الفصل الخامس

الوحي الإلهي

١

كان باني سيلتحق بالمدرسة. كانت العمة إيما والجدة وبيرتي قد انتهجْنَ مبدأ التذمر المستمر، ولم يعُد باني «صبي النفط الصغير» الذي يكرس وقته لتعلُّم كيفية كسب المال، وكان سيعيش طفولته مثل غيره من الأولاد، ويقضي وقتًا ممتعًا، ويرتدي سترات رياضية، ويصرخ في مباريات كرة القدم، ويكون جزءًا من منظومة التعليم الرائعة. كان السيد إيتون قد تحمس لبذل كل ما في وسعه من مجهود، وعالج نقاط الضعف في قدرات تلميذه العقلية، واجتاز باني بعض الاختبارات، وأصبح تلميذًا مسجلًا رسميًّا في مدرسة بيتش سيتي الثانوية.

امتدت هذه المدرسة على مساحة مربعَين سكنيَّين على أطراف المدينة، وكانت تتكون من عدة مبانٍ على شكل مربع ناقصٍ ضلعًا، كانت المباني منمقةً ومزخرفة وتمثل مصدَر فخرٍ كبير للمدينة، وكذلك عبئًا على مواردها المادية. كانت المدرسة مجانية، وكان يرتادها أبناءُ وبناتُ تلك الشريحة من السكان التي لم تكن مضطرةً للذهاب إلى العمل، قبل سن الثامنة عشرة أو العشرين. وكان هذا يعني كل الأشخاص الميسوري الحال، وبدأ الأولاد والبنات، الذين يمثلون طبقةً اقتصاديةً معينة، يقسِّمون أنفسهم إلى طبقاتٍ فرعية وفقًا للمبدأ ذاته. وازدهَرَت «رابطاتهم السرية» بالرغم من حظر المعلمين لها، وكان الانضمام لهذه الرابطات يعتمد أساسًا على الثروة، والأشياءِ اللطيفةِ التي يمكن شراؤها بهذه الثروة، مثل: الأجساد الجيدة التغذية، والملابس العصرية، والسلوك السلس اللطيف، وعيش الحياة بمرح.

قُسِّم الشباب إلى مجموعاتٍ صغيرة، وكانوا يتنقلون بين الفصول؛ حيث كانوا يحصلون على جرعاتٍ محسوبة بدقة من الثقافة. لقد كانت منشأةً تعليميةً ضخمة، وقد دفع الآباء مقابل الحصول على أفضل الإمكانات الممكنة، ولكن من خلال بعض العمليات التي يستحيل شرحها، انتقلَت السلطة تدريجيًّا من المعلمين إلى التلاميذ. وكل عام كان الشباب يبدون أقل اهتمامًا بالعمل، وأكثر استغراقًا فيما يُطلَق عليه «الأنشطة الخارجية» التي تضُم الملعب الرياضي، وملاعب التنس وكرة السلة، وحوض السباحة الكبير وقاعة الرقص. فقد كان الأولاد والبنات يصنعون لأنفسهم عالمًا منفصلًا، له معاييرُه الخاصة، وحياتُه السرية. وكانوا يضعون دبابيس وشارات، وكان لديهم كلماتُ مرور ومصافحاتٌ ذات دلالاتٍ سرية، بالإضافة إلى شفراتٍ معقدة، تتعلق بوضع زهور، أو لون ربطة العنق، أو الشريط الموجود على قبعتك، أو زاوية لصق طابع بريد على مظروف.

كانوا ينتهجون سلوك القطيع في حياتهم، التي تستند في جانبٍ منها على المكانة المادية، مثل حياة البالغين، وفي جانبٍ آخر على البراعة الرياضية. وكانت تتمثل في الاندفاع من حدثٍ جماهيري إلى آخر. فتتنافس قوى فريقك مع قوى فريقٍ آخر، وقدرة جماعتك على إطلاق صيحات التشجيع بصوتٍ أعلى من الجماعات الأخرى، وتجتمعون معًا وتتدربون على هذه الصيحات، بينما تتدرب الفرق على المباريات التي ستُشجِّعونها فيها. كان كل ذلك تحضيرًا للإنجازات اللاحقة والأكثر واقعية التي ستُحقِّقونها في الكلية والجامعة؛ حيث ستستقبل الأخويات العظيمة الطلاب الأقوياء ماديًّا ورياضيًّا، ويؤدون أنشطتهم الاجتماعية والرياضية بمهارة وتميُّز متقنَين.

كان باني، كما نعلم، يتمتع بالمؤهلات التي تبحث عنها الأخويات؛ فقد كان لديه ملامحُ أنجلوسكسونية، والكثير من السترات الصوفية الكبيرة، وكان يذهب إلى المدرسة في سيارة من طراز تلك السنة. انضم إلى أخويةٍ مميزة، وسرعان ما أصبح حضوره مطلوبًا في جميع فعالياتها. وكان مهتمًّا اهتمامًا كبيرًا بكل شيء، ولم يتخيل من قبلُ قط أن هناك الكثير من الشباب في العالم، وأراد أن يتعرَّف عليهم جميعًا. كان يتنقل معهم بحماسٍ من نشاط إلى آخر، وكان يراقب كل ما يفعله المعلمون والتلاميذ ويستمع إلى كل ما يقولون. ولكن طَوال الوقت كان هناك شيءٌ يميزه عن البقية؛ فقد كان رصينًا وتقليديًّا و«غريب الأطوار». جاء ذلك، بلا شك، من معرفته بالكثير عن تجارة النفط؛ فقد كانت بيرتي محقة في ملاحظتها القاسية بأن هناك بقعَ نفط تحت أظافر أصابعه. فهو لن يؤيد أبدًا أفكار محبي الترف الآخرين في اعتقادهم أن «المال ينمو على الأشجار»؛ إذ كان يعلم أنه يأتي من خلال العمل الجاد المحفوف بالمخاطر. وكان على باني كذلك مواجهة الموقف في الديار، وهو أمرٌ فهمه بوضوح تام؛ فوالده لم يكن متأكدًا على الإطلاق من أن المدرسة الثانوية هي أفضل مكان للصبي، وكان يراقبه ويستمع إليه طَوال الوقت، ليرى نوعية الأفكار التي كان باني يتلقاها. لذا كان الصبي دائمًا يقارن بين التعليم الذي يتلقاه من المدرسة، والتعليم الذي اكتسبه على يد والده، ليُقرِّر أيهما كان حقًّا صحيحًا.

قبل أن يبدأ باني مسيرته التعليمية الجديدة، تلقَّى من والده ما يُطلِق عليه الآباء «محادثة جادة»، وكانت هذه المحادثة باعثةً على الفضول والحَيرة. في البدء، كان الأب سيعطيه سيارة، لكن لا بد أن تكون هناك قواعدُ بشأن ذلك الأمر. فيجب أن يَعِده بعدم تجاوُز السرعة المقررة، سواء في المدينة أو خارجها، وكانت تلك بالتأكيد حالةً غريبة من ازدواجية المعايير الأخلاقية! لكن الأب تعامل مع الأمر بصراحة؛ فقد كان ناضجًا، ويمكنه تقدير السرعات، علاوةً على ذلك، كانت لديه مصالحُ مهمة تبرِّر تجاوُزه، أما باني فكان يتعيَّن عليه الذهاب إلى المدرسة مبكرًا، وبقية الوقت لن يقود السيارة إلا لأغراضٍ ترفيهية. ويمكنه السماح للآخرين بالركوب معه في سيارته، لكن يجب ألا يسمح لأحد غيره بقيادة السيارة؛ فالأب لم يكن لديه ما يكفي من المال ليُوفر لإحدى أخويات المدرسة الثانوية مرأبًا مجانيًّا، ولذلك سيكون من المناسب أن يخبرهم باني بشكلٍ قاطع أن والده هو من سَنَّ هذه القاعدة.

علاوةً على ذلك، أراد الأب من باني أن يَعِده بعدم تدخين التبغ، أو شرب الخمور حتى يبلغ الحادية والعشرين. ومرةً أخرى ظهرَت «ازدواجية المعايير»، وكان الأب صريحًا حيال هذا الموضوع. فقد تعلَّم التدخين، لكنه تمنى لو لم يفعل ذلك، فإذا أراد باني اكتساب هذه العادة، فهذا من حقه، لكن الأب كان يرى أن عليه الانتظار حتى يبلغ من العمر ما يكفي ليعي تصرفاته، وحتى يتمَّ مرحلة نموه. وينطبق الأمر ذاته على الخمور. كان الأب لا يكثر من الشرب الآن، ولكن كانت هناك مرحلة في حياته اقترب فيها من أن يصبح مدمنًا للخمور؛ ولذا كان خائفًا منها، وسمح لباني بالذهاب إلى الكلية — على نفقته الشخصية — بشرط أن يَعِده بتجنُّب مسابقات شرب الكحول. وبالطبع وافقه باني على هذا الشرط؛ فقد كان ذلك سهلًا بما فيه الكفاية بالنسبة له. وكان يودُّ أن يطلب من والده أن يخبره المزيد عن قصته، لكنه لم يُحب ذلك كثيرًا. فلم يسبق له أن رأى الأب في حالة سُكر، وكان من المذهل التفكير في هذا الأمر.

وأخيرًا كان هناك موضوع النساء؛ وهنا، لم يستطع الأب، على ما يبدو، أن يكون صريحًا. لكنه قال له أمرَين؛ أولًا، كان من المعروف أن والد باني فاحش الثراء، وهذا يعرِّضه لواحدة من أسوأ المخاطر التي يتعرض لها الشباب. فكل أنواع النساء سيحاولن إقامة علاقة معه، فقط لينفق عليهن، أو لابتزازه، وسيميل باني إلى الوثوق بهن؛ لذا وجب على الأب تحذيره من هذا الأمر. وأخبره الأب بقصصٍ مروِّعة عن شبابٍ أثرياء، ونساء تورطوا معهن، وكيف دمَّر هذا حياتهم وجلَب العار لعائلاتهم. وبعد ذلك، تحدَّث عن مسألة المرض؛ إذ كانت النساء المنحلَّات أكثر عرضةً للإصابة بالأمراض، وحكى الأب شيئًا عن هذا الأمر، وعن الدجالين الذين يستغلون الأولاد الجاهلين الخائفين. ولذلك إذا واجه المرء مشكلةً من هذا النوع، يجب عليه الذهاب إلى طبيبٍ متمرس.

كان هذا كل ما قاله الأب لباني. وتقبل باني كلام والده بامتنان، لكنه تمنى لو أنه كان قد أخبره بالمزيد؛ فقد كان يودُّ أن يطرح على والده أسئلةً كثيرة، لكنه لم يستطع أن يحمل نفسه على فعل ذلك، في ظل إحجام والده الواضح عن قول المزيد. دَلَّ سلوك الأب وموقفه على أنه يرى أن ممارسة الجنس ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفجور؛ ولذلك لا يمكنك أن تحمل نفسك على التحدث عنه؛ فهو جزء من حياتك يجب إبقاؤه طي الكتمان، وعدم الإفصاح عنه أبدًا. كانت فكرة باني أن حديث والده لم يكن ينطبق كثيرًا عليه. فقد كان على علم بأن هناك أولادًا يرتكبون أفعالًا شائنة، لكنه لم يكن واحدًا منهم، ولم يتوقع مطلقًا أن يكون كذلك.

كان الوضع أسهل بكثير على باني لأنه سرعان ما أُغرِم بشدة. فقد كانت المدرسة تعجُّ بالشابات الجميلات، وكان من المستحيل الهروب منهن، خاصةً عندما تكون ممتلكاتك ومكانتك الاجتماعية من النوع الذي يدفع الكثيرات لملاحقتك! كانت بعض الشابات جريئاتٍ جدًّا في مبادراتهن، أو يبالغن بوضوح في الدلال، مما جعل الشاب الخجول ينفر منهن، وكانت الوحيدة التي جذبَت انتباهه تتسم بالرزانة والهدوء، مما جعله ينجذب إليها عاطفيًّا. كان اسمها روزي تينتور، وكانت تُصفِّف شعرها الطويل في ذيل حصان يصل إلى منتصف ظهرها، وكانت تتهادى على جبهتها خصلاتٌ رقيقةٌ ذهبيةٌ لامعة؛ كانت خجولةً أكثر من باني، ولا تتحدث كثيرًا، لكن هذا لم يكن ضروريًّا، لأنها كانت تمتلك قدرةً عظيمةً على إبداء إعجابها بأقل الكلمات، وكانت لديها عبارة تعبِّر بها عن إعجابها بقولها «يا للروعة!»، وزادت «روعة» علاقتهما، بهمساتٍ غامضةٍ مفعمة بالعاطفة، وكانت ترى أن تجارة النفط تتمتع ﺑ «روعة» خاصة، ولم تملَّ قطُّ من سماع باني يتحدث عنها، وهذا شيءٌ أسعده بشدة؛ فقد كان لديه الكثير الذي أراد أن يقوله. كان والد روزي طبيب أسنان، وكذلك والدتها، وهذه ليست مهنةً ممتعة على الإطلاق؛ لذلك كان من الطبيعي أن ترى الطفلة أنه من المثير أن يجوب المرء البلاد كما فعل باني، ويوجِّه أعدادًا كبيرة من العمال، ويستخرج من الأرض كنوزًا هائلة.

كانت تتجول مع باني في سيارته، وعندما يبتعدان عن المدينة، حيث كان الوضع آمنًا، كان باني يقود سيارته بيدٍ واحدة، ويضع الأخرى على يد روزي، وكانت الإثارة التي يشعران بها في غاية «الروعة» حقًّا. استمتعا بالتجوُّل بالسيارة لساعات، أو بالابتعاد عن المدينة والتجوُّل في التلال وجمع الزهور البرية والجلوس ومشاهدة غروب الشمس. كان باني في غاية الاحترام، وعندما بلغَت به الجرأة مرة أو مرتَين إلى حد تقبيل خد محبوبته، فعل ذلك وهو يشعر برهبةٍ شديدة. وفي الأوقات التي لم يكن فيها الطقس مناسبًا للتودُّد في الهواء الطلق، كان يزور منزلها؛ حيث كان الأب والأم يمارسان هوايتهما في جمع اللوحات الإنجليزية القديمة التي كانا يضعانها في أطر ويعلقانها على جميع الجدران، وكان هناك أكوامٌ منها يمكنك الاطلاع على ما تحتويه من مشاهدَ غريبة من القرن الثامن عشر، لرجالٍ يصطادون وهم يرتدون معاطفَ حمراء ومعهم مجموعاتٌ من كلاب الصيد، ونادلاتٌ حمراوات الخدود يقدِّمن كئوس الجعة لأشخاصٍ منغمسين في الشراب، ويدخِّن كلٌّ منهم غليونًا كبيرًا. كان باني يستغرق ساعات في النظر إلى هذه الرزم من اللوحات؛ حيث كان التنقل من لوحةٍ لأخرى يتطلب يدًا واحدةً فقط. ماذا يمكن أن يكون أكثر «روعة» من أن تكون صغيرًا جدًّا في السن وفي الوقت ذاته مستقيمًا جدًّا؟ كان باني يشعر بسعادةٍ بالغة لمجرد شراء قبعةٍ جديدة من القش، ولقاء محبوبته في الشارع، وتوقُّع تعليقاتها على القبعة!

٢

في ذلك الوقت، كان الأب ينطلق بمفرده في رحلات العمل، ما لم يتمكن من تأجيلها إلى عطلات نهاية الأسبوع والعطلات الرسمية. لم يكن يُحب الذهاب بمفرده، أما باني، فكان عقله دائم الانشغال بوالده، وعند عودة الأب، كان يسمع كل التفاصيل حول كيفية سير الأمور.

كانت هناك ست آبار الآن في نهر لوبوس، وكانت كلها «تدرُّ أرباحًا كبيرة». وكان لدى الأب أربع عملياتِ تنقيبٍ أخرى، وقد تعمَّق في حفر إحدى عشرة بئرًا من آبار موقع أنتيلوب القديمة، وكان لديه خطُّ أنابيبَ هناك، يتدفق من خلاله نهر من الثروة. أما فيما يخُص عقد الإيجار مع آل بانكسايد، فقد كانت لديه ستُّ آبارٍ منتجة، وقد دفع للسيد بانكسايد أرباحًا تزيد عن مليون دولار، وكانت هذه هي البداية فقط، على حد قوله. وكانت لديه بئرٌ جيدة في عقد الإيجار التالي، هي روس-واجستاف، وثلاث عملياتِ تنقيبٍ أخرى، وعلى بعد حوالي نصف ميل شمالًا كان يفتتح منطقةً جديدة بحفر بئر روس-أرميتاج رقم ١.

كان من المدهش رؤية ما حدث في حقل بروسبكت هيل. ففي جميع أنحاء قمة التل والمنحدرات، انتشَرَت أبراج الحفر، وبدأت تتوغل في حقول الكرنب وبنجر السكر. عند رؤيتها من بعيد، في ضباب الغروب، يمكنك أن تتخيلها جيشًا من الحلزونات، ذات القواقع المرتفعة، يتحرك للأمام. وعند الاقتراب منها، تسمع جلبةً ودويًّا، كأنها قادمة من العالم السفلي، وفي الليل كان المشهد ساحرًا، أضواء ضبابية بيضاء وذهبية، مع نفثات من البخار، ووهج من نيرانٍ متراقصة؛ حيث كانوا يحرقون الغاز الذي ينبثق من الأرض، لعدم توفُّر أي وسيلةٍ لاستخدامه.

عند المرور من أمام هذا المشهد، وأنت جالس في سيارتك المريحة، قد تحسبه عالمًا سحريًّا. لكن عليك تذكير نفسك أن جيشًا من الرجال كان يعمل هنا بجد، في نوباتٍ مدتها اثنتا عشرة ساعة، ويعرِّض أفراده حياتهم وأطرافهم للخطر. كما كان عليك أن تتذكر الشد والجذب، والمكايد والخيانة، والخراب والآمال الضائعة، وعليك أن تسمع قصص الأب حول ما كان يحدُث لآلافٍ من المستثمرين الصغار، الذين اندفعوا إلى حقول النفط مثلما يندفع العُثُّ نحو لهب الشمعة. حينئذٍ سيتحول هذا العالم السحري إلى مسلخ، يُهرس فيه الكثيرون ويتحوَّلون إلى نقانق تُفطِر بها القلة المختارة!

كان لدى الأب مكتبٌ كبير الآن، يعمل به مشرف وستة كتَبة، وكان الأب يجلس هناك وكأنه قبطانُ سفينةٍ حربية في برج القيادة. ومهما حدث للآخرين، كان الأب يعتني بنفسه وذويه. لقد أصبح معروفًا بأنه أكبر مستثمرٍ مستقل يعمل في هذا المجال، وقُدمَت له عروض من جميع أنواع الأشخاص؛ مشاريع جديدة ورائعة ومتألقة — فمع اشتهار الأب بالجمود، كان بإمكانه تأسيس شركةٍ قيمتها عشرة أو عشرون مليون دولار، حينئذٍ سيتدفق إليه عامة المستثمرين. لكن الأب رفض كل هذه الأشياء، وقال لباني إنه يُفضِّل أن ينتظر حتى يكبر، وينتهي من تعليمه. وبحلول ذلك الوقت سيكون لديهم الكثير من النقود وسيفعلون شيئًا كبيرًا بكل تأكيد. وافقه باني، وقال إن هذا يناسبه. وكان يأمل أن يحدث هذا «الشيء الكبير» في بارادايس؛ لأنه حينئذٍ سيكون لديه نصيبٌ حقيقي. قال الأب بالتأكيد؛ فقد كانت مزرعة واتكينز من اكتشافه، وعندما يبدءون الحفر هناك، سيطلق على البئر اسم روس الابن.

لكنهما لم يتخذا أي خطوات هناك، وكانا ينتظران؛ بسبب حدوث هفوةٍ مؤسفة في المفاوضات على الأرض. فقد شاء القدر أن يكون السيد باندي، صاحب أرض آل باندي الكبيرة، بعيدًا عن الديار في اليوم الذي جمع فيه السيد هارداكر عقود الخيارات، وعندما عاد السيد باندي، وعلم بكل عمليات الشراء المفاجئة، اشتبه في الأمر، وقرَّر أنه سيحتفظ بأرضه. وليبرهن على إصراره، رفع سعر الهكتار من خمسة دولارات إلى خمسين دولارًا! وما زاد الطين بِلةً أن أرض باندي كانت ملاصقةً لأرض آل واتكينز، وكانت مساحتها تزيد عن ألف هكتار، وتمتد بالقرب من المكان الذي عثَر فيه الأب وباني على النفط، في الواقع، كان الأب يظن أن خط النفط كان في أرض السيد باندي، لكن لم يكن يمكنه التأكُّد من ذلك دون إجراء مسح للأراضي. قال الأب إنهما سينتظران، ويتركان السيد باندي يتحمل عاقبة قراره لبضع سنوات. كان الأمر أشبه بمراقبة قطةٍ لحفرة سنجاب، وتوقُّع من سيشعر بالملل أولًا. وسأل باني عما إذا كان السيد باندي يمثل القط أم السنجاب، وأجاب الأب بأنه إن ظن أحدٌ خطأً أن جيم روس سنجاب، فسيُحاوِل أن يثبت له أنه مخطئ.

وهكذا انتظرا. وفي يوم من الأيام، جاء ذلك القريب الوهمي للأب، الذي كان يعاني من مشاكلَ صحية، إلى تلك التلال الصخرية ليرعى بضعة آلاف من المَعْز، وفي غضون ذلك، أُجِّرَت معظم المزارع للأشخاص الذين كانوا يمتلكونها في السابق. كانت هناك ثلاث أو أربعُ قطعِ أراضٍ شاغرة، لكن الأب لم يقلق بشأن ذلك، وقال إنه سيتركها للسُّمانى، وطلب من السيد هارداكر أن يضع ألف لافتةٍ مكتوب عليها «ممنوع الدخول» على الاثنَي عشر ألف هكتار التي اشتراها؛ وذلك لإبهار السيد باندي بموقف الأب المبالغ فيه لحماية أرضه، حتى من تلك الطيور الصغيرة.

٣

انخرط أغلب العالم المتحضر في الحرب. وتحوَّلَت الصحف التي كان يقرؤها الأب وباني إلى ملصقات، حيث امتدت العناوين الرئيسية بطول الصفحة، معلنة كل يوم عن المعارك والحملات التي فقدَ فيها آلاف الرجال، وربما عشرات الآلاف من الرجال، حياتهم. بدت هذه الأخبار لسكان كاليفورنيا، الذين كانوا يتمتعون بالسلام والرخاء، وكأنها قصةٌ عن «أحداثٍ حزينة وقديمة تحدث بعيدًا عنهم»، ويصعب عليهم إدراكها. كانت أمريكا قد أعلنَت الحياد رسميًّا؛ مما يعني أنه في حصة «الأحداث الجارية»؛ حيث تعلَّم باني ما يجري في العالم، كان من المتوقَّع أن يتعامل المعلم مع الحرب بموضوعية، وأن يوبِّخ أي طفل يُعرِب عن تحيُّزه الذي قد يسيء إلى أي طفلٍ آخر. أما فيما يخص رجال الأعمال مثل الأب، فكان ذلك يعني أنهم سيَجْنون المال من كلا الجانبين؛ فسيبيعون للحلفاء مباشرةً، وللقُوى المركزية عن طريق وكلاء في هولندا والدول الاسكندنافية، وسيعترضون بشدة عندما يحاول البريطانيون فرض الحصار على تجارتهم.

بالطبع، بدأ سعر «الوقود» في الارتفاع على الفور. وبدا لباني أنه من المريع أن تتضاعف ملايين الأب بسبب المعاناة الجماعية التي يتعرض لها بقية العالم، لكن الأب قال إن ذلك كان هراءً؛ فهو لم يكن مسئولًا عن إصرار الناس في أوروبا على القتال، وإذا أرادوا المنتجات التي يبيعها، فسيدفعون له بسعر السوق. عندما جاء المضاربون إليه، ليوضِّحوا له أنه، بما يمتلكه من مبالغَ نقديةٍ طائلة، يمكنه تحقيق ربحٍ سريع في شراء الأحذية، أو السفن، أو شمع الأختام، أو غيرها من السلع المتعلقة بالحرب، كان الأب يردُّ بأنه ليس لديه خبرة إلا في عملٍ واحد فقط، وهو النفط، وأنه قد نجح في حياته من خلال التمسك بما يعرفه. عندما دعاه ممثلو القوى المتحاربة لتوقيع عقود لتزويدهم بالنفط، كان يجيبهم بأنْ لا شيء يسعده أكثر من توقيع مثل هذه العقود، لكن عليهم أن يدفعوا له بالدولار الأمريكي وليس بالسندات الأوروبية. وكان يعرض عليهم اصطحابهم إلى المطعم الصغير الموجود على جانب الطريق؛ حيث يمكنهم رؤية لافتة: «المصرف لا يقدِّم الحَسَاء، ونحن لا نصرف الشيكات.»

بسبب اشتهار الأب بالموارد غير المحدودة والنزاهة الراسخة، اختير باني ليكون أمين صندوق فريق كرة القدم للطلاب الجدد، وهو منصب ينطوي على مسئوليةٍ كبيرة، منحه حق الجلوس على الخط الجانبي للملعب ومساعدة المشجعات. وبينما كان الرجال، على الجانب الآخر من العالم، يترنحون في الظلام والوحل والثلج، تُعميهم شدة الإعياء، أو فقدوا أعينهم بعيار ناري، أو تدلت أحشاؤهم خارج بطونهم، كانت الشمس مشرقة في كاليفورنيا، وكان باني يواجه حشدًا من ألف تلميذ أو ألفين، مصطفين على المقاعد، وصائحين في تناغم تشجيعًا لفريقهم. ثم يعود إلى المنزل وهو في غاية السعادة، ويخبرهم النتيجة بصوته المبحوح من كثرة الصياح، وكانت العمة إيما تبتهج بمشاركة باني في مثل هذه الأنشطة التي تناسب عمره، وباتخاذ عائلة روس لمكانتها المستحقة في المجتمع.

كان الأب يكد في عمله بشهادة الجميع؛ ولذا عندما جاءت عطلة عيد الميلاد اقترح باني قائلًا: «هيا نذهب لصيد السُّمَانى!» لم يكن من الصعب إقناعه بأخذ قسط من الراحة الآن؛ لأن لديهما أرضهما المخصصة لصيد السُّمَانى، وكانت هذه فرصة رائعة عليهما ألَّا يهدراها. لذا حزما عدة التخييم، وتوجها إلى بارادايس، ونصبا خيمتهما تحت شجرة البلوط دائمة الخضرة، وهناك كانت المزرعة، وعائلة واتكينز، كما كانتا من قبل، باستثناء أن الأطفال كانوا أطول ببضع بوصات، وكانت الفتيات يرتدين أثوابًا جديدة لتغطية أرجلهن السمراء الآخذة في النمو. تحسنت أوضاع العائلة تحسنًا كبيرًا، حيث كانوا يحصلون على دخل شهري قدره خمسة عشر دولارًا من البنك، بدلًا من أن يدفعوا له عشرة دولارات.

ذهب الأب وباني لصيد السُّمَانى، وتمكنا من اصطياد ملء كيس، وبالمصادفة مرَّا بخط النفط، ووجدا أنه أصبح جافًّا وصلبًا، ومغطًّى بالرمال والتراب. عادا إلى المخيم وتناولا وجبة شهية، ثم أتت روث لتأخذ الأطباق المتسخة؛ حيث كانت تحل محل إيلاي، لأنه كان قد استُدعيَ للاعتناء بالسيدة بافر التي كانت تُعاني من آلام في رأسها. كان إيلاي يتمتع بقدرةٍ علاجيةٍ رائعة، وقد جذب ذلك الأمرُ الأنظارَ إليه، وكان الناس يأتون من جميع أنحاء العالم ليضع يدَيه عليهم. سأل باني عما إذا كانت روث قد تلقَّت أي أخبار عن بول، وأجابت أنه جاء لرؤيتها منذ شهرَين، وكانت أحواله على ما يُرام.

بدت خجلةً بعضَ الشيء، واعتقَد باني أن ذلك قد يكون بسبب والده الذي كان مستلقيًا هناك يستمع لحديثهما؛ لذلك سار معها إلى المنزل، وفي الطريق أخبرته روث أن بول قد أحضر لها كتابًا لتقرأه، ليُثبِت لها أنها ليست مضطرة إلى الإيمان بالكتاب المقدس إذا لم تكن تريد ذلك، لكن والدها اكتشَف الكتاب، وأخذه منها وألقى به في النار، وعاقبَها بشدة.

شعَر باني بالذعر. وسألها: «هل تقصدين أنه ضَربكِ؟» أومأَت روث بالإيجاب. صاح باني: «بماذا؟»، فأجابت أنه استخدم حزام سرج. «وهل تألمتِ؟» أجابت أنها تألَّمَت كثيرًا، لدرجة أنها لم تتمكَّن من الجلوس إلا بعد مرور أسبوع. كانت مندهشةً بعض الشيء من حنق باني؛ لأنه بدا لها أمرًا عاديًّا أن «يجلد» أبٌ ابنته التي تكاد تبلغ من العمر ستة عشر عامًا؛ فقد كان يفعل ذلك لمصلحتها؛ إذ كان يظن أن من واجبه إنقاذَ روحِها من نار الجحيم. وكان بوسع باني أن يلاحظ أن روث لم تكن متأكدةً من صحة أفعال والدها لكنه قد يكون محقًّا.

سألها: «ماذا كان موضوع الكتاب؟» فقالت له كان عنوانُه «عصر المنطق» وهو كتابٌ قديم، وتساءلَت عما إذا كان باني قد سمع به من قبلُ. لكن كانت هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها باني عن هذا الكتاب، وبالطبع، قرَّر أن يعثُر على نسخة، ويقرأَها، ويُخبر روث بكل ما فيها.

رجع إلى أبيه، وحكى له ما حدث ساخطًا، لكن وجهة نظر الأب بشأن هذا الموضوع كانت مثل وجهة نظر روث. بالطبع، كان مخزيًا أن يُجلَد طفل بسبب محاولته الحصول على المعرفة، لكن آيبل واتكينز المسن كان راعي عائلته، وله الحق في تأديب أبنائه. واستطرد الأب قائلًا إنه سمع عن الكتاب؛ فقد كان من تأليف «ملحدٍ» شهير اسمه توم باين، الذي كانت له صلةٌ بالثورة الأمريكية. لم يقرأ الأب الكتاب من قبلُ، ولكن كان من السهل فهمُ لماذا أثار هذا الكتاب غضب السيد واتكينز؛ فإذا كان بول يقرأ مثل هذه الكتب، فمن المؤكد أنه ابتعَد كثيرًا عن إيمانه.

لم يستطع باني التوقف عن الشعور بالانزعاج؛ فقد كان تعرُّض روث للضرب لمجرد أنها حاولت استخدام عقلها أمرًا مروعًا للغاية. وظل باني يتحدث عن هذا الأمر طوال عصر ذلك اليوم، وارتأى أنه لا بد من أن يكون هناك قانون لمنع حدوث مثل هذا الشيء. قال الأب إن القانون لن يتدخل إلا في حالة استخدام الأب لعقابٍ قاسٍ وغريب. أصَر باني على أن أباه لا بد أن يفعل شيئًا، فضحك الأب، وسأل باني عما إذا كان يريده أن يتبنى روث. لم يكن ذلك ما أراده باني، لكنه كان يرى أن عليه أن يستخدم نفوذه مع الرجل المسن. أجاب الأب عن هذا قائلًا إن من الحماقة محاولة الانخراط في نقاشٍ مع مثل هذا المهووس، فكلما جادلتَه تمسَّكَ بوجهة نظره أكثر، وقد حصل الأب على هذا النفوذ الذي يتمتع به في علاقته مع السيد واتكينز، من خلال التظاهر بالإيمان بأوهام الرجل المسن.

لكن باني لم يتوقف عن الحديث في هذا الموضوع؛ فبإمكان الأب أن يفعل شيئًا إن أراد، وبالتأكيد يجب أن يتدخل. لذا فكَّر الأب قليلًا، ثم قال: «أتعلم يا بني، ما يجب أن نفعله أنا وأنت هو أن نعتنق دينًا جديدًا». تبيَّن باني نبرة الصوت هذه، لقد كان والده «يمازحه»؛ ولذا انتظَر بصبر. اقترح الأب أن عليهما تطوير فكرة كنيسة «كلمة الحق»، يجب أن يجعلا عدم تعرُّض الفتيات للضرب على يد الرجال إحدى النقاط الأساسية التي تدعو إليها الكنيسة. وتابع الأب لا بد أن يكون هناك وحيٌ إلهي مختص بهذه النقطة، وعندئذٍ بدأ باني يُبدي اهتمامًا. سأله الأب عن بول، وعما يؤمن به، وعما قاله بول عن روث، وعما أخبرَتْه به روث عن نفسها. أدرك باني أن الأب سيحاول أن يفعل شيئًا ما؛ ولذا انتظر.

اصطادا المزيد من السُّمَانى، وعادا وأشعلا نارًا كبيرةً في المعسكر، وحظيا بعشاءٍ ممتع، ثم قال الأب: «الآن دعنا نذهب لندعُو إلى ذلك الدين.» وهكذا سارا إلى الكابينة، وكان الأب منهمكًا في تفكيرٍ عميق، وكان باني يغلب عليه الفضول؛ فلم يكن بوسع أي أحد معرفة ما سيفعله الأب عندما يميل إلى ارتكاب فعلٍ خبيث. في السنوات اللاحقة، اعتاد الصبي أن يتأمل هذه اللحظة ويتعجب؛ بماذا كانا سيشعُران لو كانا قادرَين على التنبؤ بعواقب مزحتهما هذه، التي كانت بمثابة حركة «إحياء» ستغدو ذات تأثيرٍ عميق على ولاية كاليفورنيا بأكملها، أو على الأقل الجزء الريفي منها، والعديد من الولايات المجاورة!

٤

على أي حال، دعاهما السيد واتكينز المسن بحرارة للدخول، وترك كلٌّ من سادي وميلي كرسيهما من أجلهما، وجلسا على صندوق أو شيء من هذا القبيل في أحد أركان الغرفة. كانت هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها باني منزل آل واتكينز، وهناك أدرك مدى فقرهم مما جعل قُشَعريرةً تسري في بدنه. لم يكن المنزل مطليًّا من الداخل، مثلما كان من الخارج، وكان هناك طاولةٌ كبيرةٌ غير مطلية، وستة كراسي غير مطلية، وبضعة رفوف عليها أوانٍ فخَّارية، وبضع مقالٍ معلَّقة على الحائط، وموقد يستقر جزئيًّا على حجر بدلًا من إحدى قوائمه المكسورة. كان هذا كل شيء، حرفيًّا كل شيء، باستثناء مصباح كيروسين وفَّر إضاءةً ضعيفة ساعدَت على رؤية باقي محتويات المنزل. كانت هناك غرفتان أخريان، واحدة للرجل وزوجته، والأخرى للفتيات الثلاث، اللائي كن ينمن في سريرٍ واحد. وكان ملحقًا بالجزء الخلفي من المنزل سقيفة بها فراشان أحدهما فوق الآخر ومثبتان بالحائط؛ كان إيلاي ينام في الفراش العلوي، بينما كان الفراش الآخر شاغرًا، يذكرهم بالابن الضال.

كان إيلاي في الغرفة بعدما عاد من مهمته. كان في الثامنة عشرة من عمره الآن، وكان يتمتَّع ببنية وصوت رجلٍ مكتمل الرجولة، إلا أن نبرةَ صوته كانت ترتفع بين الحين والآخر، وتصبح حادةً بطريقة قد تُعتبَر مضحكةً لأي شخصٍ يتمتَّع بحس الفكاهة. كان حينئذٍ يُخبر والدَيه وأخواته المتعجِّبات كيف باركه الروح القدس مجددًا، وانتابَتْه ارتعاشة، وشُفِيَت السيدة بافر العجوز على الفور من آلامها. قال السيد واتكينز: «آمين!» ثلاث أو أربع مرات، بصوتٍ عالٍ جدًّا، ثم التفت إلى الأب، وعلق قائلًا: «الرب يباركنا من خلال أبنائنا.» أيَّد الأب كلامه وقال إن هذا حقيقي، وربما كان أصدقَ مما كانوا يعلمون، وسأل السيد واتكينز عما إذا كان قد فكَّر يومًا في إمكانية أن يرسل الرب وحيًا جديدًا إلى العالم. وعلى الفور كان بإمكانك ملاحظة أن العائلة انتصبَت في جلستها، وركَّزوا جميعًا أعينَهم على الأب، كما لو كانوا قد تحوَّلوا إلى تماثيل. ماذا كان يقصد زائرهم؟

قال الأب موضحًا إنه كان هناك وحيان إلهيان حتى الآن، سُجِّلا في العهد القديم والعهد الجديد؛ فلماذا لا يكون الروح القدس بصدد التحضير لوحيٍ آخر؟ لقد انتظر أتباع كنيسة «كلمة الحق» طويلًا تحقُّق هذا الأمر، وكان هذا الوعد موجودًا في الكتاب المقدس، وبإمكان أي أحدٍ قراءته. وسيحلُّ هذا الوحي الجديد محل سابقَيه، ومن الطبيعي أن يكون مختلفًا عنهما، وقد يفشل أتباع الرسالة القديمة في التعرُّف عليه، مثلما حدث سابقًا. سأل الأب عما إذا كان ما يقول يبدو معقولًا، وأجاب السيد واتكينز على الفور بأنه كذلك، وطلب من الأب أن يتابع حديثه. عندها قال الأب إن عقول البشر هي التي ستُفصِح عن «كلمة الحق» هذه، التي ستكون رسالةً تدعو إلى الحرية؛ حيث أراد الروح القدس أن نسعى بجرأة وألا نخاف، وبعد فترةٍ وجيزة من سعي العديد من الأذهان ستظهر «الحقيقة»، ربما على يد شخصٍ كان محتقرًا ومنبوذًا، لكنه سيصبح قائد أتباع الوحي الجديد. استمع باني لوالده وهو يقول كل هذا بغاية الجدية، وكان يشعر بحَيرةٍ كبيرة؛ فهو لم يكن لديه أي فكرة عن أن الأب كان على درايةٍ كبيرة بمصطلحات الكتاب المقدَّس، مثله مثل أيِّ واعظ!

هكذا بدا الأمر أيضًا لعائلة واتكينز. فقد أنصت الرجل العجوز باهتمامٍ إلى كل كلمة، وأصَر على ضرورة أن يُفصِح لهم الأب عن كل ما يعرفه. وأخبرهم الأب أنه قد وصل إلى مسامعه كلام ابنهم، ويبدو له أنه يجسِّد الروح الحقة للوحي الثالث. كان الأب قد التقى بهذا الابن، وقد صُدم من مظهره؛ لأنه بدا تمامًا كما توقع أتباع «كلمة الحق» استنادًا إلى تعاليمهم؛ كان طويل القامة، ذا شعر أشقر وعينين زرقاوين، وهيئة رزينة وصوت رخيم. لذلك اعتقد الأب أن حامل رسالة الحرية هذه، التي كُلِّفوا باتباعها، هو ابنهم الأكبر، بول، الذي أخطَئوا في طرده من بيتهم.

كان يجب أن ترى وقع هذا الكلام على العائلة! فقد كان السيد واتكينز المسن جالسًا فاغرًا فاه في دهشة بالغة، كما لو أن زوجًا من أجنحة الملائكة قد نما للأب أمام عينيه. وعلت وجه السيدة واتكينز النحيف نشوةٌ غامرة، وضمت يديها الرقيقتين معًا أمام ذقنها. أما روث، فقد بدت على وشك السقوط من مقعدها على ركبتيها. بدا الجميع مسرورًا باستثناء شخص واحد، هو إيلاي. كان إيلاي يحدق غاضبًا في الأب، وفجأة قفز من مقعده، وتبدلت ملامح وجهه، وصاح بصوتٍ حاد، عالي النبرة قائلًا: «هل ظهرت عليه العلامات؟» وعندما تأخر الأب في الإجابة، صاح مرةً أخرى: «هل ظهرت عليه العلامات؟ هل شفى المرضى؟ هل أخرج الشياطين؟ هل شُفي الكسيح ووقف وصار يمشي؟ هل حمل المحتضَر سريرَهُ ومشى؟ قل لي! أخبرني!»

فُوجِئ الأب برد فعل إيلاي؛ فلم يتوقَّع مطلقًا أن يهاجمه هكذا. ظن الأب أن إيلاي ريفيٌّ أحمق، لا يرتدي جوربًا، وسرواله لا يصل إلى رسغَي قدمَيه، ويُحضر لهما الحليب ويأخذ الأطباق المتسخة، ولكن ها هو إيلاي، قد تحول إلى أحد أنبياء الرب، ويشتعل مثلهم غضبًا! «أنا الذي باركه الروح القدس! أنا الذي اختاره الرب لتظهر عليه العلامات! انظر إليَّ، انظر إليَّ! أليس شعري أشقر وعيناي زرقاوين؟ أليس وجهي رزينًا وصوتي رخيمًا؟» وبالتأكيد، هدأت نبرة صوت إيلاي مرة أخرى، ليعزز فكرة أنه رجل بالغ؛ فهو يستطيع رؤية الأحداث قبل وقوعها ويتنبَّأ بالكوارث. «أقول لكم احذروا من هذا الذي يأتي كالحية، يزحف في الليل ليغوي نفوس ضعاف الإيمان! أقول لكم احذروا من أبناء إبليس، الذين يغوون النفس بعقيدة باطلة، ويدمرون أسس الإيمان! أنا هو من تظهر عليه العلامات التي يعلمها الجميع! أتمسك بعقيدة كنيسة فورسكوير، التي كانت كافية لآبائي وهي كافية لي! هللويا، ليتمجد الرب، والخلاص للذين غسلوا خطاياهم بدم حَمَل الرب! هللويا! هللويا!»

رفع إيلاي يدَيه عاليًا وصرخ صرخةً قوية، ونهض السيد واتكينز المسن من مقعده وصاح: «ليتمجد الرب! ليتمجد الرب!» ثم بدأ يحدُث شيءٌ فظيع؛ انتاب إيلاي نوعٌ من نوبات التشنج، واختفت حدقَتاه أعلى جفنَيه، وأرغى من شفتَيه، وشَهدَت ذراعاه سلسلة من الالتواءات تبدأ من كتفَيه حتى أطراف أصابعه، وبدأَت ركبتاه ترتجفان، وعلت وجهَه مجموعةٌ متنوعة من التعبيرات البلهاء. وبدأ يصيح بصوتٍ هائل، لم تكن لتحلم أبدًا بإمكانية صدوره من جسد بحجمه، ولا يمكنك إعادة سرد ما قاله؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يتذكَّر مزيجًا مختلطًا من المقاطع غير المفهومة، وعلى أي حال، لا يمكن تدوينه لأنه سيبدو سخيفًا جدًّا. لكن كان لهذه المقاطع تأثيرٌ سحري على السيد واتكينز المسن؛ فقد جعلَته يرفع يدَيه في الهواء، ويهزُّ ذراعَيه كما لو كان يُحاوِل الصعود إلى الجنة. وصرخ: «أطلِق العنان! أطلِق العنان!» وبدأ يتلوى كما لو كان قد أصيب بعيارٍ ناري، وبدأَت السيدة واتكينز العجوز، تلك المرأة الضعيفة المسكينة الصغيرة الحجم والشديدة النحافة حتى برَز عظمها من جلدها، تهتزُّ وتترنَّح في مقعدها، وانزلقَت الفتاتان الصغيرتان على الأرض وتدحرَجَتا على بطنَيهما، بينما جلسَت روث شاحبةَ الوجه ومذعورة، تنتقل عيناها المُحدِّقتان بين الغريبَين وإيلاي، الذي كان يصيح بمقاطعَ صوتيةٍ متنوعة، كما لو كان يُلقي لعنةً غاضبةً على الأب.

وكانت هذه هي النهاية. انسحب الأب وباني، وتسلَّلا في الظلام إلى مخيمهما، وهمس الأب طوال الطريق قائلًا: «يا للهول!».

٥

كان اليوم التالي هو يوم الأحد، أو يوم الراحة، كما أطلق عليه آل واتكينز، وبحلول الوقت الذي تناول فيه الأب وباني فطورهما في الصباح، كانت العائلة قد شدت حصانها العجوز الوحيد إلى عربتها القديمة، وغادر الأب والأم في العربة، بينما سبقهما الأبناء الأربعة سيرًا على الأقدام، في طريقهم إلى اللقاء الأسبوعي في الكنيسة الرسولية ببارادايس.

أتاح ذلك للأب وباني فرصة الذهاب لصيد السُّمَانى، دون أن تزعجهما آراء الآخرين، وفي فترة ما بعد الظهر، ركبا سيارتهما، وتوجَّها لفحص الحقل الذي اشترياه، ولمقابلة بعض الجيران الذين كانوا يستأجرونه الآن. كان لدى الأب خريطة، توضح الأراضي المختلفة، وبينما كانا يقودان السيارة كان يخطط أماكن الطرق وغيرها من التحسينات في ذهنه، وقال يومًا ما سيستقرُّ هذا المكان، وأول شيءٍ يجب البدء به هو جلب كسَّارة صخور! قابلهما في الطريق الرجل الذي كان يركب على ظهر حصانه، الذي كانا قد التقيا به من قبل، وكانا قد عرفا الآن أنه ابن السيد باندي، عدوهما، تبادلوا التحيات، كان كلٌّ من القط والسنجاب يتصرف بلباقة!

توجَّها بالسيارة إلى أحد الأغادير؛ حيث كانت هناك مزرعةٌ شاغرة مملوكة للسيد راسكوم. فُوجئا بأن وجدا منزلًا صغيرًا جميلًا من طابقٍ واحد، وبه شرفةٌ جيدة في الواجهة، تعترش حوله بالكامل عريشة من نباتات الجهنمية، التي ستتحول إلى مجموعة من الزهور الأرجوانية في الربيع. صاح باني: «أبي، يا للهول، هذا هو المكان الذي يجب أن نمكث فيه!» أجاب الأب بأنه يجب أن يكون هناك من يعتني بالمكان، وأضاف أن هناك بئرًا، ومع إجراء بعض الإصلاحات سيتحول المكان لمسكنٍ رائع. كانت هناك أيضًا قطة، وبدت مسترخيةً تمامًا، قال الأب يبدو أن هناك الكثير من السناجب، وكانت هذه علامةً جيدة على الانتصار على السيد باندي! وضحك كلاهما.

تبعا «المنحدر» وصولًا إلى روزفيل، وشاهدا الكنيسة المحلية القديمة هناك، وتناولا العَشاء، وفي المساء عادا من طريق بارادايس، وعلى أطراف البلدة، عند نهاية الطريق السريع، شاهدا مبنًى، وسط بستان من الأشجار، تسطع نوافذه بالأضواء، وتصدُر من داخله غمغمات. غطى أحد الأصوات، الذي كان يصيح عاليًا، على أصوات الآخرين، وكان من السهل تمييزه. كانت تلك هي كنيسة «القافزين المقدسين»، وكان إيلاي يلقي موعظةً. صاح باني: «أبي، دعنا نسمعه!» أوقفا السيارة وترجَّلا منها ووقفا في ظل الأشجار، وكان هذا ما سمعاه:

«… لأن أيام تجاربكم قد انتهت. تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين المثقلين بالأحمال وأنا أريحكم. لأنني حامل كلمة الحق! وأحمل العلامات؛ أبرئ المرضى، وأطرد الشياطين، وأجعل الكسيح يسير والمحتضَر يحمل سريره ويمشي! أيها الإخوة، لقد أُرسلتُ لأعلن لكم «الوحي الثالث»! فمرةً أخرى، يتجلى الروح القدس، ويتكشَّف لكم الإنجيل الجديد، حسب النبوءات الموضحة حتى الآن. كان هناك شريعةٌ قديمة، لكن الناس تخلَّوا عنها واستبدلوها، والآن يحدُث الأمر ذاته مع العهد الجديد، ولقد أُرسِلتُ لأعلن لكم عن كلمة الحق الداعية إلى الحرية وأسلِّمها لكم. وويل للذي لا يلتفت إلى هذه الكلمة؛ لأنه سيُلقى به في الهاوية، وخيرٌ له لو طُوِّق عنقُه بحجرِ رحًى وأُغرِق في البحر. ويلٌ للذي يأتي كالحية في الليل، ليغوي نفوس المتردِّدين. احذروا من أبناء إبليس، الذين يُغْوون النفس بعقيدةٍ باطلة، ويُدمِّرون أسس الإيمان! أحمل العلامات التي يعلمها الجميع، وستحلُّ بركتي على مَن يتبعني وتُشفى آلامه، ويرى مجد الرب ويتلقَّى هبات الروح القدس، وهي التكلم بألسنة! هللويا، ليتمجد الرب، والخلاص للذين غسلوا خطاياهم بدم حمل الرب! هللويا!»

ضاع صوتُ صياح إيلاي وسط جوقة من التهليل والصراخ والصياح والأنين، كما لو أن جميع رعايا الكنيسة الرسولية ببارادايس كانوا يقفزون على مقاعدهم، أو يتدحرجون على الأرض. في الواقع، لم يمُر وقتٌ طويل قبل أن يحدُث ذلك، لكن الأب لم يكن ليدع باني يقترب ليرى ما كان يحدث، فعلى حد قوله كان الأمر مهينًا للغاية، وهكذا ركبا سيارتهما وانطلقا. صاح الصبي: «عجبًا يا أبي! كان إيلاي يقول كل كلمة علمتَه إياها! هل تظن أنه يؤمن حقًّا بكل هذا؟»

أجاب الأب بأن الروح القدس وحده هو الذي يستطيع تحديد ذلك. كان إيلاي مجنونًا وخطيرًا، لكنه من النوع الذي لا يمكنك وضعه في مستشفى الأمراض العقلية؛ لأنه كان يستخدم عباراتٍ دينية. لم يكن ذكيًّا بما يكفي لابتكار أفكاره الخاصة، لكنه كان يتمتَّع بالقدر الكافي الذي يُمَكِّنه من استخدام العبارات التي سمعَها من الأب، وهكذا أصبح هناك الآن دينٌ جديدٌ طليق يُربِك الفقراء والجهلاء، ولا أحد يستطيع إيقاف انتشاره.

جاء في اليوم التالي رجلٌ قادم على ظهر حصان من خارج بارادايس، لتوصيل مكالمةٍ هاتفية للأب؛ حيث كانت هناك مشكلة في بئر روس-أرميتاج رقم ١ تتطلب وجود الأب في الحال. وقبل أن يبدآ رحلة العودة، تمكَّن باني من التحدث مع روث، وأخبرها بخطةٍ رائعة خطرَت على باله؛ حيث أوصى الأب بضرورة إقامة شخصٍ ما في مزرعة السيد راسكوم للاعتناء بالمكان، واقترح باني أن يشتري الأب بعض المَعْز وأن يزوِّد المزرعة ببعض الماشية، ويؤجِّرها لبول، ويسمح لروث بالذهاب إلى هناك للاعتناء بالمنزل من أجله، عندئذٍ ستتمكَّن روث من قراءة جميع الكتب التي ترغب في قراءتها، دون أن يضربها أحد.

بدت روث سعيدة، لكنها قالت إن بول لن يفعل ذلك أبدًا، ولن يقبل صدقةً من أي أحد. أكد لها باني أن الأمر ليس صدقة على الإطلاق؛ فقد أراد الأب حقًّا أن يمكث أحدٌ في المزرعة، وسيعقد معه صفقة عمل. تنُص على أن يعمل بول في المزرعة، مقابل أن يدفع للأب جزءًا من المال. لكن روث تنهَّدَت وقالت إنه أيًّا كان الأمر، فلن يسمح لها والدها أبدًا بالذهاب؛ فقد زادت معارضته لبول أكثر من أي وقتٍ مضى، بسبب إيلاي، الذي كان يغار من بول، ومن ادعاء بول التمتع بالمعرفة. كان إيلاي دائمًا على هذا النحو، لكنه أصبح الآن أسوأ؛ لأن سكان المدينة أيدوا بول؛ ولذلك كان والدها لا يريدها حتى أن تتحدث مع باني أو والده، خوفًا من أن تفقد إيمانها.

كانت روث في مثل عمر باني، أي أنها كانت على وشك أن تبلغ السادسة عشرة من عمرها، وقال باني إن أمامها عامين فقط لتبلغ سن الرشد، وقال الأب إنه حينئذٍ يمكنها الذهاب إلى حيث تشاء، ويمكن أن تنضم إلى بول، أو يمكنها أن تدير هي وبول مزرعة راسكوم. قال لها باني ألَّا تخاف، وأن تنتظر، وألَّا تهتم بمسألة القفز الأحمق هذه؛ فقد كان هذا هراءً بغيضًا، ولن يضرها أبدًا أن تفكر، وتستخدم منطقها السليم، وتنتظر حتى تكبر. وسيسعد الأب بمساعدتها في أن تتعلم، وتتحرر من إيلاي ونبوءاته، ويمكن لروث أن تتأكد من أن الأب كان يكره إيلاي، بقدر ما كان إيلاي يكره الأب!

٦

مرت ثلاثة أشهر، وتمكن الأب من جعل بئر روس-أرميتاج رقم ١ تنتج النفط مرة أخرى، وحقق نجاحًا كبيرًا آخر، وعثر على النفط في الكثير من الأراضي الجديدة، وعاد الناس يشيدون به بوصفه صاحب إنجازات عظيمة في حقل بروسبكت هيل. لكن الطبيب قال مجددًا إنه كان يرهق نفسه في العمل، وجاءت عطلة عيد الفصح، وراجع باني الخرائط، وعرض على الأب اقتراحًا: كانت الجبال الزرقاء على بعد عشرة أميال فقط من بارادايس، وكان هناك وفرة من سمك السلمون المرقط هناك، فلماذا لا يجعلان مزرعة راسكوم مقرهما، ويصطادان سمك السلمون المرقط؟ ابتسم الأب؛ فقد أصبح باني مرتبطًا بشدة ببارادايس ولا يمكنه الابتعاد عنها طويلًا! برَّر باني ذلك قائلًا إن بارادايس كانت اكتشافه، وإلى جانب ذلك، أراد أن يطمئنَّ على أحوال روث، ويعرف آخر أخبار بول وإيلاي ووحيه الإلهي الثالث.

علاوةً على ذلك، جاءت رسالة من الوكيل، السيد هارداكر، مفادها أن ثورًا هاجم السيد باندي الأب في أحد الحقول وأُصيب بالشلل، واعتقد السيد هارداكر أن باندي الابن لا يريد العمل في المزرعة، وإنما يريد الانتقال إلى المدينة؛ لذلك قد يكون من الممكن شراء المكان، إذا كان السيد روس لا يزال يريد ذلك. شعر باني بحماس شديد عند سماع الرسالة، لكن الأب أخبره أن يتحلى بالهدوء؛ فالسناجب الصغيرة في السن صيدها أسهل بكثير من السناجب الكبيرة في السن، وكتب للسيد هارداكر يقول إنه لم يكن حريصًا جدًّا على شراء هذه الأرض، لكن من الممكن أن يشتريها بنفس السعر الذي اشترى به باقي الأراضي، وأخبره أنه قادم للصيد في غضون أيام قليلة، وسينظر في الأمر.

ثم كتب الأب رسالة إلى السيد واتكينز، يطلب منه أن يتكرم ويرسل أحد أبنائه لينظف المنزل في مزرعة راسكوم ويجهزه لهما. وطلب الأب من باني الذهاب مع العمة إيما إلى متجر أثاث في بيتش سيتي وشراء بعض الأغراض، بما في ذلك أوانٍ فخارية وأدوات للمطبخ، وتحميلها على شاحنة وإرسالها إلى بارادايس، وكذلك أوصى باني بشراء بعض الطعام المعلَّب، وكل ما يحتاجانه، حتى يكون المكان جاهزًا عندما يصلان إلى هناك. يمكنك أن تتخيل مدى استمتاع باني بتلك المهمة؛ فبداخله، كان يجهز هذا المنزل، ليس فقط له وللأب ليبيتا فيه، ولكن لكي يستقر فيه بول وروث ويصبح بيتهما!

عندما تكون ابن رجلٍ ناجحٍ يعمل في مجال النفط، يمكنك تحقيق أحلامك. غادر الأب وباني بالسيارة، ووصلا وقت غروب الشمس، واتجها مباشرةً إلى مزرعة راسكوم، وهناك كانت روث تقف في الشرفة الأمامية، تحيط بها عريشة الجهنمية التي كانت قد أينعَت، مما جعلها تبدو وكأنها قنطرةٌ أرجوانيةٌ رائعة فوق رأسها، وبجانبها كان يقف رجل، من بعيد ظن باني أنه السيد واتكينز المسن، ولكن بعد ذلك رأى أنه كان شابًّا، وكاد قلب باني يخرج من صدره توترًا وانفعالًا. نظر إلى هذا الشخص الضخم القوي، الذي كان يرتدي قميصًا أزرق وبنطالًا كاكيًّا بحمَّالات، وله شعرٌ كثيفٌ أشعث مائل إلى الصفرة. هل يمكن أن يكون هو، بالتأكيد، من المستحيل أن يخطئ باني في تمييز ذلك الوجه المهموم، ذي الأنف الكبير البارز والفم الحزين، وهمس بحماس: «إنه بول!»

وبالفعل كان هو. تقدم كلٌّ من روث وبول، وقدَّمَت روث شقيقها للأب، وقال بول: «مساء الخير يا سيدي»، وانتظَر للتأكد من رغبة الأب في مصافحته. ثم صافح بول باني، وشعر الأخير بإحساسٍ غريب، فلم يكن هذا هو بول الذي كان يحلم به، ذلك الصبي الذي كان من الممكن أن يصبح صديقًا مقربًا، وبدلًا من ذلك كان يقف أمامه هذا الرجل البالغ، الذي بدا أكبر منه بعشر سنوات، ويصعُب أن تربطهما أي علاقة.

سأل الأب: «هل وصل الأثاث؟» أجابت روث بأنه قد وصل، وأنهما رتَّبا كل شيء، وأضافت أنهما لو كانا يعلمان بموعد وصول السيد روس، لكانا جهَّزا العشاء، على أي حال، سيكون العشاء جاهزًا على الفور. في هذه الأثناء، كان بول يساعد باني في إدخال الحقائب، ويا للهول، لقد تحول المنزل الصغير إلى أجمل منزلٍ صغير رأته عيناك، كل شيء في غاية الترتيب والنظافة، حتى إنه كان هناك غطاءٌ ورقيٌّ وردي فوق المصباح، وزهور على المنضدة المركزية! من الواضح أن روث أولت هذه المهمة اهتمامًا كبيرًا. سألت الأب بخجلٍ شديدٍ عما يحب تناوله على العشاء، فأجابها الأب كل الطعام المتوفر في المنزل، وسرعان ما انتشرَت رائحة لحم الخنزير المقدد الذي كان يئزُّ في المقلاة، وكان بول يقف منتظرًا، بعدما أفرغ السيارة، وبدأ باني على الفور يسأله عن أحواله، وكيف انتهى به المطاف هنا في مزرعة راسكوم.

أوضح بول أنه وصل بالأمس ليرى روث. وقد أفرغ كل ما في صدره مع والده هذه المرة؛ إذ كان قد أتم عامه التاسع عشر الآن؛ ولذا كان يرى أنه أصبح كبيرًا بما يكفي للسماح له بالاعتناء بنفسه. سأله باني عما إذا كان والده قد «عنَّفه»، فابتسم بول وقال إن والده ليس في وضع يسمح له بتعنيف أي شخص؛ فحالته الصحية تزداد سوءًا بسبب التهاب المفاصل. لكنه كان جافًّا ومتعنتًا كعادته، وطلب من بول أن يمضي في طريقه إلى الجحيم، وأنه سيُصلي من أجله. لاحظ باني على الفور أن لغة بول الإنجليزية قد تحسنَت كثيرًا عكس بقية أفراد عائلة واتكينز؛ فقد كان يتحدث مثل رجلٍ مثقف، وقد كان كذلك بالفعل.

أصبح العَشاء جاهزًا. وتوقع بول وروث أنهما سينتظران عند الطاولة، لكن الأب جعلهما يجلسان، وحظي الأربعة باحتفالٍ صغير، وكان الأمر في غاية المتعة. أمطر باني بول بوابل من الأسئلة عن نفسه وحياته، وأخبر بول عرضًا كيف أنه بحث عنه في تلك الليلة في منزل السيدة جرورتي، وسأله عن سبب هروبه. وتحدَّثوا عن عمة بول، ومأساة عقد إيجارها، وعن «الوحدات» العديمة القيمة التي اشترتها. كان بول قد علم من روث أن باني أرسل لها مالًا، وأعرب بول عن امتنانه، وقال إنه سيرُدُّه له؛ كان لا يزال يتمتع بهذه الكبرياء العنيدة؛ فهو لن يطلب معروفًا أبدًا، ولن يفرض خدماته ما لم يطلب أحدٌ مساعدته.

أخبرهم كيف مرَّت عليه السنوات الفائتة، وكيف توفي أخيرًا المحامي المسن الذي كان يرعاه، وترك له جميع الكتب في مكتبته، عدا كتب القانون. لقد كان كنزًا رائعًا للغاية؛ فقد كانت المكتبة تحوي الكثير من الكتب العلمية، وأفضل كتب الأدب الإنجليزي القديم. تمكَّن بول من استخدام هذه المكتبة لما يقرب من ثلاث سنوات، وكانت محور حياته؛ فنادرًا ما كان يفوِّت القراءة مساءً حتى بعد منتصف الليل، كما أنه كان يدرُس كثيرًا أثناء النهار؛ لأنه لم يكن مسئولًا عن القيام بكثير من الأعمال؛ فقد كان القاضي مينتر يعطف عليه لأنه لم يكن لديه أطفال، وكانت تثيره فكرة الصبي الذي يريد تثقيف نفسه. كان لدى القاضي مجهرٌ قديم، وكان بول يستخدمه، مما جعله يرغب في الحصول على وظيفةٍ لها علاقة بالمجاهر، وعقد العزم على قضاء بضع سنواتٍ أخرى في قراءة الكتب العلمية، ثم الحصول على وظيفة في أحد المختبرات، حتى لو كانت وظيفة بواب، إذا لزم الأمر، والمضي قدمًا حتى يحصل على وظيفة تتضمن استخدام المجهر.

يا لروعة الأشياء التي تعلمها بول! فلقد قرأ لهكسلي وسبنسر، وتحدث عن جالتون ووايسمان ولودج ولانكستر، والكثير من الأسماء التي لم يسمع بها باني من قبلُ. تقلصت المعرفة الضئيلة التافهة التي اكتسبها باني المسكين في المدرسة الثانوية، وفجأة بدا مدى سخافة انتصارات كرة القدم. لم يكن الأب على علم بهذه الأمور أيضًا؛ كان رجلًا في الخمسينيات من عمره، لكنه لم يقابل طالب علومٍ من قبلُ! وكان من المثير للاهتمام رؤية مدى سرعة استيعابه لهذه الأشياء. وأخبرهم بول أن الباحثين يحاولون معرفة ما إذا كانت الصفات المكتسبة يمكن أن تنتقل عن طريق الوراثة؛ لقد كان سؤالًا يحظى بأهميةٍ كبيرة، وقد قطع وايسمان ذيول الفئران ليرى ما إذا كانت الأجيال القادمة ستمتلك ذيولًا. استطرد بول قائلًا إن ذلك كان سخيفًا؛ لأن الفأر لم يتعرض لأي تغييرٍ حقيقي في صفاته الحيوية عند قطع ذيله؛ فالشيء الذي يجب اكتشافه هو الوقت المستغرق لشفاء الذيل عند قطعه، وما إذا كانت الأجيال الجديدة من الفئران يمكن أن تُشفى أسرع.

وأضاف بول إن السبيل لتسوية مسألة وراثة الصفات المكتسبة هي تحفيز الحيوانات لتطوير قدرةٍ جديدة، ومعرفة ما إذا كانت الأجيال الجديدة ستطوِّرها بسهولةٍ أكبر. أدرك الأب الفكرة في الحال، وقال إنك قد تتعلم شيئًا ما من خلال دراسة الخيول المدرَّبة على الخبب وسلالتها، ووافقه بول على هذا الأمر. كان الأب يودُّ معرفة المزيد عن مثل هذه الموضوعات، فعرض عليه بول كتابًا كان معه ورحَّب الأب بقراءته. كانت روث تغسل الصحون، وخرج بول ليُحضِر المزيد من الحطب، ونظر الأب إلى باني وقال: «يا له من شابٍّ جيد، يا بني!» حينئذٍ اعترى باني فخرٌ شديد؛ لأنه هو من اكتشف بول، مثلما كان هو من اكتشف حقل نفط بارادايس، الذي سيُوجد يومًا ما في هذه البقعة!

بعد ذلك جلس الأب للتحدث مع بول في أمور تتعلق بالعمل. أراد الأب أن يقيم شخصٌ ما في هذه المزرعة، وقال بول إنه قد فكر مليًّا في الأمر، وسيفعل ذلك إذا تمكَّنا من التوصل إلى اتفاقٍ عادل. سأله الأب كيف يدبِّر أموره، فقال بول إنه وفر ثلاثمائة دولار من راتبه، وسيشتري بعض المَعْز، ويزرع بعض الفاصوليا هذا الربيع، وبعض الفراولة التي ستجلب له دخلًا العام المقبل، وسيدفع للأب نصفَ ما يحصل عليه من هذه المحاصيل. تجادلا بشأن ذلك الأمر؛ لأن الأب كان يعتقد أن عليه أن يدفع لبول مقابل عمله كناظرٍ للمزرعة، لكن بول قال إنه لا ينظر إلى الموضوع من هذه الزاوية، وإنه يُصِر على تقسيم حصص الأرباح بالطريقة المعتادة لتأجير الأراضي في هذه الأنحاء. وعندما يأتي السيد روس من أجل رحلات الصيد، سينتقل بول بالطبع إلى الخيمة. لكن الأب رفض ذلك؛ فقد كان يخطِّط لبناء كوخ لنفسه، أفضل من الكوخ الحالي، وبإمكان بول مساعدة النجَّار والحصول على أجر إذا أراد ذلك. قال بول إنه يمكنه بناء الكوخ بنفسه، إذا وافق الأب على ذلك، وبإمكانه فعل كل شيءٍ ما عدا تعليق الأبواب والنوافذ؛ فقد تعلَّم القيام بجميع المهام المطلوبة في المزرعة. وسأل الأب عما إذا كانت روث ستبقى مع بول، وردَّ بول إنه سيمكُث هنا في المنزل، ويترك الأمور تجري على أعنَّتها، وستأتي روث لرؤيته، حتى يعتاد والدُهما تدريجيًّا الفكرةَ. فمن الصعب التفريق بين بول وروث؛ خاصةً الآن مع غياب إيلاي عن المنزل طوال الوقت تقريبًا.

حينئذٍ سأل الأب عن إيلاي، ومدى تطور دعوة «الوحي الثالث». بعد ثلاثة أو أربعة أيام فقط من إعلان إيلاي عن «الوحي الثالث» في كنيسة بارادايس، جاء وفد من الكنيسة في روزفيل، وقالوا إنهم سمعوا عن معجزات إيلاي المشهورة، وطلبوا منه أن يأتي ويعظهم. وبالفعل ذهب إيلاي، وألقى عظته، وتجلَّت «العلامات»، وهكذا ذاع صيت النبي الجديد أكثر من ذي قبل. والآن كان يُطوِّف أنحاء البلاد في سيارة ليموزين باهظة الثمن ملك أحد الأشخاص، وفي الجزء الخلفي من السيارة كان هناك كومةٌ من عكاكيز الأشخاص الذين «شُفُوا» على يده. وتُنصب هذه العكاكيز على مرأًى من رعايا الكنيسة الجدد، وعادةً ما كان يزيد عددها، وعندئذٍ كان يسقط على رأس النبي وابل من الدولارات وأنصاف الدولار الفضية، والعملات المعدنية الملفوفة في الأوراق النقدية، وقد منح إيلاي نفسه الآن لقب «رسول المجيء الثاني»؛ حيث كان من المقرر أن يُعلَن عن ساعة عودة المسيح إلى الأرض من خلاله. في بعض الأحيان كان رعايا الكنيسة أجمعون يتأثرون بكلامه بشدة، ويؤمنون برسالة «كلمة الحق»، أو يؤمن بعضهم فقط مما يتسبب في حدوث انقسام داخل الكنيسة؛ الأمر الذي يترتب عليه إنشاء كنيسةٍ جديدة في ذلك المكان.

سأل الأب: «في رأيك، كيف ينجح في إقناعهم؟»

قال بول: «إنه يشفي الناس حقًّا؛ بعضهم يعيش بالقرب من هنا، يمكنك التحدث إليهم. لقد كنتُ أقرأ كتابًا عن الإيحاء، يبدو أن هذا النوع من الأشياء كان يحدث منذ آلاف السنين.»

سأل الأب: «هل يُرسِل أي أموالٍ إلى أهله؟»

فابتسم بول بتجهُّم. وقال: «إن المال مقدَّس؛ فهو يخص الروح القدس، وإيلاي هو أمين خزانته.»

٧

في صباح اليوم التالي، انطلقا لصيد سمك السلمون المرقط، وفي الطريق توقَّفا لمقابلة السيد هارداكر. وقبل الدخول إليه، حذَّر الأب باني قائلًا: «التزم الصمت، ولا تُظهِر أي تعابير على وجهك. دعني أتَولَّ هذا الأمر.» دخلا إلى السيد هارداكر الذي قال إنه تلقَّى عرضًا من باندي الابن، نيابةً عن والده، ببيع المزرعة مقابل عشرين ألف دولار. رقَص قلب باني في صدره فرحًا، وكان من الجيد أن الأب قد حذَّره؛ لأنه أراد أن يصيح قائلًا: «اقبل بالعرض يا أبي! اقبل به!» لكنه تمالَك نفسه، وجلس متخشبًا، بينما قال الأب: «يا إلهي، ماذا يخالنا هذا الرجل؟»

أوضح السيد هارداكر أن هناك حوالي عشرين هكتارًا من الأراضي الصالحة في هذه المنطقة، رد عليه الأب حسنًا، فلنقل إن سعر الهكتار مائة دولار، والتحسينات أربعة آلاف دولار، هذا يعني أن باندي الابن كان يحاول بيع ألف هكتار من الصخور مقابل أربعة عشر دولارًا للهكتار، وهذا سعرٌ مُبالَغ فيه. لا بد أنه يظنهما أحمقَين ويسهُل خداعُهما.

قال الوكيل: «الحقيقة يا سيد روس أنه يعلم أنك تعمل في مجال النفط، ويعتقد أنك ستحفر هذه الأرض.»

قال الأب: «حسنًا. أخبِره أن يبحث عن شخصٍ آخر ليَحفِر أرضه، وإذا حصل على أي نفط، فسأحفِر قطع الأرض الخاصة بي. وفي غضون ذلك، سأستخدم الأرض التي أملكها الآن في تربية كل السُّمَانى الذي يسمح القانون بصيده في موسم واحد.»

أنهى الأب حديثه بأن قال إنه سيدفع اثني عشر ألفًا نقدًا، وإلا فسيصرف نظره عن الأرض؛ بعد أن ركبا السيارة وشغلا المحرك، همس باني: «يا للهول، يا أبي، أليست هذه مجازفةً كبيرة؟» لكن الأب قال: «اتركه في حَيرته قليلًا. لديَّ كل الأرض التي يمكنني حفرها الآن.»

«لكن يا أبي، قد يُحضر شخصًا آخر ليحفرها!»

«لا تقلق! أنت تريد تلك الأرض؛ لأن لديك حدسًا تجاهها، لكن لا يمتلك أحدٌ آخر هنا أي حدس، وسيُصاب باندي الابن بالتعب بعد أن يحاول لبعض الوقت. دعنا نذهب لنصطاد.»

انطلقا، واصطادا سمك السلمون المرقط اللامع البارد الجميل من بحيرةٍ جبليةٍ صغيرة، وفي وقتٍ متأخر من المساء عادا إلى مزرعة راسكوم، قلى بول السمك، وتناول ثلاثتهم عشاءً رائعًا، وبعد ذلك دخَّن الأب سيجارًا وسأل بول أسئلةً متنوعةً متعلقة بالعلوم. قال الأب إنه كان يتمنى لو حصل على هذا النوع من التعليم عندما كان صغيرًا؛ فهذه هي الأشياء التي تستحق المعرفة، لماذا لم يدرس باني علم الأحياء والفيزياء، بدلًا من أن يملئوا رأسه باللغة اللاتينية والشعر، وتاريخ الملوك القدامى وحروبهم وعشيقاتهم، وهي أمورٌ لا فائدة تُرجى منها لأي أحد؟

في صباح اليوم التالي، ودَّعا بول، وعادا إلى الجبال، وأمضَيا معظم اليوم في صيد السمك، ثم انطلقا إلى بيتش سيتي، ووصلا هناك قرابة وقت النوم. عاد باني إلى المدرسة، وكان منصبه الجديد هو أمين صندوق فريق البيسبول، وشرع الأب في العمل وحَفْر أربع آبارٍ جديدة في أرض أرميتاج، وثلاثٍ في أرض واجستاف. وفي هذه الأثناء، أنشأَت دول أوروبا لنفسها جبهتَين للموت، تمتدَّان عَبْر القارة، واندفع ملايين الرجال، كما لو كانوا تحت تأثير تعويذةٍ وحشية، إلى هاتَين الجبهتَين لتفجير أجسادهم إلى أشلاء وسفك دمائهم على الأرض. تحدَّثَت الصحف عن المعارك التي استمرَّت لأشهر، واستمَر سعر المنتجات النفطية في تكديس ثروات لجيه أرنولد روس.

أتى فصل الصيف، وكان لدى بيرتي خططٌ لأخيها. كانت بيرتي الآن سيدةً شابة في الثامنة عشرة من عمرها، متألقة ولامعة؛ حيث كانت تختار ملابسَ برَّاقة تشبه ملابس راقصات السيرك. وكانت ترتدي فوق ساقَيها الصغيرتَين الجميلتَين أفضل أنواع الحرير وأكثرها شفافية، وكان حذاؤها الأنيق المدبَّب لا يحتوي على أي خدوش. وعندما كانت بيرتي ترتدي فستانًا باللون الأرجواني أو القرمزي أو البرتقالي أو الأخضر، كان من الغريب أن تتمتَّع الجوارب والأحذية، والقبعة والقفازات وحتى حقيبة اليد بدرجة اللون ذاتها، قال الأب مازحًا إنها ستقتني قريبًا سياراتٍ رياضيةً تتناسب مع درجات لون ملابسها. كانت هناك لمحة من الكآبة في مزاح الأب بشأن أكوام الفواتير التي عليه أن يدفعها، وكان في حَيرة من أمره بشأن هذه الفراشة الشابَّة الرائعة التي ساعد في خروجها من شرنقتها. قالت العمة إيما إن الفتاة تستحق «الاستمتاع بحياتها»، وعلى الأب تحمُّل تكاليف هذا الأمر، لكنه كان يقف صامدًا كالطود أمام جهود بيرتي لدفعه إلى دوَّامتها الاجتماعية. فقد كان يهاب هؤلاء الأشخاص المتغطرسين، وخاصةً النساء، عندما كن يحدِّقنَ فيه باحتقارٍ من خلف شبكاتهن التي كن يضعنها على وجوههن، أو أيًّا ما كُن يُسمُّونها، الأمر الذي كان يجعله يشعر أنه ضئيلٌ مثل الحشرة. ماذا يمكن أن يقول لأشخاص لا يعرفون الفرق بين موسِّع الآبار وآلة تدوير ذراع الضخ؟

كان باني قد انتهج هذا السلوك السوقي، الذي اعتقد أنه «فَطِن»؛ ولذلك كانت أختهُ تسخر منه. بالطبع من الصعب على فتاةٍ شابة تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا أن تتنازل وتعترف بوجود صبيٍّ يبلغ من العمر ستة عشر عامًا، ولكن أصدقاء بيرتي الأثرياء كان لهم إخوة وأخوات أصغر سنًّا، وأرادت من باني أن يكشط الزيت من تحت أظافر أصابعه، ويدخل هذا العالم العصري، ويتعرف على فتاةٍ أجدر من روزي تينتور. وبالفعل وافق باني، الذي كان دائمًا ينتابُه الفضول حيال الأشياء الجديدة، وجرَّب هذا لفترة من الوقت، لكنه بالنهاية اعترف بأن هؤلاء الشباب الأغنياء الذين يفوقون الوصف لم يُثيروا اهتمامه كثيرًا؛ فهو لم يستطع ملاحظة تمتُّعهم بأي معرفةٍ مميزة أو قدراتٍ استثنائية. كان حديثهم يدور كله حول بعضهم، وكانوا يستخدمون الكثير من التلميحات المبهمة وفيضًا من العبارات العامية الدارجة التي كادت تُشكِّل لغةً جديدة. لم يُعجَب باني بأيٍّ منهم بما يكفي ليهتم بفك شفرة لغتهم، وفضَّل ارتداء ملابسه المبقَّعة بالنفط والتوجُّه إلى الآبار قيد الحفر، وفي حالة عدم توافر وظيفةٍ له ﮐ «عامل حفر»، كان يساعد عُمال الرافعة وعُمال إعداد المعدات على التخلص من كتل الرمل والصخور المسحوقة التي كانت تخرج مع الوحل، وتتسبَّب في انسداد الطريق المؤدي إلى حفرة التجميع.

في هذه الأثناء كان باني يفكِّر، وسرعان ما توصل إلى خطة. قال: «أبي، ماذا عن ذلك الكوخ الذي كنا سنبنيه في بارادايس؟»

سأل الأب: «ماذا عنه؟»

«لقد أرسل بول رسالةً يقول فيها إن روث أتت لتقيم معه. لذا في الخريف القادم، عندما نذهب لصيد السُّمَانى، لن نجد مكانًا لنقيم فيه. لذا دعنا نذهَبْ إلى هناك الآن، ونأخذْ إجازة، ونَبْنِ ذلك الكوخ.»

«ولكن يا بني، الجو حارٌّ جدًّا هناك في الصيف!» لكن باني لم يقتنع بهذا الكلام، وأجابه بأن بول يتحمل هذا الطقس، وعلى أي حالٍ كان من الجيد أن يُوجَد الأب في هذا الطقس الحار؛ ليعرق ويفقد الوزن الزائد الذي اكتسبه أخيرًا، وبإمكانه الجلوس تحت عريشة الجهنمية مرتديًا بدلتَه الصيفية، بينما يتولى باني أعمال النجارة مع بول، وليعتبره نوعًا من التغيير، وسيتصل باني بالدكتور بلاكيستون هاتفيًّا ليحصُل على موافقته. عندئذٍ ابتسم الأب، واقترح أن بإمكانه أيضًا تبنِّي هذا الزوج من أبناء واتكينز لينتهي من هذا الأمر.

لذلك اتجها نحو مزرعة راسكوم، وأخذا معهما خيمتَهما، وأصَر بول وروث على ترك المنزل، ونامت روث في الخيمة، واستلقى بول في مخزن القش الفارغ. كان بول قد استأجر حصانًا ومحراثًا، وأصبحَت لديه حديقةُ خضراواتٍ مزدهرة وقطعةُ أرضٍ كبيرة مزروعة بالفاصوليا، وكان قد زرع الفراولة التي كان يعتني بها باستخدام محراثٍ يدوي صغير، وجلب أيضًا ست عنزاتٍ وفَّرَت له الكثير من الحليب، وبعض الدجاجات التي كانت تعتني بها روث.

وكان الأمر الأكثر إثارةً للذهول على الإطلاق هو أن بول أحضر الكتب من مكتبة القاضي مينتر. وظل معظمها في الصناديق، لعدم توفُّر مكان لها، لكن بول صنع بعض الأرفف من أحد صناديق التعبئة، ووضع عليها كتبًا لهكسلي وهَيكِل ورينان، وغيرهم من الكتَّاب المؤثِّرين بشدة في روح أي شخصٍ يقرأ لهم. أما والده، فقد وصل إلى مرحلة الاستسلام، على حد قول روث، التي نضجَت فجأة، وأصبحَت أكبر من أن تتعرض ﻟ «التعنيف»؛ وإلى جانب ذلك، كان يعاني بشدة من مرض الروماتيزم، ولم يستطع إيلاي شفاءه. قال الأب إنهم عندما يطلبون الخشب لبناء الكابينة، سيحصُلون على بعض الأغراض التي تصلُح لبناء أرفف الكتب، ويمكن لبول أن يبنيها خلال الشتاء. خاض الأب وبول جدالًا آخر، وقال الأب إن هذا منزل بول، ومن المؤكَّد أن من حقه أن يضع بعض أرفف الكتب فيه إذا أراد ذلك، وبإمكان بول أن يُقرِضه بعض الكتب عندما يأتي إلى هنا، ويساعده في الحصول على القليل من التعليم، حتى في هذه السن.

ساعَد الوجود مع هذه الأسرة السعيدة وفي هذا المكان الرائع على توقُّف الأب عن التفكير في آباره، ومشاكله مع أحد أفضل رؤساء العمال لديه، الذي ذهب وتزوَّج من فتاةٍ طائشةٍ حمقاء، ولم يعُد يكترث بعمله. حصَلوا على الخشب من التاجر في روزفيل، وتولى بول دور «كبير النجَّارين»، وكان باني «النجَّار المساعد»، وحاول الأب أن يشغَل نفسه بفعل أشياءَ أخرى حتى بدأ يتصبَّب عرقًا، حينئذٍ ذهب ليجلس تحت أزهار الجهنمية، وفتحَت له روث زجاجةً من عصير العنب التي كان قد جلَبها مع غيرها من الأشياء الفاخرة.

وبعد ذلك في المساء، قادا سيارتهما إلى بارادايس ليستلما البريد، وكانت هناك صحيفةٌ محليةٌ بسيطة يقرؤها السيد واتكينز المسن، وبدأ باني يتصفَّحها، وأصابه الذهول مما رأى، ودعا والده ليلقي نظرة هو الآخر — كان هناك خبر في الصفحة الأولى، حول الاجتماع الرائع الذي عقده إيلاي في سانتا لوتشيا، وحالة الهياج التي دخل فيها المصلون، وإعلان إيلاي أنه كُلِّف ببناء «مَقْدِس الوحي الثالث»، الذي كان من المفترض أن يُبنَى بالكامل من الرخام الأبيض الثلجي، ويُزيَّن بزخارفَ ذهبية، وكان من المقرَّر أن يشغل مربعًا سكنيًّا كاملًا في مدينة إنجِل سيتي، وأن يكون بالأبعاد نفسها التي تكشَّفَت لإيلاي في حُلم. بعدما قرأ الأب الأبعاد، قال إنها أكبر من أي مربعٍ سكني يمكن لإيلاي أن يعثُر عليه في مدينة إنجِل سيتي، لكن لا شك في أنهم سيجدون طريقةً للتغلب على هذه المشكلة، ويعتبرون هذه الطريقة «وحيًا» جديدًا. كانت صحيفة روزفيل التي تحمل اسم «إيجل» تتفاخر بإيلاي، الذي كان، على حد قولها، «يضع وادي سان إليدو على الخريطة». وكان من المقرَّر إعادة بناء الكنيسة الرسولية ببارادايس من «الهِبات التطوعية» التي كان يتبرَّع بها رعايا الكنيسة في اجتماعات إيلاي، مع الاحتفاظ بالمبنى القديم، حتى يتمكَّن الحُجَّاج من القدوم لزيارة منبع «كلمة الحق».

بعدها قابلا السيد هارداكر في الشارع. وأخبرهما أن باندي الابن قد غيَّر رأيه بشأن اعتقاده بأن الأب سيُنقِّب عن النفط في أرضه، وأنه أراد أن يأخذ والدَيه إلى المدينة ويصبح رجل أعمال؛ ولذلك ستقبل العائلة بعرض الأب إذا كان لا يزال قائمًا. فوافق الأب، وطلب منه إخبارَه بأنه يمكنه أن يأتيَ في أي وقت، وأن العقد سيُودَع لدى وكيل ضمان. في اليوم التالي توجَّه السيد هارداكر بسيارته إلى مزرعة راسكوم، وقال إنه اصطحب وكيل الضمان إلى منزل آل باندي، وقد وقَّع السيد باندي المسن وزوجته على عقد تسليم الملكية؛ لذا ركب الأب وباني سيارتهما، وتوجَّها إلى البنك، وأودع الأب أربعة آلاف دولار، ووقع عقدًا لدفع ثمانية آلافٍ أخرى عند اكتمال عملية التقصي عن ملكية الأرض. بعد ذلك، عندما خرجا من البنك، ابتسم ابتسامة عريضة وقال: «حسنًا يا بني، الآن يمكنك حفر أرضك!»

بالطبع، كان باني متحمسًا لبدء العمل على الفور، وأراد أن يتصل الأب هاتفيًّا برئيس العمال، وأن يعيِّن مقاول طرق! لكن الأب قال إن عليهما الانتهاء من بناء الكوخ أولًا، وفي هذه الأثناء سيُفكِّر في الأمر. لذلك عاد باني إلى عمله، وأخذ يثبِّت على السقف الألواح الخشبية بالمسامير، وكان يشعر بسعادةٍ غامرة، لكن كانت هناك فكرةٌ واحدة تؤرقه كأنها دودة تنخر في روحه. كيف يمكنه إخبار بول وروث بقرار التنقيب، وهل سيعتبر بول وروث أن الأب قد حصل على مزرعة آل واتكينز بناءً على ادعاءاتٍ كاذبة؟

كان القدر لطيفًا مع باني. وحدث شيءٌ ما، ما كنتَ لتستطيع تخمينه على الإطلاق! بعد مرور ثلاثة أيام فقط على صفقة أرض آل باندي، كان الأب لا يزال يفكر مليًّا في الأمور، وفي أثناء ذلك جاءت ميلي واتكينز سيرًا من منزلها وهي ترتدي قلنسوةً زرقاءَ كبيرة؛ لحمايتها من شمس منتصف النهار، وفي جعبتها خبرٌ مذهل. فقد مر عليهم السيد رينكوم المسن الذي كان يقود سيارته في طريق عودته من المدينة، وأخبر والدها أن شركة نفطٍ كبيرة، اسمها شركة إكسلسيور بتروليوم، قد استأجرَت مزرعة آل كارتر، على الجانب الآخر من الوادي، على بعد ميلٍ واحد غرب بارادايس، وستبدأ التنقيب عن النفط! أبلغَت ميلي هذا الخبر للأب الذي كان جالسًا تحت الجهنمية، ونادى الأب بحماس على باني وبول، اللذَين كانا يثبِّتان أرضية الكابينة. أسرع إليه الاثنان، وجاءت روث ركضًا من فِناء الدجاج، وعندما سمعوا الأخبار، صاح باني: «إكسلسيور بيت! يا إلهي يا أبي، إنها واحدة من أكبر خمس شركات في مجال النفط!»

تبادلوا جميعًا التحديق، وفجأة ضم الأب قبضة يده وصاح: «يا إلهي، إن هذه الشركات لا تَحفِر الأراضي إلا إذا كانت متأكدة من وجود نفط فيها. باني، أعتقد أنني سأجرِّب أن أحفِر بئرًا هنا، وأرى ما سنحصل عليه!»

صاحت روث: «أوه، سيد روس! يجب أن تفعل ذلك؛ كان عمي إيبي يقول دائمًا إنه يوجد نفط هنا!»

قال الأب: «حقًّا؟ حسنًا، سأجازف إذن، لمجرد التسلية.» ونظر إلى باني، وابتسم له ابتسامةً خاطفة. عندما فكَّر باني في أمر هذه الابتسامة وجد أنها تعكس الكثير؛ فقد خمَّن الأب أن باني كان قلقًا، وأدرك بالضبط معضلته مع آل واتكينز، وكان الأب يتمتع بالذكاء الكافي ليحفظ ماء وجه باني، ويجعله يتجنَّب الاضطرار إلى الاعتراف. فقد كان الأب المسن العزيز الطيب حريصًا على فعل كل شيءٍ من أجل ولده، حتى الكذب من أجله! كيف يمكن لأي فتًى ألَّا يقتنع بهذا الحل السعيد لمشاكله الأخلاقية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤