الفصل الأول

الحركة المثالية الجديدة

(١) القسم الأول: أصلها واتجاهها العام

نعني بالحركة المثالية الجديدة تغلغل المثالية الفلسفية الألمانية في الفكر الإنجليزي. ولم يصبح هذا التغلغل ملحوظًا إلا في العَقْدين السابع والثامن من القرن الماضي، أي بعد جيلٍ كامل من وفاة هيجل. وإذا كانت الصفة المميزة للفلسفة الإنجليزية حتى بداية هذه الحركة هي التزامها بدقة حدود تراثها القومي المنعزل نسبيًّا، ونفورها من أي عنصرٍ خارجي يقتحم أرضها عنوةً، بقدر نفورها من الانقلابات الداخلية، فإن أهمية الحركة الحديثة إنما تنحصر في أنها أحدثت تغيرًا تامًّا، واستحدثت وثبتت أشكالًا ومضموناتٍ فكريةً جديدة كل الجدة، وأضافت إلى حصيلة الفكر الإنجليزي ذخيرة من الأفكار الأجنبية التي لم تكن تُعرَف أبدًا من قبلُ. وعلى ذلك فإن المثالية الجديدة، التي كان دخولها إلى إنجلترا يمثل تحولًا هامًّا، لم تكن فقط توسيعًا وإثراءً وتعميقًا هائلًا للمحتوى المذهبي للتفكير الإنجليزي، بل كانت تمثل أيضًا، وقبل كل شيء، تراجعًا تامًّا عن الأساليب القديمة، وتحويلًا لدفة الفلسفة في اتجاهٍ جديد كل الجدة.

على أن هذا الرأي، القائل إن تغلغل المثالية الألمانية في إنجلترا قد أدى إلى الخروج على التراث الفلسفي القومي، يتناقض مع رأيٍ يظهر بين الحين والحين (ولا سيما من جانب الإنجليز)، يقول إن المسألة كلها لا تعدو أن تكون إيقاظًا لقوًى كانت غارقة في سباتٍ عميق، ولكنها كانت موجودة في الفكر الإنجليزي منذ البداية، وقد ورد أروع تعبير عن هذا الرأي الأخير في كتاب ألفه ج. ﻫ. مويرهيد J. H. Muirhead١ (وهو كتاب له قيمةٌ عظيمة، وفائدةٌ توجيهيةٌ كبيرة بالنسبة إلى بحثنا هذا)، وحاول فيه أن يكشف عن وجود تيارٍ متصل من التفكير المثالي يمر عبر تاريخ الفكر الفلسفي الإنجليزي بأسره، وأن يثبت أن الحركة المثالية لم تكن إلا امتدادًا موسعًا عميقًا لهذا التيار. على أن الوقائع التاريخية لا تؤيد هذا الرأي، فأيًّا ما كانت المذاهب والأفكار المثالية الرئيسية التي ظهرت في القرون السابقة، فإن الحركة التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم تكن مرتبطةً بهذه المذاهب والأفكار لا على نحوٍ مباشر ولا على نحوٍ غير مباشر؛ ذلك لأن هذه الحركة كانت صريحة الارتباط بالفلسفة الألمانية الممتدة من كانْت إلى هيجل، ولم تعد أبدًا إلى أي تراث إنجليزيٍّ سابق. ومما يثبت استحالة كونها قد نبعت من التراث القومي مباشرةً، عدم وجود أي تيارٍ مثاليٍّ متصل في تطور الفلسفة الإنجليزية، وذلك على الأقل في القرن الذي سبق هذه الحركة مباشرةً، أي منذ وفاة باركلي (سنة ١٧٥٣) حتى ظهور كتاب ستيرلنج عن هيجل (١٨٦٥). فهذه الفترة على التخصيص هي أبعد الفترات عن أن يقال بوجود اتجاهٍ مثاليٍّ إنجليزي فيها، كما لا يمكن الزعم بأن حركة لها من القوة ما لتلك التي نحن بصددها، كان يمكن أن تشتعل جذوتها، وتصبح لها مثل هذه القوة الهائلة بفضل تأثير محاولاتٍ قليلةٍ هزيلةٍ متفرقة.

وإذن فعلينا أن نظل على اعتقادنا بأن النهضة الفلسفية في إنجلترا بعد أواسط القرن الماضي كانت ثمرةً متأخرة للمثالية الألمانية، وأنها تغذَّت من مصادرَ ألمانية، وتغلغلت فيها الروح الألمانية، أو أنها — إذا ما عبرنا عن الأمر بلغةٍ عملية — كانت في أساسها سلعةً ألمانية.

وليس المقصود من هذا الإقرار الواقع، لا الحكم، مدحًا أو قدحًا. فليس هذا موضع الكلام عن التغيرات التي طرأت على السلعة الأجنبية عندما استقرت في الأرض الإنجليزية، ولا عن مدى ارتباطها بالاتجاهات الفكرية القومية، أو بالصور الجديدة التي نمت منها، بل إن من واجبنا بالفعل أن نؤكد أن تغلغل التيار الفكري الألماني لم يحدث بطريقةٍ خارجيةٍ محضة، أي عن طريق اهتماماتٍ مدرسية، أو بالقسر والإرغام، وإنما حدث ذلك عندما أصبح ضرورةً باطنة؛ ذلك لأنه ليس ثمة شك في أن الظروف المؤدية إلى قبول البذرة الجديدة كانت، في الوقت ذاته، مواتية إلى حدِّ بعيد، وأن العوامل الحاسمة في هذا القبول كانت متعددة ومتنوعة.

فمن الملاحظ أولًا، أن الشعر والأدب بوجهٍ عام قد هيأ الجو الذهني لتلقِّي نظرةٍ مثالية إلى العالم. وكان من أهم العوامل التي ساعدت على البدء في الحركة الفلسفية على التخصيص، ذلك العمل التمهيدي الذي قام به، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، شعراءُ مشهورون وكُتَّابٌ آخرون كان موقعهم خارج الأوساط الفلسفية المحترفة، وكان معظمهم على خلاف مع هذه الأوساط. فقد كان شعر الرومانتيكيين هو السبب في ظهور تلك النظرة الجديدة إلى العالم، والموقف الجديد من الحياة، الذي حل محل صور التفكير العتيقة الموروثة من عصر التنوير. وتظهر أولى بوادر المضمون الروحي الجديد، الذي شقَّ طريقه بعد ذلك بوقتٍ طويل إلى الفلسفة بدورها، في أشعار شيلي وكيتس، وورد سورث وكولردج. غير أن صمويل تيلر كولردج (١٧٧٢–١٨٣٤) هو الذي كانت له أهميةٌ خاصة من بين هؤلاء جميعًا، فهو لم يكن شاعرًا ملهمًا فحسب، بل كانت له أيضًا مواهبُ فلسفيةٌ أصيلة، وكان يسعى دائمًا إلى التعبير عن نظرته الشعرية إلى العالم تعبيرًا نظريًّا إلى جانب التعبير الفني، وفي خلال ذلك مرَّ ذهنه، الذي كان يتصف بقدرٍ هائل من التفتح والمرونة، بتغيراتٍ عدة، فتعرض مرة تلو المرة لتأثير هارتلي وباركلي واسبينوزا وأفلاطون وأفلوطين وكانْت وشلنج وغيرهم. وبعد اضطرابات وسوراتٍ متعددة، وصل أخيرًا إلى نوع من الميتافيزيقا الروحانية التي يمكن التعبير عنها بالحكم الرائعة والأقوال الموجزة أفضل مما يعبر عنها بالطريقة المنهجية الدقيقة. وقد وقف في هذه الآراء موقف المعارضة الشديدة للآراء الفلسفية السائدة في عصره وبلده، ولا سيما مذهب المنفعة التجريبي عند بنتام، الذي كان هو المذهب العصري المنتشر عندئذٍ. ومن الملاحظ أن الأوساط الفلسفية المتخصصة ذاتها كانت تعترف أحيانًا بأن كولردج قد أدخل إلى الفلسفة الإنجليزية روحًا جديدة لم تشترك في شيء مع الآراء الراسخة السائدة، كما جاء مثلًا في المقالات التي كتبها جون ستيوارت مل في عامي ١٨٣٨ و١٨٤٠ عن بنتام وكولردج، والتي أعيد طبعها، «أبحاث ومناقشات»، المجلد الأول، ورغم ذلك لم يظهر أي أثر لتدخل هذه الروح الجديدة في الأوساط الأكاديمية خلال حياة الشاعر، بل ولا بعد وفاته بجيلٍ كامل، وهذا أوضح دليل على أن الأوان لم يكن قد آن لحدوث تجديدٍ مثاليٍّ شامل في الفكر الإنجليزي.

ولقد كانت لفلسفة كولردج أهمية، بالنسبة إلى بحثنا هذا، من زاويةٍ أخرى، فمع هذه الفلسفة تدفق إلى إنجلترا لأول مرة مجرًى واسع من المثالية الألمانية. ومن الصعب أن يقرر المرء إن كانت الأفكار الرئيسية في نظرته إلى العالم قد تشكلت في ذهنه قبل تعرفه على المذاهب الألمانية،٢ أو أن أول ظهور لها كان على إثر اطلاعه على هذه المذاهب، غير أن كل ما يهم تاريخ الفكر هو أنه قد حدث اتصال بينه وبينها، وأنه كان اتصالًا وثيقًا إلى حدٍّ بعيد، وبفضله دخلت الفلسفة الألمانية لأول مرة في الإطار الذهني للإنجليز.٣
ونحن نعلم أن كولردج قد درس مذهب كانْت بالتفصيل، وأن هذه الدراسة تركت آثارًا واضحة في تفكيره الخاص. غير أن تأثير شلنج كان أعمق؛ إذ إن تعاليمه في الكونيات والجماليات قد اجتذبته وهزَّته من أعماقه، بل وكادت تستحوذ عليه تمامًا في بعض الأحيان، وقد أثبتت الأبحاث الأخيرة أنه درس كتاباتٍ متعددة لفشته وهيجل أيضًا، ودوَّن بعض التعليقات الهامشية عليها، رغم أن تأثير هذين المفكرَين أقل وضوحًا في مؤلفاته المنشورة (انظر كتاب «كولردج فيلسوفًا» ١٩٣١، ص٢٧١، للهامش)، كذلك كان لكل من لسنج وهردر وجوته وشيلر تأثيرٌ حاسم في تفكيره، وعلى ذلك فإن كولردج يمثل غزوًا مبكرًا وفريدًا من نوعه للحياة الروحية الإنجليزية بواسطة الفكر المثالي الألماني، كما يمثل رد فعل عنيف على الموقف الذهني للقرن الثامن عشر، وعلى امتداد هذا الموقف في العشرات الأولى من القرن التاسع عشر في الفلسفة الإنجليزية القومية. وقد تمكن التيار التجريبي لمذهب المنفعة، الذي وجد في جون ستيوارت مل بطلًا جديدًا له، من السيطرة على الميدان إلى ما بعد منتصف القرن الماضي، فكان من نتيجة ذلك أن ظلت أنظار كولردج العميقة مبعثرة، عاجزةً عن أن تجد في أي مكان تربةً صالحة تضرب بجذورها فيها، ولم تثمر البذرة التي بذرها إلا لدى تلميذٍ واحد، كان هو الجراح «جوزيف هنري جرين Joseph Henry Green» (١٧٩١–١٨٦٣)، الصديق الحميم للشاعر طوال سنواتٍ عديدة، ثم منفذ وصيته الأدبية فيما بعدُ، ولقد كان من مهمته — بهذا الوصف الأخير — أن يفحص مخلفات كولردج الفلسفية ويضعها في صورةٍ منهجية، وهي مهمة كرَّس لها، في إنكارٍ واضح للذات، الجزء الأكبر من سنواته الأخيرة، دون أن يتمكن من إنجازها. على أنه قد شيد نوعًا من المذهب الفلسفي من كتابات الشاعر ومذكراته وملاحظاته الهامشية ومحادثاته، ونُشِرَت هذه بعد وفاته بعنوان «الفلسفة الروحية»، المبنية على تعاليم المرحوم س. ت. كولردج Spiritual Phil. founded on the teaching of the Late S. T. Coleridge. (١٨٦٥، في مجلدَين). ورغم التغير الذي طرأ منذ وفاة كولردج، فقد ظهر هذا الكتاب وظل دون أن ينتبه إليه أحد؛ إذ طغى عليه كتاب سترلنج عن هيجل، الذي ظهر في العام نفسه، وبعد ذلك اتجه القراء مباشرة إلى المصادر الألمانية دون أن يعبئوا بكولردج وتلميذه، ولم تبقَ أفكار كولردج حية إلا لدى قلة منهم، إلى جانب جرين، مثل ف. د. موريس F. D. Maurice وس. ﻫ. هدجسن S. H. Hodgson، وقد أهدى الأخير كتابه «فلسفة التفكير Phil of Reflection» (١٨٧٨) إلى كولردج بوصفه «أبًا فلسفيًّا» للمؤلف، ولم تُبحث فلسفة ذلك الشاعر الرومانتيكي العظيم بحثًا تاريخيًّا إلا في وقتٍ قريب، بفضل كتابي، أليس د. سنيدر Alice D. Snyder «آراء كولردج في المنطق والتعليم Coleridge on Logic & Learning»، ١٩٢٩ ومويرهيد J. H. Muirhead «كولردج فيلسوفًا C. as Philosopher» ١٩٣٠.
ومن معاصري كولردج ومعارفه في ميدان الأدب، توماس دي كوينسي Thomas de Quincey (١٧٨٥–١٨٥٩) الذي اجتذبته الفلسفة الألمانية، وقد درس بحماسة كتابات كانت وفشته وشلنج، وحاول أن يُثير الاهتمام بأفكارهم وأن يقربها إلى أذهان أكبر عدد من الناس، ولكنه، رغم ما كان يبديه من آن لآخر من استبصارٍ عميق إلى حدٍّ يدعو إلى الدهشة، كان يفتقر إلى الفهم الذي لا بد منه لمهمة كهذه، وزاد الأمور غموضًا أكثر مما زادها وضوحًا. ولا يمكن أن يقال إنه كان عاملًا هامًّا في فتح آفاق الفكر الألماني، ومع ذلك فقد كان واحدًا من الإنجليز القلائل الذين لهم أية معرفة بهذا الفكر في العَقْدين الثالث والرابع من القرن الماضي.٤

على أن أحدًا لم يدعُ إلى رسالة المثالية بمثل العمق والتأثير الذي دعا به إليها توماس كارليل (١٧٩٥–١٨٨١)، فإليه، أكثر من أي شخص غيره، يرجع الفضل في إحداث التغيير الذهني الكامل الذي وقع في أيامه، وتهيئة الأرض للبذرة الجديدة. ورغم أن مواهب كارليل ومعلوماته الفلسفية كانت أقل من مثيلاتها عند كولردج، فقد كان أقوى منه اقتناعًا، وأشد إصرارًا وجرأة، وهكذا استوعب القيم الروحية للأدب والفكر الألماني، ثم عرضهما ثانيةً بكل ما كان يتصف به أسلوبه التنبئي من تأثيرٍ بالغ. ولقد كان إيمانه الكامل برسالته هو الذي أضفى على أقواله قوَّتها الإقناعية، وجعل لكلماته أصداءها القوية، وكان هو أول زعماء رد الفعل الحاسم على تراث القرن الثامن عشر، وعلى كل بقاياه في القرن التاسع عشر — أي على عصر التنوير — الذي كان رائده العقلي في نظره هو هيوم، وعلى الاكتفاء المتكاسل بالشكل والإنكار، وعلى الموقف الطبيعي وأخلاق المنفعة، وعلى تجاهل الروح النقدية وسيطرة العقل الغاشمة. ووسط كل أعراض الإفلاس الروحي هذه، التي كانت متفشية في بلاده، حاول أن يغرس القيم الجديدة التي ولدتها الفلسفة الكلاسيكية والأدب الكلاسيكي عند الألمان. وعلى هذا النحو أصبح جسرًا حيًّا بين الثقافتَين الألمانية والإنجليزية، وسفيرًا أو ممثلًا للروح الألمانية في بلاده، وأدى هذه المهمة على نحوٍ أفضل مما أداها عليه كولردج في أي وقت. ولكن، رغم هذا كله، لم يكن لديه أي اهتمامٍ فلسفي على التخصيص، ولم يكن للفلسفة بالنسبة إليه أي معنًى إذا ما فهمت على أنها تعمق في التحصيل أو تأملٌ خالص. ولقد اعتنق من المثالية وجهها العملي والديني أكثر مما اعتنق وجهها النظري، وآمن بها بوصفها قوةً حية وموقفًا ذهنيًّا أكثر مما آمن بها بوصفها نظرية أو فرعًا للمعرفة. وبدلًا من أن يتخذ من الفلسفة موضوعًا للتفكير، اكتفى بأن يحياها كيما يدعو إلى قيمتها الروحية ويطبقها على الحياة، منظورًا إليها من الوجهة الدينامية، ويدمجها فيها. وبمثل هذا الموقف تعلَّم من كانْت وفشته أكثر كثيرًا مما تعلَّم من شلنج وهيجل، وهذا ينطبق بوجهٍ أخصَّ على فشته، الذي كان يدين له بالجزء الأكبر من الوجه الفلسفي لتفكيره، ولم يكن يمل أبدًا من إحالة معاصريه إلى هردر ونوفالس وجان بول وشيلر، وإلى جوته العظيم، بوصفهم دعاة وخالقين لقيمٍ عمليةٍ جديدة ولكنها أزلية.

وفي أمريكا كانت لإمرسون Emerson رسالةٌ شبيهة برسالة كارليل، وإن لم يكن تأثره بالألمان السابقين عليه قد بلغ مثل هذا العمق. ولما كانت كتاباته قد أثرت في إنجلترا بدورها تأثيرًا بالغًا، فقد لزم التنويه بأهميته.
من هذه الاتجاهات، لا من أوساطٍ فلسفيةٍ خالصة تلقَّت الحركة الجديدة أكبر قوةٍ دافعة لها. صحيح أن البعض، في هذه الأوساط، كانوا يستبقون الحركة الجديدة من آنٍ لآخر، غير أن معظم هؤلاء لم يتجاوزوا نطاق الإلمام بتعاليم الفلاسفة الألمان والاهتمام بهم، ونادرًا ما أظهروا فهمًا حقيقيًّا لهم، وكلهم على السواء كانوا منعزلين بدرجاتٍ متفاوتة، فلم يجتمعوا أبدًا بالقدر الذي يكفي لتكوين حركةٍ واحدة، وفضلًا عن ذلك فلم يتوافر لأحد منهم فهمٌ كامل للمثالية في مجموعها. وهكذا فإن دورهم، في التعجيل بظهور الحركة المثالية، كان إما ضئيلًا جدًّا وإما متعمدًا. ومع ذلك فمن واجبنا أن ننوِّه بعمل السير وليام هاملتن ومدرسته، التي سيطرت على الميدان الفلسفي، ولا سيما في اسكتلندا، في أواسط القرن الماضي؛ فقد كان هاملتن أول فيلسوفٍ محترف في إنجلترا اكتسب معرفةً عميقةً واسعة بالمؤلفات الفلسفية الألمانية وانتفع من هذه المعرفة، وكان يفوق كل معاصريه في فهمه إلى القراءة وعمق معلوماته، ومن المألوف أن يصادف المرء في كتاباته أسماء كبار المفكرين الألمان، بل إن من الممكن وصف مذهبه الخاص بأنه محاولة للتوفيق بين الفكر الاسكتلندي وتفكير كانت أو لإيجاد مركَّب منهما، أو إذا شئنا تعبيرًا أدق، لتطعيم فلسفة الموقف الطبيعي عند ريد ببذرةٍ كانْتيَّة. غير أن أهم ما أخذه هاملتن عن كانت هو النزعة الظاهرية اللاأدرية Agnostic Phenomenalism في نظرية المعرفة النقدية، والفكرة القائلة إن المعرفة البشرية تقتصر على المظاهر وعلى ما هو متناهٍ مشروطٍ نسبي. ولقد أدى اقتصاره على إبراز الجزء النظري من مذهب كانت، بل والوجه السلبي منه فحسب؛ أدى ذلك إلى جعل هذا الجزء يبدو وكأنه كل ما في الفلسفة الترنسندنتالية أو على الأقل أهم ما فيها، فكان من نتيجة هذه الصورة الجزئية المضللة إلى أبعد حد أنْ حيل بينه، وكذلك بين مواطنيه، وبين الوصول إلى نظرةٍ شاملة إلى تفكير كانت، وفهمٍ أصيل له، كما قطع الطريق على المذاهب التالية لكانْت. صحيح أنه كانت لديه معرفةٌ وثيقة بهذه المذاهب، ولكنه كان عاجزًا تمامًا عن اكتساب أي شيء منها، وبدد جهوده في خلافٍ عقيمٍ زائف مع «فلسفة اللامشروط (المطلق)». فقد أفتى بعدم مشروعية المذاهب الميتافيزيقية الكبرى التي ظهرت نتيجة لنقد العقل عند كانْت، وأصبح هذا الحكم، بفضل سلطته العظيمة، هو الرأي السائد وقتًا طويلًا. ومن هنا كان من أولى المهام التي تعين على سترلنج القيام بها عند وضع أسس بنائه الجديد، إعلان احتجاجه بشدة على تشويهات هاملتن ونظراته السطحية، وإنكار أصالة نظراته إلى الفلسفة الألمانية؛ ذلك لأنه كان واثقًا من أن عدم إنصاف هاملتن لهذه الفلسفة قد عاق تقدم الفكر الإنجليزي جيلًا كاملًا. ومع ذلك فلا مفر لنا من أن نعترف لهاملتن بفضل إنقاذ الفلسفة الإنجليزية، بعلمه الغزير، من الطريق المسدود الذي كانت قد انتهت إليه؛ إذ أتاح دخول مصادرَ جديدةٍ وجلب إليها روافد من الفكر الأجنبي المعاصر له، فلم يكن لأي فيلسوفٍ آخر، قبل سترلنج، مثلما كان لهاملتن من الأثر في القضاء على عزلة الفلسفة في بلاده.
وبعد وفاة هاملتن، أصبح جون ستيوارت مل هو أبرز الشخصيات في ميدان الفلسفة في إنجلترا، بل أصبح هو الممثل الوحيد للفلسفة في إنجلترا، وأكثر المفكرين قراءً، في الفترة التي تلت منتصف القرن الماضي مباشرة، وفيه التقت جميع تيارات الفكر الفلسفي التي كانت حية عندئذٍ. ولقد بلغت سيطرته من الاكتمال حدًّا أصبح من المستحيل معه أن يجد أي شخص يتحدث ضده آذانًا صاغية. ونستطيع أن نذكر أولًا، ضمن أولئك الذين غامروا بالسياحة ضد التيار التجريبي، اسم جون جروت J. Grote (١٨١٣–١٨٦٦)، الذي كان أستاذًا للفلسفة الأخلاقية في كيمبردج، فقد دار تفكيره، الذي كان منعزلًا وشبه مستقل، في إطار المثالية، ولكنها لم تكن مثالية هاملتن، بما فيها من نسبية لا أدرية، فقد رفض تعاليم هذا الأخير صراحةً، وحبذ بدلًا منها مذهبًا تكون المعرفة فيه هي «تعاطف العقل مع العقل، من خلال الوجود المشروط الجزئي»،٥ فمن الممكن بلوغ الواقع الحقيقي والشيء في ذاته في المعرفة، وذلك راجع إلى أن طبيعته هي نفس طبيعة الذهن الذي يعرفه. وقد جمع جروت، إلى هذه الفكرة، نقدًا عميقًا للمذهب الظاهري أو الوضعي، وإن يكن قد اقتصر على توجيه نقده إلى ادعاء هذا المذهب أنه هو الكلمة الأخيرة في الفلسفة، أو هو الفلسفة كلها. فمعرفة الظواهر هي شكلٌ مفيد من أشكال المعرفة، وهي تمثل نوعًا حقيقيًّا من التجريد في مجالها الخاص؛ مجال العلوم الطبيعية، ولكنها مع ذلك لا تعدو أن تكون تجريدًا مستمدًّا من سياقٍ أوسع منها كثيرًا؛ فهي إذن معرفةٌ مبدئية تمهد للمعرفة الفلسفية بمعناها الدقيق. ومن هنا كان من الواجب تكملة وجهة النظر الظاهرية وإتمامها بوجهة النظر المثالية، بل إن تفكيرنا لا يكون فلسفيًّا حقيقةً إلا إذا فكرنا بالطريقة المثالية؛ إذ إن جروت لم يكن يعني بالفلسفة الاهتمام بموضوع المعرفة، وإنما الاهتمام بواقعة المعرفة أو عملية المعرفة ذاتها. ومن ذلك فإنه لم يصل إلى أي إيضاحٍ كامل لموقفه، وكل ما فعله هو الاعتراف بعدم كفاية النظريات السائدة في أيامه، وتلمُّس طرقٍ جديدة للتفكير على غير هدى. ولقد كان في ذهنه نوع من المثالية الموضوعية أو الميتافيزيقية، ولكن وجوده في بيئة لها اتجاهٌ مختلف كل الاختلاف، جعله أكثر انعزالًا من أن يتمكن من تشييد مذهب له قوامه الصحيح. ومن هنا فإنه لم يكد يلقى أية استجابة مباشرةً، ولم تجد الأفكار الخصبة القليلة التي غرس بذرتها تربةً مناسبة هنا أو هناك إلا بعد مضي وقتٍ طويل. وقد ظهر الكتاب الفلسفي الوحيد الذي نشره هو ذاته، وهو «بحث استطلاعي فلسفي، المجلد الأول»، سنة (١٨٦٥) في نفس السنة التي ظهر فيها كتاب سترلنج عن هيجل. أما بقية مؤلفاته٦ فقد نُشِرَت بعد وفاته ولم تلقَ إلا اهتمامًا ضئيلًا.
أما جيمس فريير James F. Ferrier (١٨٠٨–١٨٦٤، الذي كان أستاذًا بكلية سانت أندروز)، فكان مثل جروت، من القلائل الذين رفضوا، في أواسط القرن التاسع عشر، الخضوع لسلطة هاملتن (الذي كان يعجب كثيرًا بمواهبه العقلية وبشخصيته القوية) أو سلطة مل، وإنما سار في طريقه الخاص، وقال بمذهبٍ مثالي كانت معالمه أوضح كثيرًا من تلك الخيوط المفككة التي قال بها جروت، واحتوى مذهبه على عناصرَ كثيرة من الحركة التي سرعان ما ظهرت بعد ذلك. وقد وحد في مؤلَّفه الرئيسي، «مبادئ الميتافيزيقا Institutes of Metaphysic»، (١٨٥٤)، بين الفلسفة وبين العلم النظري (speculative)، وكشف عن خصائص هذا العلم بطريقةٍ منهجية، في صورة نظريات تُستنبَط كلٌّ منها من السابقة عليها، على نحو يقرب كثيرًا مما فعله اسيبنوزا في كتاب «الأخلاق». وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء: (أ) الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة، (ب) الأجنيولوجيا Agnoiology أو نظرية الجهل، (ﺟ) الأنتولوجيا أو نظرية الوجود. وقد صاغ في قضيته أو نظريته الأولى، التي يُبْنَى عليها بالتالي مذهبه بأكمله، القانون الأساسي لكل معرفة، وهو: «مع أي شيء يعلمه أي عقل، ينبغي أن يعرف هذا العقل ذاته، بوصف هذه المعرفة أساسًا أو شرطًا لعلمه» (الطبعة الثالثة، ص٧٩)، وهنا نرى، منذ البداية، اتفاقًا واضحًا مع كانت. والحق أن فريير هو على الأرجح أول مفكرٍ إنجليزي تفهم الفلسفة الألمانية وتعاطف معها، وانتفع منها على نحوٍ إيجابي لصالح مذهبه الخاص. ولقد أحس بتأثير هذه الفلسفة في زيارة مبكرة قام بها لألمانيا، وظل فيما بعدُ على صلةٍ وثيقة بها، وربما كان مقالاه عن شلنج وهيجل في «القاموس الإمبراطوري للسير العالمية Imperial Dict. of Universal Biography» (١٨٥٧–١٨٦٣)٧ أولى الكتابات التي تجلَّى فيها فهمٌ حقيقي لهذين المفكرَين باللغة الإنجليزية. وكان لموقفه من هيجل طرافةٌ خاصة، فقد كان دائمًا ينفي الاعتقاد بأنه كان هيجليًّا، وأيًّا ما كان الأمر، فلدينا اعترافه الخاص بأنه كان يكافح بقوة، ولكن دون نجاح في معظم الأحيان، لكي يفهم هيجل، فهيجل كان بالنسبة إليه، كما كان بالنسبة إلى سترلنج، — السر الأعظم، المحاط بهالة من الهيبة السحرية، وهو شخصية ليست لديه فكرةٌ عقلية عن عظمته، وإنما مجرد إحساس وشعورٍ غامض بها. وإنا لنصادف لدى فريير، كما نصادف لدى سترلنج (مبادئ الميتافيزيقا، ص٩١ وما يليها) تعبيرات تلمح إلى أن العملاق الذي لم يقهر سينقضُّ كالقدر على كل ما هو مقدس في تراث الفلسفة الإنجليزية.
ويرتكز مذهب فريير — وهو مذهبٌ مطلق يقوم على أساسٍ نظريٍّ بحت — على نظريةٍ مثالية في المعرفة، وعلى نظريةٍ أصيلة تمامًا في الجهل. وكان هذا المذهب تجريديًّا نظريًّا بنَّاءً إلى درجةٍ رفيعة، في وقت انحدر فيه التأمل النظري عند الإنجليز إلى أدنى درجاته. ويظهر التأثير الألماني بوضوح في هذا الانطلاق للقوى التأملية، وكذلك في تركيب المذهب عامة، وفي اتجاهاته الفكرية الخاصة، غير أن فريير قد نهل أيضًا من منبع الفلسفة القومية، فعاد إلى باركلي واستمدَّ من فلسفته عناصرَ هامةً أدمجها في مذهبه الخاص،٨ ولما كان باركلي في ذلك الحين يكاد يكون منسيًّا في إنجلترا، فعلينا أن ننسب إلى فريير فضلًا آخر هو فضل إعادة اكتشافه من جديد،٩ وإعطائه القوة الدافعة الأولى لبعث مذهب باركلي، الذي تحقق على يد فريزر، وكولينز سيمون Collyns Simon، وراشدال Rashdall وغيرهم. وأخيرًا ينبغي أن نلاحظ أنه ربما كان أول اسكتلندي يثور على تراث المدرسة الاسكتلندية.١٠

فالموقف الطبيعي في رأيه لا يمكن أن يكون معيار الحقيقة الفلسفية؛ لأن التفكير اليومي، الذي هو أبعد ما يكون عن التفكير العقلي، مضطر إلى الخضوع تمامًا لقرارات هذا التفكير العقلي، وهنا أيضًا كان فريير مبشرًا ومتنبئًا بتطورات ستحدث فيما بعدُ. غير أن اهتمامنا الرئيسي ينصبُّ هنا على الحديث عنه بوصفه واحدًا من رواد الحركة المثالية، التي ساهمت كتاباته، بما أحرزته من شهرةٍ غير قليلة في وقتها، في إعطائها قوةً دافعة ومضمونًا.

وآخر من سنذكرهم من أولئك الذين أحسوا بوضوح بتأثير الفلسفة الألمانية قبل بداية الحركة بمعناها الصحيح، هو اللاهوتي فريدريك دنيسون موريس F. Denison Maurice (١٨٠٥–١٨٧٢). ولقد كان موريس أستاذًا للتاريخ والأدب الإنجليزي (١٨٤٠) وكذلك للاهوت (١٨٤٦) في «كنجز كوليدج» بلندن، حتى عام ١٨٥٣ حين أُعفِي من منصبه بسبب آرائه المفرطة في تحررها، ومنذ عام ١٨٦٦ حتى وفاته شغل كرسي الفلسفة الأخلاقية بجامعة كيمبردج. ولقد تشبع بعمق بروح كولردج؛ إذ كان واحدًا من تلامذته القلائل، ولكنه لم يفلح أبدًا في التعمق في مجاهل وغوامض التصوف عند هذا الشاعر الفيلسوف، والارتقاء به إلى مستوى التفكير الواضح. وفضلًا عن ذلك فقد رجع، بفضل كولردج، إلى الدراسة المباشرة للفلاسفة واللاهوتيين الألمان، واستمدَّ منهم أفكارًا ملهمةً عديدة، غير أن نشاطه الرئيسي كان خارج نطاق الفلسفة التي لم يكرس لها إلا اهتمامًا عارضًا.١١

وهكذا فإن إحياء المثالية في إنجلترا قد مهدت له تياراتٌ أدبية، وبشَّرت به قلة من الفلاسفة المنعزلين، غير أن هناك عاملَين آخرَين ساعدا على إحداث هذا الإحياء والتعجيل به، أولهما اهتمام الأوساط الدينية واللاهوتية، وثانيهما العناية بالدراسات الكلاسيكية في الجامعات القديمة.

ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم يكن التوتر التقليدي بين الفلسفة والدين، أو بين المعرفة والإيمان، قد تحوَّل إلى صراعٍ علني، وإنما كان أنصار كلٍّ من المعسكرَين يتسامحون مع أنصار الآخر، ويقفون منه موقف الحياد العطوف، وذلك باستثناء اصطداماتٍ قليلة كانت تقع هنا وهناك. فالفلسفة كانت على وجه العموم أقل اكتراثًا بالدين من أن تجعل منه مشكلةً حقيقية، وإنما اهتمت بمسائلَ أخرى، وتركت اللاهوت وشأنه. غير أن تحولًا أساسيًّا حاسمًا قد طرأ على هذا الوضع بعد منتصف القرن الماضي، فقد أدى ظهور الداروينية إلى اتخاذ الفلسفة موقفًا عدائيًّا من الدين، ونما المذهب الطبيعي والمادي بقوة بين أتباع دارون، وكان تغلغله في أذهان العامة أعمق من تغلغله في أذهان المثقفين، فكان لذلك أثره الهدام؛ فقد تعرض الدين — نتيجة لذلك — لخطرٍ داهم. وهكذا دخل اللاهوت المعركة، بوصفه الجهة المختصة بالدفاع عن الدين، غير أن الأسلحة اللاهوتية وحدها لم تكن كافية للمضيِّ في المعركة ضد المادية، وإنما كان لا بد من صرع العدو بسلاحه الخاص، أي بالفلسفة. على أن الفلسفة القومية كانت عاجزة عن ذلك تمامًا، فلم يكن من المستطاع استخلاص أي سلاحٍ جديد منها، بل إن جانبًا منها قد هرب رافعًا أعلامه البيضاء إلى معسكر العدو. وهكذا أدت خطورة الموقف إلى الإصغاء إلى تلك الأصوات الفلسفية التي كانت تتحدث منذ وقتٍ غير قليل من ألمانيا، وأدركت الدوائر الدينية المحافظة، بوجهٍ خاص، الأهمية العظمى لعقد تحالف مع المثالية الفلسفية في الصراع المقبل. وهكذا لم تكن الاعتبارات الفلسفية الخالصة هي التي أدت إلى فتح الباب للغز الألماني، وذلك في المراحل الأولى على الأخص، وإنما أدت إلى الرغبة في دعم اللاهوت المحافظ وتجديد قوة الإيمان المهدد، ضد هجوم اللاأدرية والطبيعية وعدم الاكتراث الديني والإنكار الصريح. وكان أول وأهم المذاهب التي استُغلَّت هو الميتافيزيقا البناءة (أو التركيبية) عند هيجل لا الكانتية؛ إذ كانت هناك شكوك تحوم حول كانت ذاته، وتتهمه باللاأدرية، وذلك نتيجة للتفسير المغرض الذي فرضته عليه مدرسة هاملتن. ويظهر هذا الاتجاه بكل وضوح عند رواد الحركة، أي عند سترلنج وجرين وولاس والأخوين «ليرد»؛ فالمثالية الفلسفية كانت عند هؤلاء جميعًا، وعند الكثيرين غيرهم، تعني تأييد الدين والدفاع عنه، مهما كانت لها من دلالةٍ أخرى لديهم. ولقد اعترف سترلنج بذلك، كما سنرى فيما بعدُ، بصراحةٍ محمودة، وحتى في الحالات التي لم يُعترَف فيها بهذا الباعث بمثل هذه الصراحة، كان رغم ذلك موجودًا وله أثره. وليس من شأننا هنا أن نتحدث عن التفسيرات الباطلة المجحفة التي نشأت عن هذا الباعث، وحسبنا أن نؤكد أن الحركة كانت، في مراحلها الأولى، تدين لهذا الباعث بأكبر قوةٍ دافعة لهذا. غير أن هذا الباعث قد ضعف بنمو الحركة، وبدأت سطوته تخف حتى منذ أيام «نتلشيب Nettleship» وكاد أن يختفي تمامًا عند أنصار المذهب المتأخرين (مثل برادلي وبوزانكيت) أو يتحول إلى ضده (كما هي الحال عند ماكتجارت). وهكذا فإن المتدينين المحافظين، الذين هللوا بحماسة للحركة في مرحلتها الأولى، أصبحوا ينظرون إلى مراحلها المتأخرة بعين القلق وخيبة الأمل.
أما العامل الثاني فكان ينتمي إلى مجالٍ مختلف كل الاختلاف، فقد كانت جامعتا أكسفورد وكيمبردج تعتزان دائمًا بالروح الإنسانية واللغات الكلاسيكية (القديمة) وكانتا بهذا الوصف حاميتَي التراث الفلسفي لليونان؛ ذلك لأن الفلسفة اليونانية، ولا سيما فلسفة أفلاطون وأرسطو، كانت منذ وقتٍ طويل من أهم الوسائل التعليمية لنقل الثقافة الكلاسيكية، وعن طريقها انتقلت الروح اليونانية إلى كل جوانب الحياة العقلية، وكان لها تأثيرها النافع في الفلسفة كما في بقية هذه الجوانب. وهذا هو المعنى الذي يمكننا أن نفهم به العبارة القائلة بوجود «تراث أفلاطوني في الفلسفة الأنجلوسكسونية» ظل مستمرًّا على الدوام (وهذا هو رأي مويرهيد)، لا معنى استمرار شكل معين من أشكال الأفلاطونية ظل يعمل على نحوٍ فعال طوال تاريخ الفكر الإنجليزي (فأفلاطوني وكيمبردج كانوا ظاهرةً منعزلة، ولم تحدث منذ ذلك الحين حركةٌ مشابهة). وبعد منتصف القرن التاسع عشر حدثت نهضةٌ جديدةٌ هامة في دراسة الفلسفة اليونانية بأكسفورد ارتبطت أساسًا باسم «بنجامين جويت Benjamin Jowett» (١٨١٧–١٨٩٣)، ورغم أن جويت كان لاهوتيًّا قبل كل شيء، فقد كان رجلًا واسع الثقافة ذا نشاطٍ متعدد الجوانب، وكان من قادة حزب «الكنيسة الرحبة Borad Church»،١٢ كما كان القوة الدافعة من وراء حركة إصلاح الجامعات، وما زال الأحياء من الجيل القديم يذكرون عنه أنه كان أبرز أساتذة الجامعات وأقواهم تأثيرًا في عصره، وقد قضى حياته في التدريس في أكسفورد وحدها، ففي عام ١٨٣٨ أصبح زميلًا في كلية «باليول»، ثم مدرسًا بها بعد أربع سنوات، وأصبح في عام ١٨٧٠ أستاذًا Master، إلى جانب شغله كرسي اللغة اليونانية من ١٨٥٥ إلى ١٨٩٣. ويُعْزَى القدر الأكبر من شهرته إلى تجديده للدراسات الكلاسيكية بروح الفلسفة اليونانية ومن خلالها، وذلك خلال عمله في التدريس والكتابة، الذي امتد أكثر من نصف قرن، ولازمه النجاح الباهر طواله. ومن المعترَف به أن ترجمته لمحاورات أفلاطون، التي صدَّرها بمقدماتٍ رائعة، هي إلى اليوم أفضل الترجمات، ومن الممكن وصفها بأنها كلاسيكية، بمعنى أن أفلاطون أصبح بفضلها لأول مرة، قوةً تعليميةً حية بحق، وأصبح من المقتنيات المضمونة للأمة. فدورها بالنسبة إلى إنجلترا يساوي دور ترجمة «شلير ماخر» بالنسبة إلى ألمانيا، ولجويت ترجماتٌ أخرى لثوكوديدس Thucydides (١٨٨١) ولكتاب «السياسة» لأرسطو (١٥٨٨)، غير أنها أقل أهمية؛ إذ إنه كان فيها أضعف تحمسًا للمؤلفات الأصلية وأقل تعاطفًا معها.

ويمكن القول إن هذا الاهتمام المتجدد والمتعمق، في أكسفورد، بفلسفة العصور الكلاسيكية القديمة، قد أتى في الوقت المناسب؛ نظرًا إلى الاتجاه الذي أخذ الفكر الإنجليزي يتحول إليه في ذلك الحين. فقد كانت القرابة بين المثالية اليونانية والألمانية واضحةً، وشعر الجيل الناشئ في أكسفورد أكثر من أي مكانٍ آخر، بالحاجة الملحَّة إلى تخليص الفكر الإنجليزي من ضيق أفقه وخضوعه الذليل لتراثه، وإلى العودة به إلى المجرى العظيم للفلسفة الأوروبية. وهكذا كان بعث الدراسات الأفلاطونية الذي استهله جويت، هو نقطة تجمع للمؤثرات الفلسفية الآتية من ألمانيا، وفضلًا عن ذلك، فإن هاتين القوتَين المتقاربتَين: اليونانية والألمانية، اللتين تقابلتا سويًّا في أكسفورد في اتصالٍ متبادلٍ مثمر، قد توحدتا في جويت نفسه، وسارتا في اتجاهٍ مشترك.

فلقد اتصل جويت بالمثالية الألمانية اتصالًا مباشرًا في وقتٍ مبكر، أي في عام ١٨٤٤ و١٨٤٥، خلال إجازتَين صيفيتَين قضاهما في ألمانيا، فزار شلنج الكهل في برلين، ولكنه لم يعجب به على الإطلاق (ووصفه في رسالة كتبها في ذلك الوقت بأنه «ثرثار عجوز») كذلك قابل ي. أ. إردمان١٣ وناقش معه «أفضل طريقة لاستيعاب فلسفة هيجل». وبعد عودته إلى إنجلترا ازداد عكوفًا على دراسة هيجل، بل إنه بدأ في ترجمة كتاب «المنطق» لهيجل، ولكنه لم يكمل هذا العمل. وكانت حماسته ومثابرته في الكفاح من أجل فهم معاني هيجل مشابهةً لكفاح سترلنج بعد ذلك بحوالي عشر سنوات أو خمس عشرة سنة. وهكذا كتب يقول في رسالة له عام ١٨٤٥: «أما عن هيجل، فليست لديَّ إلا فكرةٌ غامضة عن معناه، ولكني أشعر بأني لن أرتاح حتى أزداد تعمقًا فيه.» وقال أيضًا: «إما أن ينجح المرء في هذه المحاولة وإما أن يضيع، أي أن يتخلى تمامًا عن الميتافيزيقا؛ فمن المحال أن يقنع المرء بأي مذهبٍ آخر بعد أن يكون قد بدأ في هذا.» غير أنه على خلاف سترلنج، لم يتأثر بهيجل تأثرًا كاملًا؛ فقد كانت طبيعته أكثر مرونة من أن يستحوذ عليها تمامًا هيجل أو غيره. وظل محتفظًا، حتى في هذه السنوات المبكرة، باستقلاله الذهني المميز له، وازداد احتفاظًا به في السنوات التالية.
وأهم ما يعنينا هنا هو أنه حثَّ مجموعة من صفوة تلاميذه على دراسة كتابات هيجل، وبذلك أصبح أول وسيط للفكر الألماني في الجامعة التي أصبحت فيما بعدُ مقرًا للمثالية الإنجليزية. فإلى جويت، أكثر من أي شخصٍ غيره، يرجع الفضل في دراسة الهيجلية ومناقشتها بحماسة في أكسفورد حتى منذ أواسط القرن الماضي، وفي تحولها إلى قوةٍ عقليةٍ متزايدة الأهمية. ولقد كانت للبذور التي غرسها في عقول تلاميذه ثمارٌ فلسفيةٌ يافعة. ولا ينقص من فضله في هذا الصدد، أن موقفه من هيجل قد مر بتقلباتٍ متعددة، وأنه لا يمكن أن يُعدَّ في أي وقت هيجليًّا كاملًا صادقًا؛ ذلك لأنه كان كلما ازداد غوصًا في تفكير اليونانيين، ازداد تباعدًا عن أستاذه الفلسفي الأول. ومع ذلك فإنه في كهولته الناضجة قد رجع بنظره في إعجاب وتبجيل إلى ما كان هيجل يعنيه بالنسبة إليه يومًا ما، فكتب يقول: «لقد مضى أكثر من أربعين عامًا على ابتدائي في قراءة كتابات هيجل، وأعتقد أن ذهني قد تلقَّى منه في ذلك الوقت من القوة الدافعة أكثر مما تلقاه من أي مفكرٍ سواه، ورغم أنني أدرك الآن أن مثل هذا النوع من الفلسفة لن يكتب له البقاء الدائم، فما زلت أكنُّ لمعلمي وأستاذي القديم أعظم التبجيل.»١٤

ولقد مر كثير من رواد المثالية الإنجليزية، بل أهمهم، على يديه، ونخصُّ منهم بالذكر جرين وإدوارد كيرد ونتلشيب الذين كانوا هم المقربين إلى مؤلفاته وشخصيته نظرًا إلى اشتغالهم في كلية باليول. ولقد ظهر تأثير الفلسفة الألمانية في كتاباته أوضح ما يكون في مقدماته لترجمته لمحاورات أفلاطون (الطبعة الأولى، ١٨٧١). ولنقُلْ أخيرًا إن أهمية جويت ترجع إلى أنه هو الذي أدخل تلك الروح الفلسفية التي تولدت عنها الحركة المثالية الجديدة في إنجلترا، ورعاها سنواتٍ طويلة، وحفز على الاهتمام بها، ولقَّنها لتلاميذه.

على أن اليقظة الحقيقية للمثالية الإنجليزية لم تأتِ من جانب الأوساط الأكاديمية في أكسفورد، حيث لم تظهر مؤلفات تعبر عن الأفكار الجديدة إلا بعد فترةٍ طويلة من الإعداد والكمون، وإنما ظهرت بفضل بادرةٍ جريئةٍ حاسمة لرجلٍ اسكتلندي غير متخصص، كان حتى ذلك الحين مجهولًا، هو ج. ﻫ. سترلنج، الذي نشر في عام ١٨٦٥ مؤلفًا من مجلدَين عن هيجل. وفي العقْد التالي كانت الحركة قد بلغت أوج نشاطها بظهور كتاب «مقدمات إلى هيوم» لجرين (١٨٧٤) وكتاب «منطق هيجل» لولاس (١٨٧٤ أيضًا) «ودراسات أخلاقية» لبرادلي (١٨٧٦)، وأول كتاب لكيرد عن كانت (١٨٧٧). كذلك أدى هذا الإحياء إلى ظهور مجلةٍ فلسفيةٍ هامة، هي مجلة مايند Mind، (١٨٧٦، وما زالت هي أهم المجلات)، ورغم أن هذه المجلة كانت ترحب بجميع الاتجاهات الفكرية، فقد كانت واسطة للتعبير عن الحركة الجديدة. وفي العقْد التاسع من القرن الماضي دعمت الحركة موقفها، وأنتجت سلسلةً أخرى من الكتب الهامة؛ هي «فلسفة الدين» لجون كيرد (١٨٨٠)، و«هيجل» لإدوارد كيرد، و«مقدمة للأخلاق» لجرين، و«المنطق» لبرادلي، و«مقالات في النقد الفلسفي» (كلها عام ١٨٨٣)، و«المذهب الهيجلي والشخصية» لأندروسث (١٨٨٧)، و«المنطق» لبوزانكيت (١٨٨٨)، وكتاب كيرد الأكبر عن كانت (١٨٨٩). ولقد اتخذ الاتجاه المثالي لأول مرة، في كتاب «مقالات في النقد الفلسفي» صورة البيان المشترك، وساهم في تأليفه مجموعة من أصغر ممثلي هذا الاتجاه سنًّا، اشتهر بعضهم فيما بعدُ (مثل أ. سث. وهولدين وبوزانكيت وسورلي وهنري جونس ورتيشي). وقد أُهدِي الكتاب إلى جرين، الذي كان قد توفِّي في العام السابق. وأعرب إدوارد كيرد في التصدير عن المقصد العام للجماعة بقوله: «يتفق مؤلفو هذا الكتاب في الاعتقاد بأن طريق البحث الذي ينبغي أن تسلكه الفلسفة، أو الذي نستطيع أن نتوقع لها أن تساهم فيه بأهم نصيب في الحياة العقلية للإنسان، هو ذلك الطريق الذي شقَّه كانْت، والذي كان هيجل أعظم من ساهم في متابعته بنجاح. وأضاف إلى ذلك أن رغبتهم كانت متجهة إلى أن يضفوا على مؤلفات كانْت وهيجل تعبيرًا وتطبيقًا جديدين.» وقد اعترفوا بأن قبول آراء هذين المفكرَين حرفيًّا في بلدٍ آخر وجيلٍ مختلف «ليس بالأمر الممكن لو كان مطلوبًا، ولا بالأمر المطلوب لو كان ممكنًا.» وكان هدفهم هو أن يبينوا «كيف يمكن تطبيق مبادئ الفلسفة المثالية على مختلف مشكلات العلم والأخلاق والدين.» وهكذا تناولت المقالات مشكلات المنطق ونظرية المعرفة ومناهج البحث وفلسفة التاريخ وعلم الجمال والفلسفة الاجتماعية والفلسفة الدينية، وبذلك تضمنت كل مجال البحث الفلسفي كما وسعت نطاقه المثالية الألمانية.

ولقد ظهر الجزء الأكبر مما أنجزته هذه المدرسة (إذ إن من الممكن الكلام عن مدرسة في هذه المرحلة) في أكسفورد، التي كانت المعقل الحقيقي للحركة، وظلت كذلك حتى بعد أن أدت وفاة جرين السابقة لأوانها إلى إحداث أول شقاقٍ جدي في صفوف الرواد. ومن أكسفورد انتقل الطلاب الذين تشبعوا بروح كانت وهيجل إلى سائر أرجاء البلاد، وأخذوا يشغلون بالتدريج كراسي الأستاذية وغيرها من مناصب التدريس في بقية الجامعات. وكانت جامعة جلاسجو مركزًا هامًّا آخر؛ فهناك استقرت التعاليم الجديدة فيها منذ وقتٍ مبكر جدًّا، بفضل الجهود الرائعة التي بذلها إدوارد كيرد وشقيقه جون، وحلَّت محل مذهب هاملتن الذي كان سائدًا حتى ذلك الحين. واكتسحت موجة المثالية الظافرة كل ما صادفها في كل مكان، وسرعان ما تركت طابعها في الجزء الأكبر من التعاليم الفلسفية التي كانت تُلَقَّن وتدرس في الجامعات. وهكذا حدث تغيير وتوجيهٌ جديد لا نظير لهما في تاريخ الفكر الإنجليزي بأسره. وفضلًا عن ذلك فإن حركة إحياء المثالية لم تبلغ في أي بلدٍ آخر ذلك الحد من الروعة، ولم يبلغ التأثير الروحي للمثالية ذلك الحد من القوة، الذي بلغه في إنجلترا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وإنه لغريب حقًّا أن ألمانيا ذاتها لم تكد تشعر في أي وقت بهذا التحول العميق الذي طرأ على الفلسفة الإنجليزية بفضل تعاليم كانت وهيجل، وأنها لم تتلقَّ منها ثانيةً أي رد فعل أو تأثيرٍ مرتد.

ولقد سار تقدم الحركة على مراحلَ متعددة؛ كانت أولاها مرحلة استيعاب محتوى الأفكار الواردة بغية نشرها عن طريق الترجمات والشروح إلخ، وإدماجها في المادة المألوفة للتدريس الأكاديمي واستغلالها في مكافحة التعاليم القديمة التي كانت لا تزال سائدة عندئذٍ. كان ذلك هو العمل الرئيسي الذي تم في العقد البادئ بسنة ١٨٧٠، وهو عمل تولاه من أسميهم بالرواد، وهم سترلنج وجرين وإدوار كيرد وولاس وغيرهم. ورغم أن هذا العمل كان تفسيريًّا في أساسه، فقد كان أداؤه يتميز باستقلالٍ ذهنيٍّ ملحوظ، وتم فيه التوصل إلى بعض المبادئ الأساسية في التفكير، ظهرت فيها بوادر معالمَ فكريةٍ هامة تميز بها التطور التالي. وهكذا حُوِّرَت الأفكار المستوردة، أو وُسِّعَت على الأقل في أثناء نقلها. ثم جاءت مرحلةٌ تالية ظهر فيها النقد الخلاق والبناء المستقل، وذلك لتحصين الأرض التي غزاها الرواد وتوسيع رقعتها. وما إن أُطلِقت الروح النقدية التأملية من عقالها، حتى أمكن تحطيم الأشكال القديمة، واستطاع الفكر أن يبدأ التحليق في مساراتٍ جديدة. وهكذا أفضت الحركة الهيجلية إلى ظهور عدد من المحاولات المستقلة الأصلية لإيجاد حلولٍ جديدة للمشكلات الكونية القديمة. ومهما كانت درجة ابتعاد هذه المحاولات عن نقطة بدايتها، أو اختلفت طرق التفكير الأخرى التي انتهت إلى التحالف معها، فإن القوة الدافعة الأولى التي تلقتها إنما كانت عن الحركة المثالية الجديدة. ولا شك أن أقوى ذهنَين تأمليَّين ظهرا من بين صفوف هذه المدرسة كانا برادلي وماكتجارت، غير أن بوزانكيت وبرنجل باتيسون وورد وسورلي وهولدين وغيرهم قد ساهموا بدورهم في العمل البناء وتوصلوا إلى نتائج لها شيء من الأهمية.

فإذا تساءلنا عن أقوى المثاليين الألمان الكبار أثرًا في الفكر الإنجليزي كان الجواب دون شك هو أنه هيجل؛ بحيث يحق أن يطلق على الحركة كما أطلق عليها بالفعل، اسم الهيجلية الجديدة أو الهيجلية الإنجليزية،١٥ ولكن ينبغي ألا يغرب عن بالنا أن «كانت» بدوره كان له تأثيرٌ قويٌّ عميق؛ لأنه هو الذي أطلق القوة النقدية من عقالها، مثلما أطلق هيجل القوة التأملية النظرية. غير أن جميع المذاهب المثالية الألمانية، كانت تُعدُّ عادةً كلًّا واحدًا، يكشف عن تطورٍ عضويٍّ ضروري من كانت إلى هيجل، حتى رغم ما كان يحدث من آن لآخر من محاولات لاستغلال أحدهما ضد الآخر. كذلك ساهمت قوى فشته وشلنج في تكوين هذه الحركة، ولم يكونا مجرد موضوعَين للاهتمام والبحث. وهذا أيضًا يصدق، ولكن بدرجة أقل كثيرًا، على هربارت Herbart١٦ وشوبنهور وأ. فون هارتمان،١٧ غير أن لوتسه كان هو الفيلسوف الذي دُرِّس بأكبر قدر من الحماسة، وحظي بأعمق الاحترام، وشاع استغلال أفكاره، من بين الفلاسفة الألمان التالين للفترة الكلاسيكية المثالية؛ فقد كان له تأثيرٌ هائل، لم يَفُقْه سوى تأثير كانت وهيجل. وقد ظهر كتابه «مذهب في الفلسفة» (المنطق والميتافيزيقا) مترجمًا عام ١٨٨٤، وأعقبته في العام التالي ترجمة لكتابه «العالم الأصغر Microcosmos». ولما كانت المثالية قد بلغت في ذلك الحين أوجها، فإن كلا الكتابَين قد أثار اهتمامًا ضخمًا مباشرًا،١٨ بل إن كثيرًا من الإنجليز قد جمعتهم بلوتسه صلاتٌ شخصية، حتى كاد أن يصبح من «البدع» الشائعة وقتًا أن يقضي المرء فترة الدراسة بجامعة جوتنجن، حتى يتلقى الحكمة الفلسفية من فم المعلم نفسه. ولقد كان نجاحه الساحق في إنجلترا راجعًا إلى أن قراءة كتاباته وهضمها كانتا أسهل كثيرًا إذا ما قورنتا بغموض هيجل المستغلق أو جلافة كانت. وفضلًا عن ذلك فقد كان يُعدُّ آخر ممثلٍ حي لذلك العصر الفكري العظيم الذي طُوِيَت صفحته بوفاة هيجل، ومن ثَم فقد اعتقد أنه يقدم أفضل سبيل إلى فهم عالم هيجل الغامض، وهو سبيل يُعدُّ طرقه أسهل كثيرًا من الانتقال إليه من خلال كانت. كما أن كثيرًا ممن أحسوا بنفور من واحدية هيجل المتزمتة قد راقهم مذهب لوتسه الأشد مرونةً. فكل أولئك الذين شعروا، خلال الصراع بين المثالية المطلقة والمثالية الشخصية، أن المذهب الأخير أقرب إلى عقولهم؛ قد انصرفوا عن هيجل وانضووا تحت راية لوتسه. وهكذا أصبح هذا الأخير نقطة تجمُّع عدد من المفكرين الذين انشقوا على المدرسة الهيجلية بما فيها من صرامةٍ شديدة، ووصلوا إلى تعبير أكثر تحررًا عن نظرتهم المثالية إلى العالم. ومن هنا كان تأثيره خارج الهيجلية أعظم من تأثيره داخلها، بل إن البرجماتيين أنفسهم قد ربطوا أنفسهم به، ونظروا إليه على أنه أحد أسلافهم. وأخيرًا فإن رودلف أويكن Rudolf Eucken١٩ قد وجد بدوره طريقه إلى الفكر الإنجليزي، بعد لوتسه بوقتٍ طويل؛ فترجم الكثير من مؤلفاته وانتشرت قراءتها على نطاقٍ واسع، وأحرز نجاحًا شعبيًّا عظيمًا، ولا سيما في العقد السابق للحرب العالمية الأولى، أما الدوائر الفلسفية المحترفة فلم تكد تلحظه.
وبلغت الحركة المثالية الجديدة قمتها قرب نهاية القرن التاسع عشر، وكانت حتى ذلك الحين تحتل ميدان الفلسفة دون منافسة تقريبًا؛ فلم يظهر أي منافسٍ جدي بعد اختفاء الأعداء القدامى، كالمذهب الترابطي، ومذهب الموقف الطبيعي، ومذهب المنفعة، والمذهب الحسي، واللاأدرية، والمذهب الطبيعي، والداروينية إلخ. وهي المذاهب التي ازدادت المثالية قوة خلال صراعها معها، والتي كانت هزيمتها واحدًا من أعمالها الرائعة. صحيح أن الحركة كلما ابتعدت عن نقطة بدايتها كانت تفقد ذلك التركيز الشديد وتلك الوحدة الصارمة في المذهب، التي كانت تميز مرحلتها الأولى، غير أنها كانت تزداد تنوعًا وتعقدًا، وتوسع آفاقها بخلق إمكانياتٍ جديدة لا حدَّ لها، ولم يبدأ رد الفعل عليها إلا ببطء وعلى استحياء، وكان ظهوره في معظم الأحيان من بين صفوفها، كما هي الحال في انتقال آدمسون Adamson التدريجي إلى الواقعية والطبيعية Naturalism، وتحول كوك ولسون Cook Wilson بحذر إلى الواقعية. ولهذا التحول الأخير شيء من الأهمية؛ إذ إن كوك ولسون كان ينتمي إلى أكسفورد معقل المثالية، كما أنه جمع حوله عددًا محدودًا من الشبان، على أن القوى التي شنت فيما بعدُ هجومًا مضادًّا قويًّا، وناجحًا في نواحٍ عديدة على المثالية، لم تظهر إلا في مطلع القرن الجديد. فبظهور الواقعية الجديدة والبرجماتية، أصبحت المثالية تواجه حربًا في جبهتَين، اضطرت خلالها إلى أن تتحول على نحوٍ متزايد إلى اتخاذ الموقف الدفاعي، وأخذت تفقد بالتدريج مكان الصدارة. ولا شك أن البرجماتية كانت هي الأضعف من بين هذين الخصمين، ولم يكن الصراع معها — وخاصةً مع ممثلها الوحيد المشهور في إنجلترا، ف. ك. س. شيلر — صراعًا جديًّا، ولم يكن بالأحرى يمثل خطرًا حقيقيًّا؛ إذ إنه ارتد إلى مبارزةٍ متحمسةٍ طريفة، بين برادلي وشيلر، ظلت طوال ما يقرب من عشرين عامًا تثير قراء الفلسفة وتُسلِّيهم. غير أن الهجوم الآتي من جانب الواقعية الجديدة كان أخطر بكثير؛ إذ إن هذا المذهب لم يقتصر، كما كانت الحال في البرجماتية، على الخلاف المباشر، وإنما انتقل إلى مسائلَ جديدة، ووجد تبريرًا له، واكتسب أرضًا جديدة، بفضل ما حققه من نتائجَ إيجابيةٍ خاصة به. وحسبنا أن نذكر سببًا واحدًا من أسباب تفوق الواقعية الجديدة، وهو وثوق الصلة بينها وبين العلوم الطبيعية، وبالتالي تلبيتها لحاجةٍ ملحة في ذلك الوقت، ظلت المثالية تتجاهلها زمنًا طويلًا.

وبعد فترة تدهورٍ طويلة، بلغت المثالية نقطة تقرب من النهاية خلال السنوات العشر الأخيرة تقريبًا، وإذا بدا عليها الوهن بوضوح، ولم يعُدْ بها مُدَّخر من الطاقة الخلاقة الجديدة، فقد أصبحت أكثر ميلًا إلى تجنب مواجهة خصومها، والتخلي عن البناء على أسسها الخاصة، والبحث عن دعامة لها في طرقٍ أخرى للتفكير، واتفق هذا الوهن الباطن مع سلسلة سريعة من الخسائر بوفاة أقدر قادتها: بوزانكيت في سنة ١٩٢٣، وبرادلي في ١٩٢٤، وماكتجارت وورد في ١٩٢٥، وهولدين في ١٩٢٨، وبرنجل باتيسون في ١٩٣١، وسورلي في ١٩٣٥، وماكنزي في ١٩٣٦، ولم يبق حيًّا ممن شهدوا أيام مجدها إلا القليلون، وأصبحت الحركة اليوم تكاد تدخل تمامًا في ذمة التاريخ. على أن المستقبل لن يكتفي بوضع أكاليل الغار عليها، وإنما سيرتد بنظره إليها في احترام واعتزاز؛ إذ إنها تمثل عصرًا اقترن فيه الذهن الإنجليزي بذهن كانت وهيجل، فأنتج ثورةً عاتية وتجديدًا جبارًا للفكر، ما زال حيًّا إلى اليوم، بوصفه قوةً دافعةً مثمرةً في تلك الفلسفة التي تختلف عنها اختلافًا تامًّا، والتي تسود إنجلترا اليوم.

(٢) القسم الثاني: الرواد

قلنا من قبلُ إن الإنجليز تنبَّهوا بطرقٍ متعددة إلى المثالية الألمانية منذ وقتٍ مبكر، أي منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولكن ذلك كان دائمًا بطريقة تفتقر إلى الانتظام والشمول؛ فكانت النتيجة أن عجزت المثالية عن إشعال جذوة حركةٍ عقليةٍ كبرى، وعن توطين مثل هذه النظرية الأجنبية إلى العالم، في الدوائر الفلسفية على التخصيص. وينبغي أن يُعْزَى الفضل في تحقيق هذا الهدف إلى كتابٍ فريدٍ واحد لمؤلفٍ واحد، هو كتاب «سر هيجل» لسترلنج. فبهذا الكتاب الرائع أيقظ سترلنج الفلسفة الإنجليزية بالفعل من سُباتها القطعي، وأعطاها قوةً دافعةً جديدة، ووجَّهها وجهةً جديدة. ولا شك في أن هذا الكتاب كان أحق المؤلفات الفلسفية التي ظهرت في القرن الماضي بأن يُعدَّ منشأ ثورة وفاتحة عصرٍ جديد. فلكتاب سترلنج أهميةٌ تاريخية لا تقدر؛ إذ إنه غرس الفلسفة الألمانية في التربة الإنجليزية لأول مرة.٢٠

ولم يكن هذا الكتاب عملًا لعالمٍ مثابرٍ غزير المعرفة (وإن يكن يحوي بالفعل كميةً غير قليلة من المعلومات العلمية)، بل كان عمل رجلٍ تملَّكه انفعالٌ طاغٍ، يشعر بأن لديه رسالة يحققها، ويحسُّ بكل ما تنطوي عليه رسالته. فهو اعترافٌ ذاتي ينبض بالشعور الفياض، وهو نتاج تجربةٍ شخصيةٍ عميقة تهفو بإلحاح إلى التعبير عن ذاتها، وهو يخفق بروح المغامرة الجريئة التي يتسم بها المستكشف. وهو عمل صاغه المجهود الشاق لرائد لم يسبقه أحد، وإن كل صفحة منه لتحمل آثارًا لنضالٍ جبارٍ قلق مع الموضوع الذي كُتبت فيه. ولولا هذا كله لما استطاع ذلك الكتاب أن يبلغ ما كان لا بد له أن يبلغه من نفاذ البصيرة وعمقها، حتى يجرف الناس أمامه من فرط الحماسة، ويستهلَّ حركةً فكريةً جديدة.

ولقد كان الطريق الشاق الذي سلكه سترلنج لفهم هيجل — وقد صرح هو نفسه بأنه شق طريقه بحد السيف — مقترنًا بتلك المهابة السحرية التي يحس بها المرء وهو في حضرة شيءٍ غامضٍ طاغٍ، والتي لا يدرك مقدارها ودلالتها إلا في إحساسٍ غامض يحتاج إلى وقت وجهد لكي يتحول إلى مفهومٍ واضح. وإن كتابه ليزخر بالعجب من ضخامة هيجل الغريبة، وهو عجب يتبدَّى — تبعًا لحالته النفسية — تارةً في صورة يأسٍ عميق أو شكٍّ مرتاب، وتارةً أخرى في صورة ثقةٍ راضية أو حتى سورات من النشوة الخالصة. وليس لنا أن نفسر التعبيرات والأحكام الناشزة فيه إلا بأنها تسجيل لحالته النفسية، كلما مُني نضاله بالفشل حينًا، وتُوِّج بالنجاح حينًا آخر. ويمكن القول إن موقف الثقة والتأكيد الإيجابي والحماسة المتدفِّقة هو الأغلب على وجه الإجمال، وهو الذي يؤدي به في النهاية إلى بلوغ هدفه المنشود ظافرًا؛ أعني إلى كشف سر هيجل.

وسنورد فيما يلي بضعة اقتباسات توضح مدى تبجيله لهيجل، فهو يقول: «بقدر ما يتعلق الأمر بالتفكير المجرد، وبقدر ما يستطيع المرء أن يرى في هذه اللحظة، يبدو أن هيجل قد ختم عصرًا، وحدد الكل الشامل للأشياء بتعبيراتٍ فكرية ستظل، على الأرجح، على ما هي عليه في الأساس خلال ألف السنة القادمة؛ فجميع الشواهد الخارجية تدل على أن هيجل، بالنسبة إلى أوروبا الحديثة، يماثل على الأقل أرسطو بالنسبة إلى اليونان القديمة.»٢١ «إن فلسفة هيجل إنما هي بلورة الكون، وهي الكون مفكرًا فيه، أو تفكير الكون.»٢٢ «إن هيجل قد مارس على جميع المسائل التي تهم الإنسانية تفكيرًا يتحدى، في عمقه وشموله ودِقَّته أعظم ما سبق إعماله في هذه المسائل من تفكير.»٢٣ «أسيكون في وسعي أن أرشدكم خلال هذا البناء الرحب العملاق — هذا التركيب الضخم — هذا المركب الهائل — هذه الكتلة العظيمة — التي لا يشبهها شيء مما ظهر حتى الآن في فرنسا أو في إنجلترا أو في العالم؟ إنه واحد من تلك القصور الشرقية الهائلة التي لا يراها المرء إلا في الحلم، لا نهاية لضخامته، إيوان فوق إيوان، وقاعة على قاعة، وشرفة تعلوها شرفة، لبناته من الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ رخام وذهب وزمرد وياقوت ومرجان، ينام فيه أنبياء قدامى أختامهم في أصابعهم، وتحرسهم مردةٌ مجنحة وغير مجنحة، منها ما له أقدام ومنها ما ليس له أقدام. فهناك في الصحراء الخالية، التي تفصلها عن عالم الإنسان أيام وليالٍ لا نهاية لها، وقفار تتكرر وتتردد بلا نهاية، هناك توجد أرض أحلام عملاقة، منعزلةٌ غامضة تستغلق على الأفهام، ولكن فيها مع ذلك وحشة واضطرابًا وعمقًا.»٢٤ ومع ذلك، ففي وسط هذه الأوصاف الفخمة الرنانة، يثور لديه الشك والارتياب فيما إذا كان هذا العملاق مجرد دجَّال وأفَّاقٍ منطقي «ومغامر جريء يوهم الناس بأنه فيلسوف.»٢٥ وثرثار يغرر بنا بألفاظه «فالواقع أن الأمر كله هذيان، ولكن مع أجرأ اغتصاب للكلمات ذات السلطة الرنانة، حول الأسرار التي ينبغي أن تظل أسرارًا.»٢٦ بل إن سترلنج يصرح بكلمةٍ قاسية فيقول: «هناك شيءٌ ساذج في هذا الرجل، فهو ما يزال جلفًا ريفيًّا.»٢٧ غير أنه سرعان ما يسحب هذه الكلمات العاتية فهي ليست أحكامًا، وإنما هي أنَّات رجل يستكشف «هذه المتاهة الغامضة المحيرة»، ويظل هيجل مع ذلك كله «أعظم مفكرٍ تجريدي في العصر المسيحي، وهو يختم العالم الحديث مثلما ختم أرسطو العالم القديم.»٢٨

وهو يزيد من إيضاح مركز هيجل، عن طريق البحث في علاقته بالسابقين عليه من الألمان، ولا سيما كانت؛ ذلك لأن هيجل لا يفهم بذاته، ولا بد لاستجلاء غوامضه من الرجوع إلى كانت، الذي يحمل مفاتيح هذه الأسرار. وفي وسع المرء أن يسقط من حسابه المفكرَين اللذين أتيا بينهما، وهما فشته وشلنج. ومهما كانت أهميتهما، فقد كان كانت هو الذي وضع أسس المثالية الحديثة، ولا بد لفهم أية خطوة تجاوزته من فهمه هو أولًا؛ ذلك لأن كانت «تلك الروح الخيرة الأمينة المخلصة المعتدلة المتواضعة» (المجلد الأول، ص١١٥، ص٧٧ في طبعة ١٨٩٨) هو الذي جعل مبدأ المثالية معقولًا، وعلى أساس هذا المبدأ، موضحًا على هذا النحو، بنى هيجل عالمه وشيد مذهبه. ولقد أعاد هيجل تسمية وتصنيف وتنظيم كل شيء، ولكن كانت كان قد مهَّد لهذا كله من قبلُ، بحيث ينبغي أن تبدأ به دراسة الميتافيزيقا، التي يُتعين أن تجري في إنجلترا على أساسٍ جديد. ويصور سترلنج «كانت» على أنه أصدق الفيلسوفَين وأكثرهما أصالةً وعمقًا، وإن يكن هو الأبسط والأكثر تواضعًا، أما هيجل فهو الأجرأ والألمع، ولكنه غير موثوق منه مثل كانت، كما أنه مفرط في الإغراب، وهو الذي تمكن من تشييد بناءٍ جبار من المواد الغنية التي ورثها من الآخرين. ويعبر سترلنج عن فكرته هذه تعبيرًا موفَّقًا فيقول إن كانْت هو «المنجم الذي استمدَّ منه [هيجل] ثروته بأسرها» (م١، ص١١٥، ص٧٧ في طبعة ١٨٨٩).

ولقد كان سترلنج يوجِّه دائمًا اللوم إلى هيجل؛ لأنه تعمد إزالة كل آثار دينه الكبير الذي كان يدين به لكانت، وذلك بمهاجمته على الدوام؛ وبذلك ترك انطباعًا زائفًا بأنه كان معارضًا له على طول الخط، مع أنه كان في الواقع تابعًا ومكملًا له من جميع الأوجه. وعند هذه النقطة ينفجر شك سترلنج، مرارًا وتكرارًا، في أصالة الواجهة البراقة التي اتخذها مذهب هيجل، ولكن هذا الشك كان دائمًا يتلاشى أمام رؤية جانبٍ جديد من جوانب تفكير هيجل بكنوزه الزاخرة.

وهكذا فإن خط التطور الفلسفي يسير من كانت، عبر قليل من الحلقات الوسطى، إلى هيجل، غير أن هذا الخط قد أتى إلى كانت من هيوم، فهيوم كان، في رأي سترلنج، أكبر دعاة عصر التنوير، ومفكره العظيم الوحيد، وكان واحدًا من تلك الأوعية التي يُصبُّ فيها الفكر الفلسفي وهو ينساب عبر العصور، ويتخذ فيها شكلًا محددًا. ولكن يوم هيوم قد انقضى، وانتهت رسالته، بمجرد أن عمل كانت، الذي استولى على ميراثه، على تصفية أعمال عصر التنوير بأسره. وهكذا فإن وعاء هيوم، الذي أصبح عندئذٍ فارغًا، وقد نضب مَعِينُه، وتحوَّل التفكير المتطور بعيدًا عنه، ليستقرَّ في وعاءٍ جديدٍ أفضل، فهيوم يمثل اكتمال عصر التنوير ونقطة تجاوزه في الوقت ذاته. وهكذا لا يوجد، في رأي سترلنج، خطٌّ مستقيم يمر بهيوم، ولا يوجد استمرار لعصر التنوير بما هو كذلك، حيث إن الطريق الذي سلكه الفكر الإنجليزي في القرن التاسع عشر لم يكن إلا طريقًا مسدودًا، فالفلسفة الإنجليزية قد تخلَّفت عن الركب، وكانت تتغذى من وعاءٍ خال، وكما قال سترلنج فإن «هيوم هو سياستنا، وهيوم هو تجارتنا، وهيوم هو فلسفتنا، وهيوم هو ديننا، ولا يلزم إلا القليل لكي يصبح هيوم هو ذوقنا أيضًا» (المجلد الأول، ص٧٣ من المقدمة، ص٦٢ من المقدمة في طبعة ١٨٩٨). وهكذا كانت دعوة سترلنج إلى الرسالة الفلسفية للألمان، هي في نفس الوقت حملة على التدهور الرتيب الذي طرأ على تفكير مواطنيه، وعلى «المعقولية» الضحلة البالية، التي أساءوا بها فهم عصر كان في أيامه عظيمًا، فأحالوه إلى حطام. وهكذا انتهز سترلنج كل فرصة ليعبر، بكل ما أوتيت طبيعته من الحماسة، عن احتقاره لشتراوس٢٩ وإرنست رينان٣٠ وفويرباخ٣١ وبكل٣٢ ومن شاكلهم، ولم يملَّ أبدًا من تسميتهم بمفسدي الروح الفلسفية. وقد نظر إلى «بكل» بوجهٍ خاص على أنه أوضح ممثل في إنجلترا لهؤلاء الانحلاليين، وعلى يديه انقلب «التنوير» إلى «إظلام»، على حد تعبير شلنج. بل إنه أحسَّ باحتقارٍ أعظم نحو آخر ممثلي هذه «الرجعية المرتدة»، وهم الداروينيون والتطوريون، الذين أسموا أنفسهم بالمفكرين التقدميين، ومع ذلك لم يتركوا لنا شيئًا سوى حيوانيتنا. وقد عاد سترلنج إلى الكلام عن الداروينية في كتابه «حول البروتوبلازم» (١٨٦٩)، الذي كان موجَّهًا ضد هكسلي، ثم عاد إليها بعد فترةٍ طويلة في كتاب «مذهب أتباع دارون Darwinianism» (١٨٩٤) حيث وجَّه إليها نقدًا مدمِّرًا.

ولقد طبَّق سترلنج حكمة القائل إن التفكير الأصيل لم يستمر ولم يُفْهَم في إنجلترا منذ هيوم، طبَّقه حتى على أولئك المفكرين الإنجليز القلائل الذين «زعموا» أنهم فهموا الفلسفة الألمانية واستوعبوها، أي على السير وليام هاملتن ومدرسته، فكشف عن تفاهة هذا الزعم، بأن بيَّن أنهم لم يفهموا حتى أبسط التعبيرات المميزة لكانت وهيجل، وأنهم — بدلًا من أن يجيدوا فهم الفكر الألماني — قد شوَّهوه ودمَّروه، أو لم يتركوا منه، على أية حال، إلا ما هو سطحي. وهكذا طرح هاملتن بدوره جانبًا، وقد هاجمه مراتٍ عدة في كتابه «سر هيجل»، ثم دخل معه في معركةٍ صريحة في مؤلَّفٍ خاص ظهر في العام نفسه.

وهكذا لم يستطع سترلنج أن يجد، بين الفلاسفة الإنجليز في أيامه، حليفًا واحدًا في صراعه ضد عصر التنوير، غير أنه رأى، خارج نطاق الفلسفة، قوًى روحية يتجه عملها نحو الغاية ذاتها، كالشعر الرومانتيكي عند وورد سورث وكولردج وشيلي، ومعظم أوجه النشاط الأدبي عند إمرسون وكارليل، اللذين كانا يدينان لعواملَ ألمانية بتفتح أعيُنهما على النظرة المثالية إلى العالم، بل إن كارليل كان له تأثيرٌ مباشر في سترلنج ذاته، كما يتضح من كل صفحة تقريبًا في كتابات هذا الأخير؛ ذلك لأن سترلنج قد جرفته الحماسة تمامًا لكتاب «سارتور ريزارتوس Sartur Resartus»٣٣ لكارليل، واستحوذت عليه فورًا أصالة هذا المفكر التنبئي وقوته اللغوية؛ حتى كان هو ذاته ينساق أحيانًا في تلك البلاغة الانفعالية العنيفة التي كانت سمةً طبيعية لأسلوب كارليل في أشد أحواله اصطناعًا وتركيزًا وإفراطًا في المجاز. كما أخذ عن كارليل اتجاهه التنبئي، وحماسته المتدفقة، وثورته المتشائمة، وتقديسه للبطولة، وهي صفة أدت به إلى محاولة رد اعتبار بعض العباقرة المفترى عليهم (ومنهم أرسطو، الذي ألَّف عنه أنشودةً يونانية في مؤلَّفٍ متأخر) وكان له نفس استعداد كارليل للحماسة، ونفس الأسلوب المتضخم، ونفس السخرية اللاذعة، والاحتقار المرير، ونفس الشخصية القوية الحادة الصلبة، وربما كان ذلك راجعًا إلى نشأتهما معًا على نفس التربة الاسكتلندية. ونستطيع أن نقول إن رسالتهما كانت متشابهة؛ فقد أخذ أحدهما على عاتقه أن يقوم في ميدان الفكر المجرد بما حاول الآخر القيام به في ميدان الأدب.

ولنعُدْ إلى «سر هيجل»، فما الذي كان يعنيه سترلنج بهذا العنوان الذي كان أقرب إلى الإثارة، وكيف استقرَّ عزمه على القيام بمهمة كشف هذا السر؟ ربما كان هناك بعض الصدق في الدعابة القائلة إنه لو كان سترلنج قد عرف سر هيجل لعرف كيف يحتفظ به لنفسه. وفي اعتقادي، على أية حال، أن فضل سترلنج لا يرجع إلى إماطته اللثام عن سرٍّ حقيقي، بقدر ما يرجع إلى أنه قد لفت الأنظار بكل قوة، ولأول مرة، إلى العبقري المجهول، الذي كان اسمه يزداد ذيوعًا في إنجلترا، وإن لم يتمكن أحد من أن يُكوِّن عنه فكرة تقرب من الوضوح والتحدُّد. ولا شك أن الضوء الذي ألقاه سترلنج على هيجل قد خبا إلى حدٍّ ما نتيجة للطريقة الشاقة التي توصل بها إلى فهمه، بحيث ترك من القناع الغامض الذي سعى إلى إزالته جزءًا يكفي لإثارة حب الاستطلاع والتشجيع على إبداء مزيد من الاهتمام بموضوع البحث. والأمر الذي لا جدال فيه أن هذا الكتاب لو كان علميًّا محضًا لما أحدث هذا التأثير. وعلى ذلك فإن فضل سترلنج لا يرجع إلى مساهمته في فهم محتوى مذهب هيجل، بقدر ما يرجع إلى مساعدته على إظهار الصفات العقلية والطابع العام لهذا المذهب. فإذا أخذنا في اعتبارنا حالة الفلسفة الإنجليزية في ذلك الوقت لوجدنا أن هذه كانت هي الخدمة الأجلَّ،؛ فقد خلق أسطورةً هيجلية، لم تتحول إلى الصبغة الواقعية المنتمية إلى العالم الفعلي، ولم تنقَّ من شوائبها، إلا بعد عشراتٍ طويلة من سنوات البحث الجاد النزيه الدقيق.

على أن سترلنج ذاته كان يعتقد أنه قد نزع، بصبغةٍ نهائية، القناع الذي كان يخفي سر هيجل. فقد عبَّر، بطريقةٍ مركزة، عن رأيه في هذا السر، في مستهلِّ كتابه الكبير، فقال: «مثلما أن أرسطو قد قام — بمساعدةٍ كبيرة من أفلاطون — بالتعبير بطريقةٍ صريحة عن الكلِّي المجرد الذي كان موجودًا بطريقةٍ ضمنية لدى سقراط، فكذلك قام هيجل — ولكن بمساعدةٍ أقل من جانب نشته وشلنج — بالتعبير بطريقةٍ صريحة عن الكلِّي العيني الذي كان موجودًا بطريقةٍ ضمنية لدى كانْت.»٣٤ وقد عبَّر عن هذه المسألة تعبيرًا أشد غموضًا فقال: «إن سر هيجل هو التبادل القائم على تحصيل الحاصل، للفكرة المنطقية، التي هي في ذاتها شيء عيني.»٣٥ على أنه أشار إلى ماهية مذهب هيجل على نحوٍ أوضح إلى حدٍّ ما، فوصفه بأنه التصور العيني الذي ينحصر الديالكتيك في حدوده، بمعنى أنه عندما يفكر الكلي Universal في ذاته، فإنه يضع ضده، وهو الجزئي، ثم يعود بعد ذلك إلى ذاته بوصفه الفردي. هذا هو الطريق الذي يسلكه الفكر، كما أن من الممكن أيضًا التعبير عنه بوصفه حركة من التصور إلى القياس بتوسط الحكم، أو من المنطق إلى الروح بتوسط الطبيعة. وهكذا فإن مفتاح فلسفة هيجل إنما يكون في التصور العيني؛ إذ أن الأخير يشتمل على الحركة الديالكتيكية للعناصر، وفي الوقت ذاته على علاقتها بالمعرفة في كليتها. ويؤكد سترلنج مرارًا وتكرارًا عينية تفكير كانت وهيجل، وصعوبة التخلص من تجريدات الذهن والانتقال منها إلى هذا التفكير العيني للعقل، الذي يبلغ فيه التصور حقيقته عن طريق تأمل العاملَين المضادَّين له في آنٍ واحد. وهذا هو بعينه موضع القوة عند كانت وهيجل، فتفكيرهما لم يتحرَّك أبدًا في تجريداتٍ خياليةٍ فارغة، وإنما ارتكز بكلتا قدميه دائمًا على الأرض العينية الصلبة.

وإن الصورة التي رسمها سترلنج لهيجل لتبدو لي صحيحة على وجه الإجمال، فإذا تذكرنا أنه كان يطرق أرضًا جديدة كل الجدة، فسوف تتملكنا الدهشة من عمق بصيرته في إدراك ما هو أساس في هذا التفكير، وهي بصيرة لم تكن ممكنة إلا في ذهن اتسم بمثل هذا الخيال المتعاطف، وإن طريقته في العرض، التي كانت تحفل بالصور الواضحة الملوسة، وتحفل أيضًا بالغموض والتعقيد، وتحفل كذلك بالتأمل النظري والإغراب؛ إنما تلقي على المشكلات ضوءًا أشبه بضوء مجموعةٍ مختلطةٍ متداخلة من الكشافات. على أنه ينجح في بث الأفكار في ذهن القارئ، بحيث لا يملك القارئ إلا أن يفهمها. ولقد كان مصطلح هيجل مصدرًا لصعوبةٍ هائلة في طريقة العرض؛ فقد تعيَّن نحت ألفاظٍ فلسفيةٍ جديدة من أجل الوصول إلى مرادفاتٍ إنجليزية، وكانت محاولة سترلنج البطولية لتحقيق ذلك مساهمةً قيمة فيما تحقَّق بعده، بل حققت هي ذاتها نتائج تدعو إلى الإعجاب، حتى لو لم يكن قد نجح تمامًا، رغم صوره ونُحُوته الجريئة، في إعادة تجسيد معاني هيجل.

على أن هناك ناحيةً واحدة كانت فيها الصورة التي رسمها لهيجل مخطئة قطعًا؛ ذلك لأن ميوله الألوهية قد سيطرت على عرضه أكثر مما ينبغي، وأدَّت به إلى أن يقرأ في هيجل أكثر مما فيه من العناصر اللاهوتية المحافظة. فقد كان سترلنج، من حيث هو فيلسوف، لاهوتيًّا متنكِّرًا، لا مكان عنده لفلسفة لا تتخذ من رعاية المصالح الدينية غايةً كبرى لها؛ ومن ثَم فقد توجه إلى كانْت وهيجل ذاتهما، يسألهما إن كان مذهباهما كفيلَين بزيادتنا اقتناعًا بسيادة الله ومشاركتنا فيها. ولم يكن هذان الفيلسوفان جديرَين في نظره بالدراسة العميقة التي كرَّسها لهما إلا لاعتقاده بأن في وسعه الإجابة عن السؤال السابق بالإيجاب. ومن هنا فإنه لم يملَّ أبدًا من الإشادة بهيجل بوصفه الفيلسوف حامي المسيحية؛ «فمذهب هيجل يؤيد هذا الدين ويدعم كل قضاياه.» وآراء هيجل «تتفق على نحو يدعو إلى الإعجاب مع الوحي الذي يكشف عنه العهد الجديد.»٣٦ فهيجل، مثل كانْت، يوجِّه كل خطوة من مذهبه إلى إثبات خلود النفس وحرية الإرادة ووجود الله.
ولقد كان لهذا المزج بين الفلسفة والدين أهميةٌ عظمى في تقبُّل الإنجليز لهيجل، فلم تجتذبهم فلسفة هيجل إلا لأن من الممكن تسخيرها لخدمة اللاهوت، واستخدامها أداة لمحاربة المذاهب الطبيعية والمادية والداروينية، وانعقد الأمل عليها في إعادة منكري الدين، ولا سيما من ينتمون منهم إلى أوساط المتعلِّمين، إلى حظيرة الإيمان. ولقد كان النجاح الساحق الذي أحرزه كتاب سترلنج عن هيجل راجعًا إلى أنه قد أخذ هذا الموقف في اعتباره، وكان طبيعيًّا أن يبلغ هذا النجاح ذروته بين الدوائر المتمسكة بالدين، ولكنه اكتسب أيضًا تأييدًا متحمسًا من آخرين لم تكن تربطهم بالدين إلا صلاتٌ أقل قوة، مثل إمرسون وكارليل وجويت وجرين وإدوارد كيرد، بل أثار إعجاب هيجليين ألمان مثل ي. أ. إرمان، وروزنكر انتس، وأرنولد روجه Arnold Ruge.

وتتوقف كل أهمية سترلنج في الحركة المثالية على حكم المرء على مؤلَّفه الأول «سر هيجل»، فرغم أن عمله في الكتابة الفلسفية، قد استمر حتى القرن الجديد، فإن واحدًا من مؤلفاته الأخرى العديدة لم يكن يداني مؤلَّفه الأول في أهميته التاريخية وفي قوته وتعبيره الشخصي المباشر، سواء في ذلك مناوشاته النقدية مع هاملتن وهكسلي ودارون، وكتابه المدرسي الرائع عن كانت (وهو موازٍ لكتابه عن هيجل)، ومحاضراته في فلسفة القانون، ومحاضرات «جيفورد» التي ألقاها بأسلوبٍ بلاغيٍّ مبالغ فيه، فقد ظل إلى النهاية هيجليًّا مخلصًا. وهكذا استمر، حتى في كتابَيه الأخيرين اللذين نشرا بعد أن تعدَّى الثمانين من عمره، يعرض فلسفة هيجل ويسعى إلى كسب أنصار لها.

كان ت. ﻫ. جرين هو أنشط وأنجح من واصلوا بناء المثالية على الأسس التي وضعها سترلنج، فعلى حين أن الأخير — الذي لم يشغل أي منصب أكاديمي — لم يستطع أن يدعو إلى عالم الأفكار المكتشف حديثًا إلا من خلال كتاباتٍ منشورة، فإن الأول قد تمكَّن من أن يضيف إلى ذلك وسائلَ أخرى لتحقيق نفس الهدف، هي التدريس والقدوة الشخصية، وسرعان ما كوفئ باستجابةٍ حماسية، ليس فقط في أكسفورد، التي كان الاستعداد الذهني متوافرًا فيها، بل في أماكنَ أخرى أيضًا. فبفضل جرين، وليس قبله، بدأت المثالية الألمانية بحق رسالتها في الأرض الأنجلوسكسونية، وبفضله كسبت لنفسها وطنًا ثانيًا باقيًا في بلد كانت فلسفته من قبلُ تغلق أبوابها بكل شدة في وجه المؤثرات الأجنبية، وتسير بإخلاصٍ تام في أعقاب تراثها القومي الطويل. ولقد كان هو الذي فتح تلك الجبهة الفلسفية التي كانت الحراسة عليها قويةً مشددة، ومنذ ذلك الحين لم يعد هناك حاجز يحول دون دخول الأفكار الجديدة بحرية.

وعندما بدأ جرين عمله العلمي في أكسفورد، بعد أواسط القرن الماضي بقليل، لم تكن تلك الجامعة المحترمة تضم أستاذًا واحدًا له شأن في الفلسفة. وكانت أكسفورد تقتفي في ميدان الفلسفة أثر جون ستيوارت مل، الذي كان الطلاب يقرءون مؤلفاته بحماسة، ولا سيما كتاب «المنطق». وكانت هذه المؤلفات — بالإضافة إلى مؤلفات أفلاطون وأرسطو المقررة دائمًا بطبيعة الحال — تكاد تكون هي وحدها المتحكمة في اتجاه أفكارهم، وكان أقوى ممثلي اللاهوت التقليدي في أيام تلمذة جرين هو مانسل H. L. Mansel (الذي أصبح فيما بعدُ أسقفًا لكاتدرائية سانت بول). وقد حاضر مانسل في الفلسفة في كلية «ماجدالين» كما حاضر فيما بعدُ بوصفه أستاذ كرسي وينفليت Waynflete، وأثار كتابه المبكر «حدود التفكير الديني The Limits of Religions Thought» جدلًا كثيرًا. ولما كان من الأنصار المتحمِّسين لأفكار هاملتن، الذي كان قد توفِّي أخيرًا، فقد أذاع آراء «كانت» في أكسفورد، ولكن ما أذاعه كان في الواقع الوجه السلبي لأفكار كانت، بوصفه لا أدريًّا في نظرية المعرفة. وهكذا لم يجد جرين في شبابه حافزًا له في هذه المحاضرات (باستثناء الحافز الناجم عن المعارضة على الأرجح) ولم يجد فيها ما يُعينه على تحقيق رسالته الفلسفية المقبلة، وإنما أتى الحافز من تلك الشخصية القوية التي ظلت تسيطر على الحياة العقلية في أكسفورد قرابة جيلين، وهي شخصية بنجامين جويت، الذي عُيِّن أستاذًا للكرسي الملكي Reguis Professor لليونانية في نفس العام الذي عُيِّن فيه جرين في باليول (١٨٥٥). وقد اتصل جرين بهذا المعلم العظيم وهو لم يزل طالبًا، بل كان يتخذ منه رائدًا له. وليس من شك في أن جويت هو الذي حوَّل تفكير جرين في الاتجاه الذي أضفى به هذا الأخير على الفلسفة الإنجليزية، بعد ذلك بقليل، قوةً «دافعةً جديدة»، وأعني به اتجاه كانْت وهيجل.
ولكي نوضح مكانة جرين الفريدة في تطور الفكر الإنجليزي في القرن التاسع عشر، ينبغي علينا، أولًا وقبل كل شيء، أن نحدد علاقته بكبار المفكرين الألمان. فمهما كان من عمق انغماس تفكيره، بجميع مظاهره، في جو المثالية الألمانية — ويمكن القول إن كل سطر فيه، بل كل كلمة تقريبًا، تشهد بذلك — فقد كان يدرك أن الموقف التاريخي الذي وُلِدَ فيه يقضي على أية إمكانية لقبول المذاهب الألمانية أو إعادة ظهورها، وكثيرًا ما رأيناه يؤكد ضرورية قيام كل جيل بإيضاح المشكلات الفلسفية من جديد بطريقته الخاصة «فمن الواجب البدء من جديد في هذا الموضوع بأسره.»٣٧ وعلى ذلك فإن ما نجده لدى جرين ليس مجرد اقتباس لأفكارٍ أجنبية أو إعادة صياغتها من أجل إظهار علمه أو لأي غرضٍ آخر، وإنما نجد له بدايةً جديدة أصيلة، وتجربة خلَّاقة لذهنٍ عميق أخصبته وغذَّته حركةٌ فكريةٌ خارجية كانت تلائم تفكيره الخاص. وهكذا فإن ما أخذه عن هذه الحركة قد تشكل وتحول بفضل تجربته الشخصية من جهة، وبفضل الموقع التاريخي الذي وجد نفسه فيه.

ولكن إلى أي مدًى كان من الممكن المضي في عملية البناء فوق الأسس التي وضعها سترلنج، طالما أن التراث القومي المتأصل الذي يرجع إلى قرونٍ طويلة، قد ظل مسيطرًا بلا منازع؟ لقد أدرك جرين منذ البداية أن التراث كان العقبة التي يتعين إزاحتها، وأنه لا يكفي أن يوضع الجديد محل القديم، وإنما ينبغي أولًا زعزعة القديم وتقويض أركانه. وهكذا كان من الضروري خوض صراع حياة أو موت بين الفلسفات القائمة على المذهب الطبيعي أو مذهب المنفعة عند بنتام ومل وليويس وبكل وسبنسر ودارون وهكسلي، وبين سدجويك من جهة، وبين مثالية كانْت وفشته وشلنج من جهةٍ أخرى. وهكذا يصادف المرء في كل شيء كتبه تقريبًا، في المحاضرات التي تركها ضمن مخلفاته، وفيما نشره هو نفسه أو أعده للنشر، نضالًا مستمرًّا عنيفًا ضد الفئة القائلة بالمذهب الطبيعي، بل إن أول أعماله، أعني مقدماته المشهورة اليوم، تحمل هذا الطابع المميز، ألا وهو الارتباط الوثيق بين المناداة بالجديد، وبين إعلان الحرب على القديم. وهكذا كان لجرين دائمًا عدو يواجهه، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي كان يستطيع أن يفكر بها. وعلى ذلك ففي تلك المرحلة المبكرة التي يمثلها، من مراحل التأثير الألماني، لم يكن العمل الجديد البنَّاء قد بدأ بعدُ، رغم أهمية مساهماته التمهيدية، أي إن رسالة جرين في تاريخ الفلسفة كانت قبل كل شيء إزاحة المذاهب القديمة من الميدان وتمهيد الأرض لمركبٍ جديد من نوعٍ مثالي، ولم تبدأ الثمار الكاملة لجهوده في الظهور إلا عندما ظهرت مذاهب برادلي وبوزانكيت وماكتجارت والباقين.

ولم يقتصر اهتمام جرين، في عملية تطهير الأرض، على المذهب الطبيعي عند معاصريه، بل إنه تجاوزهم، وركَّز جهوده أساسًا في استئصال الجذور التاريخية القديمة العهد لطريقة التفكير هذه. وهي المذاهب التجريبية الكبرى بالقرنَين السابع عشر والثامن عشر، ولهذا الغرض كتب مقدمتَيه لبحث هيوم في الطبيعة البشرية، وهما تمثلان نقدًا أساسيًّا للتعاليم النظرية والعملية للحركة التجريبية من لوك إلى هيوم. ولكن من الغريب حقًّا أن تلحق هاتان المقدمتان بطبعة لمؤلفات الممثل الكلاسيكي لهذه الحركة. ولقد كان جرين يسترشد بالفكرة الهيجلية القائلة: إن الفلسفة تتقدم بطريقةٍ ديالكتيكية، مستهدفة إيجاد نظرةٍ متزايدة المعقولية إلى الأشياء، بحيث تكون المذاهب الماضية هي الخطوات المتعددة في عملية التقدم هذه. ولا جدال في أن المذهب التجريبي كان إحدى هذه الخطوات الهامة، وكانت دلالة مذهب هيوم بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة في نظره، هي أنها تمثل نهاية هذه الخطوة، التي ارتفعت بعدها الحركة الديالكتيكية الفكرية إلى مرحلةٍ جديدة أعلى عند كانت. فإذا ما نظرنا إلى المذاهب التجريبية الممتدة من لوك إلى هيوم من هذا المنظور الأعلى، لوجدنا أنها تبدو بالفعل أخطاء، غير أنها، بقدر ما أعانت على استخلاص حقيقةٍ جديدة لدى كانْت، قد ساهمت بدورٍ حاسم في تقدم الفكر، فبحثُ هيوم في الطبيعة البشرية يمثل معبرًا يوصل إلى «النقد» الأول عند كانت، [أي نقد العقل الخالص].

وهو في الوقت ذاته أهم نقطة تحول في تاريخ الفلسفة الحديثة. وهكذا يربط جرين بين هيوم وكانت ربطًا وثيقًا؛ إذ إن أحدهما قد سأل سؤالًا، والآخر قد أجابه. فنزعة الشك عند هيوم قد هزَّت الفكر، من أعماقه، بفضل اتخاذها من التساؤل موقفًا أساسيًّا، وبذلك مهَّدت الطريق لإجابة من نوعٍ جديد، قدمها كانْت في «نقد العقل الخالص»؛ لذلك فإن كانْت يُعَدُّ الخليفة الحقيقي لهيوم. وهكذا فإن تطور الفلسفة بعد هيوم لا يتمثل في ذلك الخط المستقيم المؤدي إلى أتباعه في القرن التاسع عشر، وإنما في التحول الديالكتيكي الذي عجَّل بظهور الحركة المثالية الكبيرة لدى الألمان، فلم يكن في إنجلترا خلفاء أصيلون لهيوم؛ إذ إن أسئلته الفاحصة، التي نفذت إلى أعمق جذور المعرفة، لم تجد هناك من يجيب عنها، بل إنها لم تعد مفهومة؛ فذلك النوع من الفلسفة، الذي كان موجودًا عندئذٍ، كان منحلًّا لا حياة فيه، وما هو إلا فكر يسير في فراغ، دون أي حافزٍ خلاق، وبالتالي دون أية إمكانية للتقدم. ولقد كان انتقال الروح الفلسفية التي ظلت حية في المذاهب الإنجليزية الكلاسيكية إلى ألمانيا، هو الذي دعا جرين إلى أن يقول مرارًا وتكرارًا للجيل الجديد من مواطنيه: «دعوكم من مواطنيكم مل وسبنسر، وتحولوا إلى كانت وهيجل.» وبهذا الرأي المضاد الذي قال به جرين، بدأ فصلٌ جديد في تاريخ الفلسفة الإنجليزية.

وعلى ذلك فإن مذهب جرين يحمل في مضمونه، وكذلك في التعبير عنه، ذلك الطابع واللون المميز للمثالية، الذي ظل مستمرًّا دون أي انقطاع حقيقي منذ اليونانيين حتى المحدَثين، وهو يعد جزءًا أساسيًّا من تلك الحركة. ولقد استمد جرين، في تكوين أفكاره، عناصر من المذاهب المثالية لأفلاطون وأرسطو، ومن الأخلاق المسيحية، ومن ميتافيزيقا باركلي المرتكزة حول فكرة الله (وهي ليست تجريبية إلا في ثوبها الظاهري فحسب)، وأهم من ذلك كله، من المثالية النقدية عند كانْت والمثالية المطلقة عند هيجل، كما استمد بعض العناصر من فشته وهربارت وف. ك. باور٣٨ ولوتسه، ولا شك أن أهم علاقة له كانت تلك التي تربطه بكانت وهيجل، كما أن من المسائل الهامة التي طالما نوقشت: البحث فيما إذا كان «كانْت» أم هيجل أعظم تأثيرًا فيه، فإذا نظرنا إلى الأمر من الوجهة الخارجية، لبدا لنا جرين كانتيًّا في المحل الأول، ولقد كان يدين لكانْت بالكثير فعلًا في نظرية المعرفة والأخلاق إذ نجده يتابع أفكار كانت الرئيسية وحججه خلال أجزاءٍ طويلة من مؤلفاته. وكثيرًا ما كان تفكيره يبدأ من وجهة النظر الكانتية، ويبني على مسلمات كانتية، كما أن نتائجه كثيرًا ما كانت تتفق مع نتائج «كانْت» أو تقترب منها كثيرًا على الأقل. وكثيرًا ما يصادفنا اسم كانْت في جميع كتاباته، بينما لا نصادف اسم هيجل إلا نادرًا، وفي بعض مؤلفاته لا كلها (أي في «المقدمة إلى الأخلاق» مثلًا). ومع ذلك فإن تأثير هيجل كان هائلًا في التمهيد لتفكير جرين، وهو واضح إلى حدٍّ لا تخطئه العين، وإن يكن من العسير أن يحدد المرء موقعه بدقة. ويتبدى هذا التأثير بكل وضوح في تفسير جرين لكانت، وهو تفسير مضادٌّ تمامًا لتفسير هاملتن ومدرسته، يحول به كانت في اتجاه المثالية المطلقة عند هيجل، وقد يصادف المرء من آن لآخر تعبيرًا يوحي بوجود عداء من جانب جرين لهيجل، كما في قوله: «لقد تدبرت أمر هيجل بالأمس ووجدته لا يزيد عن ثرثرة كلامية غريبة.»٣٩ غير أن مثل هذه التعبيرات لا تغير من الحقيقة الواقعة، وهي أن هيجل كان من العوامل المتحكمة في تفكير جرين، وبالاختصار فقد كان جرين كانتيًّا في المحل الأول، ولكنه قرأ كانت بمنظارٍ هيجلي.

ورغم نقص عدد المؤلفات التي عبر بها جرين عن تفكيره، فإن هذا التفكير يُكوِّن كلًّا منظمًا، يندرج تحت ثلاثة أبواب: الميتافيزيقا، والأخلاق، والفلسفة السياسية. ولقد كان الباب الأخلاقي هو الرئيسي من بينها، كما يحق للمرء أن يتوقع من ذهن كان اتجاهه أخلاقيًّا في أساسه؛ فالأخلاق هي مركز الثقل في المذهب، تسبقها وتمهد لها الميتافيزيقا (التي هي بدورها مسبوقة بنظرية المعرفة). وتسفر عن مذهب في الدولة، وفي الشروط الأخلاقية للحياة الاجتماعية والسياسية، وبتعبيرٍ آخر فإن المذهب يبحث على التوالي في المسائل الآتية، التي تفضي الإجابة عن كلٍّ منها إلى الإجابة عن الأخرى: ما هو الحقيقي؟ ما هي الطبيعة الحقيقية للإنسان؟ وما مكانه في عالم الواقع؟ وما الذي يتعين عليه أن يفعله إذا شاء أن يؤدي رسالته؟ وماذا ستكون مهام المجتمع إذا شئنا أن يؤدي الإنسان في هذا المجتمع وبفضله رسالته الأخلاقية؟ وأخيرًا فهناك السؤال الذي لم يناقشه جرين صراحةً، وهو السؤال المتعلق بالحقيقة العليا أو الله، بوصفه أساس كل وجودٍ مخلوق. وهكذا فإن مذهب جرين يتعلق بطبيعة الحقيقة، وبالإنسان بوصفه شخصًا أو موجودًا أخلاقيًّا، وبالمجتمع أو الدولة بوصفها كثرة من هذه الموجودات، وبالله بوصفه الموجود الذي تستمد منه كل الموجودات الأخرى معناها.

وتقوم نظرية المعرفة عند جرين، أو على حد تعبيره، ميتافيزيقا المعرفة، وهي لها دلالتها، على أساس معارضة المذهب الحسي القائل بالانفصال المطلق (sensationalistic atomism) عند التجريبيين، ولا سيما عند هيوم، ومعارضة الواقعية والمذهب المادي القائل بالانفصال المطلق في العلم الحديث. ففي كلا هذين المذهبين يكون موضوع المعرفة مجموعة من الجزئيات غير المترابطة، أي من الإحساسات والكيانات المادية المستقلة عن الوعي، أو من الذرات، حسبما يقتضيه الحال، وفي جميع هذه الحالات يسقط العنصر الذاتي في المعرفة من الحساب تمامًا، وتنعدم الصلة، ليس فقط بين الذات والموضوع، بل بين الموضوعات ذاتها أيضًا، بل إن هيوم، الذي كان يهوى دائمًا استخلاص أشد النتائج تطرفًا، قد حلل الذات نفسها إلى معطياتٍ متتابعة، أو «حزمة من الانطباعات»، وبذلك رد كل حقيقة، أيًّا كانت، إلى الانطباعات، غير أن من المحال أن نتصوَّر كيف تستطيع الإحساسات المفكَّكة أن تؤثر بعضها في البعض، أو تدخل في أي نوعٍ آخر من أنواع الارتباط، والأكثر من ذلك استحالة أن نتصور كيف يمكنها التجمع سويًّا في ذلك الكل المنظَّم الذي يتبدَّى عليه العالم لنا في المعرفة. فمثل هذا الكلام إنما هو نهاية لأية نظرية عن الحقيقة، وهو دفع للفكر في طريقٍ مسدود، لا يخلصه منه إلا تغييرٌ حاسم، فالإحساس كما قال به هيوم لا يناظر شيئًا حقيقيًّا، وإنما هو شيءٌ مختلق وتجريدٌ محض.
وقد تمكَّن جرين من تجاوز مذهب الانفصال المطلق هذا عن طريق نظريته المشهورة، التي أثارت كثيرًا من الجدل في العلاقات، وهي النظرية التي تكوِّن لُبَّ ميتافيزيقا المعرفة عنده، فعلى حين أن هيوم قد ذهب إلى أن أفكارًا مثل الجوهر والعلِّية والخارجية والهوية إنما هي مجرد اختلاق من الذهن؛ لأنها ليست معطاةً في أي انطباع، فإن جرين قد بين أن هذه العلاقات «غير الحقيقية» هي التي تتيح إمكان أية معرفة على إطلاقها، فكون أي شيء حقيقيًّا أو غير حقيقي، هو أمر لا يتوقف على أية واقعة أو معطًى في ذاته، أو على إمكان أو عدم إمكان استخلاص أفكار من هذه الواقعة أو تلك، وإنما يتوقف تمامًا على العلاقات القائمة بين الوقائع، أو التي يمكن أن تدخل فيها الوقائع، «ففكرة مائة القرش، من حيث هي مجرد فكرة، هي بلا شك مختلفة عن امتلاكنا لها، لا لأنها غير حقيقية، وإنما لأن العلاقات التي تكوِّن الطبيعة الحقيقية للفكرة تختلف عن تلك التي تكوِّن الطبيعة الحقيقية للامتلاك.»٤٠ فالأشياء ليست مقفلة على ذاتها، تامة على نحوٍ نهائي، مستقلة بعضها عن البعض، وإنما هي لا تصبح حقيقية إلا بقدر ما تخرج عن عزلتها وتشير إلى شيء غيرها. أي إن الأشياء ترتبط بعضها ببعض بعلاقاتٍ كثيرة، وتتحكم أو تؤثر في بعضها البعض على نحوٍ متبادل، وتتشابه أو تتباين، وتتضارب فيما بينها، وترتبط في المكان أو الزمان، وما إلى ذلك. وليس معنى ذلك أن الأشياء توجد أولًا في حالة تكون فيها معطاة على نحوٍ محض، وفي عزلةٍ كاملة، ثم تدخل فيما بعدُ في علاقات بعضها مع البعض، بل إن من المحال أن تتصور أو يكون لها أي معنًى أو أهمية بالنسبة إلينا دون هذه العلاقات، فإذا نُزِعت عن الأشياء علاقاتها فلن يكاد يبقى بعد ذلك شيء، ومن هنا كانت نظرية جرين القائلة: إن حقيقة الأشياء لا قوام لها إلا ما يربط بينها من العلاقات. وبعد ذلك يتحول هذا الرأي، الذي توصل إليه عن طريق اعتباراتٍ إبستمولوجية، إلى مبدأٍ ميتافيزيقي، دون أي برهانٍ آخرَ خاص بهذا المجال الأخير على حدة.
كذلك تتميز أبحاثه التي تلي ذلك بهذه الصفة ذاتها، وهي الاكتفاء بنقل مبدأٍ إبستمولوجي إلى مجال الميتافيزيقا، فالصيغة المبالَغ فيها، القائلة: إن العلاقات هي قوام الحقيقة، لا تكتسب معنًى معقولًا، في رأي جرين، إلا إذا أضفنا إليها أن العلاقات لا تُعطَى في الأشياء ومعها، وإنما هي تُقرَّر أو تُحدَّد عن طريق مبدأٍ معين للتوحيد، هذا المبدأ لا يمكن إلا أن يكون فاعلية الذهن، فالأشياء تتألف من علاقات، والعلاقات تفترض مقدمًا وظيفة الذهن الرابطة، على أن ما يقرر العلاقات يختلف أساسًا عن ذلك الذي تربط بينه العلاقات، فهو ليس شيئًا ضمن الأشياء، أو معطًى ضمن المعطيات، وإنما هو نفس شروط إمكان المعطيات على إطلاقها، وشرط إمكان أي وجود؛ إذ إننا بدون الوظيفة التوحيدية التشكيلية للذهن لا نستطيع أبدًا أن نعلو على المادة المختلطة التي يأتي بها الإحساس. ومن السهل أن يلمح المرء هنا الأفكار الأساسية لكانت، فالعملية الرابطة للذهن هي بعينها الوحدة التركيبية للإدراك الذاتي synthetic unity of apperception عند كانت، كما أن رأي جرين القائل إن هذا الفعل الرابط هو الذي يكون الحقيقة، هذا الرأي إنما هو تعبيرٌ آخر عن قول كانت إن الذهن هو الذي يفرض على الطبيعة قوانينها.

وسرعان ما يظهر بعد ذلك، بطبيعة الحال، اتجاه إلى تجاوز موقف كانْت الإبستمولوجي واستخلاص نتائجَ ميتافيزيقيةٍ تسير في اتجاه الفلاسفة التالين لكانْت ولا سيما هيجل. وقد اتجه المجهود الأكبر لجرين إلى التغلب على الثنائية التي وضعها كانت بين المظهر والشيء في ذاته، وطبيعي أنه كان من المحال، في ضوء مذهبه القائل بأن العلاقات تسري على كل شيء وتكوِّن كل شيء، أن يقنع بعالمَين لا تربطهما أية علاقة. وهكذا أوضح، في مقابل هذه الثنائية، أن فكرة الشيء في ذاته تنطوي على تناقضٍ مشابه لذلك الذي تنطوي عليه فكرة الانطباعات عند هيوم، إذ كيف يمكن أن يدخل ما هو — حسب تعريفه — غير قابل للمعرفة، في أية علاقة مع ذهن عارف؟ لو كان الشيء في ذاته علة المظاهر؛ لوجب أن يكون هو ذاته مظهرًا، على حين أن تعريفه ذاته ينص على أنه ليس كذلك، ولو كان هو المادة الخام — غير المشكَّلة على الإطلاق — للتجربة، لوجب أن يكون خلوًا من أي تحددٍ عقلي. فالمادة المحسوسة المستقلة تمامًا عن التحديد الفكري لا تعدو أن تكون «س» غير مرتبطة بشيء، وبهذا الوصف لا يمكن أن تكون موضوعًا للمعرفة ولا واقعةً حقيقية، «فالإحساس المحض» تعبير لا يناظر شيئًا في الواقع، وإنما هو ناتج عن تجريدٍ مصطنع. وهكذا يقف جرين موقف المعارضة الشديدة للمذهب الحسي، ويلمح أثرًا باقيًا من هذا المذهب حتى في فكرة الشيء في ذاته عند كانت، وهو يذهب إلى أننا ملزمون بأن ننسب إلى الإحساس شيئًا من التحدُّد، أعني التعاقب والشدة، وهذا يستتبع أن الفكر هو الشرط الضروري لوجود هذه الوقائع المحدَّدة، وأن الإحساس المحض لا يمكن أن يكون عنصرًا مكوِّنًا للعالم الفعلي.

وإذن فما هو هذا المبدأ الذاتي الذي هو أساس كل وجودٍ موضوعي وشرطه؟ هنا أيضًا يسارع جرين إلى ترك نظرية المعرفة، أي المذهب الكانتي بمعناه الضيق، وينتقل إلى تطبيقٍ تأمُّلي نظري يبدأ فيه ظهور أفكار منتمية إلى هيجل وباركلي، فمقابل الطبيعة — أي الطبيعة بوصفها نسقًا من الأشياء المرتبطة فيما بينها — هو الروح، ولكن ليس المقصود بالروح هو الذات الفردية منظورًا إليها نفسيًّا، ولا الوعي في عمومه منظورًا إليه معرفيًّا، وإنما المقصود مبدأٌ ميتافيزيقيٌّ كلي، أو وعيٌ أزلي، كما يفضل جرين أن يسميه. فالكون، بوصفه نسقًا، كل عنصر فيه يرتبط بكل عنصرٍ آخر ويفترضه مقدمًا ويفترض فيه، يقتضي وعيًا كليًّا شاملًا لكل شيء، يكون شرطًا لوجوده، ذلك هو وحدة الكثرة، والهوية في كل تغير للمظهر، وعلاقة محتويات الإدراك العابرة بنسق الفكر، وكذلك علاقة الأشياء والوقائع الجزئية بنسق العالم في كلِّيته. فهذا هو المبدأ المنظم الذي يبعث الوحدة وكل نوع من النظام، وهو الكل الذي يجد فيه كل جزء مكانه المنطقي، والكلي الذي يصبو إليه كل جزئي، والذي يحتاج إليه ليكمل ذاته، ولا يكون بدونه شيئًا، وهو للوحدة الإلهية التي تحمل كل شيء وتحفظه، والتي يعيش فيها كل شيء ويتحرك ويجد وجوده، فهو العنصر الروحي المطلق، الذي يعلو ويتجاوز ويسبق كل ما هو طبيعي، والذي لا يوجد في مكان ولا في زمان، واللامادي اللامتحرك، الواحد أزلًا مع ذاته. وواضح من ذلك أن للمبدأ الأول عند جرين أوجهًا متعددة؛ فهو تارة العقل الكانتي، وتارةً أخرى الروح الهيجلية، وتارةً ثالثة إله باركلي. ونظرًا إلى قوة الاتجاه إلى الألوهية عند جرين، فإن الأخير من هؤلاء — أعني إله باركلي — يظهر لديه كثيرًا، لا سيما في فكرته عن حضور كل الأشياء (أو كل الأفكار، كما كان باركلي خليقًا بأن يقول) وتساميها في الله، ولهذا السبب كان في تعاليمه سلاح رحَّب اللاهوت المحافظ في كفاحه ضد المذهب الطبيعي والمادي المنبثق عن العلم الطبيعي. ولقد لاحظ الكثيرون أن تجدد المثالية في إنجلترا قد نشأ نتيجة المصالح الدينية والكنسية، التي اتخذت من المثالية وسيلة للدفاع ضد تأثير الداروينية والتطورية الهادم للإيمان.

ومع ذلك ينبغي ألا تنسينا هذه الصفة التي تميزت بها الحركة المثالية في بدايتها، أن تجدد الفكر الإنجليزي، مهما كان قد استُغِلَّ في خدمة أغراض لها طابع غير نظري؛ يدين بظهوره، بنفس المقدار، لحافزٍ فلسفيٍّ أصيل، ولا شك أن هذا الحافز ظاهر عند جرين، رغم أنه لم يكتسب عنده أساسًا نظريًّا محضًا، وكان قبل كل شيء تعبيرًا عن اهتمامه، الذي كان أخلاقيًّا واجتماعيًّا في أساسه، والذي ربما كانت البواعث الدينية بدورها قد لعبت فيها دورًا.

وتُفضي ميتافيزيقا المعرفة وميتافيزيقا الوجود، اللتان يتأملهما جرين من وجهة نظر واحدة إلى الأخلاق بمجرد أن ينتقل إلى بحث الوعي المتناهي. وعلى الرغم من النقد الذي وُجِّه إليه أحيانًا (مثل نقد أ. تيلور A. E. Taylor في كتابه «مشكلة السلوك The Problem of Content» ص٥٩ وما يليها)، من أنه لا توجد إلا هوة بين الميتافيزيقا وبين الأخلاق عند جرين، فإن الأخلاق عنده تكون بالفعل جزءًا عضويًّا من مذهبه، فما هو كلٌّ بالنسبة إلى الوعي الأزلي، يكون في البداية شيئًا منقسمًا بالنسبة إلى الوعي المتناهي، ولا يدرك إلا من خلال التعاقب الزمني. ولكن بقدر ما يكون الوعي المتناهي مدركًا للكل، مهما كان إدراكه هذا ناقصًا، فإنه يشارك، بهذا القدر، في الوعي الإلهي. وعلى ذلك فالإنسان هو نقطة التقاء مركزَين للوعي، الزمني والأزلي، المتغير واللامتغير بصفةٍ مطلقة. وتؤلف العلاقة بين هذين مشكلة من أعقد مشكلات فلسفة جرين، ولا يمكن الزعم أنه وصل إلى أي حلٍّ مرضٍ لها؛ فهو يقول عن الوعي الفردي إنه الواسطة أو الإرادة بالنسبة إلى الوعي الكلي، وإنه يشارك في هذا الأخير على نحوٍ ما، ولكنه لا ينبئنا بشيء عن طريق هذه المشاركة سوى قوله إن الوعي الأزلي ينقل إلينا في الحدود التي تفرضها علينا أبداننا. ولقد حاول جرين، الذي كان دائمًا واحدي النزعة عن اقتناع، أن يتخلَّص من الثنائية الظاهرة هنا، عن طريق افتراض أن الوعي الذي يبدو مزدوجًا في الظاهر، لا وجود له في الواقع، وأن ما يبدو لنا منه ناشئ كله عن عجز الذهن المتناهي عن فهم الوعي الواحد اللامنقسم في تمثلٍ واحد، ولكن من الواضح أن هذا الافتراض يتهرَّب من الثنائية بدلًا من أن يتغلَّب عليها.

ويتكرر مثل هذا الموقف في الأخلاق بمعناها الصحيح عند جرين، بل إن مظاهر الثنائية هنا أوضح منها في أي جزءٍ آخر من مذهبه، وذلك راجع إلى أنه كان في مذهبه الأخلاقي أشد تأثرًا بكانت مما كان في ميتافيزيقاه، وهو يتخذ نقطة بدايته من تلك الحاجات الخالصة كالدوافع والغرائز، التي هي في مجال الأخلاق مُناظِرة للإحساسات الخالصة في المعرفة، وهو يرى أنها بدورها تحتاج لكي تكتمل أو تتحقق إلى مبدأ يعلو عليها. والواقع أننا لا تكون لنا في المجال البشري حاجاتٌ خالصة أبدًا، بل يُضاف إليها دائمًا وعي بها وبالأشياء المرتبطة بها. وهكذا يتضح لنا هنا أيضًا، كما اتضح لنا في مجال المعرفة، أن ما يوصف بأنه موضوعيٌّ خالص، ينطوي منذ البداية على إشارة إلى شيءٍ ذاتي، وأن الانتقال من الحاجة الخالصة إلى الوعي بالشيء الذي نحتاج إليه، يفترض مقدمًا أن الحاجة تتمثل لذات تتميز عنها أساسًا بأنها تظل ثابتة طوال تعاقب الحاجات المتغيرة. وهنا أيضًا نجد، كما وجدنا من قبلُ، أن الذات تختلف عن العملية أو التعاقد، المماثل أمامها، وليست هي ذاتها مرحلة أو سلسلة من المراحل داخل هذا التعاقب، وإنما هي شيء باقٍ ثابت من وراء كل ذلك، شيء تستقر فيه المراحل الجزئية المتعاقبة.

وإذن فالحاجة الخالصة ليست بذاتها شيئًا، وإنما هي تشير دائمًا إلى شيءٍ أعلى، أي إلى الفعل الأخلاقي، وإلى ما نعزوه دائمًا إلى أنفسنا، وما نشعر بأننا مسئولون عنه. ويميز جرين تمييزًا قاطعًا بين الفعل الأخلاقي وبين الفعل الغريزي البحت، ويسمى الأخير نفيًا للأول. وهو يبين أنه على حين أن شروط أفعالنا قد تنشأ من المجال الطبيعي، فإن بواعثنا لا يمكن أن تنشأ من هذا المجال؛ فالباعث لنا على الفعل هو دائمًا عمل من أعمال الوعي الذاتي، وهذا لا ينتمي إلى المجال الطبيعي وإنما إلى المجال الأخلاقي، فالمسئولية التي نضطلع بها عن الفعل هي التي تجعله أخلاقيًّا، حتى لو كان الحافز إلى الفعل أو إلى التعجيل به مجرد حاجة حيوانية. ونحن ننسب الفعل إلى شخصيتنا، والشخصية هي وحدة حاجاتنا المتعاقبة زمنيًّا، أي إن هناك في جميع أفعالنا وعي يظل على ما هو عليه، يمارس فاعليته على حاجات أصلها حيواني، ويرتفع بها إلى مستوى المجال الأخلاقي. والهدف من كل هذه الأفكار، التي لا نستطيع هنا أن نتابعها في تفاصيلها، هو التفرقة القاطعة بين العالم الأخلاقي وبين الظروف الطبيعية التي ينشأ منها، والتي يظل مغلَّفًا بها.

والإنسان هو موضوع الفعل الأخلاقي. وإنه لمما يهم الأخلاق أكثر مما يهم الميتافيزيقا ذاتها أن يكون الإنسان منتميًا إلى عالمَين، فيكون ابنًا للطبيعة وفي الوقت ذاته مخلوقًا لله. وفكرة وجود جوانبَ تجريبية وجوانب عقلية في الإنسان هي سمةٌ أخرى من السمات الكانتية المنبثة في مذهب جرين الأخلاقي. فنظرًا إلى وجود مبدأٍ إلهي فعَّال في الإنسان، لا يستطيع الإنسان أن يقنع بالوجه الطبيعي لحياته فحسب، وإنما يصبو على نحوٍ متزايد إلى الحياة الأعلى الموجودة فيه، وتدفعه القوى اللامتناهية الكامنة فيه إلى أن يُحقِّق ذاته الأصيلة ويبلغ غايته الأخلاقية عن طريق كفاحٍ مستمر. وعلى ذلك فالفرض الذي تبنى عليه كل حياةٍ أخلاقية هو المبدأ الإلهي الذي لا يحقق ذاته إلا في شخصياتٍ إنسانية. وماهية الشخصية المتناهية إنما هي كونها علةً حرة، شأنها شأن الوعي الأزلي، فكل حادثٍ طبيعي منحصر في نسقٍ أعلى، وهو نتيجة حادثٍ سابق وعلة حادثٍ لاحق. وما لم نبلغ مستوى المعرفة، فإننا لا نستطيع أن نصل إلى تجربة العلية الحرة، أي لعلة يمكنها إحداث معلولات دون أن تكون هي ذاتها نتيجة لعلةٍ سابقة. ورغم اندماج الإنسان، في جانبه الحيواني، بالشروط الطبيعية، فإنه يستطيع، بوصفه كائنًا عارفًا، أن يرتفع بنفسه فوق الطبيعة ويتحكم في ذاته، ويكون الإنسان فاعلًا حرًّا بقدر ما تكون لديه، على خلاف الحيوانات العجماوات، معرفة، ومعرفة بذاته (أي يكون عارفًا بذاته بوصفه عارفًا). ومن الواضح هنا أيضًا أن جرين لم يحل مشكلة علاقة الحرية البشرية بالحرية الإلهية، وإنما اكتفى بتأكيد الحرية البشرية عن طريق تشبيهها بالحرية الإلهية، وهكذا قال في استسلام «علينا أن نقنع بالقول إن الأمر كذلك، مهما بدا فيه من غرابة.»٤١

وعندما يصل جرين إلى المهام والغايات العينية للحياة الأخلاقية، يلتزم الطريق الذي حدَّد معالمه كانت وفشته. فالقيمة المطلقة للشخصية الإنسانية هي مبدؤه الأول، الذي يتلو منه شرط المساواة والإخاء بين جميع الناس. فليس لأحد أن يسعى وراء أي خير، سواء لنفسه أو لأي شخص غيره، بوسائل قد تنال من خير الآخرين، وليس لأحد أن يحكم على الناس المختلفين بمعايير مختلفة. ولما كان لكل شخصٍ إنساني قيمةٌ مطلقة، فمن الواجب أن تعامل الإنسانية في كل فرد على أنها غاية على الدوام، لا على أنها وسيلة. ولا يمكن تحقيق الخير بمعناه الصحيح إلا إذا كان لكل شخص كيانه الذي يلتزم كل شخصٍ آخر بالاعتراف به واحترامه. وقوام التقدم الأخلاقي إنما يكون في إدراكنا المتزايد للحقيقة القائلة إن الغاية الحقيقية للإنسان لا تكون في المظاهر الخارجية للخير، وبالتالي لا تكون في الفضائل التي نكتسب بها هذا الخير الخارجي، وإنما تكون كلها في الفاعلية الفاضلة منظورًا إليها بوصفها غايةً في ذاتها. فالموضوع الوحيدة الذي هو أساسي وله قيمةٌ مطلقة، بالنسبة إلى الإنسان، هو كمال الشخصية الأخلاقية منظورًا إليه على أنه تحقيق للذات الأصيلة. ولقد أدرك جرين أن الفكرة الأساسية في هذا المثل الأخلاقي الأعلى، الذي وجد أعلى تعبير عنه، في العصور الحديثة، في المثالية الألمانية، كانت موجودة ولها أثرها في كلٍّ من أفلاطون وأرسطو (اللذين أشار إليهما صراحةً)، ولكن على الرغم مما عزاه إلى الفلسفة اليونانية من قيمةٍ رفيعة، فقد رأى أن المسيحية، عندما أدخلت مصادرات المساواة والإخاء بين البشر (وهي فكرتها الاجتماعية المميزة)، قد وسَّعت المجال الأخلاقي إلى حدٍّ بعيد، وإن لم تكن قد غيَّرت المثل اليوناني الأعلى؛ ومن ثم فقد أعطى مكان الصدارة للمثل المسيحي الأعلى، ورأى أنه يمثل خطوةً عظيمة الأهمية إلى الأمام.

وإن مذهب جرين الأخلاقي ليمثل، في تطور الفلسفة في إنجلترا، انشقاقًا أشد، وتغييرًا أعمق من أي شيء حقَّقه في المجال النظري بمعناه الضيق، فهو في الأخلاق قد ضرب على وتر لم يُسمَع من قبل في إنجلترا أبدًا. ففي مذهبه الأخلاقي، كما في نظرية المعرفة عنده، نراه يهاجم المذهب التجريبي، ويرى أن رسالته في الحياة، والخدمة التي سيقدمها إلى عصره، إنما هي الحملة على أخلاق اللذة، إلى جانب ما عرضه من أفكاره الخاصة. فكيف يمكن تحقيق الغايات الرفيعة للمثل الأخلاقي الأعلى إذا لم يكن لسلوك الإنسان من مصدرٍ سوى طلب اللذة وتجنُّب الألم؟ إن اللذة، بما هي كذلك، لا ارتباط لها بالأخلاق، مثلما لا ترتبط بها الحاجة بما هي كذلك. وهي لا تكتسب دلالةً أخلاقية إلا عندما تدخل في علاقة مع وعي يعرفها بوصفها لذة، وعندئذٍ لا تعود لذةً مجردة، وإنما تتحول وترتفع إلى مستوًى أعلى، وتغدو عنصرًا في الحياة الأخلاقية. وبالمثل فإن مجرد إضافة اللذة إلى اللذة، وموازنة مقدار منها بمقدارٍ آخر، هو عمل لا معنى له، بل هو عمل مستحيل؛ إذ إن اللذة بما هي كذلك، مجردة من الموضوع الذي تتعلق به، والشروط التي تظهر فيها، تكون غير محددة على الإطلاق؛ وبالتالي لا يمكن إدراكها بوصفها حسًّا محضًا. ومن الجائز بالفعل أن يقترن بلوغ الهدف المرغوب فيه باللذة، ولكنها لا يمكن أن تكون هي ذاتها موضوعًا للرغبة، وإن طابع اللذة في الخير الذي نصل إليه ليتوقف على خيرية هذا الخير، وليست هذه الخيرية هي التي تتوقف على ما تجلبه من لذة. وهكذا يرفض جرين مذهب اللذة بأكمله بوصفه غير مقنع من الوجهة النظرية، وله نتائجُ خطرة من الوجهة العملية.

وبعد هذا الرفض القاطع لمذهب اللذة، يكون مما يدعو إلى الاستغراب حقًّا أن نرى جرين يعترف بالفضل العملي الرفيع الذي أسداه مذهب المنفعة إلى الأخلاق، فهو، مع إنكاره قضية مذهب المنفعة القائلة إن الخير الأسمى هو أكبر كميةٍ ممكنة من اللذة، قد اتفق رغم ذلك مع بنتام في مصادرته القائلة بأكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، واعتقد أن مذهب المنفعة قد تمكن، بفضل هذا التمييز، من القضاء على الفوارق الطبقية، ومن تنمية الحاسة الاجتماعية، والمساهمة في حل مشكلات الإصلاح الاجتماعي والسياسي، بل إنه تخيَّل صيغة للنظرية النفعية مطهرةً من أساسها القائم على فكرة اللذة. هذا التحول الملحوظ من الأخلاق الكانتية، التي تقصر اهتمامها على النزوع أو الاستعداد، إلى التقدير النفعي على أساس النتائج، يحدث في الباب الرابع من كتابه «مقدمة للأخلاق»، دون أن يكون قد ظهر في الأبواب السابقة أي أثرٍ ملحوظ له، وربما كان للمؤثرات الخارجية دور في إحداث هذا التغيير. وعلى أية حال فإن مذهب المنفعة قد وجد في شخص جون ستيوارت مل وفي مؤلفاته المعاصرة، تجسدًا رفيعًا ونبيلًا في آنٍ واحد، وبالتالي مقبولًا تمامًا لمفكر له ذهنٌ مثالي، لا سيما إذا كانت له ميوله الاجتماعية والإنسانية مثل جرين. وهكذا فإن مثالية جرين الأخلاقية، على الرغم من معارضتها الشديدة لمذهب السعادة النفعي على أسسٍ إبستمولوجية وميتافيزيقية، قد اتفقت مع هذا الأخير عندما وصلت إلى مرحلة البحث في المطالب الأخلاقية بصورة عينية، وتغلغلت في المذهبين معًا روحٌ إنسانية واجتماعيةٌ أصيلة.٤٢ ومع ذلك لا يسع المرء إلا أن يشعر بأن تلك النقاط التي تسامح فيها جرين مع مذهب المنفعة، مهما كان من نبل الباعث إليها، قد أدخلت عنصرًا غريبًا غير منسجم في التركيب العام لفلسفته، وأن الرجل الذي كانت نقطة بدايته هي إدراك عدم كفاية فلسفته القومية، وأخذ على عاتقه أن يعلن لمواطنيه حقيقةً جديدة تمامًا بالنسبة إليهم، أحس بها إحساسًا عميقًا، لم يتمكن بعد هذا كله من التخلص تمامًا من الماضي في تفكيره الخاص، وظل نفس العدو الذي تصدى لمحاربته، والذي هاجمه بنجاحٍ باهر؛ ظل في صدره غير مهزوم تمامًا. ولم يكن جرين أول من وضع تمييزًا قاطعًا بين الأخلاق المثالية عند الألمان وبين مذهب المنفعة القومي، وإنما كان أول من فعل ذلك هو برادلي في كتابه «دراسات أخلاقية Ethical Studies» (١٨٧٦)، ولكن هذا الكتاب لم يلقَ انتباهًا كبيرًا في ذلك الوقت.

أما فلسفة جرين السياسية، فإنها، على خلاف فلسفته الأخلاقية التي عرضها في كتاب انتوى نشره وأعدَّ معظمه بالفعل للنشر، قد وصلت إلينا في صورة محاضرات أشرف على نشرها شخصٌ آخر من بين مخلفاته، ومن ثم فإن أهميتها الفلسفية أقل. فمذهبه في المجتمع وفي الدولة هو مجرد امتداد لمبادئه الأساسية للأخلاق في مجال الحياة الاجتماعية، فالفرد والدولة يفترض كلٌّ منهما الآخر ويتحكم فيه، ولا يمكن تحقيق الشخصية الأخلاقية إلا في المجتمع ومن خلاله. ولكن رغم أن جرين أكد العامل الاجتماعي بقوة، واعترف بما فيه الكفاية بأهمية الدولة، فإنه هنا أيضًا يتوقف كعادته في منتصف الطريق؛ ذلك لأن فكرة الشخصية الأخلاقية التي أخذها عن كانت وفشته، والتي عمقت إلى حدٍّ بعيد، لم تمنعه من العودة إلى الفردية المأثورة عن الإنجليز؛ فظل يضع الفرد، منظورًا إليه على أنه مستقل وحر، قبل الأفراد المنتمين إلى مرتبة أعلى كالمجتمع والدولة والأمة. وهكذا فإن عدم تحرره تمامًا من قيود التراث القومي، قد حال بينه وبين استخلاص تلك النتائج الجريئة التي استخلصها هيجل. وليس من الممكن تفسير ضآلة تأثير هيجل في فلسفته الأخلاقية إلى هذا الحد الذي يدعو إلى الدهشة، إلا في ضوء الحالة السياسية في إنجلترا. ولا بد لنا — لكي نصادف اعترافًا غير متحفظ بالنظرية الهيجلية في الدولة — من أن ننتظر حتى يظهر بوزانكيت وغيره من الأفراد الذين هم أحدث عهدًا في هذه المدرسة.

ورغم ذلك فإن جرين قد تجاوز الأفكار الإنجليزية الشائعة عن الدولة بكثير؛ فقد أكد بوجهٍ خاص أن الدولة لا ترتكز على القوة، وإنما على الإرادة الحرة لأفرادها، صحيح أن القوة يكون لها تأثيرها في تكوين الدول، ولكن ذلك يكون دائمًا على أساس حقوقٍ موجودة من قبلُ ومعترف بها من قبل. والفكرتان لا انفصال بينهما، فالقوة تنبثق من الحقوق وتؤدي إلى مزيد من الحقوق، وهي بالتالي ليست إلا وسيلة لخلق الحقوق وحفظها. وفضلًا عن ذلك فإن غاية الدولة هي حماية الحياة الأخلاقية لأفرادها وضمان هذه الحياة لهم، عن طريق تهيئة الظروف التي تستطيع فيها الشخصية الأخلاقية أن تزدهر وتحقق ذاتها، ومن هنا فإن القوانين هي الشروط الضرورية لهذا التحقيق للإنسان بوصفه كائنًا أخلاقيًّا عاقلًا. وإذن فليس لنا أن ندهش إذ نجد لدى جرين اتجاهًا إلى النزعة السلمية والعالمية. أما كون الدول لا زالت تتخذ من الحرب أداة في سياستها، فإن ذلك لم يكن في نظره دليلًا على ضرورة الحرب، بل على انحطاط مستوى الحياة الأخلاقية فحسب. أما عن النزعة العالمية، فإنها لا تسعى إلى تحطيم الدولة، وإنما تشمل القومية في داخلها، وكلما اقتربت الأمة من المثل الأخلاقي الأعلى للدولة، قلَّت حاجتها إلى خوض غمار حروب مع أممٍ أخرى؛ لأن نفس القوانين الأخلاقية التي تتحكم في حياة الأفراد في المجتمع تسري بالمثل على العلاقات السياسية المتبادَلة بين الأمم.

ولقد كانت مكانة جرين البارزة في أولى مراحل الحركة المثالية، والتأثير القوي الذي أحدثه، راجعًا إلى الإعجاب بشخصيته العظيمة، وإلى نجاحه الباهر بوصفه معلمًا جامعيًّا، فهو قد أحيا الحركة بطاقته العقلية، وأحيا تعاليمها بنبله وقوَّته الأخلاقية، وبذلك رفع ما كان يمكن أن يظل مجرد نظرية، إلى مرتبة القوة الروحية الحية. على أن وفاته المبكرة قد قطعت الطريق بقسوة على كل ما كان يمكن أن تحدثه شخصيته مباشرةً من تأثير. ولما كان هو ذاته لم ينشر أي مؤلَّفٍ طويل فيما عدا مقدمتَيه إلى هيوم، فقد بدا من المرغوب فيه جمع مخلفاته الأدبية ونشرها، وقد اضطلع بهذه المهمة أقرب تلاميذه إليه، وهو رتشارد ليويس نتلشيب Richard Lewis Nattleship (١٨٤٦–١٨٩٢) الذي أضاف إلى طبعته عرضًا عامًّا لحياة جرين وأعماله. ولقد كان نتلشيب من المتحمسين في تعليم المثالية الجديدة؛ إذ إنه وضعها منذ نعومة أظفاره، إن جاز هذا التعبير. فقد التحق بكلية «جويت» و«جرين» بوصفه باحثًا، وظل فيها زميلًا حتى وفاته، وكان يشاطر جويت تبجيله لأفلاطون، وتعلقه بروح الفلسفة الأفلاطونية، وهو تعلق أدى به إلى استطلاع معالمها، لا لغرضٍ أكاديميٍّ بحت، بل من أجل تنشيط مستمعيه وقرائه عقليًّا؛ فأفلاطون كان بالنسبة إليه من الرجال المثاليين، وكان مرشدًا إلى الاستقامة والنبل وحكمة الحياة، ومبشرًا بنظرة إلى العالم ما زالت صحيحة، وستظل إلى الأبد كذلك، وهي نظرة ينبغي على كل جيل، إذا شاء أن يمتلكها، أن يتدبرها من جديد. وكان موقفه، في مذهبه الفلسفي، مشابهًا لموقف جرين، ليس فقط في اتجاهه العام، بل في التفاصيل أيضًا إلى حدٍّ بعيد. وقد تجسدت فيه القوى الأخلاقية والعقلية التي أشعت من جويت وجرين بأصالة وقوة تفوق تجسدها في أي شخصٍ غيره. وكان أفضل أعماله، مثلهما، هو تدريسه الشفوي، وما كان يتجلى فيه من حرارة القول وتعمقه وحدة الذهن، وكان تأثيره أعمق وأبقى بكثير مما قد يستدل المرء عليه من كتاباته القليلة. ولقد نشر هو ذاته، إلى جانب طبعته لمؤلفات جرين، بحثًا واحدًا هو «نظرية التعليم (التربية) في جمهورية أفلاطون The Theory of Education in Plato’s Republic» (في مجلة Hellenica، ١٨٨٠)، أما كتاباته الأخرى فقد نُشِرت كلها من مخلفاته بعد وفاته المبكرة الأليمة في نفس السن الذي توفِّي فيه أستاذه جرين، وقد نشر هذه المؤلفات أ. ك. برادلي، مع تقديم عرضٍ عام لحياته، في ١٨٩٧.٤٣

(٣) القسم الثالث: الهيجليون

كان الرائد التالي العظيم للمثالية في إنجلترا بعد جرين هو إدوارد كيرد، ولقد كان سنِّه مقاربًا لسن جرين، وأصبح صديقًا لجرين وهو لم يزل تلميذًا في أكسفورد، وبدأ عمله في التدريس بعد سنواتٍ قلائل من بداية عمل جرين في التدريس أيضًا، ومن هنا فقد كان تعيينه في جلاسجو في ١٨٦٦ أمرًا له أهميته العظمى في نشر الحركة المثالية؛ إذ جعل لها مركزَين قويَّين؛ فقد جعل كيرد من جلاسجو معقلًا للمثالية في اسكتلندا. وهكذا بدأ ما يمكن أن يسمى بحركة تطويق للفلسفات السائدة، فتولت أكسفورد أساسًا مهاجمة التفكير التجريبي والتطوري عند مل وبين وسبنسر ودارون وهكسلي، ووجهت جلاسجو هجومها، في المحل الأول، إلى مذهب هاملتن الذي كان يسيطر عندئذٍ على الجامعات الاسكتلندية. وفي هذا الصدد أحدث كيرد انقلابًا، فعندما ترك جلاسجو ليخلف جويت عميدًا لباليول، بعد سبعة وعشرين عامًا من الكتابة والتدريس، كان قد أنشأ جيلًا كاملًا من الهيجليين الشبان، الذين خلفوه في السيطرة على الأرض التي غزاها، ووسعوها. وبعودته إلى أكسفورد ملأ أخيرًا تلك الثغرة التي خلفتها وفاة جرين المبكرة، وأعاد الحركة المثالية إلى الكلية التي بدأت فيها، ودعمها هناك بشخصيته القوية وشهرته اللامعة.

ولقد كانت المهمة الملقاة على عاتق كيرد في توطين الفكر الألماني بإنجلترا مهمةً فريدة في نوعها؛ فقد كان سترلنج قد أتم العمل الرائد الأول، غير أن الجهد المضني الذي بذله في كفاحه من أجل استخلاص معنى تفكير هيجل والاهتداء إلى مرادفاتٍ إنجليزية لمصطلحاته، قد ترك القناع الذي يحيط بتفكير هيجل هذا على ما هو عليه، إلا بالنسبة إلى فئةٍ قليلة من الأذهان اللماحة، أما جرين فكان تفكيره أكثر استقلالًا من أن يتيح له تقديم عرضٍ واضح أمين لتعاليم كانت وهيجل. صحيح أن هذه التعاليم قد دخلت في إطار مذهبه، غير أن من الصعب أن يميزهما المرء، داخل هذا الإطار، الواحد عن الآخر، أو أن يفرق بينهما وبين الأفكار التي استمدها جرين من مصادرَ أخرى، أو بينها وبين تفكيره الخاص، كما أن أسلوبه الغامض المركز جعل قراءته أمرًا عسيرًا على أية حال. أما الممثلون المتأخرون للحركة، مثل برادلي وبوزانكيت وماكتجارت، فقد وسعوا الفكر الألماني وحوَّروه إلى حدٍّ يستحيل معه القول إن مهمتهم كانت تقتصر على توصيل مضمون هذا الفكر إلى الإنجليز بأي قدر من النقاء. وهكذا فإن كيرد، الذي كان يقل عن هؤلاء إلى حدٍّ بعيد في تقيده بأفكاره المذهبية الخاصة، كان هو الوسيط أو الموصل الحقيقي لتفكير كانت وهيجل، ولكنه لم يضطلع بهذا العمل بروح الموضوعية الجافة التي يتصف بها المؤرخ المحض، وإنما أقبل عليه بحماسة وشغف المريد والداعية المخلص، فتصرف بطريقةٍ فذة في ذلك الكنز الذي آل إليه، وسكَّ منه عملة متداولة يسهل على كل شخص استعمالها بعد ذلك، بل إن كيرد وحده هو الذي يرجع إليه الفضل، لأول مرة في إشاعة استخدام جميع الصيغ والتعبيرات المثالية بين جميع أفراد جيل الكانتيين والهيجليين الإنجليز، وإشاعة السخرية منها بين خصومهم. ولقد كانت لديه قدرةٌ فذة على التعبير عن أمورٍ عسيرةٍ غامضة بلغةٍ واضحةٍ سلسلةٍ بديعة، وأدى تحويله لالتواءات كانت وألغاز هيجل إلى أسلوبه المشرق الوضَّاء، إلى زيادة قدرة اللغة الإنجليزية على التعبير الفلسفي، فضرب بذلك مثلًا لمواطنيه في كيفية الكلام عن مثل هذه الأمور والكتابة فيها.

وقد تُوِّج كيرد هذا كله بشخصيةٍ رائعة لها مواهبها الفريدة، غنية بالخصال التي تجذب أذهان الشباب وتأسرها؛ من حماسة وانفعال وإخلاصٍ شديد لقضيةٍ عظيمة، وسلاسة التعبير وحرارته، فضلًا عن القدرة الأدبية الرائعة التي أشرنا إليها منذ قليل، فهو في إنجلترا يمثل أنقى وأفضل نمط تجسدت فيه روح الهيجلية، وربما نصها إلى حدٍّ ما. ولقد تجنب كيرد القيام بأية محاولة من شأنها إضفاء ثباتٍ قطعي على مذهب هيجل، أو فرضه على الناس قسرًا، أو تشويهه وتبديده، وإنما استهدف أن ينشر بين الناس، وينقل إلى الآخرين، روح مذهب هيجل وماهيته، اللذين امتلك كيرد ناصيتهما واستوعبهما أكثر من كل من عداه تقريبًا، دون أن يكون له من هدف سوى خدمة الحقيقة وبعث حياةٍ جديدة في الفلسفة. لقد بلغ ذهنه من الحيوية ومن الامتلاء بالثقافة القومية والأجنبية حدًّا جعله لا يرضي بأن يقسم يمين الولاء للتعاليم الحرفية لأي أستاذ بعينه. فلم يكن هيجل بالنسبة إليه إلا آخر وأنضج تعبير عن نظرةٍ مثالية إلى الأمور ظلت حية منذ أيام اليونان، لا بين كبار الفلاسفة فحسب، بل عند الأدباء المبدعين أيضًا. وإن كتابه «مقالات في الأدب والفلسفة» ومحاضرات جيفورد التي ألقاها في موضوع الإلهيات عن فلاسفة اليونان، لتشهد باتساع أفق نظرته إلى المثالية بوصفها روحًا باقية يعترف فيها بكل ما هو رفيع ونبيل وجميل في الإنسان، ويتحقق فيها على أكمل وجه، وهي روحٌ كانت حية في العصر الوثني القديم، مثلما كانت حية في المسيحية، وفي دانتي وجوته، وفي روسو وورد سورث وكارليل. ولقد كانت مثالية هيجل شيئًا عاشه الفيلسوف مثلما علمه، ولم تكن نصًّا جامدًا أو نسقًا من الأفكار المجردة، وإنما قوة من قوى الحياة، تجدد الإنسان من الباطن. ولم يبدأ الاكتساح الظافر للحركة المثالية الإنجليزية إلا عندما أضفى عليها كيرد، زعيمها المعترف به بعد وفاة جرين، روحًا منشطة استمدَّها من ذهنه الرفيع، وأذاعها على القاصي والداني بكلماته القريبة إلى الأفهام، وجمع حوله حلقة من التلاميذ الذين تشربوا نفس الروح، وضمنوا استمرار عمله. والحق أن أي معلم للفلسفة لم يغرس في ذلك الوقت مثل ما غرسه إدوارد كيرد من البذور المثمرة، ولم يُثر ما أثاره من الحماسة، ولم يلقَ ما لقيه من الإعجاب والاحترام.

فإذا تأملنا كتاباته، لكان أول ما يلفت أنظارنا فيها هو أن حوالي ٢٠٠٠ صفحة قد كُرِّست لكانت، على حين لا يوجد عن هيجل إلا كتابٌ صغير شعبي إلى حدٍّ ما، وعلة هذه الحقيقة الغريبة هي اقتناعه بأن أهم ما في هيجل يمكن أن يفهم أولًا، بمزيد من الوضوح، عند كانت، وإن كلمة «فندلبنت Windelband» المشهورة التي قال فيها إن في فهم كانت تجاوزًا له، لَتصلحُ تعبيرًا عن اقتناع كيرد هذا، إذا ما أضفنا إليها أن هذا التجاوز ينبغي أن يسير في اتجاه هيجل؛ فقد كان يقيس مذهب كانت، في كل نقطة، بالمعيار الهيجلي، ويتعسف في تطبيق المقولات الهيجلية عليه، ويبين المواضع التي كان لا يزال ينوء فيها بالاتجاهات الفكرية القديمة؛ تلك التي كان يحمل فيها البذور الخفية للمثالية المطلقة. ولقد كان نقده لكانت موجهًا أساسًا ضد مظاهر الثنائية التي يحفل بها مذهب كانت، وضد التمييز والفصل الذي طالما تكرر لدى كانت، بين عناصر التجربة والفكر، وتلك التجريدات والتحديدات التي هي مميزاته السطحية. ومن جهةٍ أخرى فقد رأى أن ما كان يسعى إليه كانت حقًّا لم يكن تلك العناصر المفككة والمتقابلات والنقائض التي لا ترفع، وإنما هو التوفيق بينها وتجاوزها في وحدةٍ فكرية أعلى، رغم أن كانت ذاته كان كلما أوغل في السعي إلى هذا الهدف الأخير، ازداد ابتعادًا عنه. وهكذا رأى كيرد أن مأساة المذهب الكانتي إنما تكون في هذا الصراع الدائم بين هدف كانت الحقيقي وما أنجزه منه بالفعل، بين هذا السعي إلى الوحدة وذاك التعلق بالثنائية، ولم يتحقق التحرر من هذا الصراع إلا في مذهب هيجل الرائع.
وهكذا ننتقل من المثالية النقدية إلى المثالية المطلقة، فتلك الوحدة التي سعى إليها كانت، والتي لم يبلغها إلا نادرًا (كما في الجزء الخاص بالإدراك الذاتي الترنسندنتالي transcendental apperception)، ليست هي الوحدة المجردة التي توجد من وراء كل الفروق، وإنما هي وحدة لا تُعبِّر عن نفسها إلا في هذه الفروق ومن خلالها. وبدون تلك الفكرة الرائعة، فكرة الهوية مع الاختلاف، لا يستطيع الفكر أن يتقدم خطوةً واحدة نحو الحقيقة الفلسفية، فإذا ما وضعنا الوجود واللاوجود، أو أي متضايفَين آخرَين، كلًّا مقابل الآخر، فلن نستطيع أن نقول إنهما مختلفان أو إنهما في هوية. ولا تكمن حقيقتهما في اختلافهما ولا في هويتهما، وإنما في هويتهما مع اختلافهما؛ فالاختلاف لا يقل أهمية عن الوحدة؛ إذ إن الوحدة المطلوبة في الفلسفة هي وحدةٌ فردية تظل محتفظة بنفسها، ليس فقط على الرغم مما يكمن فيها من اختلاف، بل في هذا الاختلاف ذاته ومن خلاله، ولا تتجاوز الأضداد والخلافات إلا تنحل ثانية إلى أضداد وخلافات أعلى، ثم تسترجع ذاتها مرةً أخرى على مستوًى أعلى من هذا. تلك هي الوحدة العضوية التي يتعين علينا أن نراها معبرةً عن الكون، وهي المبدأ الروحي الكامن في كل الأشياء، أي هي «المطلق».
على أنها ليست هي المطلق منظورًا إليه على أنه شيءٌ ثابتٌ مكتمل تمامًا، مقفل على ذاته غير قابل لأي تطور، وإنما على أنه عمليةٌ حية أو دينامية تكشف عن نفسها بطريقةٍ ديالكتيكية. ونظرًا إلى أن كيرد قد أخذ عن هيجل ديالكتيكه ونظر إليه على أنه النبض الحي لكل وجود وكل فكر، فقد اتخذ موقفًا مضادًّا تمامًا لموقف جماعة الهيجليين الأحدث منه عهدًا بقيادة برادلي، الذين وجدوا أن الديالكتيك هو ذلك الجزء من مذهب هيجل الذي لم يكن في وسعهم الانتفاع بشيء منه، والذين نظروا إلى المطلق، بالتالي، على أنه سكوني static، ففكرة «الكون الثابت Clock universe» عند برادلي لم تكن مقبولةً لدى المثالية كما فهمها كيرد، مثلما أنها لم تكن مقبولة لدى البرجماتية التي ذاعت وشاعت قرب نهاية حياته. ولقد كانت فكرة التجدد الخلاق المستمر للكون مشتركة بينه وبين البرجماتيين، وكانت هذه هي نفس الفكرة التي نشرها برجسون بطريقته الجذابة قبل وفاة كيرد بقليل. وهكذا يتضح لنا السبب الذي تزايدت من أجله أهمية فكرة النمو أو التطور في فلسفة كيرد، حتى أصبحت هي الفكرة الرئيسية في كتابَيه الأخيرَين. ولهذا السبب ذاته لم يسعه إلا أن يبدي شيئًا من العطف على فلسفة التطور الواسعة الآفاق عند معاصره سبنسر، مهما كان من معارضته للجزء الأكبر منها ولكل الاتجاه التجريبي الإنجليزي الذي كان سبنسر آخر ممثلٍ هام له. ذلك لأنه شعر بوجود تقاربٍ وثيق بين التصاعد الديالكتيكي للمقولات الهيجلية وبين فكرة سبنسر في التفاضل (أو التنوع) والتكامل، وفي إعادة التجميع وإعادة التنظيم المستمر لعناصر الأشياء. وفي وسعنا أن نلمح بسهولة، في تعريفه للنمو development، ذلك المركب الذي سعى إلى إيجاده بين هيجل وسبنسر، أو على الأصح، صبغه لسبنسر بصبغة هيجلية، «فالنمو عملية تفاضل (أو تنوع) وتكامل في آنٍ واحد، أي إنها عملية يزداد فيها الاختلاف دوامًا، لا على حساب الوحدة، ولكن على نحو من شأنه تعميق الوحدة أيضًا.»٤٤ وكذلك قوله: «إن النمو عملية يصعب وصفها بلغةٍ متَّسقة منطقيًّا، ففيها يتغلغل الاختلاف والوحدة كلٌّ منهما في الآخر على نحوٍ وثيق تمامًا، غير قابل لأي انفصام.»٤٥ كذلك كان موقفه من كونت والوضعية الذي عرضه في بحثٍ منفصل، كما عرضه في فصلٍ خاص من كتابه «تطور الدين»، يتصف بنوع من العطف والإشفاق، فرغم أنه لم يستطع أن يقبل الوضعية بوصفها نظرةً نهائية إلى الأشياء، فقد سلَّم بأنها خطوة نحو تكوين مثل هذه النظرة، أو جزء من الأساس اللازم لها. أما التجريبية الجديدة منها والقديمة، وفلسفة الموقف الطبيعي عند ريد وهاملتن، فلم يقبل منها شيئًا.

ويستطيع المرء أن يجد لدى كيرد عنصرًا هيجليًّا آخر، إلى جانب الديالكتيك وكثرة استخدام تنظيمه الثلاثي للأفكار، هو تفاؤل هيجل الظافر فيما يتعلق بقدرتنا على المعرفة، والجرأة المعرفية للتفكير الذي لا يمكن أن يوضع له حد، والذي يجرؤ حتى على انتزاع قناع الغموض عن «المطلق» ذاته. ففي كل تفلسف له تلمس دائمًا ثقته المطلقة في قدرات العقل، وهذه الثقة هي التي ألقت عليه نضارة وحيوية أدت به إلى احتقار روح العجز التي يتصف بها مذهب الشك، وروح الاستسلام التي تتصف بها اللاأدرية، كذلك كانت الصوفية، التي تختصر الطريق الموصل إلى المطلق، مُنفِّرة في نظره، فحيث يضيء نور العقل كل شيء، تتبدد سحب الصوفية المعتمة.

وتتناول كتابات كيرد، فيما عدا استثناءاتٍ قليلة، تاريخ الفلسفة فمنها كتابه الجبار عن كانْت (وهو أدقُّ وأشمل وأعمق ما كتب عنه في الإنجليزية)، وبحثه الصغير القيم عن هيجل، ونقده البارع لكونت، وكتاب كبير إلى حدٍّ ما عن تطور فكرة الله بين الفلاسفة اليونانيين، وبضعة مقالات قصيرة عن دانتي وجوته وروسو وورد سورث، جُمِعت كلها، بالإضافة إلى مقال عن المذهب الديكارتي،٤٦ في «المقالات» (١٨٩٢)، ولم يكن أي مقال من هؤلاء مجرد تمرين في كتابة الأبحاث العلمية، وإنما كان الموضوع يقارن في كل الأحوال بمذهب هيجل، وكانت كتابته في هذه الموضوعات تحفل بالروح الهيجلية، أما مؤلفاته الأقرب إلى الصبغة المذهبية فلا تشمل إلا بحثًا في الميتافيزيقا،٤٧ ومحاضرات جيفورد التي ألقاها في موضوع تطور الدين، وتعبر هذه الأخيرة عن فلسفته الدينية، التي ينبغي علينا إيضاح أفكارها الأساسية.
كان كيرد يهدف، كمعظم الهيجليين الأوائل، وكأخيه «جون» بوجهٍ خاص، إلى صبغ الميتافيزيقا الهيجلية بصبغة مذهب الألوهية، واستخدامها في خدمة الإيمان الديني. ولقد كان بطبيعته عميق التدين، على خلاف الهيجليين المتأخرين مثل برادلي وبوزانكيت وماكتجارت، وكان يؤمن بأن المسيحية هي أعلى تحقق للوعي الديني. ومع ذلك فقد أبقى نفسه بمعزل عن الاتجاهات المحافظة المتعصبة الضيقة الأفق، واحتفظ، حتى في الأمور الدينية ذاتها، بحرية التفكير الجديرة بالفيلسوف الحق. ورغم أن فلسفته الدينية مبنية على الأفكار الهيجلية وتعبر عن نفسها من خلالها، فإن فكرة التطور عند سبنسر تلعب فيها دورًا كبيرًا، بعد صبغها بصبغةٍ هيجلية، وهو يُعرِّف الدين بأنه وعي متفاوت الدرجات، بتلك الوحدة اللامتناهية التي تكمن من وراء كل انقسام للمتناهي، لا سيما انقسامه إلى ذات وموضوع. وهكذا يُعرِّف الله بأنه مبدأ الوحدة في كل الأشياء، وبأنه كائنٌ واعٍ بذاته متحكم في ذاته، فهو «المطلق» واللامتناهي، ولكنه مع ذلك ليس علوًّا لا يُعرَف (وهنا يرفض كيرد فكرة «اللامتناهي» عند ماكس مولر، كما يرفض فكرة «اللامعروف» عند سبنسر في نفس الوقت)، وإنما هو يوجد تمامًا في حدود عالم المعرفة المعقولة؛ ذلك لأن اللامتناهي الذي هو خير ليس مجرد سلب للمتناهي، ولا يتحدد سلبيًّا فحسب، بوصفه ما يعلو على المتناهي، وإنما هو الشرط الإيجابي للمتناهي، وهو تحققه واكتماله، ومن هنا وجب أن يكون الفكر قادرًا على الوصول إليه. ففي الموجود الإلهي وحده تصل الأشياء المتناهية إلى حقيقتها الحقة وتكتسب دلالتها بوصفها عناصر يتكشف بها المبدأ الأعلى ويحقق ذاته فيها. فالدين كالعلم والفلسفة، إنما هو سعي إلى الكلي الكامن من وراء الجزئي، أو الواحد من وراء الكثرة، غير أن الدين إنما يكون كذلك على مستوًى أعلى، والعلم والفلسفة على مستوًى أدنى. وعلى ذلك فإن الإنسان، بوصفه كائنًا عاقلًا، إنما هو كائنٌ ديني. وفي كل وعيٍ عاقل تكون فكرة الله، بوصفه الوحدة النهائية للوجود والمعرفة، ماثلة وفعالة، وللإنسان — إلى جانب قدرته على التأمل خارجه في الإدراك الحسي للعالم المحيط به، وداخله في معرفته بذاته — قدرة أخرى على النظر إلى أعلى، إلى الموجود الإلهي الذي يوحِّد العالمَين الخارجي والباطن وينبئنا بوجوده في كليهما، وما الدين في أساسه إلا المعقول، وذلك في أعلى صوره على الأقل؛ إذ إن الدين الذي ينبثق عن الشعور أو عن الإيمان الأعمى فحسب، لا يكون قد حقق فكرته الكاملة، التي لا تكون ممكنة إلا على مستوى العقل. وما ذلك العقل إلا العقل الهيجلي، الذي يسود هذا المجال مثلما يسود غيره. فالدين عنده إذن هو بهذا الوصف مذهب في شمول الألوهية pantheism، مهما كان من رغبته في تجنيب هذه النتيجة، أي إن العالم هو الله، والله هو العالم، وليس الله هو القوة العالية التي قالت بها الأديان الوضعية، وليس كائنًا خارجًا عن العالم أو مغايرًا له، ندركه بالإيمان، وإنما هو نقطة القمة في تأملٍ نظري للكون، وأعلى التصورات في الفلسفة النظرية التأملية. وإن المرء ليفتقد، في هذا الدين العقلي المحض، الشعور بالعلو وما يلازمه من خشوع، وهو العلو الذي لم يستطع كيرد أن يضفيه على فكرته عن الله، رغم إيمانه الصادق. وهكذا كانت هيجليته أقوى من تجربته ذاتها.
ولقد تحكمت الهيجلية أيضًا في نظريته في تطور الدين، فالصور المتنوعة للحياة الدينية، كما تتكشف في التاريخ، إنما هي خطوات في تطور «الفكرة» الدينية، وهي مراحل تمر بها الفكرة في عملية الصيرورة التي تطرأ عليها عبر الأزمان، وبين الشعوب. وهو يميز بين ثلاث مراحل للوعي الديني: الموضوعية والذاتية والمطلقة. وهي تناظر المراحل الثلاث في تطور الإنسان، وهو التطور الذي تتحكم في الإنسان خلاله فكرة الموضوع أولًا، ثم فكرة الذات، ثم فكرة الله بوصفه المبدأ الموحد لهذين. وتتمثل هذه المراحل الثلاث منظورًا إليها من الوجهة التاريخية، في مذاهب تعدد الآلهة polytheism، وشمول الألوهية pantheism والمسيحية على التوالي. فعقيدة المسيح هي التحقق الأعلى للفكرة الدينية، وهي الطور الذي يكتمل فيه الوعي الديني، والمرحلة التي تشتمل في ذاتها على كل المراحل الأخرى وتستوعبها وتتسامى بها. ومن الواضح أن كيرد كان هنا، كما كان في غير ذلك من المواضع، يقتفي أثر أستاذه الألماني العظيم، الذي اتخذ من الدعوة إليه غاية وهدفًا لحياته.

كان جون كيرد، شقيق إدوارد كيرد الذي كان يكبره بكثير، والذي كان لاهوتيًّا بارزًا وواعظًا مرموقًا، ذا ميولٍ هيجليةٍ واضحة ظهرت في كتابه «مدخل إلى الفلسفة الدينية»، وهو أهم كتاباته الفلسفية. بل إنه قد دعا إلى الهيجلية من فوق منبر الكنيسة، وكان له دون شك نصيبٌ كبير في تغلغلها في الدوائر اللاهوتية باسكتلندا. ولقد كان كأخيه خطيبًا وكاتبًا لامعًا، وكانت له مقدرة تفوق مقدرة أخيه ذاتها في تحرير أفكار هيجل من الأغلال التي قيدها بها هيجل، وإضفاء تعبيراتٍ شعبية غير متخصصة عليها. كذلك كان الشقيقان متشابهَين في مذهبهما، فقد التزمت الفلسفة الدينية عند جون حدود الهيجلية بدقة. وكانت فلسفته هذه تؤثر المخاطرة الفكرية التأملية على عزوف مذهب اللاأدرية عن الحكم عند هاملتن ومانسل وسبنسر. كما أعلن في فلسفته معارضته للمحاولة التي قام بها التجريبيون لتعريف الدين من خلال أولى مراحله وأدناها، فأكد أن قيمة أي دين لا تُقاس إلا بأعلى فكرة تحقق فيها، وهذه «الفكرة» سابقة على جميع الصور التي تبدَّت فيها الحياة الدينية، وهي تكون أساسًا لها كلها، بحيث لا يمكن فهم تاريخ الدين إلا في ضوئها. أما تلك العناصر الذاتية اللاعقلية — من خوف وأمل وعاطفة وخرافة — التي رأى التجريبيون أنها هي العناصر الأساسية للدين، فإن قيمتها أقل بكثير من العنصر العقلي، مهما كان لها من أهميةٍ تاريخية أو غيرها. فالقوة الدينية على التخصيص إنما هي العقل، ومن الواجب أن يتحدد طابع الدين وماهيته، لا بعمق الشعور، وإنما بالمعرفة والبصيرة النفَّاذة، وهنا تتخذ المعقولية عند جون كيرد طابعًا أصرح مما كان لها عند أخيه.

وهو يرفض فكرة الإله الخارج عن العالم، أو الإله الذي خلق العالم وما زال يحكمه من خارجه، وإنما الله هو أعمق ماهية للعالم، تلك الماهية التي تشتمل على جميع الأشياء المتناهية وتتغلغل فيها بوصفها روحها المطلقة. فالإنسان هو كائنٌ متناه ومشارك في حياة الله في آنٍ واحد، ومن ثم فهو مواطن في عالَمين، الروحي والطبيعي. من هنا كانت طبيعته تتسم بذلك القلق والشقاق الدائم الذي لا نجد له في عالم الحيوان نظيرًا. هذا الانفصام الذي تتصف به الطبيعة البشرية قد يجد له دواءً مؤقتًا في الحياة الأخلاقية، غير أن هذا ليس دواءً نهائيًّا، إذ إننا لا نصل في الحياة الأخلاقية إلى بداية ذلك الزوال للذات الفردية، وذلك التوحيد بين حياتنا وبين ذلك المجال الدائم الاتساع، مجال الحياة الروحية التي تتجاوزها. وهما أمران لا يتحققان بأكمل صورة إلا في الدين، فالدين هو المجال الذي يختفي فيه نهائيًّا التعارض بين الطبيعي والروحي، بين الفعلي والمثالي، والذي لا يعود فيه المثل الأعلى اللامتناهي غاية لا تتحقق، وإنما يصبح شيئًا متحققًا بالفعل. وهكذا فإن كل تفكيرٍ ديني عند كيرد إنما يهدف إلى التوفيق والتوحيد بين الإيمان والمعرفة، بين الدين والفلسفة، وأهم من ذلك كله، إلى زيادة كمال عقيدة المسيح بالهيجلية، أما الفروق العميقة بين هذين، فهو يدعها جانبًا دون أن يعيرها انتباهًا.

أما جون واطسون John Watson (وُلِدَ في ١٨٤٧)٤٨ أستاذ الفلسفة الأخلاقية في جامعة «كوينز»، بولاية كنجستن (في كندا)، فقد كان تلميذًا للأخوين كيرد، وكان اسكتلنديًّا مثلهما، وقد اقتصرت معظم كتاباته — وهي عديدة، نُشِرَت كلها في جلاسجو — على عرض الموقف المثالي والتوسع فيه، والتعريف بأبرز ممثليه الألمان، أما مؤلفاته المذهبية (وهي «المسيحية والمثالية Christianity & Idealism» ١٨٩٦، و«الأساس الفلسفي للدين The Philosophic Basis of Religion»، ١٩٠٧، و«تفسير التجربة الدينية The Interpretation of Religions Experience»، ١٩١٢، في مجلدين، وهذا الأخير نشر لمحاضرات جيفورد)، فتتعلق في المحل الأول بفلسفة الدين، التي يقف فيها — كما في سائر المجالات — موقفًا أقرب إلى الأخوين كيرد منه إلى أي مصدرٍ آخر.
كان ولاس، وهو اسكتلندي بدوره، ينتمي إلى الجيل الأول من تلاميذ هيجل الذين تجمعوا في العقد السابع من القرن الماضي حول جويت وجرين وإدوارد كيرد. وقد تحكم هؤلاء الأساتذة إلى حدٍّ بعيد في تعليمه الفلسفي، وساعدوا على تحديد اتجاه تفكيره المتأخر ومحتواه. ولقد كان ولاس من أول وأقدر مترجمي هيجل ومفسِّريه، وساهم في محاضراته وكتاباته معًا بدورٍ بارز في تفسير المثالية الألمانية. ولقد بدأت عملية إتاحة مؤلفات هيجل الرئيسية للطلاب الإنجليز في ترجماتٍ موثوق بها، وهي العملية التي لم تبدأ إلا أخيرًا بترجمة لكتاب «المنطق الأكبر»،٤٩ بدأت هذه العملية بترجمة لكتاب «المنطق» الأصغر، وأعقبه، بعد فترةٍ طويلة، كتاب «فلسفة العقل» (الجزآن الأول والثالث من «دائرة المعارف» لهيجل). ولقد لقي كتاباه عن كانت وشوبنهور إقبالًا واسعًا، ونقل أفكار هذين المفكرَين إلى عددٍ كبير من القراء. وكان ولاس يتمتع بقدرةٍ نادرة على تخليص الحجج الفلسفية من اللغة المحيِّرة المغرورة التي يعبر بها المتخصصون عنها، وعلى إعادة التعبير عنها بأسلوبٍ أدبيٍّ سلسٍ مشرق. ورغم أنه كان من أخلص تلاميذ هيجل، فإنه لم يكن يحجم أبدًا عن تغيير نصه ليزيد المعنى وضوحًا. ومن الجائز أن أحدًا لم يقم بمثل المجهود الذي قام به ولاس في تذليل صعوبة دراسة هيجل في إنجلترا؛ فقد خلع على هيجل ثوبًا جديدًا، جعله أقرب إلى النفوس والعقول في بلد يكره اللغة الثقيلة الغامضة التجريدية ولا يثق بها.
ولكن رغم أنه كان على وجه العموم يسير في أعقاب هيجل، فقد كان أكثر استقلالًا من أن يرتاح إلى مذهبٍ محكم الإغلاق، ولقد كان يفتقر إلى ذلك الحافز التأملي الذي اكتسبه كثير من الهيجليين الإنجليز من هيجل ذاته. وكان يؤثر دراسة فكرةٍ واحدة وإيضاحها بالنظر إليها من زوايا عديدة، على جمع عدد من الأفكار في مذهبٍ واحد. ويظهر ذلك بوضوح في تفسيره لهيجل، الذي يتخذ شكل أبحاث لمشكلاتٍ خاصة، تقلب وتختبر من جميع أوجهها، وهي أبحاث تتصف بالحيوية والدقة الشديدة، ولكن الكثير منها كان جزئيًّا غير مترابط، فيؤدي ذلك إلى عدم إظهار وحدة تفكير هيجل وإحكامه بما فيه الكفاية. ولكن، على الرغم من استقلال ولاس وعزوفه عن وضع تعاليمَ ثابتة، واعترافه بإمكان وجود طرقٍ متعددة توصل إلى المثالية، فإن إيمانه بحقيقة النظرة المثالية كان راسخًا عميقًا، وكان يرى أن ضيق الفلسفة الإنجليزية المنطوية على ذاتها لا يمكن التغلب عليه «بالأيديولوجيات» الفرنسية، أو بأفكار عصر التنوير السطحية، وإنما بذلك الدواء الأقوى الذي تقدمه المثالية في الصورة التي بلغتها في ألمانيا. «فالمثل الذي ضربه لنا الألمان قد نجح في توسيع أفكارنا عن الفلسفة وتعميقها، أي في جعلنا ننظر بمزيد من التقدير إلى وظيفتها، وندرك أنها في أساسها علم، وأنها علم الحقيقة العليا.»٥٠

ولا يتصف أي كتاب مما نشره هو ذاته بالصفة المذهبية، وهكذا لا نستطيع أن نعرف ما كان يقول به هو ذاته من التعاليم إلا من خلال محاضراته ومقالاته التي نُشِرت بعد وفاته، والتي تتناول الفلسفة الأخلاقية والسياسية والدينية قبل كل شيء، ولقد كانت فكرته الرئيسية، في المجال الأول من هذه المجالات الثلاثة، هي التعاون الاجتماعي، أما في المجال الثاني فكان يفضل ديمقراطيةً حرة، مع ميولٍ اشتراكية واضحة، وكانت الدولة في نظره هي التنظيم الأعلى الذي يوحد كل الأشكال الأدنى للتجمع الاجتماعي ويشتمل عليها. أما في فلسفة الدين فقد كان قريبًا كل القرب من الأخوين كيرد، ولا سيما من تفسير جون كيرد النظري التأملي للمسيحية. فقد كان التجسد الذي لم يعد واقعةً تاريخيةً منفردة وإنما رآه حقيقةً أزلية، يعني بالنسبة إليه التجلي المنظور لكمون الله في الإنسان، وللروحي في المادي، والأزلي في الزماني. فالإنسان ليس مجرد ناتج للطبيعة، كما يقول الماديون، ولا مجرد ابن للسماء، كما يقول الأفلاطونيون، وإنما هو نتاجٌ مشترك لعواملَ طبيعية وروحية، غير أن الطبيعة والروح هما حقيقةٌ واحدة منظورًا إليها تارة من الظاهر وتارة من الباطن. فالألوهية التي توجد في الإنسان بالقوة وتحيا فيه، ترفعه فوق مستوى النظام الطبيعي الذي هو جزء منه، وتُكسبه سيطرة عليه وتحررًا منه. وهكذا تسفر المثالية عند والاس، كما هي الحال عند معظم الهيجليين الأوائل، عن مذهب في الألوهية، وتبدو دعامة للدين وأداة له.

كان ريتشي من أولئك الذين كان يدينون بتحولهم للمثالية إلى اتصالهم الشخصي بجرين. ولقد تلقَّى أول تعليمٍ فلسفي له على يد فريزر وكالدروود في إدنبرة، غير أن تفكيره لم يتخذ وجهته النهائية حتى دخل جو الحياة العقلية في أكسفورد في أواسط القرن الثامن. في ذلك الوقت كان أرنولد توينبي (١٨٥٢–١٨٨٣)، الاقتصادي والمصلح يعمل بنشاط هناك، وكان إيمانه المتحمس بالاشتراكية، الذي لم يعبر عنه في قاعة المحاضرات فحسب، بل في خدماتٍ متفانية قدَّمها خارج الجامعة. كان هذا الإيمان يقدم للجيل الجديد من طلاب الجامعة والدراسات العليا مثلًا رائعًا للشعور بالمسئولية الاجتماعية. وهكذا فإن ريتشي، الذي كان في اتجاهه العام ومثله العليا قريبًا من ذهن توينبي وجرين قد نضج في صحبتهما، وبفضلهما قبل غيرهما، واتخذ في نضجه وجهة سارت به في اتجاه البحث العملي، كالفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، التي كرس لها كل كتاباته تقريبًا. لقد كان هدفه الأول هو إيضاح هذه الميادين وتنظيمها عن طريق مقولات المثالية الجديدة ومبادئها. وليس معنى ذلك أنه تجاهل مشكلة إيجاد أساسٍ نظري لها؛ فقد كان في هذا الصدد أشد تمسكًا بالهيجلية من جرين؛ ذلك لأنه تلقى من هذا الأخير الحافز الذي دفعه في اتجاه المثالية بوجهٍ عام. أما فيما يتعلق بالمضمون الخاص لمثاليته، فقد كان يرجع في معظم الأحيان إلى هيجل نفسه مباشرةً، وهذا واضح حتى في أول مؤلفاته، الذي تناول فيه مشكلة «معقولية التاريخ»، أو إمكان قيام فلسفة للتاريخ — وهي مشكلة نادرًا ما خاضها الإنجليز — وناقش جميع أطرافها من وجهة نظر هيجلية، هذا على الرغم من أنه لم يتوسع في هذا البحث إطلاقًا فيما بعدُ. كذلك حرص على أن يوضح — بطريقةٍ فلسفية — العلاقة بين الأصل والقيمة، وبين المنهجَين التاريخي والمنطقي، وأوضح مرارًا أن مسائل الواقع ينبغي أن تظل دائمًا منفصلة عن مسائل القيمة؛ إذ إن تفسير واقعة على أساس أصلها هو أمر لا صلة له بقيمتها. وكان يرى أن لهذا المبدأ أهميةً عظمى في كل تفكير عن الأخلاق والدين والمجتمع والدولة، ولكنه طبقه بوجهٍ خاص في نقده للمذهب التطوري، فالتطوريون، الذين يقصرون اهتمامهم على بحث أصل الشيء، والتتابع الزمني لأحواله، عاجزون تقريبًا عن إدراك مغزاه.

أما في آرائه في المنطق ونظرية المعرفة والأنتولوجيا فقد كان أقرب إلى المذهب المطلق منه إلى مذهب الكثرة الذي تتصف به المثالية الشخصية، واتفق إلى حدٍّ بعيد مع آراء برادلي في الواحد والكثير، والفردي والكلي، والمظهر والواقع، ودرجات الواقع، وما إلى ذلك. وفي نظريته في الدولة، عارض المذهب الفردي الشائع في المدرسة الإنجليزية القومية؛ فالدولة في نظره كلٌّ عضوي، له حق العلو على المجتمع والأفراد، والتدخل على نطاقٍ واسع في شئون الآخرين. وعلى الرغم من أنه كان يؤيد قيام شكلٍ ديمقراطي للحكومة، فإنه لم يكن غافلًا عن نقط الضعف في المذهب البرلماني الليبرالي، ومبدأ الاقتراع العام، وطالب باختيار السياسيين المسئولين عن طريق معيارٍ أرستقراطي هو النزاهة والمقدرة. أما في بقية التفاصيل فقد كان يشارك جرين ميله الواضح إلى الاشتراكية، وإن لم يكن قد بناها بالطبع على أية أخلاق للمنفعة، وإنما على مبدأ قيمة الإنسان الأخلاقية، واستمدها من المبدأ المثالي القائل بالذات الاجتماعية، ومسئولية هذه الذات تجاه الجماعة. ولم تكن رسالته هي الرفاهة والسعادة، وإنما التوازن الاجتماعي والفاعلية الاجتماعية.

ولما كان تفكير ريتشي يتحرك كله تقريبًا، كما هو واضح، في نطاق المشكلات والحلول المعروفة المميزة للهيجلية الإنجليزية، فربما كان العرض السريع السابق كافيًا. غير أن هناك مسألةً أخرى ينبغي ملاحظتها، إذ إنها تدل على خروجه على النمط المألوف؛ ذلك لأن المدرسة المثالية قد هاجمت الداروينية والمذاهب المبنية عليها، بقوة منذ البداية، وقد أعطى كتاب سترلنج عن هيجل إشارة الهجوم، وكان كثير ممن تبعوه يعدون قهر الداروينية واجبهم الخاص إزاء عصرهم وبلدهم، أما بحث ريتشي عن «دارون وهيجل»،٥١ الذي جمع فيه بين هذين الخصمَين معًا، فقد أحدث ضجةً هائلة في الأوساط الفلسفية. ومن الطبيعي أن المحاولة الجريئة التي بذلها لإظهار وجود علاقةٍ باطنة بين فكرة التطور البيولوجية وفكرة التطور الهيجلية، وبالتالي لإدماج الداروينية في المذهب المثالي؛ هذه المحاولة كان مقضيًّا عليها بالإخفاق منذ البداية. أما المشكلة الخاصة التي تعرَّض لها ريتشي فكانت مشكلة الانتقاء الطبيعي، التي حاول أن يربطها بنظرية معقولية الواقع عند هيجل، فبقاء الأصلح يعني أن ما له قيمةٌ معينة؛ أي قدرٌ معين من المعقولية هو وحده الفعلي أو الحقيقي، وزوال الأضعف يناظر العلو على العامل السلبي في الديالكتيك الهيجلي. ولا جدال في أن محاولة ريتشي بعث الانسجام بين أكبر قوتَين عقليتَين في القرن الماضي قد انحرفت كثيرًا عن الطريق السديد، غير أن اهتمامه بدارون قد جعل له مع ذلك بصيرةً صادقة في نقطةٍ واحدة، فقد رأى أن تطبيق المقولات البيولوجية على الحياة الاجتماعية للإنسان لا يمكن أن يتحقق دون بحثٍ نقدي في العلاقات المحددة التي تسري على المجال الجديد. فمهما كان من فائدة أو أهمية تطبيق مبدأ الانتقاء، فإن من واجبنا أن نتذكر أن المجتمع البشري لا ينطوي على مجرد صراع من أجل الوجود، كذلك الذي نراه في عالم الحيوان، وإنما على صراعٍ مخالف تمامًا، له ظروف أكثر تعقيدًا بكثير. فنظير المبدأ البيولوجي في المجال البشري هو المنافسة الصناعية والتجارية، والتنظيم التكنولوجي لأحوال المعيشة، والظروف الاجتماعية والتعليم وما إلى ذلك، والتطور الاجتماعي يرتكز على التعاون، لا على سحق الأقوى للأضعف. وبانتهاج ريتشي لهذه الفكرة في التفكير، ارتفع فوق مستوى مذهب التطور الطبيعي إلى ما أسماه بمذهب التطور المثالي. وبهذا الاتجاه العام ساهم في التفكير اللاحق بدورٍ أنجح كثيرًا من الدور الذي ساهمت به محاولته الخاصة لتوسيع نطاق المثالية عن طريق إيجاد تلك الرابطة غير الطبيعية بين الأفكار الهيجلية والداروينية.

كانت فلسفة جونس، بقدر ما كان لها من مضمونٍ محدد، مثاليةً هيجلية بالصورة التي أضفاها عليها كيرد، فمنذ اللحظة التي طلب فيها العلم على أستاذه العظيم، وهو طالبٌ شابٌّ وافد إلى جلاسجو من ويلز، اعتنق مذهب الحركة الجديدة وكرَّس نفسه لها بكل ما في طبيعته المتحمسة من قوة. وظل طيلة حياته تلميذًا مخلصًا لكيرد، الذي كان يدين له بكل شيء تقريبًا. ولقد كان يدرك أنه ليس مفكرًا أصيلًا؛ لذلك عدَّ نفسه واعيًا وحارسًا لكنزٍ ثمين، هو النظرة المثالية إلى كل الأشياء، التي أخذ على عاتقه أن يذيعها بين أكبر عددٍ ممكن من الأذهان ويبثها فيهم. فالمثالية كانت هي اليقين الفلسفي الوحيد، الذي يتعين حفظه مصونًا، على الرغم من أن أسسها يمكن أن توسَّع ومضمونها يمكن أن يطبق بنجاح في ميادينَ متزايدة للنشاط الإنساني. وكان تحقيق هذا التوسيع والتطبيق هو المهمة التي كرس لها جونس جهده، وهي مهمة حققها على أفضل وجه في الفلسفة الدينية والاجتماعية والسياسية.

وربما لم يدعُ أحد إلى المثالية بمثل هذا التفاني والإخلاص الجريء، والحماسة الأصيلة التي دعا بها إليها جونس؛ فقد كان أقل اهتمامًا بالبرهان منه بالدفاع البليغ والإقناع الحي؛ إذ إن كل فلسفة هي في نظره موقف عن الحياة وقوةٌ روحية أكثر منها مذهبًا من التعاليم النظرية. وهكذا فإن جونس قد استوعب — بحرارة التجربة الشخصية المباشرة — ما شيده كيرد وكسبه عن طريق التفكير المضني الدقيق، فحوَّله من بحث إلى إيمان، ومن مذهب إلى شعور، بل حوَّله في أحيان غير قليلة إلى حماسةٍ خيالية أو نوع من الوجد الصوفي. فالمثالية كانت في نظره جزءًا من حياة عملية، واعتناقًا لإيمان وعقيدة، وشيئًا عاشه وآمن به وأعلن أنه هو الأمر الوحيد اللازم. وبالاختصار فقد أصبحت الهيجلية عاطفية عند جونس، وهو نبيها وحواريها، وقد حملها كأنه رسول إلى أقصى حدود الإمبراطورية عندما دُعِي في ١٩٠٨ إلى إلقاء محاضرات في جامعة سيدني عن «المثالية بوصفها عقيدةً عملية»، وهي مناسبة فيها بعض الشبه من محاضرة هيجل الافتتاحية المشهورة في هيدلبرج سنة ١٨١٦.

وإذن فلم يكن من المستغرب أن يبحث جونس عن المحتوى المميز للفلسفة المثالية خارج المؤلفات الفلسفية المتخصصة، وأن يجده في ذلك الطابع الأخلاقي الذي تتسم به أوجه النشاط العملية للإنسان، وفي اعتناق عقيدة (ولا سيما العقيدة المسيحية)، وقبل ذلك كله، في عاملٍ دائمٍ خلَّاق هو الأعمال الأدبية العظيمة. فالشعراء يعبرون بصورةٍ جميلة عما يصوغه للفلاسفة بلغة التصورات المجردة. ومن ثم فإن جونس قد اقتبس من كبار فناني الأدب كثيرًا من العناصر التي تؤيد مذهبه وتدعمه؛ فعنده أن لسنج وجوته وورد سوث وبروننج، قد أعلنوا على طريقتهم الخاصة تلك النظرة إلى العالم التي عبرت عنها فلسفة كانْت وفشته وهيجل وأتباعهم من الإنجليز بطريقة التصورات. ولقد رأى في شعر بروننج بوجهٍ خاص تعبيرًا رفيعًا عن الشعور والمقصد المثالي، ووصفه، في كتابٍ رائع خصصه كله له، بأنه «معلمٌ فلسفيٌّ ودينيٌّ أصيل». ولهذه الأسباب ذاتها أحسَّ بتقاربٍ وثيق مع كارليل، الذي وجدت طبيعته التنبئية وبلاغته الدافقة تجسدًا جديدًا لها في شخص جونس.

ولسنا هنا بحاجة إلى الدخول في تفاصيل مضمون تعاليمه الفلسفية؛ إذ إنها لم تكد تتجاوز تعاليم الهيجليين الأوائل الذين عرضنا لهم من قبلُ، فنحن نصادف لديه مرةً أخرى جميع العناصر المألوفة في المذهب، بعد إعادة صياغتها بطريقةٍ بارعة؛ كتضايف الفكر والوجود، والمثالي والواقعي، والروحي والطبيعي، والجمع بين الأضداد في وحدة «الكل» العليا الشاملة لكل شيء، والتركيب الروحي للكون، والحملة على كل أنواع الثنائية بوصفها تجريداتٍ باطلة، واستبعاد العرضي واللامعقول، وفكرة النسق المترابط، والمطلق بكل صفاته ووظائفه المألوفة، وكمون الله في الطبيعة والإنسان، والتوحيد بينه وبين المطلق، وتشخيص الله، وتحقق الأخلاق في الدين، والتفاؤل الميتافيزيقي الساذج، وما إلى ذلك.

ولم يبقَ علينا إلا أن نلاحظ أن الفارق بين الاتجاهات المتقدمة والاتجاهات المتأخرة في المدرسة الهيجلية ازداد وضوحًا وشدة عند جونس؛ فقد أحسَّ مرارًا وتكرارًا بأنه مضطر إلى نقد تشويهات برادلي وبوزانكيت وتزييفهم للهيجلية في صورتها الأصلية. وقد حرص مرارًا على إيجاد تمييز قاطع بين موقفه وبين موقف بوزانكيت بوجهٍ خاص. وكانت نقطة الخلاف الرئيسية هي التقابل بين الواحدية والثنائية، صحيح أن الموقف الذي اتخذه برادلي وبوزانكيت يمكن قطعًا أن يوصف بأنه واحدي بمعنًى ما، ولكنه بدا موقفًا ثنائيًّا واضحًا من وجهة نظر أولئك الذين يمضون، مثل كيرد وجونس، في اتجاه الوحدة إلى حد استخلاص أبعد نتائجها؛ لذلك عكف جونس على تصيُّد مظاهر الثنائية عند برادلي، وعند بوزانكيت على نحوٍ أوضح، وهي ثنائية المظهر والحقيقة، والمتناهي واللامتناهي، والنسبي والمطلق، والأهم من ذلك كله تلك الثنائية التي تفصم الطبيعة البشرية إلى شقَّين متغايرَين. فجونس كان يرى أن الإنسان ليس بحاجة إلى الخروج عن ذاته ليبلغ المثل الأعلى، ولا يتعيَّن عليه أن يغير ذاته بالاندماج في المطلق؛ إذ إن ذاته ستضيع تمامًا عندئذٍ، وإنما الواجب عليه بالأحرى أن يصبح ذاته، ويحقق الإمكانيات الكامنة فيه، وعندئذٍ يكون قد وصل إلى اللامتناهي بحق، بل يغدو «هو» المتناهي في عملية صيرورته.

وهكذا استعاض جونس عن العلو على الذات عند بوزانكيت بتحقيق الذات وبعث الكمال فيها، كذلك كان يرى أن المطلق ليس حالة تسكن فيها كل حركة، وتستقر في ذاتها مباركة إلى الأبد، وإنما هو عمليةٌ ديناميةٌ أزلية التقدم، يكون الزمان فيها عاملًا حقيقيًّا، لا مجرد مظهر، وهنا نلمس التضاد بين نزوع جونس إلى الفاعلية والبرجماتية، وهو نزوع يُذكِّرنا كثيرًا بنظيره عند فشته، وبين الموقف الأقرب إلى التأمل والسكينة عند القائلين بالمثالية المطلقة.

وهناك نقطة اختلاف أخرى، فجونس قد اعتقد أنه قد اكتشف أعراض مرضٍ خطير في نظرية المعرفة التي قال بها برادلي وآخرون؛ إذ إن في هذه النظرية نزعةٌ ذاتية تكاد تقرب من مذهب «الذات الوحيدة»، وهي تستتبع النظر إلى الواقع على أنه هزيل أو متلاشٍ تمامًا، وهكذا آلى على نفسه أن يحاربها. ولما كان يرى أن لوتسه، الذي كان تأثيره في الفكر الإنجليزي هائلًا، مسئول عن ظهور هذا المرض، فقد كرَّس لنقد نظرية لوتسه مؤلَّفًا خاصًّا، هو واحد من أفضل كتاباته، فهو يرى أن المشكلة الرئيسية في نظرية المعرفة لا تجد حلًّا مرضيًا في الذاتية ولا في الموضوعية، فالذهن ليس مستقلًّا عن الموضوعات، ولا الموضوعات مستقلة عن الذهن، وما نصادفه في المعرفة إنما هو حركة عالمٍ موضوعيٍّ حقيقي في وسيط هو الفكر، وبدلًا من أن نتصور المعرفة على أنها محاولة لاقتناص الواقع في شبكة من التمثلات والتصورات، علينا أن نتصوَّر الواقع على أنه مبدأٌ فعَّال يكشف عن ذاته لنا في عملية التفكير. فليس ثمة حاجة إلى جلب الذات والموضوع والفكر والواقع سويًّا، وإنما هما مقترنان منذ البداية، بوصفهما القطبَين اللذين يقع بينهما ما نسميه بعالمنا. فالمثالي والواقعي ليسا عالمَين منفصلَين، وإنما هما عنصران لا ينفصلان داخل كونٍ واحد، وهكذا يسود مفهوم الواحدية تفكير جونس.

ترجع الأصول الفلسفية لمويرهيد إلى جيل الهيجليين الأقدم عهدًا، وقد تلقى تعليمه في مركزي الحركة، وهما جلاسجو وكلية باليول بأكسفورد. ودرس على كيرد وجرين على التوالي، فطبع هذان تفكيره بالطابع الخاص المميز له، وحدَّدا الاتجاه الذي سار فيه فيما بعدُ. ولقد أخذ عن كيرد الهيجلية في الصورة التي اصطبغت بها تحت تأثير الهيجليين الإنجليز الأصليين في العقد الثامن، أما جرين فإليه يرجع اهتمامه بتطبيقها على مشكلة الحياة العادية. وتتناول معظم مؤلفاته المذهبية مشكلات الأخلاق والحياة الاجتماعية والسياسية، بينما لم يعالج الفروع النظرية البحتة للفلسفة إلا لمامًا، وحتى في هذه الحالة كان بحثه متجهًا إلى علاقتها بالفروع العلمية أكثر مما كان مبعثه أي اهتمام بها لذاتها. وفيما يتعلق بالأسس النظرية لتفكيره، فقد كان على اتفاق يكاد يكون كاملًا مع فلسفة أستاذه كيرد، التي حاول بالفعل أن يوسعها لا أن يغيرها.

ولكن على الرغم من أن مويرهيد لم يحاول أن يدخل أي عنصرٍ جديد بحق على المثالية الإنجليزية، فإنه يحتل بين أولئك الذين قاموا بدور الأوصياء على تراث كيرد وجرين مكانةً بارزة؛ فقد احتفظ حتى يومنا هذا بحيوية ونضارة القوة الدافعة التي ولَّدت الحركة ذاتها، وسار بها في جوٍّ متغير عبر زمن تتحرك فيه الفلسفة بمؤثراتٍ آتية من جهاتٍ مختلفة كل الاختلاف. وغيَّرت فيه المثالية ذاتها معالمها الأصلية تغييرًا عميقًا متعدد الأوجه، بعد أن كادت جذوتها تخبو، وإن لم تكن قد خَبَتْ تمامًا، فهو لا يزال واحدًا من القلة القليلة الباقية من تلك الأيام الزاهرة التي دخل فيها الفكر الإنجليزي مرحلةً جديدة من تطوره.

على أنه لم يحفظ المثالية بوصفها تراثًا ميتًا، أضفى عليه ثباتًا قطعيًّا، وإنما تظهر مزاياه الخاصة والخدمة التي أداها في حرصه الدائم على أن يحتفظ بصفاتها الحيوية المثمرة عن طريق تكييفها مع الظروف الزمنية المتغيرة. وهكذا أعمل فكره في المشكلات والمواقف حديثة العهد، وحاول أن يوسِّع نطاق الأشكال والمذاهب القديمة بقدر الإمكان، ليجعلها قادرة على تقبُّل كل ما هو صحيح في الأفكار الجديدة. ويتمثل هذا النزوع في الموقف الوسط الذي اتخذه من الخلافات السائدة في مجال علم الأخلاق في عصره، ففي مذهب اللذة تكون غاية الفعل الأخلاقي ومعياره هي اللذة. ولكن مذهب السعادة Eudaemonism يأتي بتصحيحٍ هام؛ إذ يعلن أن الخير الأسمى ليس هو اللذة وإنما السعادة، وليس مجرد مجموع من المشاعر التي يُعَدُّ كلٌّ منها مستقلًّا عن الباقين، وإنما هو تلك المشاعر التي تهدف إلى خدمة كلٍّ ويعلو على أية ذات بعينها. وليس معنى ذلك أن في وسع مذهب السعادة أن يقدم حلًّا مرضيًّا للمشكلة الأخلاقية، وإنما فيه، كما يقول مويرهيد، مقابل مفيد لتلك النظرية الأخرى، أخلاق الواجب، التي تركز اهتمامها بنفس القوة على عنصرٍ واحد فقط، هو العنصر المعقول في الطبيعة البشرية، فأخلاق الواجب من أجل الواجب تخضع الحياة الأخلاقية لقانونٍ شكليٍّ مجرد فحسب، وبذلك تسلبها كل ما هو نفيسٌ غالٍ بالنسبة إلينا، فالواجب لا يكون أبدًا واجبًا بالمعنى التجريدي أو مطلقًا محضًا، وإنما هو يشير دائمًا إلى موضوعٍ محدَّد لاهتمام البشر، وهو يشعر بنفس القدر من النفور من المثل الأعلى لعالم يوجد فيه كل فعل عمدًا ضد رغباتنا ومصالحنا، والمثل الأعلى لعالم لا يوجد فيه إحساس بالواجب على الإطلاق. وهكذا يعرف مويرهيد الأخلاقية بأنها إطاعة قانون يفرضه الإنسان، بوصفه وحدةً واعية بذاتها، على العناصر الكثيرة المؤتمرة subordinate في طبيعته. وفضلًا عن ذلك فقد حاول مويرهيد أن يجعل فكرة التطور، كفكرة السعادة، مثمرة في الأخلاق، وإن يكن قد عارض بالطبع النظريات الأخلاقية للفلاسفة التطوريين، فكون المعايير الأخلاقية تتغير بتغير الزمان والمكان لا يعني عدم وجود معيارٍ شامل للأفعال الأخلاقية، والأمر الذي يكشف عنه التطور فعلًا هو أن الفروق الواقعية في الأحكام الأخلاقية تفترض مقدمًا مبدأً واحدًا للتقويم تستمد منه اتجاهها المعياري، وأن المعايير المختلفة ينبغي أن تُعدَّ مراحل في تطور مثلٍ أعلى أخلاقيٍّ واحد وفي تحقيقه لذاته. وهكذا يكون من الممكن — من وجهة النظر هذه — ترتيب المعايير المختلفة في الماضي والحاضر ترتيبًا تصاعديًّا حسب قيمتها، وبالرجوع إلى هذا الترتيب نستطيع أن نُحدِّد درجة التقدم الأخلاقي.
ولقد أتاح الطابع المرن الواسع الأفق لمثالية مويرهيد، أتاح له أن يُخفِّف حدة التعارض بين التعبيرات المتقدمة والمتأخرة عن الحركة المثالية، وأن يجمع قوى المثالية في اتجاهٍ واحد، وبذلك أضاف إلى الذخيرة المشتركة للمدرسة أفكارًا قيِّمةً مستمدة من مختلف المذاهب المطلقة والشخصية التي تولَّدت عن المدرسة. كذلك أتاح له «مذهبه المفتوح» أن يساير، وأن يستوعب إلى حدٍّ ما، التيارات المضادة للمثالية، وهي البرجماتية والواقعية، التي ظهرت قرب أواخر القرن الماضي. ولقد أقرَّ بصحة النقد البرجماتي القائل: إن الهيجلية، ولا سيما في صورتها المطلقة، قد تجاهلت أكثر مما ينبغي ذلك العنصر النزوعي الغَرَضي في التجربة، ووضعت «فكرة» جامدة فوق مثلٍ أعلى مرنٍ حي. وهكذا قال إن المثالية تستطيع أن تقبل هذا النقد، وعندما تفعل ذلك لا يكون قد بقي تعارض بينها وبين البرجماتية العقلية. أما بالنسبة إلى حركات مثل الواقعية الجديدة، التي أوحى بها العلم الطبيعي، والتي أعملت الفكر الفلسفي في نتائج هذا العلم، فقد اعترف بأن على المثالية أن تلائم بينها وبين التفكير العلمي؛ فلم يعد من الممكن ترك تلك النظرة المثالية إلى العالم، التي فعلت الكثير من أجل الفلسفة، تتجاهل فلسفة الطبيعة أو تعزف عنها، ومن ثم فمن الواجب إيجاد أساس أوسع للثقافة العقلية للمثاليين، إذ إن هذه وحدها هي الطريقة التي تتيح للمثالية — من حيث هي فلسفة — أن تظل حية وسط المسائل الملحَّة في العصر الحديث، وأن تدخل بوصفها شريكًا متساوي الحقوق في الاتفاق الذي يجري إعداده بين الفيزياء وبين الميتافيزيقا، والذي قد يحدد مصير الفكر. وهكذا دعا مويرهيد الفلاسفة إلى تناسي الخلافات التي تفرق بين المدارس والمذاهب، وأضفى على دعوته هذه صورة عملية في سلسلة «مكتبة الفلسفة Liber. of Phil.». التي يشرف على نشرها، وهي سلسلة من المؤلفات لمفكرين معاصرين، أجانب وإنجليز، ينتمون إلى اتجاهاتٍ مختلفة كل الاختلاف، وكذلك في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة» (الذي يناظر كتب «العرض الذاتي للمذاهب Selbstdarstellungen» الألمانية …) والذي اجتمع فيه لأول مرة مختلف ممثلي الفلسفة المعاصرة في إنجلترا لتقديم موجزات شخصية لآرائهم.

وأخيرًا فقد ساهم مويرهيد بنصيبٍ ملحوظ في تاريخ الحركة المثالية، فقد وضع الحركة في إطارٍ عقليٍّ أوسع، وحاول على هذا الأساس أن يفهم أصلها وتطورها، فضلًا عن مغزاها العام، وقد تتبع ما أسماه «بالتراث الأفلاطوني في الفلسفة الأنجلوسكسونية» حتى بداياته الأولى، وكشف — على خلاف الطريقة المألوفة في العرض — عن تيارٍ موحَّدٍ مستمر للتفكير المثالي، يسري طوال تاريخ الفلسفة الإنجليزية بأسره، وإن كان يتخذ أحيانًا صورة تيار غير ظاهر. وقد أوضح كيف أن الأرض في إنجلترا كانت ممهدة للتجديد الذي حدث في القرن التاسع عشر بتأثير ألمانيا، قبل ظهوره المفاجئ بوقتٍ طويل، وذلك أولًا عن طريق الشعر الرومانتيكي لشلي وكيتس ووردسورث وكولردج (وقد كتب مويرهيد عن هذا الأخير بحثًا كان غاية في العمق)، ثم عن طريق أدب الكتاب في العصر الفكتوري، مثل كارليل وإمرسون وتينسون وبروننج وأرنولد، وأخيرًا عن طريق ذلك التغير العام في الأفكار والنظم، الذي تميز به النصف الثاني من القرن الماضي. ولما كان مويرهيد شاهد عيان على ظهور الحركة المفاجئ في العَقْد الثامن من ذلك القرن، ومساهمًا فيها بنشاط منذ ذلك الحين، فقد كان أصلح الجميع للعودة بنظره إليها في فترة الكهولة من حياته الطويلة، وتأملها في مجموعها، والكشف للجيل الجديد، عن قصة تطورها والكنوز التي تحويها تعاليمها.

كان ماكنزي، مثل جونس ومويرهيد، من أولئك الذين يدينون لإدوارد كيرد باهتمامهم المبكر بالفلسفة. ولقد ظل إلى النهاية على ولائه لأستاذه العظيم، واعترف في آخر مؤلفاته بأنه «مجرد سائر متواضع في طريق التأمل المثالي الذي أعتقد أن أستاذي الأول، إدوارد كيرد، كان خير مرشد فيه.»٥٣ وقد تناول أول كتبه موضوع الفلسفة الاجتماعية وثانيها الأخلاق، أما في سنواته الأخيرة فقد اهتم أساسًا بالمشكلات الكبرى للميتافيزيقا، ومشكلة القيم المرتبطة بها. وكان، مثل معظم الهيجليين، قليل الاهتمام بنظرية المعرفة وعلم النفس، كما أهمل المنطق.
وهو يُعرِّف الميتافيزيقا بأنها «الدراسة المنهجية التي تسعى إلى إيجاد نظرةٍ شاملة إلى التجربة، بغية فهمها في كل منهجي.»٥٤ وهو يعني بالتجربة هنا الكون بما هو كذلك، أو الواقع في مجموعه، الذي يسميه ﺑالكون المنظم Cosmos، والذي يكون العالم الزماني المكاني وجهًا جزئيًّا واحدًا له. وكما يدل اسم «الكوزموس»، فإنه يجعل فكرة النظام أساسية في تصوره للكون، أما العالم المحيط بنا فبعيد كل البعد عن ذلك النظام الكامل الذي يتصف به الكون (الكوزموس)، ومن جهة أخرى فلا يمكن أن يُعدَّ هذا العالم مجرد فوضى؛ لأنه ينطوي على قدرٍ غير قليل من النظام، ولأن العوامل المؤدية إلى النظام فيه تغلب، عمومًا، على تلك المؤدية إلى الاضطراب. ولما كان الأمر كذلك، فإن لنا الحق في أن نفترض أن عالمنا ليس إلا جزءًا من كلٍّ أكبر يتصف بالنظام الكامل، هو «الكوزموس». ومن أمثلة العوامل المؤدية إلى الاضطراب، كل ما هو عَرَضي متغير، والأهم من ذلك: التعاسة والشقاء والألم والشر، فوجود الشر في عالمنا هو العقبة الكبرى في وجه الإيمان بالانسجام الكامل في الكون، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك «شيئًا له طبيعة الشر»، يظل موجودًا بالضرورة، من وجهة نظرنا المحدودة، غير أن هذا لا يتناقض مع الافتراض القائل إنه قد يكون هناك انسجامٌ كامل من وجهة النظر الشاملة. ويعرض ماكنزي هذه الآراء بدقةٍ كاملة في الفقرة الآتية: «إن العرضية والتغير والشر الظاهري، التي نجدها في العالم كما نعرفه، يمكن أن تُعدَّ كلها متمشية مع حقيقة نظامٍ كامل، إذا ما استطعنا أن نفترض أن الكل روحي في أساسه، وأنه يحقق ذاته عن طريق عملية تغير، تتضمن في مراحلها الأولية نوعًا من الافتقار إلى النظام وما يتبعه من ظهور العرضية والشر، ولكنها تسير متدرجة نحو الوحدة الكاملة، التي يحتفظ فيها بالعملية بطريقةٍ أزلية واعية.»٥٥
ويستتبع التمييز بين الكون المنظم وبين العالم الزماني المكاني أن يكون الأول لا متناهيًا والثاني متناهيًا، وقد وجد ماكنزي في الفيزياء حديثة العهد تأييدًا لثاني هذين الرأيَين، وهو يتوسع في هذه الآراء الشديدة العمومية، «التي هي بالضرورة ذات طابعٍ نظريٍّ تأملي إلى أبعد حد.»٥٦ ويؤيدها بعرضٍ مفصل لهذين المجالَين وعلاقة كلٍّ منهما بالآخر، أعني المجال المكاني الزماني الكيفي العِلِّي، ومجال الوعي والقيمة والمنطق والأخلاق وهكذا. ويناظر هذا الجزء من نظريته، بشكل عام، مبحث المقولات.
ولقد تزايد إلى حدٍّ بعيد تأكيد ماكنزي، في تأملاته الميتافيزيقية الأخيرة، للطابع الإيجابي لما هو عرضيٌّ مفتقر إلى الضرورة، بالنسبة إلى تأملاته القديمة العهد، فقد وقع تحت تأثير بعض أفكار ف. ك. س. شيلر، ود. فوست D. Fawcett،٥٧ وأصبح في هذه الفترة المتأخرة يقول إن الأساس الأخير للأشياء عقلٌ خلاق، لا يتصور على أنه فردٌ مشخص، وإنما على أنه عقلٌ كوني، يكشف عن ذاته ويعبر عن نفسه في أذهانٍ متناهية، وواضح أن هذا هو «المطلق» عند الهيجليين، ولكنه ليس المطلق السكوني المفارق الثابت عند برادلي، وإنما هو مطلق يُحرِّكه خلال مجرى العالم نزوعٌ خلاق، كما هي الحال في المطلق عند فوست. ولقد حدث تغير يناظر هذا في وجهة نظره، أدى به إلى وضع الخيال في موضعٍ موازٍ للعقل، وإلى ربطه به بوصفه ملكةً فلسفيةً هامة. ومن الواضح أن ماكنزي هنا يصطنع تحالفًا زائفًا؛ إذ ليس ثمة عنصرٌ مشترك بين الهيجلية وبين خيالات «فوست» الفلسفية، وإنا لنجده أيضًا في مواضعَ أخرى يُفتِّت كيان الهيجلية الذي كان متسقًا من قبلُ، عن طريق إدماج أفكارٍ غريبة فيه، مستمدة من أحدث تيارات الفكر الإنجليزي.
ويظهر مثل هذا الميل في مذهب ماكنزي في الأخلاق، الذي عرضه بدقة وبالتفصيل في كتابٍ موجزٍ رائع، فهذا المذهب، في صورته الأصلية، يرفض النزعة الشكلية الصارمة عند كانْت، ويدعو إلى المثل الأخلاقي الأعلى بوصفه تحقيق الذات العاقلة، وينظر إلى فكرة الخير على أنها أعلى القيم كلها. وتلك بطبيعة الحال هي الأفكار الأخلاقية الرئيسية في المدرسة الهيجلية التي هي أقدم عهدًا، غير أن الأخلاق عند ماكنزي قد طرأ عليها فيما بعدُ، بتأثير ج. أ. مور G. E. Moore وآخرين، تغييرٌ ملحوظ، ابتعد بها عن نقطة بدايتها، فلم يعد الخير في نظره هو القيمة العليا، وإنما أصبح مجرد قيمةٍ واحدة ضمن قيمٍ أخرى، شأنه شأن الحق والجمال، بل لقد أصبح ماكنزي ميالًا إلى إعطاء المكانة العليا للجمال، وذلك نتيجة لميله المتزايد إلى تحقيق الاكتمال في مذهبه، ولرغبةٍ جمالية في صياغة جميع المشكلات الفلسفية في نظامٍ كامل.
ولقد كرس ماكنزي كتابَين كاملَين للفلسفة الاجتماعية، وكانت فكرته الرئيسية هي التعاون الخلاق بوصفه أهم أساس للحياة الاجتماعية في كل صورها، وقهر النوازع الحيوانية في تركيبنا، وتنمية طبيعتنا العقلية والروحية، وتناظر ذلك ثلاثة أوجه أو وظائف للدولة، هي الاقتصادية، والسياسية أو التشريعية، والتعليمية أو الروحية. ولقد كان ماكنزي متأثرًا في هذا بفكرة شتينر Steiner عن الكائن العضوي ذي الأعضاء الثلاثة،٥٨ وقد رفض الاعتراف بأن فكرة الدولة القومية هي الشكل الوحيد، أو الأفضل، للتنظيم الاجتماعي، ودعا بدلًا منها إلى نظام للإخاء واحد بين جميع الدول، وهناك ارتباطٌ واضح بين نزعته العالمية هذه (Cosmopolitanism) وبين قوله ﺑالعالم المنظم Cosmism في الميتافيزيقا.
وكما أوضحنا من قبلُ، فإن الصفة المميزة لماكنزي هي تفتيته للأرض الصلبة للمدرسة الهيجلية القديمة، وتفتحه المتزايد للأفكار الجديدة، بل لأحدث الأفكار عهدًا. وقد أدى تفتحه الذهني الواسع الأفق هذا، وطريقته المرنة المتسامحة في التفلسف، وطبيعته الحذرة التي جعلته يمتنع عن ادعاء الإتيان بأية حلول نهائية؛ أدى ذلك كله إلى جعله يصلح وسيطًا بين مختلف تيارات الفكر، ويرمز إلى مدى تحرر الهيجلية حتى من ذلك القدر الضئيل من التزمُّت وثبات العقيدة الذي كانت قد اكتسبته من قبلُ. فهو أوضح مثال لما أسماه بوزانكيت «بتقابل الأضداد في الفلسفة المعاصرة». ولقد كان الشعار الذي اتخذه لنفسه، والقائل: إن كل عقيدة ثابتة، في مجال الفلسفة، تجديف؛ كان هذا الشعار خير تلخيص لموقفه، فهو قد أخذ أفكارًا جديدة من جميع الجهات، ووزنها واختبرها، واستبقى أفضلها، غير أنه لم ينجح على أي نحو في إدماج الجديد في القديم. وكيف كان يتسنَّى له ذلك وقد اشتمل الجديد على أمورٍ متنافرة مثل خيالات «فوست» الغريبة المسرفة، وتحليل مور المفرط في التدقيق والتعمق، وفكرة الفاعلية عند البرجماتيين، ومذهب التطور الظافر emergent Evolutionism عند ألكسندر، وصوفية ماكتجارت الجافة، والنتائج العلمية الدقيقة التي أتت بها الفيزياء الحديثة؟ كل هذه اتجاهات لا يمكن جمعها تحت سقفٍ واحد، ومن هنا كان ذلك الانطباع العام الذي يعطينا إياه بوجود نزعةٍ تلفيقية لديه، ونوع من الإعياء الفكري، وعدم الاستقرار، يوضح لنا السبب الذي لم يواجه من أجله ماكنزي مشكلاته مواجهةً حقيقيةً أبدًا، وإنما تركها تدفعه وراءها دون أن يتمكن هو ذاته من السيطرة عليها. ولقد كان ذلك كله راجعًا إلى حصيلته المفرطة من المعرفة، وتطرف النزعة إلى التوفيق لديه؛ مما جعله يرغب في إنصاف كل اتجاه، واستيعاب كل ما كان صحيحًا وشريفًا وذا سمعةٍ طيبة. وهكذا كان ماكنزي مفكِّرًا مهذَّبًا محبَّبًا إلى النفس أكثر مما كان مفكرًا قويًّا متمسكًا بموقفه.
على الرغم من أن مؤلفات اللورد هولدين الفلسفية لا تكوِّن إلا جزءًا صغيرًا من أعماله الرائعة التي كانت متعددة الأوجه إلى حدٍّ يبعث على الدهشة؛ إذ كان فقيهًا مشرعًا وبرلمانيًّا وسياسيًّا ومصلحًا جامعيًّا وفيلسوفًا وكاتبًا؛ فلزام علينا أن نعدَّها مركز حياته، الذي كانت جميع أوجه نشاطه الأخرى مجرد إشعاعات له، وقد أنبأنا هو ذاته في ترجمته الذاتية لحياته، أن مثاليته الفلسفية قد صاحبته في جميع أوجه نشاطه العملية، وأنه قد عاشها فعلًا، وأدمجها في كل وجه من الأوجه المتعددة لحياته. ولقد كان هولدين — من بين الهيجليين الإنجليز في جيله — أصرحهم في إبداء إعجابه بالمفكر الألماني العظيم، وأخلصهم في التتلمذ عليه، فأخذ بمذهبه كاملًا تقريبًا. وهكذا نجد في كتاباته أقوى اعتراف بالهيجلية في اللغة الإنجليزية، باستثناء ما نجده لدى سترلنج، فهو يقول: «إن كل ما في هذه المحاضرات قد أخذته أو اقتبسته عن هيجل … فليس في وسع أي مفكرٍ آخر أن يُفيد الباحث عن الحقيقة بمثل ما يفيده به هيجل، فهيجل هو «أعظم معلم» للمنهج النظري التأملي عرفه العالم منذ أيام أرسطو.»٥٩ ولا نكاد نجد واحدًا غير هولدين، ممن كانوا ينتمون إلى نفس هذه المدرسة، يجرؤ على أن يقول عن نفسه، دون أي تحفظ: «إنني راضٍ بالقول إنني هيجلي، وأود أن أسمى كذلك.»٦٠ وتميز هولدين، فضلًا عن ذلك بفهمٍ عميق للحياة والحضارة الألمانية عامة، وتعاطفٍ تامٍّ معها، وهو أمر لم يفُقْه فيه واحد من معاصريه الإنجليز، كما لم يقترب منه، في سعة نطاق معلوماته ورحابة ذهنه، إلا القلة القليلة. ولقد انصبَّ تبجيله الأعظم، إلى جانب هيجل، على حكمة «جوته» العميقة والواضحة في نفس الآن، فكان هذان — أعني الفيلسوف العظيم والشاعر العظيم — هما النجمين اللذين استرشد بهما في حياته. ومما يدل على ذلك أنه طبع صورتهما في كتابه «مسلك إلى الحقيقة». أما في الفلسفة على التخصيص فكان دينه الأعظم لأرسطو، من بعد هيجل، وكان دائمًا ينظر إلى تفكيره الخاص على أنه ينتمي إلى ذلك التراث المثالي العظيم الممتد من اليونانيين الأوائل، مارًّا بأفلاطون وأرسطو، إلى كانْت وهيجل ولوتسه. ولقد قابل لوتسه وهو طالب في جامعة جوتنجن، في السابعة عشرة من عمره؛ فضاعف هذا من اهتمامه بالفلسفة، وأثرت شخصيته الرائعة في نفسه تأثيرًا عميقًا ظل يلازمه طوال حياته، كما تعرف إلى سترلنج في إدنبرة قبل ذلك بقليل، وعرف هناك أيضًا كتابات جرين وكيرد التي أدت، كما شهد هو نفسه، «إلى دفعي في اتجاه المثالية.»٦١
ولقد استمدَّ هولدين، من أجل إثراء الفلسفة، عناصر من الحياة العملية والفن والدين والشعر والعلم، وهو أمر لا يُستغرَب على شخص كان له مثل هذا الذهن الواسع الأفق. وكانت تجمعه في ذلك قرابةٌ روحية بهيجل، بل إنه قد فاق هذا الأخير في اهتمامه البالغ بالعلوم الطبيعية، وإدماجه نتائجها في مذهبه؛ إذ كان هدفه هو تجديد الهيجلية بمساعدة ما توافر منذ عهد هيجل من معارفَ جديدة أكثر دقة. ولقد أظهر هذا الرجل، الذي كانت مشاغله عديدةً هائلة، حماسةً وتفهمًا يدعو إلى الدهشة، حتى في الأعوام التي أصبح فيها متقدمًا في السن، في التعمق في أسرار الفيزياء الحديثة، ولا سيما نظرية النسبية، وفي ربط مبادئها بالمشكلات الفلسفية. ولقد كانت النسبية فكرة من أفكاره المركزية، التي عرفها على أسسٍ فلسفيةٍ محضة قبل نشر نظرية أينشتين، في كتابه «مسلك إلى الحقيقة» (١٩٠٣-١٩٠٤). ولما تبيَّن له — فيما بعدُ — أن في نظرية أينشتين ما يبدو أنه تأييد لها؛ توسع فيها، ولا سيما في كتابه «عهد النسبية». فالحقيقة واحدة غير أن هذه الواحدية أو الكلية ليست واضحة للذهن البشري للوهلة الأولى؛ إذ لا يرى هذا الذهن إلا أوجهًا جزئية منها، ويتأمل هذه الأوجه في تركيبها الخاص وفي طريقة وجودها الخاصة، من وجهة نظر جزئية. على أن وجهة نظر عالم الفيزياء مختلفة عن وجهة نظر عالم البيولوجيا، وهذه مختلفة عن وجهة نظر الفيلسوف؛ لذلك كانت معرفة الفيزيائي جزئية شأنها شأن عالم الموضوعات التي يدرسها، ولم يكن في وسع مقولاته أن تمتد إلى العالم البيولوجي. والواقع أن كل وجهة نظر خاصة إنما هي نسبية فحسب إذا ما نُظِر إليها في ضوء الحقيقة الكلية. هذا بصورةٍ مجملة هو المبدأ العام والفلسفي البحت للنسبية، الذي لا يُعدُّ مبدأ أينشتين — في نظر هولدين — إلا تطبيقًا جزئيًّا له. ونستطيع أن نطلق على هذا الموقف اسم «العلاقية relationism»، تمييزًا له من الموقف الذي شاع أن يطلق عليه اسم النسبية relativism، والذي لا يجمعه به أي عنصرٍ مشترك.

ويقتضي مبدأ النسبية ارتباطًا وثيقًا بين الفلسفة والعلوم الخاصة، أي بين وجهة النظر الكلية ووجهات النظر الجزئية. وقد عبر هولدين عن هذا المطلب صراحةً في أول بحثٍ فلسفي كتبه (علاقة الفلسفة بالعلم)، وهو البحث الذي تكاد تظهر فيه جميع الأفكار الهامة التي قال بها فيما بعدُ. وليس قانون النسبية، في أساسه، إلا قول هيجل إن الحقيقة هي الكل، صحيح أن وجهات النظر الخاصة في العلوم المختلفة تظل محفوظة في المعرفة من حيث هي كلٌّ، ولكن ينبغي أن نضيف إلى ذلك أمرًا لا يقل عنه أهمية، هو أنها لا تجد لها مكانًا، ولا تدخل في علاقة بعضها مع البعض، إلا في هذا الكل. أما النظر إلى أي وجهٍ جزئي على أنه مطلق، وتجميد أي فرع للمعرفة على صورة يصبح معها مستقلًّا عن الفروع الأخرى وعن الكل، فأمر فيه تناقض مع مبدأ كلية الحقيقة ووحدة الواقع. فالواقع، في ماهيته النهائية، هو روح، لا تدرك خلال المراحل المتعددة للوجود والمعرفة إلا نفسها، ولا تكشف إلا ذاتها، خلال مرورها بعملية الإدراك الذاتي الديالكتيكية، فهي الكل العيني، وهي وحدة المعرفة والوجود، والحقيقة والواقع.

كل هذا ينطوي على فكرة الكل العيني، وهي الفكرة التي تلعب لدى هولدين دورًا يماثل في أهميته دورها لدى بقية الهيجليين. وهي تدل على ماهية الفكر، وتنطوي على العناصر المميزة لعامليه، وهما الكلي المحض والجزئي المحض، اللذان يكونان مجردَين تمامًا، إذا ما أُخِذا على حدة، شأنهما شأن الذاتي والموضوعي مأخوذَين على حدة. فعينية الفكر تعني إدماج أوجهه المنعزلة المجردة عمدًا، بحيث يتم التغلب على الانعزالية عن طريق فاعلية الفكر الدينامية أو الديالكتيكية، التي تتقدم من وجه إلى وجه حتى تبلغ الحقيقة في كل عيني يجمع بين هذه الأوجه كلها.

هكذا كانت أفكار هولدين الأساسية هيجلية كلها، ومن الواضح أن رأيه القائل إن كل ما هو حقيقي محتشد بالمعنى منذ البداية، وإن المعنى هو ماهية الحقيقة الواقعة، هذا الرأي يعبر مرةً أخرى عن قول هيجل بمعقولية الواقع، وهنا يصبح الواقع، مرةً أخرى، مقيدًا بعلاقته بالفكر، ولا يكون ممكنًا إلا داخل المعرفة. وتلك، من الوجهة الإبستمولوجية، هي فكرة هيجل القائلة إن الفكر هو الذي يصنع لنفسه حدوده، وهو الذي يستطيع أن يتجاوزها. وأخيرًا فإن هولدين — مثل هيجل — يرى أن الفلسفة، بوصفها وصول الروح المطلقة إلى الوعي الذاتي والتحقيق الذاتي، لا تكون ممكنةً إلا من حيث هي مذهب، وهو يضع أسس هذا المذهب في المجلد الثاني من «المسلك إلى الحقيقة»، فيكشف عن الأوجه المتعددة للروح في المراحل المتناهية والمطلقة من تطورها.

ويمكن وصف موقف هولدين، منظورًا إليه على نحوٍ شامل، بأنه مزج بين الهيجلية وبين نظرية النسبية، أو بعبارةٍ أصح: بأنه إثراء للأولى بالثانية. وهكذا كشفت الفلسفية الهيجلية عن خصبها الدائم في هذا التجديد المستقل لذاتها في ميدانٍ خاص للمعرفة غريب عنها تمامًا، كالفيزياء النظرية الجديدة؛ إذ إن نظرية أينشتين لم تكن، في نظر هولدين، إلا اعترافًا بأن مبدأ هيجل الأساسي هو المبدأ الصحيح لكل علم على الإطلاق، وبأن المعرفة التي كُشف النقاب عنها حديثًا إنما هي مثلٌ جديد يوضح الإطار المذهبي الذي وضعه هيجل ويزيده ثراءً.

تنتمي كتابات بيلي قبل الحرب العالمية الأولى إلى تراث الهيجلية الإنجليزية، بل لقد قيل عنه إنه كان «من نواحٍ عديدة، أشد الهيجليين الحاليين تمسكًا بأصول المذهب»،٦٣ غير أن كتاباته التالية، التي تأثرت بصدمة الحرب تسير في اتجاهٍ مخالف تمامًا؛ لذلك فإن أعماله الفلسفية تنقسم قسمَين متميزَين، بل متعارضَين إلى حدٍّ ما.

ولقد ربط بيلي اسمه باسم هيجل، لا بوصفه شارحًا ومترجمًا له فحسب — وذلك في كتابَين قيِّمَين ساهم بهما بنصيبٍ كبير في تشجيع الدراسات الهيجلية بإنجلترا — بل أيضًا في كتابه المذهبي الأول «عرض عام للتركيب المثالي للتجربة». فهذا الكتاب، وإن يكن مستقلًّا فيما عرضه من التفاصيل، لا يعدو في أساسه أن يكون تلخيصًا — بتصرف — للأفكار الرئيسية في كتاب «ظاهريات الروح» لهيجل، وهو الكتاب الذي عدَّه بيلي «أعظم ما أنتجه الفكر المثالي في الفلسفة الحديثة». وهو يعرض — معتمدًا على كتاب هيجل اعتمادًا كبيرًا — الطريقة التي ترتفع بها التجربة البشرية من مرحلة إلى أخرى، مكونة تركيباتٍ جديدةً أخصب في كل مرحلة أعلى، حتى تصل — في مستوى الوعي الذاتي — إلى وحدة الذات والموضوع، التي تعلو فيها المستويات الدنيا، من إدراك وفهم، على ذاتها وتصل إلى أعلى وحدة لها. وهنا يعطي بيلي للديالكتيك الهيجلي، الذي كان المذهب الهيجلي الإنجليزي يتجاهله عادة، حقه كاملًا، وتظهر «الفكرة»، لا على أنها مبدأٌ متحجرٌ ثابت، كما هي عند جرين وبرادلي وبوزانكيت وغيرهم، بل على أنها عمليةٌ حية تتقدم بطريقة ديالكتيكية. على أن هذا التجديد الذي اكتفى فيها بمحاكاة تفكير هيجل قد تأخر عن أوانه جيلًا، بمعنى أنه أتى بعد أن كانت الحركة الهيجلية في إنجلترا قد تجاوزت بكثير مرحلة التقيُّد الحرفي بهيجل، وأصبح لها كيانها المستقل.

ولا يكاد يوجد أي ارتباطٍ فكري بين المثالية المطلقة التي ظهرت في كتابات بيلي الأولى وبين الموقف المختلف تمامًا، الذي نصادفه في كتاب له ظهر بعد الحرب الأولى، هو «دراسات في الطبيعة البشرية». ولا شك أن السبب الرئيسي لهذا التغيير الملحوظ، هو تلك التجربة التي أحس فيها إحساسًا عميقًا بمأساة الحرب العالمية الأولى وعدم وجود داعٍ لها، وهي المأساة التي أدت، بما ولدته من اضطرابٍ شامل ودمارٍ هائل في العلاقات البشرية، إلى زعزعةٍ تامة لإيمانه بالعقل الهيجلي الذي يحكم العالم، بحيث لم يعد يقبل بعد ذلك أي تبرير؛ لذلك تحول بيلي إلى البحث في الطبيعة البشرية. ويمكننا أن نقول إنه انتقل رجوعًا من هيجل إلى هيوم؛ إذ أصبح يجعل من الفردية العينية للإنسان موضوعًا رئيسيًّا لاهتمامه الفلسفي. ولقد ظهرت بالفعل نقاط اتصال بينه وبين هيوم، من أمثلتها: الاهتمام البالغ بتأكيد العوامل غير العقلية في التفكير والمعرفة، والنظر إلى جميع المشكلات الفلسفية بطريقة كلها تركُّز حول الإنسان وتشبُّه به. ولم تعد الفلسفة عند بيلي — حينئذٍ — طلبًا للحقيقة الكلية أو وصول العقل إلى الوعي بذاته، وإنما أصبحت مسألةً شخصيةً محضة لكل مفكر، تتجه أساسًا إلى إرضاء حاجاته النظرية الفردية، فهي السعي إلى بلوغ أقصى حد من الرضا يمكن أن يجلبه التفكير للفرد. والغاية الوحيدة للحقيقة هي الوصول بالذهن الإنساني إلى الانسجام والطمأنينة. مثل هذه التعاليم، التي يظهر فيها، بالإضافة إلى ما سبق، تيارٌ برجماتيٌّ واضح، تستتبع صبغ الفكر بصبغةٍ ذاتيةٍ فرديةٍ نفسانية، أي إنها تقلب تمامًا اتجاه المثالية المطلقة الذي دافع عنه بيلي من قبل عن اقتناعٍ كامل. وبالمثل أصبح ينظر إلى العلم نظرةً تشبيهية بالإنسان، بوصفه اختراعًا بشريًّا يعبر عن نشاطٍ بشري تدفعه حاجةٌ مُلحَّة. وهكذا فإن هذه المرحلة الأخيرة من مراحل تعليمه، التي أحرق فيها كل جسور ماضيه الفلسفي تقريبًا، قد استقرت أخيرًا في تراث الفكر القومي الإنجليزي. وتلك هي الحالة الوحيدة لمثل هذا التطور، وهي حالة لم تكن راجعة إلى اعتباراتٍ باطنة، وإنما إلى ظروفٍ خارجية.

لا يسعنا، إذا شئنا أن يكتمل العرض الذي نقدمه، أن نتجاهل ج. أ. سمث، الذي اختتم به فرع الهيجليين، ولقد تلقى سمث تعليمه، شأنه شأن الكثيرين من السابقين عليه، في أكسفورد، وفي الكلية التي ظهرت فيها الحركة، حيث اتصل شخصيًّا، منذ وقتٍ مبكر، بممثليها البارزين مثل جويت وإدوارد كيرد ونتلشيب، الذي كان المشرف عليه في الكلية. كذلك استمد رصيدًا من الأفكار الهيجلية من برادلي وبوزانكيت، وإن كان ذلك بصورةٍ أقل تمسكًا بالأصل، على أنه عكف في الوقت ذاته، اقتداءً منه بالتراث السائد في أكسفورد، على دراسة الكتَّاب اليونانيين، فكرَّس أبحاثًا طويلةً عميقة لأرسطو، وظل سنواتٍ متعددة يعدُّ واحدًا من أبرز الباحثين في أرسطو بإنجلترا، وشارك بهذه الصفة في نشر ترجمة أكسفورد الهامة لأرسطو، التي خُتِمت في عام ١٩٣١ بترجمته الخاصة لكتاب «النفس». ولقد كان إتمام هذا العمل، وكذلك تأثيره العميق بوصفه معلمًا، هما أهم ما ساهم به في ميدان البحث الفلسفي.

أما فلسفته الخاصة فليست لها أهميةٌ كبيرة إذا ما قورنت بمساهماته السابقة، كما أن قلة كتاباته تجعل من الصعب تقديم صورةٍ دقيقة لها. ولقد مرت هذه الفلسفة بتقلبات وتغيرات كانت أكثر من أن تتيح لنا إدراجها تحت أية تسميةٍ واحدة، بل إن افتقارها إلى الثبات هو بالفعل أبرز سماتها، وقد ألقى سمث ذاته ضوءًا واضحًا على هذه المسألة في عرضه الشخصي لتطوره الفلسفي في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، فهو هنا يقدم اعترافًا غريبًا، في صراحة تصل إلى حد السذاجة، فيقول إنه لم يدرك بالضرورة التفكير في وضع مذهبٍ فلسفي إلا عندما عُيِّن لشغل كرسي الأستاذية في الفلسفة، بل لشغل واحد من أهم كراسي الأستاذية في الجامعات الإنجليزية، ولقد أعانته على هذا التفكير المذهبي صدفةٌ موفَّقة، هي عثوره على مؤلفات كروتشه Croce في أثناء إقامة له في نابولي، ومنذ ذلك الحين شعر بأن واجبه يقضي عليه بالارتباط بمذهب الهيجليين الإيطاليين (أي بمذهب جنتيلي Gentile فضلًا عن كروتشه) والعمل على كسب اعتراف الإنجليزية. وقد أسفرت جهوده، في السنوات التي أعقبت الحرب الأولى مباشرةً، عن موجةٍ قوية من الإعجاب بكروتشه،٦٥ ولا سيما في أكسفورد (حيث اشتد هذا الإعجاب بفضل زيارة قام بها كروتشه ذاته). ولكن هذه الموجة تلاشت بسرعة، وقد حدد موقفه، في كثير من كتاباته، بأنه ضرب من مثالية كروتشه، مع أخذ أفكار معينة عن جنتيلي، وبذلك وجد لنفسه — مؤقتًا على الأقل — ما يمكن أن يقال إنه موقف خاص به.
والفكرة الرئيسية في هذه المثالية، التي عرضها أساسًا في بحثه «الفلسفة بوصفها نموًّا لفكرة الوعي الذاتي وحقيقته»، تتمثل في قوله بالطابع التاريخي للواقع، فالواقع في ماهيته، تبعًا لهذا الرأي، ليس سكونيًّا ثابتًا، وإنما هو حركيٌّ متغير؛ فله طابع العملية، وهو حادثٌ أصيل، وهو تاريخي في جميع أجزائه وفي كل تعبير عنه. على أن تاريخيته لا زمانية، بمعنى أنها هي التحقق الأعلى للزمان، أي الأزلية. وفضلًا عن ذلك فهو روحي تمامًا، ولا يوجد خارجه شيءٌ روحي، وبالتالي لا يوجد شيءٌ حقيقي أو واقعي بالمعنى الكامل. أما ما نطلق عليه اسم «المادة» أو «الطبيعة» فليس حقيقيًّا، ولو شئنا أن نعبر عن الواقع بطريقةٍ إيجابية، لقلنا إنه فاعلية خالقة لذاتها، ولما كانت هذه الفاعلية روحية، فإنها تعبر عن نفسها على أكمل وأفضل نحو في الوعي الذاتي. ومن هنا فإن النشاط المميز للوعي الذاتي هو الفلسفة، مفهومة على أنها النمو الذاتي للروح، والواقع كله يدخل في نطاقها، وهي — من حيث المبدأ على الأقل — قادرة على التغلغل فيه. وهنا نجده مرةً أخرى ينتفع بفكرةٍ هيجلية هي فكرة معقولية الواقع، ويوجهها في هذه الحالة، في رد فعلٍ عنيف، ضد المذهب المطلق عند برادلي وضد كل مذهب ذاتي أو برجماتي (ولو أن إغراءات البرجماتية، التي أسماها باللافلسفة un-Philosophy،٦٦ كانت أحيانًا أقوى من أن يستطيع مقاومتها)، ففلسفة سمث هي مثاليةٌ موضوعيةٌ ديالكتيكية بالمعنى الهيجلي، تظهر فيها تلك التنوعات المميزة التي أدخلها الهيجليون الإيطاليون المحدثون على مذهب هيجل.

(٤) القسم الرابع: فلاسفة المثالية المطلقة

لا يفوق برادلي في أهمية النصيب الذي ساهم به في عرض المذهب المثالي ونشره في إنجلترا، سوى جرين وكيرد، غير أنه يُعدُّ المركز الرئيسي لمرحلةٍ جديدة في هذه الحركة. فكل ما تم حتى الآن يعدُّ، بدرجاتٍ متفاوتة، مجرد جهدٍ تمهيدي، هو عرض لعالم الأفكار الجديد في صورة ترجمة وتفسير وعرض ومحاكاة ونقد. وإذا استثنينا جرين، فإنا لا نصادف حالةً واحدة تستحق الاهتمام صيغت فيها المادة الجديدة وعُرضت بطريقةٍ مستقلة. أما عند برادلي، فقد شبَّ المذهب المثالي الإنجليزي عن الطوق، وبدأ يسلك طريقًا خاصًّا به. ولقد كان برادلي أول من تناول هذا المذهب بطريقةٍ خلاقة، وأول من جرؤ على أن يضع بذور مذهبٍ خاص به في الأرض التي فتحت حديثًا، بل لقد كان واحدًا من القلائل من عظماء بناة المذاهب، وواحدًا من أجرأ المفكرين التأمليين الذين أنجبتهم إنجلترا ومن أكثرهم أصالة. وهو يحتل في الفكر الإنجليزي الحديث منزلةً رفيعةً، وربما أرفع منزلة، على الرغم من أن أعماله الفلسفية ما زالت تثير نزاعًا شديدًا حاميًا، وربما ستظل تثيره طويلًا، فلا يكاد يوجد مفكرٌ آخر ساهم بمثل ما ساهم به في إثارة الاهتمام الأصيل بالفلسفة.

ولقد كان كل النجاح الهائل الذي أحرزته فلسفة برادلي يرجع إلى جهوده من حيث هو كاتب فحسب؛ ذلك لأنه، على الرغم من أنه ظل زميلًا في كلية بأكسفورد لمدة تزيد على نصف قرن، لم يتولَّ التدريس أبدًا، وإنما عاش في كليته أشبه ما يكون بالناسك، لا يصل إليه إلا أصدقاء قلائل، عاكفًا على استخلاص أفكاره، وكان اعتلال صحته هو الذي فرض عليه هذه العزلة. ولقد تجلَّى التقدير الرفيع الذي كان يتمتع به خارج الأوساط الفلسفية وداخلها، تجلى ذلك التقدير على الملأ في تلك المنحة الملكية التي نالها قبل وفاته بقليل، وهي وسام الاستحقاق Order of Merit، الذي كان برادلي أول فيلسوف يناله. وقد كرَّمه إخوانه من الفلاسفة في ذلك الإهداء الحافل بالمعاني الذي صدر به المجلد الثاني من كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، وهو: «إلى ف. ﻫ. برادلي، حامل وسام الاستحقاق، الذي دانت له الفلسفة الإنجليزية بالقوة الدافعة التي أضفت عليها حياةً متجددة في عصرنا.»
ونستطيع أن نوضح مكانته في المثالية الإنجليزية إذا لاحظنا أولًا أنه ظل تقريبًا غير متأثر بكانت على الإطلاق، وإنما كان يدين لهيجل بكل ما أتاه من الخارج تقريبًا، على أن علاقته بهذا الأخير كانت دائمًا موضوع خلاف، وكثيرًا ما كان هو ذاته يرفض أن يسمى هيجليًّا، على أساس أنه لا يعرف بأي شيء كان يدين لهيجل، وإلى أي مدًى كان دينه هذا. ومن الأمثلة الدالة على ذلك، هامش في أحد كتبه اعترف فيه بدَينه لهيجل، ثم أضاف: «ولكن ينبغي أن يذكر القارئ أنني أنا وحدي المسئول عما أقول.»٦٧ وفي وسعنا، إذا تأملنا الأمر من وجهة نظر عامة إلى أقصى حد، أن نقول إنه تلقى من هيجل القوة الدافعة الأولى للتفكير المستقل، وإن التفكير الهيجلي يتغلغل بعمق في فلسفته، في مجموعها وتفاصيلها، غير أن كل ما أخذه عن هيجل أو غيره قد صُهِرَ في بوتقة ذهنه الخاص وأضيفت عليه صورةٌ مميزة. ومن المؤكد أن تأثير هيجل قد ضعف مع نمو مذهب برادلي ونضوجه.
كذلك ذهب البعض إلى وجود بعض أفكارٍ رئيسيةٍ اسبينوزية لديه، ولهذا الرأي شيء من الصحة. وقد حبذ برادلي ذاته فلسفة هربارت Herbart بوصفها ترياقًا مفيدًا ضد هيجل، وتدل بعض أجزاء مذهبه الميتافيزيقي على أنه قد عمل بنصيحته الخاصة هذه. كذلك كانت هناك بعض مظاهر التقارب بينه وبين شلنج، كما كان يبدي نوعًا من الإيثار لشوبنهور، وإن لم يكن قد أخذ عنه إلا قليلًا جدًّا من الأفكار. وهناك فلاسفةٌ ألمان آخرون أثروا فيه في ميادينَ خاصة، مثل لوتسه وسيجارث في المنطق، وفاتكه Vatke في الأخلاق، وفولكمان Volkmann في علم النفس.
ولكن لم يكن لواحد من هؤلاء تأثيرٌ حاسم بأية حال. فلسنا نملك إلا أن نؤكد أن برادلي هو الذي صاغ فلسفته الخاصة، التي انبثقت عن أصالةٍ فكريةٍ حقيقية، ونمت ونضجت في جوها الخاص. على الرغم من رفضه المتواضع لكل وصف له بالأصالة، وهو رفض قد يراه المرء متكلَّفًا في بعض الأحيان، فإنا لا نملك إلا أن نعدَّه مفكرًا مستقلًّا إلى أبعد حد، بل مفكرًا هوائيًّا عنيدًا. وهذا واضح في كل سطر كتبه، وفي جمود أسلوبه وخشونته، وفي طريقته الجافة التي تكاد تكون قاسيةً عنيفة، في التخلص من خصومه، وفي الطريقة التي ألَّف بها كتبه، وهي الطريقة التي لا يحس معها المرء أن هذه الكتب عرضٌ هادئٌ موضوعيٌّ محكم، وإنما يشعر بأن الكاتب يخاطب ذاته، أو يجري مع القارئ محادثةً منطلقة بلا قيود، تكون أحيانًا بسيطة وصريحة إلى أقصى حد، وأحيانًا أخرى تتخللها دعاباتٌ جافةٌ خفيفة الوقع أو لاذعة، واستطراداتٌ تهكميةٌ ساخرة، واندفاعاتٌ ثائرة، وسخرية من خصومه أو من نفسه. ولقد كان يحب المواقف الممتنعة، ويؤثر غير المألوف، وينتقل بين الأضداد ويطرب للمتناقضات، ويحلق عاليًا، ولكنه نادرًا ما كان يدع أقدامه تترك الأرض الصلبة. وكان سفسطائيًّا شَكَّاكًا توكيديًّا صوفيًّا في آنٍ واحد. ومن هنا كانت فلسفته تتسم بكل ما في الحياة من تنوُّع وتلوُّن، وبما فيها من فردية لا تتكرر أيضًا، إذ إن أي تقليد لها لا يمكنه أن يحتفظ بقوامها ومذاقها المميز. وفضلًا عن ذلك فقد كان تفكيره مرنًا إلى حدٍّ غير عادي، فكان يؤثر المواقف الانتقالية على النتائج النهائية، ويعمل على الدوام على صهر هذه المواقف وإعادة تشكيلها في ديالكتيك ذهنه غير المستقر. ويتميز فكره كله بقدرٍ غير قليل من نزعة الشك، ولكنها ليست نزعة الشك المميزة لذهنٍ هدام، بل لذهنٍ حيٍّ مصقول إلى حدٍّ بعيد، يعلو بإرادته على الأشياء ويتمتع باللهو معها، بدلًا من أن يقبض عليها ويكتفي بحقيقةٍ واحدة لا يمكن مع ذلك أن تكون نهائية. وإنه ليُذكِّرنا كثيرًا بطريقة هيوم الاستخفافية، المفتقرة إلى الشعور بالمسئولية، في معالجة مشكلاته. ولم يكن لبرادلي اهتمامٌ كبير بالديالكتيك الهيجلي منظورًا إليه على أنه منهجٌ فلسفيٌّ دقيق، ولكنه يطبقه على نحوٍ ضمني في طريقته المرنة في الانتقال على الدوام من موقف إلى آخر. ويمكننا أن نسمي طريقته ديالكتيكية، طالما أننا نعني بذلك ارتقاء ذهنٍ أشد قلقًا من أن يقنع بنتائجَ يقينيةٍ مزعومة، إلى مستويات للفكر تزداد علوًّا. فلذة البحث والكشف أعظم عند برادلي من لذة الامتلاك، «فعلينا — في الفلسفة — ألا نسعى إلى الرضا المطلق … فالفلسفة ليست إلا ممارسة جانبٍ واحد من طبيعتنا والتمتع به.»٦٨ والنوع الوحيد المشروع من الشك هو التخلي عن أمل الوصول في أي وقت إلى امتلاكٍ نهائي للحقيقة. أما ذلك الذي يطلق عليه عادةً اسم نزعة الشك فإنه يسميه ﺑالقطعية الانتحارية Suicidal Dogmatism.
غير أن برادلي كثيرًا ما كان يعبر، بنفس المرونة والحيوية التي أبرزنا أهميتها، عن موقفٍ مخالف تمامًا، فالحقيقة «هي ما يرضي العقل Intellect» و«الفلسفة ترمي إلى الرضاء العقلي، أي بعبارةٍ أخرى إلى الحقيقة النهائية.»٦٩ ذلك هو الموقف الذي استرشد به في تأملاته الميتافيزيقية، أعني الحاجة إلى الأمان والنظام، والسعي النظري إلى التغلب على كل ما هو مختلطٌ متناقض، بغية الوصول إلى نظرةٍ منسجمة إلى العالم يجد الذهن فيها طمأنينة. ويبدو لي أن هذا هو الأساس العاطفي لميتافيزيقا برادلي الرفيعة في «المطلق»، فهو يحاول بحماسةٍ صوفيةٍ خالصة، أن يفهم المطلق ويتأمله بوصفه مستقر النفس، وذلك بخشوع فيه تقديس، وباستسلامٍ خائر إلى حدٍّ ما، يقف على نقيض ذلك الشك الجريء المرن الذي بينَّا أنه يمثل الوجه الآخر من طبيعته.

وفي ضوء ما سبق ينبغي لنا أن نتأمل العداء المرير الذي حُمِل به البرجماتيون على مذهب برادلي وسخروا به منه سخريةً لاذعة، فأصل النزاع إنما هو الاختلاف الكامل في المزاج والموقف الكامن من وراء كلٍّ من الفلسفتَين، أعني التقابل بين العقلية المغامرة المناضلة التي تحب أن تجوس خلال العالم وتغيره، وبين العقلية الخائرة الحريصة على الطمأنينة والهدوء، والتي تغلق نفسها في مذهب وتلتزم الطريق الواسع المؤدي إلى الحقيقة المطلقة. ولا شك في أن الاختلاف أساسي، وأن الخلاف الطويل المرير بين برادلي وشيلر ينبغي أن يُعدَّ تعبيرًا عن هذا الاختلاف.

وسوف نتناول أعمال برادلي الفلسفية حسب الترتيب الزمني لتطورها، فنتحدث أولًا عن مذهبه الأخلاقي ثم منطقه، وأخيرًا عن ميتافيزيقاه. ولقد كان كتابه في الأخلاق من أوائل مؤلفات المدرسة المثالية، فظهر بعد وقتٍ قصير من نشر مقدمتَي جرين إلى هيوم، وترجمة ولاس للمنطق الأصغر عند هيجل، وقبل وقتٍ قصير من ظهور الكتاب الأول لإدوارد كيرد عن كانت. ولقد كان ذلك الكتاب الذي سبق «المقدمة Prolegomena» لجرين بسبع سنوات، أول مؤلَّف يقوم بمهمة الواسطة لنقل أخلاق المثالية الألمانية إلى الإنجليز، وبذلك كان من المعالم الأساسية في المجرى التاريخي للفلسفة الأخلاقية الإنجليزية. وفي هذا كتب بوزانكيت، بعد سنواتٍ متعددة، يقول: «لقد كان نشر ف. ﻫ. برادلي لكتابه «دراسات أخلاقية» — في نظر الكثيرين منا — حادثًا غيَّر مجرى تاريخ ذلك العلم.»٧٠

ففي مذهب برادلي الأخلاقي تجد نزعته الهيجلية أوضح وأصدق تعبير عنها، وتتجلَّى بأوضح صورة تلك التجربة الشخصية العنيفة التي تعلق بها المذهب الهيجلي، وذلك على الرغم من قلة استخدامه لمصطلح هيجل. وهنا أيضًا يشير في فقرةٍ مأثورة إلى الفلسفة الألمانية على أنها الفلسفة الصحيحة، والوحيدة القادرة على إنقاذ الفكر الإنجليزي من عزلته الخطرة. وهنا كذلك نجد أول نقدٍ هدَّام، بأسلحةٍ هيجلية، للفلسفات الأخلاقية التقليدية البالية التي قالت بها مذاهب المنفعة واللذة والتجريبية بوجهٍ عام. وأخيرًا فعلى الرغم من كل اعتماده على هيجل وغيره من الألمان في هذا الكتاب المبكر في الأخلاق، فإنه يظهر فيه مفكرًا مستقلًّا من الطراز الأول، قُدِّرَ له أن يطوِّر تلك القوة الدافعة الجديدة التي تلقَّاها من الآخرين ويسير بها إلى الأمام.

ويرد برادلي أن الغاية الأخلاقية هي قبل كل شيء اكتمال الذات وتحققها، ولكن ما هي هذه الذات؟ إنها قطعًا ليست هي الذات البشرية، التي هي مجرد مجموعة أو سلسلة من العواطف أو الإرادات أو الإحساسات الجزئية، وإنما هي تبتدئ منذ البداية بوصفها كلًّا واحدًا أو منهجيًّا، وحقيقةً كليةً عينية، تعد أجزاؤها المتعددة أو المتلاحقة مجرد مراحل أو عوامل بالنسبة إليها. فالذات التي تعرفها الأخلاق ذاتٌ أعلى، ذاتٌ كلية تعلو على هذه الذات أو تلك، على ذاتي أو ذاتك أو أية ذاتٍ أخرى؛ ومن هنا فإن القاعدة الأخلاقية: «حقق ذاتك بوصفك كلًّا لا متناهيًا» تعني «حقق ذاتك بوصفك عضوًا واعيًا بنفسه في كل لا متناهٍ، عن طريق تحقيق هذا الكل في ذاتك.»٧١ وباتخاذ هذا الموقف يبين برادلي كيف أن الغاية الأخلاقية لمذهب اللذة وهي تحصيل اللذة لذاتها، تعجز عن التعبير عن المعنى الحقيقي للأخلاقية، وأن موقفه ليمثل تخلصًا كلاسيكيًّا من كل الأخلاق الضحلة التي تعبر عنها فكرة اللذة والسعادة والمنفعة، كما يمثلها مل وسبنسر وستيفن وسدجويك (وقد هاجم برادلي هذا الأخير في كتيبٍ خاص نُشِر بعد عام من ظهور كتابه «دراسات أخلاقية») كذلك رفض برادلي الغاية الأخلاقية المقابلة، وهي أداء الواجب لذاته، على أساس أنها بدورها تنطوي على تحيزٍ ضيق الأفق في الجانب المضاد؛ إذ إنها تكتفي بأن تستعيض عن الجزئي المحض بالكلي المحض، وتأتي بمبدأٍ مجردٍ شكلي تمامًا، لا يمكن أن يتخذ مرشدًا في السلوك، فلا جدوى من أن يقال للمرء: إن عليه أن يفعل ما هو خير لأجل الخير، إذا لم يحدد له المضمون العيني للخير. وواضح أن برادلي هنا يهاجم النزعة الشكلية الصارمة في الأخلاق الكانتية، وإن يكن يعترف بأن النظرية التي ينتقدها ليست نظرية قيل بها فعلًا، بقدر ما هي نظرية وُضِعت لغرض الجدل. ويكاد نقده لهذا المذهب الأخلاقي يماثل تمامًا نقد هيجل له.
هاتان النظريتان اللتان تتحيَّز كلٌّ منهما إلى جانبٍ واحد، هو اللذة لذاتها أو الواجب لذاته، ينبغي تجاوزهما من وجهة نظر أعلى يسميها برادلي بوجهة نظر «مركزي my station وواجباته». ولوجهة النظر هذه، في أساسها، معنًى يعادل معنى قاعدة تحقيق الذات، إذ إن الإنسان، الذي لا يمكن أن يكون مجرد فردٍ منعزل عن المجتمع ومستقلٍّ عنه، فمثل هذا الفرد تجريد لا معنى له، وإنما هو كائنٌ اجتماعي؛ هذا الإنسان لا يستطيع أن يحقق ذاته الحقة، أو الإرادة الخيرة أو الاجتماعية التي ينبغي تمييزها من ذاته الشخصية البحتة، الباحثة عن لذَّاتها فحسب، إلا عندما يكون قد اهتدى إلى مركزه وواجباته، أي وظيفته داخل كلٍّ اجتماعي. وهنا يحطم برادلي أساس المذهب الفردي الأخلاقي الذي يلازم الفلسفة الأخلاقية الإنجليزية من لوك إلى سبنسر، وهو يتخلص في الوقت ذاته من الثنائية الكانتية التي تحفر هوَّة لا تعبر بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. فالواجب الذي يفرضه على مركزي لا يمكن أن يكون عملية لا تنتهي يقترن فيها «الوجوب Ought» الدائم بتكرار لا ينتهي لكلمة «ليس بعد»، وإنما ينبغي أن يتحقق هنا والآن. فمن الواجب أن يكون المثل الأخلاقي الأعلى قابلًا للتحقق في المجال الزمني للوجود، وفي ذلك الرضاء الناجم عن التحقق الفعلي للواجب، وبفضل هذا القضاء على التوتر بين الوجوب وبين الوجود، يجعل برادلي للحياة الأخلاقية جوًّا أرقَّ وأرحم، يقترن فيه الحب بالواجب ويُعيِّنه.
فما هي الغاية الأخلاقية إذن، إن لم تكن هي المثل الأعلى القصي الذي لا يُبْلَغ، الذي قالت به الأخلاق الكانتية؟ إن برادلي، بقدر ما يهتدي إلى معيار السلوك الأخلاقي في المجتمع الذي يعيش فيه المرء، وفي عرفه وقوانينه ونظمه، ويرى أنه ليس من المرغوب فيه أن يسعى المرء إلى تجاوزه، بهذا القدر يكون برادلي قد تمسك بتراث بلاده، الذي يستبعد السيادة المطلقة للفرد، ويخضعه بشدة للمعايير الأخلاقية للمجتمع، ولهذا السبب نفسه يرفض برادلي أخلاق الإنسان الأرقى، ومعها أخلاق المجتمع الفاضل Utopian بوصفها ابتداعاتٍ ذهنية لا يمكن أن تكون لها سلطة على السلوك العملي في الحياة اليومية.

على أن برادلي ينتقل، من بعد هذه الأخلاق الفعلية الواقعية، إلى تشييد «أخلاق مثالية»، أي نظام أخلاقي من مستوًى أعلى، لا تعود فيه الذات حبيسة بيئتها الاجتماعية. وهو في هذه المحاولة، التي يتخلى فيها جزئيًّا عن الموقف الذي بلغه من قبلُ، يقدم إلينا لمحة لعالم القيم لا يكون من الضروري فيه إقامة علاقةٍ مباشرة مع البيئة الاجتماعية، وإنما الواجب أن تطلب قيمة لذاتها، شأنها شأن سعينا إلى الحق والجمال. وهكذا فإن برادلي يعترف هنا بمجال للكمال غير الاجتماعي، ومع ذلك فلا يمكن أن يحلق هذا المستوى الأعلى في الهواء فوق المستوى الأدنى، وإنما ينبغي أن تكون جذوره متأصلة في هذا الأخير وأن ينمو منه، فالأخلاق المثالية ترتكز على الأخلاق الاجتماعية. وهكذا ينسجم تفكير برادلي مع حساسية الشعب الذي ينتمي إليه، فهو يجسد فكرة «الجنتلمان» الإنجليزي، وهي فكرةٌ لا تحتمل خروجًا عن الحواجز الاجتماعية والقومية، وهو في هذه النقطة أقرب إلى هيوم بكثير منه إلى هيجل.

وإذا نظر برادلي إلى الغاية الأخلاقية على أنها شيء ينبغي تحقيقه في الواقع الحالي، فقد تجاوز ثنائية كانْت بطريقةٍ هيجلية، ولكن يتضح بعد ذلك أن هذا الموقف الرفيع ذاته إنما هو موقفٌ تمهيدي فحسب، يلقي به برادلي بدوره في دوامةٍ ديالكتيكة، الذي لا يتوقف عند حد؛ ذلك لأن الثنائية القديمة، التي سبق حلها، بين الوجوب والوجود، تطل برأسها من جديد عندما يتضح أن الفكرة الأخلاقية لا يمكن أبدًا أن تتحقق تحققًا كاملًا. ففكرة الوجوب أو الإلزام تنطوي على تناقض؛ إذ إنه حيث لا يوجد نقص لا يوجد إلزام، وحيث لا يوجد إلزام لا توجد أخلاقية، ولا يمكن أن يوجد حلٌّ مباشر لهذه المشكلة القائلة بوجود تباين بين الأخلاقي، بوصفه شيئًا متحققًا بالفعل أو قابلًا للتحقق، وبينه من حيث هو غايةٌ مثالية مرغوب فيها. ومعنى ذلك أن من واجبنا، إذا شئنا الخلاص من هذه المشكلة، أن نترك مجال الأخلاق ونفكر قدمًا في مجال يعلو على الأخلاق، لا تعود فيه فكرة الإلزام حاضرة. هذا المجال الأعلى هو الدين، الذي هو تحقق الأخلاقية أو اكتمالها الرفيع، بمعنى أن الذات المثالية، التي تظل دائمًا، بالنسبة إلى الأخلاق، شيئًا ينبغي أن تكونه، تتحقق بالفعل في الدين، هذه الأفكار تفضي إلى تلك التأملات التي لم ينتقل برادلي إليها إلا عند صياغته لمذهبه الميتافيزيقي بعد سنوات عدة.

وسوف نرى، عندما نعرض لهذا المذهب، أن الخير الذي يلحقه تناقضٌ ذاتي لا يحقُّ له ادعاء الواقعية بالمعنى الدقيق، وإنما ينتمي فقط إلى عالم الظواهر غير الواقعي، وعلى ذلك فحتى حين يتجاوز هذا الخير ذاته في الدين، فإنه لا يجد في ذلك إلا حلًّا أو تحققًا تمهيديًّا. وفي «المطلق» وحده بوصفه الواقع الحقيقي، يصل الخير — ومعه ضده أي الشر — إلى مستقره النهائي، بعد أن يفقد طبيعته الخاصة في تحولٍ كامل. وهكذا فإن اكتمال الأخلاق عند برادلي إنما يكون في ميتافيزيقا المطلق عنده.

ولقد أحدث برادلي، بكتابه «مبادئ المنطق» (١٨٨٣)، انقلابًا في المنطق يوازي ذلك الذي أحدثه في الأخلاق بكتابه «دراسات أخلاقية»؛ إذ إنه زعزع في هذا الميدان بدوره، سيطرة التجريبيين التي كانت كاملة تقريبًا، وفتح باب فروعٍ جديدة للبحث في إنجلترا. ولقد وصف وليم جيمس — وهو خصم برادلي — كتابه الأخير هذا، مثلما وصف بوزانكيت كتابه الأول، بأنه قد «غيَّر مجرى تاريخ ذلك العلم.» وقال: «لقد فرغت لتوِّي من قراءة «المنطق» لبرادلي، باهتمام وحماسة لا حدَّ لهما … ومن المؤكد أنه من الكتب التي غيرت مجرى تاريخ الفلسفة الإنجليزية، ولزام على التجريبيين وعلى القائلين بالمعقولية الشاملة معًا أن يسوُّوا حساباتهم معه، فهو يخرج عن كل الاتجاهات التقليدية.»٧٢
وعلى الرغم من أن ظل هيجل كان يختفي وراء منطق برادلي بدوره — ولكن من مسافةٍ أبعد وبوضوحٍ أقل — فقد اعترف برادلي بأنه كان مدينًا للوتسه أولًا، ومن بعده لزيجفارث وغيره من المناطقة الألمان؛ فبفضلهم استطاع أن يردَّ بحجةٍ قويةٍ مضادة على النزعة النفسية لدى المناطقة التجريبيين الإنجليز. وكانت مهمته الأولى هي إعمال معول الهدم في أسس هذه النزعة بكشف زيف الأساس النفسي للمنطق التجريبي، أعني فكرة الترابط، التي تكون المعرفة بالنسبة إليها ربطًا بين عناصرَ عقليةٍ لها طابعٌ فرديٌّ مُفكَّك. فهو هنا يتساءل: كيف يتسنَّى لواقعةٍ منعزلة لا تكاد تظهر حتى تختفي، أن تكون هي مناسبة عودة ظهور شيء كان ماثلًا (a presentation)؟ وما هو نوع العناصر التي تربط معًا في الإدراك الحسي على نحو يجعل عودة ظهور أحدها في الوعي مؤديًا إلى الإتيان معه بالباقين؟ إن ما يأتي من جديد في الوعي لا يمكن أن يكون هو نفس ما كان فيه من قبلُ، وكل عنصر في الذهن يحمل في ذاته نوعًا من الجدة؛ إذ إنه يدخل في علاقاتٍ جديدة، وبذلك يتغير طابعه، حتى لو كان المظهر الوحيد لذلك التغير هو تلك النقطة الزمانية الجديدة التي عاد فيها إلى الظهور. أما ارتباط محتويات العناصر الماثلة (presentations) فينبغي أن يرتكز على شيءٍ مشترك أو متماثل في هذه المحتويات، ولا يمكن أن يحدث بين جزئياتٍ خالصةٍ زائلة. ومن هنا وضع برادلي قضيته القائلة إن كل ارتباط إنما يحدث بين كليات، وقد اعترف برادلي بأنه كان يدين لهيجل بهذه الفكرة الهامة، الكفيلة بهدم كل المذهب الترابطي ابتداءً من هارتلي وهيوم حتى مل «وبين»، كما اعترف بأنها هي التي أخذت بيده من الظلمات إلى النور. والواقع أننا لا نكاد نستطيع الآن، بعد أن تعودنا تمامًا على هذه الفكرة بفضل جهود المفكرين الهيجليين خلال عشرات السنين، أن ندرك دلالتها بالنسبة إلى المرحلة التي كان علم النفس والمنطق الإنجليزيين قد بلغاها عندئذٍ. ويكفي أن برادلي، عندما نشر الطبعة الثانية من «مبادئ المنطق» بعد فترة دامت حوالي أربعين عامًا، قد رأى أن أي نقدٍ آخر لخصومه السابقين إنما هو لغو لا داعي له، واكتفى، في إشارته إلى بعض المتشبثين المتأخرين بالمعسكر التجريبي، بقوله: «دع الموتى يدفنون الموتى.»٧٣

وإن كتاب برادلي ليختلف، حتى من حيث المظهر الخارجي، عن البحوث المألوفة في المنطق، فهو ليس منطقًا صوريًّا ولا رياضيًّا ولا تجريبيًّا، وإنما هو بحثٌ أصيل إلى أبعد حد، شخصي تمامًا، في قوانين الفكر والصور المنطقية. وهو موجَّه أساسًا وبعنف ضد منطق التجريبيين، ويرجع تأثيره التاريخي إلى أنه قضى على التأثير القوي لمنطق مل، وأبعد تعاليمه عن الميدان عشراتٍ متعددةً من السنين، إلى أن حدث، في وقتٍ قريب جدًّا، رد فعلٍ بطيء لصالح مل إلى حدٍّ ما. وأفضل ما يوصف به منطق برادلي هو أنه منطقٌ ميتافيزيقي، بمعنى أن للمسلَّمات الميتافيزيقية تأثيرها الفعال فيه، أو أنها على الأقل تكون أساسه الخفي، ولكنه لا يناظر إلا على نحوٍ عام ذلك النوع من المنطق الذي يتجلَّى بأنقى صوره في هيجل، والذي لا تربطه به إلا نقط التقاء متفرقة، والذي نادرًا ما استخدم ماهيته، وهي الديالكتيك، إذ تجنب تمامًا الارتقاء الديالكتيكي من مقولة إلى أخرى، وفضلًا عن ذلك فإن علاقاته بالمذهب الأرسطي التقليدي في المنطق سطحية إلى حدٍّ ما، وذلك على الرغم من أنه مبني جزئيًّا على نتائجه، فهو يتخلى عمدًا عن فكرة التصور، وينقد فكرة القياس بقسوة.

وفي مقابل التقسيم الثلاثي المألوف للبحث المنطقي إلى تصور وحكم أو تصديق واستدلال، يقتصر برادلي على الأخيرين، وهو يبدأ بالحكم لأنه يرى أن الحكم — لا التصور — هو الصورة المنطقية الأولى أو الوحدة الأصيلة للفكر، وهو يعلن منذ البداية أن الحكم لا يمكن أن يكون ربط فكرة بإحساس أو بفكرةٍ أخرى، على أساس أن العوامل النفسانية لا دخل لها في هذا الأمر، وإنما الذي يهمنا في الحكم معناه، ومضمونه الفكري الكلي، الذي يختلف اختلافًا أساسيًّا عن أية حادثة أو واقعةٍ ذهنية. فالمعنى أو الفكرة المنطقية يظل على ما هو عليه مهما تغيرت المعطيات، وهو ذلك الجزء من مضمون الوعي، الذي أوقفه الذهن وأخرجه بالتالي من مجال الزمان. وعلى حين أن الحادثة الذهنية جزئيةٌ فريدةٌ موجودة واقعيًّا، فإن المعنى لا ينتمي إلى مجال الوجود الفعلي على الإطلاق، وإنما هو فكريٌّ كلي. وهكذا فإن نظرية برادلي المنطقية إنما هي محاولة لإيجاد انفصالٍ واضح بين المجالَين المنطقي والنفسي، بين العوامل الفكرية الأولية من جهة، وبين الوقائع البحتة للتجربة المعرفية من جهةٍ أخرى، والفكرة الرئيسية فيه هي أن من المستحيل قيام حكم أو أية صورةٍ أخرى للمعرفة ما لم يوجد عامل يظل في هوية مع ذاته طوال تغير الوقائع وصيرورتها. كل هذا يعبر عنه برادلي في تعريفه المشهور للحكم، وهو التعريف الذي أثار جدلًا كثيرًا، والقائل إن الحكم هو «الفعل الذي يحيل مضمونًا فكريًّا (يعترف به بما هو كذلك) إلى واقعٍ متجاوز لذلك الفعل.»٧٤ فكل حكم ينطوي بالضرورة على مثل هذه الإحالة أو الإضافة، وكل إضافة تفترض مقدمًا، إلى جانب الطرفَين المضافَين، وحدة تجمعهما سويًّا. وهكذا يؤدي نقد فكرة الترابط إلى مذهبٍ خاص في الحكم.
ولكن على الرغم من كل انتقادات برادلي للنزعة النفسية، فإنه هو ذاته لم يسلم منها؛ ذلك لأنه عرَّف الحكم تارةً بأنه فعل، أي بأنه شيءٌ ذهني، وتارةً أخرى بأنه ما يقصده الفعل أو يعنيه، أي القضية المنطقية، ومثل هذا الإخفاق في الفصل بما فيه الكفاية بين المنطق وعلم النفس، يحول دون إدراجه ضمن ممثلي المنطق الخالص، ولقد كان تأرجحه بين الموقفَين هو النقطة التي تركزت عليها انتقادات خصومه، وأولهم كوك ولسن Cook Wilson، ثم ستوت Stout ورسل وغيرهما.
وعندما وصل برادلي إلى صياغه مذهبه في الميتافيزيقا، اهتدى إلى وجهة نظر جديدة يعرف منها الحكم، فقد أدى به تمييزه بين الواقعي والفكري على أساس أن أولهما هو «هذا That» وثانيهما هو «ماذا What»، أي هما الاسم والصفة على التوالي؛ أدى به ذلك التمييز إلى النظر إلى الحكم على أنه إيضاح ﻟ«هذا» بوصفه موضوعًا، عن طريق «ماذا» بوصفه محمولًا، أي إنه هو أن نطلق على الواقع صفة لا تكون واقعة وإنما فكرة، أما الموضوع فهو وجودٌ فعلي، وتتوقف حقيقة الحكم على نوع الواقع الذي نصدر عنه التأكيد. وبين برادلي في ميتافيزيقاه أن الوجود الفعلي جزئيٌّ متناقض دائمًا، ولا يعبر إلا عن وجهٍ جزئي من كلٍّ أكبر، ومن ثم فإن أي حكم يشير إلى واقعةٍ محددة، يتصف دائمًا بالخطأ، وغاية ما يبلغه هو حقيقةٌ جزئية أو نسبية فحسب. والحكم الكامل هو الذي يكون موضوعه، على طول المدى، هو الواقع كاملًا أو المطلق. وهكذا يدمج برادلي منطقه في ميتافيزيقاه كما فعل هيجل.
ويعاود برادلي — في مذهبه في الاستدلال — مهاجمة أخطاءٍ تقليديةٍ متأصلة؛ ذلك لأن نفوره من كل قبولٍ أعمى للسلطة جعله يرفض نظرية القياس بأسرها، بوصفها محض خرافة؛ فالقياس يزعم أنه أنموذج كل استدلال وبرهان منطقي، غير أن هناك صورًا متعددة للاستدلال والبرهان لا يمكن إدماجها فيه. ويضرب برادلي — لتوضيح رأيه هذا — أمثلة يثبت بها أن المقدمة الكبرى كثيرًا ما تكون غير ضرورية،٧٥ فإليه يرجع الفضل في الإشارة إلى عدد من الصور غير القياسية للاستدلال، وهي الصور التي لم يكد يلاحظها المنطق التقليدي على الإطلاق.

والفرق بين الاستدلال والحكم هو أن الأخير أقرب كثيرًا إلى الإدراك المباشر، أي إلى المادة الحسية، فقبل إمكان قيام أي استدلال، ينبغي أن يطرأ قدر مُعيَّن من التنظيم على المادة الخام للمعرفة، وهذه هي مهمة الحكم أساسًا، ويمكن القول: إن الحكم يبدأ، بصورةٍ بسيطةٍ أولية، في التجربة الحسية، على حين أن الاستدلال يفترض مقدمًا أساسًا عقليًّا، وهذا لا يعني أن الاستدلال يبدأ حيث ينتهي الحكم؛ إذ إن برادلي يؤكد أن الصور البدائية للاستدلال تظهر في البدايات الأولى للحكم، وعلى أدنى مستويات الحياة المعرفية. غير أن الحكم الصريح هو قطعًا سابق منطقيًّا، إن لم يكن نفسيًّا، على الاستدلال الصريح، وإن يكن الاثنان معًا وجهَين لعمليةٍ واحدة. وهكذا فإن فكرة برادلي هذه تستبق فكرة بوزانكيت (التي كانت وثيقة الصلة بها)؛ إذ تجعل مهمة المنطق هي عرض نمو الذهن وتتبع العمليات المنطقية طوال مراحل نموها المتعددة.

وعند تحليل الاستدلال، يمكننا أن نميز بين ثلاثة عناصر: المعطيات، والفاعلية العقلية في الاستدلال من هذه المعطيات، والنتيجة. ويتصف عنصر الفاعلية بأنه مركَّب، أي إنه تركيبٌ فكري، وفي الارتباط الزائد الذي يضاف عندئذٍ إلى الاتصال الأصلي القائم بين المعطيات، تمرُّ هذه المعطيات بتغير وتنتقل إلى وحدةٍ جديدة؛ ذلك لأنه حيث لا يظهر شيءٌ جديد لا يكون ثمة استدلال. على أن برادلي قد ابتعد كثيرًا عن رأيه هذا في الاستدلال في الطبعة الثانية من كتاب «مبادئ المنطق»، وآثر أن ينظر إليه على أنه في الأساس يمثل التطور أو النمو الذاتي self-development لمضمون موضوعي.
وهو في كل الأحوال يتمسك بتأكيده للفارق الأساسي بين المجالات المادية والذهنية والمنطقية، ولا يملُّ أبدًا من مهاجمة الخلط الذي يتمثل لدى النزعة النفسية بين المجالَين الأخيرَين، فللفكرة المنطقية طريقة في الوجود تختلف أساسًا عن طريقة وجود الشيء المادي والحادثة الذهنية، وهي لا توجد (exist)، ولا يمكن أن تحدث، إذا كنا نعني بهذه الألفاظ الدخول في مجال الظواهر، وإنما هي مضمونٌ فكري وماهية ومعنًى كلي في مقابل الواقعة أو الحادث؛ لذلك فإن المنطق لا يمكنه أن يدرك — ناهيك به أن يفهم — ما تتصف به الجزئيات والفرديات التي تتمثل في الواقع العيني من ثراءٍ زاخر بالتنوع لا ينضب مَعِينُه، فالتنوع المتعدد الألوان للحياة يقع خارج نطاق المنطق.
ولقد أعاد برادلي طَبع النص الأصلي «لمبادئ المنطق» في طبعته الثانية التي يفصلها عن الأولى حوالي أربعين عامًا، مع إضافة حاشية في صورة ملاحظات في نهاية كل فصل، وسلسلة من الأبحاث الختامية. وهذه المادة الجديدة تصحح النص الأصلي وتتجاوزه في نقاط ليست كلها ثانوية، والجزء الأكبر منها مستمدٌّ من بوزانكيت، الذي قام باختبارٍ نقدي لكتاب برادلي «مبادئ المنطق» في ١٨٨٥ (في كتاب المعرفة والواقع Knowledge & Reality)، والذي نشر بعد ذلك بثلاث سنوات كتابًا خاصًّا له في «المنطق» اتخذ من برادلي نقطة بداية له، وقد اعترف برادلي بدينه صراحة ودون تحفظ.
ولقد سبق أن نوَّهنا مرارًا بالأهمية التاريخية الكبرى لأعمال برادلي في ميادين الأخلاق وعلم النفس والمنطق. وقد صادفت هذه الأعمال قبولًا واسعًا، وسرعان ما أصبحت جزءًا من تراث الفكر الإنجليزي. أما آراؤه الميتافيزيقية، كما عرضها في كتابه الرئيسي «المظهر والواقع»، فإنها أثارت جدلًا أوسعَ بكثير، فقد كان هذا الكتاب مثارًا للشقاق في الفلسفة الإنجليزية الحديثة، وتفاوتت الآراء بشأنه كل التفاوت، ما بين ثناء لا حد له، إلى عدم اكتراث أبله، إلى سخريةٍ مريرة واحتقارٍ صريح، فقد وصفه إدوارد كيرد بأنه أكبر حدث منذ «كانت»، كما قال مويرهيد إنه «لم يظهر أي شيء مثله منذ «بحث» هيوم، فهذا الكتاب، شأنه شأن كتاب هيوم، قد أيقظ المفكرين من جميع المدارس من سباتهم القطعي.»٧٦ أما خصومه، وعلى رأسهم البرجماتيون، فقد انقضُّوا عليه بوحشية، وجعلوا منه مسخًا مشوَّهًا، ورأى غير هؤلاء فيه مزيجًا عشوائيًّا من الجد والهزل، ولم يستطيعوا أخذه مأخذ الجد، واقترح أحد الظرفاء تغيير العنوان إلى «اختفاء مظهر الواقع The disappearance of Reality»،٧٧ وعلى الرغم من ذلك فلا يوجد كتابٌ آخر هزَّ الفلسفة الإنجليزية الحالية من أعماقها، وأثار من التفكير، ومارس من التأثير إيجابًا وسلبًا، مثل كتاب برادلي «المظهر والواقع».
سارت ميتافيزيقا برادلي في طريق تشييد مذهب، ولكنها لم تفعل ذلك بالتحليق الأهوج فوق التجربة، وإنما طبقت الشرط الذي وضعه برادلي في تصدير كتابه «مبادئ المنطق» فقامت ببحثٍ نقدي (أو سمِّه بحثًا شكاكًا إذا شئت) في المبادئ الأولى، وقد اشتهرت كلمته المأثورة التي قال فيها: «إن الميتافيزيقا هي العثور على أسبابٍ رديئة لما نؤمن به بالغريزة، غير أن العثور على هذه الأسباب هو بدوره غريزة بنفس المقدار.»٧٨ فهو يرى — مثل شوبنهور — أن الإنسان «حيوانٌ ميتافيزيقي»، والميتافيزيقا هي ترياقه الأفضل ضد الخرافة القطعية للاهوت المتزمِّت، وضد سطحية المذهب المادي، فهي سلاح ذهنٍ نشيطٍ متحرر عقليًّا، يسعى إلى الخلاص من قيود المذهب الجامد، وهي موقف أكثر منها نظرية، وهي إثارة للمشكلات وبحث عنها أكثر منها حلًّا لها. ومن هنا كان لنا — إذا شئنا — أن نجعل منها ملهاة، وستظل تحتفظ ببعض قيمتها حتى لو أسفرت عن الشك الكامل؛ ذلك لأن الاتجاه إلى الشك له عند برادلي من الفعالية ما للاتجاه التأملي النظري.
وهو يعزو إلى الميتافيزيقا مهمتَين: أولاهما طلب معرفة للواقع متميزة عن مجرد المظهر، والثانية تصور العالم عقليًّا، لا بطريقةٍ مفككة، وإنما من حيث هو كلٌّ على نحوٍ ما. هاتان هما الفكرتان الرئيسيتان في نظريته، أما عن الأولى، فواضح أن من المهم تعريف اللفظَين اللذين تضمنهما الفكرة، فما هو المظهر appearance؟ إنه ليس الظاهري phenomenal في البداية على الأقل — سواء فُهِمَ هذا الأخير على أنه ما هو معطًى في الوعي أو ما هو مقابل الشيء في ذاته — كما أنه ليس أي مجال محدد للوجود أو الفكر مميزًا عن أي مجالٍ آخر، وربما كان هو كل هذه معًا، ولكنه قبل كل شيء ما نكون إزاءه كلما صادفنا تباينًا بين ما هو موجود وما هو موضوع للفكر. وكلما غاص الفكر في متناقضات أو اقتصرت قدرته على إدراك جزء بدلًا من الكل، وكثرة بدلًا من الوحدة، وشيئًا نسبيًّا بدلًا من شيءٍ مطلق، فالمظهر هو ما هو علائقي relational مُفكَّك، وما تسري عليه الصيرورة والتغير، وهو سلب للمعنى والقيمة، إنه يكون حيث يكون الخطأ والشر والخطيئة، وحيثما ننساق في سعيٍ قلق، وحيثما نكتفي، في بحثنا عما هو أسمى وأفضل، باستنفاد أنفسنا واستهلاكها بدلًا من أن نصل إلى ما يرضينا.
وهكذا يعرف المظهر في عبارات تكاد كلها تكون سلبية فحسب، فما هو الواقع reality إذن؟ إنه ما يقابل المظهر من جميع النواحي، بحيث لا يكون علينا، لكي نعبر عن طبيعته كما تصورها برادلي، إلا أن نستعيض عن الصفات السالبة السابقة بمقابلاتها الإيجابية، فلنرجئ مؤقتًا الإتيان بوصفٍ أكمل له، ولنعرف الواقع — بصفةٍ مبدئية — بأنه ما خلا من التناقض، وبأنه وحدة وكلية واستقرار وانسجام، وبأنه شامل لكل شيء، وبأنه حقيقةٌ كاملة، أي بالاختصار: بأنه المطلق.
فما الذي يعزوه برادلي إلى مجال المظهر؟ إن لُبَّ تعاليمه إنما يوجد في الفصل الخاص بالعلاقة (أو بالإضافة) والكيف، ولعلنا نذكر أن جرين، والمدرسة القديمة عامةً، كانوا يعزون إلى مقولة الإضافة أهميةً كبرى، فهو ذلك الذي يضفي على الأشياء حقيقتها بالربط فيما بينها، أما برادلي فيحاول أن يثبت العكس، فهو يقول إننا عندما نختبر بطريقةٍ نظرية ترتيبنا للوقائع تبعًا لعلاقاتها وصفاتها نقع في صعوبات ومتناقضات غير متوقَّعة؛ ذلك لأن العلاقة (أو الإضافة) والصفة يفترض كلٌّ منهما الآخر، والصفات ليست شيئًا بدون العلاقات، ونحن نكون إزاء علاقات كلما ميَّزنا أو حكمنا أو فكَّرنا على أي نحو، وكما قال برادلي في موضعٍ ما، فإن التفكير ينتحر إذا لم يعد علائقيًّا relational. وطبيعي أننا عندما نتجاوز الفكر إلى الوحدة المتصلة بالشعور، نكون قد انصرفنا عن العلاقات والصفات، ولكنا لا نستطيع التفكير في صفات دون التفكير في سماتٍ محددةٍ متميزة بعضها عن البعض، كما أننا لا نستطيع التفكير في هذه الأخيرة دون التفكير في علاقات بينها. وهكذا فإن الصفات لا يكون لها معنًى بدون العلاقات، والاثنان لا يتميزان إلا بالفكر، ولا ينفصلان واقعيًّا. وبالمثل لا يمكن أن توجد علاقة دون صفة؛ إذ لا يوجد ما يربط إذا لم توجد صفات بوصفها حدودًا. وعلى ذلك فلا يمكن تصور أي حد مأخوذًا على حدة، ولكنه من المؤسف أنه حتى عندما تؤخذ الحدود مرتبطة فيما بينها، فسيظل من المستحيل تصورها؛ إذ إننا عندما نحاول تصور العلاقة بين العلاقة الأصلية وبين الصفة أو الحد، فإنا نبدأ في عملية نسير فيها إلى ما لا نهاية، ما دامت كل علاقةٍ جديدة بين العلاقة الأصلية وبين الحد تحتاج بدورها إلى الارتباط في علاقة مع هذا الحد. ومن هذا كله يستنتج برادلي أنه كلما تحرك الفكر في علاقات أصبح — حسب معيار المعرفة — بديلًا أو حلًّا وسطًا، عاجزًا عن بلوغ الحقيقة أو الكشف عن واقع الأشياء، فالتفكير العلائقي أو المقالي discursive يوقع نفسه بالضرورة في متناقضات، وبالتالي لا يشير إلا إلى عالم الظواهر. وكما قلنا من قبلُ، فإن القابلية للتناقض هي المعيار الذي ندرك به كون الشيء أو التصور ينتمي إلى مجال المظهر.

وبعد تخلُّص برادلي من تصور العلاقة، يرد كل التصورات الأولية الأخرى للفكر إلى علاقات، هي بدورها عاجزة عن الاتصال بحدودها إلا من خلال سلسلة لا متناهية — وبالتالي مستحيلة — من العلاقات المتوسطة. وهكذا فإن عالم المظهر عنده مزدحم بدرجة لم تُعْرَف من قبلُ، وقد كرس الباب الأول كله من كتابه لإثبات أن المقولات والتصورات الأخرى للفكر، وكذلك محتوى التجربة، كل هذا يعاني مما تتضمنه العلاقة من تناقض غير قابل للحل، وبالتالي ينتمي إلى عالم المظهر. وفي هذه الفصول يترك برادلي السفسطائي الشكاك نفسه على سجيتها، في دوامة من التمييزات الحادة والحجج الدقيقة التي تثير سحابةً هائلة من الغبار الديالكتيكي بحيث لا يكون لنا أن ندهش حين نرى الأشياء تتهاوى بين يديه، ولا تترك في النهاية إلا عالمًا من الأنقاض. ففي دوامته الديالكتيكية يكتسح، الواحدة تلو الأخرى، كلًّا من: الكيفيات الأولى والثانية، والشيء والصفة، الكيف والإضافة، الزمان والمكان، الحركة والتغير والتعاقب، العلية والفعل والانفعال، الجوهر وهوية الأشياء، بل وهوية الذات، وكل علمٍ طبيعي، والخطأ والشر والخير، بل الدين والله.

ولا حاجة بنا إلى تتبع كلٍّ من هذه على حدة، وإنما سننتقي حالة الذات لنضرب مثلًا بها على الطريقة التي سار عليها؛ إذ إنها تكشف على أكمل وجه عن مدى استعداد برادلي للخروج عن مواقف المثاليين السابقين عليه، مثل جرين وولاس كلما اقتضى مبدؤه ذلك. وتلك هي أوضح حالة تُبين مدى تحكم الإطار الجامد الذي وضعه برادلي في نتائجه مقدمًا، وإلى أي حدٍّ أغمض عينَيه عن حلٍّ كان قريبًا من متناول يده، وفي الوقت ذاته كانت تقتضيه المشكلة ذاتها. فدون أن يبذل حتى مجرد محاولة لحل مشكلة الهوية الشخصية بتحليلٍ مباشر للوقائع المجردة، نراه يكتفي ببحث النظريات المتعلقة بها، وهي نظريات بلغت من الكثرة والتنوع حدًّا يبعث على الاضطراب، وانتهى إلى أن تصورًا له من التباين والغموض ما لتصور الذات لا يمكنه أن يفي بتلك الشروط التي ينبغي عليه، أو على أي تصورٍ آخر، أن يفي بها إذا ما شاء أن يعد حقيقيًّا أو واقعيًّا؛ لذلك أدرجه ضمن المظاهر. غير أن الذات تمثل حالة ينطبق عليها بكل وضوح معيار الواقعية الذي رأى برادلي أن له أهميةً عظمى، أعني معيار انسجام الواحد والكثير، والكثرة في وحدةٍ مركبة. فهو إذ أنكر وحدة الوعي الذاتي قد جعل الذات مساوية لمجموع تجاربها بدلًا من أن يجعلها مساويةً لوحدة هذه التجارب. وهكذا انتهى إلى الرأي القائل إنها مجرد حزمة من الأحوال المتفرقة، فاقترب بذلك كثيرًا من نظرية هيوم التي كان قد أعلن صراحةً عن عدم رضائه بها. والأهم من ذلك أنه تخلى بهذا عن الرأي الذي كان قد عرضه في مذهبه الأخلاقي من قبلُ. وفضلًا عن ذلك فإن هذا قد جعل من المستحيل عليه — كما سنرى فيما بعدُ — أن ينتفع على أي نحو من مقولة الشخصية في تحديد المطلق. وهكذا فإن نظريته في الذات، كما عرضها في كتابه عن الميتافيزيقا، تمثل نكسة إلى التجريبية (التي كانت تربطه بها بالفعل صلاتٌ قوية)، وهي تعد مثالًا للطريقة التي أساء بها مفكر لامع الذهن مثله إلى مشكلة في سبيل مبدأ.

وهكذا لا يتبقى لدينا، بعد هذا كله، إلا ثنائية وهوةٌ شاسعة بين المظهر والواقع، ولكن من الواضح أن المسألة لا يمكن أن تقف عند هذا الحد. وهكذا يتصدى برادلي في الباب الثاني من كتابه لمعالجة الجراح التي سببها في البداية؛ فهو يبين عندئذٍ أن العالمَين المفصولَين ديالكتيكيًّا لا يمكن أن يوجدا منعزلَين، وأن كلًّا منهما يتضمن إشارة إلى الآخر، فالمظهر هو — على أية حال — شيء ما وليس عدمًا؛ ولذلك ينبغي أن ينتمي إلى الواقع على نحوٍ ما. ومن جهةٍ أخرى فلو أخذ الواقع في ذاته وبذاته لكان عدمًا، فمن الواجب إذن أن يشتمل على المظهر على نحوٍ ما، إذ لا يمكن — على أبسط الفروض — أن يكون أقل من هذا. وهكذا انتهى برادلي إلى أن المظهر في حاجة إلى الواقع لتكملة ذاته، وأن الواقع في حاجة إلى المظهر ليجعل لذاته مضمونًا وواقعية، وهنا ينبغي أن نتساءل عن الطريقة التي ينتمي بها المظهر إلى الواقع، أو إلى المطلق كما يسميه برادلي عادةً. وهو يقول في نهاية الكتاب (مشيرًا إلى هيجل، مع إبداء الموافقة على رأيه) إن الواقع روحي. فإذا ما تأملنا هذا القول في ضوء المجرى العام لاستدلاله، لبدا لنا أنه خاتمةٌ بلاغية أكثر من كونه ممثلًا لرأيه الحقيقي؛ إذ إنه قد أعلن أن الفكر العلائقي (الذي لا يعرف برادلي للفكر نوعًا غيره) لا يمكن بأية حال أن يعبر عن طبيعة المطلق، وأعلن بوجهٍ خاص أن المطلق لا يمكن تصوره على مثال الذات أو الشخصية، ما دام الفكر والذات ينتميان سويًّا إلى عالم المظهر، أما رأيه الحقيقي، الذي يدل مرةً أخرى على استمرار عناصرَ تجريبية في تفكيره، فهو أن المطلق تجربةٌ حاسَّة، إنه حقًّا نسقٌ واحدٌ منسجمٌ شامل، ولكن محتواه يتألف من التجربة الحاسَّة، وفي هذا المطلق تنحلُّ كل الفوارق في وفاق أو ترفع (aufgehoben) على حد تعبير هيجل.
والحق أنه لمما يبعث على الحيرة، بعد ذلك المستوى الرفيع الذي رفع إليه برادلي المطلق، أن نراه يوحد بين المطلق وبين التجربة الحاسَّة، ويرفع هذه الأخيرة بالتالي فوق مستوى التجربة المنظمة أو التي نتوصل إليها بالفكر. فمن الواضح أنه لا توجد تجربة نستطيع بها أن ندرك المطلق إدراكًا مباشرًا. وربما كان برادلي قد شعر بهذه الصعوبة؛ إذ إنه بحث عن تشبيه ليوضح معناه، وأحالنا في النهاية إلى التجربة الباطنة التي نمارسها عندما نحسُّ مباشرةً بشعورٍ خالصٍ متجانس تمامًا. فهو يرى في هذه الأخيرة أنموذجًا أو صورةً دنيا لتجربة «المطلق»، نظرًا إلى ما تتصف به من كلية لا تتجزَّأ. والاثنتان متوازيتان، ولا تختلفان إلا من حيث إن إحداهما تقع في الجانب الأقرب لعالم المظهر المتناقض، نظرًا إلى أنها لم تخضع بعدُ للنشاط المقالي (discursive) للفكر، بينما الأولى تتجاوزه، لا بالمعنى المكاني، وإنما بمعنى أنها قد علت على الانقسامات والتقابلات التي يأتي بها الفكر، واستعادت التجربة الأصلية المتصلة على مستوًى أعلى. هذا الطابع المطلق للشعور، الذي يبعث النشوة أحيانًا في نفس برادلي، يؤدي به إلى إصدار تأكيداتٍ جريئة إلى حدٍّ مفزع، من أمثلتها ما يلي: «لا شيء حقيقيًّا أو واقعيًّا في النهاية إلا ما هو موضوع للشعور، وبالنسبة إليَّ لا يكون هناك في النهاية شيءٌ واقعي إلا ما أشعر به … فالواقع — لكي يكون واقعًا — ينبغي أن يشعر به.»٧٩ وفي الشعور نحسُّ بالكثرة على أنها وحدة، وبالأجزاء على أنها كلٌّ، فهنا نكون على مستوًى أدنى من مستوى التقسيم إلى ذات وموضوع، والتقابل بين الصواب والخطأ، هذه التجربة، التي هي أكثر تجاربنا أولية، تتصف بتلك الوحدة في الكثرة، التي أنكرها برادلي على أعلى التجارب مستوًى، أعني تجربة الوعي الذاتي، غير أن الوحدة هنا «تمارس» فحسب، وهي تختفي بمجرد إعمال الفكر فيها، بل إننا لا نستطيع التعبير عنها بألفاظ، وإنما نستطيع فقط أن نشعر بأنها انعكاس لتلك التجربة الأعلى التي نشارك بها في المطلق.
وهكذا تتضح الآن الخطوط العامة لنظرة برادلي إلى العالم. فهي ترسم صورة لثلاثة مستويات: أدناها عالم الشعور المباشر، أي التجربة قبل العلائقية pre-relational التي نشعر فيها بكلٍّ لا انقسام فيه ولا تنوع، ويلي ذلك المستوى الديالكتيكي، أي عالم الفكر الذي توجد فيه علاقات تفكك الوحدة الأصلية للشعور، وتكون فيه الأشياء مظاهر فحسب لا واقعًا، والثالث عالم الواقع والمطلق الذي تعود فيه، في مركَّب أعلى، تلك الوحدة والكلية المفقودتان في المرحلة الثانية. ويمكن التعبير عن معنى برادلي بدقة على نحوٍ أكثر عينية وإنسانية. فنحن إذ أكلنا من «شجرة المعرفة» قد فقدنا وحدتنا النقية الأصلية، وأصبحنا في كل سعي لنا نهدف إلى استردادها. غير أننا لا نستطيع أبدًا أن نرجع إلى حالتنا الأصلية، فأبواب الجنة الأرضية موصدة في وجوهنا إلى الأبد، ولكنا ربما اهتدينا بعد أن نكون قد تحملنا حياتنا المضطربة الممزقة هنا، إلى الوحدة ثانية في عالمٍ أعلى وأسمى، وسواء أمكننا إدراك ذلك أو لم يمكننا، فإن كل شوق لنا، في الوقت الحالي إنما يتجه إليها، فالإنسان ينتقل من البراءة النقية للشعور الساذج، إلى إثم المعرفة، ومنه إلى التوبة والخلاص في المطلق.
وفي هذا الصدد يبدو المطلق عند برادلي على أنه ناتج عن رغبة، وتحقيق متخيل لها. والواقع أن في كتابه فقرات نستطيع أن ندرك فيها تلك العاطفة العميقة، التي ترقى أحيانًا إلى مرتبة الشوق الصوفي، والتي كان يسعى بها وراء المطلق ليصبح وإياه واحدًا؛ ذلك لأن المطلق، على أية حال، ليس رتابةً خاويةً مملةً، إذ أنه يضم كل ما في الفردي والجزئي من ثراء وتنوع، ويحتفظ به في داخله، وهو على أسوأ الفروض لا يمكن أن يكون أفقر من عالم المظهر الحسي، بل إنه ينبغي أن يكون أثري إلى حدٍّ لا متناه من أي شيء تمدنا به تجربتنا الحالية، فلا شيء يضيع فيه. «إن كل لهيبٍ انفعالي، عفيف أو شهواني، يظل يشتعل في المطلق دون أن يرتوي أو تخف حدَّته، فهو نغمة يستوعبها التوافق المميز لسكينته وطمأنينته الرفيعة.» ولكن كيف تدخل المظاهر في المطلق وتكون جزءًا من طبيعته؟ من المحال قطعًا أن يكون ذلك بالصورة التي نعرفها بها الآن، أي بما تتميز به في حالتها الراهنة من اضطراب وحيرة، بل ينبغي أن تتغير هيئتها ويعاد تشكيلها لكي تلائم الحياة العليا والكاملة، وليس في وسعنا أن نذكر كيف يحدث ذلك في كل حالة، بل كل ما نملك أن نفعله هو الاكتفاء بالتخمين والترجيح، فعناصر التجربة، من شعور وإرادة وفكر أيضًا، ستكون هناك، ولكنها لن تعود في حالة شقاق. فلا بد من وجود إرادة حيث يغدو المثل الأعلى حقيقةً واقعة. على أن الفكر ينبغي أن يطرأ عليه تبدلٌ عميق، فسيكون ماثلًا بوصفه حدسًا أعلى، وبذلك يفقد طابعه المميز، ويلتهم ذاته عند بلوغه مثله الأعلى، ويُعلى عليه عند الاهتداء إلى ذلك العلو الذي يكون البحث عنه ماهيته ذاتها. وواضح أن برادلي يعني هنا بالفكر ذلك الفكر العلائقي المقالي، والنشاط المتناهي للذهن، لا الفاعلية المطلقة للعقل، ولو كان فقط قد توسع في هذا الفهم الضيق المحدود الفكر في اتجاه «الفكرة المطلقة Idea» عند هيجل، لوجد ما كان يبحث عنه دون جدوى.

ولا يستثنى الخطأ والشر من عملية التحول الكبرى التي تدمج بها المقولات والمظاهر المتناهية في المطلق، ففيما يتعلق بالخطأ، يكون معنى هذا الاندماج أنه لا يمكن وجود تعارضٍ أساسي بين الحقيقة والخطأ، وإنما الأمر كله أمر درجات من هذا وذاك، فالخطأ في الواقع «هو» الحقيقة، أي هو الحقيقة الجزئية الناقصة، التي نتأملها من وجهة نظر فهمنا المحدود القاصر، أما في التجربة الكلية فإنه يصحح ذاته ويختفي. ومن الواضح أن برادلي هنا لا يحل هذه المشكلة الخطيرة غاية الخطورة، وإنما يكتفي بالزيغ والتهرب منها. ولا جدال في أن الهجمات العنيفة التي وجهها خصوم برادلي، ولا سيما البرجماتيون، إلى نظريته في الخطأ، قد مسَّت نقطةً شديدة الضعف في مذهبه.

كذلك يتضح أن الألم والشر، شأنهما شأن الخطأ، متمشيان مع الكمال المطلق، ولا ينكر برادلي أن لهما وجودًا فعليًّا، ولكن المسألة التي يهتم بها هي طريقة التحول الذي يمكن أن يطرأ عليهما. وهو هنا يلجأ إلى تشييه، فمن التجارب المألوفة أن الألم البسيط يمكن أن يستوعب في لذةٍ أعظم، فيختفي نتيجة لذلك، صحيح أن شدة هذه اللذة ستقلُّ عندئذٍ، غير أن الشعور في مجموعه يمكن أن يظل شعورًا باللذة، فمن الممكن إذن، إذا ما حسبنا مجموع الأمور حسابًا شاملًا، أن تطغى اللذة على الألم وترجح كفتها عليه. ويبدو أن هذا الإمكان المحض يزيح، بالنسبة إلى برادلي، آخر عقبة تقف في وجه كمال المطلق، فهو حين ينتقل إلى مشكلة الشر، يذهب إلى أن الشر لا يوجد إلا في التجربة الأخلاقية، وإلى أن التجربة الأخلاقية في أساسها حافلة بالتناقض، وأن هناك رغبةً ديالكتيكية تدفعها إلى العلو على هذا التناقض في مجالٍ أعلى — أي فوق الأخلاقي — من مجالات الوجود. وهكذا يدخل الشر في خدمة الخير، مستهدفًا تحقيق هذا الأخير، وإن يكن ذلك عن كره منه، وهنا أيضًا، كما في حالة الخطأ، يختفي التعارض إذا ما وسع مجال الإشارة بما فيه الكفاية «فكل ما نحتاج إلى فهمه هنا هو أن «مقصد السماء»، إذا ما كان لنا أن نتحدث على هذا النحو، يمكن أن يحقق ذاته بنفس الفعالية في كاتيلينا Catiline٨٠ وبورجيا Borgia٨١ مثلما يتحقق في صاحب الضمير الحي أو في البريء الساذج.»٨٢ وأن التفاؤل المفرط الذي يتخلَّص به برادلي من هذه المشكلات الخطيرة، وتشويهه للحقائق في صورة أقرب إلى رغبته الشخصية، ليشكك المرء فيما إذا كان من الممكن للمطلق أن يبعث ذلك الرضاء «النظري» الذي ابتدعه من أجله.

وكما رأينا من قبلُ، فإن المجال فوق الأخلاقي الذي تهفو إليه الحياة الأخلاقية هو الدين. ولم تكن لبرادلي صلةٌ وثيقة أو أساسية بالأمور الدينية، وإن المرء ليحس بأن ما قاله عنها سطحي، وبأنه ليس ناتجًا عن معاناة وتجربة، وإنما عن تفكيرٍ نظري قام به وهو قابع في مقعده الوثير فحسب. وهو في هذا يقول إنه رغم أن الدين مطلق بالنسبة إلى الأخلاقية، فإنه بالنسبة إلى «المطلق» مجرد مظهر. وتؤدي التناقضات الداخلية التي يهتدي إليها برادلي في الدين إلى دفعه إلى تجاوز ذاته، ليصل إلى كمال الكل الميتافيزيقي الأعلى. فما هي إذن العلاقة بين الله وبين المطلق؟ إن الله لا يكون إلهًا إلا بقدر ما يكون هو الكل، ولكنه بهذا المعنى ليس هو الله، كما تعرفه الأديان، الذي هو أقل من المطلق. وهكذا فإن تصور الله ينجذب بدوره، بعد كل التصورات الأخرى، في الدوامة الديالكتيكية، فهو ليس الكل وإنما هو وجهٌ واحد، وبالتالي مجرد مظهر، بحيث ينبغي أن يطرأ على الله، ومعه الدين، ذلك التحول الذي يغوص به في «الواحد» الميتافيزيقي النهائي، ولا شك أن هذا الحل — أو قل هذا الانحلال — الغريب محتَّم بالنسبة إلى مذهب برادلي؛ ذلك لأنه بعد أن نظر إلى الشخصية على أنها حزمة من المتناقضات، وبالتالي على أنها حقيقة من مرتبةٍ أدنى، لم يعد أمامه بُدٌّ من أن يعزو إلى المطلق طبيعة فوق الشخصية، وأن يصفه من خلال فكرتَي الاتساق والانسجام، أما الدين فكان بالنسبة إليه مسألةً عملية، ونظرًا إلى أن صوره وتصوراته تتجه أساسًا إلى تحقيق غاياتٍ عملية، فلا يلزم أن تخلو من التناقضات النظرية. أما كون معظم الأديان تصور الكائن الأعلى على أنه شخص، فتلك مجرد نتيجة للحاجة البرجماتية التي تعبر عنها هذه الأديان. وعلى أية حال فإن هذا التصوير، كما يقول برادلي، لا يمكن أن يفي بمقتضيات المبدأ الميتافيزيقي الذي يسميه المطلق؛ ومن ثم فهو يقصر دونه.

فالمطلق إذن هو الغاية التي تسعى إليها كل الأشياء، والذي تؤثر كل الأشياء، من أجله، أن تضحي بطبيعتها الخاصة على أن تظل على حالتها القلقة الراهنة؛ وعلى ذلك فإنه هو المعيار الأسمى لكل قيمة، وهو ما يجعل الصحيح صحيحًا، والجميل جميلًا، والخير خيرًا، «إن المطلق إنما وُجِدَ ليضمن أن يكون للأعلى، في كل الأحوال، أكبر مكانة وأن يكون للأدنى أقلها.»٨٣ فهو الواقعي بمعنى مؤكد أو رفيع، وهو الواقعي بوصفه قيمة، أما كل ما في عالم المظهر فهو مغترب عن طبيعته الخاصة، وبالتالي فهو دائمًا في عملية انتقال من طابعه المتناهي إلى كماله الحقيقي، فكل هذه الأشياء في صيرورة وتغير دائمَين، وهي لا تصل إلى الكمال في ذاتها، ولا تحمل في ذاتها معنى وجودها الحقيقي.
ولكن ألا تعني هذه الحركة الدائمة نحو الكمال وتحقيق المثل الأعلى، أننا نقلل إلى حدٍّ بشع من القيمة الحقيقية الصحيحة للأشياء، ونلغي تمامًا كل ما تكونه وما تفعله هنا، والآن؟ أليس مما يزيد الأمر سوءًا أن يترك المثل الأعلى دون أي تحديد أو تمييز، بحيث لا يمكنه أن يقدم تعويضًا كافيًا عن هذه التضحية الشديدة للأشياء التي لا تعود على ما هي عليه مطلقًا؟ لقد شعر برادلي ذاته بهذه الصعوبة، وحاول أن يُخفِّفها في فصل (رأى الكثيرون أنه لا يرتبط بأفكاره الرئيسية ارتباطًا حقيقيًّا) عن «درجات الحقيقة والواقع»، وفي بعض الشروح المكملة في كتابه «أبحاث في الحقيقة والواقع»، فهو في هذه المواضع يقول إنه لا يلقي بكل الأشياء دون تمييز في حومة المطلق، فمتى في عالم المظهر القائم الناقص، يوجد تمييز بين درجات أو مستويات تُحدَّد تبعًا للقرب أو البعد عن المثل الأعلى الذي يضعه المطلق، وبالمسافة التي تفصل بين أي مظهر وبين المثل الأعلى — أي درجة واقعيته — وتقاس هذه الدرجة بمقدار التغير اللازم لإدخال المظهر في نسق الواقع، فجميع الأشياء — بالقياس إلى المطلق — نسبية، غير أن هناك درجات النسبية، وبالتالي — بمعنًى ما — درجات من الواقعية أو من الطابع المطلق absoluteness، وهذا هو الذي يتيح ترتيب درجات الأشياء، فالبدن والذهن مثلًا هما معًا مجرد مظهرَين، غير أن الذهن أقرب إلى الواقع. وهكذا فإننا لو نظرنا إلى كل شيء من مستواه الخاص، لرأينا له قيمةً نسبية خاصة به، تقدر تبعًا لمدى اشتماله لطبيعة الكل العيني، الذي هو الواقع، ومدى تعبيره عنها، ومثل هذا يقال عن الحقيقة، فالمستويات الدنيا للمعرفة، إذا ما نُظر إليها من المستويات العليا، تبدو متناقضةً مفتقرة إلى الترابط، ولكنها إذا ما نُظِرَ إليها في ذاتها، وقيست تبعًا لدرجة وضوحها الخاص، تغدو متسقةً صحيحة، وهنا يزداد برادلي اقترابًا من المعنى العميق لفكرة هيجل في المراحل الديالكتيكية، ويقدم عرضًا أفضل للمعنى الحقيقي للتمييز الأساسي بين المظهر والواقع، لا بالنسبة إلى مذهبه الخاص فحسب، وإنما بالنسبة إلى جميع المذاهب المثالية بوجهٍ عام.

أبرز سمات فلسفة بوزانكيت قرابتها الوثيقة من فلسفة برادلي، وكأن الرجلَين يكوِّنان شركة، يمثل فيها برادلي الذهن المنشئ الذي جاء بالبادرة الأولى وأخصبها بعد ذلك، ويمثل بوزانكيت — عمومًا — الذهن الأكثر تفتحًا والأقدر على العمل والتنفيذ. غير أن من الإسراف أن يقال — كما فعل البعض في الآونة الأخيرة — إنه يكاد يكون من الممكن النظر إلى الاثنين على أنهما شخصيةٌ فلسفيةٌ واحدة؛ ذلك لأنه، على الرغم مما بينهما من اتفاقٍ كبير في الموقف العام فضلًا عن التفصيلات، فليس من الصحيح أن تسمى فلسفة بوزانكيت مجرد ترديد لفلسفة برادلي، فهي تمثل إعادة بناء مستقلة وتوسيعًا وتطبيقًا لتعاليم برادلي، قام به مفكرٌ أصيل تصادف أنه متفق مع برادلي، وإن لم يكن يقل عنه مقدرةً، فليس أحدهما هو المعطي والآخر هو الآخذ فحسب، بل لقد كان بين الاثنين تبادلٌ مثمر للآراء، كان برادلي فيه هو المستفيد في أحيان غير قليلة.

ولقد كان بين حياة كل من برادلي وبوزانكيت اختلاف هائل، (على الرغم من أن بداية حياتهما ونهايتها كانتا متفقتَين في الزمان تقريبًا). وقد انعكس ذلك الاختلاف أيضًا في عقليتهما وطريقتهما في التفلسف، فقد كانت طبيعة برادلي منطويةً منعزلة، ولم يشغل منصبًا تعليميًّا، ولم تكن له واجبات تستحق الذكر، وهو لم يكن توَّاقًا إلى النشاط العملي، وإنما ظل مغلقًا على ذاته، منصرفًا بكليته إلى حياة التأمل، وقضى حياته كلها بين جدران كليته في منفًى اختياري عن العالم. أما بوزانكيت فكانت له، على العكس من ذلك، طبيعةٌ إيجابيةٌ عملية، وقدرةٌ هائلة على العمل، ولم يستطع أن يقنع بالحدود الضيقة لحياة المحاضر الجامعي إلا فترةً محدودة، فبعد عشر سنوات قضاها في هذه الحياة، وجد مجالًا أوسع وأبرز للعمل في لندن، حيث كان يقوم بالمساعدة في تنظيم الخدمات الاجتماعية ويحاضر في الجمعيات الفلسفية وفي فصولٍ كانت قد بدأت تنشأ عندئذٍ بموجب حركة تعليم البالغين الجديدة. وعلى حين أن برادلي لم ينشر إلا أربعة كتب من جميع الأحجام، فإن بوزانكيت، الذي كان من أخصب كُتَّاب الفلسفة في عصره وأوسعهم مجالًا، نشر ما يقرب من العشرين.

ولقد كانت عزلة برادلي عن الحياة متمشية مع تحفظه العقلي الشديد، فقد كان تفكيره منطويًا على ذاته، جافًّا خشنًا لا يعرف التسامح، ويكاد يكون محصنًا ضد المؤثرات الجديدة. أما ذهن بوزانكيت فكان سخيًّا ودودًا متسامحًا، متفتحًا على المعارف والتجارب الجديدة، قابلًا للتشكل تبعًا للمواقف الجديدة، ولقد كان يفوق زميله في سعة الثقافة والتحصيل، وفي تعدد جوانب اهتمامه، وإن كان يفتقر إلى تعمق زميله وقدرته على النفاذ إلى بواطن الأمور ومقدرته الخلاقة الأصيلة،٨٤ وكان للاثنين معًا تأثير لا حدَّ له، على الفلسفة الإنجليزية المعاصرة لهما، وما زال هذا التأثير قويًّا إلى اليوم، في الوقت الذي أخذت فيه الحركة المثالية تضمحل. ولقد نمت الحركات المعارضة لهما بفضل ما استمدته منهما، وزادت من حدة أسلحتها بفضل خلافها معهما. أما في القارة الأوروبية فإن تعاليمهما لم تلقَ إلا اهتمامًا ضئيلًا، ويكاد اسم بوزانكيت يكون مجهولًا، ولم تُترجم من كتبهما إلا كتاب «المظهر والواقع» لبرادلي (ترجم إلى الألمانية سنة ١٩٢٨).

ولقد وجدت المثالية المطلقة في برادلي وبوزانكيت أفضل من يمثلانها بين الإنجليز، فقد توسع فيها الأول في اتجاه العمق، والثاني في اتجاه الامتداد. وإلى بوزانكيت على التخصيص يرجع فضل بناء نظرة برادلي إلى العالم على أساسٍ أوسع كثيرًا وتطبيقها وعرضها، بكل ما فيها من نواحٍ مثمرة، في جميع الفروع الفلسفية، أي في علم الجمال وفلسفة الدين والقانون والدولة، فضلًا عن علم النفس والمنطق ونظرية المعرفة والأخلاق. وهو في هذه الخاصية الموسوعية يزداد اقترابًا إلى هيجل من برادلي، كما أنه على وجه العموم تلميذ أشد تمسكًا بتعاليم الأستاذ وإخلاصًا لها. ونستطيع أن نقول إنه أعاد مذهب برادلي إلى نقطة بدايته الهيجلية الأولى، وإن السبب في ذلك ليس فقط كونه أقل قطعية من برادلي، بل أيضًا كونه أقل منه نزوعًا إلى الشك. ولقد أشار البعض، عن حق، إلى أنه قد عمل في كل الأحوال على تغيير الاختيار القاطع عند برادلي، الذي يعبر عنه كلمة «إما كذا وإما كذا»، إلى تعبيرٍ أخفَّ وأقل حدة، هو «كلاهما معًا»، بحيث كان يسعى إلى تخفيف التعارض بين المدارس بدلًا من أن يؤكده ويزيده حدة. ولا أدل على اتجاهه هذا من البرنامج الذي وضعه لواحد من كتبه المتأخرة، والذي يتضح في عنوانه، هو «تقابل الأضداد في الفلسفة المعاصرة»، وهو كتاب بذل فيه قصارى جهده ليهتدي إلى أساسٍ مشترك تستطيع جميع المدارس أن تبدأ منه محاولةً تعاونية لمواجهة مشكلات الفلسفة. وهكذا وجد ذهنه الرحب اللامع تعبيرًا مميزًا له في هذا الموقف، وكذلك في موقف الشهامة الذي كان يعامل به خصومه إذا ما رأى نفسه مضطرًّا إلى الاختلاف معهم، ومع ذلك فلزام علينا أن نعترف بأن هذه الشهامة قد أدت به في كثير من الأحيان إلى التنازل عن آرائه على نحو لا يتفق مع موقفه الخاص.

ونستطيع أن نقول إن المثالية قد شعرت، عند بوزانكيت، بالحاجة إلى مزيد من التجربة، وضمت إلى مجالها الخاص مجالاتٍ فكريةً واسعة، ولقد كانت الميادين الخاصة التي تغلغل فيها أكثر من أن تتيح لنا تتبعه حيثما ذهب. ومن هنا كان يكفينا أن نستخلص، من عددٍ قليل منها، الاتجاه العام لتفكيره. ونستطيع أن نقسم نشاطه التأليفي، بوجه عام، إلى ثلاث فترات: في الأولى كان يهتم قبل كل شيء بالأسس المنطقية لمذهبه، وفي الثانية بمشكلات علم الجمال والأخلاق وفلسفة الدولة، وفي الأخيرة أكمل أطراف نظرته إلى العالم بميتافيزيقا بنَّاءة، وبتطبيق هذه الميتافيزيقا على مجال الدين.

ففي مجال المنطق، نستطيع أن نقول إن بوزانكيت قد عمق المنطق المثالي وأثراه إلى حدٍّ بعيد، ولقد تأثر في هذا المجال ليس فقط بهيجل وبرادلي ولوتسه وزيجفارث٨٥ وإنما بمل وجيفونز أيضًا، على الرغم من معارضته لهما. ويقدم «منطق» بوزانكيت الخاص، الذي أكملته فيما بعدُ دراساتٍ لمشكلات خاصة، «موفولوجيا للمعرفة» — كما يدل العنوان الفرعي لكتابه في المنطق — والمقصود بهذا التعبير عرض لنمو الأشكال المنطقية وارتباطها الباطن. وكان ذلك خروجًا منه على طريقة الاكتفاء بالتعداد والتصنيف، التي يتبعها علماء المنطق الصوري، فقد كان منذ البداية مهتمًّا بحركية الفكر المنطقي وعلاقته الأساسية بالنسق، ولم يكن التفكير في نظره أفعالًا ذاتية وإنما رأى أنه يدين بطابعه المميز لإشارته إلى المجال الموضوعي للأشياء، وهو المجال المستقل عن هذه الأفعال، فهو يدرك الواقع ويغدو هو وإياه شيئًا واحدًا. وهكذا فإن للمنطق نفس مضمون الميتافيزيقا، وإن كلمة هيجل القائلة: إن الحقيقة هي الكل، لتصحُّ على الأول مثلما تصح على الثانية، هذه الفكرة تنتشر في جميع تعاليم بوزانكيت، فالحقيقة لا تكون إلا في نسق، بحيث إن علامتها المميزة هي الترابط coherence، أي التوافق في ارتباط جميع الأجزاء في كلٍّ منظم، لا في التطابق الخارجي بين الفكر والواقع، كما تقول نظرية النسخة والأصل،٨٦ «والوقائع الخالصة» لا تكون لها واقعية ولا حقيقة حتى ترتبط مع وقائعَ أخرى وتدرك في مكانها في ترتيب الكل.

فالصورة المنطقية الأولى والأساسية في بوزانكيت — كما هي في نظر برادلي — هي الحكم لا التصور؛ إذ ليس للتصور مكان في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءًا عضويًّا من حكم، فالحكم معنى يكوِّن كلًّا عضويًّا، وبالتالي لا يمكن فهمه إلا في ضوء الوحدة الوظيفية لأجزائه. أما إذا أخذنا نُعدِّد هذه الأجزاء ونُحلِّلها، كان في ذلك تمزيق لنسيجها الحي، وكل فعل للحكم يشير إلى واقع خارج هذا الفعل ذاته، ومن الواجب أن يعد حكم الإدراك الحسي المألوف تمامًا تعبيرًا جزئيًّا عن الواقع، أما الحكم الكامل فلن يكون أقل من تأكيد الواقع كله في أعمِّ صورة له؛ لذلك فإن الواقع — بما هو كذلك — هو في آخر الأمر الموضوع المميز لكل حكمٍ صحيح، وفي كل حكم تفترض مقدمًا كلية الأشياء بطريقة أو بأخرى على الدوام، حتى ولو كنا لا ندركها في عملية الحكم إلا بطريقةٍ جزئية، وإذن فلما كان الحكم هو الجهد الذي يبذله الفكر لتحديد الواقع، فإنه لن يتباين فقط تبعًا لاختلاف الأنواع الكيفية للواقع الذي يحدده من آن لآخر، بل أيضًا تبعًا لدرجة النجاح الذي يحققه في هذا التحديد، وسواء اتخذ الحكم شكل معادلةٍ رياضية أو تعريفٍ منطقي أو حكمٍ تقويمي، فإن أهم طابع يميزه يتحدد بالكل الكامن الذي يدركه.

ويتضح نقص المنطق الصوري التقليدي والمنطق الاستقرائي الذي قال به التجريبيون على السواء إذا ما قيسا بالفكرة التي ترى المنطق متوقفًا على النسق وعاملًا يدخل في تركيب الواقع. ويزداد ذلك وضوحًا في فكرة الاستدلال عند بوزانكيت، وهي الفكرة التي يعرضها في كتابه «المنطق»، كما يقدم لها عرضًا عميقًا في بحثه الموجز «التضمن والاستدلال التسلسلي»، فهو هنا يميز بين رأيَين ممكنَين في الاستقراء، التسلسلي Linear والنسقي systematic فالقياس، الذي هو أصدق ممثل لكل أنواع الاستنباط، يسير تبعًا للرأي الأول، فهو يربط محمولًا بموضوع، ويأخذ النتيجة على أنها موضوعٌ جديد، ويربط بها محمولًا آخر، وهكذا يسير على شكلٍ متسلسل، ومعظم الاستدلالات المسماة بالاستقرائية تسير على نفس النمط. وفي مقابل هذه الأنواع يقول بوزانكيت برأيٍ آخر في الاستدلال، يراه فيه نسقيًّا systematic، أي تضمنيًّا بدلًا من التسلسلي، بحيث يكون التضمن هو تشابك الأجزاء في كل نسقٍ سابق عليها، يوجِّه العملية الاستدلالية كلها ويتغلغل فيها نتيجة لصفة السبق هذه، فنحن في كل استدلالٍ حقيقي، سواء أكان ذلك في التفكير العلمي أم في التفكير اليومي، نستعرض نسقًا من الوقائع، ونتأمله في علاقته بنسقٍ أكبر للواقع، ونتبين المتضمنات بطريقٍ مباشر أو غير مباشر، وكلما كانت ارتباطات النسق في أي فرع للمعرفة أكمل وأشمل، كانت تلك المعرفة أرفع.
ومن الطريف، في صدد هذا الرأي القائل إن جميع العمليات المنطقية ترتكز على استدلالٍ نسقي لا تسلسلي، أن نلاحظ تأثير هوسرل؛٨٧ ذلك لأن أعمال هوسرل في عمومها، ولا سيما منهجه في حدس الماهيات بوجهٍ خاص، قد أدى ببوزانكيت إلى الفكرة القائلة إن التبدي المباشر للدالات أو التضمنات الرابطة يلعب، في جميع العمليات المنطقية، دورًا أهم بكثير من الاستدلال على أساس التجربة السابقة، فهناك عاملٌ حدسي يؤدي دوره، ويمكننا من أن نتأمل ماهية الأشياء في أعمق أعماقها — إن جاز هذا التعبير — وندرك على التو ارتباطاتها داخل النسق. وهكذا لا يتردد بوزانكيت في أن يُعلن أنه ليس من الصحيح على الإطلاق أن يُقال على هذا الحدس إنه لا منطقي أو لا معقول، بل إنه يكوِّن ماهية كل الأنواع العليا من الاستدلال، كذلك ينبغي أن نلاحظ أن التضمن بهذا المعنى يعني بالنسبة إليه نفس ما يعنيه الديالكتيك. ولما لم يكن من المحتمل أنه قد عرف بوجود ارتباطٍ تاريخيٍّ وثيق بين ديالكتيك هيجل وحدس الماهيات عند هوسرل، فإن إدراكه للعلاقة الوثيقة القائمة بينهما هو دون شك علامة على صدق فطرته.

أما في ميدان الفلسفة السياسية، فإن بوزانكيت كان يسلك نفس الطريق المثالي العظيم الذي سار فيه أفلاطون وأرسطو وروسو وهيجل وجرين. وإذا استثنينا المحاولة التي بذلها جرين على استحياء، فقد كان بوزانكيت أول مفكر في إنجلترا يقوم بعملية إحياء حقيقية لفكرة الدولة كما تصورها هيجل، في مقابل النظريات القومية الليبرالية عند بنتام ومل وسبنسر. وعلى حين أن جرين قد توقف في منتصف الطريق، فإن بوزانكيت قد سار الشوط كله مع هيجل، وكان أول من فعل ذلك، ويمكن القول، دون تحفظ: إن وضعه لنظرية الدولة كان أكبر وأهم محاولة في الحركة المثالية الإنجليزية.

والمشكلة الأساسية في هذا الصدد هي علاقة الفرد بالمجتمع، وهي المشكلة التي سرعان ما تغدو جزءًا من المشكلة الميتافيزيقية العامة، مشكلة علاقة الجزء بالكل، فالفرد المنعزل الذي اتخذت منه جميع النظريات السياسية الإنجليزية تقريبًا نقطة بداية لها (وقد أطلق بوزانكيت على هذه النظريات اسمًا ملائمًا هو «نظريات الوهلة الأولى theories of the first look»)، لا يمكن أن يكون هو الفرد الذي نعرفه في المجتمع أو الدولة والذي نهتم به في هذا الفرع من الفلسفة، كذلك لا بد أن يكون هنالك خطأ في الافتراض القائل إن الناس بطبيعتهم أفراد من هذا النوع، ينعزل بعضهم عن البعض، أو حتى يعارض بعضهم البعض، ولا يتجمعون سويًّا في مجتمع إلا في مرحلةٍ متأخرة، وبطريقةٍ مصطنعة أو خارجية، فلقد خطا روسو خطوةً هائلة إلى الأمام، واستبق النظرية المثالية في الدولة، بتمييزه بين «إرادة الجميع Volonté de tous» وبين «الإرادة العامة Volonté générale»، فالأولى لا تعدو أن تكون مجموع الإرادات الخاصة، بينما الثانية تتضمن فكرة الوحدة العضوية. ويوضح بوزانكيت هذا التمييز فيضرب له مثلًا دالًّا عليه، هو التفرقة بين الحشد الذي اجتمع كيفما اتفق، والجيش المنظم؛ فليس بين أفراد النوع الأول ما يشتركون فيه إلا تجمعهم سويًّا، أما أفراد النوع الثاني فيجمع بينهم تنظيم يتحدد فيه الأفراد تبعًا لكلٍّ منظم يتغلغل ويحيا فيهم. وهكذا فإن الفرد، عندما تتغلغل فيه، على هذا النحو، الإرادة العامة، يتخلص من عزلته، ولا يعود مفككًا منفصلًا عن غيره، ويرتفع إلى مستوى أعلى، ويبلغ فرديته الأصيلة التي تنتمي إلى ذات تربطها بالكل الجماعي رابطةٌ عضوية. وبهذه النظرة العميقة إلى الفردية حطم بوزانكيت أساس النزعة الفردية في النظرية التجريبية في الدولة.

ولو نظرنا إلى الذات الجزئية من الوجهة الأخلاقية، لكانت هي الذات الأنانية التي تحيا تمامًا بدوافعها الطبيعية، على حين أن الذات العضوية هي الذات المعنوية أو العاقلة. والآن يمكن تحديد ماهية الدولة وغايتها، فالدولة هي الإرادة العامة أو العاقلة، وهي كائن مستمر في هوية مع ذاته، يتغلغل في كثرة من الأفراد الذين لا يكون للدولة وجود ومعنى إلا فيهم وبهم، والغاية العليا للدولة هي نفس غاية الفرد، أي تحقيق أفضل حياة ممكنة، أو الارتفاع بطبيعتنا إلى الوحدة الكاملة مع الكل الاجتماعي. والأمران سيان، غير أن للدولة، في غايتها المباشرة، وظيفة أخرى أكثر سلبية، هي إزاحة العقبات التي تقف في وجه تحقيق الغاية الأخلاقية. ولما لم يكن من الممكن دائمًا إزاحة هذه العقبات بالتأثير الأخلاقي البحت، فإنه يتعين في كثير من الأحيان الالتجاء إلى الإرغام والقهر. وهكذا فإن القوة جزءٌ أصيل لا يتجزأ من طبيعة الدولة؛ إذ أن الأنانيين في طبيعتهم الجامدة، وكذلك معظمنا في حالتنا الحيوانية، يحتاجون إلى الإرغام من أجل تحقيق الذات الحقَّة. وهذه فكرة تظهر فيها بوضوح تلك الثنائية التي وضعها كانت بين الذات التجريبية والذات المعقولة، فعلى عاتق الدولة تقع مهمة تحرير الذات العاقلة من أغلالها التجريبية، والارتقاء بها، ولو بالقوة، إلى مرتبة الحرية؛ ذلك لأن الحرية هي تحقيق الذات الحقة، وهي أن نحيا أفضل حياةٍ ممكنة لنا، ونكوِّن نحن والكل واحدًا. وما القسر الذي تفرضه علينا الإرادة العامة، آخر الأمر، إلا المطلب الذي تفرضه ذاتنا الحقة الفاضلة على ذاتنا الدنيا العنيدة. ومثل هذا القسر أمر لا مفر منه طالما أنه ليس لدينا فكرة عن ضرورة هذا المطلب، أو طالما كانت فكرتنا عنه ناقصة فحسب. وهذا هو أساس حق الدولة في معاقبة المذنبين، فالعقاب تعويض عن الظلم الذي يلحق المجتمع نتيجة للإخلال بنظامه القانوني، وهو إلغاء للإرادة المضادة للمجتمع عند المذنب.والمذنب ذاته عضو في الجماعة التي لحقها الظلم، وله على هذا الأساس الحق في أن يعاقب بمعنًى ما، لئلا يخدع في طبيعة الحياة الاجتماعية. ويعدُّ إلحاق العقوبة به ثمنًا لإعادة اندماجه في المجتمع الذي خرج على قانونه بما ارتكبه من إثم، وهنا نجد بوزانكيت يساير نظرية هيجل التي تعرف العقوبة بأنها قصاص.

وخير سبيل إلى تحقيق هذه المهام المتعددة، في رأي بوزانكيت، هو الدولة القومية national State، ولا شك أن فكرة الإنسانية تتجاوز هذا المدى، غير أنها لما كانت غير قابلة للتحقق في نظام أو كلٍّ منظم، فليست لها أهمية فيما يتعلق بالتدبير العملي للمهام الاجتماعية، ومن الواجب ألا يحكم على أخلاقية أفعال الدولة بالمقاييس التي تسري على أفعال الأفراد؛ إذ إن الغايات الواجب تحقيقها أرفع، بحيث تجعل من الدولة، بوصفها فردًا من مرتبة أعلى، كيانًا قائمًا بذاته ولا نظير له، فقد يتعين في بعض الأحيان أن تستخدم القوة الكامنة في طبيعتها، والتي تستخدمها في كثير من الأحيان ضد أفرادها، ضد دولٍ أخرى، عندما تهدد المصالح العليا للأمة. ولقد لقيت هذه الآراء وغيرها من الآراء المشابهة، كما لاحظنا من قبلُ عند الكلام عن هبهوس، معارضةً شديدةً خلال الحرب العالمية الأولى، عندما رأت العقلية التي أعمتها الحرب في نظرية الدولة عند هيجل — وهي النظرية التي شوهتها هذه العقلية تمامًا — أصلًا روحيًّا للكارثة. أما اليوم، بعد أن أصبحت النفوس أهدأ، فقد اعترف من جديد بأن فيلسوفًا إنجليزيًّا لم يدرك طبيعة الدولة ويعرضها على نحوٍ أعمق مما أدركها وعرضها به بوزانكيت، وهو فيلسوفٌ هيجلي.

أما الميتافيزيقا فإنها بداية تفكير بوزانكيت ونهايته، وهي أيضًا كل ما يقع بين هذه البداية والنهاية، ويتم الانتقال إليها من فلسفته في الدولة عن طريق الاعتراف بأن الروح الاجتماعية، التي تكون الدولة أعلى تجسد لها، ليست هي الصورة النهائية للفردية، بل هي واحدة من صورها الأولية فحسب، فهناك — من وراء أنظمة الحياة السياسية وأوجه نشاطها — مجالات تساهم بنصيبٍ أكبر كثيرًا في تحقيق الذات التي اكتفت الدولة بدعمها وكفالة الأمن لها، فالروح الإنسانية، في إدراكها المتزايد للعالم، تعلو على الدولة إلى نسقٍ أعلى تزيدها اقترابًا من الواقع المطلق، أعني نسق الفن والدين والفلسفة. وبهذه الأخيرة تصل إلى الميتافيزيقا، أي مذهب المطلق.

وعلى الرغم من أن أنظار بوزانكيت الميتافيزيقية، التي تتبدى فيما ألقاه من محاضرات «جيفورد»، تفترق عن أنظار برادلي وتتجاوزها من حيث المضمون والمصطلح معًا، فإن التغيرات لا تمس إلا الفوارق الدقيقة والاختلافات السطحية. أما في جميع النقاط الأساسية فهو يسير في الاتجاه الذي أشار إليه برادلي؛ لذلك لم تكن بنا حاجة إلا إلى أن نلفت الأنظار إلى النواحي التي يبدو أنه تجاوز برادلي فيها.

وتتركز أفكار بوزانكيت في مشكلة الفردية، فمهمته هي إدراك طبيعة الفردية، لا في أي مجالٍ خاص، كالمجال الأخلاقي أو الاجتماعي، وإنما في دلالتها الميتافيزيقية النهائية. هذه الدلالة، كما فهمها بوزانكيت، مضادة تمامًا للرأي السائد عن الفرد بوصفه شيئًا منعزلًا، خاصًّا، فريدًا. ويتضح ذلك في موقفه من التاريخ، فهو، على خلاف بعض الفلاسفة الألمان المحدثين، الذين كان التاريخ في نظرهم هو المجال الخاص بالفرد، قد رأى أن التاريخ تجربة من نوعٍ مختلط، تتميز بالتعاقب العارض والزمني المحض للحوادث؛ وبالتالي لم يعلق عليه أهمية. وهو بالفعل يرى بدوره أن الفرد شيءٌ خاص يتميز على نحوٍ فريد تمامًا من الجزئيات الأخرى، ولكن بمعنى أن هناك شيئًا واحدًا فقط هو الذي يعبر بوضوح عن طبيعة الفردية، ألا وهو المطلق، فالوحدات في الرياضة والعلوم الطبيعية، كالأعداد والذرات، تقف على مسافةٍ بعيدة كل البعد عن الفرد بالمعنى الزاخر الذي فهمه به بوزانكيت، فالأولى وحداتٌ مجردة، ومجرد تكرار لمتشابهات، بينما الفرد الحقيقي هوية عينيةٌ كلية داخل كلٍّ منظمٍ زاخر بالتنوع.

وهكذا فإن الفردية، بوصفها الكلية العينية، واللامتناهي الحقيقي بالمعنى الهيجلي، تبلغ أسمى مراحلها في تجربة «المطلق» اللامتناهية، أما في التجربة المتناهية فإنا نجد استباقات لها، وأفرادًا من نوعٍ أدنى، تتمثل أكمل أنواعها في العمل الفني وفي الشخصية الإنسانية وفي الطائفة الاجتماعية مثلًا. ومن الواجب ألا نخطئ فهم هذه الفكرة في حالة الإنسان، ففي اللغة المعتادة يقال عن الإنسان إن لديه فردية بقدر ما يكفُّ عن أن يكون مجرد ممثل للنوع الذي ينتمي إليه، وبقدر ما يغدو شخصية، أي بقدر ما يتميز بصفاته وأعماله الخاصة، بل إن التفكير الفلسفي ذاته كثيرًا ما نظر إلى فكرتَي الفردية والشخصية على أنهما فكرتان لا تنفصلان. وقد كان «راشدال»، من بين الفلاسفة الإنجليز المتأخرين، أوضح وأصدق ممثل لهذه النظرة التشخيصية، غير أن بوزانكيت يخالف هذا الرأي؛ فهو لا يوافق على أن الشخصية عنصرٌ ضروري داخل في تكوين الفردية، ويؤكد مرارًا أن الفردية البشرية ليست هي التي تحقق مقتضيات الفردية الكاملة بمعناها الصحيح، وإنما ينبغي التماس هذا التحقق فيما وراء المستوى الشخصي والمتناهي، فما الفرد البشري إلا جزء من كلٍّ أكبر، وهو بدون هذا الكل لا يكون شيئًا، وإنما يحتاج إلى أن يكمل فيه، فهو ناقصٌ مفتقر إلى الكمال طالما ظل على تناهيه، وهو لا يكون فردًا بحق طالما ظل شخصًا، وإنما هو في الأصل لا يعدو أن يكون كثرة وتعددًا، يهفو إلى أن يصبح كلًّا واحدًا، ومن هنا كان عليه أن يجد حلًّا وسطًا أو توفيقًا بين ما يكونه وبين ما يود أو ينبغي أن يكونه، وعلى ذلك فالصفة المميزة للمتناهي هي العلاء على الذات، وهذه فكرة لها أهميتها الرئيسية في مذهب بوزانكيت.

وتحتل الفكرة مكان الصدارة في الجزء الثاني من «محاضرات جيفورد» الذي حاول فيه تقديم عرضٍ ميتافيزيقي «لقيمة الفرد ومصيره»، وهو يرى أن هناك ثلاث مراحل ينبغي أن يعتبرها المرء في سيره نحو مصيره، هي «تشكيل النفوس moulding of souls»، «ومخاطرها ومشاقها hazards & hardships» و«استقرارها وطمأنينتها stability & security»، فالمركز الذي يتميز به الإنسان في الكون هو أنه يقف بين قطبَي «الطبيعة» و«المطلق»، المتناهي واللامتناهي، بحيث إن له طابعًا مزدوجًا، وبحيث يكون متناهيًا ولا متناهيًا معًا، فهو ينشأ من الظروف الطبيعية للحياة، ويكون في مبدأ الأمر مقيدًا بهذه الظروف خاضعًا لها في جزء من نسيج وجوده. غير أنه بقدر ما يكون نتاجًا خالصًا للطبيعة، يعجز عن تحقيق المعنى والهدف الصحيح لوجوده. على أن في الإنسان منذ البداية حافزًا يدعوه إلى بلوغ مزيد من الكمال الذي يتجاوز صفاته الطبيعية الخالصة، هذا الحافز يولد اضطرابًا في نفسه، واختلالًا في التوازن المحكم الذي تتحقق في ظله الغريزة الحيوانية، بحيث ينغمس الإنسان في معترك الوجود الحي، في النضال والحاجة، في الخطر والهم، ولا يجد له في أي مكان مستقرًّا، غير أنه لا يستطيع أن يثابر على هذا التذبذب الدائم بين المتناهي واللامتناهي، ويهفو على الدوام إلى تلك الصورة العليا للوجود، التي يجد فيها وحدها ذاته الحقة وكماله. وفي عملية التقدم هذه يتعين عليه أن يترك جانبًا فرديته المتناهية، بكل ما فيها من قلق وشقاق، وينبغي أن يختفي كل ما كانه من قبلُ، في تحولٍ أصيل. وهو لا يصل إلى الخلاص مما تتصف به حياته الطبيعية من قصور ونقصان، ومن ضغط وعذاب، ولا يرتفع إلى مستوى الاستقرار والطمأنينة في الهدوء والكمال، إلا إذا تحقق هذا التحول. فعندئذٍ تنتقل ذاته محورة إلى الاندماج في السلام الأزلي للمطلق. ولو كان للاعتقاد بالخلود أي معنًى، فهذا المعنى ليس هو أننا نحمل ذاتنا الحالية إلى العالم المقبل، وإنما أننا يمكن أن نظل باقين على نحوٍ ما، في ذلك العالم في صورةٍ متغيرة.
ومن الواجب أن نتجنب فهم هذه الأفكار بأي معنًى ديني، فقد كان بوزانكيت يماثل برادلي في بُعده عن الدين بمعناه الضيق، وكان مثله ينظر إلى الدين، مهما كانت قيمته وضرورته في مجاله الخاص، على أنه لا يعدو آخر الأمر أن يكون مرحلةً مبدئية تمهد للميتافيزيقا، وكان ينظر إلى الله لا على أنه الكائن الحقيقي الشامل لكل شيء، بل على أنه مظهر، أي على أنه أعلى المظاهر، ولكنه ما زال أقل من المطلق، وإنما الواجب أن يفهم التحول، الذي تحدثنا عنه من قبلُ بمعنًى ميتافيزيقيٍّ صرف، أي على أنه علو الفرد على ذاته، لا في عالم يتجاوز هذا العالم، بل في حياته اليومية في المكان والزمان الحاليَّين. ويعلن بوزانكيت أن إعادة تنظيم تجربتنا عن طريق إدراجها في تجربةٍ كلية أكمل، هو شيء يمكننا أن نحققه في أي وقت، فالمطلق يدخل حياتنا المتناهية ويتبدَّى في أي شيء نفكر فيه أو نفعله، «فأي تحليلٍ دقيق لحياة كائنٍ بشريٍّ عادي في يومٍ واحد، كفيل بأن يأتي على نحوٍ قاطع بكل ما هو لازم من حيث المبدأ لتأكيد المطلق.»٨٨
وعلى ذلك فإن بوزانكيت، مثل برادلي، يرى أن المطلق، الذي يضحَّى على مذبحه بفردية الإنسان الشخصية، إنما هو نتاج للشوق والتلهف، فهو المثل الأعلى الذي نصبو إليه، وهو أعلى قيمنا، وهو النجم الذي يهدينا في ارتقائنا بطبيعتنا. وعلى ذلك فهو لا يوجد وراء أفقٍ بعيد، وإنما هو بيننا، وكل ما علينا هو أن نمدَّ أيدينا لنصل إليه ونأتي به إلى وجودنا، بل إن في وسعنا، دون أن نخرج عن معناه، أن نسميه ﺑالإنسان الأرقى Superman بلغة نيتشه. وقد استخدم بوزانكيت نفسه تعبير نيتشه «قلب كل القيم» ليصف علو المتناهي على ذاته، ولقد أكد بعض الكُتَّاب أن لنظرته إلى العالم طابعًا بطوليًّا. ومع ذلك فمن الخطأ المضي في هذا الاتجاه أبعد مما ينبغي؛ إذ إن المثل الأعلى عند بوزانكيت أقرب بكثير إلى طابع الملاذ الأمين والمقر المريح، وهو أكثر سلبية وسكونًا من أن يسمح بالتوفيق بينه وبين كفاح نيتشه البطولي من أجل إعلاء طبيعتنا. كذلك الحال في تفاؤليته الساذجة ونظرته إلى الحياة البشرية على أنها تنزلق بهدوء إلى الاستقرار في الانسجام الوادع المطلق، فهو في هذه النواحي يقتفي أثر برادلي.

وعلى الرغم من أن بوزانكيت، كما رأينا، قد جعل من مشكلة الفردية محورًا لتفكيره، فإن مذهبه في المطلق لم ينشأ عنها، وهذا أمرٌ واضح لديه كما هو لدى برادلي؛ ذلك لأنه إذا كان السبيل إلى بلوغ المثل الأعلى هو التضحية بالذات الإنسانية، فهلا يكون في ذلك تحطيم لشخصية الإنسان في أعمق أغوارها؟ وإذا كان لا بد لهذه الشخصية أن تتبدل تمامًا لكي تجد ذاتها الحقة، فما الذي يتبقَّى من قيمتها المميزة؟ ألسنا نُقدِّر قيمة الشخصية أولًا وقبل كل شيء من أجل ما هي عليه في المكان والزمان الراهنَين، لا من أجل مثلٍ أعلى لها يقتضي تحقيقه القضاء على كل ما هو عزيز لدينا؟ أليست فكرة إذابة فرد وإدراجه في فردٍ أعلى هي على أية حال فكرة يصعب تصورها إلى حدٍّ بعيد؟ لا جدال في أن بوزانكيت، في بحثه في الشخصية الفردية، يمضي في الحد من قيمتها إلى حدٍّ يستحيل بعده البحث على أي نحو في مسألة إدراك طابعها الأساسي، فمذهبه مضطر إلى الاختيار بين أحد أمرين: إما أن يظل المثل الأعلى غير متحقق، وإما أن يقضي على الواقع الحقيقي، وتلك هي نتيجة السير بالمثل الأعلى أبعد ما ينبغي عن الواقع.

ولا يتسع المقام هنا لمعالجة ميتافيزيقا بوزانكيت بطريقةٍ شاملة على أي نحو، كما أن الحاجة لا تدعو إلى ذلك، بل نستطيع أن نختم كلامنا بأن نلاحظ أن مشكلة القيم تحتل فيه مكانةً أبرز بكثير من مكانتها عند برادلي، وربما كان ذلك راجعًا إلى تأثير لوتسه والفلاسفة الألمان المتأخرين الذين بحثوا مشكلة القيم. على أن تكرار استخدام التعبيرات المستمدة من مجال القيم لم يتغير بالفعل أي عنصرٍ أساسي في الموضوع، بحيث لا يمكننا في هذه الحالة أيضًا أن نقول إن بوزانكيت قد أفلح في إحراز أي تقدمٍ حقيقي على برادلي، الذي كان التجاؤه إلى مصطلح القيم أقل منه بكثير. والواقع أن استخدام برادلي المتحمس المترفع للفظ «الواقع» يدل على أن هذا اللفظ كان في نظره تصورًا ينتمي أساسًا إلى مجال القيمة. ولما كان الأمر كذلك فقد كان من السهل إعادة التعبير عن أجزاء معينة من مذهبه بلغة القيم، وهذا ما فعله بوزانكيت، فالمطلق في نظره ليس أعلى حقيقة وأسمى واقع فحسب، بل هو أيضًا أعلى القيم، وهو مقياس كل جدارة. كذلك اعترف بوزانكيت بمستويات القيمة مثلما اعترف بمستويات الفردية والواقع، فمقياس جدارة أية ظاهرة هو في حتميتها المنطقية وخلوِّها من التناقض، أو في الارتباط العضوي المتبادل والانسجام بين أجزائها، والأمران سيان. ومن الواضح أن فكرته عن القيمة ونظرته إلى العالم بوجهٍ عام، قد تحددت أساسًا بأفكاره الرئيسية المنطقية والجمالية، فتأثير الأفكار المنطقية واضح في سعيه وراء الرضاء النظري باستبعاد كل ما هو متناقض لا معقول، كما أن تأثير علم الجمال واضح في ذلك التكامل المنسجم لمذهبه في سيمفونية للمطلق يعود فيها كل ما هو نشاز إلى التوافق والانسجام.

وليس في وسعنا إلا أن نتعرض بإيجاز للدور الذي ساهم به بوزانكيت في علم الجمال، فقد كان من الفلاسفة الإنجليز المتأخرين القلائل الذين شغلوا بهذا الميدان، وقد لفت النظر، بذلك، إلى جزء من تراث هيجل كان من العجيب أن المدرسة الهيجلية لم تكد تهتم به. ولقد كان يدين بالكثير إلى رسكين Ruskin ووليام موريس، بالإضافة إلى دينه لهيجل، وكان أهم مؤلفاته في هذا الصدد كتابه الشامل «تاريخ علم الجمال» الذي يتعقب تطور نظرية الفن وعلم الجمال منذ اليونانيين حتى القرن التاسع عشر. ويعدُّ هذا الكتاب، الذي تغلغلت فيه روح هيجل، بحثًا تاريخيًّا من الطراز الأول، جمع بين ارتفاع مستوى الثقافة وبين سعة الاطلاع والفهم العميق للمشكلات الفنية والجمالية، وقام فيه بدراساتٍ واسعةٍ عميقة لمواقف وشخصياتٍ روحية، فبحثه، مثلًا، في الدلالة الجمالية للحركة الألمانية منذ بداية القرن الثامن عشر، إلى المذهب الكلاسيكي والرومانتيكي والمثالي، حتى المدارس بعد الهيجلية؛ هذا البحث هو وحده شاهد على سعة نطاق قراءاته إلى حدٍّ يدعو إلى الدهشة، وليس من المبالغة أن نقول إن بوزانكيت كان، في عصره، هو الإنجليزي الوحيد الذي كان في وسعه الارتفاع إلى هذا المستوى العالي الشامل في الملاحظة، أما آراؤه الخاصة في علم الجمال، التي لم يعرضها إلا في كتابٍ صغير جدًّا، فتندرج بطبيعة الحال ضمن الإطار العام لمذهبه، وإن لم يكن هذا الإطار يظهر إلا بطريقةٍ عارضة، ولا يحول على أي نحو دون التطور الحر لأفكاره.

ولقد كان يرى في الجمال نوعًا أساسيًّا من الوحدة العليا، وتوفيقًا بين الخاص والعام، والطبيعي والروحي، والضرورة والحرية، وكان تصوره للجمال من السعة بقدر تصوره للخير والحق. وهكذا جعله يشتمل على القبح بوصفه أدنى مستوًى أو مظهرًا له، وأن الكمال المنسجم الذي تتمتع به في العمل الفني إنما هو أكمل بشير بتلك الوحدة النهائية التي تتطلع إليها الميتافيزيقا بوصفها «المطلق».

أثارت نظرية الحقيقة عند جويكم، وهي النظرية التي وضعها على أساس مذهب المطلق عند برادلي وبوزانكيت، اهتمامًا كبيرًا بمجرد ظهورها، كما حفزت على قيام مناقشاتٍ حية اشترك فيها رسل ومور وشيلر ودوس هكس Dawes Hicks وغيرهم. وكان سبب هذا الاهتمام الذي أُبدي بكتابٍ صغير نسبيًّا هو أن الكتاب، الذي ألَّفه ممثل لمدرسة المطلق، قد تضمن لأول مرة اعترافًا علنيًّا صريحًا ببعض الصعوبات الكامنة في مذهب المطلق، واستخلص منها نتائجَ معينة كان ممثلو المدرسة يخفونها، ولكن كان خصومها قد كشفوها من قبلُ، وفضلًا عن ذلك فقد وضع جويكم في صورةٍ منهجية أفكارًا اكتفى برادلي بالإشارة إليها، أو عرضها بطريقةٍ عامة فحسب.
تقول هذه النظرية إن من الواجب النظر إلى الحقيقة على أنها هي حقيقة النسق فحسب، أي هي الترابط داخل كلٍّ أكبر للمعرفة والوجود، وداخل الكل الكامل لهما آخر الأمر. ونستطيع أن نطلق على هذه النظرية اسم نظرية الترابط الكامن immanent coherence ويميز جويكم بينها وبين ثلاث نظرياتٍ أخرى كانت شائعة عندئذٍ، فالحقيقة أولًا ليست هي التطابق بين الفكر والواقع، وليست هي التصوير الفكري لواقعة، وليست صورةً صحيحة لأصلٍ خارج عنها، وهي ثانيًا ليست صفحة لكياناتٍ مستقلة عن الوعي، توجد في ذاتها ولذاتها، وبالتالي لا ترتبط بالذهن العارف، وثالثًا فهي لا يمكن أن تكون إدراكًا حدسيًّا مباشر الموضوعات، حتى لو كانت تتخذ هذا الشكل في كثير من الأحيان، وعندما تتخذ الحقيقة هذه الصورة لا تكون صحيحة بسبب هذا الطابع المعطى المباشر، بل رغمًا منه، ومقابل هذه النظريات يرى جويكم أن الحقيقة تتكشف في توسطٍ عقلي داخل نسق. فكل حكم جزء من تركيبٍ عام للمعنى، بدونه لا يكون الحكم شيئًا، وهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأساس يستمدُّ منه معناه المحدد، هذا الأساس، كما قلنا، هو كل المعرفة أو الوجود، وحتى لو تأملنا قضيةً بسيطة، تبدو واضحةً بذاتها، مثل ٢ + ٢ = ٤، لوجدناها لا تكتسب معنًى، وبالتالي لا تكتسب حقيقة، إلا إذا نُظر إليها في ضوء النسق الكامل للأعداد، الذي هو بدوره ليس قسمًا أو جزءًا صغيرًا من الواقع من حيث هو كلٌّ، وكلما اتسع نطاق أساس المعنى الذي يرتكز عليه الحكم، كان هذا الحكم أصح؛ إذ إن حقيقته تتوقف على درجة الترابط التي تتحقق للنسق فيه، وبالمثل فإن كل تجربةٍ جزئية تكمن في التجربة المثالية الشاملة لكل شيء، ولكن ينبغي ألا يُنظَر إلى هذه التجربة المثالية بطريقةٍ سكونية، على أنها تركيبٌ جامد، وكلٌّ تامٌّ مرتكز في ذاته، وإنما ينبغي أن تعد عملية حية تحقق ذاتها، وهنا يترك جويكم، مثل. برادلي، مجالًا لإمكان وجود درجات للحقيقة تتدرج بين طرفَين هما الحقيقة كاملة النسق، وبالتالي المطلقة، من جهة، والوقائع المنعزلة تمامًا من جهةٍ أخرى. وهو يتفق أيضًا مع برادلي، ومع اسبينوزا الذي درسه بعمق، في قوله إن الخطأ حقيقةٌ ناقصة، أو هو الظل الذي تلقيه الحقيقة، فهو العنصر السلبي في قلب الأشياء، وهو نشازٌ قبيح سيختفي في توافق المطلق، وهو مجرد مرحلةٍ جزئية أو عاملٍ جزئي في الديالكتيك اللانهائي للحقيقة. ومعناه الميتافيزيقي النهائي هو سقوط المتناهي عن اللامتناهي، وانفصال جزء عن الكل، يود أن يؤكد استقلاله الخاص، هذا الانفصال الواحد من عوامل الحقيقة ينتمي إلى الطبيعة الباطنة للحقيقة، فالجزء إنما هو سلب للحقيقة، ووجهٌ مغاير لها، ينبثق عن باطنها، ولكنه لا يفعل ذلك إلا ليعود إليها؛ إذ إن الوحدة تستوعب المغايرة otherness وتعلو عليها. وهنا نجد بكل وضوح عنصرًا صوفيًّا اسبينوزيًّا، يتمثل كذلك لدى برادلي، ولكنه لا يتمثل لدى بوزانكيت.
وبعد كل هذا العرض الذي يقدمه جويكم بدقة وإحكام كبيرَين، يعترف اعترافًا طريفًا، هو أن نظرية الترابط لا يمكن أن تأتي بالحل المرضي لطبيعة الحقيقة، وأن مآلها إلى الانهيار، فهو يرى أنها لا تنطبق إلا على حقيقةٍ مثالية لا يمكن أن تبلغها المعرفة البشرية أبدًا. فمعرفتنا المتناهية مقالية discursive دائمًا، وهي دائمًا معرفة «عن» شيء غيرها، وبالتالي فإن أية نظرية نصوغها عن الحقيقة لا يمكن إلا أن تكون نظرية «عن» حقيقةٍ أسبقَ منها فحسب. لذلك فإن فكرة الترابط لا يمكن أن ترتفع فوق مستوى معرفة مهما بلغت فلن تزيد على ما تبلغه الحقيقة بوصفها تطابقًا، بل إن هذا يستتبع أيضًا أن نظرية الترابط ذاتها لا يمكن أن تكون لها صحةٌ كاملة؛ إذ لا يمكننا أن نثبت أنها علامة للحقيقة المطلقة، بل إننا نرجح ذلك فحسب. وهكذا اعترف جويكم بانهيار نظريته الخاصة، حتى مع تأكيده أنها تغوص في قلوب المشكلة على نحوٍ أعمق مما تغوص فيها أية نظريةٍ أخرى. مثل هذه النتيجة لا يمكن أن تكون مُرضية، وهي تدل على أن هناك خطأً ما في الأسس الفلسفية التي نشأت منها النظرية، والمشكلة إنما تكون في تلك الهوة السحيقة التي وضعها برادلي بين المظهر والواقع، والتي استبْقاها جويكم في صورة انفصالٍ أكبر مما ينبغي بين المعرفة البشرية والحقيقة المطلقة، فالمثل الأعلى مرفوع فوق الواقع الفعلي إلى حدٍّ لا يتيح له أن يجد في هذا تعبيرًا عنه وتجسدًا له. فالخصومة الشديدة بين مذهب المطلق وبين المذهب البرجماتي مثلًا ترتكز أساسًا على التقابل بين مذهب يتخذ من المثل الأعلى غاية له ومذهب لا يتركز إلا في مجال التجربة البشرية.
لقد كان التأثير المباشر وغير المباشر لتعاليم برادلي من القوة بحيث لم يكد يفلت منه أي مفكرٍ هام، ويمتد هذا التأثير في جميع أطراف الفلسفة الإنجليزية المعاصرة، فهو ظاهر في أتباعه وخصومه والمحايدين على السواء، وهو لم يبدأ في الاضمحلال إلا في السنوات الأخيرة. ونستطيع أن نذكر، من بين أقرب الأتباع إليه، بالإضافة إلى بوزانكيت وجويكم، أ. إ. تيلور A. E. Taylor، الذي كان يدين لبرادلي بالكثير في كتاباته الأولى. ولكن لما كان تيلور قد اتبع فيما بعدُ طرقًا فكريةً أخرى، واهتدى إلى طرقٍ خاصة به، تختلف كثيرًا عما لدى برادلي، فلزام علينا أن نعرض له في موضعٍ آخر.

(٥) القسم الخامس: مذهب الكثرة عند ماكتجارت

كان ماكتجارت — بلا شك — أكثر المثاليين اكتمالًا واستقلالًا بعد برادلي، ومن الواجب أن يدرج في الحركة المثالية العامة، ضمن الفئة الهيجلية. صحيح أنه كان، في نواحٍ متعددة، أبعد بكثير عن الأصول الهيجلية من برادلي وبوزانكيت، ولكنه كان أقرب إليها بكثير في ناحيةٍ هامة، هي أن فكره نشأ عن دراسةٍ فاحصةٍ متعمقة لفلسفة هيجل، ظلت هي الأساس الذي بُنِيَ عليه مذهبه الخاص، مهما كانت درجة ابتعاده عن هذه الفلسفة في اتجاهاتٍ خاصة به. وتتركَّز مكانته المميزة في الحركة الهيجلية الإنجليزية في أنه خطا الخطوة النهائية الحاسمة في فصم عرى الارتباط مع اللاهوت، وهو الارتباط الذي تميزت به أولى مراحل المذهب، وذلك بتشييده مذهبًا إلحاديًّا على أسسٍ هيجلية. وهكذا فإنه — في داخل المذهب الهيجلي — ينتمي إلى أقصى اليسار، في الطرف المضاد تمامًا لمفكرين مثل سترلنج وجرين كيرد، وهو يتميز عن برادلي وبوزانكيت — اللذين يمكن أن ينسبا إلى اليسار بدورهما، نظرًا إلى اتخاذهما موقف الحياد، إلى حدٍّ ما، من التحالف مع اللاهوت — باستقلاله وأصالته الكاملَين، فأبرز الاختلافات بينه وبين من بحثناهم حتى الآن هو ذلك التحول إلى مذهب الكثرة، الذي أدخله على اتجاههم الذي سار بقوة في طريق الواحدية.

وأيًّا ما كانت نتيجة الخلاف حول كون ماكتجارت هيجليًّا أو غير هيجلي، فمما لا نزاع فيه أنه بذل جهدًا لا يكاد يكون له نظير في سبيل فهم هيجل، وأن فلسفة هيجل تحكَّمت في تفكيره في نقاطٍ متعددة، ولكنه لا يمكن أن يسمى هيجليًّا إلا مع تحفظات هامة. والفكرة التي يخرج بها المرء عنه هي أن طرق التفسير المتكلَّفة المتعمدة التي طبقها على هيجل لو كانت قد طُبِّقت على مفكرين آخرين — أو على أية حال على أفلاطون وليبنتس واسبينوزا وباركلي — لأتت بنتيجةٍ مماثلة أو مشابهة، أعني بناء فلسفةٍ خاصة به وهدم أية فلسفةٍ أخرى. فالانتقال من أيٍّ من هؤلاء المفكرين إلى مذهب ماكتجارت ليس أصعب قطعًا من الانتقال من هيجل إليه، ولقد لوحظ أن تعاليمه، وإن كانت ترفع راية هيجل وتمخر عباب المياه الهيجلية، إن جاز هذا التعبير، قد أسفرت مع ذلك، بطريقة لا شعورية، عن نوع من المذهب الأفلاطوني، كما قيل عنه إنه «اسبينوزا حديث». وكان لهذه التسمية ما يبررها، كذلك أكد البعض تقاربه الوثيق مع مذهب الذرات الروحية عند ليبنتس والمذهب الروحي عند باركلي، وهذا التقارب بالفعل واضح. غير أن هذا كله، على صحته، لا يدل إلا على أن مذهبه مذهبٌ شخصي إلى حدٍّ بعيد، لم يتخذ من أفكار الآخرين مادة له، وإنما استخدمها وسائل وأدوات فحسب. وأيًّا كان الرأي في قيمة هذا المذهب أو أهميته، فهو قطعًا من أجرأ وأروع وأصدق المحاولات التي بُذلت في إنجلترا للتفكير في العالم في مجموعه، وهو يحتل ضمن بناة المذاهب الإنجليز المحدثين، مكانة لا يشاركه إياها سوى برادلي وألكسندر وهويتهد. ولقد أظهر، في صياغة مذهبه المقفل الجامد، قدرة على التفكير الرائع الواضح، وعلى الدقة في التعبير، ومنطقًا حتميًّا صارمًا، وقوةً بناءة، وعمقًا تأمليًّا، وبصيرةً صوفية.

ونستطيع أن نبدأ بإيضاح الطريقة التي انعكس بها تفكير هيجل على ماكتجارت، فهو ذاته يقول إن تفكير هيجل ظل هو الموضوع الرئيسي لبحثه طوال ما يزيد على عشرين عامًا، وقد كرس لاختباره وعرضه النقدي ثلاثة كتب، وعند نهاية الكتاب الثالث، أصدر حكمه المبني على تفكير وروية، فقال «إن هيجل قد تعمق في الطبيعة الحقة للواقع أكثر مما تعمق فيها أي مفكرٍ آخر من قبله أو من بعده.»٩٠ ولكن ليس معنى تقديره الرفيع هذا لهيجل، أن نتوقف حيث توقف هو، «فينبغي أن تكون المهمة التالية للفلسفة هي القيام ببحثٍ جديد لهذه الطبيعة بوساطة منهجٍ ديالكتيكيٍّ مشابه أساسًا، ولكن ليس مشابهًا تمامًا، لمنهج هيجل.»٩١ ولقد كان يؤمن بأنه على اتفاق مع هيجل في الجزء الأكبر من مناقشاته، وكل ما أراده هو أن يستخلص هنا وهناك نتيجةً كامنة في تفكير هيجل ولكنها تركت بطريقةٍ ضمنية، ولم يستخدم تعبيرًا نقديًّا أو مخالفًا إلا لمامًا، غير أن كل هذا الاتفاق الظاهري لم يتحقق، عند مفكرٍ مستقلٍّ عنيد مثله، إلا عن طريق التفسير المتكلَّف والتشويه ووضع الأفكار في غير مواضعها. فهو قد كيَّف تفكير هيجل مع تفكيره الخاص عن طريق قراءة أفكاره هو ذاته في أفكار هيجل أو استخلاصها قسرًا منها، بل إنه في الواقع قد بثَّ الألغام في مذهب هيجل ونسفه من الداخل، فلم يترك في النهاية إلا أنقاضًا لم يستخدمها إلا باقتصاد في تشييد مذهبه الخاص الجديد.

ولقد كان ماكتجارت يرى أن قلب فلسفة هيجل، ومصدر قيمتها الدائمة في تاريخ الفكر، هو منطقها والديالكتيك المتصل به، غير أنه كان يرى أن التطبيقات العديدة للمنطق على الأجزاء الجانبية من مذهبه، كالفن والدين والتاريخ والقانون والدولة، كانت متوقفة على ظروف عصر هيجل الخاص، ولم تكن لها أهميةٌ كبيرة، وإن كان قد اعترف بتلك الثروة الكبيرة من الأفكار وتلك القوة الدافعة الهائلة التي أتت منها. وكان همه الأساسي في هذا الصدد هو الدفاع عن هيجل ضد الفكرة الباطلة، التي كانت لا تزال شائعة على نطاقٍ واسع، والقائلة إن هيجل قد نسج العالم من الفكر المحض، ولم يتحرك إلا وسط تجريدات وتركيباتٍ شكليةٍ خالصة، دون أي اعتبار للمضمون العيني للتجربة، فهو قد أكد مرارًا أن تفكير هيجل عيني، وأن الديالكتيك لا يتناقض مع التجربة، وإنما يفترضها مقدمًا في كل الأحوال. فالتجربة ترتكز بطبيعة الحال على المعطيات المباشرة للحسِّ، التي لا يمكن أن تنتج عن الفكر الخالص، وإنما هي شروط وجوده. ولقد كان هيجل، في رأي ماكتجارت، يدرك هذا كله تمامًا، وكان يعلم ويعني أن حركة الفكر الديالكتيكية لا يمكن أن تتحقق إلا داخل الكل العيني للتجربة الذي تكون فيه المعطيات الحسية عواملَ مستقلةً متضايفة مع الفكر.

ولقد أدت دراسات ماكتجارت الخاصة للديالكتيك الهيجلي إلى رأيه القائل إن تصاعد المقولات ليس عملية تجريدٍ متزايد، وإنما هو عملية اقترابٍ متزايد من الكل العيني، فقد بين أن المركب الأخير، الذي يتم الوصول إليه في «الفكرة» المطلقة، هو الشرط والأساس المنطقي لكل المقولات السابقة، وأن الأزواج العديدة من الأضداد والأفكار العليا التي تستوعب فيها هذه الأضداد وتتجاوز على التوالي، كل هذه تنتج بالتجريد من تلك المقولة العليا، التي هي أغنى المقولات، والتي تنتهي عندها الأخريات وتجد فيها اكتمالها. وهكذا فإن الانتقال من مقولة إلى أخرى ومن مركب إلى آخر ليس تقدمًا بمعنى وضع مضمونٍ جديد لم يكن موجودًا من قبلُ، وإنما هو قلب لعملية التجريد، واستعادة للوحدة العينية التي استمدت منها التجريدات. وبهذا المعنى يكون الديالكتيك هو المنهج الوحيد الصحيح والمثمر في الفلسفة. صحيح أن بعض انتقالات هيجل الجزئية ليست ضرورية منطقيًّا ولا مقنعة، غير أن هذا لا ينطوي على أي حطٍّ من قيمتها؛ إذ إن الانتقال من مقولة إلى أخرى لا يقتصر في الواقع على اتجاهٍ واحد محتَّم منطقيًّا، وإنما هو يترك مجالًا لإمكانياتٍ أخرى. ومن الواضح أن ماكتجارت يتخذ في هذه الفكرة الأخيرة موقفًا غير هيجلي على الإطلاق، وفضلًا عن ذلك فليس المنهج الديالكتيكي جامدًا، محددًا على نحوٍ نهائي، بل إنه هو ذاته معرض للنمو، وهو نمو يمكن رده إلى قانونٍ عام. وأخيرًا فإن ماكتجارت يذهب إلى أن مرحلة السلب تلعب دورًا ضئيلًا جدًّا في العملية الديالكتيكية من حيث هي كلٌّ، فلها أهمية في الأطوار المبدئية فقط، وهذه الأهمية تقل بالتدريج كلما ازدادت الحركة صعودًا. وهذه المرحلة عرضية، لا أساسية، ففي التفكير، لا تنبثق كل مقولة من مقابلها السابق، وإنما تعبر عن الدلالة الحقيقية للمقولة الأدنى، وتحقق هي ذاتها طبيعتها الحقة في مقولةٍ أعلى. وحيث لا يوجد تقابل لا يكون ثمة حاجة إلى التوفيق، أو إلى مركب تنحلُّ فيه المتناقضات، وإنما تدعو الحاجة فقط إلى كشف وإظهار ما ترك ضمنيًّا، فالديالكتيك مثل النمو العضوي، إذ تنمو فيه المراحل العليا من الدنيا مثلما ينمو النبات من البذرة. فمرحلتا التقابل والسلب توضحان ما هو ناقص باطل في العملية، ومرحلة النمو الإيجابي هي التي تعبر عن الطبيعة الحقة للفكر. وعلى ذلك فإن معنى المنهج الديالكتيكي أو غايته تتحقق بقدر ما يحل العنصر الإيجابي محل العنصر السلبي. ولقد كان ماكتجارت يرى أن هذا التفسير للديالكتيك يمكن أن يوجد لدى هيجل أو يستمد منه، ولكنه كان هنا — كما كان في مواضعَ أخرى — واقعًا في خطأٍ لا شعوري، فقد انزلق — دون وعيٍ تام منه — إلى مواقف لم تكن دائمة قابلة للاندماج في مذهب هيجل، بل كانت أحيانًا مناقضةً له على نحو مباشر.

ولو نظرنا إلى دراسات ماكتجارت لهيجل في ضوء عمله الفلسفي العام، لَبَدَتْ لنا هذه الدراسات مجرد استطراد كان ينبغي له القيام به لكي يصل إلى ذاته. ومن الصعب تحديد السبب الذي تعين عليه من أجله أن يقوم بهذا الاستطراد، ففي خلال السنوات التي تكوَّنت فيها شخصيته، كان هيجل قد بلغ قمة الشهرة في إنجلترا، وكانت قراءته قد أصبحت موجةً سائدة. ولكن ربما كان السبب الرئيسي هو حاجة ماكتجارت إلى تجربة قواه وممارستها على واحد من أعظم أعلام الفكر، والتسلق على أكتافه. ومع ذلك فإن هذا الاستطراد لا يبدو ذا ضرورةٍ باطنة، إذ إن الميل إلى تكوين نظرة إلى العالم خاصة به كان يتملكه منذ البداية، وكانت الخطوط الرئيسية للنظرة التي عرضها فيما بعدُ، ظاهرة بوضوح في كتبه الأولى، فمن الواضح أنه لم يكن يحتاج إلا إلى ما يجلبه للزمن من مزيد من التفكير ومن النضوج، لكي يُكوِّن نظرته الخاصة إلى العالم ويتمَّها، فتطوره الفلسفي سار فيما يمكن أن يقال عنه إنه أنموذج ديالكتيكي؛ فقد كان مذهب هيجل يمثل مرحلة التقابل التي تَعيَّن عليه مواجهتها لكي يرتفع إلى تفكيره الخاص الصحيح، ويمثل المقولة الدنيا التي كان ينبغي فهمها أولًا، ثم تجاوزها بعد ذلك في مذهبه الخاص.

ولقد ظهر مذهبه هذا في مؤلَّفٍ غريبٍ رائع كان المفروض أصلًا أن يكون عنوانه: «ديالكتيك الوجود»، ولكنه أسماه فيما بعدُ «طبيعة الوجود»، وهذا الكتاب هو الثمرة الناضجة لتفكير استمر طوال حياته بلا كلل ودون انقطاع. وقد صيغ هذا التفكير كله في قالبٍ واحد، يحمل على الدوام طابع صانعه. ولو نظرنا إليه في إطار الفلسفة الإنجليزية الحديثة لبدا لنا غريبًا أشبه بضوءٍ منعزل يشع من جزيرةٍ نائيةٍ قفرة، ولبدا لنا ظهوره في مثل هذه البيئة أقرب إلى اللغز المستعصي. فهو يخالف جميع طرق الفكر المألوفة المتداولة الموثوق فيها، ونادرًا ما يجد المرء مفكرًا يضع لنفسه مثل هذه الشروط القاسية الصارمة، ويتخذ لنفسه مثل هذا الهدف الرفيع، فأفكاره تتقدم بحتميةٍ منطقية حتى النهاية، دون أن تظهر في أي موضع بادرة توحي بتهاون في هذه الصرامة أو تراخٍ في تلك الطاقة. ويتضح الحرص الشديد الذي التزمه في تفكيره وكتابته في أنه كان يخطط ما لا يقل عن خمس مسوداتٍ كاملة قبل أن يبعث بأي شيء إلى المطبعة. فالتعبير والتفكير كانا يتفقان تمامًا؛ إذ إن الأول، الذي كان ينحته بجهد وعناية، كان يقدم هيكلًا كاملًا للثاني، ومع ذلك لا يلمح المرء أي أثر للصراع الذي كان يبذله من أجل التعبير عن نفسه تعبيرًا كاملًا، إذ إنه قد ترك كل ذلك الصراع جانبًا في عملية المراجعة الخماسية التي كان يقوم بها، والانطباع العام الذي يتركه في نفوسنا هذا الكتاب هو أنه مذهبٌ تصوري وُضِعَ حتى النهاية بدقة ومجهود ووضوح واقتصاد وإحكام، ولكنا نجد أيضًا — إلى جانب ذلك — نزعةً شكلية ولفظيةً خاوية، ونجده كثيرًا ما يهتدي في الألفاظ إلى معانٍ سبق له أن دسَّها فيها، ونجده يتلاعب بالأفكار، ويميز بين أمور يقل الفرق بينها عن حد الشعرة، ويقدم تعريفاتٍ مفرطة في التدقيق، ولا جدال في أن عبارة برادلي، التي طالما اقتبست، والتي تتحدث عن «رقصة ليست من هذا العالم، تؤديها مقولات لا حياة فيها»، تنطبق تمامًا على مذهب ماكتجارت ببرودته وصلابته الرخامية. على أن هذا ليس إلا وجهًا واحدًا — وإن يكن هو الوجه الغالب — من أوجه تفكير ماكتجارت وطريقته في التعبير، فمن وراء الواجهة الظاهرية التي بذل كل جهده لكي يجعلها صحيحة لا تشوبها شائبة، يشعر المرء من آن لآخر بذهنٍ قلق، ونار خفية لتجربة عاشها بعمق، ونبض وحرارةٍ شخصيةٍ حية تنشق حياتها الخاصة في ذلك البناء الذي يتخذ مظهرًا رخاميًّا جامدًا. ذلك هو الوجه الصوفي لماكتجارت، وهو يخترق نسيج التصورات المجردة ويصبغها بألوان أشد حيوية وبمضمون من نوع أكثر عينية. ولكن ليس لأحد أن يظن أن هذين الجانبَين من طبيعته كانا يقفان في تعارضٍ محتوم الواحد منهما قبالة الآخر، بحيث يحتفظان بالصراع محتدمًا بين «التصوف والمنطق» (إذا شئنا أن نستعير هذا العنوان الموفق لواحد من كتب رسل)، فقد كانت كلٌّ من هاتين النزعتَين وثيقة الصلة بالأخرى في مذهبه، وقد انبثقتا معًا من جذرٍ واحد، بحيث إن التصوف قد أعطى المنطق النبض والدفء، وسيطر المنطق على التصوف وأضفى عليه النظام الدقيق. وقد قدَّم إلينا ماكتجارت ذاته مفتاحًا لفهم هذا الطابع المزدوج لتفكيره في الجملة التي ختم بها كتابه الأول: «إن كل فلسفة حقة ينبغي أن تكون صوفية، ولكن ليس في مناهجها، وإنما في استنتاجاتها النهائية.»٩٢
ويعبر عنوان مؤلَّفه الرئيسي عن المشكلة الرئيسية فيه، فما الذي يمكن أن يقال عن العلامات المميزة لكل ما يوجد أو للوجود في مجموعه؟ إن الوجود — من حيث هو تصور — هو أضيق نطاقًا من تصور الواقع reality، من حيث إن هناك واقعًا لا يوجد بالضرورة، بينما ليس ثمة موجود إلا وهو واقع بالضرورة. وهو، على أية حال، يصف الواقعية والوجود بأنهما غير قابلَين للتعريف، فإذا نظرنا إلى التمييز بين الواقع الموجود والواقع غير الموجود، وجدنا أن الأهمية الوحيدة التي تلحق بالثاني إنما هي أهميةٌ نظريةٌ بحتة، أما الأول — فنظرًا إلى أن له أهميةً عملية كبرى — فإن ماكتجارت يحدد لنفسه مهمةً أضيق نطاقًا هي البحث فيه، فمشكلته هي طبيعة «الوجود existence»، ومنهجه استنباطي أوَّلي، وهو يبرز أولًا الطابع العام للوجود، ثم يناقش المشكلات الخاصة للوجود التجريبي. والجزآن يناظران مجلدَي كتابه على التوالي، ففي الجزء الأول، الذي هو من أروع أعمال التفكير المنهجي الدقيق، والذي يمثل أعلى قمة بلغها ذهنه المنطقي الحاد، في هذا الجزء يقف ماكتجارت وحده بين الفلاسفة الإنجليز في جميع الفترات، صحيح أن الفلسفة الإنجليزية قد ساهمت بالكثير، منذ الأجزاء الأولى في القرن التاسع عشر، في مجال المنطق الصوري، وأن هذا المبحث، الذي هو أكثر المباحث تجريدًا، قد بلغ في «الحساب المنطقي Logical calculus» أعلى ما بلغه من القمم، ولكن لم يجرؤ أي مفكر قبل ماكتجارت على أن يطرح في الميتافيزيقا، التجربة جانبًا باحتقار، ويقدم تفسيرًا أوليًّا محضًا للكون. ومن هنا لم يكن من المستغرب أن محاولته، وإن تكن قد لقيت إعجابًا من آنٍ لآخر لما فيها من جدة وغرابة، قد قوبلت منذ البداية بالارتياب، ولم تجد لها أنصارًا، فهي لم تلق ذلك الصدى الرنان الذي لقيته فلسفة برادلي مثلًا، على الرغم من أنها كانت في وضوحها، وإحكامها، وعمق فكرها، تفوق هذه بكثير.
وهناك شيء من التشابه بين منهجه في البرهان المطلق، الذي اتبعه في الجزء «الأوَّلي» من ميتافيزيقاه، وبين الديالكتيك الهيجلي، غير أن المقارنة بين المنهجَين لا تسفر إلا عن نتائجَ ضئيلة، نظرًا إلى ما اتصف به منهج ماكتجارت من فرديةٍ تامة، وإلى أنه قد وُضِعَ لكي يلائم الغايات الخاصة لفلسفته فحسب. ولقد كان ماكتجارت نفسه شاعرًا بذلك، على الرغم من ميله إلى الانتساب إلى هيجل، فاعترف بأن منهجه «ليس هيجليًّا بالمعنى الدقيق»،٩٣ وإن كان قد رأى أنه أقرب إلى منهج هيجل منه إلى أي منهجٍ آخر. والواقع أن لدى ماكتجارت سلسلة من التحديدات المنطقية المتعاقبة، غير أنها لا تسير حسب النمط الثلاثي لمقولات هيجل، كما أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى ليس ضروريًّا من الوجهة المنطقية على الدوام (بل إنه يترك المجال مفتوحًا، في بعض الحالات، لإمكان ظهور تحديداتٍ أخرى)، وفضلًا عن ذلك فهو لا ينظر إلى المقولات الدنيا على أنها مشوبة بالخطأ بالضرورة، بل يؤكد حقيقتها النسبية أكثر مما يؤكد افتقارها إلى الحقيقة المطلقة.

والفارق الأساسي بين تفكير هيجل وتفكير ماكتجارت هو أن الأول عيني مشبع بالتجربة، بينما الثاني مجرد، بعيد عن التجربة. فقد كان ماكتجارت على الدوام حريصًا على أن يحتفظ لتحديداته الصورية بنقائها الأوَّلي الذي لا تشوبه أية شائبة من المادة التجريبية، ومن الطبيعي أنه لم يستطع أن يحقق هذا الهدف على طول الخط؛ إذ يبدو أن من الضروري الالتجاء إلى التجربة على وجهَين، من أجل دفع عجلة العملية الاستنباطية، فمن الممكن في البداية تأكيد الوجود الخالص، واستنباط صفاته بطريقةٍ أولية، غير أن كون أي شيء موجودًا بالفعل في الواقع هو أمر لا يعرف إلا بالرجوع إلى التجربة، فالقضية القائلة إن ثمة شيئًا يوجد، ترتكز على الإدراك الحسي، وهي المقدمة الأساسية لكل استنباط تالٍ؛ لذلك فإن بداهتها تجريبية، غير أن يقينها لا يقل عن يقين البداهة الأولية. على أن القول بأن ثمة شيئًا يوجد، يعني في رأي ماكتجارت، أن ثمة جوهرًا يوجد، وهنا تثار مسألة ما إذا كانت توجد كثرة من الجواهر أو جوهرٌ واحد، أو بعبارةٍ أخرى: ما إذا كان الجوهر متنوعًا أم لا. هذه، في رأي ماكتجارت، مسألة يمكن البتُّ فيها بالاستنباط المحض؛ إذ إن تنوع الجوهر يتلو من اليقين الأولي القائل إن الجوهر لا يمكن أن يكون بسيطًا، غير أنه يؤثر أن يلجأ إلى البرهان التجريبي، ويبين أن إدراكًا حسيًّا واحدًا كفيل بإثبات أن الجوهر متنوع، وإذن فالجوهر موجود، وهو ليس واحدًا بل كثير.

ولكن «ما هو» الجوهر؟ ينبغي، عند تعريفه، أن يضاف الكيف إلى الوجود، فكل ما يوجد ينبغي أيضًا أن يكون له كيف، غير أن الكيف لا يعرف، وكل ما يمكننا أن نفعله هو أن نشير إلى أمثلةٍ خاصة له، كذلك ينبغي إضافة العلاقة، وهي بدورها لا تعرف. فلما كان ثمة كثرة من الجواهر، فلا بد أن تقوم بينها علاقات، وإذن فالعلاقات أساسية الوجود. وقد علق ماكتجارت أهميةً كبيرة على تصور العلاقة، وقام ببحثٍ دقيقٍ عميق للعلاقات الخاصة. فالعلاقات تختلف عن الكيفيات أو الصفات في أن الأخيرة تكمن في الأشياء، بينما الأولى تقوم بينها. وهكذا فإن الجوهر يوصف (ولا نقول يُعرَّف) بأنه ما له كيفيات أو صفات، وما يدخل في علاقات، دون أن يكون هو ذاته كيفًا أو علاقة. وفضلًا عن ذلك فكل جوهرٍ مختلف عن كل جوهرٍ آخر، فلا يمكن انطباق وصفه على أي جوهرٍ آخر، وتنظم الجواهر في فئات يمكن أن تتكون من أية مجموعة من جواهر. مثال ذلك (والأمثلة مستمدة من ماكتجارت نفسه) أن رؤساء جمهورية الولايات المتحدة أو مواطنو إنجلترا، يؤلفون فئة، وليس هذا فحسب، بل إن من الممكن تأليف فئة من أشياء لا متجانسة تمامًا، كالمكتب الذي أجلس إليه، وأَقدم أرنب في أستراليا، وآخر دواء تناوله لويس الرابع عشر، هذه الأشياء يمكن إدراكها في نوع من الوحدة، على الأقل وحدة كونها ثلاثة، أو وحدة جمعي الاعتباطي بينها، وليس لنا أن نتساءل فيما إذا كانت الفئة فئة بحق، وإنما يجب أن نكتفي بالسؤال عما إذا كانت مناسبة أو لها أية قيمة، ولهذه النقطة — إلى جانب كونها استنباطًا شكليًّا — دلالةٌ ميتافيزيقية، بمعنى أن كل شيء في الكون يرتبط على نحوٍ ما بكل شيءٍ آخر، ويؤثر في كل شيءٍ آخر، مهما كان من ضآلة هذا التأثير.

والجوهر الذي يشتمل على كل الجواهر الأخرى بوصفها أجزاء له هو الكون، ولتصور الكون ضرورته، بوصفه الوحدة التي ينبغي أن تردَّ إليها كثرة الجواهر. ولما كان يشمل المضمون الكامل لكل ما يوجد، فلا يمكن أن يكون هناك سوى كونٍ واحد؛ إذ إنه لو وُجِدَ جوهران كليان لكان لهما نفس المضمون تمامًا، ولما أمكن بالتالي تصورهما. وهكذا فإن كل ما يوجد داخل في وحدة نسقٍ محدد تمامًا، وكل جوهر يرتبط بكل جوهرٍ آخر، بفضل علاقتهما المشتركة بالوحدة الشاملة للكون، وعلاقة أجزاء الكون بعضها ببعض، وكذلك علاقتها بالكل، هي علاقة تبادل أو تعاون، فالكون وحدة عضوية.

وهناك فكرة لها أهميةٌ نظريةٌ خاصة، هي فكرة قابلية الجوهر للانقسام إلى ما لا نهاية، فعدم وجود شيءٍ بسيط بساطةً مطلقة، هو أمرٌ واضح حتى على مستوى الإدراك الحسي، كما أن هذه القضية — من وجهة نظر الفكر المحض — واضحة تمامًا وذات صحةٍ نهائية، فإذا لم يكن هناك حدٌّ لقابلية الانقسام في كل الجواهر وكل أجزائها وكل أجزاء أجزائها، فمعنى ذلك أن لدينا تركيبًا لا متناهيًا في تعقيده وتنوُّعه، له مراتب في تنظيمه، وبه عدد غير متناهٍ من العلاقات بين الكل وأجزائه وبين الأجزاء ذاتها. والأداة التي يستطيع بها الفكر أن يتحكم في هذا النسق الشديد التعقيد للعلاقات المتناهية، هي تلك التي يطلق عليها ماكتجارت اسم «التطابق المحدد determining correspondence». ولقد رأى ماكتجارت أن هذا التطابق، الذي هو علاقة علِّية (لا يسمح المجال هنا بالخوض في تفاصيلها أكثر من ذلك) هو وحده الذي يتيح تجنُّب التناقض الذي تنطوي عليه فكرة القابلية للانقسام إلى ما لا نهاية، ويتيح تنظيم مضمون الكون بأسره بطريقةٍ مرضية منطقيًّا. وعند تنظيم هذا المضمون على هذا النحو، يظهر في صورة نسق له مراتب، يحتل الجوهر الأصلي قمَّتها بوصفه الكل الأوَّلى، ثم ينقسم هذا إلى أجزاءٍ مبدئية تتفرع إلى أجزاءٍ ثانوية من الدرجة الأولى، وهكذا إلى ما لا نهاية. وتربط بين جميع هذه الكليات ذوات المراتب العليا والدنيا، وكذلك بينها وبين أجزائها، علاقة تطابق متبادلة التحديد، بحيث لا يكون وصف الجوهر كافيًا إلا إذا أوضحت كل أجزائه وعلاقتها بعضها ببعض وبالكل، ويسمي ماكتجارت هذا النسق من الجواهر، المرتكز على التطابق المحدد، باسم النسق الأساسي للكون.

ومن الممكن بصفةٍ متساوية — من الناحية النظرية الخالصة — أن يُعَدَّ مذهب ماكتجارت مذهب وحدة أو مذهب كثرة، وذلك تبعًا لتركيز اهتمامنا على وحدة الجوهر أو على كثرة أجزائه. ولا شك في أن ماكتجارت، حين نظر إلى هذه الأخيرة على أنها هي الأهم، لم يكن يستطيع أن يُبرِّر اختياره هذا على أسسٍ أولية، فقد تحكمت فيه اعتباراتٌ تجريبية وعملية، كما سنرى فيما بعدُ، ومن الواضح أن الأجزاء المبدئية تُعْزَى إليها، في داخل الكثرة، أهميةٌ ميتافيزيقية تفوق أهمية الأجزاء الثانوية لجميع الأنواع، وتفوق أهمية الكل المبدئي نفسه.

أما أولئك الذين لا يرضيهم التعامل الشكلي مع التصورات بقدر ما يرضيهم التبصر الميتافيزيقي الأصيل، فإنهم يجدون في المجلد الثاني من مؤلفه الرئيسي (وفي كتاب «بعض المعتقدات الدينية» الذي أحرز شهرةً نسبية، والذي يستبق هذا المجلد الثاني) أكثر مما يجدون في الأول.

ففي المجلد الثاني نزل ماكتجارت أخيرًا من الجو الأثيري للفكر الخالص إلى عالم تجربتنا الواقعي، وربط بين نتائجه العامة وبين مشكلات تجريبية معينة، وطبقها نظريًّا وعمليًّا. وهو يعرض الأفكار الميتافيزيقية الهامة التي توصل إليها، والتي تؤلِّف معًا نظرةً كاملة إلى العالم، على أنها النتائج الضرورية للأساس الأوَّلي. وبإدخال المشكلات الجديدة والمادة الجديدة، يكتسب الجهاز التصوري مزيدًا من النمو والتدعيم، بحيث يتعين علينا مرةً أخرى أن نجتاز قفارًا شاسعة قبل أن نستطيع أن نجني ثمار شجرة الحياة. ولما كانت بعض أفكار ماكتجارت الميتافيزيقية قد ظهرت بوادرها في أول كتبه، كما أن كل أفكاره الأساسية قد ظهرت في كتابه عن الدين، على نحوٍ مستقل تمامًا عن الأساس المنطقي الذي كنا نبحث فيه حتى الآن، فربما كان لنا الحق في أن نستدل من ذلك على أن الجهاز التصوري قد صمم تصميمًا لاحقًا، وإذا كان الأمر كذلك، فليس في وسعنا أن نقر ماكتجارت على رأيه القائل إن خطته الأولية هي التي تحكمت في استنتاجاته المنطقية، وإنما ينبغي أن نقول، على العكس من ذلك، إن استنتاجاته هي التي تحكمت في هذه الخطة، وإن هذه الخطة قد رسمت فيما بعدُ لإيجاد أساس لاستنتاجه ولدعمها. وبعبارة أخرى، فإن لمواقفه الميتافيزيقية الرئيسية قيمةً مستقلة عن الخطة المجردة، ولها أساسها في ذاتها.

وليس في وسعنا أن ننتقي من المشكلات المتعددة التي عرض لها في المجلد الثاني إلا عددًا قليلًا لكي نوضح الاتجاه العام لتفكيره على الأقل.

وأشهر هذه المشكلات هي نظرية الزمان، فهو يميز أولًا بين نوعَين من التعاقب الزمني، ينتقل أحدهما من الماضي إلى المستقبل مارًّا بالحاضر، ويتألف الآخر من علاقتَي «قبل» و«بعد». ففي الأول، الذي يسميه بالسلسلة أ، تتغير الحدود دوامًا، وينتقل بعضها إلى البعض. أما في الثاني، الذي يسميه بالسلسلة ب، فإن هذه الحدود تكون ثابتة، وترتكز على علاقاتٍ دائمة؛ إذ إنه عندما يقع حادث قبل حادثٍ آخر وبعد حادثٍ ثالث، فإن الترتيب الزمني يكون نهائيًّا غير قابل للتغيير؛ لذلك فإن السلسلة أ هي السلسلة الحقيقية للزمان، ما دامت تشتمل على صفة التغير التي هي العلامة الأساسية المميزة للزمان. ومع ذلك يبدو، بعد مناقشةٍ طويلةٍ مفرطة في التعقيد، أن السلسلة أ تنطوي على تناقض، وأنها بالتالي لا يمكن أن توجد من وجهة نظر الواقع الحقيقي، وإذن فلا شيء واقعي هو ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، أو معرض لأي تغير. إننا حقًّا ندرك الأشياء في الزمان، ولا نملك إلا ذلك، غير أن كل ما يثبته هذا هو أن الإدراك الحسي لا يصل إلى الأشياء في طبيعتها الحقة، فكل ما في الزمان هو بهذا الوصف مجرد مظهر.

ويستخلص ماكتجارت من عتاده التصوري إضافةً أخرى يعبر بها عن هذه الفكرة المميزة للمثالية تعبيرًا إيجابيًّا، فهو يضيف سلسلةً أخرى، هي السلسلة ج، إلى السلسلتَين أ، ب. وتمثل السلسلة ج العلاقات الحقيقية بين الأشياء، وهي تتضمن الحقيقة التي كان يعبر عنها باطلًا في العلاقات الزمنية للسلسلتَين الأخيرتَين، وكذلك في كل وصف للعلاقات المكانية أيضًا، إذ إن المكان بدوره مجرد مظهر، هذه السلسلة تعبر عن العلاقات بين الأشياء على أنها علاقات تضمُّنٍ منطقي، فهي سلسلة تضمنات لها اتجاهٌ محددٌ أعم بشكلٍ واضح من الاتجاه المضاد، من حيث إنها انتقال مما له محتوًى أكثر فراغًا إلى ما له محتوًى أكثر امتلاء، ففي أحد الطرفَين لا يكون ثمة شيء، وفي الطرف الآخر يوجد الكل، وهنا يستعاض عن علاقة «قبل» في السلسلة ب، بعلاقة «متضمن في»، وعن علاقة «بعد» بعلاقة «متضمن ل»، ونظرًا إلى أن الطرف الأخير في السلسلة غير متضمن في أي شيء، فإنه متضمن لكل شيء، ولا يمكن أن يضاف إليه شيء، وواضح أنه هو «الفكرة المطلقة» عند هيجل، وواضح أيضًا أن تزايد التضمن في السلسلة ج يناظر التقدم الديالكتيكي للمقولات عند هيجل.

وهكذا فإن نظرية ماكتجارت في الزمان تؤدي إلى نفس النتيجة التي تؤدي إليها فلسفة برادلي، وإن تكن ترتكز على مقدماتٍ مختلفة تمامًا، هذه النتيجة هي التمييز بين المظهر والواقع، وفي هذه النقطة تكمن الأهمية الخاصة لنظرية ماكتجارت. ومعيار التمييز بين المظهر والواقع هو الإطار الأوَّلي للتطابق المحدد، فكل ما لا يمكن إدخاله في هذا الإطار، ينزل توًّا إلى مرتبة المظهر، بينما يعدُّ واقعًا كل ما يمكن إدخاله فيه، وبهذا المعيار تنحط المادة، وكل المعطيات الحسية، إلى مرتبة المظهر، فلو كانت المادة موجودة، لكانت قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية، ولكانت أجزاؤها اللامتناهية في الصغر خاضعة لمبدأ التطابق المحدد. ولكن يبدو أن مثل هذا التقسيم للمادة إلى ما لا نهاية أمر لا يمكن القيام به، وعلى ذلك لا يمكن أن تكون المادة موجودة.

أما بالنسبة إلى العلوم الطبيعية فسيان أن توجد المادة أو لا توجد؛ إذ إن الأمرَين معًا فرضان ميتافيزيقيان لا يمسان العلم ولا الحياة اليومية. وهكذا فإن ماكتجارت، مثل برادلي الذي استعان كثيرًا بحججه في هذا الموضوع، يرفض التسليم بوجود المادة، لا لشيء إلا لأن في هذا استخدامًا غير سليم للميتافيزيقا.

والآن نصل إلى لُبِّ ميتافيزيقا ماكتجارت، أعني المذهب القائل إن الواقع روحي في أساسه، فكل ما يوجد روح ولا شيء غير الروح، بالمعنى الميتافيزيقي الخالص الكامل للجوهر الروحي كما فهمه باركلي مثلًا. وعند هذه النقطة تتلو كل التحديدات الأخرى للطبيعة الميتافيزيقية للعالم من الاستنباطات الأوَّلية للباب الأول من الكتاب، فمساواة الجوهر المبدئي بالواقع في ذاته أو بالمطلق، تعني إيجاد تناظر بين الأجزاء المبدئية وبين تلك الكائنات الروحية التي نسميها أشخاصًا أو ذوات. ولما كانت الذوات هي قبل كل شيء مدركة للأجزاء الثانوية، فإن هذا التناظر يمتد إلى إدراكات هذه الذوات.

وهكذا فإن للذوات منزلةً ميتافيزيقيةً خاصة، صحيح أن من الواجب تصورها على أنها متجمعة في وحدة الجوهر المطلق، وعلى أنها هي التنوع الأولي له، ولكن الرد على ذلك هو أن طبيعة الواقع تتكشف في التنوعات على نحوٍ أعمق مما تتكشف في الوحدة العليا. والمثل الذي يفضل ماكتجارت أن يضربه لإيضاح العلاقة بين الكل وأجزائه هو تشبيهها بعلاقة مجمع وأعضائه، فكلاهما كيانٌ روحي، غير أن الأعضاء وحدهم هم الأشخاص بأي معنًى أصيل لهذه الكلمة، بينما المجمع ليس هو ذاته شخصًا، وإن يكن وحدة روحية لأشخاص. ففي آخر الأمر لا يوجد بالفعل إلا الأشخاص، وهم وحدهم الذين يؤلفون مكونات الكون، مفهومة بالمعنى الميتافيزيقي. وهكذا نجد أن الوجه التعددي يُعَدُّ هنا، كما يعدُّ في الجزء الأول من الكتاب، أهم من الوجه الواحدي، وإذن فالمطلق وحدة من أشخاص، ونسق من الذوات، ترتبط بعضها ببعض كما ترتبط أجزاء الجوهر التي أوضحها في الجزء الأول.

والواقع أن طبيعة الشخصية المتناهية وقيمتها لم تدرك وتدعم، في أي مذهبٍ معاصرٍ آخر، بقدر ما أدركت ودعمت في مذهب ماكتجارت. ومن الممكن أن توصف الفكرة القائلة إنه لا شيء حقيقي بالفعل إلا الأشخاص المتناهون، بأنها هي الاقتناع الفلسفي الأساسي عند ماكتجارت، فمذهبه كله يدور حولها، واستنتاجاته الأخرى تتلو كلها منها، ومن هنا كان ذلك الإحساس الذي يتملَّكنا بأن من وراء كل ذلك الدرع السميك من الاستنباطات الأولية، يوجد ذهن يضطرم في باطنه بالانفعال؛ مما يدل على وجود طبعةٍ عميقة من التفكير غير الشكليات والتجريدات التي تسود كتاباته، ومما يزيد هذا الشعور قوة، تلك الصفات الأخرى التي ينسبها إلى الشخصية، فالذات كيانٌ مستقل، له خصائصه الفريدة، وهي جوهرٌ روحي يوجد لذاته تمامًا، ولها فرديةٌ كاملة، بحيث تختلف كل ذات اختلافًا أساسيًّا عن الأخرى، ومن هنا كان من اليقينيات النهائية المطلقة أن الذات لا يمكن إدماجها في أية ذاتٍ أخرى، أو في جزء من ذاتٍ أخرى، لا سيما في تلك الوحدة العليا التي تسميها الفلسفة بالمطلق، ويسميها الدين بالله. وترجع المكانة الميتافيزيقية العليا للذات إلى أنها في أساسها لا تتعرض للتغير، ولما كانت توجد بهذا الوصف أزلًا، ولا بداية لها ولا نهاية في الزمان، فلا يمكن أن تكون قد خلقت في وقتٍ ما، ولا يمكن أن تفسد أبدًا. فإذا سلمنا بفكرة الذات، كانت فكرة الخالق مستحيلة، وإن كان ثمة إله، فلا يمكن أن يكون قد خلق الذات؛ إذ إن هذه توجد بنفس الأزلية التي يوجد الإله بها. وهكذا فإن الذات خالدة، بمعنى أنها توجد في أزلية لا زمانية، فلا بد إذن أن يكون وجودها قديمًا مثلما هو دائم؛ ذلك لأن هويتها لا تكون في استمرار الوعي أو في الذاكرة، وإنما في ثبات جوهريتها الروحية. والواقع أن الوعي ليس جزءًا من الطبيعة الأساسية للشخصية، ومن الممكن أن يختفي دون أن تتأثر هذه. كما أن فقدان الذاكرة لا يؤثر في الخلود بحال؛ إذ إن حياتنا الحاضرة تبدو لنا حينئذٍ ذات قيمةٍ كاملة، على الرغم من أننا لا نؤكد حياةً سابقة وليست لدينا أدنى فكرة عن حياةٍ مقبلة. كما أن هذا القول لا تدحضه الحجة القائلة إن من الممكن أن نكون قد مررنا في الماضي، وأن نمر في المستقبل، بمراحلَ متعددةٍ تناظر تلك التي تبدأ، في حياتنا الراهنة، بالميلاد وتنتهي بالموت. ففكرة تعدد الحيوات، وتكرر الموت، ليست خلوًا من المعنى، بل هي مرجحة إلى حدٍّ بعيد.

وتؤدي فكرة الخلود عند ماكتجارت إلى اتخاذه موقفًا مميزًا إلى حدٍّ بعيد، يبدو ممتنعًا لأول وهلة، ولكنه يتلو بالضرورة من مقدماته، وأعني به أن الإيمان بالخلود، على الرغم من شيوع ارتباطه في الدين والفلسفة بالإيمان بالله، يمكن أن يوجد ويظل قائمًا دون هذا الأخير، فليس بينهما ارتباطٌ منطقي. وبالمثل لا يوجد ارتباط كهذا بين المثالية ومذهب الألوهية، فلا يمكن أن يكون للشخصية، كما رأينا، مستوًى أعلى من مستوى الذوات المتناهية، التي يمكن أن تتضمن فيها، أما المطلق، فهو قطعًا لا شخصي، مهما كانت طبيعته الإيجابية، ومن المؤكد أن تسمية هذا المبدأ اللاشخصي بالإله هي تسمية غير صحيحة، ولكن إذا لم نوحد بين المطلق وبين الإله، فما هي الأفكار التي تتبقى لدينا لكي نلحقها بهذا الأخير؟ إن من المحال تبرير صفات الخيرية الكاملة والقدرة الشاملة للإله، نظرًا إلى ما في العالم من شر، وإلى أسبابٍ أخرى. والسبيل الوحيد إلى المحافظة على الطابع الأخلاقي للإله هو أن نفترض أن قدرته محدودة، وستكون الفكرة الناجمة عن ذلك، أعني فكرة إله يصبو إلى الخير ويصل إليه ظافرًا، مرضية للذهن إلى حد يفوق بكثير فكرة إلهٍ كامل الخير، وأقوى منها احتمالًا. كذلك لا يمكن أن يكون الإله هو الخالق؛ إذ إن الشخصيات المتناهية — كما لاحظنا من قبلُ — أزلية. وهكذا فإن النظرة الوحيدة التي يمكن تبريرها هي تلك التي لا يكون فيها الإله ذا قدرةٍ شاملة ولا خالقًا، والسبب الوحيد الذي لا ينبغي من أجله أن نؤمن بوجود مثل هذا الإله هو أنه لا يوجد أساسٌ معقول يبرر ذلك. وهذا أنموذج واضح لطريقة ماكتجارت في البرهان، ونتيجته — كما هو واضح — أن فكرة وجود إله، وإن لم تكن بالطبع متناقضة، هي مسلَّمة غير ضرورية على الإطلاق. وهكذا استخلص ماكتجارت النتيجة الإلحادية لمذهبه، بكل ما تميز به فكره من صلابة وجرأة، وما عُرِفَ عنه من إحجام عن أية تضحية بالمعقولية وأي تراجع أمام الآراء السائدة. غير أن إلحاده بطبيعة الحال مختلف تمامًا عن المذاهب التي تتباهى عادةً بهذا الاسم، فمن المستحيل مثلًا أن يسمى إلحاده لا دينيًّا، وإنما هو يتمشى مع بعض صور الدين، كالبوذية وبعض المذاهب الشرقية الأخرى. ومما يثبت ذلك أن مقدماته الأولى — وهي النظرة المثالية إلى الطبيعة الروحية للعالم، والإيمان بخلود النفس البشرية — كانت ترتبط دائمًا بفهم للعالم في ظل الألوهية.

والعنصر الأخير في ميتافيزيقا ماكتجارت هو دليل آخر على أن إلحاده لم يكن لا دينيًّا، فقد نظرنا إلى الذات حتى الآن في ذاتها وبذاتها، فماذا نقول عن علاقة الأشخاص بعضهم ببعض؟ إن استقلال الذات، الذي رفعه مذهب ماكتجارت إلى أعلى المراتب، لا يعني أن الأشخاص منعزلون، كل منطوٍ على نفسه في ذاتيته، وإنما هم — على العكس من ذلك — يرتبطون بعضهم ببعض ارتباطًا حيويًّا عميقًا متبادلًا، وأهم علاقة تربط بينهم — وبالتالي تلك العلاقة التي تربط بين الأشياء جميعًا — هي الحب، أي العاطفة التي تحسُّ بها ذاتٌ نحو أخرى، هذه العاطفة تنبثق من شعور بأوثق الارتباط والتوحد مع الذوات الأخرى. وهذا الارتباط ميتافيزيقي، كامن في ماهية الشخصية، وليس شيئًا يتعين إحداثه أو إيجاده. ومن هنا فإن الحب، الذي ينشأ من الطبيعة النهائية الذاتية selfhood، لا يمكن أن يكون شيئًا سطحيًّا أو خارجيًّا، وإنما هو عميقٌ باطنٌ أساسي؛ ولذا كان مشحونًا بعمق وانفعال لا نظير له، وهو أعظم خير يتسنَّى للبشر أن ينالوه، وأرفع قيمة ينطوي عليها الكون، وهو يعبر عن الانسجام الكامل الذي توصل إليه العالم في مرحلته الأخيرة، مرحلة الذاتية selfhood، وهو الضمان الوحيد على أن ماهية العالم خير وليست شرًّا.
ومن الطبيعي أن الحب لا يجد في حياتنا الراهنة أكمل صورة له، بل إن هذه الصورة لا تتحقق إلا في ذلك الوجود الذي يتجه إليه كل سعي لنا، والذي يسميه ماكتجارت — محتفظًا بتخطيطه المجرد حتى النهاية — بالحلقة الأخيرة في السلسلة ج، غير أن هذه الصورة المنطقية لا تعود هنا إلا شبحًا هزيلًا خاويًا، عاجزًا عن التعبير عن تلك النار والسوْرة الباطنة التي يصور بها المفكر، بعد أن تحول الآن إلى متصوف، هذه الغاية النهائية. فالمرحلة الأخيرة، التي لها بداية ولكن ليست لها نهاية، هي مرحلة الحقيقة المطلقة، وقيمتها أعظم من قيمة جميع المراحل السابقة مجتمعة، ففيها تنال الحقيقة نصرها النهائي على الخطأ، والسرور على الألم، والخير على الشر. صحيح أنها ليست خالية من الشر، غير أن هذا يتضاءل بحيث لا يكاد يبدو إلا على أنه صدًى، يتردد فيه الألم الذي كان يجلبه الشر في المراحل السابقة. وهنا يعظم الحب إلى حد أنه يتغلغل في كل شيء ويسيطر عليه، وتحيا فيه الأشياء كلها وتتحرك وتكتسب وجودها، ففي الحقيقة المطلقة تحبُّ كلُّ ذات أيةَ ذاتٍ أخرى تدركها مباشرةً، هذا الحب الكامل ليس هو حب الحقيقة أو الخير أو الفضيلة، وهو ليس انفعالًا جنسيًّا، بل إنه ليس حب الإنسان لله، وإنما هو قوةٌ دافقةٌ غامرة، وهو «مباشر ووثيق وقوي، إلى حد أن أعمق وجدانٍ صوفي لا يعطينا إلا أبسط لمحة عن كماله»،٩٤ وهو لا يخضع لأي تحديدٍ خارجي، ولا يمكن تعيين سبب له، وأفضل وصف هو أن نقول بكل بساطة، وبطريقٍ مباشر: إنه هو الذي يجعل كائنَين ينتميان بعضهما إلى البعض ويصبحان كائنًا واحدًا، إنه الحب الذي تغنى به الشعراء، وتجلى بصورةٍ خالصة تمامًا لدى تنيسون في ديوانه «الذكرى La Memorian» وفي ديواني «الحياة الجديدة Vita Noova»، و«الكوميديا الإلهية Divina Commedia» لدانتي.
«الحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم.»٩٥

(٦) القسم السادس: أصحاب مذهب المثالية الشخصية

ساهم برنجل باتيسون — وهو اسكتلندي كان نشاطه الفلسفي معاصرًا لبوزانكيت — بدورٍ ملحوظ في استيعاب التراث المثالي المستمد من ألمانيا، وفي نشره وتدعيمه، وكان من أقدر مفكري الجيل الثاني من المثاليين الإنجليز، على أنه لم يكن يتميز بأصالةٍ ملحوظة، فقد كان يفتقر إلى المقدرة العقلية العميقة التي كان يتميز بها برادلي، وإلى مزاج ماكتجارت الجريء الصريح، وإلى إلمام وورد بالعلوم الطبيعية، فكان مدينًا إلى هؤلاء جميعًا، غير أنه لم يرتبط بواحد منهم ارتباطًا كاملًا، وإنما سلك طريقًا خاصًّا به، مر بهؤلاء جميعًا عن طريق نقده لمذاهبهم وتوفيقه بينها. وكانت النتيجة ما يمكن تسميته بمذهبٍ مثاليٍّ عادي، جمع بين الاتجاهات المختلفة، وتجنب من آرائهم ما ينطوي على المزيد من الجرأة ويثير المزيد من الجدل. وبفضل هذا التكيف مع عناصر المدرسة ذاتها، والمواجهة النقدية لخصومها، والأبحاث الواسعة في تاريخ الفلسفة، وتوصل برنجل-باتيسون إلى العالم، وكان ذلك راجعًا إلى دافعٍ خارجي، هو تعيينه لإلقاء محاضرات جيفورد، ودافعٍ باطنٍ حفزه إليه ذهنه النقدي، أكثر مما كان راجعًا إلى رغبةٍ عميقة في التأمل وبناء مذهب خاص به. فنظرته إلى العالم تبعث على الاحترام، غير أن تجنبها للواحدية والتعددية، ولمذهب المطلق والمذهب الشخصي، وكل المذاهب الثابتة والأخرى، كل ذلك جعل منها محاولةً تلفيقية، لا خلقًا أصيلًا.

وهناك اثنان من كتبه الأولى، التي ترجع إلى العَقْد التاسع من القرن الماضي، لهما أهمية تزيد على كونها أهميةً عابرة فحسب. فكتاب «مقالات في النقد الفلسفي»، الذي نشره بالاشتراك مع صديقه هولدين، هو بيان أو إعلانٌ مشترك لعدد من الشبان، الذين كانوا في ذلك الوقت يفتقرون إلى الشهرة، والذين انضموا إلى الحركة الجديدة، وكانوا يمثلون أول تعبئة لقوى المثالية. وقد ساهم برنجل باتيسون بالبحث الافتتاحي، فعرض الخطوط العامة لفلسفة هي في أساسها فلسفة هيجل، ولكنها ليست مقيدة تمامًا به، وإنما تتحرك بحرية في جميع الاتجاهات الفكرية التي امتدت من كانت إلى هيجل. وكان قد بيَّن في كتابه الأول، الذي ظهر قبل ذلك بعامٍٍ واحد، أن تطور هذه الفلسفة من الكانتية إلى الهيجلية قد سار وفقًا لضرورةٍ منطقيةٍ كامنة.

ولما كان برنجل باتيسون قد ظهر، عندئذٍ، بمظهر حامل راية المذهب الهيجلي، فقد أثار دهشةً غير قليلة عندما نشر بعد سنواتٍ قلائل كتابًا تعرضت فيه الهيجلية لنقدٍ شديد، وأعلن فيه أنها غير مرضية في نواح مُعيَّنة، على أن هذا الكتاب — وهو «المذهب الهيجلي والشخصية» — لم يكن موجهًا ضد الحركة الهيجلية بقدر ما كان موجهًا ضد تطوراتٍ نظرية مُعيَّنة لها، تمت على يد جناحها المناصر لفكرة المطلق. ومع ذلك فقد كان الكتاب يمثل نوعًا من الثورة داخل قيادة المعسكر، وأدى إلى قيام حركةٍ معارضة انضم إليها — على مر الأيام — كل من رفضوا تأييد المذهب المطلق عند برادلي وبوزانكيت، وكان هدف هذه المعارضة هو تنقية المثالية من عناصر هيجلية مُعيَّنة، بالتطلع قدمًا إلى لوتسه، ورجوعًا إلى كانت، وفي الوقت ذاته كانت تعني إعادة إحياء مذهب الألوهية بوصفه جزءًا لا يتجزأ من المثالية. وبذلك كانت تعني العودة إلى المدرسة الهيجلية القديمة وتحالفها مع الدين. ولا شك في أن ميول برنجل باتيسون الدينية القوية كانت في هذه الحالة عاملًا حاسمًا، ولم يكن من المستغرب أن يجد كتابه صدًى عميقًا في حلقة مارتينو.

وكان مركز هذا النقد لهيجل هو مشكلة الذات أو الشخصية، فقد ذهب إلى أن من الواجب فهم فكرة الذات عند كانت بمدلولها الإبستمولوجي (المعرفي) الأصلي، فالوحدة الترنسندنتالية للوعي الذاتي ليست إلا الوحدة المنطقية للتفكير، والعامل الصوري المحض في المعرفة. ولقد كان فشته هو الذي بدأ عملية تحويل الإبستمولوجيا عند كانت إلى ميتافيزيقا للمطلق، وواصل هيجل هذه العملية، كما واصلها الكانتيون الإنجليز والهيجليون؛ إذ إن هذه الإبستمولوجيا ليست أوضح ظهورًا عند فشته منها في تحويل جرين للوحدة التركيبية للوعي الذاتي إلى مبدأٍ روحيٍّ كلي أو وعيٍ إلهي، كما أن المنطق والميتافيزيقا ليسا منفصلَين بوضوح عند هيجل، فالتصور يجمد في ماهيةٍ واقعية، والمقولات تحدد هويتها بصور لأشياءَ موجودة، والعالم يشيد منطقيًّا من الفكر المحض. غير أن هذه المحاولة الطموحة لا تفلح أبدًا في الوصول إلى المعطيات الحقيقية للتجربة، أو إلى العيني والفردي، ولا تتجاوز أبدًا عالم التصورات الشكلية المجردة، على أن الواقع لا يمكن أن ينتج بالفكر، وإنما هو يُعْطَى له، والفكر لا يمكنه أن يصف إلا ما يمكن الاهتداء إليه نظرًا إلى كونه موجودًا بالفعل، وهذا الأخير يكون على الدوام فرديًّا وفعليًّا، وبالتالي يكون لا منطقيًّا ولا عقليًّا. وهكذا فإن إصرار هيجل على تجاهل ما هو فعلي قد جعل عالمه ينكمش في حدود العملية المنطقية التي لم يعد فيها الفرد العيني سوى مركز تجمع المقولات الصورية.

ويواصل برنجل باتيسون نقده قائلًا: إن الشمول المنطقي (panlogism) عند هيجل، يظهر قصوره بوجهٍ خاص في ذلك الشكل من الفردية الذي نسميه بالشخصية، فهو لا يترك مجالًا لحقيقة الأشخاص. ولقد كان خطأ هيجل، الذي شاركه إياه جرين والمدرسة الهيجلية الإنجليزية بوجهٍ عام، وهو خطأ التوحيد بين الوعي البشري والوعي الإلهي، ووضع الاثنين معًا في ذاتٍ كليةٍ واحدة؛ كان هذا الخطأ نتيجة للاتجاه إلى الاستعاضة بصورةٍ خالصة عن كائنٍ حقيقي. ففي الذات الشكلية الخالصة، أو في المطلق، يتلاشى الاثنان، ويُسلبان طبيعتهما المميزة بوصفهما شخصيتَين فرديتَين. ومقابل هذا المذهب المطلق يؤكد برنجل باتيسون الفردية الكمية والكيفية لكل شخصٍ أصيل، واستبعاده التام المطلق لكل الأشخاص الأخرى، وعدم قابليته للاختراق أو النفاذ (impenetrability)، وهي صفة لا يُعدُّ عدم قابلية المادة للاختراق، بالنسبة إليها، إلا شبيهًا هزيلًا، فلا يمكن أن تتضمن ذات في ذاتٍ أخرى أو تتغلغل فيها، ولا تكون الذات مبدأً للتركيب أو للتوحيد إلا إذا عُدَّت ذاتًا عارفة. أما إذا نظر إليها من الوجهة الميتافيزيقية، بوصفها موجودة، لكانت أولى علاماتها المميزة هي الاستقلال والانعزال، بل إن الشخصية الإنسانية مستقلة نسبيًّا حتى إزاء الله، ما دام لها مركزها الخاص. ومن الواجب أن ينظر إلى الله ذاته، لا على أنه مقولةٌ مجردة مثل «المطلق» عند هيجل، بل على أنه شخصيةٌ واعية بذاتها، لا تستطيع الشخصية المتناهية أن تتغلغل فيها أكثر مما يستطيع الله أن يتغلغل في الشخصية المتناهية. وبهذا الوصف تكون «الروح المطلقة» عند هيجل والوعي الكلي عند جرين أشبه بالطريق المسدود، الذي لا يؤدي إلى شخصيةٍ متناهية ولا إلى شخصيةٍ لا متناهية؛ فالهيجلية والشخصية لا تجتمعان.

ولسنا بحاجة إلى أن نبحث في مدى صحة فقد برنجل باتيسون لفلسفة هيجل، ولا سيما اتهامه إياها بأنها مجرد إطارٍ شكلي، ولقد رأينا من قبلُ أن ماكتجارت، الذي كانت له معرفةٌ أوثق بنصوص هيجل، قد اتخذ بعد عشر سنوات موقفًا مضادًّا تمامًا، وإن يكن من الطريف أن نلاحظ أنه قد وصل على الرغم من ذلك، مع برنجل باتيسون، إلى نفس النتيجة في تفكيرهما في مشكلة الشخصية. غير أن نقد برنجل – باتيسون له أهميةٌ تاريخية، هي أن ما يبرره لم يكن التطور السابق للهيجلية الإنجليزية بقدر ما كان تطورها اللاحق، أي ذلك العزوف التام الذي أسفر عنه مذهب برادلي وبوزانكيت المطلق فيما يتعلق بالشخصية، فقد وضع إصبعه على جرح لم يبدأ في الظهور إلا فيما بعدُ، ورأى مقدمًا خطرًا مقبلًا، فشيد للدفاع عنه حصنًا احتمى به كل أولئك الذين لم يقبلوا أن ينتقص أحد من حق الشخصية المتناهية وقيمتها أو ينكره. وهكذا قسم المعسكر الهيجلي إلى جماعتَين متعارضتَين، هما جماعة المطلق وجماعة الشخصية، وهو تقسيم ظل قائمًا طوال التاريخ، وبذلك كانت الخدمة الخاصة التي أداها برنجل باتيسون في تطور المثالية الإنجليزية هي أنه كان أول مفكر في هذه المدرسة أكد عن وعي وبإصرار قيمة الشخصية التي لا يمكن أن تسلب، وبذلك بدأ اتجاهًا فكريًّا كانت له ثمار من أنواعٍ شتى فيما بعدُ.

ولقد كان كتاب «الهيجلية والشخصية» يمثل أبعد نقطة افترق فيها برنجل-باتيسون عن هيجل، أما في كتاباته الأخرى فإنه، مع احتفاظه بالموقف الذي اتخذه من مسألة الشخصية ووضعه أساسًا منهجيًّا له، قد أخذ يعود إلى نقطة بدايتها الهيجلية الأصلية، وظهر هذا الاتجاه أول ما ظهر في اختبارٍ نقديٍّ مفصلٍ لكتاب برادلي «المظهر والواقع»،٩٦ عالج فيه «هذه النظرية الجديدة في المطلق» على نحوٍ أقل قسوة وسلبية مما قد يتوقعه المرء من موقفه السابق، فقد وجد لدى برادلي اتجاهَين متعارضَين، أسمى أولهما بالاتجاه الهيجلي، والثاني صدى لاسبينوزا وشلنج، فقبل الأول ورفض الثاني. وبعبارةٍ أخرى فقد رفض الرأي الذي يجعل من المطلق وحدةً خاوية لا تنوع فيها، ولا تتجاوز فيها المتقابلات على نحوٍ أصيل، وإنما تخف حدة التقابل بينها فحسب. كما رفض الثنائية غير الهيجلية بين المظهر والواقع، وقبل درجات الحقيقة والواقع، التي رأى أنها هي أساس ما في فلسفة هيجل من قيمةٍ باقية. وعلى الرغم من انتقاداته الكثيرة لتفاصيل المذهب المطلق الجديد، فإن موقفه العام من هذا المذهب، كما يتمثل لدى بوزانكيت، أكثر مما يتمثل لدى برادلي، كان موقف التأييد. ويبدو أن بوزانكيت بوجهٍ خاص قد ساهم مساهمةً كبرى في الصورة النهائية التي اتخذتها ميتافيزيقاه. وعلى أية حال، ففي كتاب «فكرة الله»، كانت وسيلته إلى إيضاح أفكاره الخاصة هي المناقشة المستمرة لآراء بوزانكيت. ولما كانت مسألة اتفاق هذين المفكرَين واختلافهما مسألةً داخلية بالنسبة إلى المدرسة، فلا حاجة بنا إلى خوضها.

ولا تكتمل أطراف مذهب برنجل باتيسون بحيث تتكون منه نظرةٌ كاملة إلى العالم، إلا عندما نصل إلى المجموعتَين اللتين ألقاهما من محاضرات جيفورد، وهما «فكرة الله» و«فكرة الخلود»، وهما المجموعتان اللتان كانت أولاهما هي الأهم من جميع النواحي، وهنا — كما في المواضع السابقة — يتركز اهتمامه في المسائل الميتافيزيقية. فمهمة الفلسفة في نظر غيره من بناة المذاهب من الهيجليين، هي التفكير في الواقع في كليته، وتتبع مركبه المعقول بوصفه نسقًا مقفلًا مترابطًا، وتفسير كل أجزائه ومراحله في ضوء مبدأٍ واحدٍ أساسي، بناءً على افتراض لا يمكن إثباته، ولكن لا مفر من تأكيده، هو أن الواقع معقول تمامًا، وأن الأشياء تلتزم نظامًا، وأن هذا النظام قابل لأن يُعْرَف من حيث المبدأ. ففكرة الارتباط العضوي للأجزاء بعضها ببعض وبالكل، هي الفكرة الأساسية في مذهب برنجل-باتيسون، وهي مظهر تأثره بهيجل. وفي ضوء هذه الفكرة يناقش العلاقة بين الطبيعة والإنسان، والفرد والمجتمع، والعالم والله، والمتناهي والوجود الإلهي وما شابهها من الأفكار.

فالطبيعة أداة بالنسبة إلى الإنسان، والإنسان أداة بالنسبة إلى الله، ولا وجود للطبيعة بوصفها حقيقةً مستقلةً تامة في ذاتها، كتلك التي يقول بها العلم الميكانيكي، بل إن كل حادثٍ طبيعي هو، على العكس من ذلك، يوجه إلى الإنسان بوصفه كائنًا عاقلًا. إن الإنسان حقًّا ابن الطبيعة وفلذة كبدها، وإليها ترجع جذوره، ومنها ينمو عوده، غير أنه أداة ذلك الشيء الذي نماه، وهو الوسيلة التي وصلت بها الطبيعة — لأول مرة — إلى وعيها بذاتها وتمتعها بوجودها، فكلٌّ منهما أداة للآخر.

فإذا ما تبيَّن لنا ذلك، أمكن خوض مشكلة المعرفة وحلها. فالإنسان بوصفه كائنًا عارفًا، هو مع ذلك فرد في الكون أو عضو فيه؛ لذلك كان علينا أن نزيل الهوَّة التي أقامها الفلاسفة بين العارف والمعروف، بين الذات والموضوع، وأن ننظر إليهما معًا في وحدتهما بوصفهما أعضاء في نسقٍ واحد. فالإنسان، من حيث هو ذاتٌ عارفة، داخل في العالم الذي يعرفه، وهو يقف جنبًا إلى جنب مع موضوعاته، ويستتبع ذلك ألا يكون قوام حقيقة الشيء هو فعل المعرفة، بل إن ذلك الفعل يفترضها مقدمًا، وهي بهذا المعنى مستقلة عنه؛ أعني أنها مستقلة بالمعنى الميتافيزيقي، أي معنى أنها موجودة بذاتها، خارج كل علاقة لها بالذهن، كما يزعم الكثيرون بالنسبة إلى المادة، وكما يقال على تلك الخرافة الأخرى التي لا يمكن تبريرها، أعني الشيء في ذاته. وإذن فمشكلة المعرفة لا يمكن أن تُحَلَّ بمذهبٍ مثالي من نوع مذهب باركلي، ولا بمذهبٍ مادي من النوع المرتبط بالعلم الطبيعي؛ إذ إن الأول يمحو الموضوع في الذات، والثاني يمحو الذات في الموضوع. كما أنها لا تُحَل بثنائية الظاهرة والشيء في ذاته عند كانت، ما دامت هذه تؤدي إلى اللاأدرية. والحل الوحيد الذي يمكن إيجاده هو القول بمذهبٍ واقعي يعطي كلًّا من العاملين المتضايفَين حقَّه. وما دام مثل هذا المذهب الواقعي يتفق في جميع النقاط الأساسية مع الرأي الساذج، فإن برنجل-باتيسون يطلق على مذهبه اسم الواقعية الطبيعية. وهذا الموقف لا يتعارض أبدًا — بطبيعة الحال — مع القضية المثالية الأساسية القائلة إن طبيعة العالم روحية، ويمكن أن يندمج عضويًّا في مذهب المثالية الميتافيزيقية.

ولقد كانت الميتافيزيقا التي قال بها برنجل – باتيسون مثالية، لها مراكز أساسية ثلاثة هي الطبيعة والإنسان والله. فالمثالية في هذا المذهب ليست عنصرًا فيه بقدر ما هي تكوِّن الأساس العام للكل، وقوتها الدافعة إنما تكون في الفكرة القائلة إن الطبيعة لا يمكن تصورها موجودة بذاتها، وإنما هي لا تتصور إلا بوصفها عاملًا في كلٍّ أكبر، تجد من خلاله القيم الروحية تعبيرًا عنها؛ فرفض أية صورة من الفلسفة الطبيعية naturalistic هو أمر تُحتِّمه الاعتبارات الأخلاقية، غير أن المثالية لا يمكن البرهنة عليها، فهي ترتكز أساسًا على اعتقادٍ مطلق، لا تبرره الحجج الإيجابية بقدر ما تبرره استحالة الفرض الطبيعي المضاد له. ومن ثم فهي ليست نظريةً جامدة، وإنما هي قوةٌ حية وإيمان، هو الإيمان بأن الطبيعة ليست أصلًا للروح أو نقطة بداية لها، وإنما هي تتخذ من الروح غاية ونقطة نهاية لها.

وبهذا المعنى يكون مذهب برنجل — باتيسون متركزًا حول الإنسان، فهو يرتكز، لا على الأصل أو نقطة البداية، وإنما على الغاية أو الهدف. وهذا الطابع الغائي يزداد وضوحًا في مذهبه في الإنسان أولًا، ثم في مذهبه في الله، الذي بلغ فيه هذا الاتجاه قمته. فهو يعمل على توسيع وتعميق تصوره للإنسان كما عرضه في كتابه «الهيجلية والشخصية»، دون أن يغير أيًّا من نقاطه الأساسية. وهنا تظهر مرةً أخرى معارضته للمذهب المطلق، ولكنها تظهر هذه المرة عن طريق نقده، لا لهيجل ذاته أو للهيجليين الإنجليز الأوائل، وإنما للهيجليين المتأخرين، ولا سيما برادلي وبوزانكيت. أما وجهة نظر برنجل باتيسون فهي، على خلاف هؤلاء، أقرب إلى آراء ماكتجارت وسورلي وراشدال. ويمكن تلخيصها على النحو الآتي: فكل ذاتٍ متناهية هي فرد لا نظير له، ويقع مركزها في داخلها، وتكون عالمًا لنفسها، وهي مركز للكون غير قابل للتكرار. وليست الذات، كما قال برادلي، مجرد معبر يوصل إلى حقيقةٍ مطلقة تلتهمها وتبدلها، بل إن لها، على العكس من ذلك وجودًا وقيمةً خاصة بها، وطبيعتها هي ما تكون عليه في الزمان والمكان الراهنَين، لا ما يمكن أن تكون عليه في المستقبل. ومن المحال إغراق الذات في كلٍّ أعلى، أو تحقيقها لذاتها بالفناء في غيرها، فهي ليست نعتًا للمطلق، على حد تعبير برادلي، وإنما لها كيان الاسم القائم بذاته (وإن لم يكن هذا الكيان جوهريًّا)، وهي مركز يكتسب فيه مضمون متعدد الأوجه وحدةً باطنة هي وحدة ذاتٍ فريدة. أما من وجهة النظر الأخلاقية فإن الذات تعدُّ إرادةً متكوِّنة، مستقرةً، محددة، ومصدرًا لأفعالها الخاصة، التي تضطلع تبعًا لذلك بالمسئولية الكاملة عنها. وليست الذات نقطة التقاء أو مفرق طرق بالنسبة إلى قوةٍ غريبة عنها، بل إنها هي التي تتحكم في مصيرها، وهي حرةٌ خلاقة وتنتمي الحرية إلى قلب طبيعتها؛ إذ إنها هي الشرط الأساسي لأية حياةٍ أخلاقية. فكوننا أحرارًا هو حقيقة لا تُفَنَّد، ولا تتأثر بجميع الصعوبات التي تعترض طريقنا عندما نحاول إيضاح الطريقة التي نكتفي بقبولها. فالفردية، ومعها الحرية التي تكوِّن مركزها، هي المبدأ الأساسي للعالم الحقيقي.

وتحتل فكرة الشخصية الإنسانية هذه — باستقلالها وحريتها وعدم قابليتها للفناء — موقعًا مركزيًّا في مذهب برنجل-باتيسون؛ إذ إن كل شيء آخر يرتبط بها ويتحدد بوساطتها، بل إن فكرة الله ذاتها، مهما كان بحثها أساسيًّا بالنسبة إلى كل ميتافيزيقا، مستمد من هذه الفكرة ضوءًا وتكتسب مكانتها بفضلها. فالله، كالطبيعة، ليس نقطة بداية بالنسبة إلى الإنسان، وإنما هو يُعرَّف بأنه نقطة النهاية بالنسبة إليه، وذلك على خلاف معظم مذاهب الألوهية. وهكذا فإن المبالغة في تأكيد الشخصية المتناهية، الذي أدى عند ماكتجارت إلى الإلحاد، قد أدى عند برنجل – باتيسون، الذي كان شعوره الديني أقوى بكثير، إلى تكييف فكرة الله مع فكرة الإنسان. أما عن العلاقة بين العالم والله، فإنه يرى أن كلًّا منهما وسيلة للآخر، فليس الله خالقًا عاليًا أوجد العالم ثم تركه لمصيره، أي تركه ليسير في طريقه آليًّا، وإنما هو كائن في العالم، وهو خالق بمعنى أنه يتكشف أزلًا فيه، ويضفي أزلًا على تناهي العالم وعرضيته فيضًا من طبيعته اللامتناهية التي لا ينضب معينها. فالمتناهي والإلهي لا يوجدان إلا وبينهما مبادلة، وتغلغلٌ عضويٌّ متبادل.

وبالمثل، فليس الإنسان والله حقيقتَين مستقلتَين، وإنما يستمد كلٌّ منهما معناه من الآخر. فالله يحتاج إلى الإنسان بقدر ما يحتاج إليه الإنسان، ولا يكون لله معنًى إذا ما استبعدت عنه كل علاقة بحياتنا الشخصية، وبالمثل لا يكون للإنسان معنًى إذا ما عزل عن أساسه الخالق. ولا يمكن أن يكون معنى الكون وقيمته منحصرًا في تنازل الأفراد المتناهين عن ذواتهم لكي يستوعبها اللامتناهي، الذي لن يستمد من ذلك أي تعميق أو إثراء لطبيعته، بل إن وجود مراكزَ فردية للتفكير والفعل هو ذاته إثراء وإعلاء للكل في هذا العالم الحالي، وكلما ازداد لهيب الحياة الفردية لمعانًا ونقاءً، كان ذلك الإثراء أعظم وأعمق، ولو دُمِّرَت حياة فرديةٌ واحدة لكان في ذلك إقلال من قيمة الكون، فالقيم العليا لا تتحقق إلا في حياة الأشخاص ومجموعات الأشخاص، أي في اتصال الأفراد المتناهين بعضهم ببعض وبالله. ولهذا السبب كان من المستحيل على المطلق أن يصبح بنفسه ذاتًا حقيقية. ولا يتحقق المطلق أو الله بمعناه الكامل، ولا يغدو إلهًا حقًّا إلا عندما تترك للأفراد سلامتهم الكاملة إلى جانبه، وعندما يدخلون في اتصال معه، وبذلك يعلون من قيمته.

والنتيجة المنطقية لقدرة الشخصية الإنسانية على إعلاء الألوهية، هي أولوية الإنسان بالنسبة إلى الله. ولقد علق الدكتور تمبل Temple على كتاب برنجل باتيسون قائلًا: إن الله قد أصبح مجرد نعتٍ لاحق بالكون،٩٧ ولعل الأصح من ذلك أن يقال: إنه قد أصبح مجرد نعتٍ لاحق بالإنسان أو متوقف عليه. وقد ظهر معترضٌ آخر من الجانب الديني هو البارون فون هوجل Von Hügel،٩٨ فمذهب الألوهية عند برنجل – باتيسون، مهما كان عمق الإيمان الذي انبثق عنه، ليس في أساسه سوى مذهبٍ ألوهيٍّ مزيف وحلٍّ وسطٍ عاجز عن إرضاء العقل نظريًّا، وإن تمجيده للشخصية الإنسانية ليؤدي منذ البداية إلى استبعاد فكرة الله كما شاع فهمها. وعلينا، إذا شئنا عرضًا أكثر اتساقًا لهذه الفكرة، أن نعود إلى برادلي ورأيه في المطلق اللاشخصي، وإلى إلحادية ماكتجارت، أما موقف برنجل – باتيسون فهو موقفٌ وسط، لا يرتكز على أساسٍ متين، ويخفق في نفس النقطة التي جعل منها قمة نظريته للميتافيزيقا، أعني تعريف طبيعة الله.
نشأ جيمس سث في نفس البيئة الفلسفية التي نشأ فيها شقيقه أندرو، فكلاهما قد شبَّ في العاصمة الاسكتلندية، التي كان يهيمن على شئونها الفلسفية فريزر وكالدروود، أستاذا كرسيي الفلسفة بالجامعة. وعلى الرغم من أن هذين لم يتأثرا بالحركة المثالية الجديدة إلا قليلًا، فقد هيآ الأرض لاستقبال الأفكار الجديدة وتنميتها، وذلك حين أحيا فريزر مثالية باركلي، ورفض كالدروود مذهب هاملتن، الذي كان قبوله شائعًا في اسكتلندا في ذلك الحين، كما أن الاثنين كانا من أنصار فكرة الألوهية، وفي هذا كانا قريبين من المثاليين الهيجليين. ولقد وفدت المثالية الجديدة إلى العاصمة الاسكتلندية في حوالي بداية العَقْد التاسع من القرن الماضي، آتية من جلاسجو، حيث كان إدوارد كيرد سفيرًا واسع النفوذ للمثالية، وفي الوقت نفسه تقريبًا أُنْشِئَت جمعيةٌ فلسفيةٌ جامعية في إدنبرة، كان من أعضائها شبان موهوبون مثل آدامسون Adamson وسورلي Sorley وهولدين وريتشي، والأخوان سف. وبفضل المناقشات التي دارت بينهم للأفكار الجديدة، تغلغلت جذور الحركة المثالية في المدينة التي كان يعيش فيها عندئذٍ — بهذه المناسبة — الرائد الأصلي للهيجلية الإنجليزية، أعني سترلنج. وعندما حل العقد الأخير من القرن الماضي أصبح ممثلان للاتجاه الجديد يشغلان الكرسيَّين الجامعيَّين بها؛ ذلك لأن أندروسث قد خلف فريزر في ١٨٩١، كما أن جيمس سث قد خلف كالدروود في ١٨٩٨، وواصل الاثنان نشاطهما في التعليم بقوة ونجاح غير عاديَّين، إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى.

ولقد كان الشقيقان يجمعان، إلى أواصر القربى ووحدة المهنة، تشابهًا في المذهب، فقد كانا متفقَين في جميع النقاط الأساسية، ولكن بينما كان الاهتمام الأساسي لأندرو منصبًّا على الميتافيزيقا، فقد اتجه اهتمام جيمس إلى الأخلاق. وهكذا طبق أفكار شقيقه على نطاقٍ واسع في هذا الميدان، وصاغها في كثير من الأحيان صياغة أدق وأضبط، ففي بحثه — الذي أحرز في وقته مكانةً عالية — عن «الحرية بوصفها مصادرةً أخلاقية»، دافع عن استقلال الشخصية الأخلاقية وسلامتها ضد الاتجاه الهدام لدى الهيجليين، وبذلك ألَّف ما يمكن أن يُعَدَّ ملحقًا أخلاقيًّا لكتاب أخيه «الهيجلية والشخصية». وإذا كان هناك جانبان يهددان بالخطر استقلال الشخصية، الذي هو أساس كل حياةٍ أخلاقية ومقدمتها الأولى، أعني المذهب الطبيعي، الذي يذيبها في الطبيعة، ومذهب المطلق، الذي يذيبها في الله، فإنه كان يعدُّ الجانب الثاني أخطر. غير أن كلا هذين قد تخلى عن الحرية، التي ترتبط بفكرة الشخصية ارتباطًا يبلغ من العمق حدًّا يجعل الوجود المتميز للإنسان متوقفًا تمامًا عليها.

ومهمة الأخلاق هي تحديد مركز الإنسان الخاص بالنسبة إلى الأحداث الطبيعية من جهة وإلى القوة الإلهية من جهةٍ أخرى؛ لذلك لا يمكن أن تكون الأخلاق علمًا وضعيًّا فحسب، أو بحثًا تجريبيًّا في الظواهر الأخلاقية وأصولها، مثلما يقول أنصار المذهب الطبيعي والمذهب التطوري (الذي يُعدُّ «لسلي ستيفن» ممثلًا نموذجيًّا لهما)، وإنما ينبغي أن تمتد من ناحيةٍ أخرى إلى الميتافيزيقا واللاهوت. وفي هذه الميادين الأخرى كان مذهب جيمس مماثلًا، على وجه العموم، لمذهب أخيه، فالفلسفة هي المركب الأعلى للحقائق الميتافيزيقية الثلاث: الطبيعة والإنسان والله. ولكن عليها أن تكشف، في عملية التركيب، عن الفروق القائمة بينها، فضلًا عن علاقاتها الإيجابية. وعليها أن تحذر بوجهٍ خاص طغيان إحدى هذه الحقائق على الأخرى؛ فعليها أن تعطي كلًّا منها ما تستحقه بالفعل من قيمة ومكانة. والمشكلة الميتافيزيقية الحاسمة هي علاقة الإنسان — بوصفه شخصًا أخلاقيًّا حرًّا — بالله، غير أن حل هذه المشكلة، دون تهرب من أية صعوبة من الصعوبات المتضمنة فيها، هو أمر يتجاوز نطاق قدرة الفكر، فيبدو أن كلًّا من العاملَين لا يتمشى مع الآخر، ومع ذلك لا يمكن التخلي عن أحدهما لصالح الآخر، كما تفعل الصوفية، مثلًا، لصالح الدين، أو كما تفعل المثالية المطلقة لصالح الفلسفة. فالإنسان لا يصل إلى فكرة كائنٍ أعلى إلا عن طريق اقتناعه بسموه على الطبيعة وبحريته واستقلاله الأخلاقيَّين؛ لذلك كان النظر باحترام إلى الطبيعة البشرية هو الضمان الصحيح الوحيد للنظر إلى الطبيعة الإلهية باحترام، أي إن إفناء الشخصية الإلهية ليس إلا إفناءً لعظمة الله بدورها. ولهذه الأسباب لا يمكن النظر إلى الإنسان على أنه مجرد أداةٍ سلبية في يد الله، فالصفة الأساسية المميزة لحياة الإنسان، من حيث هي تحكمٌ حر في مصيره، هي الفاعلية الإيجابية. وأرفع رأي يمكن أن يتخذه الإنسان عن علاقته بالله هو القول بالتعاون الإيجابي، الذي يتخذ فيه الإنسان لنفسه الغايات الإلهية، ويغدو هو ذاته مساهمًا في تقدم العملية الكونية. ويرتبط بهذه الفكرة الجذابة، الرأي القائل إن الشر قوةٌ إيجابيةٌ حقيقية، ينبغي أن نعترف بكل ما لها من خطورةٍ أليمة، وهنا أيضًا يُظهر سث، كما أظهر في مسألة الشخصية، معارضته للهيجليين، الذين كان في تفاؤلهم السطحي تهرب من مشكلة الشر أكثر مما كان فيه حل لها.

ومن الواضح أن هذه الآراء الأخلاقية، إذا ما نُظِرَ إليها في سياق نتائجها الميتافيزيقية، تبدو أقرب إلى الروح الكانتية منها إلى الروح الهيجلية، كما أنها قريبة الصلة بمذهب مارتينو الأخلاقي. غير أن دين سث الأعظم، إلى جانب دينه لأخيه، هو — باعترافه — دينه لكتاب «الأخلاق Ethica»، من تأليف مواطنه لوري Laurie، الذي كان يدرس في جامعة إدنبرة في نفس الوقت، والذي لم توجِّه إليه الأوساط الفلسفية الاحترافية في ذلك الحين ولا فيما بعدُ اهتمامًا كبيرًا.
وقد عرض سث آراءه على شكل مذهبٍ أخلاقيٍّ كامل، في كتابٍ تالٍ أحرز نجاحًا كبيرًا، هو «دراسة في المبادئ الأخلاقية»، فقد وقف موقفًا مضادًّا لأنصار المذهب الطبيعي؛ إذ نظر إلى الأخلاق على أنها علم معياري، غايته الرئيسية هي كشف المثل الأخلاقي الأعلى، والمعيار الأسمى للقيمة الأخلاقية. ومن الممكن التمييز بين حلَّين متعارضَين من بين الحلول المتباينة لهذه المشكلة الأساسية، هما مذهب اللذة عند الأبيقوريين وأصحاب مذهب المنفعة، ومعياره هو الشعور، ومذهب القانون الصارم Rigorism عن الرواقيين والحدسيين وكانْت، ومعياره هو العقل. هذان الطرفان المتقابلان في حاجة إلى نظرية تتوسط بينهما، تعطي كلًّا من الشعور حقه، وتجمع بينهما في وحدة الطبيعة البشرية. ويطلق سث على هذا الموقف الأشمل اسم مذهب السعادة Eudaenonism أو أخلاق الشخصية. ولا يعني بذلك نظرية السعادة كما عرفها الأخلاقيون التجريبيون الإنجليز في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وإنما يعني الموقف المثالي الذي تجلَّى بأنقى صوره عند أفلاطون وأرسطو وبطلر وهيجل، وفي رواية «فاوست» لجوته، وفي شعر تنيسون وبرواننج وأرنولد. وعلى حين أن شعار مذهب اللذة هو إرضاء الذات، وشعار مذهب القانون الصارم هو التضحية بالذات، فإن شعار مذهب السعادة (بهذا المعنى) هو تحقيق الذات. فالأمر الأخلاقي ليس موجهًا للشعور أو إلى العقل، وإنما إلى الذات الكاملة، التي تجمع بين هذا وذاك، وإلى شخصيةٍ حرة منظورًا إليها في ضوء جميع أفعالها وعلاقتها، وإلى ذات تنسجم جميع قدراتها، وتحيا حياةً أخلاقية ارتبط فيها الواقعي والمثالي ارتباطًا عضويًّا. فالذات الأخلاقية هي الوحدة التركيبية للوعي الذاتي، منظورًا إليها من وجهة النظر الأخلاقية. وهكذا فإن القانون الأخلاقي يقضي بأن ننمِّي — من فرديتنا الطبيعية — ذاتنا المثالية الشخصية الأصيلة. ولكي يكون الكائن شخصًا ينبغي أن يكون حرًّا، وعلى ذلك فإن قانون الكائنات العاقلة كلها هو الاستقلال الذاتي.

وبعد تحديد سث للمثل الأخلاقي الأعلى على هذا النحو، ينتقل إلى تطبيقٍ مفصَّل له على الحياة الفردية والاجتماعية، وهكذا ينتهي بميتافيزيقا للأخلاق يتحدث فيها عن الحرية والله والخلود. وهو في هذه الموضوعات لا يتجاوز — كما ذكرنا من قبلُ — البرنامج الذي وضعه في كتابه الأول، ولا يفترق في أية نقطةٍ أساسية عن آراء أخيه.

انضم سورلي إلى الحركة الجديدة في وقتٍ مبكر؛ إذ نجد في كتاب «مقالات في النقد الفلسفي» مناقشة أجراها للمنهج التاريخي. وقد كان الموضوع الرئيسي لكتاباته التالية هو المسائل الأخلاقية، التي نقدها ونظمها من وجهة النظر المثالية، وقد بحث مشكلات فلسفة القيمة على نحوٍ أدقَّ وأعمق، مما بحثها معظم أفراد المدرسة، وأحرز في مذهبه نتائج أعظم. وكان بحثه مرتبطًا بدراساته الأخلاقية ارتباطًا وثيقًا، وكان تعلقه بكانت وهيجل، على وجه العموم، أقل مما كان شائعًا بين زملائه من المثاليين. غير أنه استبق تمييز كانت للوجود إلى عالمين: عالم الطبيعة وعالم الغايات، وكان يماثل هيجل في سعيه إلى بناء مذهب وتعلقه الدائم بالكل، وبهذا كان يواجه كل أنواع الثنائية بمحاولة تجاوزها في وحدةٍ أعلى.

وقد تضمن كتاباه الأولان: «أخلاق المذهب الطبيعي» «والاتجاهات الأخيرة في علم الأخلاق» نقدًا عميقًا لمختلف صور الأخلاق الطبيعية، فبيَّن أولًا أن أصل الأفكار والأحكام الأخلاقية لا يمكن أن يُقرِّر شيئًا بشأن مشكلة قيمتها؛ إذ لا يوجد طريق يؤدي من الواقع إلى القيمة، ومما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، وهي فكرة استمدَّها من لوتسه، كما بيَّن ثانيًا أن المراحل الدنيا، في العملية التطورية، ينبغي أن تُفهَم في ضوء المراحل العليا وليس العكس. وقد عرض فيما بعدُ مذهبه كاملًا في كتابه الرئيسي «القيم الأخلاقية وفكرة الله»، ولخَّصه في مقال «القيمة والواقع».

فالوجود في كليته، الذي تكون مهمة الفلسفة هي الوصول إليه، يشمل عالمَين مختلفَين كل الاختلاف، عالم ما هو واقعي فحسب أو موجود، وعالم ما له قيمة. فالتقويمات شأنها شأن الإدراكات الحسية، من بين المعطيات الأصلية للتجربة، وصحيح أن فعل التقويم، وكذلك فعل الإدراك، هما فعلان ذاتيان، غير أن الموضوعات التي يتجه إليها هذان الفعلان ليست ذاتية، فبأي معنًى إذن تكون القيم موضوعية؟ يرد سورلي على هذا السؤال قائلًا إنها تكون موضوعية بقدر ما تكون علامةً مميزة للشخصية، فالأشخاص ينتمون إلى النظام الموضوعي للأشياء، وهم في نفس الوقت حملة القيم التي تظهر في حياتهم وشخصياتهم. وهكذا فإنهم ينتمون إلى كلا العالمَين اللذين أشرنا إليهما.

هذه الأفكار، التي ترجع أصلًا إلى كانت، قد اكتسبت طابعًا خاصًّا بفضل ارتباطها بلوتسه وفلسفة القيم المستمدَّة منه، والتي وضعتها مدرسة بادن Baden،٩٩ واتفقت مع مذهب ريكرت Rickert١٠٠ اتفاقًا يكاد يكون تامًّا، ولقد كان لهذا الاتجاه الفكري ذاته، الذي لم يلقَ في إنجلترا اهتمامًا كبيرًا، تأثيرٌ قوي في أجزاء أخرى من مذهب سورلي، فعرضه لمناهج العلوم، مثلًا، مستمدٌّ من ريكرت، ولا سيما فكرته عن العملية التعميمية في العلوم الطبيعية والعملية التخصيصية في العلوم التاريخية، ونظرته إلى الأولى على أنها تقوم بتجريد القيم، والثانية على أنها متوقفة على القيم، ولما كان مقر القيم هو الأفراد، والأفراد يتميزون بفردانية كيفية وعددية، فإن هذه الصفات تنتمي إلى ماهية ما له قيمة.

وعندما أخذ سورلي يضع تفاصيل نظريته الخاصة في القيم، ازداد اهتمامًا بالقيم الأخلاقية، وجعل لها آخر الأمر مكان الصدارة بالنسبة إلى كل القيم الأخرى، بوصفها أنقاها وأشملها، ومن حيث إنها ترتبط بالقيم الأخرى جميعًا. وهو يميز بين القيم من حيث هي أداة، والقيم من حيث هي كامنة، فالأولى تنتمي حتى إلى الأشياء المادية، بقدر ما تدخل في علاقات مع الأشخاص، أما الثانية — وهي القيم بمعناها الصحيح — فلا تنتمي إلا إلى الأشخاص بوصفهم حَمَلتها، ولا تدخل هذه القيم الأخيرة في تركيب الكون عن طريق ارتباطها بالأشخاص.

ولقد شيد سورلي على نظرية القيم هذه مذهبه الخاص في الميتافيزيقا، الذي كانت مهمته الرئيسية، الرامية إلى تحقيق غايته الرابطة الجامعة، هي تجاوز ثنائية نوعَي الوجود، أعني الوجود الفعلي أو الطبيعي، والوجود ذا القيمة أو الأخلاقي. فعلى الميتافيزيقا أن تهتدي إلى المصدر الموحد الذي نشأ عنه هذان العالمان، والذي قد يعودان إليه ثانية. ولما كان العالمان يلتقيان في الإنسان، فلا بد من تصور هذه الوحدة العليا، وهي المطلق أو الله، من خلال مقولة الشخصية. فإذا شئنا أن نحقق النظرة المتكاملة التي تعطي كلًّا من القيم والوقائع الطبيعية حقها الكامل، فإنا لا نستطيع الاستغناء عن فكرة الله؛ فالله ضروري ليس فقط من حيث إنه خالق الكون الموجود، بل أيضًا من حيث إنه ماهية كل قيمة ومصدرها.

وحسبنا هنا أن نشير من بعيد إلى النتائج الميتافيزيقية لهذا الرأي، فقد وضع سورلي مصادرتَين ميتافيزيقيتَين، هي الحرية الفردية للإنسان، والغرضية الكونية للطبيعة. أما الأولى فتثير مشكلةً خطيرة هي علاقة الإنسان بالله في علمه الشامل وقدرته الكاملة. فوجود الشر وتلك الأحداث التي لا يجوز أن تُنْسَبَ إلى الإرادة الإلهية، وقدرة الإنسان على أن يسلك على نحوٍ مضاد للقانون الأخلاقي، هذه الحقائق وغيرها لا يمكن تفسيرها إلا على أساس افتراض أن الله يضع لقدرته الشاملة حدودًا، وأن تحديد الله لذاته هو جزءٌ أساسي من طبيعته. ويفضل سورلي هذا الموقف على محاولة الهيجلية الجديدة رد الأشياء والأشخاص إلى مجرد أحوال يظهر عليها المطلق، الذي يفقدون فيه — من وجهة النظر النهائية — كل ما يجعلهم يَبْدُون على ما هم عليه.

ومن الممكن أن تسمى مثالية سورلي مثاليةً أخلاقية، ما دامت ترتكز على مذهب للقيم تحتل القيم الأخلاقية مكان الصدارة فيه، ولما كان يعزو إلى الأشخاص — بوصفهم حملة القيم ووسطائها — مكانةً ميتافيزيقية تعلو على مكانة العالم الطبيعي، عالم الوقائع المادية الخالصة، فإن موقفه أقرب إلى مثالية باركلي منه إلى مثالية أفلاطون، فهي مثالية أشخاص فرديين يندرجون تحت روحٍ إلهية تتصور بدورها على أنها شخص، فهي مثاليةٌ ألوهية، أقرب إلى تفكير «راشدال» منها إلى أي مذهبٍ معاصر. وبالمثل يرجع مذهب راشدال إلى باركلي، وإن يكن ارتباطه، داخل هذا المذهب، بالجانب الروحي على وجه التخصيص من ميتافيزيقا باركلي، أقوى بكثير من ارتباط سورلي به؛ فمثاليته موجَّهة ضد المثالية المطلقة عند المفكرين الأقوى تمسكًا بهيجل، وهي تتأثر بكانت أكثر ما تتأثر بهيجل. ولما كان اهتمام سورلي قد اتجه أساسًا إلى الأخلاق والميتافيزيقا، فإنه لم يعرض مذهبًا خاصًّا به في نظرية المعرفة.

اتخذت المثالية طابعًا فريدًا عند راشدال، الذي كان من أقوى الزعماء تأثيرًا في المذهب الديني المُحدَث بإنجلترا. وربما كانت أول قوةٍ دافعة إلى تكوين نظرته المثالية إلى العالم هي تلك التي أتته من جماعة أكسفورد (فقد استمع إلى محاضرات جرين وهو طالب)، وإن يكن قد شعر منذ وقتٍ مبكر بنفور من المذهب عند برادلي وبوزانكيت، وازداد تحولًا إلى لوتسه، الذي رأى أنه هو الوحيد من المفكرين البارزين المُحدَثين الذي كان تفكيره مسيحيًّا بعمق ودون قيد أو شرط. غير أن ما اتصف به تفكيره من الوضوح والهدوء، وما اقترن به من ميلٍ قوي إلى الموقف الطبيعي، جعله لا يستفيد كثيرًا من الأعماق الغامضة للفلسفة الهيجلية؛ فاتَّجه بتفكيره، بدلًا من ذلك، إلى باركلي، الذي اجتذبته ميتافيزيقاه الدينية بوصفه لاهوتيًّا وبوصفه فيلسوفًا ذا ميولٍ مثالية. وبفضل استيعابه للأفكار الأساسية في ميتافيزيقا باركلي ونظريته في المعرفة، أصبح هو الباعث الحقيقي لمذهب الألوهية عند باركلي في القرن العشرين؛ أعني الباعث الأصيل الوحيد لهذا المذهب؛ ذلك لأن المحاولات الأخرى التي بذلها فرييه Ferrier وفريزر وكولينز وسيمون وغيرهم لم تلقَ إلا اهتمامًا عابرًا.

ولقد وضع راشدال، مقابل المثالية المطلقة، مثاليةً شخصية، فقد انبثقت فلسفته عن اقتناع بالطابع الفردي والفريد للشخص، سواء أكان ذلك الشخص إنسانيًّا أم إلهيًّا، وظلت مرتبطة بهذا الاقتناع ارتباطًا وثيقًا. ولقد أدت الحماسة التي دافع بها عن هذا الاعتقاد، والتي كادت تبلغ حد التعصب، إلى جعله يغمض عينَيه عن حقوق أو مزايا أية نظرية تقول بكيان فوق الفردي، أو كلي، قد يهدد قداسة الذاتية الشخصية وطابعها المطلق، وجعلته يستهل نشاطه الفلسفي في صحبة جماعة من الكتاب كانت تشمل بعض البرجماتيين، الذين لم يكن يجمع بينه وبينهم شيء إلا معارضته للمذهب المطلق. ويعبر المقال الذي ساهم به في مجموعة الأبحاث التي نشرها «هنري سترت» بعنوان «المثالية الشخصية»، عن الخطوط الرئيسية لتفكيره، الذي طبقه فيما بعدُ ووسعه في الميدانَين اللاهوتي والأخلاقي، وإن لم يكن قد تجاوزه في أية نقطةٍ أساسية.

فهو قد أعلن — متفقًا في ذلك مع باركلي اتفاقًا وثيقًا — أنه لا يمكن وجود مادة بلا ذهن، ولا أشياءَ جسمية موجودة في ذاتها، والذهن يوجد على صورة أشخاصٍ عارفةٍ مريدة، وكل ما ليس بذهن — بهذا المعنى — لا وجود له إلا في علاقته بذهن، فعالم الحقائق الأصيلة يتألف من أذهانٍ متناهية، ومن الذهن اللامتناهي الذي هو الله؛ إذ إن هذا الأخير ضروري لإعطاء أساسٍ موضوعيٍّ كامل للأشياء الخارجية التي تبدو أولًا (في ترتيب المعرفة) في وعي الأذهان المتناهية، والذهن فردي على نحوٍ مطلق، وهو يتحقق دائمًا في وعيٍّ مستقل، دون أن يكون من الممكن نفاذ أي وعيٍ آخر فيه، أي إن الأشخاص يستبعد كل منهم الآخر. وقد طبق راشدال هذه الفكرة التي هي الأساسية في تفكيره، على علاقة الأشخاص المتناهين بالشخصية الإلهية، وانتهى من ذلك إلى استحالة استيعاب الشخصية الإلهية للأشخاص المتناهين. وهنا أعرب عن معارضته لأية صورة من المعاناة الصوفية لله أو الإدراك الحدسي له، على أنها تنطوي على قضاء على حدود الشخصية أو إذابة لها. والأمر الذي كان يود أن يصل إليه، هو إقامة الدين على برهانٍ عقليٍّ محض، ولم يتردد آخر الأمر في قبول النتائج المنطقية لمبدئه القائل باستقلال الشخصية واستحالة نفاذ غيرها فيها؛ وأعني بهذه النتائج، الفكرة القائلة إن الله متناهٍ، فقدرة الله تُحَدُّ بوجود الأشخاص الإنسانيين، والحقيقة المطلقة ليست هي الله، وإنما هي مجالٌ مشترك للأرواح الشخصية التي يكون الله واحدًا منها، وإن يكن هو الروح الرئيسية. وهذا الرأي مشابه لرأي ماكتجارت.

ولقد كان كتابه «نظرية الخير والشر» من أدق وأشمل الأبحاث الإنجليزية الحديثة في الأخلاق، وهو يصف موقفه، الذي كان أقرب إلى سدجويك ومور منه إلى جرين وبرادلي، بأنه «مذهب منفعة مثالي ideal utilitarianism»، وتبعًا لهذا المذهب، تكون للحياة المثلى ثلاث مقولاتٍ رئيسية، هي القيمة واللذة والسعادة (ومن هنا فإن إدراجه للذة ضمن خير الإنسان الحق يزعزع صحة تأكيده أن نظريته مضادة لمذهب اللذة). إن الأخلاق بطبيعة الحال مجالٌ قائم بذاته ولا نظير له، غير أنها مع ذلك مرتبطة بالميتافيزيقا وتنطوي على مصادراتٍ ميتافيزيقية، ولا سيما هذه المصادرات الثلاث: (أ) كل الأفعال الأخلاقية ينبغي أن تُنْسَبَ إلى الذات الفردية. (ب) أساس موضوعية الحكم الأخلاقي هو وجود الله. (ﺟ) الخلود. وهكذا فإن الأخلاق عند راشدال تبدأ بالأشخاص الفرديين وتنتهي بالله، أما عن الشر فقد أكد أنه ليس مجرد مظهر، وإنما هو جزء من طبيعة الأشياء له من الحقيقة ما للخير؛ فهو إذن يتجنب التفاؤل الساذج الذي قال به أصحاب مذهب المطلق. ونظرًا إلى الطبيعة الإيجابية للشر، فإنه يتعين علينا مرةً أخرى أن نرفض فكرة شمول القدرة الإلهية.

وهكذا فإن فلسفته، التي تشبه فلسفة سورلي أكثر مما تشبه أية فلسفةٍ أخرى، يمكن أن توصف في عمومها إيجابيًّا بأنها إحياءٌ متأخر لمذهب باركلي، مع اهتمامٍ خاص بذلك الرأي في الشخصية، الذي كان من الواضح أن باركلي يقول به، ولكنه تركه في صورةٍ ضمنية. كما يمكن أن توصف سلبيًّا بأنها رد فعل على المذهب المطلق عند برادلي، الذي يهدد قداسة الشخصية بخطرٍ كبير. ولقد تأثرت الأخلاق عنده بالتراث الإنجليزي في نواحٍ هامة، واتجهت أساسًا نحو مذهب المنفعة التجريبي عند مل وسدجويك ومور. وهكذا فإن القوة الفلسفية الدافعة التي تلقَّاها أصلًا من هيجلي أكسفورد قد عادت القهقرى إلى تراثه الفكري القومي، ولكن مع تأثره بالعناصر المثالية في هذا التراث إلى جانب عناصره التجريبية.

(٧) القسم السابع: أصحاب مذهب الألوهية وفلاسفة الدين

اتخذت المثالية عند وورد — وهو مفكر كان مشهورًا ذا مكانةٍ رفيعة في انجلترا، ولكنه كان شبه مجهول خارجها — صورةً تختلف اختلافًا أساسيًّا عن أي مذهب بحثناه حتى الآن، وذلك بعد أن تخلصت من ارتباطاتها القديمة، فهي مثالية أكثر تحررًا ومرونة من هذه المذاهب. ولم تكن مرتبطة لا بالمذهب الهيجلي كما عرضه القدامى المتمسكون بالأصل، ولا كما عرضه المحدثون والمدرسة المتحررة، ولا بأية مدرسة أو أي مذهب على الإطلاق. فقد كان لمثاليته هذه صدرٌ رحب، يستجيب لمؤثراتٍ متعددة متنوعة، ولكنها، على الرغم مما اكتسبته من هذه النزعة التلفيقية من عمق، قد فقدت الاتساق المتين والوحدة الراسخة التي اتصفت بها المذاهب الأخرى. وهكذا كان هذا المذهب من أوضح المذاهب تعبيرًا عن تزايد انفصال المثالية الإنجليزية عن مصدرها ووحيها الهيجلي الأول. فنقطة البداية الأساسية في تفكير وورد لم تكن قوةً فلسفيةً دافعةً أصيلةً ملزمة، وإنما كانت أبحاثًا علميةً متخصصة، وصراعًا دينيًّا باطنًا أحسَّ به، واعترف بوجوده منذ وقتٍ مبكر، وكان هذان العاملان: العلم التجريبي واللاهوت، خليقَين بإحداث تأثيرٍ حاسم في النظرة التي كوَّنها في سنواته المتأخرة عن العالم.

وبعد صراعٍ ذهنيٍّ حاد، انشقَّ وورد عن اللاهوت، واعتزل منصبه الديني في كنيسة «الرافضة Non Conformist»، وكرَّس حياته للعمل العلمي، واتخذت أولى دراساته الجديدة صورة بحثٍ علميٍّ متعمق في مجالَي علم الحياة وعلم النفس. وسرعان ما تركز اهتمامه الأساسي في هذا الأخير، وأصبح واحدًا من كبار علماء النفس الإنجليز، إلى أن تحول في وقتٍ متأخر نسبيًّا (في العَقْد الأخير من القرن الماضي)، إلى بحث مسائلَ فلسفيةٍ متخصصة. ولقد كان مستوى أعماله في علم النفس، التي يشيع الاعتراف اليوم بأنها كانت أعمالًا رائدة ذات أهميةٍ عظمى في التطور التالي لهذا العلم، أرفع كثيرًا من مستوى أعماله في الفلسفة؛ لذلك فمن واجبنا أن نُكرِّس للأولى حيزًا بسيطًا، وذلك على الأقل لما لها من أهميةٍ فلسفية ولتأثيرها الكبير في فلسفته الخاصة. هذه الأعمال متضمَّنة في مقاله المشهور في «دائرة المعارف البريطانية» سنة ١٨٨٦، وهو المقال الذي عُدِّلَ مرتَين فيما بعدُ، ثم اتخذ صورته النهائية في كتابه «مبادئ علم النفس» (١٩١٨) الذي أصبح في أهميته كتابًا كلاسيكيًّا.
ولقد كان علم النفس عنده — كما أشار هو ذاته — يدين بأكبر الفضل للألمان: هربارت ولوتسه وفنت وبرنتانو. وعلى الرغم من أن جذوره كانت متغلغلة في التراث القومي في نواحٍ كثيرة، فإنه قد بدأ السير في طريقٍ جديد إذ انصرف عن النزعة العقلية (intellectualism) في المدرسة الإنجليزية، وارتفع عن مستوى المذهب الترابطي القديم، وعلم نفس الملكات، فقد أكد وورد — متفقًا في ذلك مع لوك وخلفائه — أن علم النفس هو علم التجربة «الفردية»، على أساس أن لكل حادث ذهني مقره في الحياة الفردية، كما أكد أن التجربة التي يتعين على علماء النفس دراستها ليست تجربة المعرفة أو التلقي (reception) فحسب، وإنما هي تتحدد أساسًا باهتماماتٍ عملية تمارس عملها من خلال الشعور والإرادة، والمهمة الوحيدة للتجارب البشرية هي أن تخضع للإرادة وتخدم سلوكنا، والاعتراف بذلك هو مفتاح فهم علم النفس. غير أن التجربة، وإن تكن في أساسها نزوعية أكثر منها معرفية، لا يمكن أن تكون ذاتية تمامًا، فهي منذ البداية تنطوي على عاملَين: ذاتٍ حقيقيةٍ فعالة، ومقابل لها هو عالَمٌ حقيقي، بحيث يرتبط الاثنان ارتباطًا متبادلًا بوصفهما جزأَين متشابكَين متعاونَين في كلٍّ واحد، وبحيث لا يتميزان إلا بالفكر، لا في الواقع.
أما الوعي — الذي أطلق وورد على مكوناته وصفًا عامًّا هو «الماثلات presentations» فليس كثرة لا رابط بينها، بل إن له وحدة، ووحدته تتخذ صورة مجرًى متصلٍ موضوعي، أي كل موضوعي. ويتميز مجرى التجربة بالتنوع المتزايد لهذا المجرى المتصل عن طريق تغيرات في الماثلات المكوِّنة له، «فلدينا في أية لحظة مُعيَّنة كلٌّ مُعيَّن من التمثلات ومجال للوعي.» هو واحد ومتصل نفسيًّا، وفي اللحظة التالية لا يكون لدينا مجالٌ جديد تمامًا، وإنما تغيرٌ جزئي في داخل المجال القديم،١٠١ فكل تجربةٍ جديدة ليست عنصرًا زائدًا مضافًا، وإنما هي تعديل لكلٍّ موجود من قبلُ، تدخل عليه بعض التعقيد الجديد، أي إنه ليس ثمة ماثلات منفصلة. لذلك فإن الوعي ليس مجموعة من الوحدات المتميزة المستقلة، وإنما هو عمليةٌ متصلة يطرأ فيها تنوعٌ مستمر على مجال المثول أو الحضور. وعلى هذا النحو تجاوز وورد الرأي الميكانيكي للتجريبيين، وهو الرأي الذي لا يكون على عالم النفس فيه إلا أن يُحلِّل (كالمشرح أو الكيميائي)، محتوى التجربة إلى عناصره، ثم يختبر كلًّا منها على حدة. أما تلك التمييزات التي تصف فيها العملية بأنها تنوع واستيعاب واختزان فهي في رأي وورد تعبر عن طابع «المرونة» الذي يتصف به الاتصال المثولي.

كل هذا ينطوي على هدم لأسس النظريتَين اللتين كانتا شائعتَين عندئذٍ، أعني النظرية الترابطية ونظرية الملكات الذهنية، فالترابط ليس عمليةً سلبية شبه آلية تتداعى فيها محتويات الوعي وتدخل في علاقاتٍ جديدة بعضها مع البعض بطريقةٍ آلية، وإنما تتحكم فيه من البداية إلى النهاية ذاتٌ غرضية تنتقي وتختار هذه التجربة أو تلك نظرًا إلى ملاءمتها لغاياتها الخاصة. وقد أدى اهتمام وورد هذا بالانتقاء الغرضي إلى قوله بأن الانتباه هو الوظيفة الرئيسية للوعي، واتخاذه منه فكرةً رئيسية في علم النفس. ولقد ذهب وورد إلى حد بحث كل نشاط ذهني على حدة، ناظرًا إليه من خلال فكرة الانتباه، ووسع نطاق هذا اللفظ بحيث يشمل كل ما كان يندرج قبل ذلك تحت مفهوم الوعي. فالوعي هو دائمًا مقدارٌ أعظم أو أقل من الانتباه إلى ما هو جديد في الاتصال المثولي. وهو كما لاحظنا من قبلُ، ليس ذا طابعٍ معرفيٍّ بحت فحسب، وإنما هو إدراك وانتقاء مقصود للمعطيات اللازمة للنشاط الغرضي للذات. وهكذا يحل الانتباه محل الملكات القديمة، التي كانت متميزة ومنعزلة في معظم الأحيان، ويغدو هو الوظيفة الأساسية الواحدة التي تتحكم فيها، أما التمييز في داخل الانتباه فإنه تمييز في الدرجة، وكل أوجه نشاطه إنما تهدف إلى خدمة اهتمامات. فإذا ما عبَّرنا عن التصور النفساني الناتج عن هذا كله بصورةٍ عامة، كان تصورًا لذاتٍ إيجابيةٍ منتبهة، بوصفها الرابطة الضرورية التي تجمع بين مختلف أنواع التمثل.

لقد توسع وورد فيما بعدُ في نظرته هذه، إذ ربطها بميتافيزيقاه وعرَّف التجربة، التي سبق أن وصفها من خلال فكرة الاهتمام الانتقائي قبل كل شيء، بأنها عملية حفظ للذات، وبذلك تكون ممتدة بقدر امتداد الحياة ذاتها. فالنشاط المعرفي متشابك تشابكًا تامًّا مع جميع ظروف حياة الذات العارفة، ولا يمكن فهمه إلا في علاقاته بها، أما تصور الذات على أنها نظريةٌ خالصة، فما هو إلا تجريدٌ محض. ولقد قبل وورد رأي كانت في الوحدة التركيبية للإدراك الذاتي، غير أنه رأى أن المركب لا يكون ممكنًا دون اهتمامٍ عمليٍّ ما بالأشياء، ودون دافع إلى الفعل، فالتجربة وحدةٌ حيةٌ عينية تؤدي عملها بوصفها كلًّا، والجانب الأهم من جوانبها التي يمكن التمييز بينها هو الجانب العملي لا النظري، ونتيجة لهذا الرأي الأساسي، يمكن إدراج وورد ضمن الممهِّدين الأوائل ﻟ «فلسفة الحياة Lebensphilosophie» التي أصبحت شائعة فيما بعدُ. كما أنه مهد الطريق — بوجهٍ خاص — للحركة البرجماتية، وكان له تأثيرٌ باقٍ على بعض قادة هذه الحركة، مثل جيمس وشيلر، وهو تأثير لا يقلل من حقيقة كونه غير واضح في كل الأحوال؛ ذلك لأنه، عندما جاء الوقت الذي ظهرت فيه البرجماتية، قرب نهاية القرن الماضي، كانت أفكار وورد قد أصبحت مشاعًا بين الجميع، كذلك استبق وورد برجسون في نظريته في الزمان.
فقد ميز الزمان المجرد في الفيزياء، وهو زمان لا شدة ولا كثافة له، من الزمان كما نُجرِّبه، وأطلق على هذا الأخير — نظرًا إلى كونه كميةً كثافية — اسم «المدة». وعلى الرغم من أن وورد قد عرض هذه النظرية في مقاله الذي صدر عام ١٨٨٦، وأن برجسون لم ينشر نظريته إلا في ١٨٨٩ (في كتابه «المعطيات المباشرة للوعي Les donnéos immédiate de La conscience») فالأرجح أن الاثنين كانا مستقلَّين.
ولقد أحدثت أفكار وورد الجديدة انقلابًا في مجال علم النفس كان له تأثيره الهائل، فلم يعد من الممكن — منذ ذلك الحين — السير في طريق التجريبية المألوف، الذي كان «بين Bain» آخر ممثلٍ هامٍّ له، وأصبح لزامًا على عالم النفس، إذا ما شاء ألا تتهم آراؤه بأنها باليةٌ عتيقة، أن يتبع طريق وورد. وما زال علم النفس الإنجليزي حتى اليوم ملتزمًا، في جميع النقاط الأساسية، ذلك الطريق الذي حدد وورد معالمه، وأشهر تلاميذه هو ستوت G. F. Stout، وفي أمريكا ظهرت في الوقت ذاته حركة تسير في نفس الاتجاه، كان الفضل فيها يرجع إلى علم النفس الإرادي voluntaristic عند وليم جيمس، وينبغي أن يضاف إلى ذلك أن الانقلاب الذي أحدثه وورد لم يتخذ صورة انشقاقٍ حاسم عن المناهج التقليدية في البحث النفسي، وإنما اتخذ صورة تصحيحٍ هادئ لوجهة النظر العامة التي كان من الشائع النظر بها إلى ظواهر الحياة الذهنية وتركيبها، فمناهجه كانت قريبة الشبه من مناهج لوك وهيوم إلى حدٍّ بعيد، أي إنها كانت استبطانية. وهو لم يترك في كتاباته مكانًا لعلم النفس التجريبي أو الفسيولوجي أو المرضي، ولم يلجأ إلى المنهج المقارن إلا لمامًا وبحذر، وذلك بوصفه وسيلة لتوضيح النتائج لا لكشفها، فهو — مثل برنتانو١٠٢ — قد بدأ بالإدراك الباطن، ووصف المعطيات المباشرة للوعي الفردي.

ولقد استُمدَّ مذهب وورد في الفلسفة من مصادرَ متعددة؛ من ليبنتس وباركلي وكانْت ولوتسه (الذي تأثر به تأثرًا قويًّا خلال السنوات التي قضاها طالبًا في جوتنجن)، وكل الاتجاهات الفلسفية المعاصرة في وطنه.

وقد تناول في أول كتابٍ ميتافيزيقيٍّ رئيسي له: عالم الطبيعة، والمذهب الطبيعي واللاأدرية اللذين نشآ عن تأمل هذا العالم. وكان موضوع كتابه الثاني هو عالم الغايات، ومذهب الكثرة ومذهب الألوهية اللذان نشآ عن تأمل عالم الغايات هذا. ومن الواضح أن هذا التقابل مستمَد من الثنائية المماثلة التي وضعها كانْت، وأن تفكير وورد هو في عمومه أقرب إلى كانت بكثير منه إلى هيجل.

وهكذا كان وورد يسعى، في المحل الأول، إلى الوصول إلى فهمٍ فلسفي للعالم الذي يتمثل لنا في العلوم الطبيعية، فكانت النتيجة اختبارًا من أعمق وأشمل الاختبارات التي تعرض لها المذهب الطبيعي واللاأدرية في ذلك الوقت. ولقد تتبع وورد هذين المذهبَين في جميع اتجاهاتهما وتفرعاتهما الممكنة والفعلية، وتعقبهما في أشد مخابئهما خفاءً، وكشف عن المصدر المشترك للمذهب الآلي، والمذهب التطوري، ومذهب الموازاة بين المجال النفسي والمجال المادي، وأوضح أن مثل هذه النظريات ليست كافية بالنسبة إلى أية فلسفة تتجاوز جميع الأوجه الجزئية للكل. وهكذا صاح في خصومه قائلًا: «إن في السماء والأرض لأكثر مما حلمت به الفلسفة الطبيعية.»١٠٣ وهذه الصيحة تمثل، بمعنًى ما، النتيجة النهائية لنقده الذي كان شديد العمق والتأثير.
أما الرأي الآلي في العالم الذي يكون في رأي وورد أساس كل بحث علمي، فهو تجريدٌ واحد ضخم، وهو نتيجة لنظرةٍ متحيزة أساسًا إلى جانبٍ واحد، تنتقي من الواقع وجهًا جزئيًّا، وتنظمه وتتعقبه حتى آخر نتائجه. وهذا التركيز الضيق هو سبب روعة هذه النظرية ونجاحها، وهو أيضًا سبب زيفها الكامل من حيث هي نظرة إلى العالم فهي تعبر عن كل شيء من خلال الكم المقاس، وتعرض برموز رياضية. غير أن كل ما هو فرد عيني، وكل ما يضفي على الحياة مضمونًا ونبضًا ولونًا، ينزلق من خلال المسام الواسعة لشبكة التصورات المجردة هذه، فمن المحال أن تكون هذه «الحركة التي لا لون لها الذرات»، وهذا «النسيج الطيفي للتجريدات غير الملموسة»، وهذه «الرقصة التي ليست من هذا العالم، والتي تؤديها مقولات لا حياة فيها.»١٠٤ من المحال أن تكون هذه هي الواقع، وحتى لو كانت تنطوي على إشارةٍ خافتة إلى العالم العيني الذي جُرِّدَت منه، فلا يمكنها — عن طريق مضمونها وتركيبها الخاص — أن تجيب عن السؤال عن ماهية الطبيعة الحقيقية للعالم العيني، ففي ذلك الإطار التخطيطي الذي لا يتناول سوى نقاطٍ متجانسة للقوة لا ترتبط فيما بينها إلا آليًّا، يكون من العبث أن يبحث المرء عن دلالة وقيم وغايات، ومن المستحيل أن يجدها.

ومن الواضح أن وورد — في نقده القاسي هذا للمذهب الآلي — قد أخفق في الاحتفاظ بتمييز العلم الطبيعي بما هو كذلك، والنظرة الطبيعية إلى العالم، التي تقوم عليه عادةً، وبذلك «أفرغ الطفل مع تفريغه مياه الحمام.» بل وحمل على التفكير العملي بمعناه الدقيق على أساس أنه أدى بالفعل، في كثير من الأحيان، إلى نتائجَ فلسفيةٍ مشكوك في صحتها إلى حدٍّ بعيد، وهذا يبدو غريبًا، إذا أدركنا أن وورد نفسه قد بدأ حياته الأكاديمية عالمًا، واستخدم مناهج العلم بنجاحٍ كبير. غير أن لهذه الغرابة دلالتها الخاصة، فقد تعين عليه أن يتخذ موقفًا نقديًّا شديدًا من وجهة النظر والمناهج المميزة للعلم الطبيعي، حتى يتمكن من أن يُدخل في مجال الاهتمام الفلسفي ميدانًا آخر للمعرفة كانت الفلسفة الإنجليزية حتى ذلك الحين تتجاهله تجاهلًا غاشمًا، وأعني به التاريخ. ففي العلوم التاريخية، على عكس العلوم الطبيعية، نصادف كائناتٍ فردية عينية، ينطبق عليها ما نعنيه بالحقائق، من حيث إنها تضع لنفسها غايات، وتحقق قيمًا وتكون جزءًا لا يتجزأ من عينية الحياة وواقعيتها، ولقد كان وورد — مثل سورلي — مدينًا بهذا الرأي للأبحاث التي قام بها هينريش ريكرت في مناهج المعرفة، وهي الأبحاث التي لا يبدو أن أي فيلسوفٍ إنجليزيٍّ آخر قد أبدى بها أي اهتمام.

فلدينا إذن، داخل الوجود من حيث هو كل، تقابلٌ حاد بين عالمَين، فهناك من جهة الطبيعة، وعالم الحوادث الآلية، الذي يسوده الاطراد والضرورة التجريبية، وهو عالم من العموميات والتجريدات، ليس فيه مكان للأفراد العينيين أو للتلقائية والابتكار والقيم والغايات، ولدينا من جهةٍ أخرى عالم القيم والغايات، عالم التاريخ، والعيني والفردي، الذي لا يكون الفعل الأخلاقي ممكنًا إلا فيه، والذي تحل فيه الغرضية والحرية البشرية محل قيود العِلِّية الآلية. غير أن هذا التمييز القاطع ينبغي ألا يؤخذ على أنه يعني انفصالهما التام؛ إذ يتضح من وجهة نظر أعلى أنهما منظوران جزئيان إلى عالمٍ واحد، وينبغي بالتالي أن يجمعهما الفكر في وحدة، ومهمة الفلسفة هي كشف هذه الوحدة، وكذلك تحديد أي وجهيها هو الأعمق والأشمل.

وكما هو المتوقع، فإن وورد قد جعل العالم الطبيعي مشتقًّا من العالم الروحي. ومن الأدلة على ذلك أن الطبيعة، عندما نواجهها بجهاز العلم العقلي، تجيب عن الأسئلة التي نوجهها إليها، وفي ذلك تحقيق لصحة الوسائل التي اصطنعها الإنسان للسيطرة عليها. وإذن فهلا يكون لنا الحق أن نستدل من ذكاء الروح الباحثة على ذكاء الطبيعة، أو على الأقل: على وجود مبدأٍ ذكيٍّ كامن فيها؟ وفضلًا عن ذلك، فإن آخر أبحاث العلم قد أثبتت أن الحياة العضوية تمتد في العالم غير العضوي المزعوم أبعد مما اعتقدنا حتى الآن، وليس هناك ما يمنع من أن نكتشف للحياة حدودًا أدنى من ذلك. مثل هذه الاعتبارات أدت بوورد في النهاية إلى افتراض أن الطبيعة حية وفردانية في جميع أرجائها. ويسمى وورد مذهب شمول النفس هذا باسم «الواحدية الروحية spiritualistic Monism»، لكي يوضح بذلك تضادها المباشر مع الواحدية المادية عند اللاأدريين والتطوريين وغيرهم من أصحاب المذهب الطبيعي، فالطبيعة غائية في جميع أرجائها، وهي عالم من الغايات والطبيعة المطبوعة nature naturals هي في واقع الأمر الطبيعة الطابعة nature naturals.
غير أن الواحدية الروحية ليست إلا موقفًا عامًّا، وهي لا توضح شيئًا عن الطريقة التي تصنع بها الأشياء على وجه التخصيص، أو عن مصدر هذه الأشياء وغايتها، أو عن قيمتها والغايات التي تستهدفها، وما إلى ذلك. وعلينا لكي نجيب عن هذه الأسئلة، أن نبدأ من جديد، ونسير، ونحن نفعل ذلك بطريقة «تجريبية من الأساس radically empirical» (وقد استخدم وورد — مثل وليم جيمس — نفس هذا التعبير)، فإذا ما نظرنا إلى الواقع من وجهة النظر الجديدة هذه، ظهر لنا مباشرةً في كثرة من المراكز المجربة التي تتصل فيما بينها اتصالًا متبادلًا، ويطلق وورد على هذه الوحدات اسم الذرات الروحية monads، أو الكمالات entelechies،١٠٥ كما يطلق على أدنى ما يمكننا تصوره منها اسم الذرات الروحية أو البحتة، وأحيانًا يسميها ﺑ «أشباه النفوس psyeehoids».

وتنشأ هذه الأخيرة من أصلٍ مشترك بين جميع الذرات الروحية (ربما كان اتصالًا لا تنوُّع فيه) يكوِّن البيئة التي تعيش فيها هذه الذرات، إن جاز هذا التعبير. ومن الواجب النظر إلى جميع الذرات الروحية على أنها أفراد؛ إذ ليس فيها واحدة تشبه الأخرى، ومع ذلك فهي لا تكون منعزلة أبدًا، وإنما تمارس دائمًا — بعضها على البعض — أفعالًا وردود أفعال، وتشكل نفسها في صورة جماعاتٍ اجتماعية، ولا سيما في المستويات العليا للذات الروحية، ومن الواجب النظر إليها أيضًا على أنها تسعى أساسًا نحو غايات، بحيث إن غايتها العليا أو قانونها الأعلى هو حفظ الذات.

ولسنا بحاجة إلى تتبع مذهب الذرات الروحية هذا أبعد من ذلك؛ ما دام يتفق مع مذهب ليبنتس في جميع النواحي الهامة فيما عدا أنه يجعل للذرات الروحية نوافذ ويترك جانبًا فكرة الانسجام المقدر pre established harmony، وكثيرًا ما وصف وورد مذهبه هذا بأنه مذهب كثرة pluralism، وهو بالفعل يلتقي مع فلسفة الكثرة عند جيمس في نقاط تزيد على نقاط التقائه مع أي مذهبٍ حديث. ويكوِّن هذا المذهب ما يمكن تسميته بالطابق الأسفل في بنائه الميتافيزيقي، فليس في وسعنا أن نبقى هنا مع هذه الكثرة، فالكثرة — بقدر ما يمكن المضي فيها — هي موقفٌ متسق تمامًا مع ذاته، كفيل بإرضاء حاجاتنا العقلية وقتًا ما، غير أنه موقفٌ ناقص، يحيلنا إلى موقف أعلى يتجاوزه، سواء في حدوده الدنيا أو في حدوده العليا، فلا يمكن أن توجد كثرة من الموجودات المتناهية ما لم توجد وحدة تكمن من ورائها وتشتمل عليها. صحيح أننا لا نستطيع التحقق من هذه الوحدة علميًّا، فهي تسير بنا إلى ما بعد عالم الوقائع، ولهذا السبب ينكر التجريبي الأصيل حقيقتها، غير أن هذا لا يدل إلا على أنه لم يرتفع بعدُ إلى مستوى وجهة النظر الفلسفية الحقة، فليس للفلسفة بمعناها الصحيح تعامل مباشر مع الوقائع، وحسبها أن تتجنب مناقضة التجربة. صحيح أن الكل الذي تحاول الفلسفة فهمه يشمل الوقائع، غير أن أية نظرية تكتشف وحدة الكثرة بأكملها، وتكشف عن معناها العام، لها ما يبررها فلسفيًّا، حتى لو لم يمكن تحقيقها تجريبيًّا.

والموقف المكمِّل لمذهب الكثرة هو مذهب الألوهية، وقد بلغ وورد هذه النقطة المتوِّجة لمذهبه بقفزةٍ تأمليةٍ جريئة من الذرات الروحية المتناهية الكثيرة نسبيًّا، إلى وحدةٍ لا متناهيةٍ مطلقة، فوجود الكثرة يرتكز على الألوهية ويستهدفها، أي إن الله مصدر الكثرة وتتويج له.

وهنا يكون موضع معالجة وحل المسائل الميتافيزيقية النهائية كفكرة التطور ومشكلة الحرية والخلود وطبيعة الله، وأهم من هذا كله: مشكلة علاقة الموجودات المتناهية بالمطلق. ولسنا نستطيع أن نقدم إلا لمحاتٍ عامة من أبحاث وورد المفصلة في هذه المسائل، فالله روح لها عقل وإرادة، ومن ثم فهو شخصي، وهو خالق العالم وحافظه ومدبره. غير أنه في خلقه للعالم قد فرض حدًّا على ذاته، ولكن هذا لا يعني بطبيعة الحال أنه جعل لنفسه ماهية متناهية، فهو — بوصفه خالقًا — يعلو على العالم، ولكن ليس بالمعنى الذي يقصده أصحاب مذهب الألوهية الطبيعية (deists) والقائل إنه يظل خارجًا عن العالم، فلا يمكن فهم الخلق إلا على أنه الحضور الدائم للمبدأ الخلاق في الخلق، بحيث يكون الله في نفس الوقت باطنًا، يحرك العالم من داخله. ولم يستطع وورد أن يجد بين العلو والكمون رابطةً تصورية، غير أنه تمسك بالفكرتَين معًا؛ لأن عمق شعوره الديني حال بينه وبين القول بمذهب «شمول الألوهية pantheism» في صورته الخالصة من جهة، كما حال بينه، من جهة أخرى، وبين القول بمذهب الألوهية الطبيعية deism، وهو المذهب الذي يرى أن الله ينسحب من العالم عندما يخلقه، ويأخذ ما يمكن تسميته «بإجازة» بعد ما بذله من مجهود. ولقد أدى به موقف التوسط هذا إلى أن ينسب القدرة الخالقة إلى الإنسان بدوره، فالله حين جعل الناس أحرارًا، قد خصَّهم بأن يكونوا شركاءه في العمل على تحقيق غاياته. ولما كان الإنسان شريكًا لله في هذه المهمة على قدم المساواة، فإنه يضطلع بمسئولةٍ كاملة عن أعماله، وهو في الوقت ذاته قادر على ارتكاب الشر، فالشر الأخلاقي هو العقدة الكبرى في أي مذهبٍ ألوهي. ولكن لما كان الله كامنًا في العالم، فلا بد أن تكون للخير الغلبة آخر الأمر على الشر، فالشر هو تعكير صفو النظام الأخلاقي، وهو ليس مبدأً إيجابيًّا، له طبيعته وحقيقته الخاصة به، إلى جانب الخير، بل إنه نسبي بالقياس إلى الخير فحسب، ومن هنا فإنه سينهزم بالتدريج أمام الخير ويتلاشى فيه. «ففي الأشياء الشريرة نوع من الروح الخيرة.»١٠٦

وهكذا فإن الكون عند وورد يختلف عنه عند برادلي وبوزانكيت في أنه ليس كونًا سكونيًّا، وإنما هو يصعد من مرحلة إلى أخرى حتى أعلى ذرةٍ روحية وهي الله. ولقد اجتذبته — مثل معظم معاصريه — فكرة التطور، وأدمجها في مذهبه إدماجًا وثيقًا. غير أن المعنى الذي تكتسبه هذه الفكرة في مذهبٍ ألوهي يختلف تمامًا عن معناها في مذهبٍ طبيعي أو مذهب للكثرة؛ إذ لا يعود معناها هو التكشف التدريجي لما كان موجودًا منذ البداية، وإنما هي تعني النشوء الجديد، والتركيب الخلاق، والظهور المستمر لإمكانياتٍ جديدة، وهي تدل على وجود انسجام عند نقطة البداية فضلًا عن نقطة الهدف، وليس فقط عند نهاية عملية تسير قدمًا، وقد لا تكون لها نهاية على الإطلاق.

فإذا ما عدنا بنظرتنا إلى مذهب وورد في مجموعه أمكنا أن نرى المثالية فيه وقد اتخذت صورةً جديدة، استُوعبت فيها — على نحوٍ يفوق بكثير ما سبق أن عرضناه من المذاهب — كثرةٌ زاخرةٌ متنوعة من الأفكار، بعضها لا تربطه صلةٌ وثيقة بوجهة النظر المثالية. صحيح أنه ظل يحتفظ بالنزوع إلى التأمل فيما وراء حدود التجربة، ويسعى إلى بلوغ وحدةٍ نهائية، غير أننا لا نشعر لديه بأن المركب منبثق عن اتساقٍ فكريٍّ أصيل، فالعناصر أكثر عددًا وأشد تنوعًا من أن تُكوِّن وحدة حقيقية، وكثيرًا ما تظل منضمة بعضها إلى بعض على نحوٍ خارجي فحسب. غير أن هذا ليس إلا دليلًا آخر على قوة الدافع التأملي الذي أحدثه ميتافيزيقي لدى شخص كانت مواهبه أقرب إلى مجال متابعة الأبحاث العلمية واختبار المشكلات الفلسفية في طابعها الجزئي.

أفضل ما يوصف به وب هو أنه ممثل فلسفة الدين داخل المذهب المثالي المطلق، فهو ينتمي، بحكم ارتباطه الطويل بجامعة أكسفورد خلال سنوات دراسته وتدريسه، إلى تراث أكسفورد الذي يرجع إلى جرين. وقد أبدى، منذ كان طالبًا، ميلًا إلى المشكلات الأخلاقية والدينية، كما أنه اعترف بالتأثير القوي الذي أحدثه فيه كتاب جرين «المقدمة Prolegomena»، والتأثير الطاغي لكتاب كانت «أساس ميتافيزيقا الأخلاق». ولقد كان تفكيره، على وجه العموم، أقرب إلى كانْت وفشته منه إلى هيجل، وهو يذكر باحترامٍ بالغ، ضمن أساتذته في أكسفورد، اسم ج. كوك ولسون، وإن يكن من المستبعد جدًّا أن يكون مثل هذا المصدر الواقعي قد أحدث فيه أي تأثيرٍ ملموس. وهو يدين بأكثر من ذلك بكثير لصداقته الشخصية مع الفيلسوف الكاثوليكي «فريدرش فون هوجل»، كما تأثر فيما بعدُ بكتاب رودلف أوتو Rudolf Otto «المقدس Das Heilige»١٠٨ وهو الكتاب الذي أثار اهتمامًا كبيرًا في الأوساط اللاهوتية الإنجليزية.
وهكذا فإن وب قد تناول مشكلة المثالية المطلقة من جانب الدين أساسًا، وكان هدفه الخاص هو تعديل ميتافيزيقا برادلي وبوزانكيت من وجهة نظر التجربة الدينية واللاهوت المسيحي.١٠٩ فقد أدت بهذين المفكرَين الأخيرَين تأملاتهما النظرية البحتة، التي كانت غير مكترثة بالدين، إلى وصف للعلاقة بين المطلق والله لم يكن بالطبع مما يقبله مفكر يتخذ من الدين موقفًا إيجابيًّا وثيقًا؛ فالمطلق في نظره ليس موضعًا للتأمل الميتافيزيقي فحسب، بل هو أيضًا موضوع للتقديس الديني. وهو يذهب إلى أن فصل برادلي وبوزانكيت بين المطلق والله، إذا ما مضينا فيه إلى أبعد نتائجه المنطقية، يؤدي إلى سلب الدين على إطلاقه أي معنَّى له، ولا بد من أجل التجربة الدينية من أن يكون كلاهما في هوية مع الآخر.

وهناك مشكلةٌ ثانية كرس لها وب اهتمامًا كبيرًا، هي مشكلة شخصية الله وعلاقتها بشخصية الإنسان المتناهية، وهو هنا يبين أيضًا أن الوعي الديني هو وحده الذي يكشف الطابع الشخصي النهائي للحقيقة؛ إذ إن الإنسان في علاقةٍ شخصية مع المطلق إلا في التجربة الدينية؛ لذلك ينبغي أن تُنْسَب الشخصية إلى الله، ولكن بمعنًى يختلف إلى حدٍّ ما عن معنى شخصية الإنسان؛ إذ إن علاقة الإنسان بالإنسان في التجربة الاجتماعية هي علاقة استبعادٍ متبادل، بينما علاقة الإنسان بالله في التجربة الدينية هي علاقة تضمن متبادل. فلزام علينا — من وجهة النظر الدينية — أن نقول إننا نستقر في الله وإن الله يستقر فينا، وإن الله كامن — على نحو لا نعرفه — في المؤمن، ولكن دون أي تهديد للشخصية المستقلة للكائن المتناهي؛ ذلك لأن وب يدافع عن استقلال الشخصية الإنسانية ضد إنكار حقيقتها وقيمتها في المذهب الطبيعي والمذهب المطلق. ومن هنا فإنه لا ينظر إلى التجربة الدينية على أنها صوفية، وعلى أنها هي فناء النفس المتناهية في اللامتناهي، بل على أنها علاقة يظل الاثنان فيها متميزَين، ويستتبع ذلك أن يكون الله، مع كل كمونه في العالم، عاليًا عليه في الوقت ذاته. وهو يحاول أن يربط ويوفق بين الرأيَين المتضادَين في كمون الله وعلوه، عن طريق إدخال فكرةٍ لاهوتية هي فكرة الوسيط والثالوث. وبذلك استخدم هاتين الفكرتَين استخدامًا فلسفيًّا، وربما كانت هذه المتقابلات المتنافرة وأمثالها في مذهب وب راجعة إلى افتقارٍ باطن إلى التناظر أو الاتفاق بين المذهب المطلق والنتائج الميتافيزيقية التي يستتبعها الدين المسيحي.

ولقد أبدى وب اهتمامًا خاصًّا بمشكلة معرفتنا للذوات الأخرى ولعالم الأشياء الخارجية، وهو يرفض الحجة القائمة على التمثيل argument from analogy،١١٠ فلدينا بالذوات الأخرى إدراكٌ مباشر تمامًا، مثل إدراكنا لله، فلا يمكن أن تكون معرفتنا بالذوات الأخرى مستمدة من ذواتنا، أو من الأشياء الخارجية، أو من العلاقة بين الاثنين، وإنما هي كامنة، على نحوٍ ما، من وراء كل هذه الأنواع من التجربة، فالذات الأخرى لا يمكن أن تكون بالنسبة إلينا مجرد موضوع ضمن الموضوعات الأخرى، وإنما هي تدرك دائمًا بوصفها شخصًا واعيًا بذاته، نستطيع أن ندخل معه، لأن لنا شخصية، في علاقاتٍ شخصيةٍ مباشرةً.

وهكذا فإن الشخصية هي الفكرة الرئيسية المسيطرة على تفكير وب، ولا سيما بالصورة المنهجية التي أعطاها لتفكيره هذا في كتابه الرئيسي، وهو مجموعتا محاضرات «جيفورد» اللتان نُشِرَتا بعنوان «الله والشخصية»، و«الشخصية الإلهية والحياة البشرية». وهو في ثاني هاتين المجموعتَين يناقش التعبير عن الشخصية البشرية في مختلف مجالات نشاطها، مبينًا نواحي التميز والاختلاف في المجال الاقتصادي والعلمي والفني والأخلاقي والسياسي والديني. وهو يتخذ على وجه العموم موقفًا وسطًا بين راشدال، الداعية المتعصب إلى الشخصية الفردية من جهة، وبين برادلي وبوزانكيت، اللذين أذابا الشخصية وأفنياها في ظلام المطلق، من جهة أخرى. ولكنه لا يرتفع إلى مستوى الأصالة العظيمة في التفكير، التي تثير فينا الإعجاب ببرادلي، وكذلك ببوزانكيت ولكن بدرجة أقل؛ ففلسفته لم تظهر بفضل قوةٍ باطنة تدفعه إلى وضع مذهب، بقدر ما ظهرت عن طريق عرض آراء المفكرين الآخرين ونقدها. وربما اتضح آخر الأمر أن أكبر خدمة أداها هي أنه خفف من حدة مبالغاتٍ خطيرة معيَّنة في المذهب المطلق الذي كان بطبيعته ميالًا إليه.

تلقَّى تيلور تعليمه الفلسفي في الوقت الذي كانت فيه أكسفورد في قبضة الحركة الهيجلية، وكان أقوى الشخصيات تأثيرًا فيه هو برادلي؛ فقد كان، بحكم عمله زميلًا في نفس الكلية التي كان يعمل بها برادلي، واحدًا من الأشخاص القليلين جدًّا الذين أسعدهم الحظ بالاتصال شخصيًّا بذلك الناسك في محرابه، وتمكن بفضل اتصالاتٍ يومية تقريبًا، من مشاركة برادلي آراءه في الوقت الذي كان فيه برادلي يناضل في سبيل صياغة ميتافيزيقاه. وهكذا انطبع تأثير آراء المفكر الأكبر سنًّا بعمق على مؤلفاته الأولى، ولقد اعترف هو ذاته، بعد ذلك بوقتٍ طويل، عندما كان قد ابتعد كثيرًا عن موقفه الأول؛ اعترف بامتنان بأن تأثير برادلي «الذي مارسه على أنحاء شتى، ينبغي أن يُعدَّ أقوى وأنفع تأثير تعرض له تفكيري الخاص.»١١٢

وعلى الرغم من ذلك فمن المستحيل القول بأنه كان يتبع بإخلاص تعاليم برادلي أو أي معلمٍ آخر في الفترة المتأخرة، فتيلور لم يكن فقط مفكرًا مستقلًّا، وربما هوائيًّا إلى حدٍّ ما، بل إن ذهنه مرن لا يستقر على حال. ولقد أدت سعة اطلاعه إلى جعله يقيض بالعلم في أشد الميادين تباينًا، وكانت له قدرةٌ مدهشة على استيعاب مجالاتٍ غريبة للمعرفة والأفكار. وتشهد المجموعة الكبيرة من مؤلفاته في تاريخ الفلسفة بالاتساع الهائل في نطاق معرفته التاريخية، واستعداده العلمي العظيم. ولقد كان واحدًا من أبرز الثقات في فلسفة القدماء، ولا سيما سقراط وأفلاطون (فلكتابه الضخم عن أفلاطون، وشرحه الذي يقع في سبعمائة صفحة لمحاورة «طيماوس»، مكانةٌ فريدة وسط ذلك السيل المتدفق من المؤلفات التي تتناول أفلاطون، وذلك بفضل ما اشتملا عليه من معلوماتٍ زاخرة، ودقة في التفسير، وعمق في الفهم الفلسفي). وكان يتمتع بنفس القدر تقريبًا من سعة الاطلاع في التفكير الدنيوي والديني في العصور الوسطى، وفي الكتابات الحديثة والمعاصرة في الأدب واللاهوت معًا.

ولكن الذي يهمنا، في هذا المقام، هو تيلور الفيلسوف، لا المؤرخ والشارح والمترجم، ولقد كان السبب الوحيد لإشارتنا إلى هذه الناحية في عمله هو أنها قد أثرت في تفكيره الفلسفي على أنحاءٍ شتى، فكل ما قدمه إلينا من أفكارٍ خاصة به، يحمل دائمًا آثار علمه المتشعب الأطراف، فمن الواضح في كل نقطة أن هذا المفكر قد طرق أبوابًا متعددة واستكشف ديارًا كثيرة، وانتفع من المعلومات الوفيرة التي توصل إليها على نحوٍ حيٍّ مثمر، بدلًا من أن يكتفي بجرها وراءه وكأنها حمل لا حياة فيه. وعلى ذلك فإن مهمة تتبع مضمون تفكيره إلى مصادره هي جهدٌ عقيم؛ إذ سيكون علينا عندئذٍ أن نبدأ باليونانيين ولا ننتهي إلا بآخر بدعة قال بها معاصروه. غير أن من الواجب أن نلاحظ أن المعرفة التاريخية الشاملة التي جمعها تيلور في ذهنه المتفتح على الدوام، على الرغم مما كان لها من فائدة في موقفه الخاص من المشكلات الفلسفية، كانت حملًا ثقيلًا وعقبة في وجه النمو الطبيعي لتفكيره، فانحرفت به في أكثر من مناسبة، من طريق إلى آخر، وأفقدته الاتصال ووحدة الهدف، وهي السبب في تلك التغيرات، الرئيسية منها والفرعية، التي تتصف بها رحلته الفلسفية، والتي لا يبدو أنها بلغت نهايتها إلا أخيرًا، ما لم يكن يخبئ لنا مفاجأةً جديدة، وإنه ليذكرنا — في تعطشه إلى المعرفة وقدرته على استيعابها — بمعاصره الألماني المتقلِّب المتشعِّب، شيلر Scheler.١١٣

وأهم الكتابات الفلسفية التي ألَّفها تيلور كتابان: ينتمي أحدهما إلى بداية عهد نشاطه التأليفي والآخر إلى نهايته، وكلاهما يبحث في الأخلاق. ومن الكتب الأخرى التي ألَّفها بين هذا وذاك كتاب شامل في الميتافيزيقا، ينتمي إلى الفترة المبكرة، وبضعة أبحاثٍ هامة إلى حدٍّ ما، كان معظمها مساهمات في حلقاتٍ دراسية أو في كتبٍ مشتركة، وتتناول هذه الأبحاث مشكلات في الأخلاق والميتافيزيقا وفلسفة الدين، وتعبر عن موقفه في الفترة الأخيرة؛ إذ أنها أُلِّفت خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة على وجه التقريب. وسنبدأ أولًا ببحث مذهبه الأخلاقي؛ لأنه أولًا مركز الثقل في فلسفته، ولأن بحثه له في فترتَين يفصل بينهما زمانٌ طويل، يتيح لنا فرصةً رائعة لإظهار سمة التغير التي اتصف بها تطوره الفلسفي.

ويعد كتابه الأول «مشكلة السلوك»، الذي كان له عنوانٌ فرعي له دلالته، هو «دراسة في فينومينولوجيا الأخلاق»؛ يُعَد هذا الكتاب — في نواح متعددة — أفضل عمل فلسفي له، وكان هو الذي أذاع شهرته عن حق. وهو في هذا الكتاب المبكر ذاته يتجلَّى بوصفه مفكرًا شجاعًا مستقلًّا لا يحجم عن استخلاص النتائج الجريئة أو الممتنعة. صحيح أنه اقتبس بعض أفكار برادلي ومضى بها — عن طريق التحليل الدقيق والديالكتيك البارع — إلى أبعد نتائجها، غير أنه تأثر بالجانب الشكاك في برادلي، على نحو ما يتبدَّى في كتابه «المظهر والواقع» (ولا سيما الفصل ٢٥ في «الخير»)، أكثر مما تأثر بالمرحلة المثالية البناءة التي يمثلها كتاب «دراسات أخلاقية». وهكذا فسرعان ما وجد نفسه يقف موقف المعارضة الشديد للمدرسة الهيجلية، ولا سيما لجرين بوصفه المتحدث الرئيسي باسمها في ميدان الأخلاق، ويظهر التعارض أقوى ما يكون في فصله للأخلاق عن المذهب الفلسفي بوجهٍ عام، وفي معالجته لها من وجهة نظر تجريبية محضة، فهجومه الأساسي موجَّه إلى الربط بين الأخلاق والميتافيزيقا كما يتمثل أصدق تمثيل في كتاب جرين «المقدمة»: «إن الأخلاق مستقلة، في مبادئها ومناهجها، عن النظر الميتافيزيقي، بقدر ما يستقلُّ عنه أي علم من العلوم المسماة «بالطبيعة»، فمن الواجب التماس أساسها الحقيقي، لا في نظرياتٍ فلسفية حول طبيعة المطلق أو التركيب النهائي للكون، وإنما في الوقائع التجريبية للحياة البشرية كما تتكشف لنا في تجربتنا اليومية العينية.»١١٤ أي إن الأخلاق علمٌ وضعي وتجريبيٌّ محض، وليست علمًا تأمليًّا نظريًّا، وهي مرتبطة ارتباطًا ضروريًّا وثيقًا بعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وما شابه ذلك من العلوم، ومهمتها هي وصف الظواهر الأخلاقية كما نجدها في الماضي والحاضر، وبوصفها وقائع للتجربة موضوعة في سياق عيني من المواقف والظروف.

وهكذا كان الجزء الأول من كتاب تيلور تحليلًا نفسانيًّا للشعور الأخلاقي بوصفه منبع السلوك وأساس الحكم الأخلاقي، وهو هنا ينضم صراحةً إلى صف النظرية الإنجليزية في الشعور الأخلاقي كما ظهرت في القرن الثامن عشر (على يد شافنسبري وهتشسون وهيوم وآدم سمث)، ويرمي، بإبقائه الأخلاق على مستوًى ثابت هو مستوى الحقيقة اليومية، إلى تشييد حصن يحمي الأخلاق من التركيبات والتجريدات اللاواقعية التي يبينها الأخلاقيون المنتمون إلى المدرسة الهيجلية. وهكذا رأى أن كل محاولة لبناء الأخلاق على الميتافيزيقا تنطوي على خطر تفريغ الحياة الأخلاقية من واقعها العيني، وإثقال دراستها منذ البداية بتركيبٍ نظريٍّ بحت لا يمكن أن يكون فيه مكان لجميع الظواهر المتصلة بالموضوع. مثال ذلك أن الأخلاق لا شأن لها بالذات الأزلية اللازمانية التي قال بها جرين، وإنما هي تُعنى فقط بالذات التجريبية التي تتجسد في لحم ودم، وبالظروف المادية والفسيولوجية والنفسية التي تتحكم فيها. ولعلم الأخلاق مهمةٌ أخرى، إلى جانب التحليل الوصفي للظواهر الأخلاقية، هي تعقُّب الظواهر إلى بداياتها البسيطة، والبحث في أصل الأفكار الأخلاقية وتطورها، وهو ما أصبح يُعْرَف في ألمانيا، منذ أيام نيتشه، بأصل نسب الأخلاق. وفي هذا الميدان أسفرت تحليلات تيلور العميقة المفيدة عن نتائجَ رائعة، فمناقشاته لأصل ودلالة تصورات كالإلزام والضمير والمسئولية والخير والشر والشخصية الأخلاقية، لها قيمةٌ دائمة، ولا ينقص من قدرها على الإطلاق عدم كفاية الأسس النظرية لهذا البحث في مجموعه. ومع ذلك فعلى الرغم من قيمة أفكاره واستنتاجاته — مأخوذة على حدة — فإن عودته إلى المذهب التجريبي في القرن الثامن عشر كانت خطأً كبيرًا، وخاصة بالنسبة إلى مفكر تربى في مدرسة جرين وبرادلي وذاق ثمار كانت وهيجل. وعلى الرغم من كل ما كان يدين به لبرادلي، فإنه أدار ظهره عمدًا لكتابه «دراسات أخلاقية»، الذي عُرضت فيه الآراء الأخلاقية للمثاليين الألمان لأول مرة، وبفهمٍ عميق، في إنجلترا. وهكذا فإن عودة تيلور الانتكاسية إلى المذهب النفسي والنسبي، وكذلك إلى مذهب اللذة كما سنرى فيما بعدُ، كانت تخلفًا عن العصر الذي عاش فيه، لا يكفي لتبريره الاستدلال الدقيق الكامن من ورائه ولا الأفكار القيمة الكثيرة التي ظهرت مقترنة به (ولكنها لم تظهر منه).

ونظرًا إلى رفض تيلور لكل مبدأٍ عقلي، وقصره الأخلاق على وقائع التجربة، فقد أخذت أبحاثه تدفعه، على نحوٍ متزايد، إلى السير في طريق شكاك، وإلى الوقوع في صعوباتٍ ديالكتيكية، ويتجلى تأثير برادلي بوضوح لأول مرة في نقله للديالكتيك التحليلي الذي اتسم به الجزء الأول من «المظهر والواقع»، بطريقةٍ بارعة إلى أبعد حد، إلى مجال الأخلاق.

وكان من المحتم أن يؤدي الحط من عالم التجربة إلى منزلة المظهر البحت، إلى نتائجَ هدامة بالنسبة إلى مذهبٍ أخلاقيٍّ تجريبيٍّ محض، وبالفعل نجد أن نظرية تيلور التجريبية في الأخلاق، شأنها شأن نظرية هيوم التجريبية في المعرفة، تنتهي إلى مذهب في الشك؛ ذلك لأنه ينتهي إلى أن ميولنا الأخلاقية، بمجرد أن تتحرر من الشعور الأخلاقي البدائي الذي هو أساسها المشترك، تتطور في اتجاهاتٍ متباينة، بل إنها تبلغ من التباين، في نظره، في تلك الثنائية القائمة في كل الأحوال بين الأنانية والغيرية.

فكلا هذين الموقفَين قد اكتسب موافقةً أخلاقية وادعى لنفسه قيمةً مطلقة. وهكذا تواجهنا على الدوام فكرتان متقابلتان إلى الأبد، إحداهما فكرة تنمية الذات، والأخرى فكرة خدمة المجتمع، وتعجز النظرية الأخلاقية تمامًا عن البت في أيهما الأفضل، فمن المحال على نحوٍ قاطع إيجاد مركبٍ نهائي يجمع بين تحقيق الذات وبين التضحية بالذات.

والنتيجة التي ينتهي إليها هذا الاستدلال الذي ينطوي على دورٍ منطقيٍّ واضح، هي أن الأخلاق ليست نسقًا من الاستنباطات العقلية من مبدأٍ ميتافيزيقيٍّ واحد، وإنما هي مجموعة من التعميمات التجريبية التي لا يمكن جمعها تحت نسقٍ مترابط من الفروض، ومن هنا فإن الأخلاق، شأنها شأن الفيزياء وكل العلوم الخاصة الأخرى، لها طابعٌ مؤقت فحسب، ولا يمكن أن ترتفع إلى مستوى القول بمعاييرَ باقية لمبادئَ ذات صحةٍ شاملة، فهي في أساسها لا عقلية. وما نسميه بالمثل الأخلاقي الأعلى هو في واقع الأمر موقفٌ وسط بين استقطاب الميول الأنانية والغيرية، وهو الاستقطاب الذي يتمثل في المجال الأخلاقي بأسره. أما فكرة التقدم الأخلاقي فهي وهْمٌ باطل؛ إذ لا يوجد اتجاهٌ واحدٌ محدد للحركة، وكل تقدمٍ ظاهري يقابله تأخر.

وإذن فليس من المستغرب أن نرى تيلور يسير خطوةً هامة في اتجاه ما يسمى بمذهب اللذة الأخلاقي، وذلك مع رفضه مذهب اللذة النفسي، كما فعل جرين وبرادلي وسدجويك وغيرهم. وكان يعني بمذهب اللذة الأخلاقي ذلك المذهب القائل إن اللذة طابعٌ أساسي لما له قيمةٌ أخلاقية، وإننا نستطيع — بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية — أن ننظر إلى وجود اللذة على أنه علامة إعلاء طاقات الحياة، فإن اللاذَّ يكون خيرًا بقدر ما يؤدي هذه الوظيفة، غير أن مثل هذه الأفكار — التي تُخضِع الأخلاق للمقولات البيولوجية — ليست لها إلا حقيقةٌ نسبية.

على أن الأرجوحة الديالكتيكية عند تيلور تنتقل بعد ذلك إلى الجانب الآخر، لكي ننصف الفكرة المضادة، وهي فكرة الواجب، صحيح أن أية أخلاقٍ تجريبية تستبعد الأمر المطلق، بالمعنى الذي قال به كانْت، ما دام هذا الأخير يرتبط بفلسفة ترتكز على مبادئَ أوليةٍ مطلقة، ومع ذلك فهناك أوامر، غير أنها دائمًا موجهة إلى أشخاصٍ فرديين في مواقفَ خاصة، وعلى الرغم من أنها يمكن أن تغدو ملزمة أو إجبارية بالنسبة إلى جماعاتٍ معينة من الأفراد والطوائف، فلا يمكن أن تكون لأيٍّ منها صحةٌ أوليةٌ شاملة؛ ذلك لأن المقدمة التي ترتكز عليها الأخلاق هي أن كل ما هو واقعي قابل للرد في آخر الأمر إلى واقعة للتجربة العينية.

ويؤكد تيلور صراحةً اتفاق هذا المبدأ مع المبدأ الأساسي في نظرية المعرفة عند هيوم، وينبغي أن يقال إن تيلور قد عمل في مجال الأخلاق ما عمله هيوم في مجال المعرفة، إذ وجه كل جهوده إلى تطبيق مذهبٍ تجريبي في الشك، أو مذهب شكاك تجريبي، مماثل لمذهب هيوم، على هذا الميدان، ويمكن أن يقال إنه تجاوز هيوم نفسه في هذا الميدان؛ إذ إن هذا الأخير، مع بنائه الأخلاق على أساسٍ تجريبي، قد منعه حسه السليم من بعث الانحلال فيها عن طريق الشك. ومما يزيد الأمر غرابةً أن تيلور رأى — في كتابٍ متعلق بنظرية المعرفة والميتافيزيقا نشره بعد ذلك بسنتَين فقط، هو «أركان الميتافيزيقا» — أن يبتعد تمامًا عن هيوم، ويستبدل بالحجج الشكاكة صيغ المذهب المطلق.

وهكذا فإن المرحلة الأولى في مذهب تيلور الأخلاقي تنتهي إلى نزعةٍ نفسية ونسبية وشكاكة، فليس فيها نتائجُ إيجابية.

غير أن هذا الوصف وحده غير كافٍ؛ إذ إن دلالة هذه المرحلة السلبية هي أن الفكر الأخلاقي قد أُلْقِيَ به في دوامةٍ ديالكتيكية يضطر فيها إلى الابتعاد عن جميع الارتباطات التوكيدية لكي يعود إلى الحياة العينية ذاتها، ويعترف بتنوعها ومرونتها وتنافرها. والواقع أن تيلور قد فاق جميع المفكرين الآخرين في إظهار المرونة الكامنة في الحياة الأخلاقية، والنقائض والممتنعات التي تنشأ عن دراستها، ففي بوتقة تيلور الديالكتيكية يذوب كل شيء. ولقد كان فكره أكثر مرونةً وليونةً من أن يستقر على موقفٍ واحد، وإنما هو ينتقل بلا انقطاع إزاء الكثرة الزاخرة من المظاهر المرتبطة بموضوعه من قضية إلى نقيضها دون أن يرضى بأيهما. وإذن فنزعة الشك التي تنساب في جميع أرجاء هذا الكتاب المبكر النابض بالحياة، الذي وضع بعد تفكيرٍ عميق، ليست شكًّا هدامًا فحسب، وإنما هي زاخرة بالأفكار القيمة التي لا تنتظر إلا عملية التشكيل.

فإذا كانت الحياة الأخلاقية حلًّا وسطًا ووهمًا باطلًا، وإذا كان جزء من ماهيتها يتألف من قدر مُعيَّن من الخداع أو النفاق (Cant) — والكلمة ترجع إلى تيلور ذاته — فإن لنا أن نتساءل عما إذا كان يجوز لنا أن نعدَّها صورةً نهائية للتجربة البشرية. ويحاول تيلور أن يجيب عن هذا السؤال الأخير في الفصل الأخير من كتابه، وعنوانه: «وراء الخير والشر»، وهو فصل يتضمن تلميحًا للاتجاه الذي ستتحرك فيه أفكاره الأخلاقية فيما بعدُ. وعلى الرغم مما يوحي به هذا العنوان، فإن الإجابة ليست تلك التي قدمها نيتشه، صحيح أن تيلور كان أول مفكرٍ إنجليزي افتتن بعمق بتفكير نيتشه، ولكنا لا نستطيع أن نتحول عن موضوعنا لنبحث في النواحي التي تأثر فيها به، فهو في هذا الفصل يرى أن مآل الأخلاق إلى الدين. ففي السلوك الأخلاقي البحت ننظر إلى التمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والرفيع والمنحط، على أنه تمييزٌ نهائي، غير أن هذه الأضداد الخشنة لا تكفي على الإطلاق للتعبير عن بعض التمييزات الأدق التي توجد تحت السطح الظاهر، والتي تتغلغل في قلب الأشياء. وفضلًا عن ذلك فالمشكلة لا تنحصر فقط في أن الأخلاقي الأعلى لم يُبلَغ بعدُ، وإنما في أن بلوغه مستحيل؛ إذ إن كل ما يبدو تحققًا له يتضح فيما بعدُ أنه وهمٌ باطل؛ لذلك كان من الضروري تجاوز التجربة الأخلاقية على مستوًى يعلو على أضدادها المعرفة. وهذا المستوى لا يوجد إلا في التجربة الدينية، فهذه التجربة هي التعبير الأعلى والنهائي عن مسعانا العملي، وليس المثل الأعلى فيها شيئًا مفارقًا لا يُبلَغ، أو حقيقة دائمة متجاوزة لهذا العالم، وإنما هو شيءٌ حقيقي ومتحقق بالفعل لا بالمعنى المألوف، وإنما بأكمل وأيقن معنًى، أي معنى كونه هو الحقيقة العليا، والحقيقة الوحيدة التي يصدق عليها هذا الاسم. فالموقف الأخلاقي المتطرف للدين يتخذ صورة تعاطفٍ شامل وتراحمٍ مقصود هو حقًّا مبني، في كثير من الأحيان، على الخير الأخلاقي، غير أنه لا يتقيد به بالضرورة.
أما المرحلة المتأخرة من أبحاث تيلور الأخلاقية، وهي المرحلة التي لا يتسع المقام هنا لمعالجتها على أي نحوٍ كامل، فيمثلها كتاب كان أشمل حتى من الكتاب السابق، ولكنه أقل منه تركيزًا، وهو كتاب ينبئنا عنوانه منذ البداية — وهو «إيمان مفكرٍ أخلاقي» — بأن الكاتب قد اهتدى إلى أرضٍ صلبة، هذا الكتاب — الذي يفصله عن كتابه الأخلاقي الأول جيل كامل — يكشف عن تقدمه المستمر خلال هذه الفترة نحو ميادينَ جديدة من الموضوعات ومجموعاتٍ جديدة من المشكلات، وكان الميدان الرئيسي الذي أضافه إلى عتاده الذهني هو اللاهوت، وذلك بفضل دراسته الموسعة لتفكير العصور الوسطى. كما أضاف إلى تمكنه السابق من الفلسفة الكلاسيكية القديمة، معرفة أوثق بالفلسفة القديمة في العصر التالي للعصر الكلاسيكي، ولا سيما فلسفة الأفلاطونية المحدثة. أما بين المحدثين فقد ازداد اقترابًا من جاليليو وديكارت وهبز وليبنتس وريد، وأجرى اتصالاتٍ مثمرة مع مفكرين معاصرين له من أمثال ألكسندر وفاريسكو Varisco١١٥ وورد ورويس وبرجسون وهويتهد. كما أصبح مدينًا في بعض النواحي الهامة لكتاب فون هوجل ووب في فلسفة الدين، ولكتاب أ. ر. بيفان E. R. Bevan، «الهلينية والمسيحية Hellenism & Christianity».
وأفضل ما يوصف به موقفه الجديد هو أنه مذهب ألوهي أخلاقي ethical theism، فالأخلاق تستمد أساسها النهائي من الدين، والتفكير فيها يتم من خلال المقولات الدينية. وهكذا فإن التلميحات المتفرقة التي انتهى بها الكتاب الأول، تُعرَض هنا على نحوٍ مذهبي، وتكوِّن الموضوع الرئيسي للبحث الجديد بأكمله. وهو هنا يُخلِّص الأخلاق من نزعة الشك، ويسير بها إلى بر الأمان بفضل طوق النجاة الذي يقدمه اللاهوت. غير أن المرء يشعر بأن اهتمامه الرئيسي قد تحول الآن من الأخلاق إلى مذهب الألوهية، وعلى أية حال فإن الهدف الذي يوجه مناقشته المطوَّلة إلى تحقيقه هو إيجاد برهانٍ أخلاقيٍّ جديد، مبني على أساسٍ عريض، على وجود الله. ويظهر التغير الذي طرأ على آراء تيلور في طبيعة الأخلاق، يظهر أوضح ما يكون في تغيير موضوع هجومه، فقد كانت معارضته في الكتاب الأول موجهة أساسًا إلى جميع محاولات صبغ الأخلاق بصبغةٍ ميتافيزيقية، وربطها بأية مبادئَ أولية ذات طابعٍ ميتافيزيقي. أما الآن فهو يتحول عن طيب خاطر إلى معسكر الأعداء؛ إذ إن بناء الأخلاق على أساس مذهب في الألوهية هو ربط لها بالميتافيزيقا، فموضوع هجومه الآن — وهو الموضوع الذي لا يكفُّ تيلور عن تأكيده — هو النزعة الدنيوية secularism، أي نفس عملية قصر الأخلاق على المجال الإنساني المحض، وهي العملية التي لم يكن كتابه الأول إلا محاولة لتنفيذها.

وهكذا فإن جميع حججه أصبحت تدور الآن حول محور الفكرة القائلة: إن الحياة الأخلاقية، مهما كان من ارتباط مجراها بالزمان، ومن تقيدها بظروف العالم الحالي، لا تكتسب معناها الحقيقي إلا عندما تولِّي وجهها شطر الأزلية وتسترشد في كل نقطة بالإيمان بالله، فهي مغامرة تبدأ بالعالم الطبيعي وتنتهي بالعالم فوق الطبيعي. ولا شك في أن هذه الأخلاق — بالنسبة إلى الدين — غير مستقلة، وإنما هي معتمدة عليه، ولكن تيلور يؤكد استقلالها بالنسبة إلى الطبيعة. ونستطيع أن نضرب لهذا مثلًا إيضاحيًّا بمناقشته لفكرة الذنب، فالشعور الذي نحسُّ به عندما ندرك أن هناك شرًّا ارتكبناه، يختلف عن أي شيء نجده في المجال دون الإنساني إلى حد أنه يجوز لنا أن نعدَّه شعورًا لا نظير له، يختص به الإنسان وحده. على أن هذا الشعور بالذنب يقترن به أساسًا شعورٌ آخر بعدم إمكان محو الذنب، فلا يمكن أن يُمحى الذنب بأي جهد أو فعل، ولا يمكن «تعويضه» أو تغطيته بأي عقاب، غير أن إحساسنا بعدم إمكان التكفير عن الذنب إنما هو دليلٌ مباشر على التشابك الكامن بين الزمان والأزلية، الذي هو العلامة المميزة لكل سعي أخلاقي.

وترتبط بهذا تلك الفكرة التي أطلق عليها تيلور اسم «الحافز المنبعث عن الأزلي The initiative of the eternal»، فكل أخلاقٍ أصيلة تشير إلى ما وراء حالتنا الراهنة؛ إذ تتطلب تجديدًا وتحويلًا وبعثًا مستمرًّا لشخصيتنا، على أننا لا نستطيع أن نرتفع فوق مستوى عملنا الحالي بجهدنا الخاص وبمثلٍ أعلى خاص بنا فحسب، فالحافز الذي يدفع إلى التجديد لا يمكن أن يأتي من جانب الشخصية المطلوب تجديدها، وإنما يمكن فقط أن يأتي من الاستجابة لحركة تأتي من الخارج، وهذه الحركة لا بد أن يكون مصدرها هو الله. وهكذا فإن الأخلاق تفترض ما يعلو على الطبيعة مقدمًا، بوصفه بيئتها وقوتها المحركة، وهذا لا يعني بأية حال الاستغناء عن الجهد الشخصي، وإنما يعني فقط أن من واجبنا، في كل أوجه نشاطنا، ألا نظل محصورين في حدود قدراتنا، وإنما أن نتطلع إلى ما ورائنا لكي نقبل الحافز الإلهي الذي هو وحده القادر على الارتفاع بنا إلى ما يعلو علينا، فللذرات الروحية عند تيلور نوافذ، وهذه النوافذ تُطل على اللامتناهي.

ويدخل تيلور فكرة الخلود في نطاق «برهانه الأخلاقي» العام، فالخلود يعني تحول الذات الزمانية إلى ذاتٍ أزلية، والعملية مستمرة، قوامها في المحل الأول تطهير الذات تمامًا من حالة خضوعها لتحكم الظروف الزمنية، غير أن هذا ليس تطهيرًا يغمر الشخصية الفردية ويغنيها في مطلق لا شخصي (وهنا يتجه تفكير تيلور إلى نظرية الفردية عند بوزانكيت)، وإنما هو تطهير يتركها أغنى مما كانت، فالذات تظل باقية، غير أنها تنتقل من مركزها الأصلي إلى مركزٍ جديد، وكما يقول تيلور، فبقدر ما نتخلى عن ذراتنا، نفنى في شخصيتنا الحقة، ففي المطلق لا تفني الفردية على الإطلاق، بل تحقق أكمل تعبير عنها.

ولكن أليست الأخلاق والحياة الأزلية متعارضتَين تمامًا؟ أيظل للجهد الأخلاقي أي معنًى بعد أن نبلغ هدفنا؟ هنا نواجه مرةً أخرى تلك الصعوبة الأساسية التي تتمثل في أي مذهبٍ أخلاقي، أعني الازدواج بين ما هو كائن، أي ما هو زائلٌ متغير على الدوام، وما يجب أن يكون، أي ما لا يمكن بلوغه أزلًا، وإن يكن يبدو أنه هو ماهية الأخلاقية ذاتها. غير أن الأخلاق لا تختفي عند بلوغ هدفها إلا إذا جعلنا الأخلاق مساوية للصراع ضد الشر، على أن هذا أمر غير مشروع، تمامًا كجعل العلم مساويًا للصراع، ضد الجهل، فمن الممكن أن نتصور مرحلة للحياة الذهنية تنتهي فيها عملية تكوين الشخصية، ومع ذلك يستمر النشاط المنبعث عن الشخصية المتكوِّنة. وحتى «في السماء» يظل هناك مكان للحياة العملية الفعالة، إلى جانب سعادة التأمل الخالص، صحيح أننا لا نعود قادرين على التقدم «نحو» الخير، ولكن سيكون هناك مجالٌ واسع للتقدم «في داخله». ومن الطبيعي أن الحياة الخيرة لن يمكنها عندئذٍ أن تظل تتخذ شكل صراعٍ إيجابي ضد الشر، وإنما ستستمر بوصفها تحقيقًا «للخير» على صور تزداد على الدوام كمالًا وتنوعًا. فانتهاء الصراع بين الخير والشر وبلوغ الغاية لا يمنع من استمرار بقاء النشاط الأخلاقي، وهذا هو حل التناقض العميق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون في الأخلاق.

وهكذا فإن تفكير تيلور الأخلاقي يمر بمرحلتَين لا صلة بينهما على الإطلاق: الأولى مرحلةٌ واقعيةٌ تجريبيةٌ ديالكتيكيةٌ شكاكة، تفتقر إلى النظام المذهبي، وتعادي أي مذهبٍ ميتافيزيقي، والثانية مرحلةٌ مختلفة تمامًا، تبني الأخلاق على مذهبٍ ألوهيٍّ ميتافيزيقي، وتجعلها خاضعة له تمامًا. وهذا القول يتضمن في الوقت ذاته وصفًا صحيحًا لتفكيره الميتافيزيقي المتأخر بدوره، وهو التفكير الذي عرضه أيضًا في كتابه «إيمان مفكر أخلاقي». فهو يرمي إلى كشف عدم كفاية كل لاهوت طبيعي صرف، وإلى تبرير الإيمان بوحي فوق الطبيعي. والواقع أن إيمان تيلور الديني قد نما بقدر ما نما تفكيره تمامًا، فقد كان في البداية واعظًا غير متخصص (علمانيًّا)، ينتمي إلى طائفة «الميثوديست»، ثم انتقل إلى مرحلة عدم اكتراث بالدين، وبعد ذلك ازداد بالتدريج تقاربًا من المذهب الأنجليكاني، وها هو ذا أصبح ينتمي إلى جناحه المتطرف المسمى بجناح «الكنيسة العليا High Church»،١١٦ بل إنه أصبح يصرح علنًا بإعجابه بمذهب الروم الكاثوليك، وعبر عن ذلك فلسفيًّا في رأيه القائل إن الحركة المدرسية الجديدة هي تجديدٌ أصيل لروح الفلسفة، وإن تفكير توما الأكويني ما زال حيًّا، وسيظل له تأثير في مجرى التفكير الفلسفي في المستقبل.
ولا مفر لنا من أن نعرض — ولو بإيجازٍ شديد — لتفكير تيلور الميتافيزيقي الأول، كما عرضه في كتاب «أركان الميتافيزيقا»، طبعة سنة ١٩٠٣، فلا حاجة بقارئ هذا الكتاب إلى أن يذهب بعيدًا لكي يجد هنا أيضًا انفصامًا عميقًا يُفقد المؤلف صفة الاستمرار والاتصال، فكل ما يمكن إيجاده من روابط بين تفكيره الدنيوي في كتابه الأول، وبين تفكيره الديني في فترة نضوجه، إنما هي بضعة روابط خارجية، لا وحدة باطنة، وهنا أيضًا تحول «شاءول Saul» إلى بولس Paul،١١٧ ويزداد الانفصال وضوحًا إذا ما عدنا بنظرنا إلى الوراء؛ إذ توجد بين كتابه الأول وهذا الكتاب هوةٌ شاسعة في الروح وفي المضمون، بينما لا يفصلهما في الزمان سوى عامَين أو ثلاثة. ففي كلا الكتابين كان تأثير برادلي سائدًا، ولكن كان هناك — كما أكد تيلور نفسه بعد ذلك بوقتٍ طويل — شخصيتان لبرادلي: إحداهما شخصية الناقد الهدام، والأخرى شخصية المفكر البنَّاء العظيم، بحيث حطمت الأولى ما شيدته الثانية تحطيمًا. ولا يملك المرء إلا أن يحس بأن تيلور، في فترته الأولى، قد تأثر بهذين الوجهَين لبرادلي دون أن يحل ما بينهما من تعارض، بحيث كان الوجه الأول هو السائد في مذهبه الأخلاقي، والثاني هو السائد في ميتافيزيقاه. وإذن فمن الممكن أن نطلق على ميتافيزيقاه الأولى، التي أطلق عليها اسم «المثالية المنهجية»، وصفًا موجزًا هو أنها مذهب برادلي في المطلق، محذوفًا منه نزعته في الشك.

ولكن مذهب المطلق، الذي تركه برادلي في صورةٍ مفككة إلى حدٍّ بعيد، قد نظم هنا تنظيمًا دقيقًا صارمًا، والأقسام الرئيسية في المذهب هنا هي الأنتولوجيا أو التركيب العام للعالم الواقع، والكسمولوجيا أو ميتافيزيقا الطبيعة، وعلم النفس العقلي أو ميتافيزيقا الذهن والمجتمع البشري.

غير أن تنظيم أفكار برادلي لا يكون سوى الأساس والإطار العام لمذهب تيلور الأول، فقد تمكن تيلور — بمرونته وتفتُّحه وتقبُّله لما هو جديد — من أن يدمج في كثرةٍ زاخرة من المواد الجديدة، تشمل كل ما كان مدار البحث في ذلك الحين، ويستغلها في أغراضه التأملية. وأوضح المؤثرات ظهورًا بعد برادلي: مثالية وورد ورويس، وإن يكن قد أخذ عنها موقفها العام أكثر مما أخذ تفاصيل المذهب، كذلك تأثر إلى حدٍّ غير قليل بالاتجاه الذي كان جديدًا عندئذٍ في علم النفس عند وورد وجيمس وستوت ومونستربرج Munsterberg،١١٨ مؤكدًا أن للحياة الذهنية طابعًا غرضيًّا غائيًّا، واستخدم هذه الفكرة في محاربة النظريات الآلية، فأعلن أن النظرة الآلية إلى العالم هي نظرة ذات قيمةٍ أدنى يتضح آخر الأمر بطلانها، ولا تصح دون قيد أو شرط حتى على العالم غير العضوي، ما دام للذرة ذاتها قدر من الفردية، مهما كانت ضآلته، وإلى هذا الحد لا يمكن استبعادها من التركيب الغائي الذي يتغلغل في جميع أرجاء الوجود. على أن هذه الآراء كادت ترغمه على أخذ بعض العناصر الهامة من المذهب البرجماتي الذي كان عندئذٍ في بداية ظهوره، ومن المؤكد أنه تنازل لهذا المذهب في نواحٍ كثيرة. وللمرء الحق في أن يشك جديًّا فيما إذا كان هذا الربط بين الميتافيزيقا القائمة على فكرة المطلق، وبين الفلسفة البرجماتية في الحياة، قد ساهم في تأكيد اتساق مذهبه ووحدته. ونستطيع أن نقول إنه نظرًا إلى التوتر الشديد الذي كان قائمًا عندئذٍ بين ممثلي هذين الطرفَين، كان على الأقل خطأ منه في «التكتيك». على أن التنافر التام بين المذهبَين سرعان ما فرض نفسه عليه، فدخل في خلاف مع شيلر، ولما وجد نفسه محاصرًا ومحرجًا تخلى عن قدرٍ كبير من برجماتيته، وتجلَّى ذلك في كلامه عن طبيعة العلوم الوضعية ومناهجها، وفي رأيه في العِلِّية وغيرها من المبادئ العامة التي رأى أنها ليست بديهيات، وإنما مصادرات (وهنا كان متأثرًا على نحوٍ مباشر بمقال لشيلر ظهر حديثًا في ذلك الحين، أي في ١٩٠٢، بعنوان «البديهيات بوصفها مصادرات Axions as Postulates»، وكذلك في تأكيده أن العنصر الإرادي الاختياري ماثل في كل تجربة، ورفضه لفكرة السعي المنزه إلى الحقيقة. أما آراؤه في مناهج المعرفة العلمية فتكاد تكون مماثلة تمامًا لآراء كارل بيرسون في كتابه «قواعد العلم Grammar of Science»، وأخيرًا نستطيع أن نلاحظ من آنٍ لآخر تشابهًا مع فلسفة التجربة الخالصة عند أفناريوس Avenarius.١١٩

فإذا ما تأملنا تفكير تيلور الفلسفي في مجموعه، أمكننا أن نقول إنه أغنى وأعقد من أن يُفهَم فهمًا جامعًا مانعًا، أو يُدرَج تحت وصفٍ واحد، فهو يلمع بألوانٍ متعددة استمدها من المصادر المختلفة التي أضاءته، وكثيرًا ما عمل على حرق سفنه من خلفه، والزحف قدمًا لاحتلال ممالكَ جديدة، غير أنه يفتقر إلى التركيز، بحيث إنه لم يبعث وحدة باطنة في الميادين المختلفة المتعددة التي استمد منها ثقافته واتخذها موضوعًا لبحثه، فتفكيره صورةٌ أمينة لذلك الشقاق العميق، الفلسفي وغير الفلسفي، الذي يتصف به عصرنا؛ هذا العصر الذي اتخذ من الإيمان ملجأً، ولكنه لم يصبح بذلك أقوى تفكيرًا. وربما كان ذلك المذهب أوضح مظهر على مدى إخفاق الفلسفة الإنجليزية، حتى في يومنا هذا، في الوصول إلى أي هدف، واستمرارها في تلمُّس الطريق.

تلقى تمبل تعليمه الفلسفي في كلية باليول بأكسفورد على إدوارد كيرد، وظل يذكر لهذا الأخير أنه أفضل مثل لشخص لا يقتصر على تعليم الحياة الروحية، وإنما يحياها على أكمل وجه أيضًا. وعن طريق كيرد اتصل منذ وقتٍ مبكر بعالم الفكر المثالي، الذي التزمه على الدوام فيما بعدُ في سعيه إلى الوضوح الفلسفي. وهو ينتمي إلى تلك الفئة من اللاهوتيين المتفلسفين التي كان عددها في إنجلترا أكبر منه في أي بلدٍ آخر، والتي كان باركلي ممثلًا متقدمًا وبارزًا لها. ولم تكن فلسفته إشباعًا لحاجةٍ نظرية، بقدر ما كانت تبريرًا لنظريته الدينية واللاهوتية، فمهمتها هي التوفيق بين الإيمان والمعرفة، وإيجاد أساسٍ نظري لمذهبٍ ألوهي ثبت في ذهنه من قبلُ.

ويعرف تمبل مذهب الألوهية بأن الفرض القائل إن الأساس النهائي للكون إرادة، وبأن هذه الإرادة تحقق غاية، وإن هذه الغاية تبدو لنا — نحن الموجودات المتناهية — خيِّرة، هذا الفرض يستمد دعامته من تجربتنا الأخلاقية والدينية، فالواقع إذن تعبير عن الإرادة الإلهية، وله مستويات أو مراحلُ متعددة، تجمع بينها عملية نمو واحدة. ولو نظرنا إلى سلسلة المراحل زمنيًّا لوجدناها تتحرك من الأدنى إلى الأعلى، أما لو تأملناها من حيث دلالتها العامة، لانعكس هذا الترتيب؛ ذلك لأنه على الرغم من أن الأعلى يفترض الأدنى مقدمًا من الوجهة الواقعية، فإن الأدنى لا يقدم أي تفسير لمعنى الأعلى، فالتحديد والمعنى يصيران من أعلى إلى أدنى، بحيث إن معنى الأدنى لا يتكشف إلا بظهور المرحلة الأعلى التالية له. وعلى ذلك فإن الأعلى يكمن — بالإمكان أو بالقوة — في الأدنى، ثم ينبثق عنه ليكوِّن مرحلةً جديدة، وهناك أربع مراحلَ رئيسية للوجود، يتميز بعضها عن البعض تميزًا واضحًا، هي المادة والحياة والعقل intellect والروح. فإذا طبقنا القانون السابق على العلاقة بين هذه المراحل؛ لوجدنا أن المادة لا تكشف عن طبيعتها الحقة إلا عندما تنتقل إلى الحياة، والعقل لا يحقق وظيفته الصحيحة إلا عندما يخضع لتوجيه الروح، التي هي أعلى مرحلة للحقيقة المعروفة لنا، وهنا يظهر بطبيعة الحال تأثير الاهتمام المتجدد بالتطور، الذي تبدَّى فيما بعدُ — على سبيل المثال — في النظريات القائلة بالطفرة عند لويد مورجان وألكسندر، والتي تتفق معها نظرية تمبل في خطوطها العامة اتفاقًا شديدًا.

وتثير فكرة المستويات الصاعدة مشكلة القيمة، ولا سيما علاقتها بالواقع، فهل تُستنفد ماهية الأشياء في وجودها المحض، بحيث تكون القيم صفات لها فحسب؟ أم أن القيم هي التي لها الأولوية؟ يحاول تمبل أن يبين أن الفرض الثاني هو الصحيح، وسبيله إلى إثبات ذلك هو القول إن القيم وحدها هي التي لها حقيقةٌ جوهرية، وهي تحقق صورها المختلفة بالتجسد في الأشياء، ويتلو من ذلك أن ما هو حقيقي لا يكون كذلك إلا بقدر ما تشكله القيمة، أو بتعبيرٍ آخر: بقدر ما يكون خيرًا. على أن القيِّم أو الخيِّر ليس إلا الطرف المتضايف مع إرادة، وهذه الإرادة هي الإرادة الخلاقة للروح الإلهية، التي هي وحدها الموجودة بذاتها، ومن ثم فإن العالم من خلق إرادة الله، وهو التعبير عنها، فالقول بهوية الجوهر والقيمة يؤدي حتمًا إلى مذهب الألوهية.

وقد عَرض تمبل هذه الأفكار عرضًا مذهبيًّا في كتابه «الذهن الخلاق»، فهو هنا يبحث في سعي الروح إلى تكوين نظرة ترضيها عن العالم، في ضوء الأشكال الثلاثة، العلم والفن والأخلاق، هذه الأشكال الثلاثة معًا تستهدف توحيد الكثرة المختلطة للأشياء، ولكن ليس في وسع أحدها أن يحققها، وإنما في الدين وحده يمكن بلوغ نظرة موحدة إلى العالم، بحيث إن الدين هو اكتمال جميع الصور الأخرى للمعرفة، وهو حجر الرحى في أي مذهب فلسفي. وهكذا أضاف تمبل إلى كتاب «الذهن الخلاق» تكملة في كتاب «حقيقة المسيح»، الذي عرض فيه ما أسماه بحق ميتافيزيقا متركزة حول المسيحية.

وفيما عدا ذلك، فمن الممكن أن يوصف موقف تمبل الفلسفي بأنه مثاليةٌ مطلقة، فإذا ما جردنا هذه المثالية من قيودها اللاهوتية وتعلقها الشديد بالأفلاطونية؛ لوجدناها مدينة لبوزانكيت ولبرادلي من خلاله أكثر مما هي مدينة لأي شخصٍ آخر. وتتضح أولوية هذا التأثير في قوله: إن أمام الفلسفة طريقين متشعبَين يتعين على أية فلسفة أن تختار بينهما، إما أن تفترض المعقولية الكامنة للكون (أو على الأقل إمكان تحديده عقليًّا)، وإما أن ترتد إلى مذهب الشك الكامل. فالمعقولية الميتافيزيقية للعالم تتضمن معها مصادرةً أخلاقية هي خيريته الكاملة، فيسفر ذلك عن نظرةٍ متفائلة إلى العالم. على أن من واجبنا أن نعترض على ذلك قائلين إن هذا التفاؤل لا يتغلغل في قلب مشكلة الشخصية ولا مشكلة الشر، فليس فيه مكان للفرد واللامعقول وكل ما يقاوم القيمة والمعنى إلا بقدر ما يستطيع أن يجمعها كلها بوصفها عناصرَ مرتبطةً بأضدادها أو مظاهر لها. والذي يقدمه إلينا حقيقة هو مطلق تختفي فيه كل هذه التمييزات والأضداد، دون أن تترك أثرًا للعذاب الذي يبعثه اضطراب عالمنا الفعلي، أو للمواقف الأليمة التي تتعرض لها حياتنا، فالمذهب المطلق يدخل هنا في مرفأٍ آمن هو اللاهوت الحرفي المحافظ.

وتتضمن محاضرات جيفورد التي ألقاها تمبل بعنوان «الطبيعة والإنسان والله» أدق وأشمل محاولاته لإيجاد أساس لرأيه في الكون ولعرض هذا الرأي، غير أن ما يقدمه إلينا هنا أيضًا هو محاولة إيجاد تبريرٍ نظري لعقائدَ إيمانيةٍ سابقة، أكثر منه برهانًا دقيقًا مستقلًا على وجهة نظره؛ فليس ثمة تغييرٌ أساسي في موقفه. وتغدو نقطة بدايته هنا واقعية، فهو يرفض جميع الصور الذاتية الإبستمولوجية، التي يرى أن قضيته «أنا أفكر إذن أنا موجود» عند ديكارت هي المسئولة عنها أولًا، ففي المعرفة لا يكون العقل معنيًّا بذاته — وبأحواله الخاصة بوصفها موضوعاتٍ حاضرة — وإنما بعالم يقف في مقابله بالفعل. وهو يصف هذه الواقعية أيضًا بأنها «ديالكتيكية»، ويؤدي تطويره لعمليتها الديالكتيكية، والمكان البارز الذي يوليه للذهن، إلى إضفاء طابعٍ هيجليٍّ متزايد عليه، يعد أوضح مظاهره الخارجية تأكيد تمبل الدائم لصلته الوثيقة بأستاذه القديم إدوارد كيرد، الذي يهدي هذا المجلد إليه، وكذلك إشاراته المتعددة إلى بوزانكيت، الذي يتفق مع ميتافيزيقاه اتفاقًا عامًّا، على الرغم مما بينهما من اختلافات في التفاصيل. وتبلغ العملية الديالكتيكية قمتها في مذهبٍ ألوهي، وفي نظره إلى الكون على أن له «طابعًا مقدسًا». والواقع أن المذهب الذي يعرضه تمبل هنا آخر الأمر هو واحد من أروع ما أنتجه الفكر الإنجليزي الأخير من التعبيرات عن مذهب الألوهية المسيحي، معروضًا من وجهة نظر مثالية قبل كل شيء.

(٨) القسم الثامن: مفكرون قريبون من المثالية

انبثقت فلسفة المفكر الاسكتلندي لوري من ذهنه الخاص كلها تقريبًا، ومن ثم فلا يمكن أن يُدرَج تحت أية فئةٍ عامةٍ مألوفة إلا بشيء من التجاوز، وقد أسماها هو ذاته «عودًا إلى الثنائية»، (وهو العنوان الفرعي لكتابه: الميتافيزيقا). غير أن غموض تفكيره وعدم إمكان النفاذ إليه، يجعل من العسير على المرء أن يُقرِّر إن كان الاتجاه التوحيدي أو الاتجاه الثنائي (وهناك اتجاهٌ تعدُّدي أيضًا) هو الأغلب لديه. كذلك أطلق على مذهبه اسم «الواقعية الطبيعية»، وهي تسمية تصدق على نقطة بدايته الإبستمولوجية، التي تقترب عن وعي من موقف ريد، غير أنها لا تنطبق بحال على بقية تفكيره، أو على تفكيره منظورًا إليه في كليته. ومع ذلك ففي إمكاننا — دون إجحاف — أن ندرجه ضمن الحركة المثالية الجديدة، حتى لو لم يكن من الممكن القول إن لوري ذاته قد انجرف في هذا التيار، فهناك قطعًا روابط تجمعه بكانت وشلنج، وقبل هؤلاء جميعًا بهيجل، الذي كانت له بتفكيره معرفة مباشرة.

غير أن لوري يظل هو نفسه فحسب، ويتسم بصفة الاستقلال هذه أكثر من أي مفكرٍ إنجليزيٍّ آخر في عصره؛ لذلك كان من الواجب فهم مذهبه في ضوئه الخاص. فهذا المذهب أشبه بمناجاةٍ ذاتية، ومحادثة بينه وبين نفسه، بحيث لا يصغي إلى الآخرين ولا يسير بناءً على أي اتصالٍ سابق بالغير، ولهذا السبب لم يكن له صدًى بين شعبه، وإنما تبدَّد صوته في الهواء.

ولقد حاول داعيةٌ وحيدٌ متحمس له، هو ج. ريماكل، أن يذيع آراءه في فرنسا وبلجيكا عن طريق ترجمة مؤلفاته وعرضها، ولكنه لم يجد أية استجابة. وليس في هذا كله ما يدعو إلى الدهشة، نظرًا إلى صفات الغموض والهوائية والغرابة والأصالة التي كان يتسم بها تفكيره وطريقة تعبيره معًا، فقد استحدث لنفسه مصطلحًا خاصًّا به، نحت فيه الألفاظ بجرأة، واستخدم الكلمات بصورٍ غير مألوفة، لا تُعين القارئ على الفهم بأية حال، وهو يذكرنا بهيجل في ثقل وطأة تركيباته وألفاظه معًا. وهكذا كان تفكيره وعرًا قاسيًا تمامًا كتضاريس بلاده اسكتلندا. غير أننا لا نكاد نجد واحدًا من معاصريه يفوقه أو حتى يدانيه في القوة أو الجرأة التأملية فيما وراء حدود التجربة، وفي الميل إلى بناء المذهب والقدرة عليه. وفي الوقت ذاته لا يصادف المرء إلا في أحوالٍ نادرة، مثل حالة فوست Fawcett (لكن على مستوًى أدنى بكثير)، مثلَ هذا الخيال الحالم والإغراب المصحوب بعمقٍ صوفي. والواقع أننا لو قسناه بالمعيار المألوف لدى الناس عن الفلاسفة الإنجليز، لما وجدنا سمةً واحدة تجمع بينه وبينهم، ولأحسسنا بأنه مفكرٌ ألماني هبط مصادفةً في أرضٍ إنجليزية.
ونستطيع أن نقول إن الكتابَين الأوَّلَين، من بين كتبه الثلاثة التي عرض فيها نظرته إلى العالم، وهما «الميتافيزيقا» و«الأخلاق»، هما مقدمتان لكتابه الثالث، ففي هذا الكتاب الثالث، وهو «أفكار تركيبية»، الذي يتضمن أفكاره الناضجة، تتجمع كل الأنغام المنفصلة في تفكيره لتكوِّن سيمفونيةً ميتافيزيقيةً قويةً رنانة، ويفتتح الكتاب بما يمكن أن يُعَدَّ تاريخًا للوعي أو «ظاهريات للروح»، يصور فيها المراحل التي ترتفع فيها الروح ارتفاعًا متزايدًا من أدنى مستوًى «للوعي العضوي» المقيد بالنزوع والإحساس، إلى تحقيق طبيعتها الحقة. فالمرحلة الأولى للوعي هي إحساسً خالص لا تنوَّع فيه، وهنا لا تكون الذات قد تميزت بعدُ عن كتلة الموضوعات، وإنما ترقد كالجنين النائم في أحشاء وجود له طابعٌ عام غير محدَّد. ومع ذلك فهي «موجودة» هناك في صورةٍ بذرية. والمرحلة التالية هي الإحساس الذي يتميز بأنه وعي بآخر، نحسُّ به في التجربة على أنه خارجي، فالذات هنا تتلقى منبهاتٍ خارجية وتدركها في صورةٍ غامضة، وهنا تظهر لأول مرة ثنائية الذات والموضوع، وتغدو الذات الحاسة — بفضل عملية صبغ انطباعاتها بصبغةٍ خارجية — إيجابية لا سلبية فحسب، والمرحلة التي تلي ذلك هي أعلى مراحل الإحساس. وينحت لوري لهذه المرحلة لفظ «الإحساس المميز attution»، فهي مرحلة تتوسط بين الإحساس بمعناه السابق وبين الإدراك الحسي، فيها تدرك الذات الفروق بين «الأشياء»، وتميز الواحد منها عن الآخر، دون أن تتمكن بعدُ من تحرير نفسها من سيطرة المجال الموضوعي، فالإحساس المميز، على حد تعبير لوري، هو الشعور «بكثرة في وحدة» وهو «نظرية تركيبية إلى الموضوع»، وهو «إحساس بوجود شيء يوضع بالتفكير أو رد الفعل، خارجًا عند النقطة التي يرجع إليها أصله.»١٢١ وعندما تضاف الإرادة، التي هي إيجابٌ محض، إلى الإحساس المميز، الذي هو «سلبي إيجابي» فحسب، نصل إلى مرحلة الإدراك الحسي perception، وهنا يدرَك الموضوع، لا على أنه مختلف عن الذات فحسب، بل على أنه مقابل لها أيضًا، ويربط بوحدة الوعي عن طريق فعل التأكيد أو الإقرار (assertion). وهكذا يتحقق الانفصال النهائي بين الذات والموضوع، وتبلغ بذلك مرحلة العقل، إذ يتغير ذكاء الإحساس المميز الحيواني، والإدراك الحسي الإنساني، عن طريق ظهور النشاط الخالص للإرادة، وهنا تعتبر حدود ما دون العقل، وتصبح الذات عاقلة بصفةٍ نهائية. غير أن أساس العقل وصورته وماهيته هو الإرادة، فأعلى صورة للوعي هي حدس فوق العقلي، يستعاد فيه الطابع الأصلي المباشر للشعور.
ويتصور لوري تقدم الوعي هذا بصورةٍ ديالكتيكية؛ ولذلك فإنه يعرضه على شكل برهانٍ عقلي. أما في المجلد الثاني، الذي ينتقل فيه إلى مذهبه في الله والإنسان، والذي تبلغ فيه قوَّته التأملية أعلى مستوًى لها، لا نعود إزاء برهان، وإنما كشف عن أعمق تجارب نفس تبحث عن الله، فهو هنا يخوض مشكلة طبيعة الله من جميع أوجه التجربة البشرية، ويسلط عليها أنوارًا كاشفة تتجمع فيها، منبعثة عن الإحساس والإرادة والعقل. ومن هنا كان ذلك الفيض من الصفات التي تتسابق على شفتَي هذا الحالم الذي أسكرته رؤيته، فالله هو الكل في الكل، والواحد في الكثير، والهوية في الاختلاف والشامل اللامتناهي الأزلي، وهو منبع الأشياء ومقرها، وهو العمق الأكبر، والحب الأعظم والجمال والخير والحق. غير أنه — مع ما يتسم به وجوده من هذا الطابع غير المقيد بشرط — ليس بعيدًا عنا، فالإله العالي المحض الذي عرفه مذهب الألوهية الطبيعية، لا معنى له بالنسبة إلى روح تتحرَّق شوقًا إلى الوحدة الصوفية، مثل روح لوري. فهو (على حد التعبير المجازي القوي الذي استخدمه لوري) أقرب إلى أن يكون إلهًا ذهب في سفرة أو غلبه النعاس، وإنما الله حياة وفعل وقدرةٌ خلاقة، فضلًا عن كونه وجودًا. ومن هنا وجب أن يتخذ صبغةً خارجية ويدخل في العالم الزمني ليستقر في الأرواح المتناهية التي أوجدها، وهذا الخروج عن ذاته هو وحي لمخلوقاته (ويستخدم لوري نفسه لفظي outerance وutterance للتعبير عن معنى الخروج عن ذاته والوحي على التوالي)، كل ذلك ينبغي ألا يُفْهَمَ على أنه قول «ﺑشمول الألوهية pantheism»، فالعملية ليست صدورًا، وإنما هي عمليةٌ ديالكتيكية، والمطلق يشمل السلب المحض، بوصفه جزءًا من ماهيته، وعن طريقه يتكوَّن في مقابله الوجود المغاير له — أي المتناهي والزمني والفردي — ومع ذلك يظل الله متغلغلًا في هذا الوجود المغاير ومشتملًا عليه، بحيث إن الشخص المتناهي يظل محتفظًا بفرديته، حتى في الوحدة الصوفية مع الله، التي يصفها لوري بلغة كلها وجد وشوق.

أما آراء لوري في الإنسان فترجع إلى رأيه في المراحل الثلاث للوعي، فليس في وسع الإنسان أن يظل في مرحلة الإحساس المميز، التي يكون فيها الإنسان مجرد مركبٍ حيواني من رغبات ونزعات وإحساساتٍ جزئية. فلما كان الإنسان قد وُهِبَ عقلًا، فإنه يهدف إلى تحوير هذه العناصر غير المنظمة بحيث تدخل في الوحدة العاقلة لشخصيةٍ أخلاقية، فالتجربة البشرية هي ديالكتيك للإرادة، ما دامت تنطوي أساسًا على شوق إلى المثل الأعلى والمطلق. ومن يخفق في مسايرة هذا الديالكتيك الإرادي يهبط إلى مرتبةٍ أدنى، أما من يسايره ويحقق ذاته الحقة، فإنه يشارك — حتى في أثناء خضوعه لقيود الزمان — في الحياة الأزلية لله، ويصطفيه الله ليكون زميلًا له في تحقيق غاياته الأزلية؛ ذلك لأن الله في هذا العمل محتاج إلى الإنسان.

وعند هذه النقطة يجمع لوري خيوط خطته الطموحة ليصل بها إلى قمةٍ شامخة، فالعنصر السلبي للأشياء يعود إلى الظهور ثانية في صورة الشر، والشر هو «إخفاق الإله الخلاق في تحقيق المثل الأعلى للفرد والكل على مستوى الوجود الذي يشغله الإنسان.»١٢٢ ولا شك أن من المفزع الكلام عن إخفاق الله، ولكنا عندما نفكر في الشر، وفي العنصر اللامعقول في العالم، وفي «اللا الدائمة everlasting No» (ويأخذ لوري هذا التعبير عن كارليل)، نضطر إلى أن نطرح جانبًا التعبيرات المريحة التي ألفها العرف السائد. فلا يمكن أن يكون الألم والشقاء والخطيئة عناصر تنتمي إلى خطة الخالق؛ لذلك نضطر إلى أن نفترض أن المبدأ السلبي قد أثبت — على نحوٍ ما — أنه أقوى من أن يتغلب عليه الله. وإذن فالشر حقيقة في نظام الكون، ولا بد، بهذا الوصف، أن يكون مصدره هو الله، ولكنه لا يمكن أن يكون قد أتى عن طريقه. وهكذا يتقدم لوري إلينا — كما فعل الكثيرون من معاصريه — بفكرة إلهٍ محدود، تقابله صعوباتٌ محيرة، ويعاني هو ذاته من خلقه، ويسعى إلى التغلب على نواحي النقص فيه، ويحتاج من أجل نجاح مسعاه إلى مساعدة الإنسان، وبهذا المعنى تكون الموجودات المتناهية شريكة لله في الألم، وفي العمل والجهد، بل إنها — على الرغم من تناهيها — ترتبط بالله إلى حد يتعين معه أن نفترض خلودها، «فالإنسان الذي يصبو، في هذا المكان والزمان، إلى الوحدة مع الله، يجعل من نفسه — لهذا السبب ذاته — خالدًا، بقدر ما يدمج روحه المتناهية في حياة الروح الأزلية ذاتها، وينجرف في تيار ذلك الذي لا يموت.»١٢٣ فالإنسان إلهي بقدر ما يكون إنسانًا، أو بقدر ما يكون كائنًا عاقلًا، وبالتالي لا مفر له من المشاركة في الحياة الإلهية، وهذا هو ضمان الخلود الذي لا يمكن أن يمدَّنا به البحث التجريبي بطبيعة الحال.
يقف تفكير فوست بمعزل عن الفلسفة المصطبغة بالمعقولية، مثلما ظل هو نفسه بمعزل عن الحياة الأكاديمية، فهذا التفكير يمثل نمطًا في الفلسفة نادرًا نسبيًّا في إنجلترا، ولكنه شائع نسبيًّا في البلدان الأخرى، ونستطيع أن نطلق عليه اسم «المثالية الخيالية Fanciful Idealism»، مستخدمين نفس التسمية التي استخدمها كانت، دون أن يكون لها مبررٌ كبير، للإشارة إلى مذهب باركلي، فهو واحد من أولئك الذين «يشيدون قصورًا فكرية متعددة في الهواء» مستعيرين تعبيرًا آخر لكانت، ويحلقون فوق التجربة عاليًا، وكما يدل عنوان كتابين من كتبه المتأخرة،١٢٤ فهو ينسب إلى الخيال دورًا أساسيًّا، جاعلًا منه الملكة الفلسفية على التخصيص، بل أساس الحقيقة ذاتها، فالخيال هو مبدؤه الميتافيزيقي الأول، والعالم ليس إرادة أو حضورًا لتمثلات أو عقلًا، وإنما هو تخيل خلاق. وهو يدرك — إذ يطلق على موقفه العام اسم «المذهب التخيلي» — أنه يقف موقف المعارضة الشديدة لفكرة الشمول المنطقي عند هيجل. ويمضي في كراهيته للعقل إلى حد أنه قال في أحد المواضع بشيء من التباهي: «وهكذا تخلصنا من العقل.»١٢٥ والحق أن فلسفته، وإن لم تكن قد تخلصت من العقل تمامًا، هي نتاج لذلك الخيال الأدبي الذي اتخذت منه مبدأً أول للأشياء جميعًا.
وعلى الرغم من تفاخر فوست بجدة آرائه، فقد كان يدرك تمام الإدراك أن هناك فلاسفةً آخرين سبقوه في هذا المضمار، وكان يشير إلى آرائهم على الدوام، فإلى جانب ما نجده عند كانْت من ميلٍ ضئيل في هذا الاتجاه، نجد الخيال المنتج يظهر لأول مرة بوصفه نشاطًا لا متناهيًا عند فشته، ثم يظهر بعد ذلك في تفكير واحد من أنصار «التومية الجديدة New Thomism، هو فروهشامر Frohschammer»،١٢٦ أما بالنسبة إلى المفكرين المتأخرين، فإن فوست يشعر بأن أقربهم إليه هو برجسون، بفكرته في الحدس والتطور الخلاق، كما تجمعه ارتباطات أقل وثوقًا بهوايتهد وماكنزي وشيلر. على أن تفكيره في تركيبه الباطن — أو على الأصح في رؤياه — كان أقرب إلى موقف لوري، الذي كان يماثله في شطحاته التأملية، منه إلى تفكير أي معاصرٍ آخر له، ومع ذلك فقد كان يفضل — كما هو متوقع — أن يتجه إلى الشعراء، بوصفهم أناسًا أقدر على الرؤية المتعمقة في الأشياء من الفلاسفة. ففي نظره أن وليم بليك W. Blake هو «شاعر المذهب التخيلي»، كما كانت أشعار شيلي، المبنية على فكرة شمول الألوهية، مصدرًا آخر مألوفًا لأفكاره.
ويسمي فوست — الذي كان على استعدادٍ دائم لنحت ألفاظٍ جديدة — ماهية الحقيقة باسم «المتخيلة imaginal»، للدلالة على نشاطٍ واعٍ يعد الخيال أقرب نظيرٍ بشري له، وهو ينحت لها لفظًا آخر، هو لفظ conspiring، فهو نشاطٌ لا متناه، يجمع بين خلق كل ما في العالم وحفظه، وبين إنتاجه وإكثاره. وما الطبيعة إلا مرحلة في عملية الخلق الكلية، فهي مغامرة أو محاولة إلهية، إن جاز هذا التعبير، والقوى الدافعة لها هي القوى الجديدة العرضية الدينامية الخلاقة، لا التحديد العلِّي بما فيه من تماثلٍ دائم. وهكذا فإن عالم الفيزياء ليس عالمًا حقيقيًّا، وإنما هو عالمٌ تصوري فحسب، وهو طيف بلا قوام، إذا ما قارنَّاه بعينية العالم الواقعي وامتلائه وتنوعه اللامتناهيين.
وهو ينظر إلى المرحلة الأصلية للوجود على أنها انسجامٌ سكونيٌّ محكم، وعلى أنها كلٌّ لا يتغير، لا يوجد فيه من كل شيء إلا بذرته، ويسمي فوست هذه المرحلة باسم «المتخيل العظيم the great imaginal»، ومنه يظهر بضربةٍ واحدة النظام الطبيعي، الذي تكتسب فيه الأشياء تنوعًا، ويقابل بعضها بعضًا، وتدخل في التعاقب الزمني. على أن هذه العملية تعكير للانسجام الأصلي، وهي «سقوط ميتافيزيقي»، أو كما كان شوبنهور خليقًا بأن يسميها جريمة الفردانية. وهكذا يسعى المبدأ الكوني إلى الهروب من هذا الرجوع إلى الزمان واستعادة انسجامه. فالنظام الحالي للحوادث هو ساحة تتصارع فيها القوى التي تعمل على الإخلال بالنظام، وتلك التي تعمل على بعث الانسجام، ولا بد أن يُكتب النصر للأخيرة؛ لأنها هي التي تضفي على العملية الكونية معناها، أي تطورها الخلاق، وصعودها إلى مستوياتٍ أعلى للوجود، وفي هذا الصعود — الذي هو عودة الأشياء إلى قلب الوجود كله — يكون الخلاص من كل نقص وتنافر وشر. إن العالم الذي نحيا فيه مليء حقًّا بالألم والحاجة والخطيئة، غير أن لنا الحق في أن نفترض أنه قادر على تحسين ذاته، وأنه سيعمل بالتدريج وبمضي الوقت، على مساعدة الخير على الانتصار.

تتحقق في باكس دعوة جرين للجيل الجديد في العَقْد الثامن من القرن الماضي إلى الانصراف نهائيًّا عن تعاليم مل وسبنسر، والتحول إلى مؤلفات كانت وهيجل، ففي شبابه كان يلتزم تمامًا نطاق المذهب التجريبي عند ليويس وبين ومل وسبنسر، كما حضر اجتماعات الوضعيين، وبعد ذلك تعرف إلى إدوارد فون هارتمان في رحلة إلى ألمانيا كان لها أثرها الحاسم في حياته، فأسفر ذلك عن دراسةٍ عميقة للمثالية الألمانية في صورها المتعددة، أقنعته بأن طبيعة الفلسفة الإنجليزية التقليدية سطحية لا أساس لها. هذا التحول الأساسي، الذي نجم عن اتصاله المباشر بخالقي المثالية نفسها، أكثر مما نجم عن اتصاله بأتباعها من الإنجليز، قد حدث في بداية العَقْد التاسع، وقضى باكس بقية حياته مثاليًّا، فمنذ ذلك الحين أصبحت ألمانيا بالنسبة إليه وطنًا روحيًّا، كما كانت من قبلُ بالنسبة إلى كارليل، وكما كانت في نظر معاصره هولدين.

وكان باكس يرى أن القضية الأساسية في المثالية هي المبدأ القائل: إنه لا يمكن أن توجد حقيقة خارج كل علاقة بالوعي، والوعي مركَّب لا ينفصم، يتألف من عواملَ ثلاثة هي، «هذا that» الذي يدرك، «وشيء ما some what» هو الذي يدرك، وصورة الفكر، التي هي علاقة متبادلة بين العاملَين السابقَين. وهكذا تتألف التجربة العينية أو الحقيقة من عاملَين على الأقل: أحدهما مادي والآخر صوري، بحيث تكون وحدة الاثنين هي أساس موضوعية الفكر. وإذا تأملنا الأمر من منظورٍ أوسع، لقلنا إن الثنائية الأولية للواقع تبدو على أنها هي التقابل بين المعقول واللامعقول، أو كما يفضل باكس تسميتها، المنطقي واللامنطقي. وليس معنى ذلك أن هذين يحدثان، أو يمكن أن يحدثا، منفصلَين في التجربة العينية، وإنما هما قابلان للتمييز الواضح بالمعنى الحقيقي، أي بمعنى أن أحدهما يسود في مراحلَ معيَّنة للواقع، والآخر يسود في مراحلَ أخرى. فإلى العنصر المنطقي ينتمي كل ما يقع في مجالَي الفكر والعقل، أما اللامنطقي فيوصف بأنه هو الإحساس الخالص، وهو النزوع والقوة الدافعة في كل حركة وتغير، فالأول يمثل الأوجه السكونية الكلية اللامتناهية للواقع، والثاني يمثل النواحي الحركية والجزئية والمتناهية، الأول إمكان، والثاني واقع، والأول قانون، والثاني اتفاق.
ونستطيع باستخدام لغة ريكرت Rickert، أن نصف تفكير باكس بأنه «متغاير الأسس beterothetic»، إذ يبدأ بتأكيد الواحد «والآخر»، فالاثنان معًا هما اللذان يؤلفان الواقع كله، والتخلي عن أيٍّ منهما لا يدع شيئًا سوى التجريد الخاوي، وفي رأي باكس — وهو رأيٌ غير صحيح — أن طرح العامل اللامنطقي جانبًا هو السمة والمغالطة المميزة لفلسفة هيجل؛ ذلك لأن معارضة باكس لأي مذهبٍ واحدي من هذا النوع، وهي المعارضة التي رأى أنها هي مهمته الرئيسية؛ قد جعلته يميل إلى الانتقال إلى الطرف المضاد الآخر، بحيث أضفى على العامل اللامعقول القيمة الميتافيزيقية العليا، فهو يعرض العملية الكونية على أنها صراعٌ مستمر بين المبدأين، بحيث يسعى المنطقي على الدوام إلى قهر اللامنطقي، ولكنه لا ينجح أبدًا في ذلك نجاحًا كاملًا، وهكذا يميل إلى أن ينسب إلى اللامنطقي مركزًا مطلقًا، وينتهي — بعد التوحيد بينه وبين الإرادة — إلى مذهب في شمول الإرادة panvoluntarism يشترك في نقاطٍ كثيرة مع مذهب شوبنهور. وإلى هذا الحد نراه يحيي الصراع القديم الذي احتدم داخل المثالية الألمانية بين مذهب هيجل ومذهب شوبنهور. وفي الوقت ذاته أدى به النظر إلى المطلق على أنه إرادة، إلى معارضة فكرة برادلي وبوزانكيت عن النسق التام الاكتمال، الذي يظل محتفظًا بانسجامه السكوني الهادئ من فوق كل ما تتصف به الأشياء من عدم استقرار وتنافر، فالمطلق عند باكس هو حركةٌ دينامية وصيرورةٌ مستمرة، وهو تطورٌ دائم التقدم، ولكنه غير متجانس، نحو تحقيق الوعي الذاتي لنفسه، وتلك صورة تحمل طابع فكرة الإرادة عند شوبنهور والمدة عند برجسون.

ويتبدَّى التقابل الأساسي داخل الواقع، في مجال الأخلاق، في صورة التقابل بين الخير والشر، ولكن عندما انتقل باكس إلى عرض تفاصيل هذا التطبيق لمبدئه الميتافيزيقي العام، تناقض على نحوٍ غريب مع مذهبه الميتافيزيقي؛ إذ يظهر لنا، في هذا المجال، أن الخير، لا الشر، هو العامل الأقوى. صحيح أن الشر لا يمكن أن يقضى عليه تمامًا، بل ينبغي أن يظل إمكانه على الأقل قائمًا على الدوام، غير أن الشر العيني — كما نعرفه — عابر، ولا بد أن يقهره الخير ويمحوه. وإذن ففي العملية الكونية ميلٌ أصلي نحو التحقيق الظافر للخير، وفي التجربة ترجح كفة الخير على الشر دائمًا، فالهدف هو الخير، بحيث لا يظل الشر قائمًا إلا من حيث هو إمكانية فارغة. وهنا ينزلق باكس على الرغم منه إلى مياه التفاؤل الضحلة عند هيجل وبرادلي، ملتفًّا بسفينته دون اهتمام بما يقع فيها من تناقض حول صخور تشاؤم شوبنهور، وهي الصخور التي لو كان قد استرشد ببوصلته الميتافيزيقية، لتحطمت سفينته عليها تمامًا، ولنتحدث بلغةٍ مجازيةٍ أخرى، فنقول: إنه عقد زواجًا غير موفق تمامًا بين اللامعقولية الميتافيزيقية وبين التفاؤلية، أو بين مبدأ أساسي عند شوبنهور وبرجسون، ومبدأٍ أساسي لا يقل عنه أهمية عند هيجل وبرادلي.

أما نظرية المعرفة عند باكس، التي لا يتسع المقام هنا لعرضها، فتسير في عمومها في اتجاه كانْت، كما أن فلسفته في تحقيق الإنسان لنفسه روحيًّا، ترتكز على نظرية في القيم يلمح إليها أكثر مما يعرضها صراحةً، وهي تلتقي في نقاطٍ متعددة مع أفكار فندلبانت وريكرت. أما فلسفته في المجتمع فهي ترتبط بالماركسية، كما يتوقع المرء من دفاعه الحار عن الاشتراكية، وإن يكن يفسر الماركسية تفسيرًا مثاليًّا، ويرفض بذلك نظرية ماركس المادية في التاريخ.

والواقع أن الاستقبال الذي لقيته أفكار باكس لا يتمشى مع قيمتها على الإطلاق، فلم يكن له تأثير يستحق الذكر، كما أن الفلاسفة الأكاديميين كانوا يجهلونه تقريبًا، ولما لم يكن قد درس أو درَّس في جامعة، وإنما سار في طريقه الخاص، فقد لقي نفس مصير الكثيرين غيره من الدخلاء، فقد نظرت إليه الأوساط الجامعية المقفلة على نفسها باستياء؛ فأحس مثل شوبنهور — الذي كان يشترك معه في نقاطٍ كثيرة — بشيء من السخط على «الفلسفة الاحترافية لأساتذة الفلسفة».١٢٧
كان هورنلي — مثل مرتس Merz — ألمانيًّا في أصله وفي تعليمه الأول، ولكنه كان مواطنًا إنجليزيًّا، وكان أول معلمٍ فلسفي له، وهو طالب بكلية باليول بأكسفورد، هو إدوارد كيرد؛ فاكتسب منه أول ميوله الفلسفية. ولقد عمل بضع سنوات مساعدًا لبوزانكيت في سانت أندروز، فبدأت بينهما صداقة دامت حتى وفاة بوزانكيت.
وكان تأثير بوزانكيت في هورنلي أعظم من تأثير أي مفكرٍ آخر فيه: «فبقدر ما أستطيع أن أحكم، أجد نفسي مدينًا له بالإطار الأساسي لتفكيري الفلسفي الخاص، أكثر مما أدين به لأي كاتبٍ آخر على حدة»،١٢٨ على أنه — باستثناء ذلك — لم يكن مقيدًا بأية مدرسة بعينها أو بأي اتجاهٍ خاص، وإنما كان جهده موجهًا إلى الانتفاع من أذهانٍ متعددة في سبيل هدفٍ مشترك، محاولًا أن يحقق ما أسماه بوزانكيت «بالتقاء الأضداد في الفلسفة المعاصرة». وكان يسعى إلى ما أسماه — مقتديًا بمرتس Merz — بالنظرة الجامعة أو الموقف الجامع، وهو الجمع في التفكير بين كل الأوجه المختلفة للتجربة في كلٍّ منظم. وهو ينظر إلى الروح الفلسفية على أنها — في أعلى تعبير عنها — روح الكل، بحيث إن التفلسف ما هو إلا تلمُّس التفكير طريقه إلى موقفٍ عقلي من الكون في مجموعه، على أن ذلك يعني في نظره أن يضيف المرء إلى المذاهب الموجودة مذهبًا آخر، يُحدَّد فيه لكل شيء مكانٌ ثابت؛ فليس جمود المذهب هو المطلوب، وإنما المطلوب هو اتساق الموقف، دون تقيد بمدرسة أو تبعية لعقيدة.
ويظل موقف هورنلي الجامع ساريًا في معالجته للمشكلات الخاصة، فلنتناول — على سبيل المثال — مشكلة الكليات أو تصورات الفئة؛ فهو — كالهيجليين — يعدُّها عينية لا مجردة، وهي لا تمثل فقط إدراك عدة أشياء على أنها متماثلة، بل أيضًا إدراك فروقها الفردية في سياقٍ متماثل، بحيث يمكن تطبيقها أيضًا على المراحل المتعددة لسلسلة نامية developmental series بل على صور القيمة المثالية. وهكذا فإنها لا تمكن من قيام الأحكام الوصفية والتصنيفية فحسب، بل تمكن من قيام الأحكام المعيارية أيضًا.
ولما كان مركز هورنلي قد أتاح له أن يوسع نطاق تفكيره ويسير فيه بحرية، فقد أخذ عن التفكير المعاصر واستوعبه كما وجده إلى حدٍّ بعيد، وكان موقفه العام مثاليًّا بمعنى أنه تأملي موجَّه إلى الكل. أما تعاليمه فلا تتميز في جميع أجزائها بالمثالية، وليست كذلك بالضرورة، وإنما تحوي عناصرَ مستمدة من أشد المذاهب والاتجاهات تباينًا، وخاصةً تلك التي كانت موجودة في العالم الأنجلوسكسوني في أيامه؛ ففيها عناصر من برادلي وبوزانكيت وغيرهما من المثاليين، ومن فلسفة الطبيعة عند هويتهد، ومن نقد «برود Brood» للآلية، ومن فلسفة ج. س. هولدين J. S. Haldane البيولوجية، ومن «النزعة الكلية Holism» عند سمطس Smuts، ومن الصورة الخاصة التي اتخذها المذهب السلوكي عند هولت Holt، ومن فلسفة الدين عند وب، كما أن فيها عناصر من مينونج Meinong وهوسرل وبرجسون. فتفكيره تلفيقيٌّ توفيقي، وهو، كأي مذهبٍ تلفيقي، جذاب أكثر مما هو محكم، ومتقبل سلبيًّا أكثر مما هو أصيل، ومركَّب صناعيًّا أكثر مما هو خلَّاق.

لا تكاد مثالية «ولدن كار» ترتبط على أي نحو بالكانتيين والهيجليين الإنجليز، فهي تستلهم مصادرَ أخرى وتستمد محتواها منها. ولقد كان مجرى حياته ذاته غير مألوف إلى حدٍّ بعيد، بل يمكن القول إنه كان مثيرًا، فقد كان في البداية كاتبًا في البلدية، ثم في شركة للأسهم والسندات وحضر في هذه الأثناء دراساتٍ مسائية في «كنجز كوليدج» بلندن، فتولد لديه اهتمام بالفلسفة (وكان الكتاب المحببون إلى نفسه هم أفلاطون وباركلي وهيوم). وانضم إلى الجمعية الأرسططالية في السنة الثانية من إنشائها، وسرعان ما أصبح سكرتيرها وواحدًا من أبرز أعضائها. وكان قد تجاوز الخمسين من عمره عندما أدى ظرفٌ عارض إلى تنبهه إلى كتاب برجسون «التطور الخلاق» الذي كان قد ظهر حديثًا، كما وجد أن اهتمامه موزع بين مثالية كروتشه وجنتيلي من جهة، وفيزياء أينشتين الجديدة من جهةٍ أخرى، ومنذ ذلك الحين انفجر نشاطه، وتبدَّى ذلك في سلسلةٍ ضخمة من الكتابات الفلسفية التي شملت ترجمات، ومؤلفات للعرض والشرح، ومحاولاتٍ مستقلة لبناء مذهبٍ بنَّاء، وقد شغل أول منصبٍ أكاديمي له وهو في الحادية والستين من عمره، وهو كرسي الفلسفة بجامعة لندن، ثم انتقل بعد سبع سنوات إلى كرسيٍّ مماثل في أمريكا، وكرس له السنوات الست الباقية من حياته الغريبة الرائعة.

أما نظرته الفلسفية الخاصة، التي عرضها أولًا في كتاباته النقدية الشارحة، فقد بلغت صورتها النهائية في كتابه «أفكار تأملية»، وهو كتاب موجز ولكنه مثقل بالمعاني. ويتألف الكتاب من مركب من عدة اتجاهاتٍ فكرية كان قد استوعبها استيعابًا خارجيًّا. وقد احتلت ميتافيزيقا برجسون مكان الصدارة بين هذه الاتجاهات؛ إذ إن تعرُّفه إليه لأول مرة كان له فيه تأثير بلغ من العمق حدًّا جعله يسمي هذا التأثير تحولًا فلسفيًّا كاملًا. ولقد كان هو أول من دعا إلى البرجسونية في إنجلترا، وظل أكثر أنصارها تحمسًا، وكان يعد صاحبها آخر فيلسوفٍ عظيم ظهر في العالم، ونبي مذهبٍ مثاليٍّ جديد في الفعل والخلق. أما المؤثر التالي فأتاه من المثالية الإيطالية التي بذل جهده لكي ينشرها بدورها، وأتى المؤثر الأخير من الفيزياء الجديدة، ففي النزاع الذي نشب بوجهٍ عام بعد الحرب، حول التفسير الفلسفي لنظرية النسبية، انضم إلى صفوف أولئك الذين علقوا عليها أهميةً كبيرة، وحاولوا استخلاص نتائجها الفلسفية واستيعابها، وأصبح هدفه الأساسي إيجاد «تحالف ودي» بين الفيزياء الحديثة والميتافيزيقا الحديثة، وأكد مرارًا — على وجه العموم — ضرورة التعاطف والتعاون الوثيق بين الفلسفة والعلم. وكان يعتقد أن نظرية أينشتين تمثل تجديدًا وتحقيقًا لمذهب الذرات الروحية عند ليبنتس على يد مناهج العلم الحديث، وأن النظرية الجديدة في الذرة، ولا سيما نظرية الكم، لها أهميةٌ عظمى بالنسبة إلى المثالية؛ لأنها هدمت أساس المادية التوكيدية، التي ارتكزت على فيزياء عفى عليها الزمان. ولقد كان تأثير ليبنتس عليه أقوى من تأثير أي مفكرٍ قديمٍ آخر. وكان آخر تعبير عن فلسفته في كتابه «أفكار تأملية» هو في الواقع نظرية في الذرات الروحية، تابع فيها نظرية ليبنتس في نواحٍ عديدةٍ هامة. وله كتابٌ سابق بعنوان «نظرية في الذرات الروحية» يحاول فيه إيجاد مركَّب بين ميتافيزيقا ليبنتس وبين فيزياء أينشتين، أما في نظرية المعرفة فإن موقفه يقترب كثيرًا من موقف باركلي، مع استخلاص نتائج تنتمي إلى مذهب «الذات الوحيدة» (Solipsism)، وهي نتائج لم يتردد في إعلانها صراحةً.

ومن الواضح «أن هذه المثالية الجديدة» — على خلاف القديمة — لم تكد تتأثر بالحركة الفكرية التي بدأت بكانْت وبلغت قمتها عند هيجل، فهي تشابه المثالية القديمة في مهاجمتها للمادية والحتمية والتطورية وغير ذلك من صور المذهب الطبيعي في القرن التاسع عشر، غير أن هجومها كان قائمًا على القول بأن العلم الجديد في القرن العشرين قد هدم النظريات العلمية التي ارتكزت عليها هذه المذاهب، وكان هذا هو السبب الجديد الذي قدمه لاستبدال التطور الخلاق بالتطور الآلي، والحرية والتلقائية بالضرورة، والصيرورة بالوجود، والأفعال بالأشياء، والحياة بالمادة، والحدس بالذهن المقالي.

وهكذا ينبغي إدراج مذهب كار ضمن «فلسفات الحياة» التي يتميز بها وقتنا هذا، والتي أثبت برجسون أنه أروع وأقوى ممثل لها. وتقترب هذه الفلسفة في نواحٍ مُعيَّنة من البرجماتية، وإن لم يكن التقارب معترفًا به. أما الصفات التي ادعتها لنفسها فهي أنها مثالية (على غرار ليبنتس وباركلي) في الميتافيزيقا، وإدارية في الأخلاق، ومجددة في الدين، ونسبية في العلم. وعلى الرغم من كل ما بدا عليها من وحدة، فقد تأثرت بعمق بكثرة مصادرها، التي بلغت من التنوع حدًّا يحول دون إيجاد أي مركَّبٍ أصيل بينها. وهكذا لم يُفلح كار في صهر كل ما وضعه في بوتقته؛ فكانت النتيجة — على أحسن الفروض — خليطًا مركَّبًا. وعلى الرغم مما أداه من خدماتٍ هائلة، كانت تنطوي على إنكار للذات يصل إلى حد التضحية، في سبيل إيقاظ الاهتمام الفلسفي ونشر الثقافة الفلسفية، فمن الواجب النظر إليه على أنه مفكرٌ تلفيقيٌّ متمكن، أكثر منه مفكرًا أصيلًا، غير أنه كان أكثر الشخصيات جاذبية وأحقَّها بالاهتمام من بين أولئك الذين خدموا الفلسفة وهم هواة.

كان مرتس — مثل بلفورت باكس — «دخيلًا»، فبعد فترةٍ قصيرة من التدريس الأكاديمي، دخل عالم الصناعة، غير أنه ظل في ميدانه الجديد مخلصًا للموضوع الرئيسي لاهتمامه العلمي، فكان يقضي في دراسة الفلسفة أوقات الفراغ البسيطة التي سمحت له بها مسئولياته الضخمة في أعماله الاقتصادية. ولقد ذكر هو ذاته أن مؤلَّفه الرئيسي، تاريخ الفكر الأوروبي، الذي يقع في أكثر من ٢٥٠٠ صفحة، قد كتب معظمه في ساعات الصباح الباكر، ما بين الساعة الخامسة والثامنة، قبل أن يبدأ العمل في أعبائه الثقيلة، ولكنه لم ينجُ من المصير المألوف لأي مفكرٍ دخيل؛ فلم يلق من الفلاسفة المحترفين ما يستحقه من الاعتراف، بل إنهم لم ينتبهوا إليه إلا قليلًا، أو لم ينتبهوا إليه على الإطلاق.

ولقد أثبت مرتس في هذا الكتاب أنه مؤرخ ومشيد لمذهب في آنٍ واحد، فهو قد أثبت مقدرته من حيث هو مؤرخ؛ إذ إن الكتاب إنتاج تظهر فيه المثابرة وسعة الاطلاع التيوتونية بكل وضوح، ويجمع على نحوٍ موفق بين دقة البحث وبين سعة الأفق والتبصر التاريخي العميق، فهو عمل من الطراز الأول. وكانت المهمة التي أخذها مرتس على عاتقه هي عرض الحياة الروحية للقرن التاسع عشر، بكل مظاهرها المتعددة، في صورةٍ واحدةٍ جامعة. وعلى الرغم من أنه لم يستطع أن ينجز مجلدَين كان يعتزم إصدارهما عن الأفكار الشعرية والدينية في ذلك القرن، فإن المجلدات الأربعة المنشورة تكون عملًا قويًّا لم يكتمل، ودليلًا بليغًا على مقدرة مؤلفها الفريدة ونشاطه الذي لا يكلُّ.

كذلك وضع مرتس لنفسه، في ميدان الفلسفة، خططًا طموحة، مستهدفًا تشييد مذهبٍ قائم على أسسٍ واسعة، وهنا أيضًا لم يستطع إنجاز خططه وإكمالها، غير أن من الممكن بسهولة إدراك الاتجاه الذي كان يسير فيه تفكيره، من خلال تلك الأسس التي وضعها بالفعل لمذهبه، فقد كان التأثير الحاسم على تفكيره هو تأثير الفلاسفة الألمان، وهو لم يتأثر بكانت وهيجل بقدر ما تأثر بليبنتس وشيلر ماخر ولوتسه، وأهمهم هذا الأخير، الذي اتصل به شخصيًّا خلال الفترة القصيرة التي درس فيها في جوتنجن. وبعد عودته إلى إنجلترا تأثر أيضًا بالاتجاهات الفكرية الإنجليزية المميزة، ولا سيما تلك التي ارتبطت بباركلي وهيوم، والنوع الجديد من علم النفس الاستبطاني الذي استحدثه وورد وجيمس، أما الحركة المثالية الجديدة في إنجلترا فلم تكد تؤثر فيه على الإطلاق.

ولقد كان جهده الأساسي، الذي عبرت عنه كتاباته التاريخية والفلسفية على السواء منصرفًا إلى بلوغ ما أسماه بالنظرة «الجامعة Synoptic» إلى الواقع، بحيث ينظر إلى أي كل، لا في كثرة أجزائه وعلاقاته فحسب، بل في كليته أيضًا؛ فتلك في نظره هي المهمة المميزة للفلسفة، التي ترتد لهذا السبب آخر الأمر إلى نوع من الرؤية الفنية، على الرغم من كل ما في تفاصيلها من دقة وما في براهينها من إحكام. ومن هنا كان حرصه على التوفيق بين العلم والدين، اللذين كان انفصالهما وتنافرهما في رأيه خطرًا يهدد وحدة حياتنا الروحية. ولقد طبق على هذه المشكلة العامة منهجه الجامع، كما طبقه على عدد من المشكلات الخاصة، كمشكلة العلاقة بين العالم الباطن والعالم الخارجي، وبين الذات والموضوع، وبين الواقع والقيمة، وحاول، مستلهمًا روح لوتسه، أن يزيل الشقاق القديم بين حاجات القلب ونتائج البحث العلمي، ولم يكن يحتقر العلم — فقد كان له هو ذاته إلمامٌ واسع بالفيزياء والكيمياء — ولكنه رأى أن كل بحثٍ علمي لا يتعلق بالتجربة أو الواقع من حيث هو كلٌّ، وإنما بوجهٍ محدود جدًّا له، متبعًا في سيره مناهج الانتقاء والتجريد والتحليل والتصنيف. ولا ينتقل إلى مرحلة الإدراك التركيبي إلا في مرحلةٍ متأخرة، وفضلًا عن ذلك فالعلم لا يدرس إلا الوقائع لا القيم. أما وجهة النظر الدينية فهي — على العكس من ذلك — تدرك التجربة من حيث هي كلٌّ، وتؤكد الارتباطات الإيجابية الهامة في داخلها، وتتجاوز الوقائع إلى القيم، وتركز اهتمامها على الطابع الشخصي للعالم الخاص الذي تكوِّنه القيم، في مقابل العالم اللاشخصي للعلم، والمنهج المتبع في حالة الدين جامع موجَّه صراحةً إلى كشف لغز الشخصية، الإنسانية منها والإلهية، وهي المشكلة التي يعجز العلم الطبيعي عن حلها، وفي هذا التأكيد لمشكلة الشخصية يقترب مرتس من لوتسه.
ولقد أدى تطبيق مرتس لهذه النظرة الجامعة على مشكلات علم النفس ونظرية المعرفة إلى وقوفه موقف المعارضة الشديدة من هيوم، الذي كان يحمل له مع ذلك احترامًا شديدًا ويدين له بالكثير. فقد أوضح أن هيوم، عندما حل الوعي إلى حزمة من الانطباعات تتصور على مثال الذرات المادية، قد أغفل حقيقةً واضحة هي أن الوعي سابق على تحليله، وينبغي أولًا أن يوجد لكي يمكن القيام بأي تحليل له. وهكذا كان مرتس متفقًا تمامًا مع علم النفس الجديد عند وورد في استعاضته عن الفكرة القديمة القائلة بمجموعةٍ متراكمة من المعطيات المنفصلة المفكَّكة، بفكرة المجرى المتصل للوعي، وفي إدخاله للمعطيات الانفعالية والإرادية داخل هذا المجرى المتصل إلى جانب الإحساسات. وقد أدى به التفكير في وحدة الوعي إلى القول بأن التنوعات والتميزات التي تجلبها التجربة — والتجربة وحدها — تفترض كلها نوعًا من الوعي «الأولي primordial»، الذي يتصف هو ذاته بعدم التنوع وعدم الانقطاع، والذي يتخلص بالتالي من أنواع الانفصال، كذلك الذي يوجد بين الذات والموضوع، أو بين الذهن والجسم. وواضح أن هذا الرأي يشبه إلى حدٍّ بعيد فكرة برادلي في التجربة التي لا تعرف توسطًا، والتي تتألف من إحساسٍ محض. وليس من المؤكد إن كان مرتس قد استمدها من برادلي أو توصل إليها مستقلًّا، غير أن الواضح أن هذه الفكرة يمكن أن تندرج — بطريقةٍ طبيعيةٍ عضوية — في مذهبٍ كذلك الذي يتطلبه مثله الأعلى في النظرة الجامعة إلى الأمور.
١  التراث الأفلاطوني في الفلسفة الأنجلوسكسونية The Platonic Tradition in Anglo-Saxon Philosophy (١٩٣١).
٢  تم هذا التعرف، لأول مرة خلال زيارته لألمانيا عام ١٧٩٨-١٧٩٩، ثم حدث بعد ذلك عن طريق دراسته المتعمِّقة للأدب الألماني والفلسفة الألمانية.
٣  للاطلاع على مزيد من المعلومات حول دخول المذهب الكانتي إلى إنجلترا، انظر كتاب، «كانت في إنجلترا»، تأليف ر. ولك R. Wellek ١٩٣١ (برنستون).
وكانت أولى الكتب عن كانت في إنجلترا هي، «نظرة عامة وتمهيدية إلى مبادئ الأستاذ كانت General & Introductory View of Professor Kant’s Principles» من تأليف ف. أ. نيتش F. A. Nitach، ١٧٩٦، و«مبادئ الفلسفة النقدية Principles of Critical Phil.». من تأليف ج. س. بك J. S. Beek، ترجمة ج. رتشاردسن J. Richardson، عام ١٧٩٧، و«أركان الفلسفة النقدية Elements of Critical Phil.». تأليف أ. ف. م. ويليش Wilich ١٧٩٨.
أما أولى الترجمات الإنجليزية لكانت فهي، «بحوث ومقالات في موضوعاتٍ أخلاقية وسياسية وموضوعاتٍ فلسفيةٍ متعددة Essays & Treatises on Moral, Political and Various Philosophical Subjects» في مجلدَين، ١٧٩٨-١٧٩٩، و«ميتافيزيقا الأخلاق Metaphysic of Morals» ١٧٩٩، «المنطق Logic» ١٨١٩، «المنطق لكل ميتافيزيقا مقبلة Prolegomena to Every Future Metaphysic» ١٨١٩، وقد أعيد طبع الكتابَين الأخيرَين مع «بحث … في أسس إثبات وجود الله Enquiry … Into The Grounds of Proof for the Existence of God» ١٨٣٦، وكان ج. رتشاردسن هو الذي قام بجميع هذه الترجمات، وظهرت ترجمة «ج. و. سمبل J. W. Semple» لكتاب «ميتافيزيقا الأخلاق Met. of Ethics» لأول مرة في ١٨٣٦، وكانت الترجمة الأولى لأول كتب «النقد» من عمل «فرانسيس هيود Francis Haywood» بعنوان Critic of Pure Reason ١٨٣٨ (الطبعة الثانية ١٨٤٨)، وقد نشر هيود عام ١٨٤٤ «تحليلًا لنقد العقل الخالص عند كانت An Analysis of Kant’s Critick of Pure Reason».
٤  نشر دي كوينسي عدة مقالات عن كانْت، كما نشر ترجمات لأجزاء من مؤلفاته في مجلاتٍ شعبية. وللاطلاع على التفاصيل يرجع القارئ إلى كتاب ر. ولك، «كانت في إنجلترا»، ١٩٣١، ص١٧١–١٨٠.
٥  بحث استطلاعي فلسفي Exploratio Philosophica، الجزء الثاني، ص٢٩٦.
٦  «اختبار لفلسفة المنفعة An Examination of the Utilitarian Phil.». ١٨٧٠، «بحث في الأفكار الأخلاقية A Treatise on the Moral Ideas» ١٨٧٦، «بحث استطلاعي فلسفي، المجلد الثاني»، ١٩٠٠.
٧  أعيد طبعهما في كتابه «محاضرات في الفلسفة اليونانية المتقدمة ومخلفات فلسفية أخرى Lectures on Early Greek Phil. and other Philosophical Remains» ١٨٦٦، المجلد الثاني.
٨  لم يكن ذلك الذي تأثر به هو باركلي المعروف تاريخيًّا، بقدر ما كان باركلي كما يرى من خلال منظار ألماني، كذلك حوَّر فريير أفكاره شأنها شأن كل ما اقتبسه، على النحو الملائم لذهنه الخاص.
٩  وذلك في مقاله «باركلي والمثالية Berkeley & Idealism» في «مجلة بلاكوود Blackwood’s Magazine» ١٨٤٢، المجلد الحادي والخمسين (أعيد طبع المقال في كتابه «محاضرات في الفلسفة اليونانية إلخ»، ١٨٦٦، المجلد الثاني).
١٠  كان فريير يعني، بتسمية فلسفته «اسكتلندية في الصميم» أنها أصيلة تمامًا، وأنها نتاج قوي وليست اقتباسًا أجنبيًّا، ولقد كان في هذا صادقًا.
١١  انظر على الأخص كتابه التاريخي الضخم «الفلسفة الأخلاقية والميتافيزيقية Moral & Metaphysical Phil.»، في مجلدَين، ١٨٧١-١٨٧٢ وهو توسيع لمقال في «دائرة المعارف المتروبولية Encyclopaedia Metropolitans» (١٨٤٨).
١٢  حزب أو مدرسة في التفكير اللاهوتي ومنفعة عن المذهب الأنجليكاني، كان أنصارها يقولون بآراء متحررة واسعة الأفق، ويدعون إلى قبول أوسع قدرٍ ممكن من الأفكار. وقد كانت أبرز فترات نشاطهم هي النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن زعمائهم الآخرين، توماس أرنولد، وتشارلس كنجل و. ف. و. روبرتسون. (المترجم)
١٣  يوهان إدوارد إردمان (١٨٠٥–١٨٩٢)، مؤرخٌ فلسفيٌّ مشهور، ومفكرٌ هيجلي، كان أستاذًا بجامعة «هاله» ألَّف كتبًا أهمها «محاولة لعرض تاريخ الفلسفة الحديثة عرضًا علميًّا» (في ستة مجلدات) و«معالم تاريخ الفلسفة» (في مجلدَين) و«معالم علم النفس». (المترجم)
١٤  رسالةٌ مؤرخة في ١٨٨٤، وقد استمدَّ هذا النص والاقتباسات السابقة من رسائله من كتاب «حياة جويت ورسائله Life & Lettres of Jowett» تأليف أ. أبوت E. Abbott ول. كامبل L. Campbell، في مجلدَين، ١٨٩٢.
١٥  تُرجِمت جميع كتب هيجل الرئيسية إلى الإنجليزية، وفيما يلي بيان بأهم الترجمات، «ظاهريات الروح The Phenomenology of Mind» (ترجمة ج. ب. بيلي J. B. Baillie) ١٩١٠، في مجلدَين، الطبعة الثانية مراجعة، في مجلدٍ واحد، ١٩٣١، «علم المنطق Science of Logic» (ترجمة و. ﻫ. جونستون W. H. Johnston ول. ج. ستروذرس L. G. Sturthers)، في مجلدَين، ١٩٢٩، كذلك قام ﻫ. س. ماكران H. S. Macran بترجمة الجزء الثاني من هذه الطبعة الموسعة «للمنطق» بعنوان «نظرية المنطق الصوري Doctrine of Formal Logic»، ١٩١٢، «منطق العالم والفكرة Logic of World & Idea» (١٩٢٩)، كما ظهر كتابا «منطق هيجل Logic of Hegel» في ١٨٧٤، والطبعة الثانية المراجعة سنة ١٨٩٢، و«فلسفة الروح Phil. of Mind»، ١٨٩٤، وقام بترجمتها و. ولاس W. Wallace بوصفهما الجزء الأول والثالث من «دائرة المعارف Encyclopaedic»، أما الجزء الثاني (في فلسفة الطبيعة) فلم يترجم بعدُ.
[ملحوظة للمترجم: ظهرت في نيويورك سنة ١٩٥٩ ترجمةٌ إنجليزية لكتاب «دائرة المعارف Encyclopaedia of Phil. By Hegel»، قام بها جوستاف موللر Gustav E. Muoller، وهو ألماني الأصل، ولكن من أهم عيوبها أنها ترجمة مختصرة، تتخللها أحيانًا تعليقات للمترجم خلال النص. وهي تتضمن الأجزاء الثلاثة لدائرة المعارف، ولكن الجزء الثاني (وهو فلسفة الطبيعة) مختصر اختصارًا شديدًا، وربما كان لهذا الاختصار ما يبرره، ولكن العمل قد فقد بذلك طابعه العلمي الصحيح.]
وهناك أيضًا «فلسفة الحق (أو القانون) Phil. of Right» (ترجمة س. ودايد S. W. Dyde) ١٨٩٦، و«محاضرات في فلسفة التاريخ Lectures on the Phil. of Hist» (ج. سيبري Sibree)، ١٨٥٧، و«فلسفة الفن The Phil. of Fine Arts» «ف. ب. أوسماستن F. B. Osmaston» ١٩١٦–١٩٢٠، في أربعة مجلدات، ومحاضرات في فلسفة الدين Lectures on the Phil. of Religion، «أ. ب. سبيرز E. B. Speirs وج. ب. ساندرسن J. B. Sanderson» ١٨٥٩، في ثلاثة مجلدات، و«محاضرات في تاريخ الفلسفة Lectures on the Hist, of Phil.». «أ. س. هولدين E. S. Haldane وف. ﻫ. سيمسون F. H. Simson» ١٨٩٢–١٨٩٥، في ثلاثة مجلدات.
١٦  يوهان فريدرش هربارت (١٧٧٦–١٨٤١)، فيلسوفٌ ألماني، خلف كانت وقتًا ما في كرسي الفلسفة بجامعة كونجزبرج. كان مذهبه أقرب إلى ليبنتس منه إلى كانت، فقال بوجود الكثرة في الواقع، وأكد أن لكل عنصر في هذه الكثرة وجوده المطلق المستقل من الذهن. وكانت له مساهماتٌ هامة في علم التربية. (المترجم)
١٧  إدوارد فون هارتمان (١٨٤٢–١٩٠٦) فيلسوفٌ ألماني، جمع في مذهبه بين هيجل وشلنج وشوبنهور، مع إضافة عنصر «اللاشعور» الذي يلعب دورًا رئيسيًّا خلاقًا، وله مؤلفات متعددة أهمها «فلسفة اللاشعور». (المترجم)
١٨  بدأت الترجمة الإنجليزية «للمذهب» على يد جرين، الذي اضطلع بمسئولية النشر، وبعد وفاته في ١٨٨٢، احتل بوزانكيت مكانه، وكان من بين المترجمين، إلى جانب جرين وبوزانكيت، ونتلشيب Nettleship وكونبيير Conybeare وأ. ك. برادلي، أما «العالم الأصغر» فقد ترجمته إليزابث هاملتن (ابنة السير وليام هاملتن) وأ. أ. كونتانس جونس E. E. Constance Jones، ووصل إلى طبعةٍ رابعة عام ١٨٩٤. وقد ترجم كونبيير مجموعة من محاضرات لوتسه بعنوان «الموجز في فلسفة الدين Outlines of a Phil. Religion» ١٨٩٢، (الطبعة الثالثة ١٩٠٣). ومن الأدلة الأخرى على الاهتمام، كتاب هنري جونس «عرض نقدي لفلسفة لوتسه Critical Account of The Phil. of Lotze» (١٨٩٥).
١٩  رودلف أويكن (١٨٤٦–١٩٢٦) كان أستاذًا للفلسفة بجامعة بينا، وحصل على جائزة نوبل عام ١٩٠٨، نادى بمثاليةٍ جديدةٍ مبنية على فكرة الفاعلية Activism، وعلى سيطرة الروح على الحياة، وتأكيد قيمة الحياة التي يشترك الإنسان مع الله في دعم قيمتها، ومذهبه على العموم أقرب إلى كانت منه إلى هيجل. (المترجم)
٢٠  في ترجمة ابنة سترلنج لحياة أبيها (ص١١٤ وما يليها) يجد القارئ وصفًا للطريقة التي أثيرت بها حماسته هذه لهيجل. فقد كانت إقامته الطويلة نسبيًّا في هيدلبرج، سنة ١٨٥٦، هي السبب الأكبر الذي دفعه إلى تعميق ذلك الاهتمام الذي أحسَّ به من قبلُ، وحفزه على القيام بدراسةٍ منظمة لمؤلفات هيجل، وأوقعه تمامًا في إطار الفكر الألماني، وأدى به إلى البدء في كتابه الهائل عن هيجل، الذي كرَّس له ما يقرب من عشر سنوات من العمل الشاق الدائب.
وهناك تلميذٌ مبكرٌ آخر لهيجل، سار في طريق مستقل تمامًا عن سترلنج، هو تشارلس إدوارد أبلتن C. E. Appleton (١٨٤١–١٨٢٩) مؤسس مجلة «الأكاديمية The Academy» ورئيس تحريرها. وقد تلقَّى أبلتن بدوره تعاليم هيجل في هيدلبرج، حيث درس على إدوارد تسلر E. Zeller، ثم على ميشليه Michelet في برلين، كما اتصل «بروج A. Ruge». وكان أبلتن من أوائل مَن ألَّفوا محاضرات عن هيجل في أكسفورد، وكان من أهدافه في ميدان التأليف أن يعيد كتابة «المنطق» لهيجل، ولكن وفاته المبكرة حالت دون ذلك.
٢١  «سر هيجل» المجلد الأول، ص١٤٤ وما يليها (ص٩٧ في طبعة ١٨٩٨).
٢٢  المجلد الأول، ص١٥٦ (ص١٠٥ في طبعة ١٨٩٨).
٢٣  المرجع السابق، نفس الموضع.
٢٤  المجلد الأول، ص٦٠ (ص٣٨ وما يليها في طبعة ١٨٩٨).
٢٥  المجلد الأول، ص ٧١ (ص٤٦ في طبعة ١٨٩٨).
٢٦  المجلد الأول ص٧٣ (ص٤٧ في طبعة ١٨٩٨).
٢٧  المجلد الأول ص٧٧ (ص٥٠ في طبعة ١٨٩٨).
٢٨  المجلد الأول ص١١٦ (ص٧٨ في طبعة ١٨٩٨).
٢٩  دافيد فريدرش شتراوس (١٨٠٨–١٨٧٤)، مفكرٌ لاهوتيٌّ ألماني، كان تلميذًا لهيجل، أثار كتابه عن «حياة المسيح» (١٨٣٥) عاصفة وأحدث انقلابًا في ميدان التفسير الديني، كان يدعو إلى إحلال دينٍ مبني على فكرة «شمول الألوهية» والعلم الطبيعي محل المسيحية بصورتها التقليدية. (المترجم)
٣٠  إرنست رينان (١٨٢٣–١٨٩٢)، أديب ولغوي ومؤرخٌ فرنسي، ثار على المسيحية التقليدية، واشتغل أستاذًا للغات السامية بالكوليج دي فرانس، وألَّف عن ابن رشد ومذهبه، وفي حياة المسيح، وفي اللغات والآداب السامية (ولا سيما العبرية). (المترجم)
٣١  لودفيت أندرياس فويرباخ (١٨٠٤–١٨٧٢)، فيلسوفٌ ألماني، ألَّف عن الخلود، وعن بعض الفلاسفة، وأشهر كتبه هو «ماهية المسيحية» (١٨٤١)، ثار على كل سلطة تعلو على الإنسان، سواء أكانت دينية أم اجتماعية، فلم ترضَ عن آرائه الدوائر المحافظة ولا الدوائر الثورية المتطرفة. (المترجم)
٣٢  انظر الفصل الثاني من هذا الكتاب. (المترجم)
٣٣  أشهر مؤلفات كارليل، يرسم فيه البطل «تويفلسدروخ Teufelsdröckh» بحياته وآرائه معالم فلسفةٍ صوفيةٍ غريبة اسمها «فلسفة الملابس Phil. of Clothes»، ينظر فيها إلى العالم المادي على أنه رداء يغطي العالم الروحي. وقد ظهر في هذا الكتاب أسلوب كارليل في قمته، بما فيه من اندفاع وحماسة وقوة؟. (المترجم)
٣٤  المجلد الأول، ص١١ من المقدمة (ص٢٢ من المقدمة في طبعة ١٨٩٨).
٣٥  المجلد الأول، ص٣١٥ (ص٢١٤ في طبعة ١٨٩٨).
٣٦  المجلد الأول، ص١٤٨ وما يليها (ص١٠٠ في طبعة ١٨٩٨).
٣٧  أ. كيرد، في مقدمته لكتاب «مقالات في النقد الفلسفي Essays in Philosophical Criticism» (١٨٨٣)، ص٥.
٣٨  فرديناند كريستيان باور (١٧٩٢–١٨٦٠)، لاهوتيٌّ ألماني وناقد للعهد الجديد، شغل كرسي اللاهوت في توبنجن منذ ١٨٢٦، وأسس مدرسة توبنجن للاهوت، وكان أول من استخدم المنهج التاريخي الدقيق في دراسة المسيحية الأولى. (المترجم)
٣٩  اقتُبس هذا النص في مجلة Mind، المجلد العاشر (١٩٠١)، ص١٩.
٤٠  مقدمة «للأخلاق» ص٢٤.
٤١  مقدمة للأخلاق، القسم ٨٢.
٤٢  أما القول مع هبهوس (في كتابه «النظرية الميتافيزيقية للدولة Metaphysical Theory of the State»، ١٩١٨) إن جرين قد احتفظ بنزعته الإنسانية على الرغم من مثاليته الميتافيزيقية، فهو قول يكشف عن سوء فهم غريب للروح الحقيقية للمثالية، بحيث لا يمكن أن يُعْزَى إلا إلى عقلية زمن الحرب. ولقد حاول ج. ﻫ. مويرهيد من قبلُ أن يزيل أثر سوء الفهم هذا، فكتب في ١٩١٥ (في «الفلسفة الألمانية في علاقتها بالحرب German Phil. in relation To the War» ص٣٩)، علينا ألا نبحث في الأسس الفلسفية للنزعة العسكرية السائدة اليوم، لا في الهيجلية، وإنما في رد الفعل العنيف على الفلسفة المثالية بأسرها، الذي حدث بعد وفاة هيجل بقليل، (انظر أيضًا مجلة Mind، المجلد الثالث والثلاثين، ١٩٢٤، ص٢٣ وما يليها — الناشر).
٤٣  «محاضرات ومخلفات فلسفية Philosophical Lectures & Remains» في مجلدَين (أعيد طبع المجلد الثاني في ١٨٩٨ بعنوان «محاضرات من جمهورية أفلاطون Lectures on the Republic of Plato» الطبعة الثانية)، وقد ترجم نتلشيب جزءًا من المؤلَّف الخاص بالمنطق في الترجمة الإنجليزية لكتاب لوتسه Lotze «مذهب في الفلسفة System of Phil.». نشره بوزانكيت (١٨٨٤).
٤٤  «تطور الدين» المجلد الأول ص٥٧٥.
٤٥  المرجع نفسه ص١٧١.
٤٦  نُشِرَ أولًا في الطبعة التاسعة من «دائرة المعارف البريطانية» المجلد الخامس، ١٨٧٦، وأعيد طبعه في الطبعة الحادية عشرة.
٤٧  نُشِرَ أولًا في الطبعة التاسعة من «دائرة المعارف البريطانية» المجلد ١٦، ١٨٨٣، وأعيد طبعه في «المقالات».
٤٨  وتوفِّي عام ١٩٣٩. (المترجم)
٤٩  «علم المنطق عند هيجل Hegel’s Science of Logic» ترجمة جولستون وستروثرس Johuston & Struthers، في مجلدَين، ١٩٢٩.
٥٠  «مقدمة لدراسة فلسفة هيجل Prolegomena to the Study of Hegel’s Phil.». الطبعة الثانية، ص١٣ من المقدمة.
٥١  طُبِعَ أولًا في «أعمال الجمعية الأرسططالية Proceedings of the Aristotelian Society» المجلد الأول، ١٨٩١، وأعيد طبعه في ١٨٩٣ في كتابه الذي يحمل نفس العنوان.
٥٢  توفي في ١٩٤٠. (المترجم)
٥٣  «مشكلات كونية»، ص٦ من المقدمة.
٥٤  «معالم الميتافيزيقا»، الطبعة الثالثة (١٩٢٩)، ص١١.
٥٥  «أركان الفلسفة الإيجابية»، ص٣٩٢.
٥٦  «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، نشره مويرهيد، المجلد الأول، ص٢٤٢.
٥٧  يعتقد مويرهيد، في بحثه الرائع عن ماكنزي (في «أعمال الأكاديمية البريطانية»، ١٩٣٦) أن ماكنزي هو الذي قال بفكرة العالم بوصفه من خلق الخيال قبل أن يقول بها «فوست» بوقتٍ طويل، وهذا اعتقاد تؤيده فقرات معيَّنة ينسب فيها ماكنزي الفكرة إلى إدوارد كيرد («معالم الميتافيزيقا»، الطبعة الثالثة، التصدير، و«مشكلات كونية»، ص٤٥)، ومع ذلك فإني أعتقد أن من الصحيح القول إن الاهتمام المتزايد الذي أصبح يُولِيه لفكرة الخيال الخلاق، وكذلك تعلُّقه بفكرة العرضية في كتبه الأخيرة؛ كان ناجمًا عن تأثره بوليم جيمس وشيلر وفوست، ولا سيما بهذا الأخير. ويبدو أن ماكنزي يعترف بالكثير في الفقرتَين اللتين أوردناهما منذ قليل، غير أن من الصحيح مع ذلك — بطبيعة الحال — أن بينه وبين فوست أوجه اختلاف عظيمة الأهمية.
٥٨  رودلف شتينر، (١٨٦١–١٩٢٥)، فيلسوفٌ اجتماعيٌّ نمساوي، كان شديد الإعجاب بنظريات «جوته» العلمية، وأسس مدرسة في «دورتاج» بسويسرا طبَّق فيها نظرياته التعليمية الخاصة، التي ترتكز أساسًا على ربط التربية بالمظاهر الروحية والفنية لحياة الإنسان، وقد انتشرت فكرة هذه المدارس منذ ذلك الحين في أرجاء مختلفة من أوروبا الغربية، والأعضاء الثلاثة المشار إليها هنا هي الجسم والنفس والروح. (المترجم)
٥٩  «مسلك إلى الحقيقة Pathway to Reality»، طبعة في مجلدٍ واحد، ١٩٢٦، ص٣٠٩، ٣١٠، ٣١١.
٦٠  المرجع نفسه، ص٤٠٧.
٦١  «ترجمة ذاتية لحياتي» ص٧.
٦٢  وتوفِّي عام ١٩٤٠. (المترجم)
٦٣  هورنليه Hoernlé في مجلة Mind، المجلد ١٦ (١٩٠٧) ص٥٤٩.
٦٤  وتوفِّي عام ١٩٣٩. (المترجم)
٦٥  كذلك حاول بوزانكيت وولدن كار Wilden Carr، في سنوات ما بعد الحرب الأولى، أن يربطا الفلسفة الإنجليزية بالفلسفة الإيطالية، وأستطيع الآن أن أحيل القارئ، فيما يتعلق بمجهود الأول منهما، إلى كتاب «بوزانكيت وأصدقاؤه Bosanquet & His Friends»، نشره ج. ﻫ. مويرهيد (١٩٣٥)، ص٣٠٣–٣٥٣.
٦٦  «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة» نشره ج. ﻫ. مويرهيد، المجلد الثاني، ص٢٣٠.
٦٧  «دراسات أخلاقية»، الطبعة الثانية، ص١٤٨، هامش، انظر هامش ص٣٣.
٦٨  مقالات عن الحقيقة والواقع، ص١٣.
٦٩  المرجع نفسه، ص١ و١١ وما يليها.
٧٠  في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، المجلد الأول، ص٥٧ والصفحة التالية.
٧١  دراسات أخلاقية، الطبعة الثانية، ص٨٠.
٧٢  «رسائل وليم جيمس Letters of William James»، ١٩٢٠، المجلد الأول، ص٢٥٨.
٧٣  المجلد الأول، ص٣٥٤.
٧٤  مبادئ المنطق، الطبعة الثانية، المجلد الأول، ص١٥.
٧٥  المرجع نفسه، المجلد الأول، ص٢٤٧ والصفحة التالية.
٧٦  «التراث الأفلاطوني»، ص٢٢٤.
٧٧  روى ذلك أ. و. بن A. W. Benn في كتابه «تاريخ المذهب العقلي الإنجليزي في القرن التاسع عشر History of English Rationalism in the 19th Century» المجلد الثاني، ص٤٢١.
٧٨  تصدير الطبعة الأولى لكتاب «المظهر والواقع».
٧٩  «مقالات في الحقيقة والواقع»، ص١٩٩.
٨٠  لوشيوس سرجيوس كاتالينا (١٠٨–٦٢ق.م.)، كان من أعضاء مجلس الشيوخ في عهد شيشرون، وقد دبر مؤامرة لقتل هذا الأخير ولكن نبأها وصله ففضحها في مجلس الشيوخ في خطبةٍ مشهورة، وقد اشتهرت حياته كلها بالغش والتآمر وارتكاب الجرائم. (المترجم)
٨١  سيزار بورجيا (١٤٧٦–١٥٠٧)، حاكمٌ إيطاليٌّ طموح، كان يهدف إلى إخضاع إيطاليا الوسطى لحكمه، واتهم بالتآمر على قتل أخيه الأكبر تحقيقًا لهذا الغرض. (المترجم)
٨٢  المظهر والواقع، ص٢٠٢.
٨٣  «أبحاث في الحقيقة والواقع»، ص٣٤٨.
٨٤  انظر، في موضوع التقابل بين الموقفَين والمزاجَين هذا، كتاب مويرهيد، «ب. بوزانكيت وأصدقاؤه»، ص٢٤٦ والصفحة التالية.
٨٥  ظهرت ترجمةٌ إنجليزية لكتاب زيجفارث «المنطق»، في ١٨٩٥، وفي نفس العام أصبحت المترجمة، «هيلين دندي Helen Dendy» زوجة لبوزانكيت.
٨٦  نظرية مؤدَّاها أن الحقيقة هي علاقة بين الحكم الذهني وبين الواقع، يكون فيها الحكم نسخة لأصل هو الواقع، أي إن الحقيقة تكون في التطابق بين الحكم والواقعة الخارجية مثلما تنطبق النسخة على أصلها. (المترجم)
٨٧  انظر «ب. بوزانكيت وأصدقاؤه»، [الباب الأول: المدارس الفكرية المتقدمة – الفصل الثالث: المدرسة التطورية الطبيعية] وأجزاء متعددة من الكتاب.
٨٨  «مبدأ الفردية والقيمة»، ص٣٧٧.
٨٩  وتوفِّي في ١٩٣٨. (المترجم)
٩٠  «شرح على منطق هيجل»، ص٣١١.
٩١  المرجع نفسه، ص٣١١.
٩٢  دراسات في الديالكتيك الهيجلي.
٩٣  «طبيعة الوجود»، ص٤٧.
٩٤  «طبيعة الوجود»، المجلد الثاني، ص٤٧٩.
٩٥  البيت الأخير من «الكوميديا الإلهية».
٩٦  في مجلة Contemporary Review، ١٨٩٤، وقد أعيد نشره في كتابه «مركز الإنسان في الكون».
٩٧  في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، نشر ج. ﻫ. مويرهيد، المجموعة الأولى، ص ٤١٥ والصفحة التالية.
٩٨  «مقالات وأحاديث Essays & Addresses»، المجلد الثاني، ص١٣٥–١٥٤.
٩٩  فرع من الكانتية الجديدة، كان في أساسه ثورة على المعقولية المتطرفة التي اتخذتها الاتجاهات المثالية بعد كانْت، ومحاولة لإيجاد دور للشعور، إلى جانب العقل، في الفلسفة، عن طريق فلسفة القيم. (المترجم)
١٠٠  هيتريش ريكرت (١٨٩٣–١٩٣٦)، من كبار مؤسسي الكانتية المحدثة، أكد التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الروحية أو الحضارية، كما أكد موضوعية القيم التي رأى أنها هي الموضوع الحقيقي للفلسفة. (المترجم)
١٠١  مبادئ علم النفس، ص٧٧.
١٠٢  فرانتس برنتانو (١٨٣٨–١٩١٧)، فيلسوف ألماني، عارض في مذهبه فلسفة كانت والمثالية الألمانية، وقال بنوع من المذهب الواقعي، وقد ميز في نظريته في علم النفس، بين ثلاث ظواهر أساسية: التصور والحكم والإرادة، وقد أكد أهمية عنصر «القصد» في كل فعلٍ ذهني، وهو من المُمهِّدين لنظرية الجشطلت في علم النفس. (المترجم)
١٠٣  «المذهب الطبيعي واللاأدرية»، ١٨٨٩، المجلد الثاني، ص٨٠.
١٠٤  برادلي، «مبادئ المنطق»، الكتاب الثالث، الباب الثاني، الفصل الرابع، القسم ١٦.
١٠٥  لفظ «الإنتلخيا» يعني، في أصل الاشتقاق اليوناني، ما تكون غايته في ذاته، وهو يصف ما هو كامل أو مكتمل، فالموجود الذي يتصف «بالكمال» يقال في مقابل ذلك الذي يكون بالقوة، ومن أشهر استعمالاته وصف أرسطو للنفس بأنها «الكمال الأول لجسمٍ طبيعي ذي حياة بالقوة.». (المترجم)
١٠٦  شكسبير، هنري الخامس، الفصل الرابع.
١٠٧  جون أف سالسبري (١١١٥–١١٨٠) فيلسوف ورجل كنيسة، تَعلَّم في باريس، على يد أبيلار، وشغل مناصبَ دينيةً هامة، أهمها منصب أسقف شارتر، والكتاب الأول، وهو بوليكراتيكس، هو عرض لآرائه في المدينة الفاضلة على غرار «جمهورية» أفلاطون، أما الثاني — وهو «ميتالوجيكون» — فيعرض فيه مذهبًا فلسفيًّا جمع فيه بين أرسطو والقديس أوغسطين. (المترجم)
١٠٨  لهذا الكتاب ترجمةٌ إنجليزية بقلم ج. و. هارفي J. W. Harvey بعنوان «فكرة المقدس The Idea of the Holy»، ١٩٢٣.
١٠٩  انظر، في موضوع علاقته ببرادلي وبوزانكيت، المراسلات التي دارت بينه وبين هذا الأخير، والتي تكشف بوضوح عن هذه العلاقات، في كتاب «بوزانكيت وأصدقاؤه»، نشره ج. ﻫ. مويرهيد، ١٩٣٥، ص٢١١ والصفحة التالية، وص٢٢٦ والصفحة التالية وص٢٣٧ إلى ٢٤٢.
١١٠  الحجة القائمة على التمثيل هي تلك التي نستدل فيها على وجود الذوات الأخرى من وجودنا نحن، ونعتمد على المماثلة بين الظواهر التي نُجرِّبها في ذاتنا مباشرةً وتلك التي تنسب إلى الذوات الأخرى، لكي نؤكد وجود الأخيرة، ما دامت ذاتنا موجودة. (المترجم)
١١١  وتوفِّي في ١٩٤٥. (المترجم)
١١٢  في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، نشره مويرهيد، المجموعة الثانية، ص٢٢١.
١١٣  ماكس شيلر (١٨٢٤–١٩٢٨)، فيلسوفٌ ألماني له أبحاثٌ هامة في ميادين الفينومينولوجيا والبحث في القيم وعلم الاجتماع وبعض الدراسات النفسية. كان من السمات الرئيسية لتطوره الفكري انتقاله بين مواقفَ متباينة، ولا سيما في صدد مشكلة القيمة الكامنة في الشخصية الإنسانية. (المترجم)
١١٤  «مشكلة السلوك» ص٤.
١١٥  برناردينو فاريسكو (١٨٥٠–١٩٣٥)، فيلسوف ينتمي إلى المدرسة الإيطالية الحديثة، له مؤلفاتٌ قيمة في مشكلة الوجود والفكر، وأبحاث في الفلسفة الدينية والأخلاقية. (المترجم)
١١٦  مذهب في الكنيسة المسيحية يدعو إلى التقيد بالشعائر والطقوس والتعاليم الحرفية للمسيحية ولا سيما الكاثوليكية منها، ويتصف أنصاره عمومًا بروح المحافظة الشديدة والتقيد بحرفية النص الديني. (المترجم)
١١٧  شاءول هو الملك الأول للعبرانيين، وكانت سيرته، كما رواها العهد القديم، غير حميدة، ولا سيما في محاولاته القضاء على داود، أما القديس بولس فمكانته في المسيحية معروفة، والمثل يضرب بطبيعة الحال لتحول شخص متمسك بالدنيا إلى شخص متمسك بالدين. (المترجم)
١١٨  هوجو مونستربرج (١٨٦٣–١٩١٦) عالمٌ نفسيٌّ أمريكي، من أصلٍ ألماني، كان أستاذًا في جامعة هارفارد التي وفد إليها بعد أن أقنعه بذلك وليم جيمس، وأصبح مديرًا لمعمل علم النفس فيها، له كتاباتٌ متعددة في علم النفس وفي الحياة والمشكلات الأمريكية، وهو مؤسس ما يسمى ﺑ «التكنيك النفسي Psychotechnique»، وتمتاز كتاباته بالمزج بين الأبحاث النفسية والأفكار الفلسفية، ولا سيما المثالية منها. (المترجم)
١١٩  ريشارد أفناريوس (١٨٤٣–١٨٩٦)، مؤسس مذهب النقدية التجريبية Empirio-Criticism وهو مذهب يقصر مهمة الفلسفة على وصف وقائع التجربة الخالصة، ويستبعد كل ميتافيزيقا، مستهدفًا من ذلك الوصول إلى «نظرة طبيعية إلى العالم»، وكتابه الرئيسي هو «نقد التجربة الخالصة»، في مجلدَين، ١٨٨٨–١٩٠٠.
١٢٠  توفِّي في ١٩٤٤. (المترجم)
١٢١  «الميتافيزيقا»، الطبعة الثانية، ص٦ والصفحة التالية.
١٢٢  «أفكار تركيبية»، المجلد الثاني، ص٢٨٦.
١٢٣  «أفكار تركيبية»، المجلد الثاني، ص٣٨٧.
١٢٤  لم يعد فوست يعترف بكتابَيه الأولَين اللذين صدرا في ١٨٩٣، ١٩٠٩.
١٢٥  «العالم بوصفه تخيلًا»، ص٢٠٤.
١٢٦  في كتابه «الخيال بوصفه المبدأ الأساسي للعملية الكونية Die Pham taste ale Grundprinaip des Weltpreaesses» (١٨٧٧).
١٢٧  يرجع جزءٌ كبير من موقع هذه العبارة إلى التقارب اللفظي، في اللغة الإنجليزية، بين لفظَي، «الاحترافي professional» ولفظ «الأساتذة professors». (المترجم)
١٢٨  تصدير كتاب «دراسات في الميتافيزيقا المعاصرة»، ويحوي كتاب مويرهيد، «بوزانكيت وأصدقاؤه» (١٩٣٥) رسائلَ متعددة من بوزانكيت إلى هورنلي، تُلقي ضوءًا كبيرًا على التفكير الفلسفي وعلى نموِّه عند الرجلين معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤