تمهيد
لقد درستُ حضارة الإغريق والرومان القديمة والتاريخ طوال الوقت الذي أمضيته في المدرسة والجامعة، ولكني لم أتعلم في أي مرحلة شيئًا عن تأثير العالم العربي في العصور الوسطى، أو في أي حضارة خارجية في واقع الأمر، على الثقافة الأوروبية. فبدا وكأن السرد المتعلق بتاريخ العلم قد سار على هذا النسق: «عاش الإغريق، ومن بعدهم الرومان، ثم كان عصر النهضة.» مُتجاهِلًا بكل بساطة الألف السنة التي تفصل بين العصر الكلاسيكي وعصر النهضة. عرفت من مُقرَّرات تاريخ العصور الوسطى أنه لم يكن ثمة قدر كبير من المعرفة العلمية في أوروبا الغربية في تلك الحقبة، وبدأت أتساءل عما حدث للكتب الآتية من العالم القديم التي تتناول الرياضيات وعلم الفلك والطب. كيف استطاعت أن تصمد؟ من الذي أعاد نسخها وترجَمها؟ أين كانت الملاذات الآمنة التي كفلت الحفاظ عليها؟
عندما كنتُ في الحادية والعشرين من عمري، سافرت أنا وصديقة لي من إنجلترا إلى صقلية بسيارتها الفولفو القديمة. كنا نجري بحثًا عن المعابد اليونانية الرومانية من أجل أطروحتَينا للسنة الثالثة. كانت مغامرة رائعة. ضلَلنا الطريق في نابولي، وكان الجو حارًّا في روما، وأوقفنا رجال الشرطة وطلبوا مُواعَدتنا، ووقفنا مشدوهتَين في بومبي وأكَلْنا كرات لبنية من الموتزاريلا المصنوعة من لبن جاموسي في بيستوم، وأخيرًا، وبعد أسابيع على الطريق ورحلة عبَّارة قصيرة عبر مضيق مسينة، وصلنا إلى صقلية. شعَرْنا على الفور باختلاف المدينة عن بقية إيطاليا؛ إذ كانت ذات جاذبية غريبة، ومُعقَّدة، تستحوذ على الاهتمام. أحاطت بنا طبقات تاريخها؛ إذ كانت العلامات التي خلَّفَتها حضارات مُتعاقِبة باهرة، مثل طبقات على سطح صخري. في كاتدرائية سرقسطة، رأينا أعمدة معبد أثينا اليوناني الأصلي، الذي بُنِي في القرن الخامس قبل الميلاد، لا تزال قائمة بعد ٢٥٠٠ سنة من نصبها. وعرفنا كيف أن الكاتدرائية كانت قد حُوِّلت إلى مسجد في عام ٨٧٨، عندما كانت المدينة تحت سيطرة المسلمين، وكيف صارت كنيسة مسيحية مُجدَّدًا بعد قرنَين من الزمان، عندما أخذ النورمانديون زمام السلطة. كان من الواضح أن صقلية كانت تُمثِّل نقطة التقاء للثقافات على مدى مئات السنين، مكانًا كان يحدث فيه تبادُل وتبدُّل للأفكار، والتقاليد والكلمات، حيث كانت العوالم تتصادم. كان محور تركيز رحلتنا هو العلاقة بين دين الإغريق والرومان والعمارة، ولكن إسهامات الثقافات اللاحقة؛ البيزنطية، والإسلامية، والنورماندية، كانت بارزة. وبدأتُ أتساءل بشأن الأماكن الأخرى التي لعبَت دورًا مُماثِلًا في تاريخ الأفكار، والكيفية التي تطوَّرت بها تلك الأماكن.
عاوَدَت هذه الأسئلة الظهور على السطح عندما كنتُ أُجري أبحاثي لنيل درجة الدكتوراه عن المعرفة الفكرية في إنجلترا أوائل العصر الحديث، بمنظور مكتبة د. جون دي (الرجل الذي وصفَته إليزابيث الأولى بالفيلسوف). كان دي، ذو الشخصية الغريبة والآسرة، رفيقي الدائم لعدة أعوام؛ فقد أخذني في رحلة لا تُنسى عبر العالم الفكري لأواخر القرن السادس عشر. أثناء مسيرته المهنية الاستثنائية، جمَّع أول مجموعة عالمية حقًّا من الكتب في إنجلترا، وعاوَن في التخطيط لرحلات استكشافية للعالم الجديد، وأدخل مفهوم الإمبراطورية البريطانية، وأصلح التقويم، وبحث عن حجر الفلاسفة، وحاوَل أن يستحضر الملائكة وسافر — وبصحبته زوجته وخدمُه، والعديد من أطفاله ومئات من الكتب — إلى كل أنحاء أوروبا. كذلك تناوَل باستفاضة في كتبه مجموعة كبيرة من الموضوعات شملت التاريخ والرياضيات والتنجيم والملاحة والخيمياء والسحر. وكان أحد أهم إنجازاته المساعدة على إعداد أول ترجمة إنجليزية لأطروحة إقليدس، «العناصر»، سنة ١٥٧٠. ولكن أين كان هذا النص قبلَئذٍ ومن الذي كان يعتني به خلال مدة ٢٠٠٠ سنة بين تدوين إقليدس له في الإسكندرية ونشر دي له في لندن؟ بينما كنت أدرس الفهرس الذي صنعه دي لمكتبته في عام ١٥٨٣، لاحظت أن عددًا كبيرًا جدًّا من كتبه، وخاصةً تلك التي تطرَّقت إلى الموضوعات العلمية، كُتِبت على يد علماء عرب. وشكَّل هذا توافقًا مع الأشياء التي كنتُ قد رأيتُها في صقلية وأعطاني فكرة عما كان يجري في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، مما بسط رؤيتي للتاريخ وجعلها تتجاوز النهج الغربي التقليدي. بدأتُ أُدرِك أن تاريخ الأفكار ليس محصورًا بحدود الثقافة أو الدين أو السياسة، وأن ثمة ضرورة لمُقارَبةٍ أبعدَ مدًى؛ من أجل إدراك الأمر إدراكًا كاملًا.
على النقيض، صمدت أطروحة «العناصر» لإقليدس أمام اختبار الزمن، بكاملها تقريبًا؛ فكانت تُدرَّس في قاعات الدرس في القرن العشرين، وبقيت النظريات الهندسية التي احتوت عليها صحيحة ومناسبة بالقدر نفسه الذي كانت عليه في القرن الرابع قبل الميلاد. وينطبق الأمر نفسه على طريقة إقليدس في البرهنة، التي تستخدم مصطلحات تقنية مُوجَزة، وافتراضات وبراهين (رسومًا بيانية)، ظلَّت نموذجًا للكتابة العلمية منذ ذلك الحين. لقد اضطلع إقليدس وجالينوس وبطليموس بدور ريادي في ممارسة العلوم اعتمادًا على الملاحظة والتجريب والدقة والصرامة الفكرية والتواصل الواضح؛ أحجار الزاوية لما يُعرَف باسم «الطريقة العلمية».
عندما بدأتُ البحث بجدية، فُوجئتُ بقدر التنظيم الذي تكشَّفت به القصة أمامي. كان عام ٥٠٠ نقطة انطلاق واضحة؛ إذ كانت فيه التقاليد الفكرية القديمة آخذة في التطور نحو التقاليد السائدة في العصور الوسطى، حينما كان البحث العلمي على وشك دخول حقبة جديدة. يتمحور كل فصل من الفصول التالية حول مدينة مختلفة، عائدين أدراجَنا أولًا إلى الإسكندرية لنرى الوقت الذي كُتِبت فيه النصوص والكيفية التي كُتِبت بها. من هنا، تناثَرت تلك النصوص عبر شرق البحر المتوسط وصولًا إلى سوريا والقسطنطينية، حيث بقيت هناك حتى القرن التاسع، عندما بدأ الباحثون من مدينة بغداد التي كانت حينها حديثة العهد، وكانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية الشاسعة، يسعون إلى الحصول عليها ليُترجِموها إلى العربية ويستخدمون الأفكار التي احتوتها أساسًا لاكتشافاتهم العلمية. كانت بغداد أول مركز حقيقي للمعرفة منذ العصور القديمة، وبمرور الوقت ألهمت مدنًا في أنحاء العالم العربي لكي تبني مكتبات وتُموِّل العلم. كانت قرطبة، التي تقع في جنوب إسبانيا، هي أهم هذه المدن، وكان يحكمها الأُمويون، الذين دُرِّست تحت رعايتهم أعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس وفيها نُوقِشت أفكارهم وحُسِّنت على يد أجيال من العلماء. ومن قرطبة، أُخذَت هذه النصوص إلى مدن أخرى في إسبانيا، وعندما بدأ المسيحيون في إعادة احتلال شبه الجزيرة الإيبيرية، أصبحت طليطلة مركزًا مهمًّا للترجمة والمكان الذي دخلت منه تلك النصوص إلى العالم اللاتيني المسيحي.
كان هذا هو الطريق الرئيسي الذي سلكَته النصوص، ولكن كانت تُوجَد أماكن أخرى في العصور الوسطى تلاقت فيها الثقافات الإغريقية والعربية والغربية. كانت ساليرنو، الواقعة في جنوب إيطاليا، مكانًا تُؤخَذ فيه النصوص الطبية (باللغة العربية، وإن كانت مستمدة بالأساس من جالينوس) من شمال أفريقيا وتُترجَم إلى اللاتينية؛ ونتيجة لذلك، أصبحت ساليرنو، مركز الدراسات الطبية الأوروبية لقرون، لاعبةً دورًا حيويًّا في نشر الطب. وبعد ذلك، في باليرمو، تحوَّل الاهتمام من جالينوس إلى بطليموس وإقليدس؛ إذ ترجم العلماء نُسخًا من «العناصر» و«المجسطي» مباشرة من الإغريقية إلى اللاتينية، مُتجاوِزين النُّسخ العربية أملًا في تحقيق دقة أكبر. اجتمعت المسارات الثلاثة المُتفرِّقة في مدينة البندقية، حيث بدأت المخطوطات تصل في النصف الأخير من القرن الخامس عشر، لتُصبِح للمرة الأولى جاهزة للطباعة.
بالطبع كان بمقدوري إدراج مدن أخرى، ولكن الالتزام بتلك المدن التي دُرسَت وتُرجمَت فيها نصوص بدا أفضل سبيل كي لا أضل الطريق في هذه القصة الهائلة. وقد طرح اختيارها بعض الأسئلة المُثيرة للاهتمام حول الأشياء التي تُشكِّل مركزًا للمعرفة. كانت القسطنطينية مُستودَعًا رئيسيًّا للنصوص القديمة، ولكن ذلك العلم لم يُدرَس في أي مكان بأي درجة من الأصالة أو الدقة. كما أنها لم تكن مكانًا حدثت فيه ترجمة (ومِن ثَمَّ نقلٌ) على أي نطاق من أي نوع، وهي، لهذه الأسباب، تبرز فقط في دور مُساعِد، بوصفها المكان الذي كان يأتي إليه العلماء والخلفاء عند البحث عن نُسَخ لأعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس. ربما أخذت المدينة الواقعة على القرن الذهبي مكان الإسكندرية من ناحية السلطة والمكانة، ولكنها كانت ظلًّا باهتًا عندما تعلَّق الأمر بالمعرفة العلمية؛ فهي مركز للحفاظ على النصوص وليست مركزًا للإبداع. كانت طليطلة وساليرنو وباليرمو الأماكن التي احتكَّت فيها الثقافة العربية بأوروبا المسيحية، ولكن أيضًا كان ثمة درجة من التبادل في سوريا أثناء الحملات الصليبية. ومع ذلك، لم أُناقِش هذا بقدر كبير من التفصيل لأنه ليس ثمة دليل على أن أطروحة «العناصر»، أو كتاب «المجسطي» أو أعمال جالينوس الرئيسية كانت ضمن الكتب التي تُرجمَت هناك.
وبينما كان السرد الأساسي لهذه القصة يسهل اقتفاؤه، فإن إيجاد سبيل خلال تاريخ المخطوطات الكثيف المُتشابِك لم يكن كذلك. ولأن تلك النصوص كانت بالغة الأهمية، فقد أُنتِجت نُسَخ عديدة من كل نص؛ وعادةً ما كان استنتاج صلة بعضها ببعض والتوصل إلى طريق واضح خلالها أمرًا يُمثِّل تحديًّا. وحتى ظهور آلة الطباعة، كان كل نص يُنسَخ باليد. لذا كان كل نص منها مختلفًا عن الآخر، بخصائصه وأخطائه. إن دراسة التقاليد النصية المُعقَّدة فرع من المعرفة مُستقِل بذاته تمامًا في التاريخ، وهو ليس فرعًا يُمكِنني أن أزعم الخبرة فيه. وحتى أظل مُلتزِمة بالسرد، كان لزامًا عليَّ أن أكون انتقائية وأصنع صيغًا مُبسَّطة من سجلات المخطوطات الثرية لهذه الكتب العظيمة.
لَطالما كان تاريخ الأفكار بالنسبة لي بمنزلة الجانب الأروع في ماضينا. فاكتشاف الطريقة التي تعاطى بها الناس مع الأسئلة الجوهرية حول كوكبنا والكون، وكيف نقلوا نظرياتهم إلى الأجيال اللاحقة ووسَّعوا نطاق المعارف الفكرية؛ لهو أمر مُثير للغاية. إن قدرًا كبيرًا من هذا النوع من التاريخ محجوب في كتب زاخرة بالمعرفة على أرفف المكتبات البحثية، ولكن لا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو. وبإلقاء نظرة واسعة والكتابة عن الشخصيات والقصص، بدلًا من التركيز على المحتوى العلمي والتفصيلات التاريخية الموجودة في الكتب الأكاديمية، من الممكن بث الحياة في تاريخ الأفكار. على سبيل المثال، لا يسع أحدَهم فهمُ نموذج بطليموس للكون دونما معرفة مُفصَّلة بعلم الفلك، إلا أن إدراك أهميته ومتابعة تطوُّره هو أمر هادف وجذَّاب. فالقيام بذلك يأخذنا في رحلة نجوبُ خلالها العصور الوسطى، مع التركيز على أماكن مُعيَّنة في أوقات مُعيَّنة كي نكتشف بالضبط كيف ولماذا جرى نقل وتحويل هذه الأفكار العلمية. بهذه الطريقة، تتسع حدود السرد التاريخي التقليدي الغربي عن طريق تسليط ضوء على الإسهام الكبير لكل من العالم الإسلامي وعلماء العصور الوسطى المسيحيين؛ لتكمُل المعلومات الناقصة عن الألف السنة الواقعة بين «الرومان» و«عصر النهضة». وجعل هذا من الممكن إدراج نظريات من ثقافات أخرى وقد انصهرت تلك النظريات تدريجيًّا في الفكر الرياضي والفلكي والطبي بحيث أضحَت جزءًا منه. أفكار مثل فكرة الأعداد الهندية-العربية وفكرة الترميز الموضعي اللتَين وصلتا إلينا من الهند، عبر الإمبراطورية الإسلامية، تُستخدَمان في كل أنحاء العالم في وقتنا الحالي.
عندما تتمهل قليلًا وتُلقي نظرة على التاريخ من زاوية أوسع، تتضح لك جليًّا شبكة الارتباطات المُعقَّدة بين الثقافات المختلفة، مانحةً إياك رؤية أوسع وأدق وأوضح لتراثنا الفكري.
هوامش
-
(١)
ليست مدرسة بالمعنى الحديث، وإنما دائرة فضفاضة من الأفراد ذوي الاهتمامات الأكاديمية المتشابهة، وكذلك، في هذه الحالة، تقليد دراسي دامَ لعدة مئات من السنين.
-
(٢)
من المحتمل أن يكون برامانتي قد نصح رافاييل بالتصميم المعماري، والذي استخدمه رافاييل ليُظهِر للبابا يوليوس رؤيته لكاتدرائية القديس بطرس الجديدة.
-
(٣)
ومع ذلك فقد قيل أيضًا إن هذه الشخصية لأرشميدس.
-
(٤)
في عصر النهضة، اعتقد الباحثون خطأً أن كلاوديوس بطليموس عالم الفلك والجغرافي كان من أفراد سلالة البطالمة التي حكمت مصر من عام ٣٠٥ إلى عام ٣٠ق.م.
-
(٥)
في العصور القديمة والوسطى، انضوت الموضوعات العلمية تحت مظلة «الفلسفة الطبيعية»؛ ويقصد بها أي بحث في العالم المادي.