الفصل الأول

الرحلة

١

امتد الطريق، ممهدًا، لا تشوبه شائبة، بعرض أربع عشرة قدمًا بالضبط، بحواف مشذَّبة كما لو كانت مُقلَّمةً بمقَص تشذيب، وكأنه شريطٌ من الخرسانة الرمادية، بسطَتْه يدٌ عملاقةٌ فوق الوادي. كانت أرضية الطريق تمضي في موجاتٍ طويلة من ارتفاع ببطءٍ وهبوط ببطء ثم انحدارٍ مفاجئ؛ فكانت السيارة تصعد، وتنطلق بسرعة، لكنك لا تشعر بالخوف؛ لأنك تعلم أن الشريط السحري سيكون هناك، خاليًا من العوائق، ولا تُفسِده مطبَّات أو ندبات، ينتظر مرور العجلات المطاطية المنفوخة بالهواء التي تدور سبعَ دوراتٍ في الثانية. مرَّت ريح الصباح الباردة محدِثةً صفيرًا، ومنذرةً بقدوم عاصفة، وأصدَرَت أزيزًا وزمجرةً ذات نغماتٍ متغيرة، ومع ذلك تجلس أنت مرتاحًا خلف زجاج السيارة الأمامي المائل، الذي يجعل الريح تنزلق من فوق رأسك. في بعض الأحيان كنتَ ستَودُّ أن ترفع يدك وتشعُر بالهواء البارد يصطدم بها، وفي أحيان أخرى، كنتَ ستُخرِج رأسك من جانب السيارة، وتترك تيار الهواء يصطدم بجبهتك، ويُبعثِر شعرك. ولكن في أغلب الأحيان كنتَ تجلس في صمت ووقار؛ لأن هذا ما كان يفعله الأب، ومما كان يفعله الأب تشكَّلَت آداب قيادة السيارة.

كان الأب يرتدي معطفًا، بنيًّا باهتًا، له ملمسٌ صوفيٌّ ناعم، وقَصَّة رائعة، وعبَّر الخياط عن كرمه في كل موضعٍ ممكن بإضافة صفَّي أزرار، وياقةٍ كبيرة، وطيَّتَي صدرٍ كبيرتَين، وثنياتٍ كبيرة فوق الجيوب. صنع الخياطُ ذاتُه معطف الصبي، من الصوف الناعم نفسه، وبالياقة الكبيرة وطيَّتَي الصدر الكبيرتَين والثنيات الكبيرة نفسها. كان الأب يرتدي قفاز قيادة، وكان المتجرُ ذاتُه يبيع قفازاتٍ للأولاد من النوع نفسه. وكان الأب يضع نظارةً ذات إطارٍ سميك، ولم يُعرَض الصبي على طبيب عيون مطلقًا، لكنه عثَر في متجر للأدوية على نظارة بلون الكهرمان، وبإطارٍ سميك مثل إطار نظارة الأب. لم يكن الأب يعتمر قبعةً على رأسه؛ لأنه كان يعتقد أن الريح وأشعة الشمس تمنع تساقط الشعر؛ لذلك ركب الصبي السيارة أيضًا تاركًا خصلاتِ شعره حرةً طليقة. الفرق الوحيد بينهما، فضلًا عن الحجم، هو أن «الأب» كان يضع سيجارًا بنيًّا كبيرًا، غير مشتعل، في زاوية فمه؛ إذ كان هذا ما تبقَّى له من الأيام الخوالي الشاقَّة، عندما كان يقود البغال ويمضغ التبغ.

خمسون ميلًا، كانت تلك هي قراءة عدَّاد السرعة؛ كانت تلك قاعدة الأب في المناطق الريفية المفتوحة التي تكاد تنعدم فيها المباني، ولم يغيِّرها قَط، إلا عندما يكون الطقس رطبًا. لم تشكِّل درجة انحدار الطريق فارقًا؛ فضغطةٌ بسيطةٌ بقدَمه اليمنى كانت تجعل السيارة تنطلق بأقصى سرعة وترتفع لأعلى، حتى تُصبِح على القمة، ثم تنزلق بسلاسة إلى الوادي الصغير التالي، تمامًا في منتصف الشريط الرمادي السحري المصنوع من الخرسانة. تزيد سرعة السيارة عند الانحدار، ويخفِّف الأب من قوة الضغط بقدمه قليلًا، ويسمح لمقاومة المحرِّك بضبط السرعة. قال الأب: «خمسون ميلًا سرعةٌ كافية»؛ فقد كان رجلًا يحترم النظام.

بعيدًا في الأفق، فوق قِمَم العديد من تموُّجات الطريق، كانت سيارةٌ أخرى قادمة. كانت مثل بقعةٍ سوداءَ صغيرة، توارت عن الأنظار عندما انحدرَت لأسفل ثم ظهرَت مرةً أخرى بحجم أكبر، ثم زاد حجمها في المرة التالية، وفي المرة التي تليها، كانت على قمة المنحدر الذي تسير بأسفله سيارة «الأب»، وكانت تندفع نحو سيارة الأب بسرعةٍ متزايدة، وكأنها قذيفةٌ ضخمة أطلقها مدفع عيار ست أقدام. حانت الآن لحظة اختبار أعصاب سائق السيارة. فالشريط السحري الخرساني كان غيرَ قابل للتمدد. كانت الأرض على الجانبَين مهيَّأة لحالات الطوارئ، لكن لا يمكن التأكُّد دائمًا من أنها كانت قد أُعِدَّت جيدًا لذلك؛ فعند الانطلاق بسرعة خمسين ميلًا في الساعة، تتعرَّض العجلات لتذبذباتٍ بشعة، وقد تجد أن الخرسانة المشذَّبة بعناية ارتفعَت عدة بوصاتٍ فوق الأرض بجانبها، مما يُجبِر السائق على السير على الأرض الترابية، حتى يُمكِنه العثور على مكانٍ يعود منه إلى الطريق الممهَّد مرةً أخرى، وقد يكون هناك رملٌ ناعم من شأنه أن يتسبَّب في انحراف السيارة عن مسارها، أو طينٌ رطب من شأنه أن يتسبَّب في انزلاق السيارة وإنهاء رحلتك نهايةً مفاجئة.

لذلك تحظر قوانين القيادة الجيدة الخروج عن الشريط السحري إلا في حالات الطوارئ القصوى. ومن أخلاقيات القيادة أن للسائق الحقَّ في الحصول على عدة بوصاتٍ من هامش الحافة اليمنى، وللرجل الذي يقترب بسيارته الحق في عددٍ مساوٍ من البوصات؛ مما يُخلِّف بضع بوصاتٍ بين السيارتَين المنطلقتَين وإحداهما تمُر بالأخرى كالقذيفة. بالطريقة التي يصفُ بها المرءُ الأمر تبدو مخاطرةً، لكن هكذا هو الحال مع الأجرام السماوية، ومع أن التصادُمات بين الأجرام تحدث بالفعل، يتوفَّر وقتٌ كافٍ بين التصادم والآخر لتتشكَّل الأكوان، ووسط التحديات والمخاطر، يتمكَّن رجال الأعمال البارعون من تحقيق النجاح في مسيراتهم المهنية.

انطلقَت السيارة الأخرى كالقذيفة، واندفعَت بقوة للأمام محدثةً دويًّا عاليًا وسريعًا دون أن تُقلِّل سرعتَها. وعند مرور السيارة، كان بإمكان المرء أن يلمح رجلًا آخر يرتدي نظارةً ذات إطارٍ سميك أيضًا، ويُمسِك عجلة القيادة بإحكام بكلتا يدَيه، ويُثبِّت عينَيه دون حَراكٍ على النحو ذاته. فعند القيادة بسرعة خمسين ميلًا في الساعة، لا ينظر المرء وراءه أبدًا؛ فما يُهِم هو الأشياء الواقعة أمامك، وما مضى قد مضى، أو نقول كما يقولون: ما فات قد مات؟ بعد هُنَيهَة ستأتي سيارةٌ أخرى، ومرةً أخرى سيكون من الضروري أن تترك موقعك المريح في منتصف الشريط الخرساني، وتكتفي بالسير في جزءٍ من الطريق محدَّد بدقة، يقلُّ عن النصف ببضعِ بوصات. وفي كل مرة، ستُراهِن بحياتك على قدرتك على وضع سيارتك في المسار المحدَّد، وعلى قدرة واستعداد الطرف الآخر المجهول على فعلِ الشيءِ ذاته. فلا تقع عينُك على سيارته إلا في اللحظة التي تندفع فيها مسرعةً نحوك، وإذا رأيتَ أنه لا يَحيد عن منتصف الطريق بالقَدْر اللازم، تُدرِك أنك تُواجِه أخطر الثدييات التي تسير على رِجلَين وهو: السائق الأهوج. أو ربما كان رجلًا مخمورًا، أو ببساطةٍ امرأة، لكنك لا تملك الوقت الكافي لمعرفة ذلك؛ فليس لديك سوى جزء من الألف من الثانية لتُدير عجلةَ القيادة قيد أُنملة، لتنحرفَ عن الطريق الخرساني وتتجهَ نحو الطريق الترابي.

قد لا يحدث ذلك سوى مرة أو مرتَين فقط أثناء القيادة طوال اليوم. وعندما كان ذلك يحدث، كان الأب يستخدم جملةً واحدةً ثابتة؛ حيث كان يحرِّك السيجار قليلًا في فمه ويُتمتِم: «أحمقُ لَعين!» كانت هذه هي الكلمات البذيئة الوحيدة التي سمح بها سائق البغال السابق لنفسه بقولها في حضور الصبي، ولم يكن لها أيُّ دلالةٍ مهينة — فقد كانت ببساطةٍ المصطلحَ العلمي للسائقين المتهوِّرين والرجال السكارى والنساء اللائي يقُدن السيارات، وكذلك لأحمال التبن وعربات الأثاث والشاحنات الكبيرة التي كانت تسُد الطريق عند المنحنيات؛ وللسيارات ذات المقطورات، التي تنطلق بسرعةٍ مفرطة، وتتأرجح من جانب إلى آخر؛ وللمكسيكيين الذين يقودون العربات الخفيفة التي يجرُّها حصانٌ واحد وتنقلب بسهولة، وللذين يعجزون عن الالتزام بالطريق الترابي حيث تنتمي هذه العربات، ويمضون بعرباتهم المتمايلة على الطريق الخرساني — وحينما تأتي سيارة في الاتجاه المعاكس، تُضطَر إلى أن تضغَط بقوة على الفرامل، ورفع فرامل اليد، وإيقاف السيارة وهي تُحدِث أصوات صرير وطحن، والأسوأ من ذلك هو انزلاق الإطارات. يعدُّ سائقو السيارات «انزلاق إطارات السيارة» أمرًا مخزيًا، وكان الأب مقتنعًا بأنه في يوم من الأيام سيكون هناك قانونٌ للسرعة عكس القوانين الحالية، حيث ستُحظر القيادة بسرعةٍ أقلَّ من أربعين ميلًا في الساعة على الطرق السريعة، أما الأشخاص الذين يريدون قيادة عرباتٍ خفيفة تنقلب بسهولة وتجرُّها خيولٌ عرجاء، فسيسلكون طرقًا مختصرة أو يمكُثون في منازلهم.

٢

امتد حاجز من الجبال بعَرض الطريق. من بعيد، كانت جبالٌ زرقاء، تعلوها مظلة من الضباب، وكانت تبرُز في شكل تكتلاتٍ متداعية، حيث تصطَف القِمَم واحدةً وراء الأخرى، وتُطِل من فوقها قِممٌ أخرى غامضة، ألوانها باهتةٌ أكثر. كنتَ تعلمُ أنه يجب عليك الصعود إلى هناك، وكان من المشوق تخمينُ المكان الذي يمكن أن يخترق فيه الطريق هذه الجبال. ومع اقترابك أكثر، تغيَّر لون هذه التكتلات الجبلية الضخمة من اللون الأخضر إلى الرمادي أو البني المصفر. لم تَنمُ عليها أشجار، بل شجيراتٌ تتنوَّع فيها درجات الألوان تنوعًا كبيرًا. وانتشَرَت بها صخورٌ سوداء أو بيضاء أو بنية أو حمراء، بالإضافة إلى أوراقِ نباتِ اليُكة الباهتة، وهو نباتٌ له ساقٌ سميكة ترتفع لعشر أقدام أو أكثر في الهواء، تُغطِّيها كتلةٌ ضخمة من الأزهار الصغيرة الحجم، في شكل يشبه تمامًا لهبَ شمعة، إلا أنه لا يخفق مطلقًا عند هبوب الريح.

بدأ ميل الطريق يزيد بحدة صعودًا، وينعطف حول جانب تلة، وكانت هناك لافتةٌ مكتوبٌ عليها باللون الأحمر: «منحدر جوادالوبي: الحد الأقصى للسرعة عند المنحنيات ١٥ ميلًا في الساعة.» لم يُبدِ الأب أي أمارة على أنه كان يجيد قراءة الكلمات المكتوبة على تلك اللافتة، أو الأرقام على عدَّاد السرعة في سيارته. لكنه فهم أن هذه اللافتاتِ كانت للأشخاص الذين لا يعرفون القيادة؛ فبالنسبة للقلة المبتدئة، كانت القاعدة تنصُّ على السير بالسرعة التي تُبقيك على الجهة الخاصة بك من الطريق السريع. في هذه الحالة، كان الطريق على الجانب الأيمن من المعبر؛ حيث يمتد الجبل على يمينك، ويقترب منك كثيرًا عند اجتياز المنعطفات، ويسير الشخص القادم في الاتجاه المعاكس بالقرب من الحافة الخارجية؛ حيث يمكن أن يلقَى حتفه، لكن هذا شأنه.

قدَّم الأب تنازلًا آخر؛ فحيثما يكون المنعطف على اليمين، بحيث يحجب جسم الجبل الرؤية، كان يُطلِق البوق. كان بوقًا كبيرًا ذا صوتٍ قوي، مَخفيًّا في مكانٍ ما تحت غطاء محرك السيارة الكبير؛ بوقًا يلائم رجلًا اضطرَّته أعمالُه للسفر في رحلاتٍ سريعة عَبْر منطقةٍ كبيرة بما يكفي لاستيعاب إمبراطوريةٍ قديمة، وتنتظره في نهاية رحلته تعاقداتٌ مهمة، ويتنقل ليلًا ونهارًا ولا يهمه اعتدال الطقس أو سُوءُه. كان صوتُ بوق السيارة حادًّا ويشبه البوق العسكري، ولم يحتوِ على أي ملمحٍ من ملامح سماحة البشر. فعند سرعة خمسين ميلًا في الساعة لا مكان لمثل هذه المشاعر؛ فما تريده هو أن يبتعد الناس عن الطريق، وأن يفعلوا ذلك بسرعةٍ فور أن تخبرهم بذلك. ولأن البوق كان يشبه الأنف الكبير، انطلق منه صوتٌ مخنخن. وانبعث صوتُ البوق مع كل انحرافٍ مفاجئ أو منعطفٍ حاد في الطريق السريع، وبهذا يستمر الطريق في الارتفاع والتعرُّج، وتُردِّد جدران منحدر جوادالوبي الصخرية صدى صوتِ البوق الغريب. نظرَت الطيور حولها في حذَر، وغاصت سناجب الأرض في حُفراتها الرملية، وسار على حافة الطريق السريع المحفوفة بالمخاطر أصحابُ المزارع الذين يقودون سياراتهم الفورد المتهالكة، والسائحون القادمون إلى جنوب كاليفورنيا، الذين يربطون كل دجاجاتهم وكلابهم وأطفالهم ومراتبهم وطاساتهم القصدير على عتبات سياراتهم؛ تأرجح هؤلاء حتى آخر بوصةٍ خطرة من الطريق السريع، بينما انطلقَت السيارة المكشوفة السريعة، القريبة من سطح الأرض وهي تُطلِق بوقها.

سيخبرك أي صبي أن هذا رائع. مرحى! بكل تأكيد! فأنت تُحلِّق هنا بالأعلى قريبًا من السُّحب، بمحرِّكٍ بالغ القوة، تتحكم فيه بطريقةٍ سحرية، حيث يستجيب لأقلِّ ضغطةٍ من قدمك. إنه محرِّك بقوة تسعين حصانًا، تخيَّل ذلك! تخيَّل أن يركض أمامك تسعون حصانًا حول جانب الجبل، خمسةٌ وأربعون زوجًا في طابورٍ طويل، ألن يجعل هذا المشهد قلبك يخفقُ بقوة؟ وهذا الشريط الخرساني السحري الممهَّد من أجلك، والذي يعجُّ بالمنعطفات، ويرتفع دون أن تلاحظ أي اختلاف في درجة الانحدار، ويمتد على جانب جبل، مخترقًا في استقامةٍ قمةَ جبلٍ آخر، وغائصًا في الجوف المظلم لجبلٍ ثالث؛ ومنحرفًا ومنعطفًا ومائلًا للداخل عند المنحنيات الخارجية، لكنه يميل للخارج عند المنحنيات الداخلية، حتى تشعُر بالتوازُن والأمان طَوال الوقت، وله الخط المطلي باللون الأبيض مرسومًا بحيث يحدِّد منتصف الطريق، حتى تعرف دائمًا المكان الذي يحق لك السير فيه بالضبط، أي سحرٍ فعل كل هذا؟

أوضح الأب الأمر؛ المال فعل هذا. فقد أصدر الأثرياء الأوامر، وجاء المسَّاحون والمهندسون، وآلافٌ من الحفَّارين، واحتشد المكسيكيون والهنود، أصحابُ البشرة الداكنة، حاملين المعاولَ والمجارف؛ والحفارات الكبيرة التي تعمل بالبخار، والمزوَّدة بجرَّافاتٍ فولاذيةٍ متدلية تشبه مخالب جراد البحر؛ والرافعات ذات الأذرع الطويلة المتأرجحة؛ وآلات كشط الأرض وتسويتها، والمثاقب الفولاذية، وخبراء المفرقعات ومعهم الديناميت، وكسَّارات الصخور، وخلَّاطات الخرسانة التي تبتلع آلافًا من أكياس الأسمنت، وتشرب الماء من خرطومٍ ملطَّخ بالدقيق، وتدور أوعيتُها الفولاذية طَوالَ اليوم مصدرةً أصواتَ طحنٍ عالية. جاء كل هؤلاء، وكدَحوا على مدى عام أو عامَين، ورويدًا رويدًا بسطوا الشريط السحري.

لم يسبق أن كان هناك رجالٌ ذوو نفوذٍ مثل هذا منذ بدء الخليقة. وكان الأب واحدًا منهم؛ فقد كان بإمكانه فعلُ أشياءَ من هذا القبيل، وكان بالفعل في طريقه الآن لفعل شيءٍ من هذا القبيل. في الساعة السابعة من مساء هذا اليوم، في بهو الفندق الملكي في بيتش سيتي، كان ينتظر رجلٌ يُدعى بن سكوت، كشَّافُ نفط، وصفه الأب بأنه «صائد عقود الإيجار»، وكان معه «عرضٌ» كبير، والأوراق جاهزةٌ للتوقيع. لذلك كان للأب الحق في أن يكون الطريق خاليًا، وكان ذلك هو معنى صوت البوق العسكري الحاد الذي كان يخرج مُخَنخنًا وكأنه يقول: «الأب قادم! أفسِحوا الطريق!»

جلس الصبي، متشوِّقًا ومتيقظًا؛ فقد كان يرى العالم بطريقةٍ كان قد حلم بها الرجال في أيام هارون الرشيد، من على ظهر حصانٍ سحري يركض فوق السحاب، وبساطٍ سحري يُحلِّق في الهواء. لقد كانت إطلالةً رائعة تمتد على نطاقٍ كبير؛ مشاهد جديدة تتجلى عند كل منعطف، ووديان تتعرَّج أسفل منك، وقِمَم تلالٍ ترتفع فوقك، وسلاسل الجبال تتوالى على مرمى بصرك. والآن وأنت وسط هذه الجبال، يمكنك ملاحظة الأشجار في الأخاديد العميقة، أشجار صنَوبَر عجوزة باسقة، التَوَت أغصانُها جرَّاء العواصف وشقَّها البرق؛ أو مجموعات من أشجار البلوط الدائمة الخضرة التي امتدت لمساحاتٍ شاسعة، مثل الحدائق العامة الإنجليزية. ولكن على قِمَم الجبال بالأعلى، لم يكن هناك سوى أجمةٍ نضرة تتميز باللون الأخضر الربيعي الذي لا يستمر طويلًا، ونباتات المسكيت والمريمية وغيرها من النباتات الصحراوية، التي تعلَّمَت أن تزدهر بسرعة، أثناء وجود الماء، ثم تتحمل الجفافَ الحارَّ الطويل. وتناثَرَت بقعٌ برتقالية اللون إثر انتشار نباتات الحامول التي تنمو في شكل خيوطٍ طويلة تشبه حرير الذرة، حيث تنسج خيوطها فوق النباتات الأخرى؛ مما كان يؤدي إلى موتها، ولكن كان هناك الكثير منها.

كانت التلال الأخرى صخريةً بالكامل، ذات ألوانٍ متنوعة لا نهاية لها. فترى أسطحًا مرقَّطة ومنقَّطة مثل جلود الحيوانات؛ مثل النمر الأرقط، ومخلوقاتٍ أخرى، يجتمع فيها الأحمر والرمادي أو الأسود والأبيض، لا تعرف أسماءها. وكان هناك تلالٌ مكوَّنة من جلاميد، متناثرة وكأن عمالقةً كانوا يتعاركون ويُلقُون بها بعضهم على بعض، وكانت هناك كتلُ صخورٍ مكدسة بعضها فوق بعض، وكأن أبناء العمالقة كانوا يلعبون بها حتى سئموا من اللعب. وارتفعَت فوق الطريق صخورٌ عاليةٌ مقوَّسة مثل أسقف الكاتدرائيات؛ من خلالها يمكنك رؤية وادٍ عميق ينفرج بالأسفل، وحاجزٍ أبيضَ قوي لحمايتك من السقوط عندما تنعطف. وظهَر من بين السُّحب طائرٌ كبير يُحلِّق فوقنا، ثم توقَّف جناحاه عن الحركة وكأنما أصيب برصاصة، وغاص في الهاوية. سأل الصبي: «هل كان هذا نسرًا؟» أجاب الأب، الذي لم يشعر بأي إثارة: «صقرٌ حَوَّام.»

أخذ الطريق في الارتفاع أكثر فأكثر، وأصدَر المحرك خرخرةً ناعمة، لها نغمةٌ واحدة لا تتغير. تحت زجاج السيارة الأمامي كانت تُوجَد مجموعةٌ معقدة من العدادات وأجهزة القياس؛ عدَّاد سرعة به خطٌّ أحمرُ صغير يوضح سرعة السيارة بالضبط، وساعة، ومقياس للزيت، ومقياس للبنزين، ومقياس للتيار الكهربائي، ومقياس للحرارة كان يرتفع ببطء عند الصعود على منحدرٍ طويل كهذا. كان الأب يدرك كل هذه الأشياء؛ فقد كان يمتلك عقلًا معقدًا أكثر من أي آلة. ففي نهاية المطاف، لم يكن هناك وجهُ مقارنةٍ بين قوة التسعين حصانًا وقوة المليون دولار. فقد يتعطل المحرك، لكن عقل الأب لم يكن يتعطل أبدًا. كان من المقرر أن يصِلَا إلى قمة المنحدر بحلول الساعة العاشرة، وكان مسلك الصبي يشبه مسلكَ مزارعٍ مُسِن يرتدي ساعةً ذهبيةً جديدة، ويقف على شرفة منزله الأمامية في الصباح الباكر، معلقًا: «إن لم ترتفع تلك الشمس فوق التل خلال ثلاثِ دقائق، فهذا يعني أنها قد تأخرَت».

٣

لكن حدث خطبٌ ما وأفسد الجدول الزمني لسير الأمور. إذ كان الضباب قد انتشر، واندفعَت حُجُبٌ بيضاءُ باردة نحو وجهَيهما. كان بالإمكان الرؤية جيدًا، لكن الضباب كان قد بلَّل الطريق، وكان هناك طينٌ عليه؛ تركيبة تجعل السائق الأكثر مهارةً معدوم الحيلة. لاحظ الأب ذلك بعينه اليقظة، وأبطأ من سرعته، وكان هذا من حسن الحظ؛ لأن السيارة بدأت في الانزلاق، وكادت تلمس الحاجز الخشبي الأبيض، الذي يحول دون السقوط من فوق الحافة الخارجية.

بدآ من جديد، يمضيان بسرعةٍ بطيئة، حتى يتمكَّنا من التوقف بسرعة؛ سجل عداد السرعة خمسة أميال في الساعة، ثم ثلاثة أميال، ثم انزلقَت السيارة مرة أخرى، فصاح الأب قائلًا: «اللعنة». أدرك الصبي أنهما لن يصمدا طويلًا جدًّا، وجال في خاطره: «السلاسل»، وتوقفا بالقرب من جانب التل، في منعطف داخلي يمكن منه للسيارات القادمة من كلا الاتجاهين رؤيتهما. فتح الصبي الباب الذي على جانبه وخرج منه، ونزل الأب برزانة وخلع معطفه ووضعه على المقعد، وخلع الصبي معطفه ووضعه بنفس الطريقة، لأن الملابس كانت جزءًا من وقار الرجل، ورمزًا لمكانته في الحياة، ولا ينبغي أن تتسخ أو تتجعد على الإطلاق. فك أزرار كُمَّي القميص وطواهما لأعلى، واقتدى الصبي به بدقة في كل حركة. في الجزء الخلفي من السيارة كان هناك صندوق مسطح ذو غطاء مائل، فتحه الأب بأحد المفاتيح الكثيرة التي كان يحملها، ويعرف جيدًا استخدام كلٍّ منها، والتي كانت كلها رمزًا للكفاءة والنظام. وبعد أن أخرج الأب السلاسل وربطها بالإطارين الخلفيين، مسح يديه في النباتات المُحمَّلة بندى الضباب على جانب الطريق، وفعل الصبي الأمر ذاته، حيث أحب برودة كريات الماء المتلألئة. وكانت هناك قطعةُ قماشٍ قديمةٌ نظيفة في صندوق السيارة الخلفي، موضوعة هناك لتجفيف اليدَين، وكانت تُغيَّر من حين لآخر. وعاود الاثنان ارتداء معطفَيهما، وعادا إلى مقعدَيهما، وانطلقَت السيارة أسرع قليلًا من ذي قبل، ولكن بحذر، متأخرة عن الجدول الزمني.

«منحدر جوادالوبي: منطقة تجمع المياه: تحذير: خمسة عشر ميلًا في الساعة عند المنعطفات.» هذا ما كانت تنص عليه اللافتة؛ كانا الآن يمضيان بسرعةٍ بطيئة، كابحَين جماح السيارة التي استاءت من الأمر، واهتزت بنفاد صبر. خلع الأب نظارته ووضعها في حجره؛ إذ كان الضباب قد جعل الرؤية من خلالها مشوَّشة، وكان قد ملأ شعره بالرطوبة، وانسابت قطرات الماء فوق جبهته إلى عينَيه. كان من الممتع أن تتنفس الهواء المحمَّل بالضباب وتشعر بالبرد، وأن تمُد يدك وتضغط على البوق؛ فالأب سيسمح لك الآن بفعل كل ما تريده. وظهرَت من بين الضباب سيارة تتقدم ببطء نحوهما، وكانت هي الأخرى تطلق البوق بقوة؛ كانت سيارة فورد، تلهث متعبةً من تسلُّق هذا الطريق، ويتصاعد بخار من مبرد محركها.

ثم فجأةً قلَّت كثافة الضباب، ولم يتبقَّ سوى بضعة خيوطٍ رفيعة، وبعد ذلك اختفى تمامًا؛ وأطلقا العِنان للسيارة، فانطلقَت إلى الأمام نحو الأفق ذي المنظر الخلاب. وتوالت التلال بالأسفل، وامتد في الأفق منظرٌ طبيعي بلا نهاية؛ تمنيتَ وقتها أن يكون لديك أجنحة، لتغوص هناك بالأسفل، وتحلق فوق قمم التلال والسهول المنبسطة. حينئذٍ لن يكون هناك جدوى من حدود السرعة والمنعطفات والمكابح! قال الأب بملل: «جفِّف عدستَي نظارتي.» كان المنظر الطبيعي مُرضيًا بالنسبة له، لكن كان عليه أن يظل على يمين الخط المرسوم باللون الأبيض على الطريق. وانطلق صوت البوق، عند جميع المنعطفات الخارجية.

انسابت السيارة على الطريق، وشيئًا فشيئًا اختفى المنظر الطبيعي، فعادا إلى طبيعتهما البشرية الفانية، وهبطا مرةً أخرى إلى الأرض. اتسعَت المنعطفات، وتجاوَزا جانب التل الأخير، وامتد أمامهما منحدرٌ طويل، مستقيم؛ وبدأَت الرياح تهب مطلقة صفيرًا، وأعلن الخط الأحمر بعداد السرعة عن تزايد السرعة التي كانا يمضيان بها. كانا يعوِّضان الوقت الضائع. ومرت الأشجار وأعمدة التلغراف بسرعة بجوارهما! وصلَت السرعة الآن إلى ستين ميلًا في الساعة؛ قد يخاف البعض عند القيادة بهذه السرعة، لكن أي شخصٍ عاقل لن يخاف عندما يكون الأب من يتولى عجلة القيادة.

لكن فجأةً بدأَت السيارة في التباطؤ، حتى إنك كنت تشعر بالانزلاق للأمام في مقعدك، وأشار الخط الأحمر الصغير إلى انخفاض السرعة إلى خمسين ميلًا، ثم أربعين، ثم ثلاثين. كان الطريق يمتد مستقيمًا أمامك، ولم تكن هناك سيارةٌ أخرى في الأفق، لكن قدَم الأب كانت على الفرامل. نظر الصبي حوله مستفسرًا. قال الرجل: «لا تتحرك. ولا تنظر حولك. إنه كمينٌ مروري للسرعات المخالِفة!»

يا إلهي! مغامرة تجعل قلب الصبي يثب من الإثارة! أراد أن يُلقي نظرة، لكنه فهم أنه يجب أن يجلس دون حَراك، يحدِّق أمامه، وأن يبدو بريئًا تمامًا. وكأنهما لم يسبق لهما القيادة بسرعة تزيد عن ثلاثين ميلًا في الساعة في حياتهما، وإن ظنَّ أي شرطي مرور أنه قد رآهما يسيران بسرعة أعلى على طول المنحدر، فهذا مجرد وهمٍ بصري، خطأ طبيعي لرجل دمَّرت مهنته ثقته في الطبيعة البشرية. لا بد أنه أمرٌ مخيف أن تكون «شرطي سرعة»، وأن تكون عدوًّا للجنس البشري كله! وذلك بأن تخفض معاييرك الأخلاقية وتُقْدِم على تصرفات شائنة؛ بأن تتوارى بين الشجيرات، ممسكًا بساعة إيقاف، ويشترك معك في هذه المؤامرة شخصٌ آخر يقف على مسافةٍ محددة على الطريق، حاملًا ساعة إيقاف أيضًا، ويربط بينكما خط هاتف، حتى تتمكَّنا من متابعة سائقي السيارات الذين يمُرون! حتى إنهم اخترعوا جهازًا مكونًا من مرايا، يمكن تركيبه على جانب الطريق، حتى يتمكن أحد الرجلَين من ملاحظة وميض السيارة أثناء مرورها، وتسجيل الوقت. كانت هذه مشكلة على سائق السيارة أن ينتبه إليها باستمرار؛ فعند ظهور أبسط مؤشر لحدوث أي شيءٍ مريب، عليه أن يبطئ السرعة على الفور — ولكن بتأنٍّ — تباطؤًا طبيعيًّا، مثلما يفعل أي رجل عندما يكتشف أنه قد تجاوَز، للحظة عرضًا، حدود السلامة التامة في القيادة بشكلٍ طفيف.

قال الأب: «ذلك الرجل سيلاحقنا.» كانت لديه مرآةٌ صغيرة مثبَّتة أمام عينَيه، حتى يتمكن من مراقبة أعداء بني البشر أولئك، لكن الصبي لم يستطع النظر في المرآة؛ لذلك كان عليه الانتظار على أحرَّ من الجمر، مفوتًا المتعة.

«هل ترى أي شيء؟»

«لا ليس بعدُ، لكنه سيأتي؛ إنه يعلم أننا تجاوزنا السرعة المقرَّرة. إنه يستقر في ذلك المنحدر المستقيم؛ لأن الجميع يقود بسرعة في مكان كهذا.» هنا يمكنك الاطلاع على الطبيعة الوضيعة لوظيفة «شرطي السرعة»! لقد اختار مكانًا لا يخشى فيه الناس إطلاقًا من السير بسرعة، وحيث كان يعلم أن الجميع لن يتحلَّوا بالصبر، بعدما حدُّوا من سرعتهم لفترةٍ طويلة؛ بسبب المنعطفات في الجبال والطرق الرطبة! كان هذا هو مقدار اهتمام «شرطيي السرعة» بالتصرف بنزاهة طبقًا للأصول المتعارف عليها!

سارا ببطء بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة؛ وهو الحد القانوني للسرعة في تلك الأيام السوداء، في عام ١٩١٢. أفقد هذا القيادةَ إثارتَها، وجعل الجدول الزمني في طي النسيان. تخيَّل الصبي بن سكوت، «صائد عقود الإيجار»، جالسًا في بهو الفندق الملكي في بيتش سيتي، وهناك كان ينتظر آخرون أيضًا؛ فدائمًا ما كان ينتظر عشرات من الأشخاص، يتناقشون في مسائل العمل المهمة التي تنطوي على المجازفة ﺑ «مبالغ كبيرة». وكنت ستسمع الأب يتحدث في هاتف المسافات البعيدة، وينظر إلى ساعته، ويحسب عدد الأميال التي يجب قطعها، ويحدِّد موعده وفقًا لذلك، ثم كان يتعين عليه أن يصل إلى هناك، ولا بد ألَّا يوقفه أي شيء. إن حدَث عطل في السيارة، فسيخرج حقائبهما، ويوصد السيارة، ويُلَوِّح إلى سائقٍ عابر، ويحصل على توصيلة إلى البلدة التالية، وهناك يستأجر أفضل سيارة يمكنه العثور عليها — أو يشتريها على الفور إذا لزم الأمر — ويستكمل رحلته، تاركًا السيارة القديمة لتُقطر وتُصلَّح. فلا شيء يمكن أن يوقفه!

لكنه الآن كان يسير ببطء بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة! سأل الصبي: «ما الأمر؟»، وجاءه الجواب: «القاضي لاركي!» آه، بالتأكيد! فقد كانا في مقاطعة سان جيرونيمو؛ حيث كان القاضي الرهيب لاركي يسجن الذين يتجاوزون السرعات المقرَّرة! لن ينسى الصبي أبدًا ذلك اليوم الذي أُجبر فيه الأب على تأجيل كل ارتباطاته، والسفر عائدًا إلى سان جيرونيمو، للمثول أمام المحكمة والتعرُّض للتوبيخ من هذا المستبد المسن. في معظم الأوقات لم يكن المرء ليتعرض لمثل هذه الإهانات؛ فتكتفي بعرض بطاقتك على «شرطي السرعة»، موضحًا أنك عضو في نادي السيارات، وحينئذٍ كان يهز رأسه بأدب، ويسلمك ورقةً صغيرة مدوَّنًا عليها مبلغ «الكفالة»، بما يتناسب مع السرعة التي كنتَ تقود بها عند الإمساك بك، وترسل شيكًا بالمبلغ عَبْر البريد، ولا تفكر في الأمر أكثر من ذلك.

لكنهم هنا في مقاطعة سان جيرونيمو يتعاملون بطريقةٍ لئيمة، وكان الأب قد أخبر القاضي لاركي برأيه في عادة نصب «كمائن السرعة»؛ فالضباط يختبئون بين الشجيرات ويتجسسون على المواطنين؛ إنه عمل مهين، ويُعَلِّم سائقي السيارات أن يعتبروا ضباط القانون أعداء. حاول القاضي أن يكون ذكيًّا، وسأل الأب عما إذا كان قد فكَّر يومًا في احتمالية أن اللصوص أيضًا قد يعتبرون ضباط إنفاذ القانون أعداء. ونشرَت الصحف ذلك على صفحاتها الأولى في جميع أنحاء الولاية: «اعتراض أحد العاملين في مجال النفط على قانون السرعة؛ جيه أرنولد روس يقول إنه سيغيِّر القانون.» سخر أصدقاء الأب منه بسبب هذا، لكنه تمسك بموقفه؛ فعاجلًا أو آجلًا كان سيُجبرهم على تغيير هذا القانون، ومن المؤكَّد أنه فعل ذلك؛ ولذا فالمرء مدين له بحقيقة أنه لم يعُد هناك المزيد من «كمائن السرعة»، وأصبح على الضباط الالتزام بارتداء الزي العسكري أثناء القيادة في الطرقات، وإذا انتبهتَ لمرآتك الصغيرة، يمكنك الانطلاق بالسرعة التي تريدها.

٤

وصلا إلى منزلٍ صغير على جانب الطريق، به سقيفة أوقفا السيارة تحتها، وجسمٌ مستديرٌ منتفخ، نصفه مصنوع من الزجاج والنصف الآخر مطلي بطلاءٍ أحمر، يعني وجود بنزين للبيع. وكانت هناك لافتةٌ مكتوبٌ عليها «نفخ إطارات السيارة مجانًا»؛ أوقف الأب السيارة، وطلب من الرجل أن يخلع سلاسل الجليد من إطارات السيارة. أحضر الرجل رافعةً ورفع السيارة، وفتح الصبي، الذي كان دائمًا يخرج من السيارة فور توقفها، صندوق السيارة الخلفي، وأخرج الحقيبة الصغيرة التي سيضع بها السلاسل. كما أخرج «مسدس الشحم»، وفتحه. فوفقًا للأب: «الشحم أرخص من الصلب». كان لديه العديد من هذه المقولات التي تكفي لتأليف كتابٍ كامل عن الأمثال التي كان الصبي يحفظها عن ظهر قلب. لم يكن الأمر حرص الأب على توفير المال، أو توفر الشحم لديه بدلًا من الصلب، بل إنه المبدأ العام المتمثِّل في وضع الأشياء في نصابها الصحيح، واحترام آلةٍ رائعة.

نزل الأب من السيارة ليمد ساقَيه. كان رجلًا ضخم الجثة، يملأ كل شبر من المعطف الفخم. وكان خداه اللذان ينضحان بالحيوية محلوقَين دائمًا، ولكن عند إلقاء نظرةٍ أخرى، ستلاحظ وجود انتفاخاتٍ طفيفة حول عينَيه والكثير من التجاعيد. وكان شعره رماديًّا؛ فقد كان قلبه مثقلًا بالهموم، وكان يتقدم في العمر. وكانت ملامحه كبيرة ووجهه مستديرًا، لكنه كان يمتلك فكًّا بارزًا يجعله يبدو صارمًا. ومع ذلك، كانت تعبيرات وجهه معظم الوقت هادئة، أو بالأحرى متبلدة؛ فقد كان يبدو دائمًا كأنه يفكر في أمرٍ ما ويظل يدرسه لوقتٍ طويل. في مواقف على غرار موقفهما الحالي، كان يُظهر جانبًا ودودًا؛ فقد كان يحب التحدث مع الأُناس البسيطين الذين كان يلتقي بهم في الطريق؛ أُناس من نوعه، لم يلاحظوا لغته الإنجليزية الفظة، ولم يحاولوا الحصول على أي أموال منه، أو على الأقل ليس قدرًا كبيرًا منها.

كان مسرورًا لأنه أخبر هذا الرجل في «محطة الوقود» عن حالة الطقس هناك في الممر؛ أجل، كان الضباب كثيفًا، مما تسبَّب في تأخرهما لبعض الوقت، وخُشي من انزلاق السيارة هناك. قال الرجل إن الكثير من السيارات وقعَت في متاعب هناك؛ فقد كانت الأرض طينية، زلقة كالزجاج؛ لذا كان من الأفضل الانتظار حتى يجف الطريق. قال الأب في نفسه: «أحسنتُ صنعًا بالانطلاق على جانب الجبل.» قال الرجل إن الضباب يتلاشى الآن؛ حيث يظهر الكثير من «الضباب المرتفع» في شهر مايو، ولكنه في أغلب الأحيان كان يختفي بحلول الظهيرة. أراد الرجل معرفة ما إذا كان الأب بحاجة إلى بنزين، وقال الأب لا؛ إذ كانا قد تزوَّدا بالبنزين قبل أن يبدآ رحلتهما في المنحدر. كانت الحقيقة أن الأب كان يدقِّق في اختياراته، ولم يكن يحب استخدام أي بنزين سوى الذي كان يصنعه بنفسه، لكنه لن يقول ذلك للرجل؛ لأنه قد يجرح مشاعره.

منح الرجلَ دولارًا فضيًّا مقابل خدماته، وبدأ الرجلُ في البحث عن فكة لإعطائه الباقي، لكن الأب قال له لا عليك، يمكنك الاحتفاظ بالباقي؛ انبهر الرجل من هذا الفعل، ورفع إصبعه كنوع من التحية، وكان من الواضح إدراكه أنه يتعامل مع «رجلٍ مهم». بالطبع، كان الأب معتادًا على مثل هذه المواقف، لكنها لم تفشل قطُّ في جعل قلبه يسعد قليلًا؛ فدائمًا ما كان يحتفظ بعدد من الدولارات الفضية، وأنصاف الدولارات التي كانت تجلجل في جيبه، حتى يشارك كل من يتعامل معه هذا الدفء الروحي. وكان يقول: «يا لهم من مساكين، لا يحصلون على الكثير من المال!» كان يعرف ذلك؛ لأنه كان فيما مضى واحدًا منهم، ولم يفوِّت قطُّ أي فرصة لتوضيح ذلك للصبي. وفيما يخصه كان ذلك أمرًا حقيقيًّا، أما للصبي فكان أمرًا خياليًّا.

خلف «محطة الوقود» كانت هناك حجرةٌ صغيرة مكتوب عليها بلباقة، «مرحاض عام للرجال». كان الأب يطلق عليها اسم «محطة التفريغ»، وكانا يضحكان على تلك المزحة. ولكن الأب شدَّد على أن تقتصر هذه المزحة عليهما فقط؛ لذا يجب ألَّا يُخبَر أحدٌ بها؛ لأن الآخرين سيُصدمون منها. كان الآخرون «مختلفين»، لكن سبب اختلافهم كان أمرًا ليس له تفسيرٌ بعدُ.

جلسا على مقعدَيهما في السيارة، وكانا على وشك الانطلاق، عندما جاء «شرطي السرعة»، الذي لا بد أنه كان يلاحقهما! نعم، كان الأب على حق؛ إذ كان الرجل يتبعهما، وتجهَّم وجهه عندما رآهما. لم يكن الشرطي يعنيهما في شيء؛ لذلك انطلقا بالسيارة، وقال الأب لا شك أنه سيتخذ محطة الوقود مكانًا للاختباء ومراقبة السائقين المسرعين. وثبت صحة كلام الأب بعد ذلك. كانا قد انطلقا لمسافة ميل أو ميلَين، بوتيرتهما المضجرة بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة، عندما سمعا صوت بوق سيارة من خلفهما، ومرَّت بجوارهما سيارة بسرعة. أفسحا لها الطريق، وبعد نصف دقيقة قال الأب، وهو ينظر إلى مرآته الصغيرة: «ها هو الشرطي!» استدار الصبي ورأى الدراجة النارية تتجاوزهما ويصدر عن محركها هدير. وقفز الصبي متحمسًا في مقعده. «إنه سباق! إنه سباق! هيا يا أبي، لنلحق بهما!»

كان الأب لا يزال يتمتع ببقية من روحٍ مُحبة للهو؛ فهو لم يكن كبيرًا في السن لهذه الدرجة، علاوةً على ذلك، كانت الفرصة مناسبة ليكون العدُو في المقدمة، حيث يمكنك مراقبتُه دون أن يلاحظك. قفزَت سيارة الأب إلى الأمام، وعاد الخط الأحمر بعداد السرعة يتجاوز الأرقام ببطء، وزادت السرعة من خمسة وثلاثين، إلى أربعين، ثم خمسة وأربعين، خمسين، خمسة وخمسين. اشرأبَّ الصبي قليلًا في مقعده، وكانت عيناه تلمعان ويداه مضمومتَين.

كان الشريط الخرساني قد انتهى، وظهر طريقٌ ترابي، واسعٌ ومستوٍ، به منعطفاتٌ غير حادة التقوُّس ويمُر عَبْر أرض ريفية بها تلالٌ لطيفة، ومزروعة قمحًا. امتد الطريق صلبًا أمامهما، لكن كانت هناك نتوءاتٌ صغيرةٌ جعلَت السيارة تقفز من واحد لآخر، لكنها كانت مزودة بجميع الأجهزة المخترعة لتيسير القيادة، مثل الزنبركات وممتصات الصدمات و«المصدات». أمامهما تكوَّنَت سحبٌ من الغبار تُوجِّهها الرياح وتدفعها نحو التلال، حتى إنك كنت ستظن أن جيشًا كان يسير هناك. وتلمح بين الحين والآخر السيارة المسرعة، والدراجة البخارية تقترب منها من خلفها. «إنه يحاول الفرار! أسرع يا أبي!» كانت هذه مغامرة لن تحدث في كل رحلة!

قال الأب معلقًا: «الأحمق اللعين!» فقد كان الرجل يخاطر بحياته لتجنب دفع غرامةٍ بسيطة. وليس بالإمكان الفرار من ضابط مرور، على الأقل ليس في طرق كهذه. وبالفعل، زالت غيوم الغبار، وعلى جزءٍ مستقيم من الطريق السريع، كانت السيارة تقف على اليمين، والضابط بجانبها يحمل دفتر ملاحظاته الصغير وقلم رصاص، ويكتب أشياء. أبطأ الأب من سرعته إلى ثلاثين ميلًا ومر بجانبهما. كان الصبي يرغب في التوقف والاستماع إلى المناقشة التي لا مفر من حدوثها في مثل هذه المناسبات، لكنه كان يعلم أن الأولوية للجدول الزمني، وكانت الفرصة مواتية ﻟ «الهروب». بعد اجتياز أول منعطف، انطلقا بسرعة، وكان الصبي يتلفت حوله كل نصف دقيقة طَوال نصف الساعة التالية، لكنهما لم يرَيَا «شرطي السرعة» مرةً أخرى. ومضيا مجددًا وفقًا لقانونهما الخاص.

٥

منذ فترة، شهد هذان الاثنان حادثًا مروريًّا خطيرًا، وبعد ذلك طُلب منهما الحضور للإدلاء بشهادتهما بشأنه. نادى كاتب المحكمة على «جيه أرنولد روس»، وبعد ذلك، نادى، بالصورة الرسمية ذاتها، على «جيه أرنولد روس، الابن»، وصعد الصبي إلى مقعد الشهود، وشهد بمعرفته بطبيعة القَسَمِ وقواعد المرور، وبما رآه بالضبط.

وقد جعلَه ذلك، إن جاز القول، «على دراية بما يجري في المحاكم». وكلما حدث أثناء القيادة أي شيءٍ مخالف للقواعد ولو بقَدْر بسيط، كان خيال الصبي يطوِّره إلى مشهد محاكمة. «لا، سيادة القاضي، لم يكن للرجل أي علاقة بالجانب الأيسر من الطريق؛ لقد كنا قريبين جدًّا منه، ولم يكن لديه وقتٌ لتجاوز السيارة التي كانت أمامه.» أو على النحو التالي: «سيادة القاضي، كان الرجل يسير على الجانب الأيمن من الطريق في الليل، وكانت هناك سيارةٌ قادمة نحونا، حجبَت أضواؤها الرؤية عنا. وكما تعلم، سيادة القاضي، يجب على المرء السير على الجانب الأيسر من الطريق ليلًا، حتى يتمكَّن من رؤية السيارات المتجهة نحوه.» في خضم تخيلات الحوادث هذه، كان الصبي ينتفض قليلًا من مكانه، وكان الأب يسأله: «ما الأمر يا بني؟» كان الصبي حينئذٍ يشعر بالإحراج؛ لأنه لم يحب أن يقول إنه كان يترك أحلامه تتفلت منه. لكن الأب كان يعرف، وكان يبتسم بداخله؛ فهو طفلٌ مضحك، دائمًا ما يتخيل الأشياء، ويقفز عقله من حدث لآخر، ويشعر بالحماس طوال الوقت!

لم يكن عقل الأب هكذا؛ فقد كان يدخل في موضوعٍ واحد ويبقى فيه، وتتوالى منه الأفكار ببطءٍ وجدية؛ فقد كانت عواطفه مثل الفرن الذي يستغرق وقتًا طويلًا ليسخن. وأحيانًا لم يكن ينبس ببنت شَفة في هذه الرحلات لمدة ساعةٍ كاملة؛ حيث كان تيار وعيه يتدفق مثل نهرٍ ينحدر من خلال الصخور والرمال حتى يختفي تمامًا عن الأنظار، وربما كان الأب يعكس شعورًا بالرفاهية لارتدائه معطفًا دافئًا فخمًا، وربما تعتبره أداةً ملحقةً بمحرك سيارة يخرخر بهدوء ويسبح في الزيت المغلي؛ لاجتياز طريق بسرعة خمسين ميلًا في الساعة. وإذا فككتَ هذا الوعي إلى أجزاء، فلن تجد أفكارًا، ولكن كل ما يتعلق بحالة الأعضاء الجسدية، والطقس، والسيارة، والحسابات المصرفية، والصبي الجالس بجانبه. إن محاولة صياغة كل هذه الأمور في كلماتٍ تجعلها محددة لكن غير مترابطة؛ لذلك يجب محاولة النظر إليها جميعًا دفعةً واحدة، مختلطةً معًا: «أنا، سائق هذه السيارة، الذي كان فيما مضى جيم روس، سائق البغال، وصاحب شركة جي إيه روس وشركاه، للتجارة العامة في كوين سنتر، كاليفورنيا، أصبحتُ الآن جيه أرنولد روس، وأعمل في مجال النفط، وأوشك فطاري على أن يُهضم، وأشعُر ببعض الدفء وأنا أرتدي معطفي الجديد الكبير لأن الشمس بدأَت تشرق، ولديَّ بئرٌ جديدة تنتج أربعة آلاف برميل في نهر لوبوس، وجاري ضخ البترول من ست عشرة بئرًا في أنتيلوب، وأنا في طريقي لتوقيع عقد إيجار في بيتش سيتي، وسنعوِّض الوقت الضائع من جدولنا الزمني في الساعات القليلة القادمة، و«باني» جالس بجانبي، وهو يتمتع بالصحة والعافية، وسيمتلك كل ما أُكَوِّنه، ويحذو حَذْوي، إلا أنه لن يرتكب أبدًا الأخطاء الفادحة الفظيعة التي ارتكبتُها، ولن تكون لديه الذكريات المؤلمة التي لديَّ، وإنما سيكون حكيمًا ومثاليًّا وسيفعل كل ما أقوله.»

في هذه الأثناء، لم يكن عقل «باني» يتصرف بهذا الشكل على الإطلاق، بل على العكس كان يتواثب من موضوع إلى آخر، كما يقفز الجراد النطاط في الحقول من ساقٍ عشبية إلى أخرى. كان هناك أرنبٌ بري، يعدو بعيدًا كالمجنون، وكانت لديه أذنان طويلتان، مثل البغل، ولكن لماذا كانتا شفافتَين وورديتَي اللون؟ وكان هناك طائر نُهَس، يقف على السياج، ويفرد جناحَيه طوال الوقت، كما لو كان يتثاءب؛ ماذا كان يقصد بهذا الفعل؟ وكان هناك طائرٌ طويلٌ نحيف يركض بسرعة مثل حصان سباق، جميل ولامع، وتتداخل في ريشه ثلاثة ألوان هي الأسود والبني والأبيض، وله عرف وذيلٌ انسيابي. من أين تظن أنه سيحصل على الماء في هذه التلال الجافة؟ كانت هناك على الطريق جثةٌ مشوهة؛ حيث حاول سنجاب عبور الطريق، ودهسَته سيارة ومرَّت فوقه سياراتٌ أخرى، حتى سُحِقَت جثتُه وذرتها الرياح. لم تكن هناك فائدة من قول أي شيء للأب حول ذلك الأمر؛ لأنه سيعلق قائلًا إن السناجب تنقل الطاعون، أو على الأقل بها براغيث تنقل الطاعون، وبين الحين والآخر ستظهر حالات من هذا المرض وسيتعين على الصحف كتمان الأمر؛ لأنه يؤثِّر سلبًا على سوق العقارات.

لكن الصبي كان يفكِّر في هذا الكائن الصغير المسكين الذي أُزهِقَت حياته فجأة. يا لقسوة الحياة، ويا لغرابة الطريقة التي تنمو بها الأشياء، وتتمتع بالقدرة على صنع نفسها، من العدم كما يبدو! لم يستطع الأب تفسير ذلك الأمر، وقال إنه لا يمكن لأي شخصٍ آخر تفسيره، فأنت جئتَ إلى هذا العالم فحسب. ثم جاءت أمامهما سيارة أسفارٍ عائلية، كانت قديمة تميل إلى أحد جانبَيها ومحمَّلة بأغراضٍ منزلية؛ كان الأب يراها مجرَّد عقبة، لكن «باني» رأى غلامَين في عمره نفسه، يركبان في مؤخرة السيارة بجوار الأمتعة ويحدِّقان فيه بعيونٍ ضجرةٍ فاترة. كانا شاحبَين وبدا وكأنهما لا يملكان ما يكفي من الطعام، وكان هذا شيئًا آخر يجب التعجُّب بشأنه، لماذا يُوجد أناسٌ فقراء ولا أحد يساعدهم. وكان تفسير الأب أن عليك مساعدةَ نفسك في هذا العالم.

كان «باني» هو الاسم الشائع لهذا الصبي، وكانت أمه قد أطلقَته عليه عندما كان صغيرًا؛ لأنه كان ناعمًا ودافئًا، وتشوب وجهَه سمرةٌ لطيفة، وكانت تُلبِسه سترةَ فروٍ ناعمة، بنية اللون ومزركشة باللون الأبيض. كان الآن في الثالثة عشرة من عمره، وكان يستاء من الاسم، لكن الأولاد اختصروه إلى «بَن»، وبقي هذا الاسم معه، وكان مُرضِيًا له. كان صبيًّا وسيمًا، أسمر اللون، له شعرٌ بنيٌّ مموج، متناثر بسبب الرياح، وعينان بنيتان براقتان، وبشرةٌ متوردة؛ لأنه كان يقضي معظم وقته في الهواء الطلق. لم يلتحق بالمدرسة، لكنه تعلم على يد مدرسٍ خصوصي بالمنزل؛ لأنه كان من المقرَّر أن يحل محل والده في العالم، ثم بدأ يقوم بهذه الرحلات ليتعلم كل ما يتعلق بأعمال والده.

كانت هذه المناظر الطبيعية تتسم بروعةٍ لا متناهية؛ حيث قابل وجوهًا جديدة، واكتشف أنواعًا جديدة من الحياة. سافر إلى بلدات وقرًى مذهلة، مليئة بالناس والمنازل والسيارات والخيول واللافتات. كانت هناك لافتات على طول الطريق؛ أعمدةٌ إرشادية عند كل تقاطع، تعطيك درسًا في الجغرافيا، بسرد الأماكن التي تؤدي إليها الطرق، وتحديد المسافات؛ حتى تتمكن من وضع جدولك الزمني، وهذا ما يمكن اعتباره درسًا في الحساب! وكانت هناك لوحاتٌ مرورية تحذرك من خطرٍ ما؛ منحنيات، منحدرات، أماكن زَلِقة، تقاطعات، معابر، سكك حديدية. وكانت هناك لافتاتٌ كبيرة فوق الطريق السريع، أو لافتاتٌ مكتوب عليها بحروفٍ مصنوعة من مصابيحَ كهربائية: «لوما فيستا: مرحبًا بكم في مدينتنا.» ثم بعدها بقليل: «لوما فيستا، حدود المدينة: فلتصحبكم السلامة، في انتظار زيارتكم القادمة.»

كذلك لم تكن هناك نهاية للافتات الإعلانية، وخاصة اللافتات المعدة للحيلولة دون الشعور بالملل أثناء السفر. وتكرَّر ظهور لافتة «أمامك منظرٌ طبيعي يستحق التصوير؛ صوره بكاميرا كوداك»، وحينئذٍ كنت تبحث عن هذا المنظر الطبيعي، لكن لا يمكنك أبدًا التأكد من ماهيته. ونصب أحد مصانع الإطارات مجسمًا خشبيًّا كبيرًا لصبي يُلَوِّح بعلم؛ قال الأب إن هذا الصبي يشبه باني، وقال باني إنه يشبه صورةً لجاك لندن كان قد رآها في إحدى المجلات. كان لدى مصنع إطاراتٍ آخر كتابٌ مفتوحٌ رائع، مصنوع من الخشب، وُضع عند منعطف الطريق المؤدي إلى كل بلدة، كان من المفترض أن يكون كتاب تاريخ، وكان يخبرك ببعض المعلومات عن هذا المكان، حقائق جديدة ومفيدة في آنٍ واحد، فكنت تتعلم أن سيتروس كانت موقع أول بستان برتقال في كاليفورنيا، وأن سانتا روزيتا تتمتع بأجود الينابيع التي تحتوي على الراديوم في غرب جبال روكي، وأن على أطراف مدينة كريسينت سيتي، جعل الأب جونيبيرو سِيرا ألفَين من الهنود الحمر يعتنقون المسيحية في عام ١٧٦٩.

ومن هذا تتعلم أنه لا يزال هناك أشخاصٌ منخرطون في التبشير بالمسيحية وإقناع الناس باعتناقها؛ فقد كانوا يتوجَّهون إلى الطريق السريع بأوعية من الطلاء المختلف الألوان، ويكتبون على الصخور والجسور التي تمُر من أسفلها السكك الحديدية: «استعد للقاء ربك.» ثم ترى لوحةً مرورية مكتوبًا عليها: «معبر سكة حديدية. قف. انظر. اسمع.» أوضح الأب أن شركة السكك الحديدية أرادت لك أن تلاقي ربك بطريقةٍ أخرى؛ لأنه ستكون هناك دعاوى تعويض عن أضرار الإفراط في أخذ العقيدة الدينية على محمل الجد. فيظهر على إحدى الصخور «يسوع ينتظر»؛ ثم ترى بعدها «دجاج للعشاء بدولار واحد.» كانت هناك دائمًا لافتاتٌ مضحكة حول الأشياء التي يمكن أكلها؛ فيبدو أن كل العالم أحب وجبةً معينة، وأصبح سعيدًا بالفكرة. فأماكن تناول الطعام كانت تحمل أسماء مثل «حظيرة النقانق» و«تومي تَسَمم» و«خباز البحر» و«بيت الكركند». وكان لكلمة «نُزُل» نصيب الأسد في التلاعب اللفظي؛ حيث كانت هناك «دار الخلود» و«دار السعادة» و«بيت الراحة». وعندما تذهب إلى هذه الأماكن، ستجد روح المرح تنتشر على الجدران حيث ترى: «الدفع نقدًا، ولا نقبل الشيكات.» «لا تتذمر من القهوة؛ فيومًا ما أنت أيضًا ستصبح قديمًا وضعيفًا.» «لدينا اتفاق مع المصرف؛ فالمصرف لا يقدِّم الحساء، ونحن لا نصرف الشيكات.»

٦

كانا يمُران عَبْر وادٍ واسع، حيث تمتد لأميال وأميال حقول القمح، التي كانت تتلألأ باللون الأخضر تحت أشعة الشمس؛ وبدت الأشجار من بعيد، وكنتَ تلمح منزلًا وآخر هناك. وظهر سؤالٌ وديٌّ على إحدى اللوحات: «هل تبحث عن بيت؟ إذن سانتا إينيز هي المكان المناسب. فالمياه نقية، والأرض رخيصة الثمن، وهناك سبع كنائس. احجز الآن مع سبراوكس ونَكِلسون للعقارات.» بعد قليل، اتسع الطريق، وكان هناك صف من الأشجار في منتصفه، وبدأَت المنازل تظهر على الجانبَين. وكُتب على لافتةٍ كبيرة: «قُد ببطء واستمتع بزيارة مدينتنا، أو قُد بسرعة واستمتع بزيارة سجننا؛ بأمر من مجلس بلدية سانتا إينيز.» أبطأ الأب من سرعته إلى خمسة وعشرين ميلًا؛ إذ كان من الخدع المفضَّلة لدى مارشالات البلدة وقضاة الصلح نصبُ كمائن سرعةٍ لسائقي السيارات القادمين من الريف وهم يقودون بسرعاتٍ عالية؛ حينئذٍ يوقفونك ويغرمونك غرامةً كبيرة، وعندئذٍ ستتمثل أمامك صورة لهذا النمط الجديد من قطَّاع الطرق وهم ينفقون أموالك في حياة العربدة. من وجهة نظر الأب، كان هذا شيئًا آخر سيُوضَع حدٌّ له؛ فمثل هذه الغرامات يجب أن تذهب إلى الولاية، وأن تُستخدم في إصلاح الطرق.

«منطقة تجارية، السرعة ١٥ ميلًا في الساعة.» كان الشارع الرئيسي في سانتا إينيز يتكون من طريقَين، وبه صفان من السيارات المتوقفة بميل في منتصفه، وصفٌّ آخر من السيارات المتوقفة بميل على جانبَي الشارع. وللعثور على مكان لإيقاف سيارتك، عليك السير ببطء في إحدى حارات الطريق، مترقبًا خروج سيارة من مكانها لتحل محلها على الفور، دون أن تصطدم برفرف السيارة التي على يمينك. ترجَّل الأب من السيارة وخلع معطفه وطواه بعناية مقلوبًا على ظهره واضعًا الأكمام بالداخل، كان هذا شيئًا خاصًّا به، إذ كان يمتلك متجرًا كبيرًا يتضمن «ملابس للرجال». وضع هو وباني معطفَيهما على نحوٍ مرتَّب في صندوق السيارة الخلفي، وأوصداه بإحكام، ثم تجوَّلا على الرصيف يشاهدان أصحاب المزارع في وادي سانتا إينيز والبضائع المعروضة في المتاجر. كانت تشبه أي منطقةٍ أخرى في الولايات المتحدة، حيث كانت الأشياء المعروضة للبيع هي نفسها الأشياء التي كنتَ ستراها في نوافذ المتاجر في أي شارعٍ رئيسيٍّ آخر؛ تلك الأشياء التي يُطلِق عليها اسم «المنتجات المعلن عنها محليًّا». فقد كان صاحب المزرعة يُسافِر إلى البلدة وهو يقود سيارةً مُعلنًا عنها محليًّا، ويضغط على دواسة الوقود بحذاءٍ مُعلنٍ عنه محليًّا، ويعثر أمام متجر الأدوية على كشك يبيع مجلات مُعلنًا عنها محليًّا، تحتوي على جميع إعلانات السلع المُعلن عنها محليًّا التي سيعود بها إلى المزرعة.

كانت هناك بضعُ تفاصيل تميِّز هذه البلدة الكائنة في الغرب الأمريكي، مثل: عرض الشارع، وحداثة المتاجر، ولمعان طلائها الأبيض، وشبكة المصابيح الكهربائية المعلَّقة في وسط الشارع؛ وكذلك وجود رجل يرتدي قبعةً عريضة الحواف، وعجوزٍ هندي قزم يغمغم بشفتَيه أثناء سيره، وراعي بقرٍ وحيد يرتدي «سروال جلد» فوق سرواله الأساسي. وظهرَت لافتةٌ بيضاءُ اللون مكتوب عليها عموديًّا «مقهى النخبة»، وكُتبت كلمة «وافل» بالطلاء على النافذة، وكانت هناك قائمةُ طعام مثبَّتة بالباب، حتى تتمكَّن من رؤية ما يُقدِّمه المقهى وأسعاره. كانت هناك طاولات بمحاذاة الحائط، ونضد بطول الجانب الآخر منه، يجلس أمامه فوق مقاعدَ صغيرة بلا ظهر أو ذراعَين صفٌّ من الرجال ذوي الظهور العريضة، يرتدون قمصانًا وحمالات سراويل؛ كانت هذه المقاعد مخصَّصة للخدمة السريعة، لذلك جلس الأب والصبي على مقعدَين شاغرَين.

كان الأب يصبح على سجيته في مثل هذه الأماكن ويستمتع بالوجود فيها. فكان يحب أن «يمازح» النادلة، وكان يعرف جميع أنواع الكلام الهَزْلي الذي يمكن قوله، والأسماء المضحكة التي تُطلَق على المأكولات. فكان يطلب أن يكون البيض «مقليًّا على جانبٍ واحد» أو «بيضَ عيون». وكان يقول «بيضٌ ملفوف»، ويضحك على المجهود الذي تبذله النادلة لإدراك أن هذا يعني شطيرة بيض مقلي. وكان يتجاذب أطراف الحديث مع صاحب المزرعة الجالس في الجانب الآخر للاطلاع على حالة القمح، والأسعار المحتملة لمحاصيل البرتقال والجوز؛ فقد كان مهتمًّا بكل ما يتعلق بهذا الأمر، بوصفه رجلًا يبيع النفط الذي يتحدَّد سعره وفقًا لما يحصُل عليه هؤلاء الرجال مقابل منتجاتهم. وكان الأب يمتلك أرضًا أيضًا، وكان مستعدًّا دائمًا ﻟ «اقتناء» قطعةِ أرضٍ جيدة الإمكانات؛ لأنه، على حد قوله، كان هناك نفطٌ في جميع أنحاء جنوب كاليفورنيا، ويومًا ما ستتحوَّل إلى إمبراطورية نفط.

لكنهما كانا متأخرَين عن جدولهما الزمني، ولم يكن لدَيهما وقتٌ للهو. طلب الأب أرنبًا مقليًّا، لكن باني لم يحبِّذ الفكرة، ليس لأنه لم يكن يُحب أكل لحم الحيوانات، ولكن بسبب الأرنب الذي رآه مهروسًا على الطريق في ذلك الصباح. ولذلك اختار لحم خنزيرٍ مشويًّا؛ فلم يكن قد رأى أي خنازيرَ ميتة. وهكذا جاءت على طبقٍ كبير شريحتان من اللحم، وكرةٌ من البطاطا المهروسة، بها فتحةٌ من الأعلى مملوءةٌ بمرق اللحم البني اللزج، وكذلك ملعقة من البنجر المقطع وورقة خس عليها صوص تفاح. كانت النادلة قد أعطت الصبي حصةً إضافيةً من الطعام؛ لأنها أحبت هذا الطفل الأسمر المرح، بخدَّيه الورديَّين وشعره المتطاير بفعل الرياح، وشفتَيه الحساستَين، اللتَين تشبهان شفاه الفتيات، وعينَيه البنيتَين المتحمستَين اللتين كانتا تجولان في المكان لإلقاء نظرة على كل شيء، بدءًا من اللافتات على الحائط، وزجاجات الكاتشب وشرائح الفطير، والنادلة السمينة الظريفة، والنادلة الأخرى النحيفة المتعبة التي كانت تتولى خدمته. أدخل السرور على قلبها بإخبارها عن شرطي السرعة الذي كانا قد التقيا به والمطاردة التي شاهداها. وبدورها أطلعَتْهما على مكان كمين سرعة خارج البلدة؛ حيث أُوقف الرجل الجالس بجوار باني وغُرِّم عشرة دولارات؛ لذلك كان لديهما الكثير ليتحدثا عنه بينما كان باني يُنهي عشاءه، وشريحة فطيرة الزبيب وكوب الحليب. أعطى الأب للنادلة نصف دولار إكراميةً، وهو أمرٌ لم يكن شائعًا بين الجالسين على النضد، وبدا كأنه أمرٌ غير أخلاقي، لكنها أخذَتْه.

قادا السيارة بحذر حتى تجاوزا كمين السرعة، ثم «انطلقا بسرعة» في شارعٍ واسعٍ معروف باسم مِيشَن واي (أي طريق المهام)، على امتداده أعمدةٌ تتدلى منها أجراسٌ برونزية. كانت للطرق السريعة في هذا الريف أسماءٌ رائعة، على سبيل المثال: «طريق حديقة الشيطان» و«طريق حافة العالم» و«منحدر ينبوع الجبل» و«طريق تدفُّق ينبوع ماء الثلوج» و«وادي الألف نخلة» و«طريق جون صاحب شجرة التين» و«ممر الذئاب» و«طريق الأرانب البرية». وكان هناك طريقٌ يُدعى «طريق التلغراف»؛ أثار اسمه حماسة الصبي؛ لأنه كان قد قرأ عن معركة في الحرب الأهلية من أجل السيطرة على طريق يُسمى «طريق التلغراف»، وعندما سارا في هذا الطريق، كان يتخيَّل جنود المشاة يختبئون في الشجيرات والفرسان يهجمون عَبْر الحقول، وبدأَت الحماسة تظهر عليه، فسأله الأب: «ما الأمر؟» رد الصبي: «لا شيء يا أبي؛ كنتُ أفكر فقط.» يا له من طفلٍ مضحك! دائما ما يتخيل أشياء!

كذلك، كانت هناك شوارع تحمل أسماءً إسبانية يعتَز بها بشدة «سماسرة العقارات» في الريف المتظاهرين بالتقوى. عرف باني معنى هذه الكلمات؛ لأنه كان يدرس اللغة الإسبانية، ليتمكن في المستقبل من التعامل مع العمال المكسيكيين. فكان اسم أحد الشوارع يعني بالإسبانية «الطريق الملكي السريع»؛ والآخر «الجلَّاد». «ما قصة هذه الشوارع يا أبي؟» لكن الأب لم يكن يعرف القصة؛ لذلك تشارك في الرأي مع صاحب الشركة المصنِّعة للسيارات التي يُعلن عنها محليًّا، وقال إن معظم أحداث التاريخ ما هي إلا «هُراء».

٧

كان الطريق الآن ممهدًا بالأسفلت، فكان يلمع تحت أشعة الشمس، وكلما امتد أمامك، كان السراب يجعله يبدو كالماء. واصطفَّت على جانبَي الطريق بساتين البرتقال؛ أشجار بلونٍ أخضر داكن متألق، وبلونٍ ذهبي ناجم عما تبقى من محصول العام الماضي، وباللون الأبيض الثلجي لبراعم محصول العام الجديد. وبين الحين والآخر كان النسيم يهب؛ فتشم رائحةً ذكية. وكانت هناك بساتين من الجوز، أشجار كثيفة ذات أوراقٍ عريضة، تُلقي بظلالٍ داكنة على التربة البنية المحروثة بعناية. كانت هناك سياجات من زهور، تمتد لمسافاتٍ طويلة، بارتفاع ثماني أو عشر أقدام، وتغطيها البراعم. وكانت هناك مصدَّات للرياح من أشجار الأوكالبتوس الرفيعة الشاهقة، ذات الأوراق الطويلة المموَّجة واللحاء الذي يتقشر ويتركها عارية، وكانت مألوفة للجميع بسبب ظهورها في أفلام السينما؛ حيث كانت تحل محل أشجار البلوط المتينة وأشجار الدردار القديمة، وأشجار الكستناء الضخمة والنخيل العربي، وأشجار الأرز اللبنانية وأي شيءٍ آخر يتطلبه السيناريو.

كان يتعيَّن على المرء تقليل سرعته هنا، ومراقبة الطريق باستمرار؛ إذ كانت هناك تقاطعات وممرات تتداخل مع الطريق الرئيسي، وعلاماتٌ تحذيرية من أنواعٍ كثيرة، وازدحام في حركة مرور السيارات في كلا الاتجاهَين؛ لذلك كان يلزم التروِّي قبل اتخاذ قرار تجاوز السيارة التي أمامك؛ فقد يأتي أحد في الاتجاه المقابل، وحينئذٍ ستصبح بين شِقَّي رحًى. كان من الممتع مشاهدة تعامل الأب مع حالات الطوارئ هذه، للاطلاع على نواياه ومشاهدته وهو ينفذها.

تباعدَت المسافة بين البلدات فصارت الآن خمسة أميال أو عشرة، وتباطأت باستمرار حركة السير بسبب الازدحام، وكانت هناك باستمرار تحذيراتٌ بالامتثال لمعدل سرعة يضيق منه حلزونٌ قوي البنية. كان الطريق السريع يمُر عَبْر الشارع الرئيسي لكل بلدة، ودبَّر التجار ذلك، على حد قول الأب، على أمل أن تترجل من سيارتك وتشتري شيئًا من متاجرهم، ولو نُقل الطريق السريع إلى أطراف البلدة لتفادي الازدحام المروري، لانتقل جميع التجار على الفور إلى الطريق السريع! في بعض الأحيان كانوا يُعلِّقون لافتات، تشير إلى وجود منعطف في الطريق السريع، في محاولة لاستدراج قائد السيارة إلى شارعٍ تجاري، وبعد أن تصل إلى نهاية ذلك الشارع، كانوا يوجِّهونك للعودة إلى الطريق السريع! لاحظ الأب مثل هذه الحيل بتسامح واستمتاع رجل استخدم هذه الحيل من قبلُ مع الآخرين، لكنه لم يسمح بأن تنطلي حيل أي أحدٍ معه.

تألفَت كل بلدة من العديد من التقسيمات السكنية المستطيلة الشكل التي تراوَح عددها بين العشرات والآلاف، وكانت أراضيها مقسمة تقسيمًا مثاليًّا إلى قطعٍ مستطيلة الشكل، تضمَّنَ كلٌّ منها بيتًا مكونًا من طابقٍ واحد مصممًا على أحدث طراز، ومزودًا بحديقة تقف بها ربة منزل تحمل خرطومًا. وعلى أطراف البلدة كان هناك واحد أو أكثر من «التقسيمات الفرعية»، كما كان يُطلق عليها؛ حيث قُسمَت الأراضي الكبيرة إلى مساحاتٍ صغيرة، وزُينَت بصف من الأعلام الحمراء والصفراء التي كانت ترفرف ببهجة عند هبوب النسيم، وكذلك صف من اللافتات الحمراء والصفراء التي تطرح أسئلة، وتجيب عنها بردودٍ سريعةٍ مجدية: «هل هناك محطات للوقود؟ نعم.» «ماذا عن الماء؟ الأفضل على الإطلاق.» «هل الإنارة متوفرة؟ بالطبع.» «هل تلتزم المنطقة بالقوانين السارية؟ دون أدنى شك.» «هل تُوجد مدارس؟ قيد الإنشاء.» «ماذا بشأن المنظر الطبيعي؟ أفضل من جبال الألب.» — وما إلى ذلك. كان هناك مكتب أو خيمة على جانب الطريق، وأمامها شابٌّ متيقظ يحمل لوح كتابة وقلم حبر، ومستعدٌّ لكتابة عقد بيعٍ لك بعد التحدث معك لدقيقتَين فقط. اشترى مقسِّمو الأراضي الهكتار بألف دولار، وبمجرد أن رفعوا الأعلام الصغيرة المرفرفة ونصبوا الخيمة، أصبحَت قيمة قطعة الأرض الواحدة ١٦٧٥ دولارًا. وكان الأب يوضِّح هذا الأمر أيضًا دون أي تعصب أو ضيق. فهذا هو حال الدول العظمى!

كانا قد اقتربا من أطراف مدينة إنجِل سيتي. وهناك لم تكن مساراتٌ لعربات الترام ولا خطوط للسكك الحديدية، ولم تكن التقسيمات الفرعية للأراضي تتقيد بأي «قوانين سارية»؛ أي إنه كان يمكنك بناء أي نوع من المنازل التي تفضِّلها وتأجيرها لأشخاص من أي عرق أو لون؛ مما كان يعني أحياءً فقيرةً قبيحة، تنتشر كانتشار القُرح في الجسد، وتتكوَّن من أكواخ من الصفيح وألواحٍ غيرِ مطلية مصنوعةٍ من الورق المكسُو بالقار. وكان هناك عددٌ كبير من الأطفال الذين يلعبون هنا، ولسببٍ غريب بدا أن هناك عددًا كبيرًا منهم في مكان لم تكن ظروفه مواتية للنمو الصحي.

وبفضل الاستمرار في القيادة باندفاع وتجاوُز كل سيارةٍ أخرى على الطريق، كان الأب قد عاد إلى جدوله الزمني. ومضَيا على أطراف المدينة لتجنُّب الازدحام في مركزها، وبعد قليل ظهرت لافتةٌ مكتوب عليها: «جادة بيتش سيتي». كان الطريق أسفلتيًّا عريضًا، به آلاف السيارات المسرعة، والمزيد من التقسيمات الفرعية للأراضي، والأراضي المخصَّصة لبناء المنازل في الضواحي، بالإضافة إلى عددٍ لا نهائي من الإعلانات المبتكرة المصمَّمة لجذب انتباه سائقي السيارات، وجَعلِهم يتوقفون. ويبدو أن سماسرة العقارات كانوا يقرءون قصص ألف ليلة وليلة وحكايات الأخوين جريم الخيالية؛ حيث كانت مقراتهم في مكاتبَ صغيرةٍ غريبة لها أسقفٌ مدببة، أو تميل إلى جانبٍ واحد وكأنها بحَّارٌ مخمور، وكانت ألوانها برتقالية ووردية، أو زرقاء وخضراء، أو بألواحٍ خشبيةٍ مطليٍّ كل واحدٍ منها بلون مختلف، ومنقَّطة بألوانٍ متنوعة. كانت هناك لافتاتٌ مكتوب عليها «مأكولات طيبة» و«مشويات باربكيو»، ولم تكن كلمة «باربكيو» شائعة لرسامي اللافتات؛ إذ على ما يبدو لم تكن موجودةً في كتب التهجئة عندما كانوا يرتادون المدرسة. وكانت هناك أكشاكٌ لبيع عصير البرتقال وعصير التفاح، أمامها كراسيُّ برتقالية اللون من الخوص مخصَّصة للجلوس. وكانت هناك أكشاك لبيع الفاكهة والخضراوات يمتلكها يابانيون، وأكشاكٌ أخرى عليها لافتات تدعوك إلى «مناصرة الأمريكيين». ببساطة كان هناك عددٌ غير محدود من الأشياء التي تَلفِت النظر؛ حيث يجلب كل شيء على حدة إثارةً مميزة لذهن صبي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا. كان هذا يلخِّص الغرابة والروعة اللانهائيتين لهذا العالم المتنوع! وأثار هذا الأمر العديد من الأسئلة بذهن الصبي. وبدأ يسأل الأب عن الأسباب التي تجعل الناس يتصرفون بطريقةٍ معينة.

وصلا إلى بيتش سيتي، بشارعها الواسع المُطِل على المحيط. أعلنَت الساعة على لوحة عتبة السيارة تمام السادسة والنصف؛ بالضبط في الموعد المحدَّد حسب الجدول الزمني. توقفا أمام الفندق الكبير، وترجَّل باني من السيارة، وفتح صندوقها الخلفي، وجاء خادم الفندق مسرعًا، بالتأكيد؛ فقد كان يعرف الأب، والدولارات وأنصاف الدولارات التي كانت تُجلجِل في جيوبه. أمسك الخادم حقائب السفر والمعاطف، وحملها للداخل، وتبعه الصبي، شاعرًا بالمسئولية والأهمية؛ لأن الأب لم يتمكن من الدخول بعدُ؛ فقد تعيَّن عليه وضع السيارة في مكان انتظار السيارات. لذا سار باني بخطًى سريعة وبحث في الردهة عن بن سكوت، كشَّاف النفط، الذي أطلق عليه الأب اسم «صائد عقود الإيجار». ووجده جالسًا على كرسي جلدٍ كبير، يدخن سيجارًا ويراقب الباب، نهض عندما رأى باني، ومدَّد جسدَه الطويل النحيل، وعلَت وجهه النحيل القبيح ابتسامةُ ترحيب. تذكَّر الصبي أنه جيه أرنولد روس، الابن، الذي يمثِّل والده في صفقةٍ مهمة؛ لذا انتصبَت قامته بشدة وصافح الرجل، قائلًا: «مساء الخير يا سيد سكوت. هل الأوراق جاهزة؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤