكلات. فكِّر في رسام يَنْفَد ما لديه من لون مُعيَّن فيُضطر إلى المزج بين الألوان الباقية، أو مجرَّد رسام يصل برسمته إلى حواف لوحه القماشي ويحتاج إلى مساحة إضافية. تخيَّل النَّحَّات الذي يُعمِل إبهامَيه في كتل الطين لتأخذ شكلًا، أو يستخدم مبردًا في إعادة تشكيل نتوء أو فقاعة هوائية بلا هوادة، فالطين والأداة كلاهما يمثِّل قيدًا على ما يُمكن إنجازه، ومع ذلك فإنهما يخلقان معًا فرصًا لم يكُن العقل ليتصوَّر وجودها لولا ذلك. فكِّر في مُلحِّن يؤلِّف مقطوعة، أو شاعر يصارع ما تتطلَّبه سونيتته من تكثيف للألفاظ للحفاظ على الطول والإيقاع والسجع. لا تتطابق سونيتتان أبدًا، كما لا تتطابق حياة أي اثنَين مصابين بالسرطان.

كانت الشاعرة جينين جيلي مصابةً بعدة أعراض استنتج الأطباء في نهاية المطاف أنها ناتجة عن أورام. وكتبت عن مُتلازمتها السرطاوية الأخيرة، قائلة: «إذن، كان من عادتي نظم القصائد عن الحظ، حتى من قبل تشخيص هذه الإصابة الأخيرة بالسرطان … كنت أفكِّر مليًّا في طريقة تفكيرنا في الحظ، عَثِرًا كان أم سعيدًا. كأن يوجد المرء في المكان الخاطئ في الوقت الخاطئ، كمن يخرج للاحتفال بعيد الباستيل فيدهسه إرهابي، أو كمن يقصد الطوارئ للتداوي من نزلة برد ألمَّت بمعدته ويُجري فحصًا، فيكتشف بالمصادفة إصابته بسرطان الكبد النقيلي، لا يمكننا السيطرة على كل شيء، ولا حماية أنفسنا حتى من أسوأ الأشياء التي نتخيَّلها.»22 فالورم من أسوأ الأشياء التي قد نتخيَّلها، وهو من تجارِب الحياة التي نتجنَّب تخيُّلها غالبًا. ومع ذلك فالكثيرون منا سيسمعون ذلك التشخيص، وسيأمل كل من يسمعه أن يسمع معه كلمة «حميد»، وسيخشى أن يسمع بدلًا منها كلمة «خبيث».

كتبت الشاعرة لوسيل كليفتون عن تشخيص إصابتها بسرطان الثدي، الذي لم يكُن معركتها الأخيرة مع السرطان، في قصيدة «١٩٩٤»، قائلةً:

كان عامي الثامن والخمسون يفسح الطريق لعام جديد
حين ظهرت كتلة من الجليد
ورسَّخت نفسها بالقرب من قلبي،
لكلٍّ مِنكُنَّ قصتها،
وكلٌّ مِنكُنَّ خَبِرَت المخاوف والدموع
وندبةَ صعوبة التصديق،
تَعْرِفن أن الأكاذيب الأكثر إثارةً للحزن
هي التي نكذبها على أنفسنا،
وتَعْرِفن خطورة
أن تولدن بثديَين
وتعرفن مدى خطورة
أن تولدن ببشرةٍ سمراء.23

كليفتون تعرف عوامل الخطر لديها، فهي: أنثى، وانقطع طمثها، وأمريكية من أصول أفريقية. وتعرف خوفنا من السرطان، وعدم تصديقنا لإصابتنا به، وتعرف سؤال: «لماذا أنا؟» وتعرف كتلة الجليد القريبة من القلب، التي شعرتُ أنا نفسي بكتلةٍ تُشبهها بعد خضوعي لعملية استئصال الكتلة الورمية التي لم تكن سرطانًا، لكن تحوُّلها إلى سرطان كان محتملًا. ماتت كليفتون عام ٢٠١٠ في عمر يناهز الثالثة والثمانين؛ فقد عاشت بعد إصابتها بالورم الأول لمدة فاقت العشرين عامًا.

فيما كتبت الشاعرة أودري لورد في كتاب «يوميات السرطان»: «ماذا تبقَّى ممَّا قد نخشاه بعد أن واجهنا الموت مباشرةً ولم نعانقه؟ فحالما أتقبَّل وجود الموت باعتباره إحدى مراحل الحياة، من ذا الذي قد يتسلَّط عليَّ بعد ذلك؟»24 وبينما لم يُشخَّص السرطان لديَّ شخصيًّا، فالتفكير في مفهوم السرطان هو محاولتي لفهم أنَّ الموت إحدى مراحل الحياة كما ذكرَت لورد، ولاستنتاج أن الحياة إحدى مراحل الموت أيضًا. فكما تقول لورد: «لا أريد لغضبي وألمي من السرطان أن يتحجَّرا ليصبحا صمتًا آخر، ولا أن يسلباني القوة التي تكمن في صميم هذه التجرِبة عند الاعتراف بها وتفحُّصها بانفتاح».25
أمَّا تجرِبتي أنا؛ فقد كانت محاولةً مختلفةً تمامًا للاعتراف بتجرِبة الورم وتفحُّصها بانفتاح، وعدم الصمت في وجه الغضب والألم والخوف والحزن. والمهم — كما كتبَت سوزان جوبار في كتاب: «القراءة عن السرطان والكتابة عنه»: «مع أنني قد أُتَّهم بتوضيح الواضحات، أُريد القول إنَّ الكتابة عن السرطان ليست كالإصابة به. فالكتابة تُبعدنا عن الظواهر التي نُحاول توثيقها … عندما أكتب، لا أركِّز على اللحظة الحالية والمكان الحالي تحديدًا، ولكن على التعبير عنهما أو عن لحظة ومكان آخرَين ينبعثان في الوجدان بمعنًى أو اتساق جديد، وموضع مختلف يُتيح رؤيةً أفضل.»26 فبكتابتي هذه السطورَ عن السرطان، أفصل نفسي عن السرطان لأفهمه على نحو أشمل.
بدأ أبي الخضوع للعلاج الكيميائي يوم عيد ميلادي، وبعدها بخمس سنوات تقريبًا، تُوفي يوم ذكرى أول هبوط على سطح القمر لمهمة أبولو. أمَّا أمي، فقد تُوفيت في نفس تاريخ وفاة عالِمة الفلك هنريتا ليفيت والشاعر روبرت براوننج، وهو يوم عيد سيدتنا «عذراء جوادالوبي». ومن مسافتي الآمنة، أواصل التأمُّل في هذه الأحداث — ما كانت ربما تعنيه لوالدَي، وما تعنيه لي حتى بعد مرور السنوات، وما تعنيه للآخرين — وأحاول اكتشاف معنًى جديد لتحوُّل خلية إلى جسم، ثم إلى حياة، ثم إلى مجتمع، ثم إلى كون. وكما جاء في الفيلم القصير «قوى العدد عشرة»،27 فموضع النظر يُغيِّر المقياس، وقد يُرى شيءٌ واحد بصور مختلفة، من أدق مكوِّناته إلى أوسع سياقاته.

عندما واجهتني عدة حالات وفاة ناتجة عن السرطان خلال سنوات قليلة — وفاة أمي، وزميلتَين في الكلية، وأقرب صديقات أختي من المدرسة الثانوية، وإحدى صديقات الأسرة، وشاعرة أصبحت صديقةً لي، وحتى رائدة الفضاء سالي رايد التي ماتت قبل أشهر قليلة من وفاة أمي بنفس المرض — بدأتُ في نظم القصائد لأواجه ما فهمتُه وما لم أفهمه، وأُحاول فهم أوجه الاختلاف والترابط بين الخاص والعام. وها أنا ذا أعود إلى ذكر السرطان الذي سرى في عائلتي بهاتَين القصيدتَين اللتَين نظمتهما لوالدَي باسم «الجاذبية».

(٥) الجاذبية (١)

إلى أبي، ١٩٣٣–١٩٨٦.

في وقتٍ ما تنتصر الجاذبية.
عاجلًا أو آجلًا يحين ذلك الوقت،
نتيجة حتمية لتضخُّم الكتلة ومُضي العمر
ومقدار ما يتبقَّى بعد ذلك لحرقه.
عندما يحرق اللب الداخلي
الكِيان الأساسي للشيء مُحوِّلًا إياه إلى شيء آخر،
يُستنزف الكِيان الأساسي، وتكون القشرة الخارجية كافيةً بعض الوقت،
حتى وهي مشتعلة. يتمدَّد النجم ويبرد.
ويشتعل اللب الداخلي من جديد، ثم يتقلَّص
ويخبو النجم، ويتوهَّج.
ثم يأتي وقت تُستنزف فيه القشرة بالكامل.
ولا يعود النجم قادرًا على
حمل وزنه.
وعندما تتغلَّب الجاذبية على الضغط
ينهار النجم، يخبو، تنفد طاقته.
وما يتبقَّى يكون ثقيلًا، كأطنان في ملعقة صغيرة،
إلى حدِّ أنه لو أُسقِط على الأرض من مسافة قريبة؛
لهوى بسرعة آلاف الأميال في الساعة.

(٦) الجاذبية (٢)

إلى أمي، ١٩٤٠–٢٠١٢.

في وقتٍ ما تنتصر الجاذبية،
يُقضى الأمر،
تشاء المقادير أن يحل بأمي مرض مرير،
فتبحث عن شيء، فلا تجد إلا ظله في الجوار.
يقترب الوقت. وهو من سيُنبئنا بما سيحدث. كدأبه دائمًا.
يستشري فيها السرطان، ويُغيِّرها من الداخل.
ينتفخ بطنها، وتتخدَّر أطرافها.
تُصبح أيام أمي أشد قتامةً وضبابية، ثم تشتد وطأتها،
تضعف يومًا تلو يوم، وتُستنزف.
تسقط عاجزةً عن حمل وزنها،
وحالتها غير المستقرة، حالة أقرب إلى العدم منها إلى الوجود.
وتأتي لحظة لا تقوى بعدها على الوقوف.
تتغلَّب الجاذبية على الضغط،
وتعجز الرئتان عن التقاط نفس آخر.
وتبقى ذكرى أمي متوهِّجة
كنجم قزم أبيض. تغيب عن ذهني أحيانًا،
ولكن حتى حَجَر هَم
سقط من يدي الممدودة في بئر قلبي
يظل ثقيلًا، فيهوي فيه بسرعة آلاف الأميال في الساعة.

لتوهُّجنا البشري عمرٌ افتراضي، ومن الحياة نفسها يأتي الموت. فالأورام من الأمور الحياتية، ربما ليست حتميةً لكل فرد، لكنها حتمية لنا ككلٍّ بصفتنا مخلوقات حية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤