الفصل الثالث

نقد المذهب المادي

(١٦) أربعة مواقف مادية أو فيزيائية١

تُسَلِّم ثلاثة من الآراء الأربعة التي سأصنفها هنا على أنها «مادية» (نسبة للمذهب المادي) materialist أو «فيزيائية» physicalist (نسبة للمذهب الفيزيائي)؛ تُسلِّم بوجود العمليات العقلية، وبخاصة بوجود الوعي، ولكن أربعتها جميعًا تقر بأن العالم الفيزيائي — ما أسميه «العالم ١» — مكتفٍ بذاته أو «مغلق». وأعني بذلك أن العمليات الفيزيائية يمكن تفسيرها وفهمها، ويجب تفسيرها وفهمها، كليًّا في حدودِ نظرياتٍ فيزيائية.

وأنا أسمي هذا بمبدأ المذهب الفيزيائي في انغلاق العالم ١ الفيزيائي. إنه مبدأ حاسم الأهمية، وأنا أعتبره المبدأ المميز للمذهب الفيزيائي أو المادي.

وقد نوَّهتُ سابقًا بأننا مواجَهون بثنائية أو تعددية للوهلة الأولى، مع تفاعل بين العالم ١ والعالم ٢. وقد نوهتُ، فضلًا عن ذلك، بأنه عن طريق توسُّط العالم ٢ يمكن للعالم ٣ أن يؤثر على العالم ١. وعلى خلاف ذلك فإن المبدأ الفيزيائي في انغلاق العالم ١ إما يقرر أنه ليس ثمة غير العالم ١ أو يتضمن أنه إن كان ثمة شيء من قبيل العالم ٢ أو العالم ٣ فإنه لا يمكنه التأثير على العالم ١: فالعالم ١ مكتف بذاته أو مغلق. هذا الموقف مُقنِع في الصميم. ومعظم علماء الفيزياء قمينون أن يقبلوه دون تساؤل. ولكنْ هل هو حق؟ وهل بوسعنا إذا قبلناه أن نقدم تفسيرًا بديلًا وافيًا لثنائيتنا المبدئية؟ وفي هذا الفصل سأشير بأن النظريات التي أنتجها الماديون اليوم غير وافية، وأن ليس هناك ما يدعونا إلى أن نرفض وجهة نظرنا المبدئية، تلك الوجهة التي لا تتسق مع مبدأ المذهب الفيزيائي (وقد أضيف أن انفتاح العالم الفيزيائي، في رأيي، لازمٌ لنا لكي نفسِّر، لا أن ننكر، الحرية الإنسانية. انظر كتابي 1973a).

في هذا القسم التمهيدي سأميز المواقف المادية أو الفيزيائية الأربعة التالية:

  • (١)
    المادية الجذرية أو المذهب الفيزيائي الجذري، أو السلوكية الجذرية: وهي تلك الوجهة من الرأي القائلة بأن العمليات الواعية أو العمليات العقلية لا وجود لها؛ أن وجودها يمكن أن يُنكَر (يُجحَد) (على حد تعبير كواين W. V. Quine).
    لا أظن أن كثيرًا من الماديين قد اتخذوا هذا الرأي في الماضي (انظر قسم ٥٦ لاحقًا)، لأنه يقف في تناقض صارخ مع ما يبدو لمعظمنا كوقائع لا يمكن إنكارها، مثل الألم والمعاناة (الذاتيين)، ويحاول في النهاية أن يثبت عدم وجود هذه الوقائع؛ فالمذاهب الكلاسيكية الكبرى للمادية، من الماديين اليونانيين الأوائل إلى هوبز ولامتري ليست «جذرية» بمعنى إنكار وجود الوعي أو العمليات العقلية. ولا «المادية الديالكتيكية» الخاصة بماركس ولينين «جذرية» بهذا المعنى. ولا المذهب السلوكي لمعظم علماء النفس السلوكيين.٢
    ورغم ذلك فإن ما أسميه بالمادية الجذرية (أو المذهب الفيزيائي الجذري أو السلوكية الجذرية) هو موقف مهم لا ينبغي تجاهله. أولًا لأنه متسق في ذاته. وثانيًا لأنه يقدم حلًا بسيطًا جدًّا لمشكلة العقل-الجسم: فمن الواضح أن المشكلة تتبدد إذا لم يكن ثمة عقل، بل جسم فحسب٣ (تتبدد المشكلة أيضًا، بطبيعة الحال، إذا تبنينا مذهبًا روحيًّا أو مثاليًّا جذريًّا، مثل «ظاهرية» phenomenalism باركلي أو ماخ، التي تنكر وجود المادة). ثالثًا لأنه في ضوء نظرية التطور فإن المادة، وبخاصة العمليات الكيميائية، وُجِدت قبل أن توجد العمليات العقلية. تشير النظريات الراهنة إلى أن تطور الجسم ونموه يأتيان قبل تطور العقل ونموه، وأنهما هما أساس تطور العقل ونموه. وما دام ذلك كذلك فمن المفهوم أننا تحت تأثير العلم المعاصر، عُرضة لأن نصبح من أصحاب المذهب الفيزيائي الجذري إذا كنا شديدي الميل إلى الواحدية والبساطة، ولا نرغب في قبول نظرة ثنائية أو تعددية إلى الأشياء.

    وإنما لأسباب مثل هذه يجد المذهب الفيزيائي الجذري أو السلوكية الجذرية قبولًا من جانب بعض الفلاسفة البارزين من أمثال كواين (١٩٦٠م، ص٢٦٤؛ ١٩٧٥م، ص٩٣ وما بعدها)؛ وكثيرًا ما يبشِّر آخرون بأن شيئًا شبيهًا جدًّا بالمذهب الفيزيائي الجذري أو السلوكية الجذرية سوف يفرض نفسه في النهاية، ربما بسبب نتائج العلم أو نتائج التحليل الفلسفي. وإن إشارات من هذا القبيل، وإن لم تسلم دائمًا من الغموض، ليمكن العثور عليها مثلًا في أعمال رايل (١٩٤٩، ١٩٥٠م) أو فتجنشتين (١٩٥٣م)؛ أو هيلاري بتنام (١٩٦٠م) أو سمارت (١٩٦٣م). والحق أن بوسع المرء أن يقول إنه في زمن كتابة (هذا العمل) فإن المادية الجذرية أو السلوكية الجذرية يبدو أنها الرأي الأكثر رواجًا فيما يتعلق بمشكلة العقل-الجسم بين الجيل الأصغر من طلاب الفلسفة. وهكذا ينبغي أن تناقَش.

    سيتخذ نقدي للمادية الجذرية أو السلوكية الجذرية ثلاثة خطوط: أولًا سأحاجُّ بأنه بإنكار وجود الوعي فإن هذه النظرة إلى العالم تبسِّط الكوزمولوجيا، غير أنها تفعل ذلك بتغافل، وليس بحل، أعظم ألغازها وأكثرها إثارة. سأحاج فضلًا عن ذلك بأن المبدأ الذي يتبناه الكثيرون على أنه «علمي»، والذي يحبذ السلوكية الجذرية، إنما ينجم عن سوء فهمٍ لمنهج العلوم الطبيعية. وأخيرًا سأحاج بأن هذه النظرة زائفة، وأنها مفنَّدة بالتجربة (وإنْ يكن من الممكن بالطبع تجنب التفنيد بصفة دائمة)٤،٥.
  • (٢)

    جميع الآراء الأخرى التي أصنفها هنا على أنها مادية تسلِّم بوجود العمليات العقلية وبخاصة العمليات الواعية: أي تسلِّم بما أسميه العالم ٢. غير أنها تقبل المبدأ الأساسي للمذهب الفيزيائي، أي انغلاق العالم ١.

    يعود الرأي الأقدم بين هذه الآراء، مذهب شمول النفس، إلى الفلاسفة الأوائل قبل السقراطيين Presocratics وإلى كمبانيللا Campanella. وقد تم عرضه بتوسع في كتاب «الأخلاق» لسبينوزا، وكتاب «المونادولوجيا» لليبنتز.
    ومذهب شمول النفس هو الرأي القائل بأن لكل مادة جانبًا داخليًّا هو «كيفية» شبيهة بالروح أو شبيهة بالوعي. وعليه فإن المادة والعقل، وفقًا لمذهب شمول النفس، يمضيان «متوازيَين» مثل الوجهين الخارجي والداخلي لقشرة بيضة (مذهب التوازي الاسبينوزي). ففي المادة غير الحية قد لا يكون الوجه الداخلي واعيًا: قد يوصف السلف شبه الروحي للوعي بأنه «قبْل-نفسي» pre-psychical أو proto-psychical. ومع اندماج الذرات في جزيئات عملاقة ومادة حية تنبثق نواتج شبيهة بالذاكرة؛ ومع الحيوانات العليا ينبثق الوعي.
    كان لمذهب شمول النفس أنصار في بريطانيا، ونخص بالذكر الرياضي والفيلسوف وليم كينجدون كليفورد (١٨٧٩، ١٨٨٦م). يذهب كليفورد (غيرَ بعيد عن مذهب التوازي عند ليبنتز) إلى أن الأشياء في ذاتها هي خامة عقلية (قبل-نفسية أو حتى نفسية)، وإن بدت مادية إذ تُلاحَظ من خارج.٦

    وشمول النفس يشارك الماديةَ الجذرية بساطةً معينة في وجهة النظر. فالعالم في كلتا الحالتين متجانس وواحدي. ويمكن تمامًا أن يتخذ كلاهما شعار «لا جديد، في الحقيقة، تحت الشمس»، الذي يعبر عن أسلوب حياة مريح وإن يكن غيرَ مثير من الوجهة الفكرية. على أن كل شيء في العالم سيبدو في غاية الانسجام فور تبني وجهة النظر المادية الجذرية أو وجهة النظر الشمولية النفسية.

  • (٣)
    يمكن تفسير مذهب الظاهرة المصاحبة (الثانوية) epiphenomenalism على أنه تعديل لمذهب شمول النفس، حيث يُحذَف عنصر الشمول (pan) ويُقصر «مذهب النفس» على تلك الأشياء الحية التي يبدو أن لها عقلًا. وهو، شأنه شأن مذهب شمول النفس، لون من مذهب التوازي، أي القول بأن العمليات العقلية تجري موازية لعمليات جسمية معينة؛ لأنهما الوجهان الداخلي والخارجي لكيان ثالث ما (غير معلوم).

    ورغم ذلك فقد تكون هناك أشكال من مذهب الظاهرة المصاحبة ليست من مذهب التوازي في شيء: إن ما أعده جوهريًّا في مذهب الظاهرة المصاحبة هو الدعوى بأن العمليات الجسمية وحدها هي ذات الصلة عِلِّيًّا بالعمليات الجسمية اللاحقة، في حين أن العمليات العقلية، وإن تكن موجودة، غيرُ ذات صلة عِلِّيًّا على الإطلاق.

  • (٤)
    تُعَد نظرية الهوية identity theory، أو نظرية الحالة المركزية، في الوقت الحالي هي الأوسع نفوذًا بين النظريات التي نشأت استجابةً لمشكلة العقل-الجسم. ويمكن أن نعدها تحويرًا لكلٍّ من نظرية شمول النفس ونظرية الظاهرة المصاحبة. ويمكن النظر إليها، شأنها في ذلك شأن نظرية الظاهرة المصاحبة، على أنها مذهب شمول النفس بدون عنصر الشمول (pan). غير أنها بخلاف مذهب الظاهرة المصاحبة تُولِي الوقائعَ العقليةَ أهميةً وتعزو إليها تأثيرًا عِلِّيًّا. تذهب هذه النظرية إلى أن هناك ضربًا ما من «الهوية» بين العمليات العقلية وبين عملياتٍ دماغية معينة: ليست هوية بالمعنى المنطقي ولكنها تبقى هوية من قبيل تلك الهوية التي بين «نجم المساء» و«نجم الصباح» اللذين هما اسمان بديلان لنفس الكوكب الواحد: «الزُّهَرة»؛ وإن كانا أيضًا يشيران إلى تجليين مختلفين لكوكب الزهرة. وفقًا لأحد أشكال مذهب الهوية، ويُعزَى لشليك وفايجل، تُعتبر العمليات العقلية (مثلما اعتبرها ليبنتز) هي الأشياء في ذاتها، والتي تُعرَف بالاتصال المباشر، من الداخل، على حين أن نظرياتنا عن العمليات الدماغية — تلك العمليات التي لا نعرفها إلا بالوصف النظري — يتفق أن تصف نفس الأشياء من الخارج. وعلى خلاف صاحب نظرية الظاهرة المصاحبة فإن بوسع صاحب مذهب الهوية أن يقول بأن العمليات العقلية تتفاعل مع العمليات الجسمية، لأن العمليات العقلية هي، ببساطة، عمليات جسمية، أو، بدقة أكثر، أنواع معينة من العمليات الدماغية.

وقد شرحتُ باختصار، في قسم ١٠ سابقًا، المثال الخاص بزيارة لطبيب الأسنان، لكي أوضح الطريقة التي تشارك بها الحالات الجسمية (العالم ١)، ودرايتنا الواعية (العالم ٢)، والخطط والمؤسسات (العالم ٣)، تشارك جميعًا في مثل هذه الأفعال. وقد تتضح سمة نظرياتنا المادية الأربع من خلال الطريقة التي تفسر بها مثل هذا الحدث. تشتمل هذه الحالة على تضرر ضرس لنا، وإصابتنا بألم الأسنان، واتصالنا بطبيب الأسنان لحجز موعد، وزيارتنا من ثم له لتلقي العلاج.

  • (١)
    تفسير المادية الجذرية:٧ ثمة عمليات في سِني تؤدي إلى عمليات في جهازي العصبي. كل ما يجري يتكون من عمليات جسمية محصورة في العالم ١ (بما فيها سلوكي اللفظي، أي نطقي بكلمات على الهاتف).
  • (٢)

    تفسير مذهب شمول النفس: هناك نفس العمليات الجسمية كما في (١)، غير أن هناك أيضًا وجهًا آخر للقصة. ثمة رواية «موازية» (قد يفسرها مختلف الأشخاص من أنصار المذهب على أنحاء مختلفة) تقدم القصة كما نَخبُرُها. تنبِئنا نظريةُ شمول النفس ليس فقط أن خبرتنا «تناظر» بشكلٍ ما التفسير الجسمي المقدم في (١)، بل أن الأشياء المتضمَّنة التي تبدو جسمية خالصة (مثل التليفون) لها أيضًا «وجه داخلي» مماثل بدرجة أو بأخرى لوعينا الداخلي نفسه.

  • (٣)

    تفسير مذهب الظاهرة المصاحبة (الثانوية): هناك نفس العمليات الجسمية كما في (١)، وبقية القصة غير بعيدة عن (٢) ولكنها تختلف عن (٢) فيما يلي: (أ) الأشياء «الحية» فقط هي ما يملك خبرات «داخلية» أو ذاتية. (ب) في حين تشير (٢) أن لدينا روايتين مختلفتين ولكنهما صحيحتان بنفس القدر، فإن نصير مذهب الظاهرة المصاحبة لا يعطي فقط أولوية للرواية الجسمية بل يؤكد أن الخبرات الذاتية فائضة عِلِّيًّا: فإحساسي بالألم لا يلعب أي دور عِلِّي في القصة على الإطلاق؛ إنه لا يحرك فِعلي الذي أقوم به.

  • (٤)

    نظرية الهوية: نفس ما في (١) ولكن هذه المرة نحن نميز بين تلك العمليات الخاصة بالعالم ١ التي ليست متماهية مع الخبرات الواعية (العالم ١ج: حيث الرمز الدليلي السفلي يرمز إلى «الجسمي البحت») وبين تلك العمليات الجسمية المتماهية مع العمليات المختبَرة أو الواعية (العالم ١ع: حيث الرمز الدليلي السفلي ع يرمز إلى «العقلي»). يمكن لِشَطرَي العالم ١ (أي العالمين الفرعيين ١ج، ١ع) بطبيعة الحال أن يتفاعلا. وعليه فإن ألمي (العالم ١ع) يفعل في مخزون ذاكرتي، وهذا يجعلني أبحث عن رقم الهاتف. كل شيء يحدث كما في التحليل التفاعلي (وهذا فيما أعتقد هو ما يجعل هذا الرأي جذابًا)؛ فقط عالمي ٢ (متضمنًا معرفتي الذاتية) هو ما يتماهى مع العالم ١ع، أي مع جزء من العالم ١، بينما يتماهى العالم ٣ مع أجزاء أخرى للعالم ١: مع الأجهزة والأدوات من مثل دليل التليفونات أو التليفون (أو ربما بعمليات دماغية: إذ إن المضامين المعرفية المجردة، التي هي لُبُّ لُبابِ العالم ٣ عندي، لا وجود لها عند صاحب نظرية الهوية).

(١٧) المادية والعالم ٣ المستقل

كيف يبدو العالم ٣ من وجهة نظرٍ مادية؟ من الواضح أن الوجود الظاهر للطائرات والمطارات والدراجات والكتب والمباني والسيارات والحواسيب والجرامافونات والمحاضرات والمخطوطات واللوحات والمنحوتات والتليفونات؛ لا يمثل مشكلة بالنسبة لأي شكل من أشكال المذهب الفيزيائي أو المادي. فإذا كانت هذه الأشياء عند صاحب مذهب الكثرة هي المثولات المادية، أو التجسدات، لأشياء العالم ٣ فإنها عند المادي هي، ببساطة، أجزاء العالم ١.

ولكن ماذا عن العلاقات المنطقية الموضوعية التي تقوم بين النظريات (سواء كانت مدونةً أم لا)، من قبيل عدم التوافق incompatibility، قابلية الاستنباط المتبادلة mutual deducibility، التداخل الجزئي partial overlapping … إلخ. يستبدل المادي الجذري بأشياء العالم ٢ (الخبرات الذاتية) عملياتٍ دماغية. وتتمتع بأهمية خاصة بين هذه الأشياء ميولُنا إلى السلوك اللفظي: ميولنا إلى أن نقبل أو نرفض، نؤيد أو نفند، أو مجرد أن نتفكر، أن نقلِّب الرأي في الإيجابيات والسلبيات. ومثل معظم الذين يقبلون موضوعات العالم ٢ (العقليين the mentalists) فإن الماديين يفسرون عادةً محتويات العالم ٣ كما لو كانت «أفكارًا في عقولنا»: على أن الماديين الجذريين يحاولون، فضلًا عن ذلك، أن يفسروا «الأفكار التي في عقولنا» — وبالتالي موضوعات العالم ٣ أيضًا — على أنها ميول إلى السلوك اللفظي ذات أساسٍ دماغي.

ومع ذلك فلا العقلي ولا المادي يمكن بهذه الطريقة أن يكون منصفًا لموضوعات العالم ٣، وبخاصة لمضامين النظريات وعلاقاتها المنطقية الموضوعية.

ليست موضوعات العالم ٣ بحالٍ «أفكارًا في عقولنا»، ولا هي ميول أدمغتنا إلى السلوك اللفظي. ولا هو بمسعِفٍ للمرء أن يضيف إلى هذه الميول تجسدات العالم ٣ كما ذُكِرت في الفقرة الأولى من هذا القسم. فلا شيء من هذا يضارع السمة المجردة لموضوعات العالم ٣، وبخاصة العلاقات المنطقية القائمة بينها.٨
وكمثالٍ على ذلك فقد كان فريجه قد كتب Grundgesetze وطبع جزءًا منه عندما استنتج من خطابٍ كتبه برتراند رسل أنه ينطوي في أساسه على تناقض ذاتي. هذا التناقض الذاتي كان هناك، بشكلٍ موضوعي، طيلةَ سنوات. لم يكن فريجه قد لاحظه، أي لم يكن «في عقله». وحدَه رَسِل لاحظ المشكلة (فيما يتصل بمخطوطٍ مختلف تمامًا) في وقتٍ كان فيه مخطوط فريجه مكتملًا. هكذا كانت قائمةً هناك طيلةَ سنواتٍ نظرية لفريجه (وأخرى مماثلة أحدثُ عهدًا لرسل) كانت من الوجهة الموضوعية غير متسقة، دون أن يملك أحد أيَّ فكرة عن هذه الواقعة، أو دون أن يكون لأحدٍ حالة دماغية تميل به إلى أن يوافق على فكرة أن «هذا المخطوط يحتوي على نظرية غير متسقة».

جملة القول أن موضوعات العالم ٣ وخواصها وعلاقاتها لا يمكن أن تُرَد (تُختزَل) إلى موضوعات العالم ٢؛ ولا هو من الممكن أن تُرد إلى حالات الدماغ أو ميوله؛ لا يمكن ذلك حتى لو حُمِلنا على أن نسلِّم بأن جميع الحالات والعمليات العقلية يمكن ردها إلى حالات وعمليات دماغية. هكذا الأمر رغم واقعة أن بوسعنا أن نعتبر العالم ٣ هو نتاج العقول البشرية.

لم يبتكر رسل عدمَ الاتساق أو ينتجْه، بل اكتشفَه (لقد ابتكر أو أنتج طريقة لإثبات أو البرهنة على أن عدم الاتساق كان قائمًا). لو لم تكن نظرية فريجه غير متسقة على نحو موضوعي لما كان أمكنه أن يطبق عليها برهان رسل لعدم الاتساق، ولما كان أقنع نفسه ببطلانها. وعليه فإن حالةً لعقلِ فريجه (وحالة أيضًا لدماغه من غير شك) كانت (جزئيًّا) نتيجة للواقعة الموضوعية … واقعة أن هذه النظرية غير متسقة: لقد أزعجه بشدة وصدمه اكتشافُه هذه الحقيقةَ. وهذا بدوره أدى به إلى أن يكتب: «علم الحساب يترنح.»٩ هكذا فإن هناك تفاعلًا بين (أ) الحدث الفيزيقي، أو الفيزيقي جزئيًّا، بتلقِّي فريجه خطابَ رسل، و(ب) الواقعة الموضوعية، غير الملاحَظة حتى حينه، والمنتمية للعالم ٣، بأن هناك عدم اتساق في نظرية فريجه، و(ﺟ) الحدث الفيزيقي، أو الفيزيقي جزئيًّا، بكتابة فريجه لتعليقه عن حالة علم الحساب (العالم ٣).

تلك بعض الأسباب التي تفسر لماذا أعتقد أن العالم ١ ليس مغلقًا عِلِّيًّا، ولماذا أقرر أن هناك تفاعلًا (وإن يكن غير مباشر) بين العالم ١ والعالم ٣. إنه لَيبدو لي واضحًا أن هذا التفاعل تتوسطه أحداث العالم ٢ العقلية، بل الواعية جزئيًّا.

لا يَسَع صاحبَ المذهب الفيزيائي بالطبع أن يسلِّم بأيٍّ من ذلك.

أعتقد أن صاحب المذهب الفيزيائي يمتنع عليه أيضًا حل مشكلة أخرى: فليس بإمكانه أن يقدر الوظائف العليا للغة حق قدرها.

يتعلق هذا النقد للمذهب الفيزيائي بتحليل وظائف اللغة الذي أدخله معلمي كارل بولر Karl Bühler؛ فهو يميز بين ثلاث وظائف للغة: (١) الوظيفة التعبيرية. (٢) وظيفة الإشارة أو النشر. (٣) الوظيفة الوصفية (انظر بولر، ١٩١٨م؛ ١٩٣٤م، ص٢٨). لقد ناقشتُ نظرية بولر في مواضع متعددة،١٠ وقد أضفتُ لوظائفه الثلاث وظيفةً رابعة (٤) الوظيفة الجدلية argumentative. حسنٌ، لقد حاجَجْت في موضع آخر١١ بأن صاحب المذهب الفيزيائي لا يقدر على التعامل إلا مع الوظيفتين الأولى والثانية من هذه الوظائف. وكنتيجة لذلك فهو إذا واجهته الوظيفة الوصفية والوظيفة الجدلية للغة فلن يرى دائمًا إلا الوظيفتين الأوليَين (الحاضرتين أيضًا دائمًا)، ولهذه الرؤية القاصرة عواقبُ وخيمة.

ولكي نرى نقطة الخلاف فإن من الضروري أن نعرض باختصار لنظرية وظائف اللغة.

في تحليل بولر لفعل الكلام فإنه يفرِّق بين «المتكلِّم» (أو «المرسِل» كما يسميه بولر) وبين الشخص الذي يوجَّه إليه الكلام، أي «المستمع» (أو «المتلقِّي»). وفي حالات خاصة معينة (متنكِّسة degenerate) قد يكون المتلقي مفقودًا، أو قد يكون المتلقي هو المرسِل. تقوم الوظائف الأربعة التي نناقشها هنا (إذ إن هناك وظائف أخرى، كالأمر، والحض، والنصح. انظر أيضًا «المنطوقات الأدائية» عند جون أوستن ١٩٦٢م) تقوم على علاقات بين (أ) المرسِل، (ب) المتلقي، (ﺟ) أشياء أو حالات أو شئون أخرى قد تكون، في حالات متنكِّسة، متماهيةً مع (أ) أو (ب). وسأقدم مخططًا للوظائف تكون فيه الوظائف الدنيا موضوعةً أسفل والوظائف العليا موضوعة أعلى.

قد تثار التعليقات التالية على هذا المخطط:

  • (١)

    الوظيفة التعبيرية عبارة عن تعبير خارجي عن حالة داخلية، فحتى الأجهزة البسيطة من قبيل الترمومتر أو ضوء المرور «تعبر» عن حالاتها بهذا المعنى. ومع ذلك فليست الأدوات فقط بل الحيوانات أيضًا (وأحيانًا النباتات) تعبر عن حالتها الداخلية في سلوكها. وكذلك يفعل الإنسان بطبيعة الحال. الحق أن أي فعل نقوم به، وليس فقط استخدام اللغة، هو شكل من التعبير الذاتي.

  • (٢)
    الوظيفة الإشارية١٢ (يسميها بولر أيضًا «وظيفة النشر») تفترض مسبقًا الوظيفة التعبيرية، وهي إذن على مستوى أعلى. قد يخطِرنا الترمومتر أن الطقس بارد جدًّا. وضوء المرور جهاز إشاري (رغم أنه قد يمضي في العمل خلال أوقات قد لا توجد بها دائمًا سيارات بمقربة). والحيوانات، وبخاصة الطيور، تعطي إشارات خطر؛ وحتى النباتات تشير (للحشرات مثلًا)؛ وعندما يؤدي تعبيرنا الذاتي (سواء اللغوي أو غيره) إلى رد فعل، في حيوانٍ أو في إنسان، يمكننا أن نقول إنه أُخِذ مأخذ الإشارة.
  • (٣)

    الوظيفة الوصفية للغة تفترض مسبقًا الوظيفتين الأدنى. غير أن ما يميزها هو أنها، علاوة على التعبير والتواصل (اللذيْن قد يصبحان جانبين للموقف غير مهمين على الإطلاق)، تصنع عبارات يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة: تُدخَل معايير الصدق والكذب (يمكن أن نميز شطرًا أدنى للوظيفة الوصفية حيث الأوصاف الكاذبة خارجة عن قدرة الحيوان (النحل؟) على التجريد. وقد ينضوي المِرسام الحراري (الثرموجراف) هنا؛ لأنه يقول الحقيقة ما لم يتعطَّل).

  • (٤)

    الوظيفة الجدلية تضيف الحجة إلى الوظائف الثلاث الأدنى، مع قيمتَيها: الصواب والخطأ.

وبعد، فإن الوظيفتين (١) و(٢) موجودتان في اللغة البشرية دائمًا تقريبًا؛ ولكنهما، كقاعدة، غير مهمتين، على الأقل عندما تقارنان بالوظيفتين الوصفية والجدلية.

ورغم ذلك فحين ينظر الفيزيائي الجذري والسلوكي الجذري إلى تحليل اللغة البشرية فإنهما لا يستطيعان تجاوز الوظيفتين الأوليين (انظر كتابي: 1953a). سيحاول صاحب المذهب الفيزيائي أن يقدم تفسيرًا فيزيائيًّا — تفسيرًا عِلِّيًّا — للظواهر اللغوية. وهذا مكافئ لتفسير اللغة على أنها معبِّرة عن حالة المتكلِّم، ومن ثَم على أنها لا تملك إلا الوظيفة التعبيرية. أما السلوكي فسوف يعنيه أيضًا الجانب الاجتماعي للغة، ولكن بمعنى التأثير في سلوك الآخرين بالدرجة الأساس، أي «التواصل»، باستخدام كلمة شائعة؛ أي الطريقة التي يستجيب بها المتكلمون كلٌّ منهم «للسلوك اللفظي» للآخر. ويصل هذا إلى حد اعتبار اللغة تعبيرًا وتواصلًا.
غير أن عواقب هذا الموقف كارثية. فإذا اعتبرنا كل اللغة مجرد تعبير وتواصل، فإن المرء بذلك يغفل كل ما هو مميز للغة البشرية ومفرِّق لها عن لغة الحيوان: أي قدرتها على صنع عبارات صادقة وكاذبة، وإنتاج حجج صائبة وخاطئة. ولكن من شأن هذا بالضرورة أن يحجب عنا رؤية الفرق بين الدعاية، والترهيب القولي، والحجة العقلانية.١٣

وقد نذكر أيضًا أن الانفتاح المميز للغة البشرية، أي القدرة على تنوع لا نهايةَ له من الاستجابات لأي موقفٍ معطًى، تلك القدرة التي لفت انتباهنا إليها بقوة نوام تشومسكي بصفة خاصة، يتعلق بالوظيفة الوصفية للغة. أما صورة اللغة — واكتساب اللغة — كما يقدمها فلاسفة ذوو ميول سلوكية مثل كواين فتبدو في الحقيقة صورة الوظيفة الإشارية للغة. ويتوقف هذا بطبعه على الموقف السائد. وكما بَيَّنَ تشومسكي (١٩٦٩م) فإن الوصف الذي يقدمه السلوكي لا ينظر بعين الاعتبار لحقيقة أن العبارة الوصفية قد تكون مستقلة كثيرًا عن الموقف الذي تُستخدَم فيه.

(١٨) المادية الجذرية والسلوكية الجذرية

من المؤكد أن المادية الجذرية أو المذهب الفيزيائي الجذري هو موقف متسق ذاتيًّا. فهو وجهة نظرٍ إلى العالَم كانت، على حد علمنا، وافيةً يومًا ما، أعني قبل ظهور الحياة والوعي.

إن ما يزكي المذهب المادي الجذري أو المذهب الفيزيائي الجذري هو بالطبع أنه يقدم لنا صيغةً بسيطة لعالَمٍ بسيط؛ وهو أمر يبدو جذابًا، بالضبط لأننا في مجال العلم نبحث عن النظريات البسيطة.١٤ غير أنني أعتقد أن من المهم أن نلاحظ أن أمامنا طريقَين مختلفَين يمكننا بهما أن نبحث عن البساطة؛ يمكن أن نطلق عليهما باختصار «الرد الفلسفي» philosophical reduction و«الرد العلمي» scientific reduction:١٥ يتميز الأول بمحاولة تبسيط رؤيتنا للعالم؛ ويتميز الثاني بمحاولة تقديم نظريات جريئة وقابلة للاختبار وتتمتع بقدرة تفسيرية عالية.١٦ وباعتقادي أن الثاني بالغ النفع والأهمية، في حين لا قيمة للأول ما لم تكن لدينا أسباب وجيهة لافتراض أنه يناظر الوقائع الكائنة عن العالم.
الحق أن طلب البساطة بمعنى الرد الفلسفي لا العلمي قد يكون مُوبِقًا. ذلك أنه حتى في محاولة الرد العلمي لا بد لنا أولًا أن نحيط إحاطة كاملة بالمشكلة المطلوب حلها؛ ولذا فإن من المهم للغاية ألا يصرفنا التحليل الفلسفي عن المشكلات الشائقة باعتبارها غيرَ مشكلة. فإذا كان هناك، على سبيل المثال، أكثر من عاملٍ واحد مسئول عن أثرٍ ما فمن المهم ألا نصادر على الحكم العلمي ونحتله بوضع اليد؛ إذ إن هناك دائمًا خطرًا قائمًا هو أن نرفض الاعتراف بأية أفكار غير تلك التي اتُّفِق أنها بحوزتنا، متغاضين عن المشكلة، منكرين وجودها أو مقللين من حجمها. ويزداد الخطر إذا ما حاولنا تسوية المسألة مقدمًا عن طريق الرد الفلسفي؛ فالرد الفلسفي يُغَشِّي أبصارَنا أيضًا عن أهمية الرد العلمي.١٧
إنما في ضوء هذه الاعتبارات ينبغي، في رأيي، أن ننظر إلى المقاربة الفيزيائية الجذرية لمشكلة الوعي؛ فالمشكلة ليست فقط أن ظواهر الوعي تطرح علينا شيئًا يبدو مختلفًا تمامًا عما عسانا أن نجده، بنظرتنا الراهنة، في العالم الفيزيائي،١٨ بل هناك أيضًا تلك التغيُّرات اللافتة والعجيبة، من وجهة نظر فيزيائية، التي اعترت البيئة المادية للإنسان من جراء فعله الواعي والغرضي كما يبدو. وهو أمر لا يمكن التغاضي عنه، ومشكلة لا يمكن إنكارها على نحو دوجماطيقي.
بل إنني لَأَزعُم أن اللغز الأكبر في الكوزمولوجيا قد لا يكون في الانفجار العظيم (big bang) الأول، ولا مشكلة لماذا كان وجودٌ ولم يكن عدم (فمن الجائز تمامًا أن تتكشف هذه المشكلات عن أشباه مشكلات)، بل في أن العالم خلَّاق بمعنى ما: إذ خلق الحياة، ومن الحياة خلق العقل — وعينا نحن البشر — الذي ينير العالم، والذي هو خالقٌ بدوره. ولعل من أجلِّ النقاط التي ضَمَّنها هربرت فايجل إضافتَه الملحقة (١٩٦٧م) بمقاله «العقلي والجسمي» The Mental and the Physical تلك التي يروي فيها عن أينشتين قوله، في محادثة معه، بأنه «لو لم يكن ثمة هذا الضياء الداخلي لكان العالم مجرد كومة من النفاية».١٩ وينبئنا فايجل أن هذا هو أحد الأسباب التي تجعله يَعْدِل عن المذهب الفيزيائي الجذري (كما أُسميه) ويقبل نظرية الهوية identity theory، التي تعترف بواقعية العمليات العقلية ولا سيما عمليات الوعي.
ومن الجدير بالاعتبار أيضًا أنه في حين أن مطلبنا في العلم هو البساطة، فإن من غير المحقَّق ما إذا كان العالمُ نفسُه هو بتلك البساطة التي يظنها بعضُ الفلاسفة.٢٠ أين ذهبت البساطة التي كانت تتحلي بها النظرية القديمة عن المادة (نظرية ديكارت أو نيوتن أو حتى بوسكوفيتش)؟ لقد انتهت؛ ذلك أنها اصطدمت مع الوقائع. والمصير نفسه قد لحق بالنظرية الكهربية عن المادة، والتي بدا طوال عشرين أو ثلاثين عامًا أنها تعطي أملًا في بساطة أكبر حتى من سابقتها. وها هي نظريتنا الحالية في المادة، ميكانيكا الكوانتم، يتكشف أنها أقل بساطة مما كان يأمل المرء (وبخاصة حين ننظر إليها في ضوء التجربة الفكرية لأينشتين/بودولسكي/روزن، وفي ضوء نتائج ج. س. بل، س. ج. فريدمان، ر. أ. هولت). ومن الواضح أيضًا أنها غير مكتملة، فعلى الرغم من النتيجة التي وصل إليها ديراك والتي قد تُفَسَّر على أنها التنبؤ بمضادات الجسيمات، فمن الصعب أن نقول بأن نظرية الكوانتم قد أدت إلى التنبؤ بشتى الجسيمات الأولية الجديدة التي اكتُشِفَت حديثًا أو إلى تفسيرها. من الصعب إذن أن نسلِّم بأن مطلب البساطة هو مطلب حاسم حتى داخل الفيزياء. علينا على وجه الخصوص ألا نحرم أنفسنا من المشكلات الشائقة والمرهقة — والتي يبدو أنها تشير إلى أن نظرياتنا الأثيرة غير صحيحة أو غير مكتملة — بأن نقنع أنفسنا بأن العالم حقيق بأن يكون أكثر بساطة لو انعدمت هذه المشكلات. غير أن هذا هو بالضبط ما يفعله الماديون المحدثون فيما يبدو لي.٢١
ولَعلِّي كنتُ حرِيًّا أن أعتبر المذهب الفيزيائي الجذري نظريةً شافية فكريًّا لو أنها كانت متوافقة (compatible) مع الوقائع. ولكنها غير متوافقة مع الوقائع. كما أن الوقائع، وهي ما هي من التعقد وصعوبة الاستيعاب، مرهِقة فكريًّا. من هنا يبدو لي أن الخيار الحقيقي إنما هو بين الاستسهال الفكري (ولنسمِّه التراخي والبَطَر) من جهة، وبين الكدح والجَهد من جهة أخرى.
تستمد السلوكية الجذرية، التي يتعين على الفيزيائي الجذري الاستناد إليها لكي يفسر لنفسه نشاطاته النظرية «كسلوكٍ لفظي»، تستمد معظم جاذبيتها من سوء فهم لمشكلة منهجية. يوجِب السلوكي، عن حق، أن تكون أيُّ نظرية علمية، وبالتالي نظريات علم النفس أيضًا، قابلةً للاختبار بتجارب يمكن تكرارها، أو على الأقل بعبارات ملاحظة قابلة للاختبار بين ذاتيًّا: بعبارات حول سلوكٍ قابل للملاحظة، والتي تشمل السلوك اللفظي في حالة السيكولوجيا البشرية.٢٢

ولكن هذا المبدأ الهام لا يشير إلا إلى «عبارات الاختبار» الخاصة بعلمٍ من العلوم. ومثلما في الفيزياء نُدخِل الكيانات النظرية — الإلكترونات والجسيمات الأخرى، وحقول القُوى … إلخ — من أجل أن نفسر عبارات ملاحظتنا (عن صور الأحداث في حجرات الفقاقيع على سبيل المثال)، فإن بوسعنا في علم النفس أن نُدخِل الأحداث والعمليات العقلية الشعورية واللاشعورية إذا كانت هذه تعيننا في تفسير السلوك البشري، كالسلوك اللفظي مثلًا. في هذه الحالة فإن افتراض وجود عقلٍ وخبرات واعية ذاتية في كل فرد بشري سويٍّ هو نظرية سيكولوجية تفسيرية تُضارع تقريبًا افتراض وجود أجسامٍ مادية ثابتة نسبيًّا في الفيزياء. في كلتا الحالتين فإن الكيانات النظرية لا تُدخَل كشيءٍ نهائي؛ كالجواهر بالمعنى التقليدي، كلتاهما تخلق أقاليم شاسعة من المشكلات غير المحلولة، وكذلك يفعل تفاعلهما. غير أنه في كلتا الحالتين فإن نظرياتنا قابلة للاختبار على نحو جيد: في الفيزياء بواسطة تجارب الميكانيكا؛ وفي علم النفس بواسطة تجارب معينة تُفضِي إلى تقارير لفظية قابلة للتكرار (وبالتالي إلى «سلوك لفظي» قابل للتكرار). وحيث إن كل المجَرَّب عليهم (أو كلهم تقريبًا) يستجيبون في هذه التجارب بنفس التقارير بشكلٍ ملحوظ — تقارير عما يَخْبرونه ذاتيًّا في الموقف التجريبي — فإن نظرية امتلاكهم هذه الخبرات الذاتية تعد مختبَرة جيدًا.

سأصف هنا تجربةً بسيطةً يمكن لكل قارئ أن يُجريها بنفسه، ويجريها مع أيٍّ من أصدقائه. وهي مأخوذة من عمل السيكولوجي التجريبي الدنمركي العظيم إدجار روبين (١٩٥٠م، ص٣٦٦ وما بعدها). وأستخدم الخدع البصرية لأن ها هنا يصبح طابع الخبرات الذاتية واضحًا جدًّا.

الشكلان التاليان مأخوذان من روبين مع تغييرات طفيفة جدًّا.

fig2
شكل ٣-١
من شكل ٣-١ سنرى أنه بما أن AB وCD وEF متوازية ومتساوية البُعد، فإن الخط AF ينقسم عند G إلى نصفين متساويين؛ بحيث إن AG = GF.
نشرح كلَّ هذا للمجرَّب عليه بحيث لا يكون لديه داعٍ لأن يقيس المسافتين AG وGF لكي يتأكد من أنهما متساويتان.
fig3
شكل ٣-٢

والآن نوجه إليه السؤالين الآتيين:

  • (١)
    انظر شكل ٣-٢. أنت تعلم أن AG = GF بالنظر إلى البرهان الموضح بشكل ٣-١.

    هل توافق؟

    ثم ننتظر الجواب.

  • (٢)
    هل AG يبدو لك مساويًا ﻟ GF؟

    وننتظر الجواب مرة ثانية.

السؤال (٢) سؤال حاسم. والجواب «لا» الذي أجاب به كل المجرَّب عليهم (أو كلهم تقريبًا) يمكن تفسيره للتو بالحدس الافتراضي القائل بأن الخبرة البصرية الذاتية لكل مجرَّب عليه تحيد حيودًا منظمًا عن حقيقة الأمر الموضوعية التي نعرفها جميعًا (ويمكن أن نبرهن عليها). يؤسس هذا اختبارًا لوجود الخبرة الذاتية؛ اختبارًا موضوعيًّا وسلوكيًّا وقابلًا للتكرار بسهولة (بالطبع، ما دمنا نأخذ تقارير المجرَّب عليهم مأخذ الجد؛ ولكن لايزال بوسع السلوكي الجذري أن يعيد تفسير أجوبتهم اللفظية تفسيرًا تحايليًّا٢٣  ad hoc: ما من تكذيبٍ إلا ويمكن أن يتفاداه مَن ليس مهيَّئًا لأن يتعلم من الخبرة).
ولقد كان بإمكاننا أن نقتصر على الشكل ٣-٣ (ما يُسمَّى خداع ساندرز)، ونقيس AG وGB، بل ربما يكون هذا أبلغَ أثرًا.
fig4
شكل ٣-٣
غير أن القياسات قد تترك بعض الشك: فقد تُحدِث الأخطاءُ الصغيرة فارقًا وقد لا تكون سهلة الاكتشاف. ومن جهة أخرى فمن الواضح أن الخطوط الرأسية الثلاثة في شكل ٣-١ وشكل ٣-٢ متوازية ومتساوية البعد. فيبقى سؤال إضافي:
(٣) هل معرفتك النظرية فيما يتصل بشكل ٣-٢ تساعدك في أن ترى المسافتين AG وGF متساويتَين؟
ثمة تجربة ذات صلة بهذا وإن تكن مختلفة اختلافًا طفيفًا. قد تقنعنا هذه التجربة بأن عملياتنا العقلية كثيرًا ما تكون «نشاطات عقلية». تقوم هذه التجربة على شكلٍ ملتبِس. (استخدم فتجنشتين مثل هذه الأشكال في «أبحاث فلسفية» Philosophical Investigations، ولكن لأهدافٍ وأغراض جِد مختلفة فيما يبدو). الشكل المستخدم (the Winson Figure) مأخوذ من بحث لإرنست جومبريتش (١٩٧٣م، ص٢٣٩).

يعرض الشكل بطريقة ملتبسة الصورة الجانبية لهندي أمريكي ومنظر، من الخلف، لواحدٍ من الإسكيمو. ما أود أن ألفت إليه هو أن بإمكاننا إراديًّا أن نتحول من أحد التأويلين إلى الآخر، وإن لم يكن، ربما، على نحو سهل. يبدو أن أغلب الناس يمكنهم بسهولة رؤية الهندي الأمريكي ويجدون مصاعب في التحول إلى الإسكيمو (على أن بعض الناس يرون العكس).

المهم الآن أن بإمكاننا بطريقة إرادية ونشطة أن نكوِّن وجه الهندي بأن ننظر إلى أنفه وفمه وذقنه، ثم نتقدم إلى عينه. أما عن الإسكيمو فيمكن أن نبدأ في تكوينه من حذائه الأيمن.٢٤ (ويمكننا طبعًا أن نصوغ أسئلة تجريبية عن هذه النشاطات التي تؤدي إلى إجابات قابلة للتكرار بينذاتيًّا.)
figure
شكل : مأخوذ من ر. ل. جريجوري وإ. ﻫ. جومبريتش (محرِّران) (١٩٧٣م) بموافقة كريمة من المؤلف والناشر وألفابِت أند إيماج.
هناك أيضًا أصناف أخرى من التجارب القابلة للاختبار بينذاتيًّا، هي اختبارات ناجحة ومقنعة جدًّا لنظرية أن للبشر خبرات واعية. هناك مثلًا التجارب التي أجراها جراح الدماغ الكبير بنفيلد W. Penfield (١٩٥٥م) الذي كان يقوم مِرارًا، باستخدام إلكترود، بتنبيه الدماغ المكشوف لمرضى كانت تُجرَى لهم جِراحاتٌ وهُم في تمام الوعي. عندما كانت مناطق معينة من لحاء المخ تُنَبَّه بهذه الطريقة رَوَى المرضى أنهم كانوا يعيدون معايشة خبرات بصرية وسمعية شديدة الوضوح بينما هم في الوقت نفسه على دراية تامة بما يحيط بهم في الواقع القائم. «كان مريضٌ جنوبُ أفريقي صغيرٌ راقدٌ على طاولة العمليات، كان يضحك مع أبناء عمومته في مزرعة بجنوب أفريقيا، بينما كان أيضًا واعيًا تمامًا بأنه في غرفة العمليات بمونتريال» (بنفيلد، ١٩٧٥م، ص٥٥). مثل هذه الروايات، القابلة للتكرار بشكل واضح، والتي تكررت في حالات كثيرة، لا يمكن تفسيرها، على حد تفكيري، إلا بالتسليم بالخبرات الذاتية الواعية. وقد كانت تجارب بنفيلد تُنتقَد أحيانًا بأنها لم تُجرَ إلا على مرضى صرعيين. غير أن هذا لا يَمَس مشكلةَ وجود خبرات واعية ذاتية.
قد تكون تجارب بنفيلد هذه متوافقة مع نظرية الهوية. وهي لا تبدو متوافقة مع المذهب الفيزيائي الجذري حيث إنكار وجود الحالات الذاتية للوعي. وهناك تجارب مماثلة كثيرة.٢٥ تَختبر هذه التجارب وتؤسِّس بواسطة مناهج سلوكية الحدسَ الافتراضي (إذا كان لنا أن نسميه حدسًا لا واقعة) القائل بأن لدينا خبرات ذاتية، عمليات واعية. صحيح أن لدينا كل ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن هذه تمضي مواكِبةً لعمليات دماغية. فالدماغ فيما يبدو وليس الذات (النفس) هو الذي «يُصِرُّ» على عدم تساوِي مسافاتٍ نعرف أنها متساوية٢٦ (وتَصِح ملاحظة مناظِرة لذلك عن التحول الجشطلتي). غير أن ما يهمني هنا بالدرجة الأساس هو شيء واحد: أن بإمكاننا أن نثبت تجريبيًّا، بواسطة مناهج سلوكية، أن الخبرة الواعية موجودة.

تبقى كلمة تقال عن الطبيعة غير العادية أو النقيضية لكلا النوعين من التجربة المذكورين هنا؛ الخداع البصري وإثارة بنفيلد للحاء المخ. إن آلية الإدراك الحسي ليست، في الحالة العادية، موجَّهة انعكاسيًّا إلى ذاتها، بل موجَّهة إلى العالم الخارجي. هكذا يمكننا أن ننسى أنفسنا في حالة الإدراك الحسي العادي. ولكي نصبح واضحين تمامًا مع خبرتنا الذاتية من المفيد إذن أن نختار تجارب فيها شيء ما خارج عن المعتاد ويصطدم مع الآلية العادية للإدراك الحسي.

(١٩) مذهب شمول النفس

مذهب شمول النفس panpsychism نظرية قديمة جدًّا. ويمكن أن نجد آثارًا منها عند أقدم الفلاسفة الإغريق (الذين كثيرًا ما يوصَفون بأنهم أصحاب مذهب حيوية الهَيُولَى hylozoists، أي يعتقدون أن كل الأشياء حية). يروي أرسطو عن طاليس (في النفس 411a7؛ قارن: أفلاطون، القوانين 899b) أنه كان يعلِّم أن «كل شيء مملوء بالآلهة». يشير أرسطو بأن هذا قد يكون طريقة في القول بأن «الروح ممتزجة بكل شيء في العالم كله»، شاملًا ما نعتبره عادةً مادةً غير حية. هذا هو مذهب شمول النفس.
كان لمذهب شمول النفس بين الفلاسفة قبل السقراطيين بلوغًا إلى ديمقريطس طابعٌ مادي أو شبه مادي على أقل تقدير، من حيث إن النفس، أو العقل، كانت تُعتبر نوعًا خاصًّا جدًّا من المادة. يتغير هذا الموقف مع النظرية الأخلاقية للروح التي أنشأها ديمقريطس، والتي أنشأها سقراط، وأفلاطون. ومع ذلك فحتى أفلاطون (طيماوس 30b/c) يسمي العالم «جسمَ حي مُسبَغ عليه روح».
ومذهب شمول النفس، شأنه شأن وحدة الوجود pantheism، واسع الانتشار بين مفكري عصر النهضة (تيليسيوس، كامبانيللا، برونو — على سبيل المثال). وقد بلغ تمامه في تناول سبينوزا لعلاقة العقل-الجسم، أي مذهبه في التوازي السيكوفيزيقي: «… جميع الأشياء حية بدرجات متفاوتة» (Ethics ii, xiii, Scholium). يذهب سبينوزا إلى أن المادة والروح هما الوجهان الخارجي والداخلي، أو الصفات، لنفس «الشيء في ذاته» (أو الأشياء في ذاتها)؛ وبتعبير آخر: «للطبيعة، التي هي الرب نفسه.»
ثمة صيغة للنظرية قريبة الشبه جدًّا وإن كانت صيغة ذرية، وهي مونادولوجيا ليبنتز: يتكون العالم من مونادات (= نقاط)، من قوًى غير ممتدة، ولأن هذه القُوى غير ممتدة فهي أرواح. إنها، كما عند سبينوزا، حية بدرجات متفاوتة. والفرق الرئيسي بينها وبين نظرية سبينوزا هو هذا: بينما الشيء في ذاته عند سبينوزا هو الطبيعة أو الرب (ذلك الكيان الغامض)، حيث الجسم والروح منه هما وجهان خارجي وداخلي، فإن ليبنتز يعلِّم أن موناداته — التي هي الأشياء في ذاتها — هي نفوس أو أرواح، وأن الأجسام الممتدة (التي هي كُلات مكانية spatial integrals فوق المونادات) هي تجلياتها الخارجية. وليبنتز من ثم هو روحي ميتافيزيقي؛ فالأجسام عنده هي تراكمات من الأرواح منظورة من الخارج.

يُعَلِّم كانْت على خلاف ذلك أن الأشياء في ذاتها ممتنعة على المعرفة. غير أن هناك إشارة قوية بأننا نحن أنفسنا، بوصفنا طبائع أخلاقية، أشياء في ذاتها، وإن تكن هناك أيضًا إشارة بأن بقية الأشياء في ذاتها (تلك التي ليست بشرية) ليست ذات طبيعة عقلية أو روحية؛ فكانت ليس على مذهب شمول النفس.

يتقبل شوبنهاور رأي كانْت بأننا بوصفنا طبائع أخلاقية — أو إرادات أخلاقية — فنحن أشياء في ذاتها؛ وهو يعمم ذلك: الشيء في ذاته (رب سبينوزا) هو إرادة، والإرادة تُظهِر نفسَها في جميع الأشياء. الإرادة هي الماهية، هي الشيء في ذاته، هي حقيقةُ كل شيء وواقعُه، والإرادة هي ما يظهر، من الخارج، للملاحظ، كجسمٍ أو مادة. بوسع المرء أن يقول بأن شوبنهاور هو كانْتي تحوَّل إلى مذهب شمول النفس. ولكي ينفذ هذه الفكرة يؤكد شوبنهاور على اللاشعور؛ فرغم أن الإرادة عنده عقلية، أو نفسية، فهي لا شعورية إلى حدٍّ بعيد، وهي لا شعورية تمامًا في حالة المادة غير الحية، ولا شعورية بقدر كبير حتى في الحيوان وفي الإنسان. وبذلك يُعَد شوبنهاور من أصحاب المذهب الروحي، على أن الروح عنده هي بالأساس إرادة ودافعٌ وتَوقٌ لاشعوري وليست عقلًا واعيًا. كان لهذه النظرية٢٧ بالغ الأثر في أصحاب مذهب شمول النفس الألمان والإنجليز والأمريكيين، الذين، من جراء تأثرهم بشوبنهاور (إلى حدٍّ ما)، يفسرون الألفة الكيميائية، قوى اتحاد الذرات، وغيرها من القُوى الفيزيائية كالجاذبية، على أنها تجليات خارجية للخواص الشبيهة بالدافع أو الإرادة للأشياء في ذاتها التي تظهر لنا، حين نراها من الخارج، كمادة.
قد يفيدنا هذا كمخطط أولِي لفكرة شمول النفس.٢٨ (ثمة مدخل تارخي ونقدي ممتاز لبول إدواردز تجده في كتابه 1967(a)). لمذهب شمول النفس أشكال عديدة، وهو يقدم ما يبدو لأشياعه حلًّا مريحًا لمشكلة بزوغ (انبثاق) العقل في العالم؛ فالعقل كان دائمًا هناك، بوصفه الوجه الداخلي للمادة. لعل هذا هو السبب الذي جعل مذهب شمول النفس مقبولًا لدى العديد من علماء البيولوجيا المعاصرين البارزين، من أمثال ودينجتون (١٩٦١م) في إنجلترا أو برنهارد رِينش (١٩٦٨، ١٩٧١م) في ألمانيا.
من الواضح أن مذهب شمول النفس، من الوجهة الميتافيزيقية (أو الأنطولوجية)، هو أقرب إلى المذهب الروحي منه إلى المذهب المادي. ومع ذلك فإن الكثير من أشياع شمول النفس، من سبينوزا وليبنتز إلى ودينجتون وتيودور زيهين ورينش، يقبلون ما أسميته في القسم ١٦ سابقًا مبدأ المذهب الفيزيائي في «انغلاق العالم الفيزيائي»؛ فهم يعتقدون.٢٩ مثل سبينوزا وليبنتز، أن العمليات السيكولوجية أو العقلية والعمليات الفيزيائية أو المادية تجريان متوازيتَين، دون تفاعل؛ أي أن العمليات العقلية (العالم ٢) لا يمكن أن تؤثر إلا على العمليات العقلية الأخرى، وأن العمليات الفيزيائية (العالم ١) لا يمكن أن تؤثر إلا على العمليات الفيزيائية الأخرى، بحيث يكون العالم ١ مغلقًا، مكتفيًا بذاته.

سأقدم هنا ثلاث حجج ضد مذهب شمول النفس:

  • (١)

    نقدي الأول لمذهب شمول النفس هو أن فرضية أنه يجب أن يكون هناك أصلٌ قبل نفسي للعمليات النفسية هو إما قولٌ نافلٌ ولفظي تمامًا، وإما قول مضلِّل؛ فالقول بأن هناك شيئًا ما في التاريخ التطوري قد سبق، بمعنًى ما، العمليات العقلية، هو قول تافه وغامض أيضًا. ولكن الإصرار على أن هذا الشيء يجب أن يكون شبيهًا بالعقل، وأنه يمكن أن يُنسَب حتى للذرات، هو طريقة مضللة في الجدل، فنحن نعرف أن البلورات والمواد الصلبة الأخرى لديها خاصة الصلابة دون أن تكون الصلابة (أو قبل الصلابة) موجودة في السائل قبل التبلر (وإن كان وجود بلورة أو شيء صلب آخر في السائل قد يساعد في عملية التبلر).

    بذلك فنحن نعرف عن عمليات في الطبيعة هي «انبثاقية» emergent بمعنى أنها تؤدي، لا بالتدريج بل بشيء أشبه بالقفزة،٣٠ إلى خاصة لم تكن موجودة من قبل. ورغم أن عقل الطفل الرضيع ينمو بالتدريج من حالة قبل-عقلية إلى وعي كامل بالذات، فليس ما يوجب علينا التسليم بأن الطعام الذي يأكله الرضيع (والذي قد يكوِّن دماغَه في النهاية) به خصائص يمكن، لو أسعفتنا المعرفة، أن نصفها بأنها قبل-عقلية أو شبيهة بالعقل ولو شبهًا بعيدًا. بذلك يبدو عنصر الشمول (pan) في مذهب (شمول) النفس عنصرًا مجانيًّا وخياليًّا أيضًا (ولكن ليس بمعنى أن الفكرة تنم عن قدر كبير من التخيل).
  • (٢)

    يسلِّم مذهبُ شمول النفس، بالطبع، بأن ما نسميه عادةً مادةً غير حية أو مادة عضوية له حياة عقلية أفقر بكثير جدًّا من أي كائن عضوي. وبذلك فإن الخطوة الكبرى من مادة غير حية إلى مادة حية ستناظرها خطوة كبرى من عمليات قبل-نفسية إلى عمليات نفسية. ومن ثَم فليس من الواضح كم يستفيد مذهب شمول النفس، من أجل فهمٍ أفضل لتطور العقل، من افتراض وجود حالات أو عمليات قبل نفسية: فحتى في وصف مذهب شمول النفس فإن شيئًا ما جديدًا تمامًا يدخل إلى العالم مع ظهور الحياة والوراثة، وإن يكن دخوله لا يتم إلا على خطوات عديدة. ولكن الدافع الرئيسي لمذهب شمول النفس بعد الدارويني كان هو تحاشي الاعتراف بانبثاق شيءٍ ما جديدٍ تمامًا.

    أن نقول هذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن ننكر واقعة أنه يوجد ليس فقط حالات عقلية لا واعية بل أيضًا درجات مختلفة كثيرة من الوعي. فليس ثمة مجال للشك في أن فعل الحلم واعٍ وإنْ على مستوى منخفض من الوعي: إنه لبَونٌ شاسع في الوعي ما بين حلمٍ من الأحلام وبين تقييم ومراجعة نقدية لحجة صعبة. وبالمثل فإن من الواضح أن للطفل الرضيع مستوى منخفضًا من الوعي. وقد يقتضي الأمرُ سنواتٍ، ويقتضي اكتسابَ اللغة، وربما حتى التفكيرَ النقدي، قبل أن يتحقق الوعي الكامل بالذات.

  • (٣)

    رغم وجود شيءٍ، بلا شك، يمكن وصفه بالذاكرة اللاشعورية — ذاكرة لَسنا على دراية بها — فإنني أزعم أنه لا يمكن أن يكون هناك وعي أو دراية بدون ذاكرة.

يمكن تبيان ذلك بمساعدة تجربة فكرية:

من المعروف جيدًا أن المرء عقب إصابة أو صدمة كهربية أو تناول عَقَّار — قد يفقد الوعي (وأن فترة من الزمن سابقة على الحدث قد تُمحَى من ذاكرته).

ولنفترض الآن أننا، بتناول عقارٍ أو بعلاجٍ ما آخر، قد نمحو تسجيل الذاكرة لدقائق أو ثوان عديدة.

ولنفترض كذلك بأننا نعالَج بهذه الطريقة على نحو متكرر — وليكن بعد كل «ق» من الثواني — وكل مرة من ذلك تمحو من ذاكرتنا أمدًا من الزمان هو «ك» من الثواني (ولنفرض أن ق > ك).

  • (أ)

    من البيِّن لنا على الفور أنه إذا جعلنا الفترات «ق» مساوية للفترات الممحوَّة «ك» فلن تترك أي ذاكرة مسجلة طوال مدة التجربة.

  • (ب)

    بما أن الفترات «ق» أطول بعض الشيء من الفترات «ك»، فسوف تترَك لدينا سلسلة من التسجيلات طول كل منها ق-ك.

  • (جـ)

    والآن لنفترض (ب) على أن تصبح ق-ك قصيرة جدًّا. أرى أنه في هذه الحالة لا بد أننا نفقد الوعي بفترة التجربة كلها. ذلك أنه بعد كل فقدان ذاكرة (حتى لدى اليقظة من نومٍ عميق) فإننا نستغرق زمنًا قصيرًا ما قبل أن يمكننا أن نستجمع أنفسنا مرةً ثانية ونصبح على وعيٍ كامل. إذا كان هذا الزمن اللازم لأن نصبح على وعيٍ كامل (وليكن نصف ثانية) يتجاوز ق-ك إذن فلن تكون هناك، فيما أرى، أي فترات وجيزة من الوعي أو الدراية لها ذكرى قد مُحِيَت.

ولكي أصوغ أطروحتى هذه بطريقة أخرى فإن حدًّا أدنى معينًا من استمرارية الذاكرة لا بد من توافره لكي يظهر الوعي أو الدراية. ومن ثم فإن التقسيم الذري للذاكرة لا بد أن يدمر الخبرة الواعية، ويدمر في الحقيقة أي شكل من الدراية الواعية.

إن الوعي، وكل صنف من الدراية، ليربط بعضًا من مكوناته بمكوناتٍ أسبَق، وبذلك لا يمكن تصوره على أنه يتكون من أحداث قصيرة بشكلٍ عشوائي. لا يوجد وعيٌ بدون ذاكرة تربط «أفعال الدراية» المكوِّنة له، وهذه بدورها لا يمكن أن توجد ما لم تكن موصولةً بكثيرٍ غيرِها من مثل هذه الأفعال.

هذه النتائج الخاصة بتجربة فكرية نظرية بحتة تعززها، بقدر ما يمكن أن يتاح لمثلها، بعض نتائج فيزيولوجيا الدماغ. لقد أُعْلِمتُ أن بعض العقاقير المستخدمة في التخدير الكلي — أي في إحداث فقدانٍ للوعي — تعمل بالطريقة التي وصفتُها: أي كمفتِّتٍ شاملٍ تقريبًا لاتصال الذاكرة، وبالتالي للدراية. ويبدو أيضًا أن بعض أشكال الصرع تعمل بطريقة مشابهة. في جميع هذه الحالات فإن أجزاءً من الذاكرة الطويلة الأمد تبقى سليمة، بمعنى أنه عند استعادة الوعي يكون بإمكان المريض أن يتذكر أحداث حياته الأسبق أو الأحداث الممتدة حتى فقدانه للوعي؛ وإن هذه الذاكرة الماضية (أو هكذا يبدو) هي ما يجعل بإمكان المريض أن يحتفظ بهويته الذاتية.٣١
وبعد فهذه التجربة الفكرية تناهض بشدة نظريةَ شمول النفس التي تجعل للذرات أو الجسيمات الأولية شيئًا يشبه الرؤية الداخلية؛ رؤية داخلية تشكِّل اللَّبِنة، كيفما كانت، التي منها يتكوَّن وعي الحيوانات والبشر؛ ذلك لأنه وفقًا للفيزياء الحديثة فإن الذرات أو الجسيمات الأولية لا ذاكرة لها بالتأكيد: إن ذرتين من نفس النظير (isotope) هما متماهيتان تمامًا من الوجهة الفيزيائية، أيًّا ما كان تاريخهما السابق، فمثلًا إذا كانتا من النظائر المشعة فإن احتماليتهما أو ميلهما للانحلال متساوٍ بالضبط. على أن هذا يعني أن لا ذاكرة لهما من الوجهة الفيزيائية. فإذا ما أخذنا بالتوازي السيكوفيزيقي فإن «حالتهما الداخلية» يجب أيضًا أن تكون خِلوًا من الذاكرة. غير أن هذه لا يمكن أن تكون حالة داخلية بأي شكل من الأشكال: لا يمكن أن تكون حالة وعي، أو حتى حالة سابقة على الوعي شبيهة بالوعي.

ثمة حالات شبيهة بالذاكرة تحدث بالفعل في المادة غير الحية، كما في حالة البلور على سبيل المثال. الفولاذ «يتذكر» أنه قد تمغنط. والبلورة النامية «تتذكر» خطًّا في بنيتها. غير أن هذا شيء مستجد، شيء انبثاقي: أما الذرات والجسيمات الأولية فلا «تتذكر»، إذا كانت النظرية الفيزيائية الراهنة صحيحة.

وعليه فينبغي ألا ننسب حالاتٍ داخلية، أو حالات عقلية، أو حالات واعية، للذرات: فانبثاق الوعي هو مشكلة لا يمكن تجنبها أو تخفيفها بواسطة نظرية شمول النفس. إن مذهب شمول النفس لا أساس له، ومونادولوجيا ليبنتز ينبغي رفضها.

وقد ينبغي أن نضيف أنه يبدو لنا اليوم أن بداية الذاكرة البشرية أو الحيوانية يجب أن تُلتمَس في الآلية الجينية؛ أن الذاكرة بالمعنى الشعوري الواعي هي نتاجٌ متأخر للذاكرة الجينية. إن الأساس الفيزيائي للذاكرة الجينية يبدو في متناوَل العلم، والتفسيرات التي لدينا عنها تجعلها غير ذات صلة على الإطلاق بأي أثر شمولٍ نفسي. بمعنى أنه بخلاف التقدم المستقيم من الذرات المفتقرة لذاكرة إلى ذاكرة الحديد الممغنط ثم إلى ذاكرة النباتات وإلى الذاكرة الواعية، على خلاف ذلك يبدو أن هناك التفافًا هائلًا عبر الذاكرة الجينية. وبذلك تكون نتائج علم الوراثة الحديث مناهِضة بشدة للقول بأن هناك أية قيمة في مذهب شمول النفس؛ أي مناهضة للقول بقدرتها التفسيرية أو باحتمالات نجاحاتها التفسيرية، رغم أن مذهب شمول النفس بحد ذاته بلغ من الميتافيزيقية (بالمعنى السيء) ومن ضآلة المحتوى بحيث لا يمكننا الحديث عن قيمته التفسيرية.

(٢٠) مذهب الظاهرة المصاحبة (الثانوية) Epiphenomenalism

كان و. ك. كليفورد من أنصار مذهب شمول النفس. وكان صديقه توماس هكسلي من أنصار مذهب الظاهرة المصاحبة. وكلاهما متفقان في تبني مبدأ المذهب الفيزيائي الخاص بانغلاق العالم الفيزيائي (العالم ١). وبنص قول كليفورد (١٨٨٦م، ص٢٦٠): «كل الأدلة التي لدينا تفضي إلى أن العالم الفيزيائي يسلك من تلقاء نفسه على نحو تام …»

والفرق الرئيسي بين مذهبي الظاهرة المصاحبة (الثانوية) وشمول النفس هو الآتي:

  • (١)

    لا يُقِر مذهب الظاهرة المصاحبة بأن «جميع» العمليات المادية لها وجه نفسي.

  • (٢)

    مذهب الظاهرة المصاحبة هو أبعد ما يكون عن اعتبار الحالات أو العمليات الواعية هي الأشياء في ذاتها، مثلما يفعل البعض، على الأقل، من أنصار شمول النفس اللاحقين على ليبنتز واللاحقين على كانْت.

  • (٣)
    قد يُوصَل مذهب الظاهرة المصاحبة بنوعٍ من نظرية التوازي (كأنه مذهب شمول نفس جزئي) وقد يسمح بفعلٍ عِلِّي أحادي الجانب من الجسم على العقل، وهذه النظرة الثانية عُرضة للاصطدام بالقانون الثالث لنيوتن: تساوي الفعل ورد الفعل.٣٢ وسأتناول هنا بالنقد إحدى صور مذهب الظاهرة المصاحبة الملحق بنظرية التوازي، ولكن لا شيء في نقدي يعتمد على هذا الاختيار. يصوغ هكسلي مذهب الظاهرة المصاحبة الخاص به صياغة جيدة جدًّا (هكسلي ١٨٩٨م، ص٢٤٠؛ قارن ص٢٤٣ وما بعدها): «يبدو الوعي متعلقًا بآلية الجسم، ببساطة كنتاجٍ ثانوي لعملها، ولا قدرة له البتة على تعديل هذا العمل، مثلما أن صوت الصافرة البخارية التي تصاحب عمل القاطرة لا تأثير له على آليتها.»

كان توماس هكسلي داروينيًّا (بل أول الداروينيين جميعًا في حقيقة الأمر) غير أني أعتقد أن مذهبه الظاهري المصاحبي يصطدم بوجهة النظر الداروينية؛ فنحن من وجهة نظرٍ داروينية مدفوعون إلى أن نتأمل في قيمة البقاء التي تتمتع بها العمليات العقلية. مثال ذلك أن الألم قد نعده إشارةَ تحذير. وبصفة أعم فإن الداروينيين ينبغي أن يعتبروا «العقل»، بمعنى العمليات العقلية والميول نحو الأفعال وردود الأفعال العقلية، كشيء مماثل لعضوٍ جسمي (متصل اتصالًا وثيقًا بالدماغ، ربما) والذي تطور تحت ضغط الانتخاب الطبيعي. وهو يؤدي وظيفته بأن يساعد الكائن على التكيف (قارن عرضنا للتطور العضوي في قسم ٦ سابقًا). إن النظرة الداروينية يجب أن تكون هذه: يجب أن نعتبر الوعي، والعمليات العقلية بعامة (وأن يُفسَّر إذا أمكن)، على أنه نتاج التطور الحادث بالانتخاب الطبيعي.

ونحن نحتاج إلى النظرة الداروينية بصفة خاصة لفهم العمليات العقلية الفكرية؛ فالأفعال الذكية هي أفعال مكيَّفة للأحداث القابلة للتنبؤ. وهي قائمة على البصيرة، على التوقع؛ وكقاعدة عامة على التوقع القريب والبعيد وعلى مقارنة النتائج المتوقعة من عدة نقلات ممكنة ونقلات مضادة. وهنا يدخل عنصر التفضيل، ومعه صنع القرارات، التي يقوم كثير منها على أساس غريزي. قد تكون هذه هي الطريقة التي تدخل بها الانفعالات إلى العالم ٢ الخاص بالعمليات والخبرات العقلية؛ والسبب الذي يجعلها تصبح واعية أحيانًا وأحيانًا لا.

وتفسر النظرة الداروينية أيضًا، بشكل جزئي على الأقل، الانبثاق الأول لعالم ٣ الخاص بمنتجات العقل البشري: عالم الأدوات، والأجهزة، واللغات، والأساطير، والنظريات (قد يكون في هذا الحشد، بطبيعة الحال، مَقنَع أيضًا لأولئك الذين يكرهون أو يترددون في أن يعزوا «واقعًا» لكياناتٍ من مثل المشكلات والنظريات، وأيضًا لأولئك الذين يعتبرون العالم ٣ جزءًا من العالم ١ و/أو العالم ٢). إن وجود عالم ٣ الثقافي ووجود التطور الثقافي قد لفت انتباهنا إلى حقيقة أن هناك قدرًا عظيمًا من الترابط المنظم داخل كلا العالمين ٢ و٣؛ وأن بالإمكان تفسير ذلك، جزئيًّا، كنتاج منظم للضغوط الانتخابية. مثال ذلك أن تطور اللغة لا يمكن تفسيره، فيما يبدو، إلا إذا افترضنا أنه حتى اللغة البدائية يمكن أن تكون مُعِينًا في الصراع من أجل الحياة، وأن ظهور اللغة له تأثير تغذية راجعة؛ فالقدرات اللغوية في صراع؛ ويتم اختيارها من أجل تأثيراتها البيولوجية؛ الأمر الذي يفضي إلى مستويات أعلى في التطور اللغوي.

يمكننا أن نلخص هذا في هيئة المبادئ الأربعة التالية التي يبدو لي أن الاثنين الأولين منها يتعين قبولهما وبخاصة من أولئك الذين يميلون إلى المذهب الفيزيائي أو المادي:

  • (١)

    نظرية الانتخاب الطبيعي هي النظرية الوحيدة المعروفة حاليًّا التي يمكنها أن تفسر انبثاق العمليات الغرضية في العالم، ويمكنها بخاصة أن تفسر تطور الأشكال العليا للحياة.

  • (٢)
    الانتخاب الطبيعي متعلق ﺑ «البقاء الجسمي» (بالتوزُّع التكراري٣٣ لجيناتٍ متنافسة في مجموعة سكانية ما) وهو لذلك متعلق أساسًا بتفسير تأثيرات العالم ١.
  • (٣)

    إذا تعين على الانتخاب الطبيعي أن يفسر انبثاق العالم ٢ (عالم الخبرات الذاتية أو العقلية)، فينبغي على هذه النظرية أن تفسر الطريقة التي يزودنا بها تطور العالم ٢ (والعالم ٣) على نحو منظم بالأدوات المعِينة على البقاء.

  • (٤)

    أي تفسير بلغة الانتخاب الطبيعي هو تفسير جزئي وغير كامل؛ لأنه يجب أن يفترض دائمًا وجود كثير من الطفرات المتنافسة (المجهولة جزئيًّا)، ووجود تنوع (مجهول نسبيًّا) من الضغوط الانتخابية.

هذه المبادئ الأربعة يمكن أن نشير إليها باختصار على أنها وجهة النظر الداروينية. وسأحاول أن أبين هنا أن وجهة النظر الداروينية تتعارض مع المذهب الذي يطلَق عليه عادةً مذهب الظاهرة المصاحبة.

يُسَلِّم مذهب الظاهرة المصاحبة بوجود الأحداث أو الخبرات العقلية — أي وجود عالم ٢ — غير أنه يذهب إلى أن هذه الخبرات العقلية أو الذاتية هي نواتج ثانوية، غير مؤثرة عِلِّيًّا، للعمليات الفسيولوجية التي هي وحدها المؤثرة عِلِّيًّا، بهذه الطريقة يكون بوسع مذهب الظاهرة المصاحبة أن يتقبل مبدأ المذهب الفيزيائي الخاص بانغلاق العالم ١ ويتقبل وجود عالم ٢ معًا في آن. إذن يتعين على نصير الظاهرة المصاحبة أن يتمسك بأن العالم ٢ غير ذي صلة حقًّا، وأن العبرة بالعمليات الجسمية وحدها: حين يقرأ شخصٌ كتابًا مثلًا فإن الشيء الفاصل ليس أن الكتاب يؤثر في آرائه ويزوده بمعلومات؛ فكل هذه ظواهر ثانوية غير ذات صلة. ما يهم هو فقط التغير الذي يجري في بِنية دماغه والذي يؤثر في ميله إلى الفعل. هذه الميول، في رأي صاحب الظاهرة المصاحبة، هي حقًّا الأمر الأهم للبقاء، ها هنا فقط تدخل الداروينية؛ فالخبرات الذاتية للقراءة والتفكير موجودة، ولكنها لا تلعب الدور الذي ننسبه لها عادةً. إنما هذه النسبة الخاطئة هي نتيجة عجزنا عن التفرقة بين خبراتنا وبين التأثير الحاسم لقراءتنا على الخواص النزوعية لِبِنية الدماغ. لا أهمية للجوانب الخبروية الذاتية لمدركاتنا الحسية أثناء قراءتنا، ولا للجوانب الانفعالية. فكل هذه زوائد اتفاقية، تصادفية لا عِلِّيَّة.

من الواضح أن هذه النظرة الظاهرية المصاحبية غير شافية؛ فهي تسلِّم بوجود عالم ٢، ولكنها تسلبه أي وظيفة بيولوجية، ولذلك فهي لا يمكن أن تفسر، بحدودٍ داروينية، تطور العالم ٢. وهي مضطرة إلى أن تنكر ما هو حقيقة بالغة الأهمية على نحو جلي، ذلك التأثير الهائل لهذا التطور (ولتطور العالم ٣) على العالم ١.

أعتقد أن هذه الحجة قاطعة.

ولكي نضع المسألة بلغة بيولوجية فإن هناك منظومات تحكُّم عديدة ووثيقة الارتباط في الكائنات العضوية العليا، جهاز المناعة، جهاز الغدد الصماء، الجهاز العصبي المركزي، وما قد نسميه «الجهاز العقلي». لا شك أن الجهازَين الأخيرَين من هذه الأجهزة متصلان اتصالًا وثيقًا. ولكن الأجهزة الأخرى أيضًا متصلة وإن يكن، ربما، اتصالًا أقل وثوقًا. من الواضح أن الجهاز العقلي له تاريخه التطوري والوظيفي، وأن وظائفه قد زادت مع التطور من الكائنات الأدنى إلى الأعلى. ومن ثم يتعين أن نربطها بوجهة النظر الداروينية. غير أن مذهب الظاهرة المصاحبة لا يمكنه أن يفعل ذلك.

ثمة نقد آخر مهم وإن يكن منفصلًا عما سبق، حين تُطبَّق النظرة الظاهرية المصاحبية على الحجج، وعلى تقديرنا لثقل الأسباب العقلية، يتبين أنها نظرة انتحارية، فصاحِب مذهب الظاهرة المصاحبة ملتزم بالمحاجة بأن الحجج أو المبررات العقلية لا تهم حقًّا؛ فهي لا يمكن أن تؤثِّر بحق على ميولنا إلى الفعل — إلى أن نتكلم مثلًا أو نكتب — ولا على الأفعال ذاتها، فهذه كلها ناجمة عن مؤثرات ميكانيكية، وفيزيوكيميائية، وصوتية، وبصرية، وكهربية.

هكذا تؤدي الحجة الظاهرية المصاحبية إلى تَبَيُّن خروجها هي نفسها عن الموضوع. هذا لا يفند مذهب الظاهرة المصاحبة، إنما يعني فحسب أنه إذا كان مذهب الظاهرة المصاحبة حقًّا فإنه لا يمكننا أن نأخذه مأخذ الجد كمبرر عقلي أو حجة مهما قيل في تأييده.

كان هالدن J. B. S. Haldane هو مَن أثار مشكلة صواب هذه الحجة ضد المذهب المادي. وسنتناول هذه المشكلة في القسم التالي.

(٢١) صيغة منقَّحة لتفنيد هالدن للمادية

الحجة المضادة للمذهب المادي التي ذكرتها في نهاية القسم السابق صاغها باختصار ج. ب. س. هالدن. يضع هالدن (١٩٣٢م) هذه الحجة كالتالي: «… إذا كانت الماديةُ حقًّا فلن يمكننا، فيما يبدو لي، أن نعرف أنها حق. فإذا كانت آرائي نتاجَ عمليات كيميائية تجري في دماغي، ستكون محدَّدة بقوانين الكيمياء لا بقوانين المنطق.»٣٤
ولهذه الحجة (التي تَراجَع عنها هالدن في ورقة بحثية بعنوان «آسَف على خطأ»،٣٥ ١٩٥٤م) تاريخٌ طويل. ويمكن تعقبها في الماضي إلى أبيقور على أقل تقدير: «مَن يَقُلْ إن جميع الأشياء تحدث بالضرورة لا يمكنْه أن ينتقد آخَر يقول ليست جميع الأشياء تحدث بالضرورة؛ ذلك لأن عليه أن يسلِّم بأن قوله أيضًا حدث بالضرورة»٣٦ (أبيقور، الشذرة ٤٠، مجموعة الفاتيكان). بهذه الصيغة كانت الحجة ضد الحتمية لا المادية. غير أن العلاقةَ الوثيقة بين حجتَي هالدن وأبيقور لافتة للنظر، فكلتاهما تفيد أنه إذا كانت آراؤنا نتاجَ شيءٍ ما غير الحكم الحر للعقل،٣٧ أو رَوز المبررات العقلية … المؤيِّدات والمفنِّدات، فإن آراءنا، من ثم، لا يمكن أن تؤخذ مأخذ الجِد. هكذا يكون من شأن الحجة التي تُفضِي إلى نتيجة بأن حججنا وآراءنا لا يتم التوصل إليها بهذه الطريقة، من شأن هذه الحجة أن تدمِّر ذاتَها.

لا يمكن لحجة هالدن (أو بتعبير أدق الجملة الثانية من الجملتَين المقتبستَين أعلاه) أن تؤيَّد في صيغتها المذكورة هنا؛ فالآلة الحاسبة قد يُقال إنها محدَّدة في عملها بقوانين الفيزياء؛ إلا أنها قد تعمل في وفاق تام مع قوانين المنطق، هذه الواقعة البسيطة تُبطِل (كما بينتُ في قسم ٨٥ من مخطوطتي الملحقة غير المنشورة) الجملة الثانية من حجة هالدن كما هي مكتوبة.

ورغم ذلك فأنا أعتقد أن حجة هالدن (كما سأسميها برغم قدمها) يمكن أن تنقَّح بحيث تصير فوق النقد. فرغم أنها لا تثبِت أن المادية متناقضة ذاتيًّا (أو أنها تدمر نفسها) ففي اعتقادي أنها تثبت أن المادية تهزم ذاتها؛ فهي لا يمكن أن تزعم زعمًا جادًا أنها مدعَّمة بالحجة العقلية. إن بالإمكان أن نصوغ حجة هالدن المنقَّحة على نحو أكثر إيجازًا، ولكني أعتقد أنها تكون أوضح إذا بَسَطناها بتفصيلٍ تام.

سأعرض الحجة المنقَّحة في شكل حوار بين واحد من أنصار مذهب التفاعل المتبادل (تفاعلي) interactionist وآخر من أنصار المذهب الفيزيائي (فيزيائي) physicalist.
التفاعلي : أنا على أتم استعداد لأن أقبل تفنيدَك لحجة هالدن: يمثل الحاسوب مثالًا مضادًّا لهذه الحجة كما هي مصوغة. ومع ذلك يبدو لي مهمًّا أن نتذكر أن الحاسوب، الذي نعترف بأنه يعمل على مبادئ فيزيائية ووفقًا لمبادئ منطقية أيضًا وفي نفس الوقت، إنما صممناه نحن — صممته عقولٌ بشرية — لكي يعمل كذلك. الحقُّ أن قدرًا كبيرًا من النظر المنطقي والرياضي يجري استخدامه في صنع حاسوب؛ وهو ما يفسر لماذا يعمل وفقًا لقوانين المنطق. ليس بالشيء الهين على الإطلاق أن تشيِّد قطعةَ جهازٍ فيزيائي يعمل لا طبقًا لقوانين الفيزياء فقط بل طبقًا لقوانين المنطق أيضًا وفي الوقت نفسه. إن كلًّا من الحاسوب وقوانين المنطق ينتمي بالتأكيد إلى ما أسميتُه هنا العالم ٣.
الفيزيائي : أوافق، غير أني لا أُسلِّم إلا بوجود عالم ٣ فيزيائي تنتمي إليه، على سبيل المثال، كتبٌ في المنطق والرياضيات، وتنتمي أيضًا الحواسيب بطبيعة الحال: هذا العالم ٣ خاصتك هو في الحقيقة جزء من العالم ١؛ فالكتب والحواسيب هي منتجات رجال ونساء، إنها مصمَّمة، إنها منتَجاتُ أدمغة بشرية. أما عن أدمغتنا فهي ليست مصمَّمة في الحقيقة، إنها منتجات الانتخاب الطبيعي إلى حد كبير؛ فهي منتخَبة من حيث هي تكيِّف نفسَها مع بيئتها؛ وقدراتُها النزوعية على التفكير العقلاني هي نتيجةُ هذا التكيف. والتفكير العقلاني عبارة عن صنفٍ معين من السلوك اللفظي، وعن اكتساب ميول إلى الفعل وإلى الكلام. وبغض النظر عن الانتخاب الطبيعي فإن التكيف الإيجابي والتكيف السلبي من خلال نجاح وفشل أفعالنا وردود أفعالنا يلعبان أيضًا دورهما. كذلك تفعل الدراسة المدرسية، أعني التكيف من خلال معلِّم يعمل علينا، شأنه إلى حدٍّ ما شأن مصمِّم يعمل على حاسوب. بهذه الطريقة نصبح مكيفين على أن نتكلم وأن نفعل بعقلانية أو بذكاء.
التفاعلي : يبدو أننا متفقان في عدد من النقاط، فنحن متفقان أن الانتخاب الطبيعي والتعلم الفردي يلعبان دورهما في تطور التفكير المنطقي؛ ومتفقان أن على كل مذهب مادي معقول أو متعقِّل الإقرارَ بأن الدماغ المدرب جيدًا، شأنه شأن الحاسوب المتقَن، مشيَّد بطريقة تجعله يعمل وفقًا لمبادئ المنطق ومبادئ الفيزياء والكهروكيمياء.
الفيزيائي : بالضبط؛ بل إني على استعداد لأن أسلِّم بأنه إذا تعذَّر تأييد هذا الرأي سيكون من شأن حجة هالدن أن تزعج المذهب المادي بالفعل: سيكون عليَّ أن أعترف بأن المذهب المادي يقوِّض معقوليته نفسها.
التفاعلي : ألا ترتكب الحواسيب أو الأدمغة أخطاءً على الإطلاق؟
الفيزيائي : الحواسيب ليست كاملة بطبيعة الحال، ولا الأدمغة البشرية. هذا غَني عن القول.
التفاعلي : ولكن إذا كان الأمر كذلك فأنت بحاجة إلى موضوعات عالم ٣، مثل معايير الصواب، التي ليست متجسدة أو متمثلة في موضوعات العالم ١: أنت بحاجة إليها لكي يكون بإمكانك أن تحتكم إلى صواب الاستدلال؛ ومع ذلك فأنت تنكر وجود مثل هذه الموضوعات.
الفيزيائي : أنا أنكر بالفعل وجود موضوعات عالم ٣ غير المتجسدة؛ وإن كنتُ حتى الآن لم أفهم نقطتك هذه تمام الفهم.
التفاعلي : فكرتي بسيطة جدًّا. إذا كانت الحواسيب تفشل أحيانًا، فما الذي تقصِّر عن بلوغه؟
الفيزيائي : تقصر عن بلوغ ما تبلغه الحواسيبُ أو الأدمغة الأخرى، أو عن مضامين كتب المنطق والرياضيات.
التفاعلي : هل هذه الكتب معصومة من الخطأ؟
الفيزيائي : بالطبع لا؛ ولكنَّ أخطاءها نادرة.
التفاعلي : أشك في ذلك؛ ولكن لنفترض أنها نادرة؛ فما زلتُ أسأل: إذا كان ثمة خطأ، قُل خطأٌ منطقي، فبأي معيار هو خطأ؟
الفيزيائي : بمعايير المنطق.
التفاعلي : أوافقك تمامًا، ولكن هذه معايير مجردة، معايير عالم ٣ غير المتجسدة.
الفيزيائي : كلا؛ إنها ليست معايير مجردة، بل هي المعايير أو المبادئ التي تميل الغالبية العظمى من المناطقة في الحقيقة — باستثناء هامشٍ مُخَبَّل — إلى قبولها كما هي.
التفاعلي : هل يميلون إلى قبول المبادئ لأنها صائبة، أم أن المبادئ صائبة لأن المناطقة يميلون إلى قبولها؟
الفيزيائي : سؤال ماكر؛ الجواب الظاهر عليه، وهو جوابك على أية حال، يبدو أنه: «المناطقة ميالون لقبول المعايير المنطقية لأن هذه المعايير صائبة.» ولكنَّ في هذا إقرارًا بوجود معايير أو مبادئ غير متجسدة، وبالتالي مجردة؛ وهو ما أُنكرُ وجودَه. لا؛ إن عليَّ أن أقدم عن سؤالك جوابًا مختلفًا: المعايير موجودة، إذ توجد، كحالاتٍ أو ميول لأدمغة الناس، حالات، أو ميول، تجعلهم يقبلون المعايير القويمة. قد تسألني الآن طبعًا «وماذا تكون المعايير القويمة غير المعايير الصائبة؟» وجوابي هو أنها «طرائق معينة من السلوك اللفظي، أو من ربط اعتقاداتٍ بأخرى، طرائق ثبت أنها نافعة في الصراع من أجل الحياة، والتي بالتالي وقع الاختيار عليها بالانتخاب الطبيعي، أو تم تعلمها بالإشراط (conditioning)، ربما في المدرسة، وربما في غيرها.»
هذه الميول الموروثة أو المتعلَّمة هي ما اعتاد البعض تسميته «حدوسنا المنطقية». وأنا أسلِّم بوجودها (بخلاف موضوعات عالم ٣ المجردة). وأسلِّم أيضًا بأنها ليست دائمًا محل الثقة: توجد أخطاء منطقية. ولكن هذه الاستدلالات الخاطئة يمكن أن تخضع للنقد والإقصاء (الاستبعاد/الحذف).٣٨
التفاعلي : لا أحسب أننا قد حققنا تقدمًا كبيرًا. لقد طالما سلَّمتُ بدور الانتخاب الطبيعي ودور التعلم (الذي، بالمناسبة، يجب بالتأكيد ألا أصفه ﺑ «الإشراط» conditioning؛ ولكن لِنضربْ صفحًا عن المصطلح). أود أيضًا أن أؤكد، كما تفعل أنت الآن فيما يبدو، على أهمية واقعة أننا كثيرًا ما نقارب الحقيقة من طريق إقصاء الخطأ وتصحيحه. وأنا مثلك أميل إلى أن أقول بأن الشيء نفسه ينطبق على الاستدلالات المغلوطة كمقابل للاستدلالات الصائبة: نحن نتعلم أن استدلالًا ما، أو طريقة معينة في عقد الاستدلالات، هو غير صائب إذا ما وجدنا مثالًا مضادًّا، أي استدلالًا من نفس الصورة المنطقية له مقدمات صادقة ونتيجة كاذبة. وبعبارة أخرى فإنه: يكون استدلالٌ ما صائبًا إذا — وفقط إذا — لم يوجد هناك مثال مضاد لهذا الاستدلال. ولكن هذه العبارة هي مثال مميز لمبدأ لعالم ٣. ورغم أن انبثاق عالم ٣ يمكن تفسيره، جزئيًّا، بواسطة الانتخاب الطبيعي، أي بفائدته، فإن مبادئ الاستدلال الصائب، وتطبيقاتها، التي تنتمي للعالم ٣، لا يمكن تفسيرها جميعًا بهذه الطريقة. إنها، إلى حد ما، النتائج المستقلة غير المقصودة لعملية صنع العالم ٣.
الفيزيائي : ولكني متمسك بفكرتي بأنه لا يوجد إلا الميول الفيزيولوجية (أو، بتعبير أدق، الحالات النزوعية).٣٩ ما المانع من أن تتطور أو تنمو الميول التي قد أصفها بالميول إلى الفعل وفقًا لوتيرةٍ٤٠ ما؟ وفقًا، مثلًا، لما تسميه أنت بالمعايير المنطقية للصدق والصواب؟ المهم هو أن الميول ذات نفع في الصراع من أجل البقاء.
التفاعلي : قد يبدو هذا صحيحًا، ولكنه يتجنب المسألة الحقيقية فيما يبدو لي. ذلك أن الميول يجب أن تكون ميولًا لفعل شيء ما. فإذا سألنا ما عساه أن يكون هذا الشيء فإن جوابك، كما يتراءَى، هو «فعل وفقًا لوتيرة». ولكن ألا يمكننا أن نسأل عندئذٍ «أي وتيرة؟» وهو ما أراه جديرًا أن يرجع بنا إلى مبادئ العالم ٣.
ولكن دعنا ننظر إلى المسألة من زاوية أخرى. إن الخاصية التي لآلية الدماغ أو آلية الحاسوب والتي تجعله يعمل وفق معايير المنطق ليست خاصية فيزيائية محضة، وإن كنت مستعدًّا تمامًا لأن أسلِّم بأنها بمعنًى ما متصلة بخصائص فيزيائية أو قائمة عليها. ذلك أن حاسوبَين قد يختلفان فيزيائيًّا قدر ما تشاء من الاختلاف، ومع ذلك فقد يعم1ل كلاهما وفق نفس المعايير المنطقية. والعكس أيضًا: قد لا يختلفان فيزيائيًّا إلا اختلافًا ضئيلًا فإذا بهذا الاختلاف يتضخم بحيث يعمل أحدهما وفق معايير المنطق ولا يعمل الآخر وفقها. وهذا يثبت، فيما يبدو، أن معايير المنطق ليست خواص فيزيائية (يسرِي هذا بالمناسبة على جميع الخواص ذات الصلة، عمليًّا، للحاسوب بما هو حاسوب). إلا أن معايير المنطق، عندك وعندي، هي ذات نفع من أجل البقاء.
الفيزيائي : ولكنك قلتَ بنفسك إن خاصية الحاسوب التي تجعله يعمل وفق معايير المنطق قائمة على خواص فيزيائية. ولست أفهم لماذا أنت تنكر أن هذه الخاصة هي خاصة فيزيائية. إن من المؤكد أنها يمكن أن تعرَّف في حدود فيزيائية خالصة. نحن، ببساطة، نشيِّد حاسوبًا منطقيًّا، والذي هو شيء فيزيقي، ثم نحدد العلاقات بين مُدخَله ومُخرَجه على أنها معايير المنطق. بهذه الطريقة نكون قد عَرَّفنا معيار المنطق في حدودٍ فيزيائية خالصة.
التفاعلي : لا؛ إن حاسوبك قد يتلَف. وقد يحدث هذا لأي حاسوب. ويمكنك، بالمناسبة، أن تختار أيضًا كمعيارٍ لك نسخة معينة من كتابٍ في المنطق، إلا أنه قد يحوي داخله أخطاءً، سواء أخطاء مطبعية أو غيرها. لا؛ إنما تنتمي المعايير للعالم ٣، وإن تكن ذات نفع للبقاء؛ مما يعني أن لها تأثيرات عِلِّيَّة في العالم الفيزيائي، في العالم ١. هكذا فإن خاصية العالم ٣ المجردة للكمبيوتر التي يمكننا وصفها بقولنا «إن عملياتها تخضع لمعايير المنطق» لها تأثيرات فيزيائية: إنها … «واقعية» (بالمعنى المذكور في قسم ٤ سابقًا). هذا التأثير العِلِّي على العالم ١ هو بالضبط السبب الذي يجعلني أُسمي العالم ٣، بما فيه موضوعاته المجردة، «واقعيًّا» real. فإذا ما سلمتَ بأن موافقة المعايير المنطقية شيء نافع للبقاء فأنت تسلِّم بنفع المعايير المنطقية، وتسلم من ثَم بواقعيتها. فإذا ما أنكرتَ واقعيتَها فلماذا لا يُلتمَس التشابه بين الحواسيب النافعة ويُلتمس الفرق بين الحاسوب النافع وغير النافع لا في تشابهها أو اختلافها الفيزيقي بل في قدرتها أو عجزها عن العمل وفقًا لمعايير المنطق؟
الفيزيائي : مازلتُ غيرَ مقتنع. هل النفع لأغراض البقاء عندك خاصية تنتمي للعالم ١، مثلما أعتقد أنا، أم تَعده منتميًا للعالم ٣؟
التفاعلي : هذا أمر يتوقف على غيره: فائدة العضو الطبيعي مثلًا أميل إلى اعتباره خاصية تنتمي إلى موضوعات العالم ١، بينما أعتبر فائدة الأدوات التي هي من صنع الإنسان خاصية تنتمي إلى موضوعات العالم ٣.
الفيزيائي : ولكن الدماغ، وحالاته وعملياته، هي موضوعات عالم ١، وكذلك التعبيرات اللفظية كالعبارات أو النظريات. ألا يمكننا، ببساطة، أن نقبل اقتراح وليم جيمس ونسمي نظريةً ما صادقة إذا كانت نافعة؟ وألا يمكننا بالمثل أن نسمي استدلالًا ما صائبًا إذا كان نافعًا؟
التفاعلي : يمكنك طبعًا، غير أنك لا تجني شيئًا. صحيح أن الحقيقة (الصدق) نافعة في سياقات كثيرة؛ وهي نافعة بصفة خاصة إذا كان المرء يتبنى أهداف وأغراض عالم ٣ الخاصة بعالِمٍ، بمنظِّر: أي تفسير أشياء. من هذه الزاوية فإن الاستدلال الصائب ذو قيمة أو «فائدة» بصفة خاصة، لأن بإمكاننا النظر إلى التفسير على أنه نوع معين (مختصَر عادةً) من الاستدلال الصائب. ولكن رغم أننا يمكننا القول بأن الحقيقة (الصدق)، بهذا المعنى، مفيدة فإنه يُفضي إلى اضطراب كبير إذا حاولنا (مع وليم جيمس) أن نوحِّد بين الحقيقة (الصدق) والفائدة.
الفيزيائي : كيف يُفضِي إلى اضطراب؟
التفاعلي : إذا نظر المرء إلى نظرية صادقة كنظرية نافعة، فإنما يفعل ذلك بالأساس بسبب فائدة محتواها المعلوماتي الصادق. ولكن نظرية ما قد تكون صادقة حتى إذا كان مضمونها المعرفي طفيفًا أو صفرًا، فتحصيل حاصل مثل «جميع المناضد هي مناضد» أو ربما «١ = ١» هو صادق؛ غير أنه لا يحوز محتوًى معلوماتيًّا نافعًا. ولهذا الأمر وَقْعُه على فائدة الصواب.
الاستدلال الصائب ينقل الصدق دائمًا من المقدمات إلى النتيجة، ويرد الكذب من النتيجة إلى إحدى المقدمات على الأقل. فهل يُعَد هذا كافيًا لإثبات قيمته الأداتية؟ لا؛ فقد تكون المقدمات صادقة ونافعة ولكن النتيجة صادقة غير نافعة كما بينت للتو. السر هو أن المحتوى المعلوماتي لنتيجة مستمَدة من صدق لا يمكن البتة أن يزيد على المحتوى المعلوماتي للمقدمات (وإذا حدث ذلك فمن الممكن العثور على مثال مضاد). ولكن المحتوى المعلوماتي يمكن أن يتدنَّى في استدلال صائب. وقد يكون، في الحقيقة، صفرًا. مثال ذلك أن نتيجة صائبة (صحيحة) مستمَدة من نظرية ما وافرة المحتوى المعلوماتي والنفع قد تكون مجرد تحصيل حاصل مثل «١ = ١»، والذي هو غير ذي محتوى معلوماتي، ومن ثَم لا تعود نافعة.

هكذا فالاستدلال الصائب (الصحيح) ينقل الصدق دائمًا، ولكن لا ينقل دائمًا النفع. ومن ثم فلا يمكن إثبات أن كل استدلال صائب هو أداة نافعة، أو أن وتيرة عقد استدلالات صائبة، بما هي كذلك، هي دائمًا نافعة.

ولعلك تتساءل لماذا لا تستطيع أنت، بوصفك فيزيائي المذهب، أن تقول بأنه ليس كل استدلالٍ صائب معين هو نافع بل النسق الكلي للاستدلالات الصائبة، أي المنطق كمنطق. والآن، فمن الحق الصراح أن النافع إنما هو النسق، المنطق. ولكن المشكلة بالنسبة لصاحب المذهب الفيزيائي أن هذا بالضبط هو ما لا يسعه التسليم به؛ ذلك أن نقطة الخلاف بينه وبين صاحب مذهب التفاعل هي بالضبط هل توجد أشياء من قبيل المنطق (الذي هو نسق مجرد)، وجودًا يعلو على الطرائق الخاصة بالسلوك اللغوي. إن التفاعل هنا يأخذ برأي الحس المشترك بأن الاستدلال الصحيح نافع، وهذا، حقًّا، سببٌ من أسباب تسليمه بواقعيته (واقعية الاستدلال). أما صاحب المذهب الفيزيائي فلا يحق له قبول هذا الموقف.

انتهى الحوار. وقد حاولتُ فيه باختصار أن أعرض بعض الأسباب التي تفسر لماذا تفشل أي نظرية مادية للمنطق، وللعالم ٣ معه.

إن المنطق، أيْ نظرية الاستدلال الصائب، هو حقًّا أداة ذات قيمة. غير أن هذا لا يمكن تبيانه بتفسيرٍ أداتي للاستدلال الصائب؛ ولا هو ممكن، في اعتقادي، تبيان أفكارٍ مثل فكرة «المحتوى المعلوماتي لنظرية» (وهي فكرة تعتمد على فكرة إمكانية الاستنباط أو فكرة الاستدلال الصائب) ما دمنا لا نتجاوز وجهة النظر المادية؛ وجهة النظر التي لا تقبل إلا الجوانب الفيزيائية للعالم ٣.

لستُ أدَّعي أني قد فندت المذهب المادي. ولكني أعتقد أني قد بينتُ أن المادية لا يحق لها أن تدعي أن لها سندًا من الحجة العقلانية؛ الحجة التي تستمد معقوليتها من المبادئ المنطقية. قد تكون المادية صادقة، ولكنها غير متوافقة مع المذهب العقلي، أي مع تقبل معايير الحجة النقدية؛ لأن هذه المعايير تبدو من وجهة النظر المادية وهمًا، أو أيديولوجية على أقل تقدير.

أعتقد أن الحجة المذكورة في هذا القسم يمكن أن تُعمَّم.

يرى البعض٤١ أن كل حجة هي أيديولوجية، وأن العلم هو مجرد أيديولوجية أخرى. من الواضح أن هذه نزعة نسبية (نسبوية relativism) مدمِّرة لذاتها. وهي ترتبط أحيانًا بأطروحة أن ليس ثمة شيء من قبيل معيار الصواب المحض، أو النظرية المحضة، وأن كل المعرفة إنما تعمل من أجل المصالح البشرية، كالاشتراكية والرأسمالية. والرد على ذلك هو: هل يجب أن تشيد الحواسيب في يوتوبيا اشتراكية بطريقة مختلفة عنها في مجتمع رأسمالي؟ (قد تكون مبرمَجة بالطبع على نحو مختلف؛ ولكن هذا قولٌ نافل؛ لأنها سوف تُبرمَج دائمًا على نحو مختلف إذا ما استُخدِمَت لحل مشكلاتٍ مختلفة.)

(٢٢) ما يسمى نظرية الهوية identity theory

كان دأبي دائمًا أن أتجنب مناقشة معنى الكلمات، وبالتالي أن أتجنب أيضًا انتقاد نظرية ما بسبب استخدام ألفاظ خاطئة أو ألفاظ ذات معنًى خاطئ أو غير ذات معنًى على الإطلاق. وسياستي المتبعة في هذه الحالات هي أن أرى ما إذا كانت النظرية المعنِية يمكن إعادة صياغتها أو إعادة تفسيرها بحيث تزول الاعتراضات القائمة على معنى الألفاظ.٤٢

ينطبق هذا على نظرية الهوية (كثيرًا ما ترد نظرية الهوية مرتبطة بمذهب شمول النفس، على سبيل المثال عند مؤسسها سبينوزا، أو في زمننا نحن في أعمال رينش. ورغم ذلك ينبغي أن نميزها بوضوح عن مذهب شمول النفس كنظرية). وأنا أشك كثيرًا جدًّا فيما إذا كانت صياغة مثل «العمليات العقلية هي في هوية مع (متماهية مع) نوع معين من العمليات الدماغية (الفيزيائية-الكيميائية)» يمكن أن تؤخذ بقيمتها الظاهرة، بالنظر إلى حقيقة أننا نفهم، منذ ليبنتز، «أ في هوية مع ب» على أنها تتضمن أن أي خاصة للشيء أ هي أيضًا خاصة للشيء «ب». يبدو بعض أصحاب نظرية الهوية بالتأكيد قائلين بالهوية بهذا المعنى؛ ولكني أشك كثيرًا في أنهم يعنون ذلك حقًّا (تجد نقدين قويين للغاية، وإن كانا مختلفين جدًّا، لدعوى الهوية بهذا المعنى، عند جوديث جارفيز طومسون (١٩٦٩م) وشاول كريبكي (١٩٧١م)، كلاهما يبدو لي حاسمًا إلى حد بعيد). وبالنظر إلى هذا الموقف سوف أتبنى السياسة التالية: سأنقد نظرية الهوية بنقد نتيجة أضعف منطقيًّا مترتبة عليها، وهي النظرية السبينوزية القائلة بأن العمليات العقلية هي عمليات فيزيائية (جسمية) تُخبَر «من الداخل»، أي أنني سأنتقد شكلًا من أشكال مذهب التوازي (نظرية التوازي أضعف من نظرية الهوية؛ لأن هوية خطين أو سطحين هو حالة حَدِّية لتوازيهما: فهما متوازيان على بعدٍ يساوي صفرًا). بهذه الطريقة يمكنني أن أتجنب نقد دعوى الهوية وأظل ناقدًا نظرية الهوية وبعض النظريات الأضعف في الوقت نفسه. وفضلًا عن ذلك فإن تبني هذه السياسة لا يحول بيني وبين عرض نظرية الهوية في أقصى درجة أستطيعها من المعقولية والإقناع.

إن نظرية الهوية في بعض صيغها قديمة جدًّا في الزمن. وقد أعيدت صياغتها عند ديوجينيس الأبولوني (DK B5). ومما لا شك فيه أن ديمقريطس كان يعتبر العمليات النفسية متماهية مع عملياتٍ ذرية، وأن أبيقور (رسالة ١ إلى هيرودوتوس، ص٦٣ وما بعدها) يشير بوضوح إلى أنه يعتبر الإحساسات والانفعالات (أو المشاعر) عقلية أو نفسية، ويعتبر الروح أو العقل كتلة من جسيماتٍ دقيقة؛ وهذه الأفكار أقدم حتى من ذلك بغير شك. وقد أكد ديكارت على الطبيعة المختلفة لكل من العقلي (غير الممتد؛ المكثَّف intensive) والجسمي (الممتد)؛ بينما أكد سبينوزا الديكارتي أن نظام وارتباط الأفكار (العقلية) هو نفسه (أو في هوية مع) نظام وارتباط الأشياء (الفيزيقية) (الأخلاق، الجزء ٢ قضية ٧، الجزء ٥ قضية ١، برهان)؛ وهو يفسر هذا بنظرية أن العقل والمادة هما طريقتان مختلفتان لفهم، أو وجهان ﻟ، جوهرٍ واحد (أو شيء في ذاته)، والذي يسميه أيضًا «الطبيعة» أو «الرب». هذه النظرية — تَوازٍ بين العقل والمادة مفسَّرًا بكونهما وجهين لشيءٍ في ذاته — هي فيما أظن بداية نظرية الهوية الفيزيائية الحديثة التي تستبدل ﺑ «الطبيعة» إما «العملية العقلية» وإما «العملية الفيزيائية»، وتَقْصُر دعوى الهوية على فئة تحتية صغيرة من العمليات المادية، على فئة تحتية من العمليات الدماغية، التي توحِّد (تُماهِي) بينها وبين العمليات العقلية.

وإنه لَمِن الشائق أن نظرية الوجهين لسبينوزا كثيرًا ما توصَف على أنها نظرية هوية. هكذا كان عالِم أعصاب القرن ١٩ العظيم جون هوجلينج جاكسون (١٨٨٧ = ١٩٣١م، المجلد ٢، ص٨٤) يميز المذاهب الثلاثة التالية للعلاقة بين الوعي و«المراكز العصبية العليا» للجهاز العصبي (الملاحظات التي بين الأقواس هي إضافة مني).

  • (١)

    «العقل يعمل من خلال الجهاز العصبي» (مذهب التفاعل)

  • (٢)

    «نشاطات المراكز العليا والحالات العقلية هي شيءٌ واحد ونفس الشيء، أو هي جانبان مختلفان لشيء واحد ونفس الشيء» (نظرية الهوية؛ ومذهب سبينوزا).

  • (٣)

    الشيئان وإن كانا «مختلفين تماما»، «يحدثان معًا … في تَوازٍ»، وليس ثمة «تدخل لأحدهما في الآخر» (مذهب التوازي).

من الواضح أن (٢) تتضمن نظرية الهوية ومذهب سبينوزا، بينما (٣) تميز مذهب توازٍ غير سبينوزي (ليبنتزي؟) من (٢). (جاكسون نفسه اختار ٣). وأنا أيضًا سأعتبر هنا نظرية الهوية كشكلٍ أكثر جذرية لنظرية التوازي السبينوزية.

تهدف النظرية التي أَطلق عليها هربرت فايجل «نظرية الهوية السيكوفيزيقية»٤٣   psychophysical identity theory إلى تجنب لامعقوليات مذهب الظاهرة المصاحبة ومصاعبه. وهي تفعل ذلك بأن تؤكد أن الظواهر العقلية — أو العمليات العقلية — واقعية (real). (يمضي فايجل، مقتفيًا أثر شليك، إلى حد القول بأنها هي الأشياء الحقيقية أو، بالمصطلح الكانْتي، الأشياء في ذاتها.)٤٤ وبذلك لا تلعب العمليات العقلية هنا دورَ الظواهر الزائدة المعترَض عليه، ومع ذلك فهي يُحدَس بأنها «متماهية» مع فئة تحتية معينة من العمليات الفيزيقية التي تحدث في أدمغتنا. هذا هو الحدس الافتراضي المركزي للنظرية. ليس يعني ذلك أن الخبرات أو العمليات العقلية كما تُعرَف بالاتصال المباشر يتعين أن تكون متماهية «منطقيًّا» مع عمليات فيزيقية كما تصفها النظرية الفيزيائية. على العكس، كما يؤكد شليك، فإن العمليات العقلية التي لدينا بها «معرفة بالاتصال المباشر» knowledge by acquaintance يُفترَض، وفقًا لهذه النظرية، أنها «متماهية» مع نوعٍ من العملية الفيزيائية قد لا نحوز عنها إلا «معرفة بالوصف» knowledge by description؛ «متماهية» بمعنى أن الأشياء التي يحاول عالِم فسيولوجيا الدماغ أن يصفها في حدودٍ نظرية يتبيَّن إمبيريقيًّا أنها، جزئيًّا، خبراتنا الذاتية. هذه المعرفة هي معرفة «نظرية» (وهي بالتالي معرفة حدسية افتراضية)؛ أو، كما يحب فايجل أن يعبر، أن العمليات العقلية التي لنا بها معرفة بالاتصال المباشر يتبين، إذا أردنا أن نحوز عنها معرفة بالوصف، أنها عمليات دماغية فيزيائية. هكذا وفقًا لنظرية فايجل فإن نوعًا من العملية العقلية، معتبَرًا كنوعٍ من العملية الدماغية، قد يتكون من واقعة أن عددًا كبيرًا بما يكفي من النيورونات تعمل جميعًا ميكروكيميائيًّا نفسَ الشيء، مثلًا: تركيب جزيئاتِ مُوَصِّلٍ عصبي معين بإيقاعٍ خاص.

يمكن أن تصاغ نظرية الهوية (أو «نظرية الحالة المركزية») هكذا: ولنطلق اسم «عالم ١» على فئة العمليات في العالم الفيزيقي (الجسمي). ثم لنقسِّم العالم ١ (أو فئة الأشياء المنتمية إليه)، كما في قسم ١٦، إلى عالمين فرعيين أو فئتين تحتيتين حصريتين، بحيث إن العالم ١ع (ع للعقلي) يتكون من «وصف» في حدود فيزيقية (جسمية) لفئة جميع العمليات العقلية أو السيكولوجية التي ستُعرَف دومًا بالاتصال المباشر، بينما الفئة الأعرض كثيرًا، العالم ١ج (ج للجسمي المحض) تتكون من جميع تلك العمليات الجسمية (الفيزيقية) (موصوفةً في حدودٍ فيزيقية) التي ليست أيضًا عمليات عقلية.

بتعبيرٍ آخر فإن لدينا:

  • (٤)

    العالم ١ = العالم ١ج + العالم ١ع.

  • (٥)

    العالم ١ج. العالم ١ع = صفر (أي أن الفئتين تُقصِي إحداهما الأخرى).

  • (٦)

    العالم ١ع = العالم ٢.

تؤكد نظرية الهوية على النقاط التالية:

  • (٧)

    بما أن العالم ١ج والعالم ١ع هما شطرَا نفس العالم ١، فليس ثَمة مشكلة يطرحها التفاعل بينهما؛ فمن الواضح أنهما يمكن أن يتفاعلا وفقًا لقوانين الفيزياء.

  • (٨)

    بما أن العالم ١ع = العالم ٢، فالعمليات العقلية واقعية، وهي تتفاعل مع عمليات العالم ١ج، بالضبط كما يقضي مذهب التفاعل. ومن ثَم فإن هناك مذهب تفاعل (بلا دموع).

  • (٩)

    وعلى ذلك فإن العالم ٢ ليس بالظاهرة الثانوية (المصاحبة) بل هو واقعي (أيضًا بالمعنى المشار إليه في قسم ٤ سابقًا). إذن التضارب بين وجهة النظر الداروينية والنظرة الظاهرية المصاحبية لعالم ٢ الموصوفة في قسم ٢٠ لا يحدث (أو هكذا يبدو الأمر، ولكن انظر القسم القادم).

  • (١٠)

    إن «هوية» العالم ١ع والعالم ٢ يمكن أن نجعله مقبولًا حدسيًّا بالتمعن في سحابة: إنها من الوجهة الفيزيائية تتكون من ركام من بخار الماء، أي منطقة من المكان الفيزيائي تنتشر فيها قطرات ماء ذات معدل حجمي معين وبكثافة معينة. هذا بناء فيزيائي يبدو من الخارج أشبه بسطح عاكس أبيض، وتُخبَر من الداخل كضبابة باهتة غير شفافة إلا قليلًا. فهذا الشيء كما يُخبَر هو، في الوصف النظري أو الفيزيائي، متماهٍ مع بنية قطرات الماء.

    بوسعنا، وفقًا لبليس U. T. Place، أن نضاهي «الوجهين الداخلي والخارجي للسحابة» ﺑ «الخبرة الداخلية أو الذاتية لعملية دماغية والملاحظة الخارجية للدماغ». وكذلك يمكن أن نضاهي الوصف النظري في حدود بخار الماء أو بنية قطرات الماء بالوصف الفيزيائي النظري (غير المكتمل المعرفة بعد) للعمليات الدماغية الفيزيائية الكيميائية المتضمَّنة في هذا الأمر.
  • (١١)

    عندما نقول إن الضباب تسبب في حادث سيارة، فإن هذا يمكن تحليله، في حدودٍ فيزيائية، بأن نبيِّن كيف امتصت قطراتُ الماء الضوءَ، بحيث إن كَمَّات الضوء التي كان يُفترَض أن تنبه شبكية السائق لم تصل قَط إلى الشبكية.

  • (١٢)

    يشير مؤيدو نظرية الحالة المركزية أو نظرية الهوية إلى أن مصير النظرية سوف يعتمد على التعزيز التجريبي الذي يمكن توقع مجيئه مع تقدم أبحاث الدماغ.

    أما وقد قدمتُ ما أعتبره النقاط الجوهرية للنظرية، فإني أعتبر النقاط التالية غير جوهرية.

    • (أ)
      اقتراح هربرت فايجل (١٩٦٧م، ص٢٢) بأن النظرية لا تفترض فرضية التطور الانبثاقي (يعتبر سمارت هذه الفرضية نقطة هامة بل حاسمة). وأعتقد أن النظرية تفترضها بالتأكيد؛ إذ لم يكن ثمة عالم ١ع قبل أن ينبثق من عالم ١ج، ولا كان يمكن التنبؤ بخواصه العقلية المميزة. غير أني أعتبر هذه الطبيعة الانبثاقية لعالم ١ع كشيء مناسب تمامًا، وليس كنقطة ضعف للنظرية.٤٥
    • (ب)
      جدير بالذكر أنني في عرضي للنظرية قد حاولت أن أتجنب أي حجة لفظية محضة فيما يتصل بمصطلح «متماهٍ» identical، أو بالسؤال عما يمكن أن يعنيه قولنا إن العمليات الخبروية أو العقلية (العالم ٢ = العالم ١ع) «متماهية» مع موضوعات أوصافنا الفيزيقية. هذه «الهوية» لها مصاعبها بالتأكيد. إلا أنه، من وجهة نظري، ليس ثَم ما يدعو إلى أن نعتبرها حاسمة للنظرية أو لصيغة معينة لها، تمامًا مثلما أنه غير جوهري لاستعارة السحابة أن نقرر بأي معنًى تكون الجوانب الثلاثة — المنظر الخارجي والمنظر الداخلي والوصف في حدودٍ فيزيائية — تكون جميعًا أوجهًا لشيءٍ واحدٍ ولنفس الشيء. ما أَعُده حاسمًا هو أن نظرية الهوية تلتزم بمبدأ المذهب الفيزيائي الخاص بانغلاق العالم ١. ومن ثَم فإنه من وجهة نظري، ستكون أي نظرية تتخلى عن مصطلح «هوية» وتستبدل به «ارتباطًا وثيقًا جدًّا»، ستكون مغلوطة بنفس الدرجة إذا تمسكت بهذا المبدأ الفيزيائي.
    • (جـ)

      يؤكد فايجل عن حق «واقعية» العمليات العقلية. وهذه النقطة تبدو لي جوهرية. ولكنه يؤكد أيضًا طبيعة العمليات العقلية على أنها أشياء في ذاتها. وهذا يجعله، فيما يبدو لي، روحيَّ المذهب لا فيزيائي المذهب، غير أن هذا يجر مناقشات من السهل أن تصبح مناقشات لفظية تمامًا. ولنرجع مرةً ثانيةً إلى استعارة السحابة. يبدو لي (وإن كرهت بالضرورة أن أحاجَّ في ذلك) أن الوصف الفيزيائي — وصف السحابة كمكانٍ تنتشر فيه قطرات ماء من نوع معين — يأتي بطريقة ربما أقرب إلى وصف الشيء في ذاته منه إما إلى الوصف الخارجي كسحابة أو كسطح جَسيمٍ يعكس الضوء، وإما إلى الخبرة الداخلية كضبابة. ولكن هل هذا يهم؟ ما يهم حقًّا هو أن جميع الأوصاف هي أوصاف نفس الشيء الواقعي؛ شيء يمكن أن يتفاعل مع جسمٍ فيزيائي (مثلًا بالتكثُّف عليه ومن ثَم جعله مبتلًا).

أعتقد أننا قد نفترض أن لا مشكلة هنا؛ فما زال بإمكاننا أن ننقد النظرية على أسسٍ غير لفظية. في القسم التالي سأتناول بالنقد نظرية الهوية بوصفها مذهبًا فيزيائيًّا. وفي قسمٍ لاحق (قسم ٥٤) سوف أبين أنها كنظرية ذاتِ نزعة روحية، تتاخم مذهب شمول النفس، فإنها لا تنسجم مع الكوزمولوجيا الحديثة.

(٢٣) هل تنجو نظرية الهوية من مصير مذهب الظاهرة المصاحبة؟

قبل أن أشرع في نقد نظرية الهوية، ليكن واضحًا تمام الوضوح أني أعدها نظريةً في علاقة العقل بالجسم متسقةً تمام الاتساق. وفي رأيي أن النظرية «قد» تكون من أجل ذلك صادقة.

ما أعدها غير متسقة هي نظرية أوسع انتشارًا وأقوى: النظرة المادية إلى العالم، التي تشمل الداروينية، والتي تؤدي مع نظرية الهوية إلى تناقض، كما هو الحال في مذهب الظاهرة المصاحبة. وأطروحتي هي أن نظرية الهوية المتحدة بالداروينية تواجه نفس المصاعب التي يواجهها مذهب الظاهرة المصاحبة.

صحيح أن نظرية الهوية مختلفة نوعًا ما عن مذهب الظاهرة المصاحبة، وبخاصة من وجهة نظر حدسية. من هذه الزاوية لا تبدو نظرية الهوية شكلًا من التوازي السيكوفيزيقي٤٦ بقدر ما تبدو قريبة من الثنائية التفاعلية.

ذلك لأننا بالنظر إلى

(٣) العالم ١ع = العالم ٢

ولدينا من (٤) أن العالم ١ يتفاعل مع العالم ٢. كما أن التوكيدَ على واقعية العالم ١ع (= العالم ٢) وفعاليته قَوِيٌّ لا مزيد عليه. كل هذا يأخذ العالم ١ع (العالم ٢) بعيدًا عن مذهب الظاهرة المصاحبة.

وفضلًا عن ذلك فإن لنظرية الهوية مزية عظيمة فوق مذهب الظاهرة المصاحبة، هي أنها تقدم نوعًا من التفسير — وتفسيرًا مُرْضيًا من الجهة الحدسية — لطبيعة الصلة بين العالم ١ع والعالم ٢. أما في مذهب التوازي الظاهري المصاحبي فإن هذه الصلة تبقَى غير متبيَّنة وتتطلب التسليم بها كواحدة من الوقائع النهائية للعالم غير القابلة للتفسير، كانسجامٍ مقدَّرٍ ليبنتزي. أما في نظرية الهوية (سواء أخذنا مصطلح «هوية» مأخذ الجد أم لا) فإن الصلة مقنِعة (على الأقل بنفس درجة إقناع الصلة بين الوجه الداخلي والوجه الخارجي في مذهب سبينوزا).

كل هذا يبدو أنه يميز نظرية الهوية تمييزًا حادًّا عن مذهب الظاهرة المصاحبة. ورغم ذلك فإن نظرية الهوية غير مُرضِية من زاوية داروينية بنفس درجة الظاهرة المصاحبة. غير أننا (ولا سيما الماديين منا) بحاجة إلى الداروينية بوصفها التفسير الوحيد المعروف لانبثاق السلوك الغرضي في عالم مادي، أو فيزيائي، محض، أو حتى في عالمٍ كان في مرحلة ما من تطوره مقصورًا على العالم ١ج (بحيث كان في هذه المرحلة العالم ١ع = العالم ٢ = صفر).

هكذا تكون أطروحتي هي أن ملاحظاتي النقدية عن مذهب الظاهرة المصاحبة تنطبق هنا أيضًا، بعد إجراء جميع التغييرات الضرورية، وإن سلمتُ بأن ذلك يحدث بقوة حدسية أقل.

ذلك أن نظرية الهوية هي في مقصدها ومغزاها نظرية فيزيائية خالصة. ويظل مبدؤها الأساسي هو مبدأ انغلاق العالم ١، الذي يُفضي إلى القضية المساعدة القائلة بأن التفسير «العِلِّي»، ما دام هو معرفة بالوصف، يجب أن يكون في حدودِ نظرية فيزيائية صارمة. قد يسمح لنا هذا بقبول انبثاق عالم ١ع جديد، غير أنه لا يسمح لنا بالقول بأن السمة المميزة لهذا العالم ١ع هي أنه يتكون من عمليات عقلية، أو أنه متصل صلة وثيقة بعمليات عقلية.

ومن جهة أخرى فإن علينا أن نشترط أن تكون كل المستجدات الكبرى المنبثقة تحت ضغط الانتخاب الطبيعي مفسَّرة تمامًا داخل العالم ١.

وبتعبير آخر فإن العالم ٢ في نظرية الهوية يبقَى من الوجهة الداروينية في نفس الموقف المنطقي لعالم ٢ في مذهب الظاهرة المصاحبة. فعلى الرغم من أنه مؤثر عِلِّيًا فإن هذه الحقيقة غير ذات صلة إذا كنا بصدد تفسير أي فعلٍ عِلِّي لعالم ٢ على العالم ١، فذاك أمرٌ يجب أن يتم كليًّا في حدود عالم ١ المغلق.

فالشيء الحقيقي، الشيء في ذاته، والعِلِّية التي تُعرَف بالاتصال المباشر، كل هذا يبقى، من وجهة نظر المبدأ الفيزيائي والمعرفة بالوصف، خارج التفسير الفيزيائي، وخارج ما يقبل التفسير الفيزيائي في حقيقة الأمر.

يتطلب مبدأ انغلاق العالم ١ أن نظل نفسر، تفسيرًا صادقًا، ذهابي إلى طبيب الأسنان في حدودٍ فيزيائية خالصة. ولكن إذا كان الأمر كذلك فإن واقعة أن العالم ١ع في هوية مع العالم ٢ — العالم الخاص بآلامي وسعيي للتخلص منها ومعرفتي عن طبيب الأسنان — تبقى زائدة من الوجهة العِلِّية. ولا يغير من هذا شيئًا القولُ بأن تفسيرًا عِلِّيًا آخر، خاصًّا بالعالم ٢، هو أيضًا صادق: فهذا لا احتياج إليه؛ والعالم يعمل بدونه. ولكن الداروينية لا تفسر انبثاق الأشياء أو العمليات إلا إذا كانت تُحدِث فارقًا. إن نظرية الهوية تضيف وجهًا جديدًا إلى العالم الفيزيائي المغلق، ولكنها لا تستطيع أن تفسر ميزة هذا الوجه في صراعات العالم ١ وضغوطه؛٤٧ إذ لا يمكنها أن تفسر هذا إلا إذا كان العالم ١ الفيزيائي الخالص يتضمن هذه المزايا. ولكن إذا أمكن ذلك لكان العالم ٢ فائضًا.

هكذا يتبين أن نظرية الهوية، على العكس من طابعها الحدسي، هي، من الوجهة المنطقية، في نفس القارب الذي فيه نظرية توازٍ تستخدم مبدأ المذهب الفيزيائي الخاص بانغلاق العالم ١.

(٢٤) ملاحظة نقدية عن مذهب التوازي

نظرية الهوية كشكلٍ من مذهب التوازي

في هذا القسم سأناقش ما قد يصفه المرءُ بأنه الخلفية التجريبية لمذهب التوازي السيكوفيزيقي. وعن طريق فكرة بعدية سأقترح أن أيَّما شيء يبدو جزءًا من دليل داعم في مصلحة نظرية الهوية هو أيضًا أحد الحالات التي تبدو مدعمة لمذهب التوازي؛ وهذا سبب إضافي لتفسير نظرية الهوية كحالة خاصة (حالة متنكِّسة) لمذهب التوازي.

سأبدأ من علاقة الإدراك الحسي بالمكونات الأخرى لوعينا، وسأحاول أن ألقِي بعضَ الضوء على خصائص معينة للإدراكات الحسية من خلال مناقشة الوظيفة البيولوجية للإدراك الحسي.

تحت تأثير ديكارت، وتأثير التجريبية الإنجليزية أيضًا، فإن ضربًا من النظرية الذرية للأحداث أو العمليات العقلية أصبح قائمًا على نطاق عريض. هذه النظرية، في أبسط صورها، فسرت الوعي ﻛ «تعاقبٍ لأفكارٍ أولية». ولا يهم في أغراضنا ما إذا كانت الأفكار تعتبر كذرات غير قابلة للتحليل أو كجزيئات (تتكون مثلًا من إحساسات ذرية أو من معطيات حسية أو غير ذلك)، ما يهمنا هو المذهب القائل بأن هناك أحداثًا عقلية أولية (أفكارًا) وأن تيار الوعي يتكون من تتابع منتظم من هذه الأحداث.

ثم افترَضَ بعضُ الديكارتيين أن كل حدثٍ عقلي أوَّلِي يناظره حدثٌ دماغي محدد. وافترَضوا أن هذا التناظر هو من صنف تناظر واحد لواحد. والنتيجة هي مذهب توازي العقل-الجسم، أو مذهب التوازي السيكوفيزيقي.

والآن علينا أن نعترف بأن هناك لُبًّا من الحقيقة في هذه النظرية. عندما أنظر إلى زهرة حمراء، ثم (أظل ثابتًا) وأغلق عينَيَّ لمدة ثانية، ثم أفتحهما وأنظر مرة ثانية، فإن الإدراكين الحسيين سيكونان متماثلين بحيث أَعُد الإدراكَ الثاني تكرارًا للأول. نحن جميعًا نفترض أن هذا التكرار يجب أن يفسَّر بواسطة التماثل بين الإثارتين المتمايزتين زمنيًّا لشبكية عيني، والعمليتين الدماغيتين المناظرتين. فإذا عممنا من هذه الاعتبارات (تعميمًا يبدو صحيحًا لمن يأخذ بمذهب هيوم بصفة خاصة، إذ إن الوعي بِرُمَّته عند هيوم لا يتكون إلا من مثل هذه الخبرات) فإننا نصل إلى مذهب التوازي السيكوفيزيقي (يبدو أن التحول الجشطلتي لمكعب نِكَر،٤٨ الذي يعود بغير شك إلى تغيير المسلك الوظيفي للدماغ، يضيف تأييدًا جديدًا لذلك).
figure
Necker cube.

من المفهوم إذن لماذا يبدو مذهب التوازي السيكوفيزيقي مقنِعًا جدًّا، بل واضحًا حقًّا، للكثيرين. غير أني سأحاول هنا أن أناهضه. وسيكون اعتراضي الأساسي هو أن أمثلة الإدراكات الحسية المتكررة قد أسيء تفسيرها، وأن حالات وعينا يجب أن نتصورها كتعاقباتٍ من العناصر الأولية، لا من الذرات ولا من الجزيئات.

حقًّا: لقد نظرتُ مرتين، بانتباه، إلى الشيء نفسه؛ وحيث إن عقلي قد تعلَّم كيف يحيطني علمًا عن بيئتي، فقد أعلمني بهذه الواقعة. وقد فعل ذلك بأن أنتج الفرضية، أو الحدس الافتراضي: «هذه هي الزهرة نفسها كما سبق (ونفس الجانب منها، إذ لم تتحرك الزهرةُ ولا أنا تحركْتُ)».

ولكن بالضبط لأنني هكذا أُعلِمتُ عندما ادعيتُ تماهي الخبرتين فإن الخبرة الثانية أو حالة الوعي الثانية كانت مختلفة عن الأولى؛ فالتوحيد هنا توحيد أشياء، وتوحيد جوانبها، أما الخبرة الذاتية («الحكم» المكوَّن، الحدس الافتراضي المكوَّن) فكانت مختلفة، لقد خبرتُ تكرارًا لم أخبره مع الإدراك الأول. فإذا صحَّ ذلك فإن نظرية الوعي كتتابعٍ (كثيرًا ما يكون تكراريًا) لإدراكاتٍ أولية أو ذرية هي نظرية مغلوطة. ويترتب على ذلك أن نظرية تناظر واحد لواحد بين أحداث الوعي الأولية وأحداث الدماغ سيكون علينا أن نتخلى عنها كنظرية لا أساس لها (ولكن، بالتأكيد، ليس كنظرية مفنَّدة تجريبيًّا)؛٤٩ لأنه إذا كانت حالاتنا الواعية ليست تتابعات عناصر أولية، إذن فلم يعد واضحًا ماذا عساه أن يناظر ماذا، بطريقة واحد لواحد.

قد يحاول صاحب نظرية التوازي أن يتجنب هذه النتيجة، ويصر على أن إدراكاتنا الحسية (والأحداث الدماغية المناظرة لها) ليست ذرية بل جزيئية، في هذه الحالة فإن الذرات الخبروية (المفترضة) وعناصر الأحداث الدماغية الموضوعية قد تظل في تناظر واحد لواحد، رغم أنه قد لا يكون هناك في الحقيقة خبرتان جزيئيتان (وأحداثهما الدماغية المناظِرة لهما) متماهيتان.

يبدو لي أن هناك نقطتين يمكن إثارتهما ضد هذا الرأي.

  • أولًا: في حين كانت النظرية الأصلية التي كنا نناقشها صريحة ومُفيدة (مُبلِغة)، تصف، مثلما فعلت، الخبرات الحقيقية كإدراكاتٍ أولية أو ذرية، وتشير بأن هناك حدثًا ما دماغيًّا أوليًّا في تناظرِ واحدٍ لواحد مع كل منها، فها نحن الآن بإزاء شبحٍ ذري يقدَّم لنا كبديل. فالنظرية الاستبدالية تأملية تمامًا، لا تعدو الادِّعاء بأن جميع الخبرات الحقيقية مكونة، بطريقة ما غير محددة، من مكوناتٍ ذرية، يُفترَض أن لها ملازِمات دماغية (brain correlates): إنها تنقل المذهب الذري دوجماطيقيًّا من الفيزياء إلى السيكولوجيا. مثل هذه الأشياء قد توجد — فنحن لا نستطيع استبعادها — ولكن نظريةً كهذه لا يمكن أن تَدَّعِي أيَّ سندٍ تجريبي.
  • ثانيًا: بالنظر إليها كنظرية في الإدراك أعتقد أنها على المسار الخطأ. سأقترح فيما يلي أننا يجب أن نتخذ مقاربة بيولوجية إلى الوعي، وأن إحدى وظائف الوعي أن يتيح لنا أن نميز الأشياء الفيزيائية عندما نقابلها مرة ثانية. تفسر النظرية التي كنا نناقشها هذا الأمر تعسفيًا على أنه تكرار لحدثٍ سيكولوجي وحدثٍ دماغي مناظر له.
نظرية الإدراك الحسي التي أنقدها الآن هي، بالمناسبة، جزء من النظرية الرائجة جدًّا وإن تكن مغلوطة، نظرية تناظر واحد لواحد بين المثير والاستجابة، أو بين المُدخَل والمُخرَج. وهذه النظرية بدورها هي جزء من النظرية التي أيدها شرينجتون فيما يبدو في (١٩٠٦م) ولكن رفضها في (١٩٤٧م)، والقائلة بأن هناك نوعًا أوليًّا واحدًا من الوظيفة الدماغية الذرية أو الجزيئية — «المنعكَسات» (الارتكاسات) reflexes وما يُسمَّى «المنعكَسات الشرطية» conditioned reflexes — والتي يعد كل ما عداها مركبات أو مدمجات منها. انظر روجر جيمس ١٩٧٧م.٥٠

ماذا إذن عن وضع الإدراك الحسي؟ أقترح أن نتقدم في طريقٍ مختلف. فبدلًا من أن نبدأ من افتراض آلية مثير استجابة واحد لواحد (رغم أن هذه الآليات ربما تكون موجودة وربما حتى تلعب دورًا هامًّا)، أقترح أن نبدأ من واقعة أن الوعي أو الدراية لها عدد من الوظائف المفيدة بيولوجيًّا.

عندما نسترد الوعي بعد نوبة من فقدانه، تبرز مشكلة مميزة: «أين أنا؟» وأنا أعد هذه دلالة على أن من الوظائف الهامة للوعي أن يحفظ مسار أماكن تواجدنا في العالم بتشييد نوع من النموذج التخطيطي (كما أشار كينيث ج. و. كريك، ١٩٤٣م) أو خريطة تخطيطية، مفصلة فيما يتعلق ببيئتنا المباشرة اللحظية، واستقرابية جدًّا فيما يتعلق بالمناطق الأبعد. هذا النموذج أو هذه الخريطة، فيما أرى، بموقعنا المحدد عليها، هي جزء من الوعي بالذات المعتاد. وهي موجودة في الأحوال العادية على شكل ميول أو برامج غامضة؛ غير أن بإمكاننا أن نركز انتباهنا عليها متى شئنا، وإذَّاكَ قد تصبح أكثر تفصيلًا ودقة. هذه الخريطة أو هذا النموذج هو واحد من عدد كبير من النظريات الحدسية الافتراضية عن العالم التي نتخذها، والتي نستدعيها للعون بشكل شبه دائم بينما نتقدم، وبينما نضع ونحدد ونحقق برنامج وجدول مواعيد الأفعال التي نحن منخرطون فيها.

إذا نظرنا الآن إلى وظيفة الإدراك الحسي واضعين هذا في الاعتبار، فإن أعضاءنا الحسية، فيما أرى، يجب اعتبارها مساعِدات لدماغنا. والدماغ بدوره مبرمج لكي يتخير نموذجًا (أو نظرية أو فرضًا)، ملائمًا وذا صلة، لبيئتنا، ونحن نمضي قدمًا، لكي يقوم العقل بتفسيره. هذا ما يجب أن أسميه الوظيفة الأصلية أو الأساسية لدماغنا وأعضاء حِسِّنا، للجهاز العصبي المركزي في الحقيقة؛ فقد نشأ في صورته الأشد بدائية كجهاز للقيادة، كمُعِينٍ على الحركة (الجهاز العصبي المركزي البدائي، في الديدان، هو مُعِين على الحركة، وكذلك الأمر في الحواس الأكثر بدائية بكثيرٍ لدى الفطريات. انظر ماكس ديلبروك (١٩٧٤م) لترى تقريرًا عن بحوثه الآسرة حول بداية أعضاء الحس وحول حل المشكلات في الفطريات الطحلبية).

إن الضفدع مبرمَج من أجل المهمة العالية التخصص للإمساك بالذباب المتحرك. وإن عين الضفدع لا ترسل حتى إشارةً إلى دماغه بذبابة في متناوله إذا كانت الذبابة لا تتحرك.٥١
منذ سنوات عديدة اقتبستُ من ديفيد كاتز (الحيوانات والبشر، فصل ٦، انظر كتابي 1963a، ص٤٦ وما بعدها) في سياق مماثل: «الحيوان الجائع يَقسِم البيئة إلى أشياء قابلة للأكل وأشياء لا تؤكَل.» وبصفة عامة فإن الحيوان سيدرك ما يعنيه وفقًا لموقفه المشكِل، وموقفه المشكل سيتوقف لا على موقفه الخارجي فحسب بل على حالته الداخلية: برنامجه الخاص، كما هو معطَى بواسطة جِبِلَّته الجينية، وبرامجه الفرعية العديدة، رغباته واختياراته. وفي حالة الإنسان فإن هذا يشمل الأهداف الشخصية والقرارات الواعية الشخصية.

وعَوْدًا من هنا إلى تجربتنا التي أدت إلى تتابع إدراكَين حسيين متماثلين عمليًّا، لستُ أنكر أن الإدراكَين بما هما إدراكان كانا متشابهين للغاية: فما كان لدماغنا، مدعومًا بأعيننا، أن يقوم بمهمته البيولوجية لو لم يكن قد أبلغنا بأن بيئتنا لم تتغير من اللحظة الزمنية الأولى إلى اللحظة الثانية. وهذا يفسر لماذا، في مجال الإدراك الحسي، سيكون هناك وعي بالتكرار إذا كانت الأشياء المدرَكة لا تتغير، وإذا كان برنامجنا لا يتغير. ولكن هذا لا يعني أن محتوى وعينا تَكَرَّر، مثلما ألمحتُ للتو. ولا هو يعني أن الحالتين الدماغيتين كانتا متماثلتين جدًّا. الحق أن برنامجنا (الذي كان، في هذه الحالة الخاصة، «قارِن استجابتك لمثيرٍ يتكرر في لحظتين متتاليتين من الزمن») لم يتغير بين اللحظة الأولى والثانية، ولكن اللحظتين الزمنيتين لعبتا دورين مختلفين اختلافًا حاسمًا في ذلك البرنامج، بالضبط بسبب التكرار؛ وهذا وحده قد أكد أنهما قد خُبِرَتا بطريقتين مختلفتين.

نرى الآن أنه حتى فيما يتصل بوعي الإدراكات الحسية (التي لا تمثل غير جزء من خبراتنا الذاتية) ليس ثمة تناظر واحدٍ لواحد بين المثير والاستجابة كما تشير ملاحظة ديفيد كاتز عن التغيرات الممكنة في اهتمامنا وفي انتباهنا. ورغم ذلك فإن الإدراكات لن تحقق مهمتَها ما لم يكن هناك، في الحالات التي لم يتغير فيها الاهتمام والانتباه، شيءٌ ما مقارب لتناظُر واحد لواحد. إلا أن هذه حالة خاصة جدًّا؛ والإجراء المعتاد في التعميم من حالة خاصة، والنظر إلى المثير والاستجابة كآلية واحدٍ لواحد بسيطة، وحصر محتويات خبراتنا الواعية في هذا وحده، هذا الإجراء خاطئ فاحش الخطأ.

ولكن إذا نبذنا فكرة تتابع حدثين مرتبطين ارتباطَ واحدٍ لواحد، فإن فكرة مذهب التوازي السيكوفيزيقي تفقد سندَها الرئيسي. إن هذا لا «يفند» فكرة نظرية التوازي، ولكنه في اعتقادي يبدد أساسها التجريبي الظاهري.

إن نظرية هوية الدماغ-العقل لَتتكشف، في ضوء الاعتبارات المذكورة، عن حالة خاصة من فكرة نظرية التوازي؛ لأنها هي أيضًا تقوم على فكرة ارتباطِ واحدٍ لواحد: إنها محاولة لتفسير ارتباط واحد لواحد عقلانيًّا، ذلك الارتباط الذي تسلِّم به تسليمًا دون نقد.

(٢٥) ملاحظات إضافية عن بعض النظريات المادية الحديثة

يُعَد كتاب أرمسترونج «نظرية مادية في العقل» (١٩٦٨م) من وجوه عديدة كتابًا ممتازًا. ولكن على عكس نظرية الهوية لفايجل أو نظرية الحالة المركزية — وهي نظرية تقبل بشكلٍ مؤكد وجود عالم للخبرة الواعية — فإن أرمسترونج يقلل من أهمية ما يصفه فايجل (١٩٦٧م، ص١٣٨) ﺑ «الإضاءة الداخلية» لعالمنا من خلال وعينا. أولًا هو يؤكد، بغير إجحاف، أهمية حالات ما تحت الوعي أو اللاوعي. ثم هو يقدم نظرية شائقة كثيرًا للإدراك الحسي بوصفه عملية لا واعية أو واعية خاصة باكتساب حالات نزوعية. ثالثًا، هو يقترح (دون أن يقول ذلك صراحةً) أن الوعي ليس غير إدراك داخلي، إدراك من الدرجة الثانية، أو إدراك (تَفَرُّس) نشاطٍ للدماغ بواسطة أجزاء أخرى من الدماغ. غير أنه يتخطى أو يمر مرور الكرام على مشكلة لماذا يتعين على هذا التفرس أن يُنتِج الوعي أو الدراية، بالمعنى الذي يكون به كل واحد منا على اتصال جيد بالوعي أو الدراية؛ بالتقييم النقدي الواعي مثلًا لحل إحدى المشكلات. وهو لا يتعرض أبدًا لمشكلة الفرق بين الدراية الواعية والواقع الفيزيائي.٥٢

ينقسم كتاب أرمسترونج إلى ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول مدخل يستعرض نظريات العقل؛ والجزء الثاني، «مفهوم العقل»، هو نظرية عامة للحالات والعمليات العقلية، وهو في رأيي يتمتع ببعض المزايا الممتازة، وإن كان عُرضة فيما أعتقد للانتقاد من الناحية النيوروفسيولوجية. والجزء الثالث، وهو هزيل للغاية، لا يكاد يشتمل على أكثر من مجرد الدعوى القائلة بأن الحالات العقلية كما وُصِفَت في الجزء الثاني يمكن أن تتماهى مع حالات الدماغ.

لماذا أعتبر الجزء الثاني ممتازًا في عمومه؟ السبب هو هذا: يقدم الجزء الثاني وصفًا لحالات وعمليات العقل منظورةً من زاوية بيولوجية، أي كما لو أن العقل يمكن اعتباره عضوًا.

يعود هذا الموقف بالطبع إلى حقيقة أن أرمسترونج يريد لاحقًا (في الجزء الثالث) أن يماهي العقل بأحد الأعضاء؛ بالدماغ. وليس يَخفَى أنني لا أوافق على هذا التماهي، وإن كنتُ أحس أني أميل إلى اعتبار التماهي بين الحالات والعمليات العقلية اللاشعورية وبين حالات وعمليات دماغية حدسًا افتراضيًّا مهمًّا جدًّا. ورغم أني أميل إلى افتراض أنه حتى العملياتُ الواعية تُرافق بطريقة ما عملياتٍ دماغية، فإنه يبدو لي أن التوحيد بين العمليات الواعية وبين العمليات الدماغية معرض لأن يؤدي إلى مذهب شمول النفس.

ومهما يكن من خطأ الدوافع الميتافيزيقية لأرمسترونج، فإن منهجه في اعتبار العقل عضوًا ذا وظائف داروينية يبدو لي ممتازًا، والجزء الثاني من كتابه يبرهن في رأيي على خصوبة هذه المقاربة البيولوجية.

ونتحول إلى النقد، فنقول إن نظرية أرمسترونج إما أن تصنَّف كمادية جذرية مع إنكار الوعي، وتُنقَد على هذا الأساس، وإما أن تصنَّف كشكلٍ غير صريح تمامًا من مذهب الظاهرة المصاحبة، من حيث تناولها لعالم الوعي، الذي تحاول التقليل من أهميته. في هذه الحالة يَسرِي نقدي لنظرية الظاهرة المصاحبة كنظرية غير متوافقة مع وجهة النظر الداروينية.

ولا أعتقد أن نظرية أرمسترونج هذه يجب تصنيفها كنظرية هوية على طريقة فايجل، أي بمعنى أن العمليات الواعية ليست مرتبطة فحسب بعمليات الدماغ بل متماهية معها بالفعل؛ ذلك لأن أرمسترونج لا يعرض ولا يشير في أي موضع بأن العمليات الواعية قد تكون هي الأشياء في ذاتها التي مظاهرُها عملياتٌ دماغية معينة: إنه بعيد كل البعد عن إحيائية (animism) ليبنتز. ورغم ذلك إذا وَجَب على أرمسترونج أن يدنو أكثر من فايجل، فعندئذٍ قد تَسرِي عليه انتقاداتي في قسم ٢٣. وفي أية حال فإن نقدي في قسم ٢٠ سارٍ فيما يبدو لي.

سبب هذا الضعف لا يُلتمَس في حقيقة أن أرمسترونج وإن كان لا ينكر الوعي (أو الدراية) فإنه يقلل، ويفشل في مناقشة، أهميته؛ وإنما يُلتمَس في حقيقة أن أرمسترونج يُغفِل، ويفشل في مناقشة (بأي مصطلحٍ كان)، ما أُطلِقُ عليه موضوعات العالم ٣: إنه لا يلتفت إلا إلى العالم ٢ ورده (اختزاله) إلى العالم ١. ولكن الوظيفة البيولوجية الرئيسية للعالم ٢، وللوعي بصفة خاصة، هي فهم موضوعات العالم ٣ وتقييمها النقدي. حتى اللغة لا يكاد يذكرها.

وتبعًا لاقتراحٍ من أرمسترونج فقد أصبح رائجًا أن نشير إلى التماهي:

الجين = الدنا (DNA)

كنظيرٍ للتماهي المقترح ﻟ:

الحالة العقلية = الحالة الدماغية.

غير أن المماثلةَ (الأنالوجي) مماثلة سيئة: لأن تماهي الجينات مع جزيئات الدنا، بينما هو اكتشاف تجريبي مهم جدًّا، إلا أنه لا يضيف أي شيء إلى الوضع الميتافيزيقي (أو الأنطولوجي) للجين أو للدنا. والحق أنه حتى قبل نشأة نظرية الجين كانت هناك نظرية وايزمان عن «الجيرمبلازم» germ plasm حيث تعليمات النمو يُفترَض أن تعطَى في شكل بنية مادية (كيميائية). واقتُرِح فيما بعد (على أساس اكتشاف مِندِل) أن هناك «جسيمات» في الجيرمبلازم تمثل «خصائص». أُدخِلت الجينات نفسُها منذ البداية كجسيمات مثل هذه: كبناءات مادية؛ أو بتعبير أدق كبناءات تحتية للكروموسومات. وقبل أكثر من ثلاثين عامًا من نظرية الدنا في الجينات اقتُرِحَت خرائط مفصَّلة للكروموسومات تبيِّن المواضع النسبية للجينات (قارن ت. ﻫ. مورجان وس. ب. بريدجِز، ١٩١٦م)؛ خرائط أيَّدَت مبدأَها بالتفصيل النتائجُ الحديثة للبيولوجيا الجزيئية. وبتعبير آخر فإن شيئًا ما مثل هوية «الجين = الدنا» كان متوقَّعًا، إن لم يكن مسلَّمًا به، منذ بداية نظرية الجين. ما لم يكن متوقعًا لبعض الناس هو أن يتكشف الجين عن أنه حمض نووي وليس بروتينًا، وكذلك أيضًا، بطبيعة الحال، بنية ووظيفة اللولب المزدوج (the double helix).

كان تماهي العقل مع الدماغ سيكون مماثلًا لهذا فقط إذا كان مفترَضًا، للبداية، أن العقل هو واحد من الأعضاء الجسمية ثم وجد تجريبيًّا أنه ليس القلب (مثلًا) أو الكبد بل الدماغ. وفي حين أن الاعتماد (أو الاعتماد المتبادل) بين الفكر، والذكاء، والخبرات الذاتية، وحالات الدماغ، كان متوقَّعًا منذ كتاب أبوقراط «عن المرض المقدس»، فليس غير الماديين من أقر هويةً، على الرغم من مصاعب وقائعية وتصورية جَمة.

يبين هذا التحليل أنه ليس ثمة مماثلة بين التماهيين. والادعاء بأنهما متماثلان ليس فقط بلا مسوغ بل هو مضلِّل أيضًا.

ويمكن أن يوجَّه نقد أقوى حتى من هذا ضد الادعاء بأن تماهي العمليات العقلية والعمليات الدماغية مماثل لتماهي ومضة برق وتفريغٍ كهربي.

اقتُرِح الحدسُ الافتراضي القائل بأن ومضة البرق هي تفريغ كهربي بملاحظة أن التفريغات الكهربية تشبه ومضات دقيقة من البرق. ثم جاءت تجارب فرانكلين التي أيدت بقوة هذا الحدسَ الافتراضي.

قدم جوديث جارفيس طومسون (١٩٦٩م) ملاحظات نقدية شائقة للغاية على هذه التماهيات.

أصدر أرمسترونج حديثًا كتابًا مدبَّجًا بوضوح وإحكام شديدين، هو «الاعتقاد والصدق والمعرفة» (١٩٧٣م). والكتاب في جوهره نظرية معرفة تجريبية تقليدية مترجمة إلى حدودٍ مادية. ليس بالكتاب ذكر، مجرد ذكر، للمشكلات المتعلقة بديناميات نمو المعرفة، أوتصحيح المعرفة، أو نمو النظريات العلمية، وهو شيء مخيب للآمال.

يقترح كوينتون Quinton في كتابه «طبيعة الأشياء» (١٩٧٣م) نظرية هوية تؤكد، مثل فايجل وبخلاف أرمسترونج، على أهمية الوعي، غير أنها لا تهيب بالعلاقة بين الشيء في ذاته وبين مظهره.

كيف يُتصوَّر هذا التماهي؟ يشير كوينتون إلى مثال أرمسترونج الخاص بوميض البرق والتفريغ الكهربي. وهو، مثل فايجل وسمارت وأرمسترونج، يُعتبَر التماهي إمبيريقيًّا. كل هذا حسن وجميل؛ غير أنه لا يقول لنا كيف نتقدم تجريبيًّا لكي نختبر التماهيات المفترضة حدسيًّا. وهو مثل سابقيه لا يقترح نوعًا من الاختبار يمكن أن يعد اختبارًا لدعوى هوية العقل والدماغ كشيءٍ متميز عن دعوى التفاعل (خاصة التفاعل الذي لا يعمل بجوهرٍ عقلي).

هناك أيضًا أولئك الذين يقولون، ببساطة، إن العقل هو نشاط الدماغ، ولا يتجاوزون ذلك. لا اعتراض يمكن أن يثار ضد ذلك بقدر ما يذهب. غير أنه لا يذهب قُدُمًا بالقدر الكافي؛ فالسؤال الذي يبرز هو ما إذا كانت النشاطات العقلية للدماغ مجرد جزء من نشاطاته الفيزيقية العديدة أو ما إذا كان ثمة فرقٌ هام؛ وإذا كان هناك فرق فماذا يمكننا أن نقول عنه.

(٢٦) المادية الوَعدية الجديدة

ثمة انسحابٌ فاتر من نظرية الهوية أصبح رائجًا مؤخرًا. إنه انسحاب إلى ما يمكن أن يوصف بأنه «مادية وعدية» promissory materialism. ربما يكون رواجُ المادية الوعدية ردَّ فعل تجاه بعض الانتقادات اللافتة التي قُدِّمَت ضد نظرية الهوية في السنوات الأخيرة. تبيِّن هذه الانتقادات أن نظرية الهوية قلما تتوافق مع اللغة العادية أو مع الحس المشترك. يبدو، على أية حال، أن المادية الوعدية الجديدة تسلِّم بأن المادية في اللحظة الحاضرة لا يمكن الدفاع عنها. إلا أنها تقدم لنا وعدًا بعالمٍ أفضل يأتي، عالمٍ ستختفي فيه المصطلحات العقلية من لغتنا، ويكون فيه المذهب المادي هو المنتصر.

يُقَدَّر للنصر أن يحدث كما يلي: مع تقدم أبحاث الدماغ فمن المرجح أن تتغلغل لغة الفيزيولوجيين أكثر فأكثر في اللغة العادية وتغير صورتَنا عن العالم، بما فيها صورة الحس المشترك عن العالم. ومن ثَم فسوف نتحدث أقل فأقل عن الخبرات والإدراكات والأفكار والاعتقادات والأغراض والأهداف، وأكثر فأكثر عن عمليات دماغية، وعن ميول إلى السلوك، وعن سلوك ظاهر. بهذه الطريقة فإن اللغة العقلية سوف تغدو عتيقة الزي ولا تستعمل إلا في التقارير التاريخية، أو على سبيل الاستعارة أو التهكم. عندما نصل إلى هذه المرحلة سيكون مذهب العقل قد مات كليًّا، وستكون مشكلة العقل وعلاقته بالجسم قد حلت نفسها.

وقد أُشيرَ في تدعيم المادية الوعدية إلى أن هذا بالضبط ما حدث في حالة مشكلة السحرة وعلاقتهم بالشيطان؛ فنحن الآن نتحدث عن السحرة، إن تحدثنا أصلًا، إما لكي نصف خرافةً عتيقة، وإما لكي نتحدث استعاريًّا أو تهكميًّا. والشيء نفسه نوعَد بأنه سوف يحدث مع لغة العقل: ربما ليس عاجلًا جدًّا — ربما ليس حتى في أمد حياة الجيل الحاضر — ولكنه أمر وشيك بدرجة كافية.

والمادية الوعدية نظرية خاصة غير عادية؛ فهي تتكون جوهريًّا من نبوءة تاريخية (أو تاريخانية) عن النتائج المستقبلية لأبحاث الدماغ وتأثير هذه النتائج. هذه النبوءة لا أساس لها. لا تُبذَل محاولة لتأسيسها على مسحٍ لأبحاث الدماغ الحديثة. ويتم إغفال رأي الباحثين من أمثال ويلدر بنفيلد الذين بدءوا مناصرين لنظرية الهوية وانتهوا ثنائيين (انظر بنفيلد ١٩٧٦م، ص١٠٤ وما بعدها). لا تبذَل محاولة لحل مصاعب المادية بالحجة. ولا حتى يُنظَر في بدائل للمادية.

وهكذا يبدو أنه لا يُلتمَس في دعوى المادية الوعدية من الطرافة العقلية أكثر مما يُلتمَس في الدعوى بأننا مثلًا سوف نمحو القطط أو الفيلة من الوجود في يوم من الأيام بأن نتوقف عن الحديث عنها؛ أو في الدعوى بأننا سوف نمحو الموت في يوم من الأيام بألا نعود نتحدث عنه (حقًّا ألم نتخلص مِن بَقِّ الفِراش ببساطة برفضنا الكلام عنه؟)

يبدو أن الماديين الوعديين يحبون أن يدلوا بنبوءتهم في رطانة الفلسفة اللغوية الرائجة هذه الأيام. ولكني أظن أن هذا غير ضروري؛ وقد يتخلى أحد أصحاب المذهب الفيزيائي عن رطانة الفلسفة اللغوية ويرد على ما قلتُه هنا خلال الأسطر التالية:

الفيزيائي (صاحب المذهب الفيزيائي): أنت تدَّعِي، كناقدٍ للمذهب الفيزيائي، أن التقريرات حول الخبرة الذاتية، والنظريات القابلة للاختبار تجريبيًّا حول الخبرة الذاتية، تشكِّل دليلًا ضد أطروحتنا. ورغم ذلك فإن جميع عبارات الملاحظة، كما تؤكد أنت نفسك دائمًا (1934a) مُلَقَّحة بالنظرية؛ وكما أشرتَ أنت (1957i = 1972a, chapter 5) فقد حدث في تاريخ العلم أن عبارات حول الوقائع، ونظريات مختبَرة جيدًا، قد تم تصحيحها عندما تم تفسيرها بواسطة نظريات لاحقة. ومن ثَم فإنه ليس مستحيلًا على وجه اليقين أن ما نعتبره اليوم عبارات حول الخبرة الذاتية سوف يفسَّر ويصحَّح في المستقبل بواسطة نظريات فيزيائية النزعة. فإذا ما حدث ذلك فإن الخبرة الذاتية سوف تُترَك في نفس الوضع الذي عليه الشياطين مثلًا أو السحرة الآن؛ سوف تكون جزءًا من نظرية كانْت يومًا مقبولة إلا أنها قد نُبِذَت الآن؛ أما الدليل القديم عليها فسوف تتم إعادة تفسيره ويتم تصحيحه.
وبينما لا أود أن أشير بأنه مستحيل أن تمضي الأمور كما يقول الفيزيائي هنا (انظر كتابي 1974c، ص١٠٥٤) فلستُ أعتقد أن هذه الحجة يمكن أن تؤخذ مأخذ الجِد؛ وذلك لأنها لا تعدو أن تقول بأنه ليس ثمة دليل من الملاحظة يعد نهائيًّا وفوق احتمال التصويب، وبأن معرفتنا كلها غير معصومة. هذا حق طبعًا، ولكنه لا يكفي لأن يستخدَم بذاته كدفاع عن نظرية ضد النقد التجريبي. فالحجة بهذه الطريقة ضعيفة جدًّا. ومثلما قلتُ سابقًا فمن الممكن تطبيقها للمحاجَّة ضد وجود القطط والفيلة تمامًا مثلما طبقت للمحاجة ضد وجود الخبرة الذاتية. وفي حين يوجد دائمًا خطرٌ متضمَّن في قبول أدلة وحجج مثل تلك التي أستخدمها هنا، فإن من المعقول عندي أن نخوض المخاطرة. لأن كل ما يقدمه صاحب المذهب الفيزيائي هو شِيكٌ محرَّر على توقعاته المستقبلية، وقائم على الأمل بأن نظرية سوف تنشأ يومًا وتحل له مشكلاته؛ وباختصار، على الأمل بأن شيئًا ما سوف يسنَح.

(٢٧) النتائج والخلاصة

يظهر إذن من تحليلنا أنه في المناخ الدارويني الحالي لا يمكن لرؤية مادية متسقة للعالم أن تقوم إلا إذا كانت مصحوبة بإنكارٍ لوجود الوعي.

ورغم ذلك، فكما يقول جون بيلوف في نهاية كتابه الممتاز (١٩٦٢م، ص٢٥٨)؛ «المذهب الذي لا يمكنه أن يحفظ نفسه إلا بمراوغات معقدة لا يعدو أن يكون هراء.»٥٣

ويظهر، فضلًا عن ذلك، أننا إذا تبنينا وجهة نظرٍ داروينية (انظر القسم ٢٠)، وسلمنا بوجود وعي متطور، فإن هذا يؤدي بنا إلى مذهب التفاعل.

وما أسميه وجهة النظر الداروينية يبدو أنه جزء من رؤيتنا العلمية الحالية، وجزء مدمج أيضًا في أي عقيدة مادية أو فيزيائية.

ومن جهة أخرى فإن نظرية الهوية إذا فُصِلَت عن وجهة النظر الداروينية تبدو لي متسقة. غير أنها، عدا كونها غير متوافقة مع المبادئ الداروينية، لا تبدو لي قابلة للاختبار تجريبيًّا، كما يومئ فايجل (١٩٦٧م، ص١٦٠ وفي مواضع أخرى كثيرة)، بواسطة أي نتائج مستقبلية للفيزيولوجيا العصبية. فمثل هذه النتائج يمكن، على أفضل تقدير، أن تبين توازيًا وثيقًا بين عمليات دماغية وعمليات عقلية. ولكن هذا لن يدعم نظرية الهوية بأي شيء أكثر مما يدعم مذهب التوازي (مذهب الظاهرة المصاحبة مثلًا) أو حتى مذهب التفاعل.

وربما أبيِّن هذا لمذهب التفاعل بتفصيل أكبر قليلًا.

وفقًا لمذهب التفاعل فإن نشاطًا دماغيًّا مكثفًا هو شرط ضروري للعمليات العقلية. هكذا ستمضي العمليات الدماغية متزامنة مع أي عملياتٍ عقلية؛ ولأنها شروط ضرورية فقد يقال إنها «تسبِّبها»، أو «تفعل» عليها. خذ مثالًا بسيطًا، مثل النظر إلى شجرة وإغلاق عينيك وفتحهما. إن التأثير العِلِّي للتغيرات العصبية على خبراتك واضح. يوضح هذا فعل الجهاز العصبي على الوعي والتأثير-الإرادي-للتركيز.٥٤ وبسبب المجريات الدائمة لعمليات الدماغ على جميع المستويات فإنه لا يبدو ممكنًا تمييز التفاعل من الهوية المزعومة مثلًا تمييزًا تجريبيًّا، ولا وُضِعَت أي اقتراحات جادة لكيف يمكن ذلك رغم كثرة المزاعم بإمكانه (كما رأينا).

وجملة القول إنه يبدو أن النظرية الداروينية، ومعها واقعة وجود العمليات الواعية، تؤدي إلى تجاوز المذهب الفيزيائي، وهو مثال آخر لتجاوز المادية لذاتها، مثال مستقل تمامًا عن العالم ٣.

١  فيزيائية النزعة أو المذهب (physicalist)، وقد آثرنا اختزالها للتخفيف، على أن نتفطن للفرق الكبير بين اللفظتين: physical (فيزيائي) وphysicalist (خاص بالمذهب الفيزيائي أو النزعة الفيزيائية). (المترجم)
٢  قارن، في هذا، الملاحظة حول ماركس في ص١٠٢ من المجلد الثاني لكتابي «المجتمع المفتوح» (1966(a))، والملاحظات حول الرواقيين في الحاشية ٦ و٧ في ص١٥٧ من كتابي (1972(a)).
٣  بعض الماديين الجذريين، رغم ذلك، يأخذون المشكلة فعلًا مأخذ الجد. انظر قسم ٢٥ لاحقًا.
٤  انظر كتابي (1959(a)، قسمَي ١٩-٢٠).
٥  تجنب التفنيد (تحصين النظريات): مِن دأب بعض أصحاب النظريات التي يتبين كذبُها بالاختبار أن يظلوا متمسكين بها ولا يتخلوا عنها؛ وأن يقوموا بعملية أشبه بالترقيع النظري لإنقاذ النظرية من الدحض. ومن الوسائل المعهودة في ذلك إدخال «فرض مساعِد» auxiliary hypothesis، أو «فرض عيني تحايلي» ad hoc hypothesis على مقاس الشواهد المضادة بغرض استيعابها داخل النطاق التفسيري للنظرية. مثل هذا الإجراء ممكن دائمًا وميسور لأية فرضية مهما بلغت عبثيتها وهشاشتها؛ غير أنه ينقذ النظرية من الدحض بقدر ما ينال من مكانتها العلمية ومحتواها المعلوماتي.
وثمة تحايلٌ آخر لتفادي الدحض، وهو ببساطة أن تُخرِج المثال المضاد counter example من التعريف نفسه: فإذا كنا مثلًا بصدد العبارة الكلية «كل الغربان سود» وجابَهَنا شاهدٌ مضاد لغراب أبيض لَأمكننا القول: «إن غرابًا أبيض هو ليس غرابًا على الإطلاق.»
مثل هذه الفروض التحايلية المقحَمة، والمناورات التعريفية، هي نوع من الغش والمماحكة، وهي إجراءات رخيصة ومبتذلة، وعلى العالِم الحق أن يتجنبها ما استطاع. ورغم أن الفروض العينية تُستخدَم بالفعل في بعض الأحيان وتؤدي إلى نجاحات كشفية كبيرة، فقد بذل بوبر جهده لتحديد القواعد المنهجية لاستخدام مثل هذه الطرق بحيث تكون مشروعة علميًّا وغير معطِّلة لتقدم المعرفة العلمية أو مطيلة لعمر نظريات بائدة لا تريد أن تتنحى وتفسح الطريق لفرضيات جديدة أكثر قوة تفسيرية وأكثر اقترابًا من الحقيقة. (المترجم)
٦  يذكر كليفورد عدةَ فلاسفة ألمان بوصفهم طلائعَ لوجهة نظره. فيشير في (١٨٨٦م، ص٢٨٦) إلى «نقد العقل الخالص» لكانْت. ويشير كليفورد إلى طبعة روزينكرانز التي تعيد طباعة نص الطبعة الأولى لنقد العقل الخالص؛ انظر حاشية ٤٤ لقسم ٢٢ لاحقًا. يذكر كليفورد أيضًا فيلهلم فونت (١٨٨٠م، المجلد الثاني، ص٤٦٠ وما بعده) وإرنست هِكِل (١٨٧٨م). ممثلو مذهب شمول النفس في ألمانيا هم تيودور زيهِن (١٩١٣م)، وبرينهارد رينش (١٩٦٨، ١٩٧١م). ويحمل مذهب الهوية عند موريتز شليك وهربرت فايجل شبهًا معينًا بمذهب شمول النفس، وإن كان لا يبدو أنهما يناقشان الجوانب التطورية للمشكلة، ومن ثَم لا يقولان بأن «الأشياء في ذاتها»، أو «الكيفيات» الخاصة بالأشياء غير الحية هي قبل نفسية في طابعها (انظر أيضًا قسم ٥٤ لاحقًا).
٧  أي تفسيرها للحدث المذكور. (المترجم)
٨  من أجل عرضٍ أشمل انظر القسم ٢١ لاحقًا.
٩  Arithmetic is tottering.
١٠  انظر مثلًا كتابَيَّ (1963(a))، الفصلين ٤ و١٢؛ (1972(a))، الفصلين ٢ و٦.
١١  انظر بخاصة كتابي (1953(a)).
١٢  أو الإنذار أو الإخطار أو الإبلاغ … إلخ (signalling). (المترجم)
١٣  لنظرية اللغة انظر: أ. تارسكي A. Tarski (١٩٥٦م) وكتابي (١٩٦٣م)، ص٢٢٣ وما بعدها.
١٤  أغلب الفلاسفة على قناعة بأنه بافتراض تساوي بقية الأشياء (ceteris paribus) فإن النظريات الأبسط هي الأفضل. أما البساطة التراكيبية، أو «الأناقة» elegance، فتقيس عدد، ووجازة، المبادئ الأساسية للنظريات. وأما البساطة الأنطولوجية، أو «الاقتصاد» parsimony، فيقيس عدد أنواع الكيانات التي تفترضها النظرية (موسوعة ستانفورد الفلسفية، مادة «بساطة» simplicity). وبصفة عامة، يمكننا القول إن مبدأ البساطة هو مصادرة أساسية في التفكير العلمي، تفيد أن من واجبنا ألا نكثر من العناصر التفسيرية بغير ضرورة، أي أن نعد أبسط التفسيرات الصالحة هو التفسير الصحيح. هكذا لا يسمح العلم إلا بأقل عدد ممكن ولا غنى عنه من المسَلَّمات في تفسير أي ظاهرة: فإذا كنا بإزاء فرضيتَين، ومع تساويهما في جميع الأشياء الأخرى، فإن الفرضية الأبسط تُعَد هي الصحيحة. إنه «مبدأ موجِّه» و«مصادرة كشفية» تشير علينا بأن نتوقع من الطبيعة أنها تستخدم أبسط الطرق الممكنة للوصول إلى أية غاية لها. وسوف نستخدم مصطلحات «بساطة»، «مبدأ الاقتصاد»، «نصل أوكام»، في هذا المقام على التعاوض توخيًا للتيسير، ونحن بمأمن من أي اضطراب أو خلط. (المترجم)
١٥  انظر كتابي 1972(a)، الفصل ٨، حيث نوقِشَت هذه الأفكار بتفصيلٍ أكبر.
١٦  انظر، على سبيل المثال، كتابي (1972(a))، الفصل الخامس.
١٧  انظر مثلًا ما كان يمكن أن يفعله ردِّيٌّ فلسفي دوجماطيقي ذو نزعة ميكانيكية (أو حتى نزعة ميكانيكية كوانتمية) بإزاء مشكلة الوصلة الكيميائية chemical bond. إن الرد الفعلي لنظرية وصلة الهيدروجين إلى ميكانيكا الكوانتم لهي أكثر إثارة بكثير من التقرير الفلسفي بأن مثل هذا الرد سوف يتحقق يومًا ما.
١٨  يقدم لنا الوعي كيفيات qualia محسوسة للخبرات من قبيل الإحساس بألم أو سماع صوت أو رؤية لون، تلك الخصائص الذاتية للحالات العقلية كما تقع في خبرة الفرد ووعيه، وهي التي تحدد كنه خبرة ما أو تحدد «ماذا تشبه أن تكون» what it is like مكابدة هذه الخبرة، باستعارة التعبير المأثور عن توماس ناجل في مقاله الشهير What it is like to be a bat. إن الخبرة الواعية شأن ذاتي يستعصي على الفهم العلمي الموضوعي، وعلى المعرفة العلمية الفيزيائية بما فيها المعرفة النيوروفزيولوجية مهما تقدمت. وفي كتابه «العقل الواعي» يُحاجُّ الفيلسوف ديفيد شالمرز بأن أي وصف نيوروفزيولوجي ممكن للوعي سوف يترك وراءه «فجوة تفسيرية» explanatory gap مفتوحة ما بين العملية الدماغية وخصائص الخبرة الواعية؛ ذلك أنه ليس بمقدور أي نظرية نيوروفزيولوجية أن تجيب عما أطلق عليه «السؤال الصعب» the hard question: لماذا يتعين على تلك العملية الدماغية المعينة أن تفضي إلى خبرة واعية؟ إن بوسعنا دائما أن نتصور عالَمًا يعج بمخلوقات لديها تلك العمليات الدماغية دون أن يكون لديها خبرة واعية على الإطلاق أما في عالمنا القائم فإن الوعي يمثل كيانًا واقعيًّا لا يمكن إغفاله، ولا يسعفنا العلم الفيزيائي في «رده». لنتأمل الألوان على سبيل المثال؛ نحن نعرف أن للألوان علاقة ما بالامتصاص الانتقائي وبانعكاس الموجات الضوئية المختلفة السعة؛ ونعرف أيضًا أن رؤية الألوان تشتمل على كثير من العمليات النيوروفزيولوجية المعقدة. فهل هذا هو «كل ما هنالك»؟ كلا، فيبدو أن هناك بعد، شئيا آخر: هناك … «خبرتنا باللون». هناك الوعي وخواصه الذاتية القائمة بمعزل والمتأبية على أي رد فيزيائي. يترتب على ذلك أن أية قائمة صحيحة موضوعيًّا وكاملة تمامًا لما هو كائن في العالم (أنطولوجيا) ينبغي أن تتضمن، بالإضافة إلى الأشياء من قبيل المجرات والإلكترونات والكائنات العضوية والنسيج العصبي، الخبرات المختلفة للأفراد … خبرات الوعي بكل درجاته بما فيها الأحلام. (المترجم)
١٩  قارن فايجل (١٩٦٧م)، ص١٣٨. يترجم فايجل محادثةً ألمانية؛ وقد غيرتُ الصياغة اللفظية للترجمة تغييرًا طفيفًا (كما فعل فايجل أيضًا، بحسب روايته).
٢٠  أشار بعض المناطقة إلى أن استخدام مبدأ البساطة (الاقتصاد) يتطلب أولًا تساوي جميع المزايا الأخرى للنظريات المقارنة، وإلا لكان علينا أن نسلم بنظرية العناصر الأربعة ونظرية الكواكب الخمسة بدعوى أنهما أكثر اقتصادًا مما نعرفه الآن! بديهي إذن أنَّ علينا أن ننبذ النظرية الأبسط إذا كانت غير متفقة مع الوقائع. يقول برتراند رسل: «إن ما يفعله العلم في حقيقة الأمر هو اختيار الصيغة الأبسط التي تتفق مع الوقائع. ولكن مِن الجلي أن هذه مجرد قاعدة ميثودولوجية وليست قانونًا للطبيعة. فإذا ما تبيَّن بعد ذلك أن الصيغة الأبسط لم تعد ساريةً على الوقائع فإن علينا أن نختار أبسط الصيغ التي تسرِي» (Russell, B., On the notion of cause, with applications to the free-will problem, In H. Feigl & M. Brodbeck (Eds.), Readings in the philosophy of science, New York: Appleton-Century-Crofts, 1953, p. 401) ولعل من الحصافة، إذن، قبل التهليل للمادية واقتصادها أن نتذكر أن مبدأ الاقتصاد لا يكون معيارًا حقيقيًّا للمقارنة بين نظريتين، ولا يكون محكًّا ذا صلة أصلًا، ما لم يَثبُت تعادل النظريتين فيما دون ذلك، أي ما لم يثبت في حالتنا هذه أن المادية والثنائية تفسران مجريات العالم بنفس الكفاءة. وإلا فمن حق الثنائي أن يقول (مع ديفيد شالمرز): «تمامًا مثلما ضحى مكسويل بالنظرة الميكانيكية البسيطة إلى العالم، فدفع بفرضية المجالات الكهرومغناطيسية لكي يفسر ظواهر طبيعية معينة، فنحن بحاجة إلى أن نضحي بالنظرة المادية (الفيزيائية) إلى العالم لكي نفسر الوعي» (Chalmers, D. J., The conscious mind: In search of a fundamental theory, Oxford: Oxford University press, 1996, p. 169). (المترجم)
٢١  قد يجدُر بالذكر أن الصراعَ المذكور في المتن قد يكون أيضًا الصراعَ بين مذهب المواضعة conventionalism والمذهب الواقعي realism في فلسفة العلم. ولعل قول شارلس س. شيرينجتون (1947م، p. xxiv) جدير بالاقتباس هنا: «أرى أن ارتكاز وجودنا على عنصرَين أساسيَّين ليس، في صميم الأمر، أبعد احتمالًا من ارتكازه على عنصرٍ واحد فقط.»
٢٢  يقول جون سيرل: «في فلسفة اللغة مثلًا لم نعرف أحدًا قَط ينكر وجود الجمل وأفعال الكلام، أما في فلسفة العقل فإن وقائع واضحة عن العقلي، مثل أن لدينا حقًّا حالات عقلية واعية ذاتية وأن هذه الحالات لا تقبل الاستبعاد لمصلحة أي شيء آخر؛ وقائع واضحة مثل هذه يتم إنكارها اعتياديًّا من جانب كثير من، وربما معظم، المفكرين الكبار في هذا الموضوع» (The Rediscovery of the mind, Cambridge: MIT Press, 1992, p. 3) ويقول جون هبارد في بحثه «مبدأ الاقتصاد والعقل» (١٩٩٥م): لماذا إذن تحظى المادية برواجٍ أكبرَ بين كِبار المفكرين المحدثين وتكاد الثنائية تلحق بالخرافات وأوهام الماضي؟ لعل من أسباب ذلك أن هناك خلطًا كبيرًا في اللغة التي تجري بها مناقشات مشكلة العقل-الجسم؛ ففي حين نبدو جميعًا متفقين على أن الدماغ يسبب العقل وأن للعقل خواصَّ ليست فيزيائية، فحين ننتقل إلى اتخاذ موقف أنطولوجي يقع كثير من الفلاسفة في الاضطراب حول كيفية تفسير هذه الوقائع. أحد أسباب هذه الظاهرة هو ذلك الخلط بين ضرورة قيام السيكولوجيا العلمية على الملاحظة الموضوعية وبين ضرورة حذف الحالات العقلية وإقصائها من ساحة الأنطولوجيا. وهو خطأ مقولي category mistake يدخل في حكم «النزعة السيكولوجية» psychologism أي معاملة السؤال الفلسفي (وهو هنا مشكلة العقل-الجسم) على أنه سؤال سيكولوجي، فرغم حاجتنا إلى علم تجريبي، فليس ثَم ما يدعو المرء إلى الإغراق في التفكير المادي (John Hubbard, Parsimony and the mind, Macalester College course “PHIL 89: Senior Seminar,” May 1995). (المترجم)
٢٣  يعني التعبير اللاتيني ad hoc حرفيًّا: «من أجل ذلك» أي «لهذا الغرض» أو «خصوصًا لهذا الغرض (بعينه)»، وهو يحمل غالبًا معنى التحايُل لبلوغ الطلب. وقد أدرج بوبر الفروض العينية التحايلية ضمن الوسائل أو الخدع المقيَّضة من أجل تحصين النظريات من الدحض immunization stratagem، وبذل جهدًا منهجيًّا كبيرًا لكي يميز تمييزًا حادًّا بين التحصين الصادق المساعد على الكشف، والتحصين الزائف الذي يجعل تكذيب الفرضية أمرًا محالًا من حيث المبدأ. (المترجم)
٢٤  يعلق سير دنيس هيل على هذا العرض بأن بوبر يستخدم ذلك ضمنيًّا كدليل على العقل الواعي بذاته (العالم ٢) وهو يفعل فِعلَه. غير أنه يمكن أن يفسر على حد سواء كتحول من تهيؤ عقلي، أو حالة عقلية، إلى تهيؤ ثانٍ أو حالة ثانية، تحت توجيه حالة ثالثة بعد: هي الانتباه. أما التحول المرحلي اللاإرادي من حالة إلى أخرى فهي تعود، في اعتقاد دنيس هيل، إلى آلية مخية. (المترجم)
٢٥  ثمة نوعٌ مهمٌّ من التجارب يعود إلى أبحاث النوم الحديثة؛ فقد ثبت أن حركات العين السريعة تدل على الحلم؛ ومن الواضح أن الحلم هو (مستوى منخفض) من الخبرة الواعية. (قد يضطر السلوكي أو المادي الجذري أن يقول، لكي يتفادى التفنيد، بأن حركات العين السريعة تدل على مظهرٍ لنزوعٍ معين قد يفضي بالناس إذا أثير إلى أن يقولوا إنهم كانوا يحلمون، بينما لا يوجد في الواقع أشياء من مثل الأحلام. إلا أن من الواضح أن هذا سيكون طريقة «احتيالية» ad hoc لتفادي التفنيد.)
٢٦  بذلك يكون بوبر قد أضاف مثالًا تجريبيًّا وبرهانًا بارعًا على أن الدماغ شيء (أو مستوًى) والنفس التي تملك دماغَها شيء آخر (أو مستوًى آخر). (المترجم)
٢٧  يبدو أنها قد تأثرت برواية جوته «الأُلفات المختارة» (Die Elective Affinities Wahlverwandtschaften = الأُلفات (الكيميائية) المختارة) التي فُسِّر فيها التعاطفُ والانجذاب كمثيلٍ للألفة الكيميائية. وقد تأثر شوبنهاور بجوته، الذي كان يعرفه شخصيًّا، بالغَ التأثر.
٢٨  من أجل عرضٍ أكمل لتاريخ مشكلة العقل-الجسم انظر الفصل الخامس لاحقًا.
٢٩  (مضاف في التجارب الطباعية) تفضَّلَ البروفسور رينش بإخباري أنه لا يوافق على وجهة النظر المذكورة في الجزء الأول من هذه الجملة، حيث إنه ليس من أنصار مذهب التوازي بل نظرية الهوية (ولكن في رأيي أن نظرية الهوية هي حالة خاصة حالة متنكِّسة من مذهب التوازي؛ انظر أيضًا قسمَي ٢٢ و٢٤، لاحقًا).
٣٠  لعل في هذا تأييدًا واضحًا لوجاهة الترجمة التي ارتآها د. نبيل علي لكلمة emergence وهي «طفور»، التي تعني في العربية «القفز» أو «الوثب». (المترجم)
٣١  انظر بصفة خاصة الملاحظات حول المريض H. M في بريندا ميلنر (١٩٦٦م).
٣٢  أعاد أينشتين توكيد المبدأ (١٩٢٢م؛ ١٩٥٦م، الفصل الثالث، ص٥٤) إذ يقول: «… إنه لشيءٌ مناقض لطريقة التفكير في العلم أن نتصور شيئًا … هو نفسه يَفعل ولكن لا يمكن أن يُفعَل عليه.»
٣٣  التوزع التكراري Frequency distribution: يعني عدد المرات التي تتكرر فيها علامة أو ظاهرة أو كلمة (معجم العلوم النفسية: د. فاخر عاقل، دار الرائد العربي، بيروت، ١٩٨٨م، ص١٥٥). (المترجم)
٣٤  انظر ج. ب. س. هالدن (١٩٣٢م)، أعيد طبعه في Penguin Books (١٩٣٧م، ص١٥٧)؛ انظر أيضًا هالدن (١٩٣٠م)، ص٢٠٩.
٣٥  ج. ب. س. هالدن (١٩٥٥م). انظر أيضًا أنتوني فلو (١٩٥٥م). ثمة رفضٌ أحدث لما أسميه حجة هالدن يعود إلى كيث كمبل، يمكن أن تجده في باول إدواردز، محرر، 1967(b)، مجلد ٥، ص١٨٦. انظر أيضًا ج. ج. سمارت (١٩٦٣م)، ص١٢٦ وما بعدها. (وأنتوني فلو، ١٩٦٥م، ص١١٤-١١٥) حيث تجد مزيدًا من المراجع، وقسم ٨٥ من ملحقي Postscript (غير المنشور)
٣٦  أبيقور، شذرة ٤٠ من مجموعة الفاتيكان. انظر كريل بايلي (١٩٢٦م) ص١١٢-١١٣. لعل هذه أيضًا كانت حجة أبيقور المحورية ضد الحتمية، والدافع من وراء نظريته عن «انحراف» الذرات (إذا كانت هذه نظريتَه وليست نظرية لوكريتس).
٣٧  قارن ديكارت، تأمل IV؛ المبادئ I، ٣٢–٤٤.
٣٨  الفيزيائي الذي قدمتُه يبدو لي أفضل نوعًا ما من أولئك الماديين الذين يتوثق الصدق عندهم بالعِلِّية المباشرة لا باستبعاد الخطأ، بالانتخاب مثلًا (جزئيًّا بالانتخاب الطبيعي). انظر أيضًا قسم ٢٣ لاحقًا.
٣٩  انظر أرمسترونج (١٩٦٨م)، ص٨٥–٨٨.
٤٠  روتين. (المترجم)
٤١  ربما تحت تأثير كتاب توماس كُون «بنية الثورات العلمية» (١٩٦٢م).
٤٢  استَنَّ بوبر في مواجهة الآراء المخالِفة مبدأً جديدًا يُعَد في ذاته درسًا من أهم الدروس المنهجية المستفادة من كتاباته. لقد دأب المفكرون طوال تاريخ الجدل والمناظرة على مهاجمة النقاط الضعيفة في دعوى الخصوم، أما بوبر فقد كانت طريقته هي أن يواجه النظرية المناوِئة من زاويتها القوية، بل يحاول تقويتها أكثر فأكثر وسد ثغراتها وتزوِيدها بمزيد من الحجج والدعامات قبل أن يشرع في شن هجومه. إنه يريد أن يجعل من خصمه «خصمًا جديرًا بمهاجمته»، وأن ينقض على نظريته وهي في أوج قوتها وجاذبيتها. إنها طريقة مثيرة وشائقة، ونتائجها، إذَا هي نجحت، قاصمة مدمرة. (المترجم)
٤٣  يقول هربرت فايجل في مقالة «العقل-الجسم ليست شبه مشكلة»: «إن الحل الذي يبدو لي الأكثر قبولًا، والذي يتسق تمامًا مع مذهب طبيعي قلبًا وقالبًا، هو نظرية هوية للعقلي والجسمي مفادها: أن حدودًا نيوروفيزيولوجية معينة تعني (تشير إلى) نفس الأحداث بعينها التي تعنيها أيضًا (تشير إليها) حدود ظاهرية معينة … وباستخدام تمييز فريجه بين Sinn (معنى، مغزى، مفهوم) وBedentung (مشار إليه أو مرجع، معنى، ما صدق) فإن بوسعنا أن نقول إن الحدود النيروفيزيولوجية والحدود الظاهرية المناظرة لها، رغم اختلافهما البعيد في المعنى ومن ثَم في طرائق تحقيق العبارات المتضمنة لها، لهما بالفعل مراجع (مشارات إليها) متماهية» (Herbert Feigl: Mind-body, not a pseudo problem, in The Mental and the Physical, Minneapolis, University of Minnesota Press, 1967). وبعبارة أخري يمكننا القول بأن هناك أحداثًا سيكوفيزيقية خالصة تخبرها الذات والملاحظ على أنحاء مختلفة، ويستمدان منها معرفة مختلفة، ويسمونها أو يلقبونها بفئتين مختلفتين من المفاهيم؛ فالذات تخبر هذه الأحداث كدراية ظاهرية، تقدم معرفة مباشرة، بالاتصال المباشر (منفذ من الدرجة الأولى)، للطبيعة الباطنية للأحداث، وتلقبها بمفاهيم عقلية قابلة للتحقق ذاتيًّا فحسب.
أما الملاحِظ فيخبر هذه الأحداث كمعطيات سلوكية و/أو فيزولوجية، تقدم معرفة بالوصف، للعلاقات العِلِّية/البنائية لهذة الأحداث (بالإضافة إلى منفذ من الدرجة الثانية إلى خبرات الذات) وتلقبها بمفاهيم فيزيقية (جسمية) قابلة للتحقق بينذاتيًّا (Aviel Goodman: Organic Unity Theory: The Mind-Body Problem Revisited., in American Journal of Psychiatry 148 :5, May 1991, p. 557). (المترجم)
٤٤  فايجل ([١٩٦٧م]، ص ٨٤، ٨٦، ٩٠). في هامش ص٨٤ يشير فايجل إلى كتاب كانْت «نقد العقل الخالص»، حيث ترد حقًّا نظريةُ أن الشيء في ذاته قد يكون ذا خاصية شبيهة بالعقل. هكذا نجد الأصل القادم لهذا الشكل من نظرية الهوية: كانْت – شوبنهاور (الشيء في ذاته = الإرادة) – كليفورد (الذي تعد نظرية الهوية الخاصة به نوعًا من مذهب التوازي) – شليك – فايجل – رسل (كتاب رسل «العقل والمادة» [١٩٥٦م] يَعرِض له فايجل وأ. إ. بلومبرج [١٩٧٤م]، صXXIIff، وفايجل [١٩٧٥م]). عن كيفورد انظر حاشية ٦ لقسم ١٦ سابقًا، ولبعض الملاحظات في تاريخ نظرية الهوية انظر قسم ٥٤ لاحقًا.
٤٥  ليست النقطة حاسمةً بحال؛ غير أنها ليست مجرد نقطة لفظية. سمارت على الأخص له موقف تجاه المعرفة العلمية مختلف كثيرًا عن موقفي؛ فبينما أنا مأخوذ بجهلنا المطبق على جميع المستويات، فإن سمارت يرى أن بوسعنا أن نؤكد أن معرفتنا بالفيزياء ستكون كافية في يوم من الأيام لتفسير كل شيء حتى (على حد قول بيتر ميداوار) عجز النقد الأجنبي عندنا؛ انظر قسم ٧ سابقًا.
٤٦  فكرة أن العالم ١ والعالم ٢ يجريان متوازيين بدون تفاعل هي فكرة يومئ إليها مذهب الظاهرة المصاحبة إذا ما تذكَّرنا أنه يقبل المبدأ الفيزيائي القائل بأن العالم ١ مغلق عِلِّيًّا.
٤٧  لَفَتَ جيريمي شيرمر انتباهي إلى حجة مشابِهة جدًّا عند بيلوف (١٩٦٥م).
٤٨  يبدو أن ما يحدث مع معظم الأشخاص هو الآتي: إذا نحن حدَّقنا لمدة كافية إلى شكل مكعب نِكَر فإنه يتحول بنفسه إلى التفسير العكسي (أي إن الجانب الذي كنا نراه قبلًا في الواجهة سيظهر أنه في الخلف). قد تعود الظاهرة إلى ميل أي شيء إلى الاختفاء إذا حَدَّقنا إليه لفترة طويلة. هذا الميل، وربما معه التأثير السابق، يمكن تفسيرُه بيولوجيًّا. فمن المعروف جيدًا أن الصوت غير الشديد الارتفاع يختفي ذاتيًّا بعد فترة، ما لم نلفت له انتباهنا عن وعي. انظر أيضًا الحاشية التالية لاحقًا.
٤٩  ربما يكون التفنيد التجريبي قد تم بعد أكثر من عقد من الزمن على كتابة «النفس ودماغها». من ذلك ما جاء في دراسة نورا فولكو ولورنس تانكريدي (١٩٩١م) عن الملازِمات البيولوجية للنشاط العقلي باستخدام التصوير الطبقي للدماغ بإطلاق البوزيترونات (positron emission tomography). في هذا البحث تم استخدام هذه التقنية في تصوير الدماغ الحي واستقصاء وظائفه، وكشف العمليات الفيزيقية المختلفة التي تبدو مناظِرة بشكل مباشر للعمليات التي تجري في عالم العقل. يقول الباحثان «لقد صرنا على بيِّنة من أن أي محاولة لربط منطقة بعينها من الدماغ بوظيفة عقلية معطاة هي محاولة فاشلة؛ ذلك أن عمليات الدماغ هي نتاج النشاط المتناسق لمناطق دماغية عديدة. زِد على ذلك أن من المحتمل أن كل منطقة بالدماغ تشترك في أكثر من وظيفة عقلية، مثلما تبين بوضوح في زيادة نشاط اللحاء الجبهي السفلي الأيسر والتلفيفة المطوقة الأمامية لدى كل من المثول البصري والسمعي للكلمات. كما أن ما ينطوي عليه التنظيم الدماغي من نظم وظيفية غاية في التناسق يفسر لنا لماذا تؤدي اختلالات في مناطق دماغية متباينة إلى نفس الصنف من الاضطراب العقلي. ويتبدى هذا واضحًا في اضطراب الوسواس القهري: حيث يؤدي أي خلل في الدائرة الكبيرة التي تشمل اللحاء المحجري الجبهي، والأنوية القاعدية، والأنوية المهادية، ومكونات الجهاز الطرفي، إلى حدوث سلوكيات تكرارية قهرية. وهناك احتمال آخر يجب التنبه إليه عندما نربط بين خلل في منطقة معينة من الدماغ وبين اضطراب عملية عقلية معينة، هو أن الاضطراب العقلي يمكن أن يتسبب لا عن الخلل المحدد فحسب بل عن اضطراب منطقة دماغية أخرى تتصل بالمنطقة التي حدث فيها الخلل أو العطب الأولي. ويبدو هذا بوضوح في دراسات التصوير البوزيتروني التي سجلت هبوط عمليات الأيض، أي نقص النشاط، في مناطق دماغية بعيدة عن العطب الأصلي. وعلى المرء أيضًا وهو يفسر هذه الكشوف أن يتفطن إلى «الردِّية» الكامنة في هذه المقاربة، وأن يضع باعتباره أن عمليات دماغية عدة تجري متزامنة في لحظة معينة لدى شخص بعينه؛ فالنشاط الذي يرصد في منطقة معينة قد يكون نتيجة للمهمة التي يتم بحثها وقد يكون نتيجة تأثير متبادل مع أنظمة وظيفية أخرى. وبنفس المنطق فإن اختلاف الأفراد في استراتيجياتهم المستخدمة في معالجة مثير معطًى قد يؤدي إلى اختلاف أنماط النشاط الحادث كاستجابة لهذا المثير … نخلص من ذلك إلى أن العلاقة بين الجسمي والعقلي لا يمكن أن توصف بأنها تَناظُر واحد لواحد. إن ما يحدث بالأحرى هو أن مجموعة من العمليات الجسمية يمكن أن نصفها بأنها ترتبط بمجموعة من العمليات العقلية» (Nora D. Volkow, M. D., and Laurence R. Tanctedi, M. D., J. D., Bilological Correlates of Mental Activity Studied With PET., American Journal of Psychiatry 148: 4, April 1991, pp. 440–442.). (المترجم)
٥٠  انظر أيضًا قسم ٤٠. في هذا السياق تنبغي الإشارة إلى التجارب التي تبين أن الصور المستقرة، والضوضاء المستقرة، واللمسات المستقرة (من ملابسنا مثلًا) تُبدِي ميلًا إلى الخفوت. فمن الواضح أن ظاهرة الخفوت تعتمد على شيء من قبيل التماثل الفيزيائي أو التنبيهي. ولكن على حين يؤدي هذا إلى الخفوت فإن ثمة عدم تماثل في الاستجابة.
٥١  انظر ليتفين وآخرون (١٩٥٩م).
٥٢  من الواضح أن أرمسترونج قد قفز على «السؤال الصعب» the hard question، كما يسميه ديفيد شالمرز. وكذلك يقفز عليه أنصار المذهب الفيزيائي بجميع تجلياته بما فيها «المذهب الحذفي» eliminativism. يقول كولن ماكجن Colin McGinn معبِّرًا عن استحالة الاجابة عن هذا السؤال: «إذا كان الواقع مستقلًّا عن المعرفة، كما يفترض المذهب الواقعي، فإنها لمسألة عرضية تمامًا أية جوانب منه هي متاحة لمعرفتنا … ربما يكون السبب في تعثرنا الشديد في حل مشكلة العقل-الجسم هو أن الواقع يتضمن مكونا لا تمكننا معرفته … وإنني ليتملكني شعور عميق بأن هناك عقبة غائرة في جبلتنا الفكرية تحول بيننا وبين اكتشاف الحلقة المفقودة … لعلنا نعاني ما أطلقت عليه «الانغلاق المعرفي» cognitive closure بإنهاء مشكلة العقل-الجسم» (Colin McGinn: The Making of a Philosopher, Scribner, 2003, pp. 181-182). (المترجم)
٥٣  بينما لا أتبع بيلوف في موقفه تجاه اﻟ paranormal (الخارق) كما يُسميه، فأنا أعتقد أن بالإمكان اعتبار المذهب الفيزيائي الجذري مفنَّدًا بمعزِلٍ تام عن الخارق.
٥٤  ثمة مثال جيد هو الشكل التالي المعروف جيدًا، «الصليب المزدوج» double cross كما أسماه فتجنشتين (١٩٥٣م، ص٢٠٧). بوسع المرء تشغيله بأن يركز إمَّا على الصليب الأبيض أو على الصليب الأسود؛ إما إراديًّا أو بكبح إرادتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤