الفصل الرابع

الحطام

(القلعة التي سُجِن فيها خسرو برويز.)

(جنديان يعملان في الاستعداد لمجلس في بهو بالقلعة.)

الأول : إن في الفقر سلوة يا صديقي.
الثاني :
فتمتَّع به وحيدًا هنيئًا.
إنني لا أراه إلا عذابًا.
الأول : قد أمِنَّا في الفقر غدر الليالي.
الثاني :
هل ترى تلك نعمة أن أمِنَّا
إذ بلغنا الحضيض؟ أيُّ أمان!
الأول :
ليس في الفقر لو علمنا شقاء.
أنا إن جعت كان حسبي رغيف،
وإذا ما تعبت نمت عميقًا.
لا أبالي إذا تعرَّيت صيفًا،
وشتائي لباسه جلد شاة.
الثاني :
لا تبالي إذ كنت فردًا وحيدًا،
ليس يبكي الأطفال حولك جوعًا.
كن كما شئتَ، عِش فقيرًا، فإني
حانق حاقد على إملاقي.
الأول :
يا صديقي أكنت ترضى بعزٍّ،
ثم تهوي إلى قرار سحيق؟
سل عن المجد والعزازة كسرى،
بعد أن ذاق ذلة المأسور.
الثاني :
إن قلبي يسيل همًّا إذا ما
مرَّ كسرى يختال في الأسر كِبْرًا.
الأول :
حسبه شقوة إذا كان قوم
مثلنا يرحمونه في شقاه.
يا صديقي لا تغترر بلباس
لامع قد يكون سِترًا لبؤس.

(يخطئ الثاني في وضع وسادة.)

(للثاني)

لا تضعها هنا.

(يشير إلى موضع آخر.)

هناك تمهَّل.

(يأخذ الوسادة ويضعها بنفسه كما يحب.)

هكذا، هكذا فِراش الملوك.

(يتراجع إلى الوراء وينظر إلى وضعها معجبًا.)

الثاني (همسًا) :
أتُرى اليوم ريح شيء جديد؟
عند كسرى؟ فهمتَ؟ شيء جديد؟

(يُشير إلى الخارج.)

مجلس ها هنا وسير طويل
في ضياء النهار.
الأول :
ليس عجيبًا
أن نرى الحظ باسمًا بعد عَبْس.
الثاني :
أتراه يعود للمُلك يومًا
بعد تلك الخطوب؟
الأول :
إن الليالي
قد يلدن العجيب يا فيروز.

(يُسمع صوت مقبلًا.)

(يعود مسرعًا إلى العمل.)

هات هذا الغطاء. ويلك أسرع.
ليس في الوقت فسحة. هات. أسرع.

(يُقبلان على العمل بسرعة.)

(يدخل زاذ فرخ وينحني الجنديان.)

زاذ فرخ : ما الذي تصنعان؟
الأول :
هذا مكان
قد أُمرنا بفرشه.

(يدور زاذ فرخ حول المكان.)

زاذ فرخ :
أطعام
وزهور! من ذا أباح؟

(بصوت غاضب)

أجيبا!
الأول : نحن عبدان قد أطعنا.
زاذ فرخ :
ومن ذا
أمر الآمر؟ هل كلينوس يدري؟
الأول :
إنه أمره، وما نحن إلا
خدم ننفِّذ الأمور.
زاذ فرخ :
تقدَّم.

(بلهجة الآمر الغاضب)

سر إليَّ. فليأتِ. أسرع إليه.

(ينحني الجندي ويسرع خارجًا.)

(للثاني)

هل رأيت الذي أتى بالطعام؟
الثاني : حملته وصيفتان وعبد.
زاذ فرخ : ومتى كان؟
الثاني : في بكور الصباح.
زاذ فرخ : هل مضى بعضهم فكلَّم كسرى؟
الثاني : لست أدري، لعل.
زاذ فرخ (يقرَب من الجندي) :
أنت ذكي
أيها الخادم الأمين. تقدَّم.

(يُعطيه مالًا.)

خذ فإني أراك أهلًا لبِري.
الثاني (فرحًا) : سيدي إنني لأمرك عبد.

(يعود الجندي الأول.)

زاذ فرخ (يتجهم) : أين مولاك؟
الأول (يُحيِّي) :
قال «إني مقيم
في حجاب المليك كسرى وأمره.»
زاذ فرخ (غاضبًا) :
حسن. اذهبا.

(يُحيِّيان ويخرجان.)

(يسير غاضبًا.)

(لنفسه)

يقول «مقيم
في حجاب المليك كسرى وأمره.»
حسن. يُدخل الطعام إليه،
ويُهيأ له فراش وثير،
ويقضي النهار بين زهور
وثمار وتحت ظل ظليل.
أي سجن ممهد ونعيم!
لست أدري لعل في الأمر سرًّا.
فكلينوس كان قديمًا عدوي،
ولشيرين قوة وصحاب،
ولكسرى في كل جيش قلوب
ذات وُد، فإن تركناه حيًّا
أوشك الأمر أن يعود جديدًا.
فلنبادر بالأمر قبل الضياع.
نُنفِذ اليوم ما أراده يمضي
بعد حين.

(يمر باذان فيراه زاذ فرخ.)

(لباذان بصوت عالٍ)

باذان! سُمٌّ زعاف.

(بسخرية مرة)

أنت هذا هنا؟ مقام سعيد.
باذان (يضحك ساخرًا) :
لا أظن المُقام إلا سعيدًا.
أنا في السجن، غير أن فؤادي
سابح في العُلا طليقًا سعيدًا.
زاذ فرخ :
سوف تقضي ثُمالة العمر سجنًا،
ثم تمضي إلى الجحيم سجينًا.
باذان :
لن يطول المُقام بي ثم أمضي
عن ديار يسود فيها اللئام.
زاذ فرخ :
أيها النحس، سوف تُلقى رميمًا
طعمة للكلاب.
باذان :
ماذا أبالي
إن أتى الموت أين تُلقى رفاتي؟
زاذ فرخ :
سوف أُلقيكَ جيفة يتولى
مِن أذاها بنات آوى هرابًا.
باذان :
لا توفقت للمكارم يومًا.
أنت أهل لمثل تلك الشرور.
غير أني إن مِت لستُ أبالي
ما شميم الرياح.

(يخرج متمهلًا.)

زاذ فرخ (يسير هائجًا غاضبًا) :
سوف تعاني
سكرات مريرة في العذاب.
ويل نفسي! (ينادي الخادم) فيروز، يا فيروز!

(يدخل الجندي الثاني.)

فيروز (يحيِّي) : أمر مولاي.
زاذ فرخ :
جَدَّ أمر خطير.
ولقد شئت أن أرى صدق قولك.
فيروز :
أنا عبد مولاي. مُرني تجدني
طائعًا ما أمرته.
زاذ فرخ (بصوت مخفض) :
تعلم أني
إن أردت العطاء أعطي سخيًّا،
وإذا ما سطوت أسطو قويًّا.
فيروز (خاشعًا) : زدتَ مجدًا.
زاذ فرخ :
فاليوم كن عند أمري
مخلصًا كي تنال خير الجزاء.
فيروز : ستراني مولاي عبدًا أمينًا.
زاذ فرخ (يخفض الصوت) :
تعرف القبو؟

(يشير فيروز بالإيجاب.)

سر إليه، وحاذر
أن تراك العيون، حتى إذا ما
جئتَ للمدخل الصغير فعالج
خلع قضبانه الكبار، وأسرع
عائدًا ها هنا.

(يعطيه مالًا آخر.)

وسوف تراني
عند وقت الجزاء غير بخيل.
فيروز (مضطربًا) : سوف أمضي للموت إن شئت هذا.

(يخرج مسرعًا.)

زاذ فرخ (لنفسه) :
سوف أَشفي الفؤاد من أعدائي.
وا فؤادي! كأن فيه لهيبًا.

(يدخل كسرى وكلينوس فيتنحى زاذ فرخ إلى ناحية.)

خسرو (لكلينوس وهو لا يرى زاذ فرخ) : يا كلينوس!

(تلوح عليه أمارات الحزن العميق.)

كلينوس : شاه خسرو.
خسرو :
أراني
بعد هذا الضحى أسيرُ طليقًا.
كلينوس :
إن أمر المليك فينا مطاع.
سِر كما شئت آمرًا مختارًا.
خسرو (يضحك ساخرًا) :
كيف يختار ما يشاء سجين؟!
لا يشاء السجين إلا الفرار.
كلينوس :
سِر كما شئتَ سيدي؛ فمليكي
أمر اليوم أن تكون طليقًا
في حمى الحصن حيث شئت تقيم.
خسرو (يرى الأشياء الموضوعة) : ما الذي ها هنا؟
كلينوس :
نُعِد فِراشًا
ها هنا مشرفًا على البستان.
خسرو (بحزن) :
جلسة ها هنا إذا كنت خلوًا
من همومي أحب لي من قصور.
ليتني كنت منذ عشت طليقًا
فوق تلك الجبال أرعى سوامًا.
عشت ما عشت في إسار لتاجي،
وانتهى بي السرى لأسر السجون.
كلينوس : يا مليكي!
خسرو :
كفى وقل: يا أسير.
كشف الدهر عن عيوني غطاء،
كان يُخفي عنهن كُنه الأمور.

(يلتفت فيرى زاذ فرخ فيرفع رأسه كِبْرًا.)

زاذ فرخ (متشفِّيًا) :
ذقتَ سجنًا كما أذقتَ أناسًا
لست إلا مثيلهم في الحياة،
هم أحسوا كما تُحس عذابًا،
من ظلام ووحشة وفراق.
خسرو (بكبرياء) :
لا أبالي إذا يقول مُليم
قد عرفناه لائمًا من قديم.
غير أن العُجاب من كان يخفي
حقده المر تحت سِتر الرياء.
زاذ فرخ (بحقد) : لم تهذبك ظلمة السجن.
خسرو (بكبرياء) :
أقصر.
لست ممن أجيبه بمقال.
أهون الناس ذو الرياء؛ فهذا
إن وزنا الأنام لم يكُ شيئًا.
زاذ فرخ (غاضبًا مضطربًا) :
أيها الشامخ المدِل تذوَّق
بعض ما قد أذقتَ من آلام.
خسرو :
امضِ عني، فما جراحك عندي
ذات وخز، وليس طعنك طعنًا.
زاذ فرخ (بحقد شديد) :
كبرياء ليست تذل لشيء.
أيها الغِطْرِس المدِل، تمهَّل!

(يخرج هائجًا.)

خسرو (يجلس حزينًا) :
ساء ظني بكل وُد، وأضحى
ليس يدري سقيمه من صحيحه.
كلينوس : صبر النفس يدي.
خسرو :
ليت أني
لم أكن عند سقطتي بصبور.
كلينوس : كيف مولاي؟
خسرو :
إنما الصبر جبن
وفِرار سمَّوه صبرًا رياءً.
ليتني مِت قابضًا في يميني
قائم السيف، ذائدًا عن حِياضي.
كلينوس :
يا مليكي لا تأسَ، ليس بعارٍ
أن نخاف الردى.
خسرو :
هوان وجهل
الردى كائن، ونحن إليه
في رحيل على سفين القضاء.
ومن العجز كره موت كريم،
ثم نمضي إليه غصبًا وكرهًا.
كلينوس :
أنت كسرى، لا زلت في الأسرى كسرى.
ليس غدر الزمان بالأُسد عيبًا.
خسرو :
وجميل من مثل كسرى إذا ما
مات ألا يموت إلا مهابًا.
ليس مجد الأُسود في صيد ظبي،
مجدها إذ تموت وهي غضاب.
يا كلينوس، قد زللنا وهنا.

(ينظر إلى الأشياء الموضوعة إلى جانب.)

ما الذي ها هنا؟
كلينوس :
طعام وحلوى
من صنوف مختارة، وثمار،
أمر الملِك أن نُعِد خوانًا
لأبيه العظيم.
خسرو (ضاحكًا بسخرية) :
بَرٌّ كريم!
والذي ها هنا؟
كلينوس :
شواء وزهر
بعثته مولاتنا شيرين.
خسرو (بحزن) :
آه رباه! أين شيرين مني؟
جرَّها الدهر في شقائي ونحسي.

(بعد صمت)

أطعموني طعام شيرين، إني
قد أحب الطعام من أجل ريحه.
كلينوس : لا تُثر هذه الشجون مليكي.
خسرو :
يا كلينوس، لو عرفنا لكنا
أبعد الناس عن حياة الغرور.

(يأخذ سفرجلة من بين طعام شيرين ويشمها.)

ريحها ينعش الصدور، فيها
نسمات ممَّا يحب فؤادي.

(يضع السفرجلة على الوسادة بجواره.)

(يدخل حارس.)

الحارس :
جاء مهمند يرتجي الإذن حتى
يتملى بوجه كسرى.
خسرو :
عجيب!
ليت شِعري ما يبتغي؟ أدخلوه.

(يخرج الحارس.)

ليس عندي ما يرتجي من عطاء.
وا فؤاداه! ليس جزاءً.

(يدخل مهمند حزينًا.)

مهمند :
طالعتني البدور بعد احتجاب،
واستهل السحاب بعد جدوب.
كنتَ عز الإيوان في التاج يومًا،
بين لحظ القنا وخفق القلوب،
فإذا بالإيوان منك خلاء،
وإذا التاج قد دهته الخطوب.
قد تبدلت بالشروق غروبًا،
روعة الشمس في ضياء الغروب.

(يغلبه البكاء.)

لَهف نفسي! أبعد كسرى ملاذ
من صروف الزمان عند الكروب؟

(يحل كسرى منطقته ويعطيها الشاعر.)

خسرو (بحزن وخجل) :
لم أجد غير هذه، فاعتذارًا
إن رأيت الجناب غير خصب.
مهمند (متأثرًا يرفض أخذ المنطقة) :
كنت آتي إليك أرجو ثوابًا
في حِمى ذلك الجَناب الرطيب،
غير أني زهِدت في العيش لمَّا
أن تولى زمان عيش حبيب.
خسرو (يعيد إليه المنطقة) :
لا تُعد لي العطاء، ذلك أدمى
لفؤادي من جرح سهم مصيب.
مهمند (يأخذ المنطقة حزينًا ويخاطبها) :
سوف أبقيكِ للمكارم ذكرى،
وتراثًا لوارثي وعقيبي.
يا فؤادي ودِّع طِلاب الأماني،
حسب نفسي بزفرة ونحيب.

(يسير خارجًا.)

(يبكي)

أين تلك الجنود؟ أين بنود
عند أبواب قصرك المحجوب؟
لن يراني الزمان أمدح ملِكًا
بعد كسرى وظله المحبوب.

(يخرج.)

خسرو (لكلينوس وهو متأثر) :
يا كلينوس، أي مرء عجيب!
يُكثر المدح في النعيم، ولكن
ما عهِدنا مع الشقاء مديحًا.
كلينوس :
يا مليكي إن القلوب ثمار،
قد ترى الحُلو بينها والمرير.
خسرو (بعد صمت قصير) :
يا كلينوس، كنت أطعمت يومًا
بعض قومي وكنت فيهم سخيًّا؛
فأصاب الضيوف من كل لون،
ومضوا بعد أن أصابوا هنيًّا،
ثم ألفيت بعد أن قمت كلبًا
جاء يرتاد فضلة من طعامي؛
فتذممت أن يعود كسيفًا،
فرميت إليه بعض العظام،
ثم دار الزمان بي فإذا بي
بعد حين في شقوة وهوان،
ورآني ضيوف عزي ومجدي،
فتولوا بعَبْسة النُّكران،
ورآني الكلب الأمين فأدنى
رأسه ذاكرًا فتات العظام.

(بعطف شديد)

سيدي، سيدي!
رسول عظيم
جاء بالباب راجيًا في المثول.
خسرو (بسخرية) :
هل على حضرة السجين حجاب
يُطلب الإذن عنده للرسول؟
فليجئ.

(يخرج الخادم.)

(متنهدًا)

يا فؤاد صبرًا، وسمعي
لا تَثُر من سماع قول ثقيل.
كلينوس : لا تبادر بالظن مولاي.
خسرو :
مثلي
ليس ممن يأتي إليه البشير.
نِعمُ الدهر إن أتت ففرادى،
والدواهي تُغير خيلًا ورجلًا.

(يدخل أسفاذ ويُحيِّي.)

أسفاذ : بسُعُود المليك.
خسرو :
إن كان خيرًا
ما تحملته فإني سميع.
أسفاذ :
قد تحملت قالة من ملام
من قباذ المليك.
خسرو :
إني سميع
لمليكي قباذ.

(تتدحرج السفرجلة إلى الأرض.)

(يُظهر خسرو الجزع.)

أي نذير!
نحن في سيرنا لأمر مضيع.
أسفاذ :
دع غيوب الأقدار تجري لحين
جهلته مطالع الأفلاك.
قد ملكتَ الأمور دهرًا، وكانت
دولة الفُرس عند فلك السِّماك،
فنشرتَ الفساد والظلم حتى
آل ما كان عاليًا للهوان.
خسرو :
ليت هذا مقال غير قباذ،
فلقد كان يومه يوم شؤم.
أسفاذ :
لِمَ تُسلط على البرية سوطًا؟
لتذيق الأنام ذلًّا وظلمًا؟
خسرو :
إنني لو سطوت في بعض قومي،
فبحقي سطوت لم أتعدَّه،
كنت ظل الإله إن شاء بطشًا،
فيميني تقيم في الناس حدَّه.
أسفاذ :
انظر اليوم ما صنعتَ بمُلك
كان يومًا في دارة الجوزاء.
خسرو :
لو علمنا المكتوم في الغيب ساوى
أحمق الناس أحكم الحكماء.
ليس فضلًا ألا تزلَّ لإثم
إن تكن زاهدًا بعيد الثَّواء.
إنما الفضل أن تُعِد المساوي
عند خبط في مَعْمع الأهواء.

(تُسمع ضجة في الخارج.)

أسفاذ :
كم بريء قضى بسجنك يدعو
ربه كي يحل فيك انتقامًا!
غير أن العذاب حل بقوم
كنت فيهم فكان سخطًا عميمًا.
خسرو :
لو أردت المقال قلت، ولكن
ليس لي أن أجيب فُحشًا بفُحش.

(يشير إلى أسفاذ بالخروج.)

قل لمولاك إن تلك الليالي
لا تجابي قباذ إن ذل كسرى،
وأجبه عني «ملكت فأسجح،
وتعفف عن مثلة بالقتيل».

(يخرج أسفاذ متألمًا.)

(لنفسه)

سوف تمضي الأيام، مبطئات
أو سراعًا، سيان عيشي وموتي.

(تزداد الضجة.)

(لكلينوس)

أين باذان؟ بي حنين إليه.
كلينوس : لم يكن في مكانه.
خسرو : أحضروه.
كلينوس : أمر مولاي.

(يُحيِّي ويخرج.)

خسرو :
كلما ثار قلبي
لم أجد سيان عيشي وموتي.

(تزيد الضجة وتقرب.)

هيعة؟ ليتها تكون قضائي.
رُبَّ عيش أحب منه الهلاك.

(يدخل جماعة من الجنود مع زاذ فرخ.)

زاذ فرخ (لخسرو بحقد) : أيها الغطرس المدِل!
خسرو (بثبات) : إلهي!
زاذ فرخ (بشماتة) : ذلت الآن نفس فظٍّ عاتٍ.
خسرو :
إنما الذل للذليل، (للجند بغضب) تنحَّوا!
لم تكن حضرتي حلالًا مباحًا.

(تبعد الجنود بخشية.)

زاذ فرخ (ناظرًا إلى الجنود محرضًا) :
قد أتيتم تطالبون بثأرٍ
لدماء ضاعت ومجد تولَّى.

(يدخل كلينوس مترنحًا من الجهد وهو جريح.)

كلينوس (صائحًا في الجنود) : ما الذي أدخل الجنود؟!
زاذ فرخ :
بأمري.
إنما أنت حارس سجان.

(للجند)

أيها الجند أقدموا.
كلينوس (صارخًا) :
قف، كفاكم!
قُتِل باذان. حسبُكم قتل شيخ
من بقايا الكرام.
خسرو (بحزن شديد هادئ) :
وا باذان!
عشتَ ما عشتَ للمكارم خِدنًا،
وختمتَ الحياة حرًّا كريمًا.
زاذ فرخ (يخاطب الجنود محرضًا) :
أيها الجند قد غضبتم وثُرتم
ثورة الأُسد.

(يهجم الجنود على كلينوس فيقتلونه ثم يهاجمون كسرى.)

أحد الجنود (لكسرى) :
كم قتلت نفوسًا!
عدت تشتكي إلى الخلاق.

(يضرب كسرى فيدافع دفاعًا ضعيفًا.)

جندي آخر :
كم ملأت السجون، كم كنت تقضي
بعذاب!

(يضرب.)

كم كنت تبطش ظلمًا!

(يضرب.)

خسرو (يضعف عن المقاومة) :
أحسنوا القتل إنها نفس فرد،
حسبُكم ضربة تصيب فؤادي.
مهرهرمز (يتقدم من الخارج هائجًا) : أمسكوا، إنني أحق بثأري!
خسرو : أي ثأر يكون للعبد عندي؟
مهرهرمز :
ليس بالعبد مهرهرمز، إني
نجل مردا نشاه حر لحرٍّ.
خسرو (ناظرًا إليه) :
يا ابن مردا نشاه قد قلت صدقًا.

(يتقدم إليه مترنحًا.)

خذ فإني أراك تطلب حقًّا.

(يضع يده على عينيه.)

قد جزينا أباك شرًّا وطابت
لك نفسي بالثأر.

(يضرب كسرى في مقتل.)

قد نلت ثأري.

(يسقط الملك ويخرج الجنود هائجين.)

(يدخل بعد الاضطراب خراد فيجد زاذ فرخ خارجًا.)

(فيرتد زاذ فرخ مدهشًا.)

خراد (لزاذ فرخ) : لِمَ خالفت ما قضاه المليك؟
زاذ فرخ :
خِفت أن تُسفك الدماء الزكية.
أوشك الجند أن يثوروا، وكادت
تقع اليوم فتنة ذات عصف،
فتركنا الجنود خوفًا، فإنا
أعجز الناس عن غلاب الجنود.
خراد :
بل أردت الخلاص من خوف كسرى،
إنه كان عالِما بذنوبك.
زاذ فرخ :
لا تسئ بي الظنون يا خراد.
إن جند المليك هاجوا وثاروا،
قلبوا في الهياج ظهر المِجَنِّ.
خراد (يتقدم بسيفه مسلولًا) : حسبُك الآن ما مكرت.
زاذ فرخ (متقهقرًا) :
تمهَّل،
إنهم يطلبون ثأرًا، ومن ذا
يستطيع الثبات وسط السيول؟
خراد (يستمر على المهاجمة) :
أيها الماكر الخبيث تقدَّم،
قف ودافع إذا استطعت.
زاذ فرخ (هاربًا) :
تمهَّل،
لست أقوى على الدفاع فدعني.
خراد (يحصره في زاوية ويقتله) :
أيها الماكر الخبيث الدنيء!

(تدخل شيرين مضطربة.)

(يخاطبها بدهشة)

ملِكتي!
شيرين (بجزع شديد) :
وا فؤادي من هول هذا المصاب!
أين كسرى؟ (تراه ملقى) أواه! وا حر قلبي!
خراد : ملكتي!
شيرين (ترتمي على كسرى بلهفة) :
لست ملكة، أنا أنثى
جئت أبكي مصاب زوج حبيب.

(لكسرى)

أيها الذاهب الشهيد، بنفسي
ما أصابتك من جروح دوامٍ.
قد أسالوا الدم الزكي، وأنَّى
تنفع المُدنِف الدموع الهوامي.
ذهب اليوم صاحب وحبيب،
كان من هذه الحياة نصيبي،
فجعوني به، كيف حياتي
بعد أن غاب عن حياتي حبيبي؟!

(يدخل شيرويه الملِك مسرعًا منزعجًا.)

شيرويه (يرى شيرين فيُظهر التألم) :
وا أبي! صرعة العظيم قضاء
عرفته النجوم منذ القديم.
قد أراد القضاء ما كنت أخشى،
ما احتيالي في الكائن المحتوم؟
وا فؤاداه! والدي! (يخاطب شيرين) أنا أولى
أن أبكي فجيعتي ومصابي.

(تنظر إليه شيرين بحزن شديد.)

شيرين (لشيرويه) :
أنا أبكي والدمع حسبي، فما لي
حيلة في المصاب غير دموعي.
ليس لي الصولجان والسيف حتى
أندب الملِك بانتقام وجيع.
شيرويه (لخراد) : كيف هذا خراد؟
خراد (مُطرِقًا يشير إلى جثة زاذ فرخ) :
هذا المُرائي،
ذلك الماكر الخبيث!
شيرويه (بدهشة) :
الوزير!

(لشيرين بعد صمت)

قد أردنا وقد أراد القضاء،
فجرى الأمر طاعة الأقدار.
لو علمنا عند الدموع شفاء
لبكينا بالمدمع المِدرار.
شيرين :
دع لمثلي الدموع فهي دوائي
من شجون لواعج وكُلُوم.
فجعوني بصِبيتي تحت عيني،
وأسالوا دماء قلب سقيم،
ثم ضحَّوا بصاحبي وحبيبي.
وا فؤاداه للصريع الكريم!
أسعفي يا دموع قلبي حتى
أجد الطب في الهلاك الرحيم.

(تبكي بكاءً مرًّا.)

شيرويه :
خففي عنك، ليس للناس حول
في قضاء مدبَّر محتوم.
شيرين (تقف ثائرة القلب) :
أنت أولى بثورة الغيظ مني،
إن هذا القتيل يطلب ثأرًا.
شيرويه : إن هذا أبي.
شيرين :
فأين انتقام
هو حق عليك إن كنت حرًّا؟
شيرويه :
سوف أسطو لكن رويدًا رويدًا.
عصفة الريح لا تقاوى بعصف.
شيرين :
إن مُلكًا تكون فيه أسيرًا،
تربة القبر منه أولى وأرضى.
شيرويه :
خففي اللوم، واصبري لليالي.
سوف يرضيك في الجناة انتقامي.
أنتِ في ذمتي مليكة ملِك
مثلما كنتِ غابر الأيام.
شيرين : لا، فهيهات!
شيرويه :
هل تكونين زوجي
لك أمري وعزتي؟
شيرين (بدهشة عظيمة) : يا إلهي!
شيرويه :
دونكِ المُلك مثلما كنتِ يومًا،
واطلبي الثأر ما أردتِ انتقامًا.
شيرين (بدهشة واضطراب) : يا إلهي! ألست أسمع وهمًا؟
شيرويه (يقرب منها) : بل هو الحق.
شيرين (تبعد عنه بلطف) :
كنت أحسب أني
خدعتني الآذان في آلامي.

(متظاهرة بالفرح.)

يا مليكي هذا قصارى الأماني،
لن تراني من بعد أشكو زماني،
غير أني أرجو السماح مليكي،
بوداع لذلك الجثمان.

(تشير إلى كسرى.)

(تذهب إلى جوار جثمان كسرى وترتمي عليه باكية ويقف شيرويه متأثرًا حزينًا.)

(تخاطب كسرى)

راقد أنت أم صريع نزيف؟
أين إيماننا وأين الأماني؟
كم وقفنا بين الجبال نناجي
خطرات النسيم في الأغصان!
وأخذنا على المودة عهدًا
شهدته ملائك الرحمن!
كيف تمضي عن الأليفة فردًا،
كيف أبقى وقد مضى خِلاني؟

(تقوم قليلًا عنه برأسها.)

يا صديقي، أتيت أختم عهدي.

(تمص خاتمًا في يدها.)

كل عهد في هذه الدار فانٍ،
قد بدأناه في الوفاء كرامًا،
ارتشفناه سائغًا في أمان،
وحريٌّ بنا ختام كريم،
وجاءنا الموت في زفاف ثاني.

(تصرخ متألمة وترتمي فيُسرع شيرويه إليها فيجدها لا تنطق.)

شيرويه (متألمًا) :
وا فؤاداه! كنت أرجو، ولكن
لم يُتِح لي الزمان ما كنت أرجو.
إن قلبي يسيل حزنًا. سأبقى
مثل غصن مُقصف في الرياح
يتهاوى حوالي الكرام، وأبقى
مواحدًا موحشًا مهيض الجناح.

(يرتمي حزينًا.)

(انتهى)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤