الفصل السادس

التنقيب الاستكشافي عن النفط

١

بعد تفكيرٍ عميق، ودراسةٍ متأنية لحسابه المصرفي، اتخذ الأب قرارًا بحفر بئر روس الابن-بارادايس رقم ١، على وجه السرعة، ومنافسة «إكسلسيور بيت»؛ فلم تكن ثمَّة فائدةٌ من ترك الشركات الخمس الكبرى تظن أنها تتحكم في قطاع النفط بأكمله. سيمكث الأب هناك لمتابعة بدء عملية الحفر؛ لذلك اتصل هاتفيًّا بالجيولوجي الذي اعتاد العمل معه، وبحث عن مقاول ليساعدهم على حفر بئر للماء.

في اليوم التالي، أتى السيد بانينج، الجيولوجي، وقضى على آمال باني من البداية. وقال إن الأب كان محقًّا في تصوره أنه لا يمكن الاعتماد كثيرًا على خط النفط الذي ظهر على سطح الأرض. فقد تعثُر على رمالٍ نفطية على عمق مائة أو مائتَي قدم، لكن من غير المحتمل أن يُسفِر هذا عن نتائجَ كبيرة، إذا كان هذا هو هدفك الوحيد، يمكنك إحضار واحدة من تلك الحفَّارات الصغيرة المزوَّدة بعجلات مثل تلك المستخدمة في ولاية بنسلفانيا! وأضاف السيد بانينج أن الرمال النفطية الحقيقية هنا تقع على أعماقٍ بعيدة، ولا يمكنك أبدًا أن تتوقع ما ستعثر عليه إلا عند الوصول إلى هذه الأعماق. لكنه عبَّر عن إعجابه بالمنطقة، ورأى أنها تستحق المحاولة؛ ولذا أمضى بضعة أيام في التجوُّل عبر التلال مع الأب وباني، ودراسة درجة ميل طبقات الأرض، وأخيرًا اختار هو والأب جانبَ أحدِ التلال بمزرعة آل واتكينز، على مقربة من المكان الذي كان باني قد جلس فيه وتحدث مع روث، بينما كانت ترعى المَعْز.

جاء الرجل المسئول عن حفر بئر الماء، وعرض حَفْر بئر قطرها ٤ بوصات مقابل ٢٫١٢ دولار للقدم؛ وقَّع الأب عقدًا معه، وحدَّد عدد الأقدام التي يجب أن يَحفِرها يوميًّا، مع الحصول على مكافأة إذا تجاوَز ذلك العدد، ودفع غرامة إذا لم يحقِّقه. بعد ذلك، اتجه الأب وباني لزيارة السيد جيريمايا كاري، وهو صاحب مزرعة بالقرب من روزفيل، ورئيس مجلس المشرفين في المقاطعة، والمسئول عن كل ما يتعلق ببناء الطرق.

كان يمُر عَبْر ممتلكات الأب الخاصة جزءٌ كبير من الطريق، وتصوَّر باني بسذاجة أن الأب سيستدعي مقاولًا، ويتحمل التكلفة، كما فعل مع بئر الماء. لكن الأب رفض ذلك؛ فهذه لم تكن أفضل طريقة للتعامل مع الطرق؛ فهذا طريقٌ عام، يمتد من بارادايس إلى روزفيل، على طول المنحدر، ومن المفترض أن تتكفل الدولة بتمهيده ورصفه. لا شك في أن الأب سيستخدم هذا الطريق أكثر من أي شخصٍ آخر، لكنه أيضًا سيدفع حصته من الضرائب، وسيدفع جميع مُلاك الأراضي على طول المنحدر حصتهم، وسيزيد الطريق الجديد من قيمة ممتلكاتهم.

أوضح الأب كل هذه الأمور، أولًا لباني، ثم للسيد كاري، وهو رجلٌ مسنٌّ ودود كان يزرع المشمش والخوخ على منحدرات التلال التي تُطِل على وادي سان إليدو. كان واضحًا أن السيد كاري كان مسرورًا بمقابلة واحدٍ من منقبي النفط المشهورين، واستضافهما في منزله، وأجلسهما على كرسيَّين من كراسي الشرفة الكبيرة، وطلب من السيدة كاري إحضار بعض عصير الليمون لباني. أخرج الأب سيجاره الملفوف برقائقَ ذهبية، وأخبر رئيس مجلس المشرفين بالمقاطعة أن مشاريع التنقيب عن النفط سيكون لها تأثيرٌ رائع على المنطقة بأكملها، وتحدَّث عن عقد إيجار بانكسايد في حقل بروسبكت هيل، والمبلغ، الذي يزيد عن المليون دولار، الذي دفعه لعائلة بانكسايد، والقصر المُطِل على شاطئ البحر الذي يشغله السيد بانكسايد الآن، كان يمكنك ملاحظة الدهشة في عينَي السيد كاري وزوجته، عندما شاركهما الأب تصوُّره بانتشار أبراج الحفر في جميع أنحاء هذا المنحدر. وبالتأكيد، كل هذا يعتمد على مسألةٍ واحدة، وهي الطرق. من الجلي أنه لا يمكنك إحضار مواد بناء برج الحفر وأدوات الحفر والآلات الثقيلة، عَبْر هذا الطريق الضيق الوعر الموجود الآن، والذي تسبَّب في كسر زنبرك في سيارة الأب الجديدة، ولا يمكن للمقاطعة أن تتوقع من الأب أن يتحمل تكاليف تحسين طريقٍ عام، بالإضافة إلى دَفْع ضرائبَ جديدة لخزينة المقاطعة تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات. أبدى السيد كاري موافقته على كل ما قاله الأب.

استطرد الأب موضحًا أنها مسألة وقت؛ فإذا كانت سلطاتُ المقاطعة ستماطل، وتجعله ينتظر، فحينئذٍ سيباشر أعمال الحفر في أراضيه الكثيرة الأخرى التي يمتلكها، ويُبقي على بارادايس مكانًا مخصصًا لصيد السُّمَانى فقط. بدا السيد كاري قلقًا، وقال إنه سيبذل قُصارى جهده، لكن بالطبع كان السيد روس يعلم أن الشئون العامة تتطلب وقتًا؛ فلا بد من إصدار سندات لتمهيد طريقٍ جديد، ولا بد من إجراء اقتراعٍ خاص للتصويت عليها. قال الأب إن هذا ما جاء لأجل معرفته، وإذا كان الأمر كذلك، فهو لم يعُد مهتمًّا بالأمر. وسأله عما إذا كانت هناك طريقةٌ ما يمكن من خلالها تعجيل هذه الإجراءات، على أساس كونها إصلاحات لطريقٍ قديم، بدلًا من رصف جديد. قال السيد كاري بالطبع؛ فقد كان لديهم أموالٌ مخصَّصة لأعمال الإصلاح، لكنه لا يعرف مقدارها بالضبط، وكان عليه استشارة زملائه في المجلس.

نهض السيد كاري ورافق الأب وباني إلى السيارة، وبينما هم واقفون هناك يتحدثون، أخرج الأب ظرفًا من جيبه وقال: «سيد كاري، أنا أطلب الكثير من وقتك، وليس من العدل أن تعمل دون مقابل. آمل ألَّا تشعر بالإهانة إذا طلبتُ منك السماح لي بدفع تكلفة بنزين وإطارات السيارة التي ستستخدمها أثناء العناية بهذا الأمر.» تردَّد السيد كاري، وقال إنه لا يعرف إن كان يصحُّ أن يقبل هذا المبلغ، لكن الأب أكد له أنه أمرٌ مقبول؛ فهو يدفعه مقابل وقت السيد كاري فقط، ولن يؤثِّر في قراره بشأن ما ينبغي فعله، وبلا شك ستكون بينهما معاملاتٌ أخرى، وربما في يوم من الأيام ينقِّب الأب عن النفط في مزرعة السيد كاري. وضع الأخير الظرف في جيبه، وأخبر الأب أنه سيتواصل معه قريبًا.

كان باني يدرس الآن في المدرسة مادةً تُسمَّى «التربية الوطنية»، وتعلَّم كل شيء عن كيفية سير الأمور في حكومة بلاده. وجرى العديد من المناقشات في الفصل، وذكَروا، من بين أمورٍ أخرى، «فساد المسئولين الحكوميين». وسأل باني المعلمة — بالطبع دون الإشارة إلى أن لديه أي معرفةٍ شخصية بمثل هذا الأمر — عن إمكانية دفع رجل أعمالٍ مبالغَ إضافية لمسئولٍ حكومي مقابل وقته وجهده المبذول في الاضطلاع بالأمور العامة، وقد صُدمَت المعلمة من مثل هذا الاقتراح، وأوضحَت أن هذه تُعتبَر رشوةً بلا شك. فأخبر باني الأب بذلك، وأوضح له الأخير وجهة نظره. فهناك اختلاف بين استعراض المسألة من منظورٍ نظري واستعراضها من منظورٍ عملي. فالمعلمة لم تُضطَر قط إلى حفر بئر نفط، وعملها لم يعتمد على نقل المواد الثقيلة عَبْر طريقٍ وعرٍ ضيق، كل ما كانت تفعله هو الجلوس في غرفة واستخدام كلماتٍ رنانة، مثل «المثل العليا» و«الديمقراطية» و«الخدمة العامة». وهذه هي مشكلة التعليم؛ فالمعلمون أناس يفتقرون إلى الخبرات العملية؛ ومن ثَم لم تكن لديهم معرفةٌ حقيقية بشئون الحياة الواقعية.

انتهى هذا الحديث بسؤالٍ واحد، هل يريدون حفر أرض آل واتكينز أم لا. بالطبع بإمكانهما الانتظار عشر سنوات، حتى يأتي شخصٌ آخر ليطوِّر المقاطعة، في إطار تطوير الدولة، ويفعل ما كان الأب يفعله الآن، أي «ممارسة الضغوط على» السلطات العامة، و«تقدير مجهوداتها» لتيسير الأمور. في كثيرٍ من الحالات كانت السلطات جشعة وتتعمد تعطيلك وتجبرك على دفع الرشاوى، وفي حالاتٍ أخرى كان السبب هو مجرد الجهل وعدم المبالاة، ولكن على أي حال، إذا كنتَ ترغب في إنجاز أمرٍ ما، فعليك دفع ثمنه. شرح الأب الفرق بين الأعمال العامة والخاصة؛ فأنت رئيس عملك الخاص، وأنت المسئول عن دفع الأمور قُدمًا والتغلب على العقبات، لكن عندما تحتكُّ بالسلطات العامة، ستُصاب بالإحباط بسبب ما ستجده من ابتزاز وإهدار للموارد وانعدام الكفاءة. ومع ذلك، كان هناك دائمًا حمقى يشجعون الملكية العامة؛ أناسٌ يطلقون على أنفسهم اسم «الاشتراكيين»، ويريدون أن تتولى الحكومة إدارة كل شيء، وعندما يتحقق هذا الأمر، ستُضطَر إلى ملء عشرات الاستمارات، وانتظار قرار مجلس من المسئولين قبل أن تتمكن من شراء رغيف خبز.

قال الأب إن باني سيحصل على درسٍ عملي في مادة التربية الوطنية، ويمكنه مشاركة هذا الدرس مع معلمته لاحقًا؛ فهما لن يحصلا على طريقٍ ممهد بدفع إكرامية لأحد مزارعي المشمش. وبالتأكيد هذا ما حدث! فبعد يومَين اتصل الأب بالسيد كاري هاتفيًّا، وعلم أنه أجرى مقابلاتٍ مع أعضاء المجلس الآخرين، لكنه أعرب عن قلقه إزاء وجود بعض المعارضة؛ فهناك انتخاباتٌ قادمة للمجلس في هذا الخريف، وكان هناك الكثير من التذمر بشأن إهدار الأموال المخصَّصة للطرق، ولم يرغب أحد في مواجهة المزيد من المشاكل. وكان مقررًا عقد اجتماع للمجلس الأسبوع المقبل، وفي غضون ذلك، إذا كان للأب أيُّ نفوذ، فسيكون هذا أنسب وقتٍ لاستخدامه. كرر الأب هذا الكلام على سمع باني، وأوضح أنه كان من المفترض أن يزور أعضاء المجلس الآخرين ويوزِّع عليهم المزيد من المظاريف. وأضاف الأب قائلًا: «لكنني سأتبع نهجًا شاملًا وسريعًا في فعل ذلك، قبل أن يعي العاملون بشركة «إكسلسيور بيت» ما يحدث. هذه فرصتُنا الوحيدة، لديَّ فكرة.»

دخل الأب إلى مكتب السيد هارداكر، الوكيل العقاري، وأخبر هذا السيد المحترم المعروف، وهو ينفث دخان سيجاره الملفوف برقائق الذهب، بمشكلة الأشخاص الذين على السيد هارداكر زيارتهم، إذا كان يودُّ بناء طريق في مقاطعة سان إليدو. ضحك السيد هارداكر وقال إنه سيذهب أولًا لمقابلة جيك كوفي، وبعد ذلك سيعود إلى المنزل ويستريح. وتبيَّن من أسئلةٍ أخرى أن جيك كوفي تاجرُ تبنٍ وأعلاف في بلدة سان إليدو، عاصمة المقاطعة، وأيضًا رئيس الحزب الجمهوري في المقاطعة. شكره الأب على هذه المعلومات، وبعد قليلٍ كان هو وباني في السيارة، يتجهان نحو سان إليدو بسرعة الأب المعتادة. وقال: «الآن يا بني، ستكمل درسك في التربية الوطنية!»

٢

جلس جايكوب كوفي، تاجر التبن والأعلاف والحبوب، والجير والأسمنت والجص، في مكتبه الخاص خلف متجره، واضعًا قدمَيه على طاولة تتوسط الغرفة، لم تُنظَّف بعدُ من بطاقات ورقائق مباراة بوكر. كانت تبدو عليه الصرامة وله فمٌ مشدود وملامحُ أخرى تتوافق مع شكله القاسي، وكانت بشرته سمراء خشنة، وجميع أسنانه الظاهرة ذهبية. أنزل قدمَيه من على الطاولة ونهض، وعندما سمع اسم الأب قال: «كنت أتوقع مكالمةً هاتفيةً منك.» قال الأب: «لقد سمعتُ عنك للتو. وجئتُ بسرعة خمسين ميلًا في الساعة.» وبهذا أصبحا صديقَين، وقَبِل السيد كوفي سيجارًا ملفوفًا برقائق الذهب بدلًا من عقب السيجارة الذي كان يمسك به، وجلسا معًا لمناقشة الأعمال.

قال الأب: «سيد كوفي، أنا تاجرُ نفطٍ مستقل، أو ما تُسمِّيه شركات النفط الخمس الكبرى واحدًا من «التجَّار الصغار»، وبالرغم من ذلك يمكنني إحداث فارقٍ كبير هنا في مقاطعة سان إليدو. لقد اشتريتُ اثنَي عشر ألف هكتار وأريد التنقيب عن النفط. وإذا عثَرتُ على أي نفطٍ هنا، فسأحفِر بضع مئاتٍ من الآبار في الأراضي، وأوظِّف ألف رجل، وأدفع أجورًا تصل إلى بضعة ملايين من الدولارات، الأمر الذي سيترتَّب عليه تضاعُف قيمة العقارات الواقعة على مسافة خمسة أو عشرة أميال. لكن حاليًّا، شركة «إكسلسيور بيت» موجودة هنا؛ وبالطبع ستحاول جاهدة إبعادي وإبعاد أي شخصٍ آخر. الشيء الذي أريد أن أوضِّحه لكم، أيها السياسيون، هو أن هذه الشركات الكبيرة لن تدفع أي أموال إلا إذا كانت مضطرة لذلك، وعلى أيِّ حال يذهب معظمها إلى أجهزة الدولة. ولذا فهذه الشركات بحاجة إلى القليل من المنافسة، مثل أي شيءٍ آخر، لجعل التعامل معها أيسر. فنحن التجار المستقلين ندفع أكثر، ونجعل الشركات الكبيرة تدفع المزيد أيضًا. وأظن أنني أتحدث إلى رجل على دراية بقوانين هذه اللعبة.»

قال السيد كوفي ببرود: «يمكنك أن تظُن ذلك. ماذا تريد بالضبط؟»

«في الوقت الحالي، أريد شيئًا واحدًا فقط؛ أريد طريقًا يؤدي إلى بارادايس. فمن دون طريق، لا حفر، وهذا ليس تهديدًا فارغًا، بل حقيقة يمكنك فهمُها؛ لأنك تنقل موادَّ ثقيلةً بنفسك، وربما تكون قد حاولتَ إجراء عمليات تسليم عَبْر هذا الطريق الضيق الوعر.»

قال السيد كوفي: «هذا صحيح.»

«حسنًا، إذن، لا داعي لقول المزيد. أريد طريقًا، وأريد تجهيزه دون أي إجراءاتٍ روتينية؛ أريد أن تبدأ المقاطعة في العمل في غضون الأيام العشرة القادمة، وإتمام المهمة سريعًا، حتى أتمكَّن من توصيل معداتي إلى هنا وحَفْر البئر؛ حيث يتوفَّر لديَّ الآن برجُ حفرٍ إضافي. ربما لم يحدث هذا من قبلُ، ولكن هذا ما أريده، وقد جئتُ لأسأل عن ثمن تنفيذ هذا الطلب. هل كلامي واضح؟» قال السيد كوفي: «وضوح الشمس»، وعلت وجهه القاسي ابتسامةٌ خفيفة. كان من الواضح أنه أعجِب بأساليب الأب في العمل.

تحدَّث السيد كوفي عن موقفه في هذه المسألة، وفهم باني أنه كان يساوم الأب، ويرسم صورةً خيالية للصعوبات الهائلة التي ينطوي عليها الأمر. وقال إن إدارة المقاطعة كانت تواجه العديد من المشاكل في الآونة الأخيرة؛ فقد سرق أحد الحمقى الملاعين بعض المال، وأضاف أنه من السخيف أن تأخذ أموال المقاطعة عندما يمكنك جني الكثير من المال بطرقٍ مشروعة. كما وُجِّهَت انتقاداتٌ لعقود تحسين الطرق من خلال رجلٍ مهووس في هذه البلدة، ينشُر صحيفةً أسبوعية تُدعى «ووتش-دوج» (التي تعني بالإنجليزية كلب الحراسة)، ويملؤها باتهاماتٍ واهية. بيت القصيد أن استخدام أموال المقاطعة المخصَّصة للإصلاحات الطارئة لبناء طريق لأحد منقبي النفط؛ سيثير حتمًا الكثير من الجلبة، الأمر الذي سيترتَّب عليه خسارة الأصوات التي تحتاجها إدارة المقاطعة. وكما قال السيد روس، فإن عاملي «إكسلسيور بيت»، الذين لديهم بالفعل طريقٌ يؤدي إلى أرضهم، لن يدعموا الطريق الذي يريده الأب، وقد يُمِدُّون صحيفة هذا المهووس الأسبوعية بمعلوماتٍ مغلوطة، وقد يقدِّمون شكوى للجنة الولاية، ويجعلون حياة السيد كوفي جحيمًا.

استمع الأب بتهذيب تقتضيه عملية المساومة. وقال إنه يدرك تمامًا كل هذه المشاكل، وينوي معالجتها. في المقام الأول، ستكون هناك مهمة ضمان انتخاب مشرفي المقاطعة. استطرد الأب كلامه وسأل السيد كوفي عما إذا كان من المناسب المساهمة بمبلغ خمسة آلاف دولار في صندوق الحزب للجنة الحملة. نفث السيد كوفي في الهواء سحابةً كبيرة من دخان التبغ الأزرق الضارب إلى الرمادي، وجلس محدقًا بثبات في الرقم خمسة والثلاثة الأصفار التي شكَّلَتها سحابة الدخان.

أضاف الأب: «وبالطبع أنت تدرك أن هذه مسألة متعلقة بالحزب، ومنفصلة عن أي عرضٍ أقدمه لك شخصيًّا.»

قال السيد كوفي بهدوء: «لم لا تخبرني بفكرتك كاملة؟»

حينئذٍ ألقى الأب «خطبته العصماء» عن إيمانه بالتعاون والعمل الجماعي؛ فدائمًا ما يعمل ضمن فريقٍ صغير، ويساعد أصدقاءه ويمنحهم نصيبًا من أرباحه. وتحدَّث عن بئر روس-بانكسايد رقم ١ الخاصة به، وكيف أنه شكَّل نقابة من أجل هذه البئر، وللتأكُّد من الحصول على مواد بناء برج الحفر دون تأخير، سمح لرئيس واحدةٍ من شركات الأخشاب الكبيرة بالحصول على حصة مقدارها اثنان بالمائة، في شكل خدمةٍ وديةٍ بسيطة، وقد وصل صافي أرباح البئر حتى الآن إلى ما يقرب من ستمائة ألف دولار، وجنى رئيس هذه الشركة أكثر من اثنَي عشر ألفًا مقابل جهوده لتوفير الأخشاب التي يحتاجها الأب وقتما يريد.

والآن كان الموقف ذاته يتكرر؛ فإذا تمكَّن الأب من إنشاء طريق، فسيخاطر بالاستثمار في أراضي بارادايس، وبإمكان السيد كوفي مشاركتُه في هذه المخاطرة. وعرض عليه الأب أن «يمنحه» اثنَين بالمائة من البئر؛ حيث ستتجاوز التكلفة الكلية المائة ألف دولار، أي إن السيد كوفي سيستثمر بمبلغ ألفَي دولار، وإذا أنتجَت البئر نفطًا، فقد يحصل على خمسة أو عشرة، أو حتى ثلاثين أو أربعين ألف دولار؛ فقد حدث هذا الأمر عدة مرات، ومن الممكن حساب الأرباح بالضبط. بالطبع، كان الأب يتوقع أن يترتَّب على هذا الأمر أن يصبح هو والسيد كوفي صديقَين، ويعملا معًا، ويساعد أحدهما الآخر بأي خدماتٍ صغيرة قد تكون مطلوبة.

نفث السيد كوفي عدة سُحبٍ أخرى من الدخان، ونظر إليهما متأملًا، وقال إنه معجَب بالأب، لكنه كان يرى أن من الأفضل أن يساهم الأب بألفَي دولار لصندوق الحملة، وبخمسة آلاف دولار للسيد كوفي شخصيًّا. حينئذٍ سأله الأب، وهو ينظر في عينَيه: «هل يمكنك تقديم المساعدة المرجوة؟» أكَّد له السيد كوفي أن بإمكانه تقديم المساعدة على أكمل وجه، ونصح الأب بأن يطمئن وألَّا ينشغل بأي مخاوف. وهكذا عُقِدت الصفقة، وأخرج الأب دفتر شيكاته وكتب ألفَي دولار تُصرف لأمين صندوق لجنة حملة المقاطعة التابعة للحزب الجمهوري. ثم سأل السيد كوفي عما إذا كان يشغل أي منصبٍ حكومي، فأجاب الأخير بالنفي، وأخبره أنه مجرد رجلِ أعمالٍ عادي، حينئذٍ أخبره الأب أن العقد يمكن أن يحمل اسم السيد كوفي، وكتب مذكرةً مفادُها أنه حصل على مبلغ دولارٍ واحد واعتباراتٍ أخرى جيِّدة وقيِّمة، مقابل أن يتملك السيد كوفي خمسة بالمائة من صافي أرباح بئر ستُحفَر في مزرعة آيبل واتكينز بالقرب من بارادايس، وسيُطلق عليها اسم بئر روس الابن-بارادايس رقم ١. ولكن كان من المفهوم والمتفق عليه أن البئر المذكورة آنفًا لن تُحفَر حتى يكتمل إنشاء طريقٍ متينٍ جيد، من الشارع الرئيس لبارادايس إلى مدخل مزرعة آيبل واتكينز، وإذا لم يكتمل الطريق المذكور آنفًا في غضون ستين يومًا، فحينئذٍ لن يكون السيد أرنولد روس المذكور آنفًا ملزمًا بحفر البئر المذكورة آنفًا، ولا بإعادة الدولار وغيره من الاعتبارات الجيِّدة والقيِّمة المذكورة آنفًا إلى السيد جايكوب كوفي المذكور آنفًا. وسلَّم الأب المذكرة لجايكوب كوفي المذكور آنفًا، وابتسم، وقال مُعلقًا إنه يأمل ألَّا تقع هذه المذكرة في يد صحيفة «ووتش دوج». ابتسم السيد كوفي، ووضع يدَه على كتف باني، وقال إنه يأمل ألَّا يرتكب هذا الشاب أي خطأ ويتحدث عن المذكِّرة، قال الأب إن باني كان يتعلم كل ما يتعلق بتجارة النفط، وكان الدرس الأول الذي تعلَّمه ألَّا يتحدث أبدًا عن شئون والده.

تصافحوا جميعًا، وركب الاثنان سيارتهما، وصاح باني: «لكن يا أبي، كنتُ أظن أنك تنتمي إلى الحزب الديمقراطي!» ضحك الأب وأوضح أنه لم يكن يتدخل في تحديد التعريفة الجمركية على الهايبركلوريد، ولا استقلال جزر الفلبين؛ فكل ما كان يريده هو إنشاء طريقٍ يصل إلى مزرعة آل واتكينز. قال باني: «هناك شيءٌ واحد لا أفهمه، كيف يمكن للسيد كوفي أن يفعل كل ذلك، إذا لم يكن يشغل أي منصبٍ رسمي؟» أجاب الأب أنه عادةً ما يتجنَّب الرجال الكبار شغل المناصب الرسمية لهذا السبب بالذات؛ ليتفرَّغوا لأعمالهم. فمن الممكن أن يُسجَن السيد كاري إذا ثبت أنه تلقَّى نقودًا من الأب، لكن لا يمكن فعل أي شيءٍ لكوفي؛ فقد كان «الزعيم». واستطرد الأب حديثه قائلًا إن صاحب المنصب الرسمي إما مسكين يحتاج إلى راتبٍ ضئيل، وإما مغرور يُحب إلقاء الخطب، وتصفيق الحشود، ورؤية صورته في الصحف. لن ترى أبدًا صور جيك كوفي في الصحف؛ فقد كان يقوم بعمله من مكتبه الخلفي، بعيدًا عن الأضواء.

تذكَّر باني، بالطبع، ما كان قد تعلمه في مادة «التربية الوطنية»، وسأل عما إذا كانت هذه هي الطريقة التي تُدار بها أعمال الحكومة دائمًا. قال الأب إن هذا الموقف يكاد يتكرر في كل مكان، بدءًا من المقاطعة، مرورًا بالولاية، ووصولًا إلى الحكومة الوطنية. لم يكن الأمر بالسوء الذي يبدو عليه؛ فقد كان مجرد نتيجةٍ طبيعية لعدم كفاءة عددٍ كبير من الناس. لا بأس من إلقاء خطبٍ عصماء حول «الديمقراطية»، لكن ما هو واقع الحال؟ ومن هم الناخبون هنا في مقاطعة سان إليدو؟ هل هم المغفَّلون الذين رآهم باني «يقفزون» و«يتدحرجون على الأرض» و«يتكلمون بألسنةٍ مختلفة» في كنيسة إيلاي، وهل يمكن لأي شخص أن يزعم أن هؤلاء الناس بإمكانهم إدارة حكومة؟ كان من المفترض أن يتخذوا قرارًا بشأن إنشاء طريق للأب ليحفر بئرًا! وكان من المؤكد أنهم لن يتمكَّنوا من فعل ذلك؛ ولذا كان جايك كوفي هو من يتخذ القرار نيابة عنهم، حيث كان يتمتع بالسرعة والكفاءة اللتين يجب أن يتمتع بهما رجال الأعمال، ويفتقر إليهما نظامنا الأمريكي.

٣

شرع الرجال المسئولون عن بئر الماء وعمال الهاتف في العمل؛ مما دفع الأب إلى إدراك أن الوقت قد حان لتجهيز أماكنَ لإقامة طاقمهم. كانوا سيسكنون في استراحةٍ مخصَّصة للعمال في أثناء مرحلة التنقيب، ثم، إذا نجحوا في العثور على نفط، فسيبنون كبائنَ لطيفة لعائلات العمال. قال الأب لبول إنه كان من الحماقة إضاعة وقته في زراعة الفاصوليا والفراولة التي ستجعله فقيرًا طوال حياته، ومن الأفضل له أن يصبح نجارًا ويتولى مهمة البناء هذه، وبعد ذلك يمكنه تعلُّم التنقيب عن النفط. طلب الأب من رئيس نجاريه أن يأتي ليحدد المواد اللازمة لبناء استراحة العمال، والإشراف على الأساسات والعتبات، وبمجرد الانتهاء من هذا الأمر، يمكن أن يتولى بول المهمة بمساعدة نجَّارين محليين من اختياره، وسيدفع له الأب خمسة دولارات في اليوم، وهو ما يعادل خمسة أضعاف ما كان سيحصُل عليه من العمل في هذه المزرعة القديمة.

وافق بول، وجلسا ذات مساءٍ ليتفقا على خطة بناء المنزل. أعرب الأب عن إعجابه بالأمر لأن هذا ما كان يريده باني، وكان باني يتحول إلى مصلحٍ اجتماعيٍّ صغير، وكان ينوي إطعام العمال كبد الإوز الفاخر. وبدلًا من النوم في غرفةٍ واحدةٍ طويلة مليئة بالأسرَّة، سيحظى العمال بغرفٍ فرديةٍ صغيرة، لكلٍّ منها نافذةٌ منفصلة، وسريران، أحدهما فوق الآخر، من أجل عمال نوبة النهار وعمال نوبة الليل. وسيكون هناك عدد من أماكن الاستحمام، بالإضافة إلى غرفة الطعام والمطبخ والمخزن، وغرفة جلوس لطيفة مزوَّدة بفونوغراف وبعض المجلات والكتب، كانت تلك الفكرة من بنات أفكار باني؛ فقد كان يريد أن يعمل لديه عمالُ نفط مثقَّفون.

انطلق الأب وباني بالسيارة إلى روزفيل، لشراء بعض الأثاث والأشياء لكابينتهما الخاصة، التي كان قد اكتمل بناؤها الآن. اشترى الأب نسخةً حديثةً من صحيفة «إيجل»، وبمجرد أن فتحها، انفجر في الضحك بصوتٍ عالٍ. لم يسبق أن رآه باني يضحك بهذا الشكل في حياته من قبلُ؛ لذلك نظر على الفور إلى الصحيفة حيث نُشر على الصفحة الأولى خبرٌ عن صاحب مزرعة يُدعى أدونايجا بريسكوت، يعيش بالقرب من المنحدر الواقع بين بارادايس وروزفيل؛ تحدَّث الخبر عن حادثٍ وقع قبل حوالي ثلاثة أشهر، حيث انقلبَت عربة السيد بريسكوت وكُسرَت عظمة الترقوة، وكان يرفع الآن دعوى ضد المقاطعة للحصول على تعويض يبلغ خمسة عشر ألف دولار، والأكثر من ذلك أنه كان يقاضي كل عضو في مجلس المشرفين بالمقاطعة، زاعمًا إهمالهم لواجباتهم العامة بتركهم الطريق في هذه الحالة غير الآمنة! وظهر في الصفحة الافتتاحية مقالة من عمودَين حول الحالة المروِّعة للطريق المذكور آنفًا، وذكَرَت أنه كانت هناك ينابيعُ مياهٍ معدنية بالجوار، اقتُرح تطويرها من قبلُ، لكن المشروع توقف بسبب عدم توفر وسائل النقل، والآن كانت هناك احتمالات لوجود نفط، ولكن هذه أيضًا كانت مهددة بسبب الطرق السيئة، التي أبقت سان إليدو واحدةً من أكثر المقاطعات تخلفًا في الولاية. وذكرَت صحيفة «إيجل» أن السيد جو ليماخر، صاحبَ مزرعةٍ مهتمًّا بالمجتمعات المحلية، كان يوزِّع عريضة لإجراء إصلاحاتٍ فورية للطريق على طول المنحدر، وكان يأمل أن يوقع عليها جميع المواطنين ودافعي الضرائب.

في اليوم التالي جاء السيد ليماخر في سيارة فورد صدئة، وطلب من الأب التوقيع على العريضة! فكر الأب مليًّا، وقال إن هذا سيكلفه الكثير من الضرائب. بعد الانخراط في جدال استمر لبعض الوقت مع السيد ليماخر المهتم بالمجتمعات المحلية، والذي كان يتقاضى ثلاثة دولارات في اليوم من جيك كوفي، وافق الأب في النهاية وقال إنه لا يريد أن يظن جيرانه أنه بخيل؛ لذلك سيوقع مع الآخرين. بعد أربعة أيام، ظهرَت أنباءٌ عن عقد المشرفين لاجتماعٍ خاص والتصويت على إجراء إصلاحاتٍ فورية لطريق المنحدر، وبعد يومَين من ذلك جاء عمال تمهيد الطرق برفقة مجموعاتٍ من الخيول الكبيرة المزوَّدة بمحاريثَ ثقيلة، وصل عددهم، على طول قطعة الأرض هذه التي تمتدُّ لمسافة ميلَين، إلى عشرين عاملًا، وهو أمرٌ مثير للدهشة حيث لم يكن من المتوقع وجود مثل هذا العدد من العمال في المقاطعة. حفروا الأرض، واستخدم الرجال العتلات لإزالة الصخور عن الطريق، وانزلق آخرون بالكاشطات على التربة لتسويتها، وسرعان ما بدأ الطريق يبدو وكأنه طريقٌ سريع. وبعد ذلك، بدءًا من نهاية الطريق الرئيسي ببارادايس، جاءت كمياتٌ لا حصر لها من الصخور المسحوقة محمَّلة على شاحناتٍ كبيرة تميل للخلف لتُفرغ حمولتها. وكانت هناك آلاتٌ لتسوية هذه المواد، ومَحادِلُ طرقٍ بخاريةٌ رائعة لتجعلها مسطَّحة، يا للهول، كان من الرائع رؤيةُ ما يمكن أن تفعله أموال الأب!

وصل الخشب الذي طلبوه لبناء الاستراحة على شحناتٍ صغيرة، وتولَّى بول هذه المهمة مع ستة رجال من الحي. وقد عيَّنَهم بنفسه، وتواصَل معهم هاتفيًّا من بارادايس، وعندما كان يشعر أيٌّ منهم بالإهانة للعمل تحت قيادة رئيسٍ يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا، كان شيك الأب الذي تبلغ قيمته ٢٢ دولارًا يخفِّف عليه هذا الشعور كل سبتٍ في الساعة الثانية عشرة والنصف. حتى السيد واتكينز العجوز، والد بول، انبهَر بهذا التطور المفاجئ ﻟ «ابنه الضال»، ولم يعُد يقول أي شيء عن نار الجحيم. فكما تعلم، كانت كل هذه الجلَبة تحدث في مزرعته؛ حيث كانت مطارق النجَّارين تدق طوال اليوم، وكانت البئر الارتوازية تتدفق بالقرب من منبع الغدير، وكان العمال والخيول يُسوُّون الطريق المؤدي إلى موقع الحفر. بدا لعائلة واتكينز كما لو أن المقاطعة بأكملها قد انتقلَت فجأةً إلى مزرعتهم. ونتج عن هذا الارتفاع الفوري لأسعار كل الأطعمة التي يمكنهم تقديمها. لا يسعُك إلا الإعجاب بكل هذه الجلَبة، على الرغم من معرفتك بأنها من عمل الشيطان!

كان أفضل ما في الأمر هو تأثير كل ذلك على روث، التي كانت في غاية السعادة لنجاح بول. اعتنت روث بالمنزل من أجل الأب وباني، بالإضافة إلى الاهتمام بنفسها وبول، ويبدو أن هذه المسئولية كانت مناسبةً لها بشدة، حيث تحسَّنَت صحتها الجسدية، وتورَّد خداها. وأصبح لديها المال لشراء الأحذية والجوارب والفساتين النظيفة، وأدرك باني فجأةً أنها فتاةٌ جميلة. اتفقَت مع باني في رأيه أن والده رجلٌ عظيم، وأعربَت عن إعجابها بإعداد الفطائر وحلوى البودينج له، بغَض النظر عن حقيقة أنه كان يحاول الحفاظ على وزنه! بعد الانتهاء من أعمال اليوم، كان الأربعة يتناولون العشاء معًا كل مساء، في منزل آل راسكوم الذي تحيط به عريشة الجهنمية، ثم يجلسون بالخارج تحت العريشة في ضوء القمر ويتحدَّثون عما فعلوه خلال اليوم، وما ينوون فعله غدًا، وكانت محادثاتهم تجعل العالم بالتأكيد يبدو مكانًا جميلًا يستحق العيش فيه!

٤

حان وقت عودة باني إلى المدرسة، ولكن كان عليه أولًا أن يقوم بزيارته نصف السنوية لأمه.

وقعَت عينا باني على إشعارٍ في الصحيفة، مفادُه أن السيدة أندرو وذرسبون لانج كانت ترفع دعوى طلاق للهجر. وأخبرَتْه الأم أن سبب رفع هذه الدعوى هو أن زوجها الثاني هجرها بكل دناءة بعد عامَين من زواجهما، ولم يكن لديها أي فكرة عن مكانه. بدت في غاية الوحدة والحزن، وكانت الدموع تملأ عينَيها، ولم يكن لدى باني أي فكرة عن مدى صعوبة الأمر، وكيف كان الجميع يحاولون استغلال النساء اللاتي لا حول لهن ولا قوة. بعد قليل، أدرك باني أن «الأم الصغيرة الجميلة» كانت تستخدم هذه الدموع لتُلمح بلباقة إلى شيءٍ ما؛ كان لا بد أن يكون لها اسمٌ جديد عندما تحصُل على الطلاق، وأرادت استعادة اسم الأب، ولم يكن باني متأكدًا مما إذا كان ذلك يعني أنها تريد العودة للأب أم أنها تريد اسمه فقط. سألَتْه عن أحوال الأب، وعما إذا كان وحيدًا، وهل لديه صديقاتٌ مقربات. أزعج ذلك باني؛ لأنه لم يكن يحب أن يتقصى الناس عن علاقات والده بالنساء؛ فهو نفسه لم يكن يعلم شيئًا، ولم يكن يودُّ التفكير في الأمر. أخبر الأم أن عليها أن ترسل للأب رسالة؛ لأن الأب لم يكن يسمح لباني بالتحدُّث عن هذه الأمور. حينئذٍ سال المزيد من الدموع على خدَّيها الجميلَين، وقالت الأم إن الجميع يبتعدون عنها، حتى ابنتها بيرتي رفضَت القدوم والبقاء معها هذه المرة، وتساءلَت عما يعنيه ذلك. أوضح لها باني السبب، بقَدْر استطاعته؛ فقد كان يرى أن أخته كانت أنانية، وانخرطَت في تحقيق طموحاتها الدنيوية؛ فقد أصبحت سيدةً شابةً الآن، ذات تطلعاتٍ عالية، تُصاحِب الأغنياء الذين يعشقون حياة الرفاهية؛ ولذا لم يعُد لديها وقتٌ لأيٍّ من أفراد عائلتها.

لكن بيرتي كانت قد وجَدَت أخيرًا وقتًا للتحدث مع شقيقها، وأخبرَتْه أنه بلغ الآن من العمر ما يكفي ليعرف حقيقة والدتهما. وكانت بيرتي قد حصلَت على هذه الحقائق منذ فترةٍ طويلة من العمة إيما، والآن تودُّ مشاركتَه إياها، مما ساعد الصبي على حل العديد من الألغاز، ليس فقط حول والدته، ولكن أيضًا حول والده. فقد تزوَّج الأب بعد سن الأربعين، وكان حينئذٍ حارسًا لمتجر عند مفترق الطرق، وتزوَّج من حسناء القرية، التي ظنت أنها حققَت إنجازًا كبيرًا بالزواج من الأب. ولكن سرعان ما تجاوَز طموحُها حدود القرية، وحاولَت إقناع الأب بالخروج منها، وفي النهاية هجرَتْه وهربَت مع بائعِ سنداتٍ غني من مدينة إنجِل سيتي، الذي تزوَّجها، لكنه سئم منها بعد ذلك وتركها.

كان رحيل الأم قد فعل ما فشلَت كل مناقشاتها في فعله، وهو ترك الأب للقرية. فقد فكر مليًّا في الأمر وأدرك أن ما يريده الجميع هو المال، وأن سبب إخفاقه هو عدم امتلاكه ما يكفي من المال؛ ولذا قرَّر أن يثبت للجميع أنه ليس فاشلًا. ومنذ ذلك الوقت لزم الأب الصمت وشرع في العمل. اقترح عليه بعض رفاقه في القرية التنقيب عن النفط، وبالفعل انضَم إليهم، وحققوا نجاحًا، وسرعان ما توسَّع الأب في مشاريعه الخاصة.

فكر باني في هذه القصة مليًّا، وراقب والده عن كثب، وبدأ يجمِّع قطع الأحجية معًا. أجل، لقد فهم الآن السبب وراء ذلك التركيز الصارم والحذَر والسعي الدءوب، لقد كان الأب يعاقب السيدة أندرو وذرسبون لانج، ويُظهِر لها أنه بمثل كفاءة أيِّ بائعِ سندات من المدينة! بالإضافة إلى ذلك كان الأب لا يثق في النساء، ويعتقد أنهن جميعًا كن يحاولن الاستيلاء على أمواله! وكان يُركِّز كل آماله على باني، متمنيًا أن يصبح سعيدًا، ويتمتع بكل فضائل والده ويتجنَّب عيوبه، ويحقِّق ذلك المعنى والهدف اللذَين لم يستطع الأب أن يعثُر عليهما في حياته! عندما كان يتأمل باني كل ذلك، كان يشعر بتعاطفٍ مفاجئ، ويضع ذراعه على كتفَي الأب، ويُعرِب عن قلقه من كدِّ والده في العمل، وضرورة أن يكبر بسرعةٍ ليتحمل جزءًا من المسئولية.

غامر على استحياءٍ شديد بالتطرق إلى موضوع ديون أمه، وطلبِها بزيادة دخلها؛ حينئذٍ أخبره والده بوجهة نظره حول والدته. وقال إنه لم يكن هناك أي فائدةٍ من إعطائها المال؛ فهي لم تكن من أولئك الذين يعيشون في حدود إمكانياتهم؛ ولذا كانت الديون تتراكم عليها طوال الوقت ولا تشعُر بالرضا. لم يكن ذلك بخلًا من جانب الأب، ولا رغبةً منه في معاقبتها؛ فقد كان لديها ما يكفي من المال لتعيش بنمط الحياة التي وافقَت عليه عندما تزوَّجَته، وكان هذا من وجهة نظره عادلًا. فهي لم يكن لديها أيُّ دورٍ في النجاح الذي حقَّقه لاحقًا؛ ولذلك ليس لها الحق في جني ثماره. وإذا أدركَت إمكانيةَ حصولها على المال من باني، فستجعل حياته جحيمًا؛ ولهذا السبب كان الأب صارمًا بشأن هذا الأمر. يمكن للتجَّار مقاضاة والدته، لكنهم لن يتمكَّنوا من استرداد أي شيء؛ لذلك في النهاية سيتعلمون عدم إعطائها أي شيءٍ بالآجل، وسيكون هذا أفضل شيءٍ لها. لقد كان موضوعًا مؤلمًا، ولكن حان الوقت الذي لا بد أن يستوعب فيه باني هذا الأمر، وأن يتعلم أن النساء اللواتي يحاولْنَ الاستيلاء على أموالك قد يتمادَين إلى أبعدَ من ذلك ويتزوَّجنك!

لم يفصح باني عن ظنِّه في أن وجهة نظر الأب في النساء كانت في غاية السلبية. كان باني يعرف أنْ ليس كل النساء كما يزعم والده؛ لأن محبوبته روزي تينتور، التي كانت حبيبتَه منذ عام أو أكثر، كانت استثناءً من هذه القاعدة. ولطالما حاولَت روزي منعه من إنفاق المال عليها، قائلة إنها لا تملك أي نقود؛ ولذا ليس من العدل أن تقبل ماله، وكان الأمر الوحيد الذي بإمكانها قبوله هو ركوب سيارته. كانت في غاية اللطف والطيبة، لكن باني لم يكن سعيدًا بشأن ما كان يحدُث لعلاقة حبهما. لكن جهوده لإنكار الحقيقة كانت غير مجدية؛ وبدأ يشعر بالملل! تأمَّلا لوحات القرن الثامن عشر الإنجليزية حتى حفظاها عن ظهر قلب، وظل تعليق روزي على كل شيء كما هو؛ «يا للروعة!» أراد باني أن يرى أشياءَ جديدة، وأن يسمع تعليقاتٍ جديدة، ولم يستطع منع نفسه من هذه الرغبة، مهما بدا الأمر قاسيًا. لذلك قلَّل من جولاته بالسيارة مع روزي، واصطحب فتاةً أخرى للرقص مرة أو مرتَين. كانت روزي الصغيرة لطيفةً ورزينة كالمعتاد، حتى إنها لم تبكِ، على الأقل ليس في حضور باني؛ كان باني متأثرًا بشدة، ولكن مثل جميع المخلوقات من الذكور، وجد أنه من المريح للغاية عندما يوافق حبيبان قديمان على إنهاء علاقتهما دون ألم، ودون إثارة ضجة! ودون وعي، كان مستعدًّا لأن يُغرم بفتاةٍ جديدة.

٥

انتهى العمل في الطريق الجديد، واكتمل بناء الاستراحة وسكنها العمال، وذهب رئيس نجَّاري الأب إلى برج الحفر، وكان بول يعمل معه هناك. بعد ذلك جاء أسطول من الشاحنات المحمَّلة بأدوات الحفر، وبدءوا في تجهيز المعدات، وساعدَهم بول في ذلك. كان باني في المدرسة، وفوَّت كل هذه المتعة، لكن الأب كان يحصل على تقريرٍ شبه يومي من رئيس العمال، وكان يشاركه مع باني وقت العَشاء. لقد كانوا متأخرين في سباقهم مع «إكسلسيور بيت»، التي كانت قد بدأَت الحفر بالفعل، مستفيدةً بميزة وجود طريق من البداية، لكن الأب قال إنه لا داعي للقلق؛ فالوصول إلى قاع تلك الآبار سيستغرق وقتًا طويلًا.

حانت اللحظة الأهم في حياة باني، وصادف أن حدَث ذلك في يوم جمعة؛ ولذا اعتذر باني عن الذهاب إلى المدرسة؛ لم يكن من المعتاد أن يعتذر صبي عن المدرسة بسبب «عملية تنقيبٍ استكشافي للنفط» في بئر تحمل اسمه؛ حيث كان عليه الذهاب إلى هناك للضغط على ذراعٍ وتشغيل آلات الحفر! انطلقا في الصباح الباكر ووصلا عصرًا، وكانا يشعران بالفخر وهما يسيران على هذا الطريق الجديد، المتين، الممهَّد، الرمادي! وصلا إلى غدير آل واتكينز، والطريق الجديد المؤدي إليه؛ إنه طريقهما الخاص، المميز للغاية! لم يكن هناك أحدٌ في منزل آل واتكينز؛ فقد توجَّه الجميع إلى البئر، كان يمكنك أن ترى حشدًا متجمعًا حول برج الحفر اللامع الجديد المبنيِّ من خشب الصنَوبَر الأصفر، والمستقر فوق حافةٍ صخرية في منتصف المنحدر، وكانت البئر تحمل اسم «روس الابن-بارادايس رقم واحد!»

وصلا إلى هناك بسيارتهما، ورحَّب بهما رئيس العمال، كان بإمكانهم بدء الحفر منذ بضع ساعات إذ كان كل شيء جاهزًا؛ فقد انتهَوا من إحكام ربط جميع أجزاء برج الحفر، والتأكد من عمل الآلات بكفاءةٍ عالية. نظر باني حوله، ولاحظ وقوف بول بالخلف وسط العمال الآخرين. كانت روث مع عائلتها؛ ولذا اتجه باني نحوهم، وكان سعيدًا برؤيتهم جميعًا، حتى السيد واتكينز العجوز، على الرغم من القفز والدحرجة والروماتيزم وغيرها من المشاكل. كان الحي بأكمله هناك، وكان باني يعرف العديد منهم بالاسم، وتحدَّث إليهم، سواء كان يعرفهم أم لا، لقد أحبوا جميعًا هذا الفتى الشغوف، الأمير الشاب الذي يملك بئرًا تحمل اسمه. كان بعضهم يُكِن شعورًا ﺑ «الضيق» بسبب بيع الأراضي بسعرٍ بخس؛ فلو كانوا قد احتفظوا بها، كان من الممكن أن يصبحوا أثرياء ومشاهير، لكنهم لم يفصحوا عن هذا الشعور؛ فقد كانت هذه لحظةً رائعة، واحتفالًا سيتحدثون عنه لعدة أيام.

فحص الأب موقع الحفر، وطرح بعض الأسئلة للتأكد من سير الأمور كما ينبغي، وكان على وشك أن يأمر ببدء الحفر، عندما لاحظ قدوم سيارةٍ أخرى على الطريق. أفسح الحشد الطريق لسيارة ليموزين كبيرة لامعة، كانت تقترب منهم بسرعةٍ حتى توقفَت، ونزل منها شخصٌ لم يتوقع أحدٌ قدومه، شابٌّ طويلٌ غريب الأطوار له ظهرٌ محدَّب وبشرةٌ سمراء من أثَر التعرُّض للشمس، وعينان زرقاوان شاحبتان وشعرٌ كثيف أشعث لونه لون الذرة؛ إنه إيلاي واتكينز، نبي الوحي الثالث، الذي تجلَّى وتمجَّد مرتديًا ياقةً بيضاءَ منشاة وربطةَ عنقٍ سوداء وبذلةً من الجوخ الأسود، غير مناسبة ولكنها باهظة الثمن، وكان يتصرف بطريقةٍ تتناسَب مع هذا الزي، فكان يجمع بين الفخر والتواضُع اللذَين ينبعان من هذه المهمة الإلهية. تبعه رجلٌ ثريٌّ كبير السن، ساعد على الخروج من السيارة سيدتَين ترتديان النسخة الأنثوية من ملابس إيلاي، كانوا من أتباع النبي الجديد، أو أولئك الذين نجح في «شفائهم». كان الجيران يحدِّقون فيه باحترام، ونسُوا البئر لمدة دقيقة أو دقيقتَين؛ حيث طغت القوى الروحية على الأمور الدنيوية.

تقدم الأب وصافح النبي، ودعاه إلى نسيان الماضي، وتجاوُز كل الخلافات القديمة في هذه اللحظة العظيمة. اندهش باني مما حدث؛ لأنه يعرف أن الأب لا يحب إلقاء الخطب ما لم يُطلب منه ذلك. لكن جيه أرنولد روس كان يتمتع بنزعة غريبة الأطوار تظهر من حين لآخر، وتتسبب في حدوث هذه التقلبات الغريبة في الأحداث. وقف الأب أمام الحشد، وتنحنح وقال: «أيتها السيدات والسادة، نحن نحفِر هذه البئر هنا في المزرعة التي ولد فيها السيد إيلاي واتكينز؛ لذلك ربما يودُّ أن يلقيَ عليكم بضع كلمات في هذه المناسبة.» كانت هناك موجة من التصفيق، واحمر وجه إيلاي خجلًا، من الواضح أنه شعر بالإطراء الشديد، تقدم خطوتَين إلى الأمام، وضم يدَيه أمامه كما لو كان يتلقى البركة، ورفع رأسه، وعيناه شبه مغمضتَين، ودوَّى صوته الجَهْوري قائلًا:

«أيها الإخوة والأخوات، على هذه التلال رعيتُ قطعان أبي، مثل أنبياء الأزمنة القديمة، وسمعتُ صوت الروح القدس الذي كان يتحدث إليَّ عَبْر العواصفِ ودَوِي الرعد. أيها الإخوة والأخوات، يتجلى الرب بطرقٍ عدة، ويمنح أبناءه العطايا الثمينة. فهو يملك كنوز الأرض، وعندما يُنعِم بها برحمته على البشرية، ستُستخدَم بمشيئته في خدمته وتمجيد اسمه. فالأمور الدنيوية تخضع للأمور الروحية، وإذا أراد الرب بحكمته الإلهية أن يُخرِج من هذه البئر الكنوز، فلتُستخدَم في خدمة القدير، ولتحلَّ بركاتُه على كل من يملكها أو يعمل فيها. آمين.»

ردَّد الحضور معًا: «آمين!» وهكذا تمَّت مراسم مباركة البئر! وبطلَت كل الأكاذيب التي قالها الأب لعائلة واتكينز والآخرين، وأصبحَت الرشاوى التي دفعها للسيدَين كاري وكوفي مُلغاة، وأصبحَت بئر روس الابن-بارادايس رقم ١ من ذلك الوقت فصاعدًا بئرًا مقدسة. وهكذا استدار الأب ونظر إلى باني الذي كان يقف بجانب المحرك واضعًا يده على الذراع. وقال: «حسنًا يا بني!» حرَّك باني الذراع، ودوَّى صوت المحرِّك، وسُحِبَت السلسلة، وقعقعَت التروس، ولفَّت الطاولة الدوَّارة، ومن أسفل أرضية برج الحفر صدَر ذلك الصوتُ المثير الذي يطلق عليه عمال النفط اسم «صوت الحفر!»

٦

على عمق أقل من مائتَي قدم، وصلوا إلى الرمال التي كانت السبب وراء «نفط الزلزال» الذي رآه باني، وثبت أنها تمتد لقدمَين، وقال الأب إن هذه الكمية ستمنحهما ما يكفي من الوقود لتشغيل سيارتهما لمدة عام! تعمَّقوا أكثر في الحفر، دون تغيير المثقاب الذي كان يبلغ قطره ثماني عشرة بوصة، مخترقين طبقاتٍ قاسية من الحجر الرملي، وبدءوا الحفر دون وضع أنابيب دعم؛ لأن الأرض كانت في غاية الصلابة. كان بول يقدِّم المساعدة في جميع المهام، ولا سيما النجارة. قال باني: «أبي، سنجعل بول مدير أعمالنا يومًا ما»، لكن بول ابتسم وقال إنه سيصبح عالِمًا، ولن يخدع نفسه بفكرة أن الوظائف ذات المناصب العالية سهلة؛ فهو لن يستبدل وظيفته التي تستغرق ثماني ساعات بوظيفة الأب التي تمتد لثماني عشرة ساعة. كان هذا نوعًا من الإطراء الخفي، ورفع مكانة بول لدى الأب!

كان عيد الشكر على الأبواب، وكان باني يشعر بحَيرةٍ بالغة. فقد كانت هناك مناسبةٌ رائعة في المدرسة، وهي مباراة كرة القدم السنوية مع مدرسةٍ منافِسة تُعرف باسم «بولي هاي»، التي تقع في مدينة إنجِل سيتي. وهنا ظهر السؤال التالي: هل كان باني فتًى طبيعيًّا أم صبيَّ نفط؟ دار صراع داخل باني للإجابة عن هذا السؤال، وأعلن قراره الذي تمثَّل في الذهاب إلى بارادايس مع الأب، مما أثار استياء روزي تينتور والعمة إيما! وأخبر الصبيُّ عمَّتَه أنهم في موسم صيد السُّمانى، وأن الأب بحاجة إلى التغيير، لكن السيدة العجوز الحادَّة الذكاء أخبرَتْه أن بإمكانه خداع نفسه، لكن ليس بإمكانه خداعُها.

لم يكونا مضطرَّين لأخذ أي أغراضٍ خاصة بالتخييم معهما الآن؛ فلديهما الكابينة الخاصة بهما في مزرعة آل راسكوم، بالإضافة إلى هاتف وكل سبل الراحة. كان هناك هاتفٌ آخر في المنزل؛ ولذا كل ما كان عليهم فعله هو الاتصال بروث، ليجدا النار مشتعلةً لتدفئة الكابينة، والعَشاء جاهزًا على الطاولة في المنزل، بما لذَّ وطاب من جميع أنواع الأطعمة المنزلية الصنع، التي كان من شأن أكلها أن يجعل لزامًا على الأب أن يسير أميالًا عديدة عَبْر التلال في اليوم التالي! وبالطبع، سيمُران أولًا على البئر، لمعاينة سير الأمور والتحدُّث مع رئيس العمال. ظهرَت آثار للنفط مرةً أخرى، وكان الأب قد أخبرهم بأخذ عينةٍ أسطوانية، وطلب من السيد بانينج الحضور في اليوم التالي لدراستها معه.

صار برج الحفر على مرمى بصرهما. وكان عمود الحفر خارج الحفرة، وكان بإمكانهما رؤية مجموعة من «المنصَّات» الموضوعة في مكانها المحدَّد. عندما اقتربا، رأيا أن الطاقم قد أنزل كَبْلًا في الحفرة، وعندما رآهما ديف مورجينز، رئيس العمال، توجَّه إلى السيارة، وكان من الواضح أن هناك خطبًا ما. «لدينا حادث، سيد روس.»

«ماذا جرى؟»

«لقد سقط رجل في الحفرة.»

صاح الأب: «يا إلهي! من؟» ارتعدَت فرائصُ باني، وبالطبع كان أوَّل من خطَر بباله هو بول.

قال رئيس العمال: «عامل حفر. رجلٌ يُدعى جو جوندا. أنت لا تعرفه.»

«كيف حدث هذا؟»

«لا أحد يعرف. كنا نغيِّر المثقاب، ونزل هذا الرجل إلى القبو لغرضٍ غير معلوم؛ فحسبما نعلم لم يكن هناك ما يستدعي نزوله. ولم يلاحظ أحدٌ غيابه لفترة.»

«هل أنت متأكِّد من أنه بالأسفل؟»

«كنا نستخدم خطافًا لاصطياد الأجسام العالقة، وحصَلنا على قطعة من قميصه.» ابيضَّت شفتا باني. «يا إلهي، هل سيكون على قيد الحياة يا أبي؟»

«منذ متى وهو بالأسفل؟»

قال مورجينز: «نحن نبحث عنه منذ نصف ساعة.»

«ولم تسمعوا صوتًا؟»

«لا شيء.»

«إذن، فقد غرق في الوحل. على أي عمقٍ هو؟»

«حوالي خمسين قدمًا. يهبط الوحل إلى هذا الحد عندما نخرج عمود الحفر. لا بد أنه نزل برأسه أولًا، وإلا كان سيتمكن من إبقاء رأسه فوق الوحل وإصدار صوت.»

صاح الأب: «يا إلهي! يا إلهي! هذا ما يجعلني أرغب في ترك هذه المهنة! ما الذي يمكن فعله لمساعدة الرجال الذين لن يساعدوا أنفسهم؟»

كان باني قد سمع هذا الصراخ ألف مرة من قبل. كان هناك غطاءٌ للحفرة، وعلى أي رجل ينزل إلى القبو أن يضعه في مكانه. فلا بد من تكوُّن الأوساخ حول الحواف، مما يجعل الجزء العلوي للحفرة أشبه بالقمع، وتكون حوافها زلقةً بسبب الوحل، الذي يحتوي في هذه الحالة على آثار نفط، ومع ذلك، يجازف الرجال، وينزلقون حول حافة تلك الحفرة المنفرجة! لكن ما الذي يمكن فعله لمساعدتهم للحفاظ على أنفسهم؟

سأل الأب: «هل لديه عائلة؟»

«لقد أخبر بول واتكينز أنه لديه زوجةٌ وبعض الأطفال في أوكلاهوما؛ فقد كان يعمل في حقول النفط هناك.»

جلس الأب بلا حَراك، محدقًا أمامه؛ دون أن ينطق أحدٌ بكلمة. فقد كانوا يعلمون أنه كان يهتم حقًّا برجاله، وكان الاعتناء بهم أمرًا يجعله فخورًا بنفسه. شعر باني بخيبةِ أملٍ كبيرة بداخله؛ يا للعار، من بين جميع الأماكن، يحدُث هذا الأمر المؤسف في بئره الأولى التي كان من المفترض أن تكون نقطة البداية في الحقل الجديد! لقد أفسد هذا كل شيء عليه، ولن يكون قادرًا على الاستمتاع بنفطه إذا حصل عليه!

في النهاية قال الأب: «حسنًا، ماذا تفعلون الآن؟ هل تؤرجحون الخطاف لأعلى ولأسفل؟ لن يمكنكم العثور عليه هكذا أبدًا. سيتعيَّن عليكم إنزال ماسكةٍ ثلاثية الشُّعَب.»

أوضح ديف مورجينز بتردُّد: «لقد اعتقدتُ أن ذلك سيُمزِّقه إربًا ولذلك …»

قال الأب: «أعلم ذلك، ولكن هذا ما عليك القيام به. ليس الأمر كما لو أنه ما زال على قيد الحياة. واثنِ الشُّعب حتى تتناسب مع قُطر الحفرة، واضغَط عليها لتخترق الجثة. هيا امضِ قُدُمًا وانتهِ من هذا الأمر، ولنأمل أن يتعلم بقية العمال شيئًا من هذه الحادثة.»

ترجَّل الأب من السيارة، وطلب من باني أن يأخذ أمتعتهما إلى منزل آل راسكوم، وأن ينقل الأخبار إلى روث، التي ستشعر بالاستياء، خاصةً إذا كانت تعرف هذا الرجل. أدرك باني أن الأب لم يكن يريده أن يكون حاضرًا عند خروج تلك الجثة الممزَّقة من الحفرة، ونظرًا لعدم قدرته على تقديم أيِّ مساعدة، أدار السيارة في صمت وانطلق مبتعدًا. تخيَّلَ الرجال وهم يربطون في عمود الحفر «الماسكة»، وهي أداةٌ صُممَت لاختراق العوائق التي سقطَت في الحفرة، والإمساك بها بخطَّافاتٍ حادة. قد يمسكون بجو جوندا من ساقَيه وقد يمسكونه من وجهه — يا إلهي، كلما قلَّ تفكيرك في أمر كهذا، كان ذلك أفضل لاستمتاعك بالعمل في مجال النفط!

وصل الأب إلى الكابينة بعد بضع ساعات، واستلقى لبعض الوقت لنيل قسط من الراحة. قال إنهم أخرجوا الجثة، واتصلوا بالطبيب الشرعي، الذي أقسم أمامه العديد من الرجال بوصفهم هيئة المحلَّفين، وسمع شهادةَ آخرين، وفحص الجثة، ثم أعطى تصريحًا بالدفن. كان بول قد ذهب إلى فراش الرجل الميت، ونظر في أغراضه، ووضعها جميعًا في صندوق لتُشحن إلى زوجته، واحتفظ الأب في جيبه بنصف دزينة من الرسائل التي كان قد عُثر عليها ضمن الأغراض، ولأنه لم يكن يريد أن يظن باني أن المال يأتي بسهولة، أو أن الحياة كانت كلها لعبًا ولهوًا، أعطاه هذه الرسائل، وجلس باني في ركنٍ بعيد وقرأها؛ رسائل صغيرة مثيرة للشفقة، مكتوبة بخطٍّ صبياني يُقرأ بصعوبة، تخبرنا كيف قال الطبيب إن قلب سوزي سيصبح ضعيفًا لفترةٍ طويلة بعد إصابتها بالإنفلونزا؛ وأن هناك سِنَّتَين أخريَين ظهرتا في فم الرضيع مما تسبَّب في انزعاجه بشدة، وأن العمة ماري قد حضرَت للتو لزيارتها، وقالت إن ويلي في شيكاغو وإنه بخير؛ كانت هناك علاماتٌ متقاطعة ودوائر تمثِّل قُبلاتٍ من الأم ومن سوزي ومن الرضيع. وكانت هناك جملةٌ واحدة أسعدَت الأب وباني: «أنا سعيدة بأن لديك صاحبَ عملٍ جيدًا هكذا.»

كانت أمسية عيد الشكر كئيبة، لدرجة أنهم لم يأكلوا سوى القليل من المأدبة التي أعدَّتها روث، دون أي متعةٍ حقيقية. تحدَّثوا عن الحوادث، وأخبرهم الأب عن شيء كان قد حدث في أول بئر حفرها؛ كانوا على عُمق ثلاثين قدمًا فقط، عندما زحف رضيعٌ إلى القبو وانزلَق في الحفرة. تطلَّب الأمرُ رجلَين قويَّي البنية لمنع الأم من النزول في الحفرة، بينما حاول الباقون إخراج الطفل. حاولوا اصطياده بخطَّافٍ كبيرٍ مربوط في حبل، ووضعوا الخطَّاف أسفل جسم الرضيع ورفعوه برفقٍ لبضع أقدام، ولكن بعد ذلك انحشر جسم الرضيع بطريقةٍ ما، وأصبحوا عاجزين عن التصرف. كان الطفل قد علق هناك، ولم يكن يصرخ، لكنه كان يصدر أنينًا خفيضًا مستمرًّا طَوال الوقت، يمكنهم سماعه بوضوح. على بعد عشرين قدمًا من البئر بدءوا يحفرون ممرًّا عموديًّا، يكفي لعمل رجلَين فيه، وحفروا الأرض بالعتلات، وجرفوها في دلاءٍ بمعاولَ كبيرة، وسحب الرجال بالأعلى الدلاءَ بالحبال. وعندما وصلوا إلى أسفل الرضيع، حفروا جانبيًّا، ونجحوا في إخراجه. كان الخطَّاف قد انغرز في لحم فخذه، لكن دون أن يمزِّق الجلد، شُفيَت الكدمة، وفي غضون أيامٍ قليلة كان الطفل على ما يُرام.

يا لها من حياةٍ غريبة! لو بقي باني في الديار في ذلك اليوم، لكان قد أخذ روزي تينتور إلى مباراة كرة القدم، وفي الوقت الذي لقي فيه جو جوندا المسكين حتفه، لكان باني يصرخ بأعلى صوتٍ له بسبب ظفر فريقه ببضع ياردات. ولكان الآن، في المساء، يرقص؛ نعم، فقد كانت بيرتي في واقع الأمر في حفلٍ راقص، في بيت أحد أصدقائها العصريين، أو في أحد الفنادق الفخمة حيث كانوا يقيمون حفلة. تخيَّل باني كلًّا من كتفَيها ونهدَيها لامعًا، وفستانها المصنوع من القماش الناعم اللامع، وخدَّيها المشرقين ووجهها النابض بالحياة؛ كانت تحتسي الشمبانيا، أو تتجول في الغرفة بين ذراعَي آشلي ماثيوز، الشاب الذي كانت تُحبه الآن. ولكانت العمة إيما في غاية تأنقها، تستمتع بلعب الورق في إحدى الحفلات المخصَّصة لذلك، ولكانت الجدة ترسم لوحةً للورد شاب، أو دوق، أو شخصٍ ما، يرتدي سروالًا قصيرًا وجواربَ حريرية، ويقبِّل يد محبوبته!

نعم، الحياة غريبة وقاسية. فالمرء يعيش في دائرةٍ ضيقةٍ صغيرة من وعيه، وكما يقول الناس، ما لا تعرفه لن يؤذيك. لم يمُر عَشاء عيد الشكر كما ينبغي؛ لأن عاملًا مسكينًا انزلَق إلى داخل البئر التي صادف أنك تمتلكها، لكن عشرات وربما مئات الرجال أصيبوا في آبارٍ أخرى في جميع أنحاء البلاد، وهذا لم يزعجك ولو قليلًا. وفي هذا الخصوص، فكَّر في كل الرجال الذين كانوا يموتون هناك في أوروبا! على طول الطريق من فلاندرز إلى سويسرا، كانت الجيوش تختبئ في الخنادق، تتبادل القصف ليلًا ونهارًا، وكان آلافٌ يتعرَّضون لتشوُّه أجسادهم بشكل مروِّع تمامًا مثلما تفعل الماسكة في قاع البئر، لكنك لم تكن تنوي أن تترك ذلك يفسد عليك عَشاء عيد الشكر، ولو قليلًا! فأنت لم تهتم بهؤلاء الرجال بقَدْر اهتمامك بالسُّمانى الذي كنت تنوي اصطياده غدًا!

جاء الطبيب الشرعي، ودفنوا جثة جو جوندا، على قمة تلٍّ بعيدًا عن الأنظار، ووضعوا صليبًا خشبيًّا لتمييز البقعة. كانت تلك هي وظيفة السيد شروبز، الواعظ في كنيسة إيلاي، وحضر إيلاي، والسيد واتكينز المسن وزوجته، ومرتادو الكنيسة من كبار السن الذين يحبون الذهاب إلى الجنازات. كان الأمر غريبًا؛ فقد بدا الأب سعيدًا بمجيئهم وبإخبارهم له بما يجب عليه فعله؛ فقد كانوا على دراية بأمور يجهلها! وبالطبع لم يَستفِد الفقيد المسكين حقًّا من الوعظ والصلاة على جثته المشوَّهة، ولكنه على الأقل كان طقسًا يشارك فيه الناس، وكل ما كان عليك فعله هو أن تقف حاسر الرأس في الشمس لفترة، وبعد ذلك تُعطي الواعظ عشرة دولارات. نعم، هكذا كانت تتم الأمور، في الموت، كما في الحياة، فإذا أردتَ إنجاز مهمةٍ ما، يأتي شخص من شأنه تولي أمر هذه المهمة، وتدفع له. بدا الأمر لباني ظاهرةً طبيعية؛ فلا يهم إذا كان ذلك الشخص هو السيد شروبز، الذي صلى على عامل الحفر الميت، أو الرجل في محطة الوقود الذي يزوِّد سيارتك بالوقود والزيت والماء وينفخ إطاراتها، أو الموظفين العموميين الذين أسهموا في بناء الطريق الذي تقود عليه السيارة.

أرسل الأب برقية إلى السيدة جوندا لينقل لها النبأ الحزين، مضيفًا أنه سيرسل شيكًا بقيمة مائة دولار لتغطية نفقاتها الحالية. ثم كتب الأب رسالة، يشرح فيها ما فعلوه، وكيف أنهم سيرسلون متعلقات زوجها الميت في صندوقٍ عَبْر البريد السريع. كان لدى الأب تغطيةٌ تأمينية ضد الحوادث، وكانت شركة التأمين ستدفع تعويضًا للسيدة جوندا؛ كل ما عليها فعله هو تقديم طلبها للجنة الحوادث الصناعية. من المرجَّح أن يمنحوها خمسة آلاف دولار، وأعرب الأب عن أمله في أن تستثمر هذا المبلغ في سنداتٍ حكومية، وألَّا تدع أي أحدٍ يخدعها، بسندات النفط أو غيرها من مخطَّطات الثراء السريع.

وكان هذا كل شيء، وقال الأب إن بإمكانهما الذهاب لصيد السُّمانى، ومحاولة نسيانِ ما لم يستطيعا منع حدوثه. وافقه باني، لكنه في الحقيقة لم يستمتع بالصيد؛ ففي ذهنه اختلطَت جثث السُّمانى بطريقةٍ ما بجثة جو جوندا وجثث الجنود في فرنسا؛ ولذلك حالت هذه الجثث المشوهة دون استمتاعه بوقته.

٧

كان عيد الميلاد المجيد يقترب، وكان باني قد خطَّط لكل شيء. كان سيصطحب الأب إلى مباراة كرة القدم التي ستُقام يوم عيد الميلاد المجيد، وفي صباح اليوم التالي سيغادران إلى بارادايس، ويبقيان هناك حتى يحين وقت العودة لمشاهدة المباراة التي ستُقام يوم رأس السنة الجديدة. كانت أحوال البئر تسير على ما يُرام؛ حيث وصلوا إلى عمقٍ يتجاوز الألفَي قدم، وكان الصخر يتحطَّم بسهولة، ولم يكن لديهم أي مشكلة. ثم قبل عيد الميلاد ببضعة أسابيع، عاد باني إلى المنزل من المدرسة، وقالت العمة إيما: «لقد اتصل والدُك للتو؛ لديه بعض الأخبار عن إكسلسيور بيتر.» كانت العمة إيما قد خمَّنَت أن «بيت» اسمٌ مستعار، ولأنها تتمتع بصفاتِ ليدي حقيقية ستستخدم الاسم الكامل «إكسلسيور بيتر»، وكانت العائلة تضحك على هذا الأمر! وبالطبع، كانوا يسخرون منها طَوال الوقت.

صاح باني: «ما الأمر؟»

لقد عثَروا على نفط.»

«في بارادايس؟» هرع باني إلى الهاتف في حالة من الإثارة الشديدة. قال الأب إن ديف مورجينز قد اتصل هاتفيًّا وأخبره أن «إكسلسيور-كارتر رقم ١»، كما كان يُطلَق على البئر، قد ظهر بها رمالٌ نفطية لعدة أيام، وتمكَّنوا من إبقاء الأمر سرًّا. والآن كانوا يسُدُّون البئر بالأسمنت، وهو أمرٌ لا يمكن لأحد إخفاؤه.

قفز باني في السيارة وانطلق بسرعة نحو المكتب. كان الجميع متحمسين، ونشَرَت الصحف المسائية الخبر، وتوافَد بعض أصدقاء الأب العاملين في مجال النفط للتحدث في هذا الشأن. فبالطبع كان هذا يعني حقلًا جديدًا، وسيندفع الناس إلى بارادايس. كان الحظ حليف الأب لامتلاكه اثنَي عشر ألف هكتار في هذه المنطقة، ملكيةً مطلقة! كيف حدث ذلك؟ قال الأب إنه لم يفعل ذلك متعمدًا؛ فقد أنفق مائة ألف دولار لتسلية ولده، ولجعله يهتم بالعمل، وربما لتعليمه درسًا. ولكن الآن، يبدو كما لو أن الصبي هو من لقَّنه الدرس! قال السيد بانكسايد، الذي أصبح خبيرًا في مجال النفط الآن، وكان يحفِر بئرًا خاصة به، إنه كان يأمل دائمًا أن يخسر أبناؤه عندما بدءوا في لعب القمار، حتى لا يعتادوا هذه العادة، وافقه الأب الرأي، لكنه قال إنه كان على استعدادٍ أن يجازف بروح باني هذه المرة؛ فقد كان هناك الكثير من المال على المحك!

بعد ذلك، بالطبع، كان باني على أحرَّ من الجمر للوصول إلى بارادايس، وأراد ترك المدرسة، لكن الأب رفض. وقرَّر باني أنه لم يعد يهتم بتلك المباراة التي ستقام يوم عيد الميلاد، وأراد أن يعرف رأي والده في هذا الأمر. أجابه الأب أنه تمكَّن من الوصول إلى سن التاسعة والخمسين دون مشاهدة مباراة كرة قدم! لذلك قال باني إنه سيرسل إلى روث ويخبرها أنهما سيأتيان في ليلة عيد الميلاد، وسينطلقان بعد المدرسة مباشرةً، وسيتناولان العَشاء في وقتٍ متأخر، على غرار عادات المجتمع العادي. كان من الصعب على روث أن تصدِّق أن الأشخاص العصريين في المدن يتناولون عَشاءهم في الساعة الثامنة أو التاسعة مساءً!

في غضون ذلك، استمَر الحفر في البئر حتى وصلوا إلى عمق ٢٣٠٠ قدم، وكان من المعروف أن الرمال ظهرَت في بئر إكسلسيور-كارتر رقم ١ على عمق ٢٤٣٧ قدمًا. كان باني متحمسًا للغاية لدرجة أنه كان يركُض إلى الهاتف بين الحصص في المدرسة، ويتصل بسكرتيرة والده في المكتب، ليسأل عما إذا كان هناك أيُّ أخبار. وهكذا، قبل ثلاثة أيام من عيد الميلاد، تلقى الخبر السعيد؛ حيث تحدَّث إليه الأب عَبْر الهاتف، وأخبره أن الرمال النفطية قد ظهرَت في بئر باني. كان من السابق لأوانه قول المزيد؛ فكل ما كانوا سيفعلونه هو أخذ عينةٍ أسطوانية. وبمجرد انتهاء الحصص الدراسية، انطلق باني بأقصى سرعة إلى المكتب، وهناك استمع إلى مكالمةٍ بعيدة المدى أجراها الأب مع الرجل الذي حصَل منه على معدَّاته. كان يطلب شحن رأسِ أنبوب دعمٍ مميز، الأكبر من نوعه، إلى البئر، وكان من المقرَّر وضعه على شاحنة وأن تنطلق الشاحنة الليلة. وبعد ذلك تحدَّث الأب إلى مورجينز مرةً أخرى، وأخبره بموعد وصول رأس أنبوب الدعم، وضرورة شروعهم في العمل وإخراج عمود الحفر، وإحكام تثبيت رأس أنبوب الدعم باستخدام عُروات على الجانب، ووضع ما لا يقل عن خمسين طنًّا من الأسمنت؛ فبارادايس تقع في منطقةٍ نائية؛ ولذا إذا وقع أي انفجار، فسيُحيل المكان إلى جحيم.

حصَلوا على العينة الأسطوانية التي بلغَت ثماني أقدام، وكانت تحتوي على نفطٍ عالي الجاذبية؛ مما يعني أن هناك ثروةً بانتظارهم، أسفل تلك التلال الصخرية، التي وطئَتْها أقدام المعز والأغنام لسنواتٍ عديدة! أرسل الأب في طلب «الصهاريج»، وبعد ذلك طلب المزيد منها. ثم علموا بوصول رأس أنبوب الدعم، وثُبِّت بإحكام، باستخدام «العُروات»، وبعد وضع الأسمنت، قال الأب إن كل الغاز الموجود أسفل جبل فيزوف لن يتمكَّن من رفع هذا الحمل. بدءوا الحفر مجددًا، وأخذوا عينةً أسطوانيةً أخرى، ووجدوا أن كثافة النفط قد زادت عن ذي قبل. رضخ الأب أخيرًا وأقرَّ بأهمية ما يحدث، ورأى أن على باني الاعتذار عن الذهاب إلى المدرسة لمدة يومٍ واحد. أعطى الأب أوامره ﺑ «غسل» البئر، وتحدَّث هاتفيًّا مع مورد الأسمنت، واتفق معه على توصيل شاحنةٍ كبيرة إلى بارادايس؛ حيث سيقابلهم الأب هناك، وسيبدءون العمل في اليوم الذي يسبق عيد الميلاد، وأخبرهم أنهم إذا أتموا مهمة بناء حاجز الأسمنت بنجاح، فسيدعوهم لتناوُل أكبر ديكٍ رومي في تلك المنطقة الريفية التي تُشتهَر بتربية الديوك الرومية. ولذلك، في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، ألقى الأب وباني بحقائبهما في السيارة، وانطلقا نحو بارادايس محطمين الأرقام القياسية للسرعة. وبعد ثلاث ساعات توقفا لإجراء مكالمةٍ هاتفية، وقال رئيس العمال إنهم «يغسلون» البئر، وإن عمال بئر إكسلسيور بيت قد انتهَوا من تجهيز حاجز الماء، وحفَروا في الأسمنت، وفي طريقهم للوصول إلى الرمال النفطية، وهي المرحلة الأخيرة من حفر البئر.

وصلا إلى سان إليدو، وقال الأب: «سنتوقف لإلقاء التحية على جيك كوفي.» توجها إلى المتجر، وقفز باني خارج السيارة، وقال له الموظف الموجود هناك: «لقد ذهب جيك إلى بارادايس لرؤية البئر. ألم تسمع الأخبار؟ يتدفَّق النفط من بئر إكسلسيور بيت في كل مكان!» خرج باني من المتجر وهو يركُض وينادي على الأب بصوتٍ عالٍ، وقفز في السيارة، وانطلقا بأقصى سرعةٍ على طول ذلك الطريق عَبْر الصحراء! ضحك الأب، وقال إن شرطيِّي السرعة سيكونون جميعًا عند البئر.

وصلا إلى بارادايس، وبدت البلدة وكأنها مهجورة؛ فلم يكن هناك أحدٌ في الشوارع، ولا حتى سيارة، باستثناء تلك السيارات التي كانت تسير بسرعة، مثل سيارة السيد روس وابنه. كان الوضع مواتيًا لسرقة البلدة بأكملها، لكن اللصوص أنفسهم كانوا يشاهدون البئر المتدفقة، برفقة شرطيِّي السرعة! كان عليك إيقاف سيارتك على بعد ربع ميل من البئر، حيث كان بالإمكان سماع صوت تدفُّق النفط من البئر الذي كان يشبه صوت هدير الماء في شلالات نياجرا! وبعد الالتفاف حول منعطفٍ في الطريق سيرًا على الأقدام، سيكون بإمكانك رؤية الوادي، متشحًا بالسواد؛ حيث كانت الرياح تهبُّ بشدة، مما أسهم في تكوُّن سحابةٍ رعدية، وستارٍ من الضباب الأسود على مد البصر. كان برج الحفر مخفيًّا عن الأنظار تمامًا؛ ولذا كان عليك الالتفاف من خلف تلٍّ صغير، والصعود على قمَّته المواجهة للريح؛ حيث تجمَّعَت الحشود التي كانت تحدِّق في نافورة النفط الأسود الكبيرة التي كانت تنبثق من الأرض، وتندفع إلى الهواء لارتفاع يصل إلى بضع مئات الأقدام، محدثةً صوتًا يشبه صوت مرور قطارٍ سريع لا نهاية له. كان يمكنك رؤية رجال يعملون، أو يحاولون العمل، تحت برج الحفر، وكان يمكنك رؤية مجموعةٍ منهم يحاولون بناء سد باستخدام المعاول والمجارف لإيقاف تدفُّق النفط، لكن الأب قال إنهم لن يدَّخروا الكثير؛ فهو يتبخر بسرعةٍ كبيرة.

كان بوسع الأب أن يراقب هذا المشهد بعقلانية دون أدنى تأثُّر؛ فالأمر لم يكن يعنيه في شيء. كان من الممكن أن يعرض المساعدة لو كانت هذه البئر تابعةً لأحد المستقلين، مثله، لكن إكسلسيور بيت مشهورةٌ بسوء سمعتها؛ حيث كانت تحتقر تجار النفط الصغار، وكانت لا تدَّخر جهدًا في ارتكاب الأفعال اللئيمة لخدمة مصالحها. بالطبع، كان من المخزي رؤية ضَياع كل هذا الكنز هباءً، لكن العاطفة ليس لها دورٌ في مجال النفط. ما كان عليك الانتباه إليه هو ألَّا تغيِّر الرياح اتجاهها فجأة، حتى لا تتلطخ ملابسك الجيدة!

٨

ظلا يشاهدان لفترة، ثم تذكَّرا أن لديهما بئرًا مملوكةً لهما، وعادا بالسيارة إلى بارادايس، عَبْر الوادي باتجاه مزرعة آل واتكينز. أجريا حديثًا طويلًا مع رئيس العمال، وفحص الأب العينة الأسطوانية، وتقرير الكيميائي الذي اختبر النفط، ورأى أن عملية «الغسيل» كانت تسير على ما يُرام، وأنهم سيكونون مستعدين لسد البئر بالأسمنت في الصباح. كان الجميع في حالة تأهُّب، وكانوا سيؤدون وظائفهم بشكلٍ أفضل من جماعة «إكسلسيور بيت»، ولن يلطِّخوا المكان بالنفط الخام. كانت الصهاريج قد وصلَت إلى محطة السكة الحديدية، وفحَصوا الأساسات التي اكتمل بناؤها للتو من أجل الصهاريج.

قال الأب إن كل شيء على ما يُرام. قادا السيارة إلى منزل آل راسكوم حيث قابلا روث، وارتدى باني ملابس الصيد الخاصة به، واصطاد عددًا قليلًا من السُّمانى قبل غروب الشمس، ثم تناولوا العَشاء، وأخبرهم بول بكل الشائعات التي تدور حول البئر، وكذلك أخبرهم بكم الأموال التي جمعَها إيلاي من أجل كنيسته. بعد العَشاء، لم يتمكَّنا من قضاء الوقت بعيدًا عن البئر؛ ولذا عادا إلى هناك! كانت أمسيةً باردة ومنعشة، وظهر الهلال في السماء، ومن فوقه لمع نجمٌ أبيضُ كبير، كان كل شيء جميلًا جدًّا، وكان باني في غاية السعادة؛ فقد كان يمتلك «بئر نفط استكشافية»، وكانت نتائج العينات «واعدة»، وسيُسفِر كل هذا عن حصوله على كنز من شأنه أن يجعل كل الحكايات الخيالية القديمة ومغامرات ألف ليلة وليلة تبدو صبيانية. كانوا يرفعون «أنبوب الماء» الآن، وهي عمليةٌ ضرورية لسد البئر بالأسمنت؛ إذ يجب رفع أنبوب الدعم الموجود بالأسفل، لدفع الأسمنت لأسفل. كان الأمر صعبًا؛ لأن أنبوب الدعم كان عالقًا، وكان عليهم إنزال أداةٍ تُعرف باسم «وصلة خلخلة»؛ حيث كانت تدق بقوة على أنبوب الدعم وتهزُّه حتى يتمكَّنوا من تحريكه. استطاع باني سماع صوت هذه الدقات الصادرة من باطن الأرض وهو على منصة برج الحفر، وفجأة صدر صوتٌ لم تسمع مثله أذنا باني طوال حياته، من شدَّته شعر باني أنه تلقَّى ضربة على جانب رأسه فعليًّا، وبدا وكأن كل ما بداخل الأرض قد انفجر خارجًا فجأة. واندفع فجأةً في الهواء رأس أنبوب الدعم الهائل، بكتلته الأسمنتية، الذي قال الأب عنه إنه سيسد بركان جبل فيزوف، ومن ورائه اندفع أنبوب الدعم الكبير ذو الأربع عشرة بوصة، مخترقًا الجزء العلوي من برج الحفر، محطمًا البكرة العلوية والرافعة كما لو كانتا مصنوعتَين من سكَّر الحلوى!

بالطبع استدار باني وركض للنجاة بحياته، وتشتَّت الجميع في كل اتجاه. ألقى باني بضع نظراتٍ خاطفة وهو يجري، ورأى كلًّا من رأس أنبوب الدعم وجزء كبير من أنبوب الدعم يندفع إلى أعلى، كما لو كان زهرة زراوند لكن مستقيمة. عندما أصبح ذلك الجزء المندفع من البئر طويلًا جدًّا، انهار وتحطَّم على الجانبَين، محطِّمًا معه جزءًا من برج الحفر، وانبثقَت من البئر نافورة ماء، تلاها فيضانٌ من النفط الأسود، تصحبه تلك الجلبة المألوفة التي تُشبه صوت خروج قطارٍ سريع من باطن الأرض! أطلق باني صيحةً أو اثنتَين، ورأى الأب يلوِّح بذراعَيه، وكان على ما يبدو يصيح هو الآخر، توجَّه نحو والده، لكن عندها حدث فجأةً الأمر الأكثر فظاعةً على الإطلاق؛ حيث اشتعلَت النيران في كتلة النفط المندفعة في الهواء!

لم يعرفوا قطُّ السبب وراء ذلك؛ ربما شرارة كهربائية، أو نار الغلاية، أو شرارة ناتجة عن الحُطام المتساقط، أو احتكاك الصخور المندفعة من البئر بالفولاذ؛ على أية حال، كان هناك برج من اللهب، وكان المشهد الأكثر روعةً هو أن النفط المحترق كان يرتطم بالأرض، ثم يرتد لأعلى، وينفجر، ويقفز مرةً أخرى ثم يسقط مجددًا، مما يتسبَّب في ظهور كتلٍ كبيرة من اللهب الأحمر، التي كانت تنفجر، وتنتُج عنها كتل من الدخان الأسود، التي تتحوَّل بدورها إلى اللون الأحمر.

ارتفعَت جبالٌ من الدخان إلى السماء، وهبط إلى الأرض سيلٌ من اللهب المتأجِّج، وكانت كل نافورة لهب تصطدم بالأرض تتحوَّل إلى بركان، ثم ترتفع مرةً أخرى، أعلى من ذي قبل، وتحوَّلَت كتلة النار بأكملها، التي كانت تغلي وتنفجر، إلى نهر من النار، فيضان من الحمَم البركانية يتدفَّق إلى أسفل الوادي، ويحوِّل كل شيء يلمسه إلى لهب، ثم يبتلعه ويُخفي ألسنة اللهب في سحابةٍ من الدخان. تدفَّقَت النيران نزولًا عَبْر الوادي بسبب قوة الجاذبية، ودفعَتْها قوة الرياح إلى جانب التل، والتهمَت النيران استراحة العمال دفعةً واحدة، بالإضافة إلى مخزن المعدَّات، وكل شيءٍ مصنوع من الخشب، وعندما هبَّت الرياح، ووجَّهَت سيل النفط والغاز إلى أحد الجوانب، كان بالإمكان رؤيةُ هيكل برج الحفر المغطَّى بالنار!

رأى باني والده وركض لينضم إليه. كان الأب يجمع الرجال؛ ليتأكد من عدم تعرُّض أحدٍ منهم للإصابة. وبالفعل نجح في تجميع الطاقم، واحدًا تلو الآخر، وكانوا جميعًا بخير، حمدًا للرب! وأمر الأب بول بالذهاب بسرعةٍ إلى بيت المزرعة، وأَخْذ عائلته إلى التلال، وطلب من باني الذهاب معه، والابتعاد عن النار بمسافةٍ كبيرة؛ إذ لم يكن يمكن لأحدٍ تحديد الاتجاه الذي ستمتد إليه. ومن ثَمَّ ذهب باني بأقصى سرعة إلى أسفل الغدير في أعقاب بول، ووجدا أفراد الأسرة جاثيين على ركبهم يصلُّون والفتاتين في حالة هستيرية. ساعداهم على الوقوف وأخبراهم إلى أين يذهبون، ونصحهم باني بعدم الالتفات إلى متعلقاتهم القليلة؛ فالأب سيدفع لهم ثمنها. صرخ بول عندما تذكَّر المَعْز، فركضا إلى الحظيرة، لكن كل شيءٍ كان على ما يُرام؛ فعندما شعرَت الحيوانات بالذعر كسرَت جزءًا من سور الحظيرة، وهربَت بعيدًا نحو أسفل الغدير؛ حيث يمكنها الاعتناء بنفسها!

انطلق باني عائدًا، وفي الطريق، رأى الأب وهو يقود سيارته. أخبرهما أنه ذاهب لإحضار الديناميت، وفي غضون ذلك، عليهما الابتعاد عن الحريق، وانطلق هو في الظلمة. كانت هذه هي المرة الوحيدة في حياة باني التي يجد فيها والده يحتاج إلى شيءٍ ليس بحوزته؛ فهو لم يفكِّر من قبلُ في إحضار أي ديناميت معه في رحلاته بالسيارة!

بالطبع كان باني قد سمع عن حرائق النفط التي كانت تثير رعب العاملين بهذا القطاع. وكان يعلم عن الأجهزة التي تُستخدَم عادةً لإطفائها. لم يكن الماء ذا جدوى، بل على العكس تمامًا؛ فالحرارة ستفكِّك الماء إلى مكوِّناته الأصلية، وحينئذٍ ستتغذَّى النيران بالأكسجين. يجب أن تتوفَّر لديك كمياتٌ هائلة من البخار الحي، ولتحقيق ذلك أنت بحاجة إلى العديد من الغلايات، لكن لم يكن هناك سوى واحدةٍ فقط، ولن تتوقف هذه النيران إلى أن يجلبوا المزيد؛ كان باني قد سمع عن حريق استمر عشرة أيام، حتى وضَعوا فوق البئر غطاءً مخروطي الشكل من الصلب، وفتحوا فتحةً أعلاه لاندفاع ألسنة اللهب من خلالها وصب البخار الحي. وفي غضون ذلك، سيضيع كل الضغط، وستحترق ملايين الدولارات! أدرك باني أنه، كمحاولةٍ أخيرةٍ بائسة، كان الأب سيحاول سد الفتحة عن طريق تفجيرها بالديناميت، حتى ولو انطوى ذلك على المخاطرة بتدمير البئر.

التفَّ الصبيَّان حول المنحدرات، وعادا إلى البئر، على الجانب المواجه للريح، بعيدًا عن ألسنة اللهب. وهناك وجدا الطاقم منشغلًا بحفر حفرة بالقرب من الحريق، أدرك باني أنهم كانوا يستعدون لوضع الديناميت. وكانوا قد أقاموا حاجزًا لعزل الحرارة، مستخدمين بعض الأحواض الفولاذية التي كانوا يخلطون فيها الأسمنت؛ حيث كانوا يرشُّون عليها الماء باستخدام خرطوم، فيتحول الماء إلى بخار بمجرد لمسه تلك الأحواض. وكان من شأن أحد الرجال أن يركُض باتجاه الحرارة الحارقة، ليضرب بضع ضرباتٍ بمعوَل، أو يجرف التراب بمجرفة، ثم يبتعد بسرعة، ويركض رجلٌ آخر ليفعل الشيء ذاته. وكان ديف مورجينز هو الذي يمسك بالخرطوم وهو مستلقٍ على الأرض واضعًا فوق رأسه قطعةً من القماش المبلل. لحسن الحظ، استفادوا من ضغط البئر الارتوازي؛ لأن المضخة كانت معطَّلة، مثل باقي المعدات. صاح ديف مصدرًا أوامره بزيادة عمق الحفرة. ركض بول للمساعدة، وأراد باني المشاركة، لكن ديف صاح فيه ومنَعه؛ ولذا كان عليه أن يقف ويشاهد «بئره الاستكشافية» وهي تحترق حتى لفحَت النيران وجهه.

بمجرد أن نزلوا تحت سطح الأرض، أصبحت المهمة أسهل، لكن الرجل الذي كان يعمل في تلك الحفرة كان يُخاطِر بحياته؛ فلو غيَّرت الرياح اتجاهها ولو لبضع ثوانٍ، فستنزلق كتلة النفط المغلي هذه فوقه! لكن الرياح كانت قويةً وثابتة، مما جعل الرجال يقفزون في الحفرة ويَحفِرون، لدرجة أن التراب كان يتطاير بكمياتٍ كبيرة لخارج الحفرة. بعد ذلك بدءوا يحفرون نفقًا نحو البئر، وحاولوا الاقتراب منه على قَدْر استطاعتهم، قبل أن يضعوا الديناميت.

وفجأةً فكر باني في والده، الذي كان سيُحضر معه المواد اللازمة؛ فهو لن يكون قادرًا على قيادة السيارة على الطريق، وسيُضطَر إلى الالتفاف من عند جانب التل الصخري، حاملًا هذه الحمولة الخطرة في الظلام. فركض باني بأقصى سرعة لتقديم العون.

كانت هناك سياراتٌ على الطريق؛ حيث رأى كثيرٌ من الناس وهجَ الحريق وجاءوا إلى مكان الحادث. سأل باني عن والده، وبعد ذلك جاءت سيارة تُطلق بوقها دون انقطاع، وكان بها الأب ورجل آخر لا يعرفه باني. قادا السيارة لأقرب مسافة ممكنة من الحريق، وكانت النيران قد ابتلعت منزل آل واتكينز منذ فترةٍ طويلة. أوقفا السيارة ونزلا منها، وطلب الأب من باني أن يأخذ السيارة إلى مكانٍ آمن، وألَّا يقترب منه أو من الرجل الآخر الذي يحمل الديناميت؛ كانا سيتجهان إلى البئر بحذرٍ شديد. سمع باني الأب يطلب من الرجل الآخر أن يتقدم ببطء؛ فهما لن يخاطرا بحياتهما لمجرد إنقاذ بضعة براميل من النفط.

عندما عاد باني إلى البئر مرةً أخرى، كان الأب والرجل هناك بالفعل، وكان أفراد الطاقم يضعون الديناميت. كان لديهم ما يشبه البطارية الكهربائية ليُفجِّروه بها، وبعد وقتٍ قليل أصبحوا جاهزين، وتراجَع الجميع إلى الوراء، ودفَع الرجل الغريب مقبضًا لأسفل، وصدرَت جلبة واندفعَت ألسنة اللهب من الحفرة، وتوقفَت نافورة النفط التي كانت تندفع من البئر على الفور؛ تمامًا كما لو كنتَ أوقفتَ خرطومَ الحديقة بوضع إصبعك على فُوَّهته! انهار برج النفط، بعدما اندفع وانفجر عدة مرات، وكانت تلك هي النهاية. استمرَّت النيران في التدفق لأسفل الغدير، وكان الحريق سيستغرق وقتًا طويلًا لينطفئ، لكن الجزء الرئيسي من العرض كان قد انتهى.

لم يُصَب أحد بأذًى؛ لا أحد سوى باني، الذي وقف بالقرب من حافة الوهج الأحمر، مُحدِّقًا فيما تبقَّى من برج الحفر المهيب، والأسس المتفحمة للاستراحة التي أسهم في بنائها، وجميع آماله المحطمة. لو كان الفتى أصغر سنًّا بقليل، لانهمرَت الدموع من عينَيه. اقترب منه الأب ولاحظ وجهه وخمَّن السبب، وبدأ يضحك. «ما الأمر يا بني؟ ألَا تدرك أنك حصَلتَ على نفطك؟»

الغريب في الأمر أن هذه الفكرة لم تكن قد خطرَت ببال باني حتى تلك اللحظة! حدَّق في والده، مندهشًا لدرجة أن الأخير وضع ذراعه حول الصبي وعانقه. «ابتهِج يا بني! هذا مجرَّد حادث، وليس بالأمر الجلَل. فأنت مليونير، وتملك عشراتِ أضعافِ ما ضاع في الحريق.»

قال باني: «يا إلهي! هل هذا صحيح حقًّا؟»

ردد الأب متسائلًا: «صحيح؟ عجبًا، يا فتى، لدينا محيط من النفط تحت هذه الأراضي التي نمتلكها كلها، ولا يمكن لأي شخصٍ سوانا الاقتراب منها! فلماذا تقلق بشأن هذه البئر الصغيرة.»

«لكن يا أبي، لقد عملنا بجد!»

ضحك الأب مرةً أخرى. وقال: «انسَ الأمر يا بني! سنحفرها مرةً أخرى، أو نحفر بئرًا جديدةً في لمح البصر. كانت هذه مجرد نارٍ صغيرة من أجل عيد الميلاد؛ للاحتفال بانضمامنا للتجار الكبار!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤