مقدمة

(١) من التصوُّف إلى التقليد: وضع تصوُّر للصوفية

عادةً ما تُعرَّف الصوفية بأنها «تصوف» إسلامي يضمُّ مجموعةَ أساليب يسعى من خلالها المسلمون إلى التواصُل الشخصي المباشِر مع الله. وعلى الرغم من صحة أن الصوفية تتضمَّن كثيرًا من عناصر التصوف، فإنَّ المدى الاجتماعي الواسع الذي وصلت إليه على مدار قرونِ توسُّعها جعلها أكثر من مجرد طريقٍ لنخبة باطنية. أدرك إيه جيه آربري، أستاذ الاستشراق في جامعة كامبريدج، هذه المشكلةَ في مقدمته للصوفية التي كانت ذات أثر كبير، ورأى أن الصوفية تضمَّنت طريقًا دينيًّا لكلٍّ من جمهورِ المسلمين من العوام وعددٍ أصغر من المتصوفين المتسامين.1 ويرى آربري وكثير من المعلقين المتأخِّرين أن التوتُّر فيما بين الصوفية «التصوُّفية» والصوفية «الشعبية» تكشَّفَ من خلال سرد تدهورها؛ فما بدأ كحركةِ «تصوف» حقيقية لأفرادٍ يسعون إلى الاتحاد الشخصي مع الله، فسَدَ في فترة العصور الوسطى، وتحوَّلَ إلى تقديسٍ لأولياءَ أصحابِ مُعجزات لا يمتُّ بصلة للتصوف الصوفي «الحقيقي». وفي هذا الشأن، كتب آربري بنبرة مزدرية فقال: «بمجرد أن أصبحَتْ أساطيرُ المعجزات مرتبطةً بأسماء الصوفيِّين العظماء، كان حتميًّا أن يَستحسن العوام السذَّجُ الدجلَ أكثر من التعبُّد الحقيقي.»2 وبالنسبة إلى آربري وكثيرٍ ممَّن كتبوا من بعده، فإن نتيجة هذا النموذج المُتدهوِر أنه بدايةً من أواخر فترة العصور الوسطى وما بعدها أصبحت الصوفية غيرَ جديرة بالدراسة. وهذا لم يكن على الأرجح إلا مفارَقة؛ ففترةُ العصور الوسطى وفترةُ أوائل العصر الحديث اللتان شهدتا بلوغَ الصوفية أوجَ التأثير والنجاح، هما بالضبط الفترتان اللتان كانتا موضعَ تجاهُل بوصفهما عصرَيْ تدهور ما بعد الفترة الكلاسيكية.
على مدار الثلاثين سنة الماضية، تعرَّض نموذج الكلاسيكية والتدهور هذا إلى الرفض الكامل، وأسهمت الدراساتُ الحديثة عن الصوفية إلى حدٍّ كبير في الإطاحة بالسرد الكبير الذي قدَّمه آربري ومُنظِّرو التدهور اللاحقون من أمثال جيه إس تريمينجهام.3 وعلى الرغم من ذلك، ففي كثيرٍ من المناقشات المتعلقة بالصوفية، تظلُّ السمات الأساسية للتوجُّهات القديمة حاضرةً، لا سيما المشكلة المحورية المتعلِّقة بمدرسة التفسير القديمة المُتمثلة في نموذج «التصوف» نفسه. فوفقًا لفهم الباحثين الأوروبيِّين والأمريكيين في أوائل القرن العشرين، اعتمدت فكرةُ التصوف على تصوُّرٍ للدين؛ عالميٍّ من الناحية الفكرية، وحداثيٍّ من الناحية الزمنية، وبروتستانتيٍّ من الناحية الثقافية. كانت سلطةُ التجربةِ المباشِرة التي لا وسيطَ فيها للفرد المُنعزِل تُعتبَر منبعَ التدين الحقيقي في كل الثقافات وكل الفترات الزمنية.4 وعلى نسق بروتستانتي مشابه، كان «الدين» نفسه يُعتبَر فئةً منفصلة على نحوٍ صائب (أو على نحوٍ مفضَّل على أقل تقدير) عن عالَم «السياسة» الفاسد. وعندما طُبِّق هذان النموذجان على دراسة الإسلام، كان الصوفي النموذجي في رأي كثيرٍ من الباحثين هو النقيض التام للمؤسَّسة الحاكمة الإسلامية الملتزمة بالشريعة، سواء أكان يعيش في عزلة هادئة بعيدًا عن شئون الدنيا، أم كان يقود ثوراتٍ تنتهي باستشهادٍ حماسيٍّ.5 إن نموذج التصوف هذا — التوجيهي وليس الوصفي — مثَّلَ في بعض الأحيان مُعتقَدًا في حدِّ ذاته. وعند تطبيق ذلك النموذج على سياقاتٍ ثقافية أو زمنية أكثر بُعدًا عن مكان نشوئه، فإنه يميل إلى انتقادِ أو استبعادِ كثيرٍ من الأمور المُفترَض أن يُفسِّرها. وفي حالة الصوفية، طال هذا الاستبعاد أو الانتقاد أبعادًا كثيرة مهمة في التاريخ الصوفي لم تلائم نموذجَ السالك المنفرد الذي يَسعى إلى الله؛ مثل الطرق الصوفية الهرمية، والطقوس المعقَّدة المتعلِّقة بالتوسُّل بالأولياء للتأثير على قرارات السلاطين.
إلا أنه على النقيض من فكرة الغرب عن التصوف، فقد كانت جوانبُ كثيرةٌ من الصوفية جماعيةً وعلنية، وليست فرديةً وخاصة. فتوضِّح محوريةُ العلاقة بين الشيخِ أو المرشد (المعلم) والمُريدِ (التابع)، التي بدت أنها حجر الأساس في الممارسة الصوفية، أنَّ الممارسات «التصوُّفية» مثل تدمير الأنا لم تكن نتيجةَ تَجارب خاصة من الاتصال المباشِر مع الله، بل كانت عملياتٍ اجتماعيةً قائمة على علاقةٍ توجيهية مع طرفٍ ثالث بشري. ومع نموِّ حجمِ الطرق الصوفية، أصبحت هذه العلاقاتُ (والتحوُّلات الاجتماعية والنفسية المشتركة التي تدعمها) أكثرَ شيوعًا؛ بحيث أصبحت آثارُها أكثرَ انتشارًا وجماعية. وفي كثير من المناطق حول العالم، أسفَرَ ذلك عن تحويل الصوفيةِ نُظُمَ السلطة الاجتماعية إلى نماذج سلطوية، تناوَلَها بالدراسة عبد الله حمودي، عالِم الأنثروبولوجيا المولود في شمال أفريقيا.6 وبالإضافة إلى إهمال مفهوم التصوف للجانب الاجتماعي، فقد قلَّل أيضًا من الجانب المادي، واضعًا الصوفية على نحو صارم في نطاقات الروحانية، في حين أن الصوفيين كانوا مُنغمسين في نطاقات المادية الملموسة بالقدر نفسه، بدايةً من طقوسهم الجسدية وتقديسهم لآثار الأولياء، وحتى مباني الأضرحة خاصتهم، والقدراتِ المباركة التي يَعتقدون أنها موجودة فيهم. وإلى حدٍّ كبير، لم تكن الصوفية «تصوُّفًا» عامًّا قائمًا على التجارب الدينية المتاحة على نحوٍ ديمقراطي للجميع، بل كانت في كثيرٍ من الأماكن تجسيدًا للإسلام السلطوي القائم على القدرات المباركة المُتوارَثة من خلال أنسابٍ مرموقة؛ ولهذا السبب، عرَّفَ أحدُ علماء الأنثروبولوجيا شيوخَ الصوفية بأنهم: «الأشخاص الذين يتدفَّق في دمهم (المُدوَّن في سجلِّ أنسابهم) بركة النبي محمد.»7 كذلك، يميل مفهوم التصوف إلى الارتباط بالأمور العفوية وغير المتدرَّب عليها، بدلًا من الأمور المنهجية والسياسية. غير أن الكتب القديمة عن الممارسة الصوفية أظهرت اهتمامًا كبيرًا بمسائل آداب السلوك والطقوس التعبُّدية. والصوفيون ليسوا على الإطلاق روَّادًا «طليعيين» روحانيين زاهدين؛ فقد كانوا في كثير من المناطق أطرافًا سياسية أساسية استمتَعت بأسبابِ الراحة المكتسَبة من الأراضي الشاسعة المملوكة لهم، ودعْمِ جيوش أتباعهم المخلصين. ومن خلال سلسلةٍ من التطورات التي يتتبعها هذا الكتاب، أصبحت الصوفية سلطويةً ومُعادِيةً للفردية على نحوٍ كافٍ، لدرجةِ أنه في العصر الحديث أدَّت النَّزعات الداعية إلى الديمقراطية والفردية بين المسلمين إلى هجْرِ ملايين منهم لتعاليم الصوفيِّين.
بالإضافة إلى ميل نموذج التصوف إلى تضييق النطاق والتوجيه، فإنه يُثير أيضًا تحدياتٍ معينةً عند كتابة التاريخ؛ فلو كان جوهر الصوفية — كما هو الحال بالنسبة إلى التصوف — يكمن في التجربة الخاصة المتسامية، لاضطُرَّ المؤرخون حتمًا إلى تسجيلِ قشورها الخارجية التافهة فقط من خلال النصوص والمؤسسات والأفعال. توجد بالتأكيد طرق مختلفة للتعامل مع هذه المعضلة؛ تتمثَّل إحدى هذه الطرق (والتي اتبعها على نحوٍ بالغِ الدقة الباحثُ الفرنسي هنري كوربين) في الحفاظ على نموذج التصوف من خلال استخدام منهج ظواهري (فينومينولوجي) في التعامل مع الوثائق التاريخية، في محاولةٍ ﻟ «إعادة تقديم» الشخصية الداخلية للتجارب التصوفية الماضية على نحوٍ مفسِّر.8 طُبِّق هذا المنهج الظواهري بدرجات وأساليب متعددة في عدد من الكتب التمهيدية الناجحة للصوفية.9 هناك طريقة أخرى تتمثَّل في الابتعاد عن نموذج التصوف، وتصوِّر الصوفيةَ بطريقةٍ تتناسب على نحوٍ أفضل مع مجموعةِ خصائصها المعقدة، وتجعلها أيضًا أكثرَ قابليةً للوصف التاريخي. فبالتقليل من فكرة الصوفية باعتبارها تصوُّفًا لجماعة هامشية من السالكين، يرى المنهج المتَّبع في هذا الكتاب الصوفيةَ باعتبارها «تقليدًا» في المقام الأول من المعرفة القوية، والمُمارسات القوية، والأشخاص الأقوياء.10 وكما ستوضِّح الفصول التالية، فإن الصوفية منذ لحظةِ ظهورها كانت مُتجذِّرة في نموذجٍ إسلامي أوسع قائم على المعرفة الموثوق فيها، التي كانت تحظى فيها موافَقةُ السلطة القديمة (سواء أكانت سلطةَ النبي محمد أم أولياء الله) بأهمية بالغة. وهذه الحساسية التاريخية شكَّلت جزءًا كبيرًا من التجارب التصوفية الصوفية من خلال المقابلات الرؤيوية التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، التي دَوَّنها الصوفيون مع الأولياء السابقين والأنبياء؛ تلك المقابلات التي أشبعَتْ رغبتَهم في ربط أنفسهم بروَّاد تقليدهم السابقين.11 يحظى هذا الارتباط بمُمثِّلي التقليد القدوة المَحبوبين بأهمية كبيرة؛ فهو لا يوضح فحسب الاستراتيجيةَ التي من خلالها تمكَّنَ الصوفيُّون من تقديم أنفسهم على نحوٍ مقنع باعتبارهم الوَرَثة الأحياء للنبي محمد، بل يوضِّح أيضًا الطبيعةَ «الناظرة إلى الماضي»، الواضحة جليًّا لتعاليمهم التي ظهرت نتيجةً لتلك الحاجة إلى موافَقة السلطة القديمة والرغبة الوجودية في العودة إلى حالة الوجود البشري، التي كان يتمتع بها آدم والنبي محمد. وكما بَيَّنَ ستيفن تي كاتس على نحوٍ فَطِن، فإن التجارب التصوفية ليست عفوية ومُبتكَرة، بل هي غالبًا أفعالٌ محافظة، ويمكننا أن نضيف أنها أفعالٌ ساعية إلى الحفظ.12
إن هذا الإدراك بأن كلمات وأفعال الصوفية متجذِّرةٌ على نحوٍ متعمَّد في تراث المسلمين الأوائل، ساعد أيضًا في معرفة الطابع الإسلامي المتغلغل في الصوفية الذي ميَّزها — باستثناء حالات عالمية معيَّنة — عن «التصوف» العالمي الذي صُنِّفت ضمن فئاته في بعض الأحيان. وكما أوضح الباحث الفرنسي ماريجان مول ذات مرة، فحتى إذا تبنَّى الصوفيون دونَ علمٍ، أو عن علمٍ، مقوماتٍ من جماعات دينية أخرى، فإنهم «لم يأملوا مطلقًا في أن يكونوا إلا مسلمين؛ فكلُّ المعتقَدات التي يؤمنون بها، وكلُّ أفعالهم وعاداتهم وأعرافهم، قائمةٌ على تفسيرٍ للقرآن والسنة النبوية».13 هذه نقطة رئيسية؛ فلقد تطوَّرت الصوفية كمجموعةِ تعاليم وممارسات ومؤسسات نشأت مع تفكُّر المسلمين — من القرن التاسع فصاعدًا — في تراث حياة النبي محمد، التي تُمثِّل القدوة الأولى، ولحظة نزول الوحي بالقرآن. وفي محاولات نقل الصوفيِّين لمعرفةِ وراحةِ وسلطةِ الله (وأنبيائه وأوليائه) إلى حياتهم الخاصة والعامة، بنوا تقليدَهم أولًا من خلال تأمُّل حياةِ النبي، وفترةِ نزول الوحي عليه، ثم تأمُّل تعاليم وأفعالِ مَن رأوا أنهم أولياء الله، والذين بدورهم أعادوا ربطَهم باتحاد النبي مع الله. إنَّ «أولياء الله» الصالحين الكثيرين، الذين ظهروا في كل قرن، هم مَن أَنشَئوا التقليدَ الذي نُطلِق عليه الصوفية، سواء أكان من ناحية النصوص التي كتبوها، أم الطقوس التي وضعوها، أم الطرق التي أسَّسوها. وباستثناءِ بعض الصياغات الحداثية للصوفية، فمن دون هؤلاء الأولياء لا توجد صوفية.
بناءً على زعم الصوفيين بأنهم وَرَثة النبي محمد، وبمرور الوقت، طوَّروا تدريجيًّا أُسُس تقليدهم من خلال أنساب الأولياء والشيوخ الذين كانت لموافقتهم سلطةٌ تكميلية في حدِّ ذاتها. وكما سنرى في الفصل الأول؛ ففي القرون الأولى من التاريخ الصوفي، تضمَّنَ هذا التطويرُ للتقليد في بعض الحالات زعمًا بأثر رجعي يقول إن الأسلاف الصالحين الذين عاشوا قبل استخدام مصطلح «صوفي» كانوا صوفيِّين. إن التركيز في هذا الكتاب على كون الصوفية تقليدًا أكثرَ منها تصوفًا، لا يعني إنكارَ أن كثيرًا من الصوفيِّين مرُّوا بتجارب تصوُّفية أولَوْها قيمةً بالغةً فيما بعدُ، بل إنَّ الهدف هو توضيح أن هذه التجارب الخاصة اكتسبت معنًى ومصداقيةً فقط من خلال استيعابها في السعي الجمعي والتعاوني لأجيالٍ مختلفة من المسلمين، الذين كان كلٌّ منهم — على مرِّ الزمان — على وعيٍ كبير بالطبيعة النموذجية لأفعالِ وتعاليمِ غيره من الصوفيين. إنَّ هذا الإدراك التاريخي للتجربة التصوُّفية لا يهدف إلى التقليل منها، بل يهدف إلى وضعها في إطار الطبيعة الزمنية للوجود البشري. في هذا الصدد، أتَّفقُ بوجهٍ عام مع ستيفن تي كاتس الذي كتب يقول: «الرواياتُ التصوفية لا توضِّح فحسب الوصفَ ما بعد الحضوري لتجربةٍ غير قابلة للرواية باللغة المتاحة، بل إنَّ هذه التجارب نفسها صاغتها على نحوٍ لا مفرَّ منه تأثيراتٌ لغوية سابقة، لدرجةِ أن التجربة المُعاشة تتَّفق مع نسَقٍ سابقِ الوجود تم تعلُّمه، ثم قصده، ثم تحقُّقه في الواقع التجريبي للمتصوف.»14 وكما توضح مئات الكتابات الصوفية، وبالرغم من التركيز الكبير على التجربة الفردية العفوية في نموذج تصوف القرن العشرين، فإنَّ الصوفيِّين لطالما كانوا على قدرٍ بالغ من الوعي بالروابط الخطابية التي تربطهم بأسلافهم، وهذا الوعيُ بالتقليد هو الذي جعلهم «مسلمين» صوفيِّين بدلًا من كونهم روَّادًا جذَّابين أو مؤسِّسين لأديان جديدة. وهكذا، فإن هذا الوعي الذاتي للصوفيين بأنهم أعضاء في مجتمعٍ أكبر، يتكرَّر عبر الزمان من خلال موافقة الشيوخ السابقين الموثوق فيهم؛ هو ما جعلهم أعضاءً في تقليدٍ ومحافظين على استمراريته. والسبب في ذلك كما يقول عالم الاجتماع إدوارد شيلز هو أن التقليد ليس فقط «ما يُنقل أو يُتوارَث من الماضي»، لكنه أيضًا «كل ما له نماذج تمثيلية أو حُرَّاس.»15 بالمثل، وكما هو الحال مع نماذج القدوة المقدمة من قِبل أولياء الصوفية في الأزمان الماضية، الذين ما زالوا في الذاكرة، فإن «هناك سمة معيارية كامنة في أي تقليدٍ اعتقاديٍّ مطروح للقَبول.»16
على النقيض من نموذج التصوف القديم للأفراد المُنعزلين الهامشيِّين، فإن نموذجَ التقليد الجمعي القوي مفيدٌ في فهم التاريخ الصوفي من عدة نواحٍ؛ أولًا: أنه يدرك أهمية دور السلطات الخارجية والماضية للأطراف الثلاثة في إعطاءِ قيمة كبيرة للتجارب والقرارات والتعاليم والكتابات الفردية. ثانيًا: أنه يدرك أبعادَ الصوفية الكثيرة غير العفوية والسلطوية والمناهضة للفردية في بعض الأحيان. ثالثًا: أنه يناسب أغراضَ الدراسة التاريخية؛ لأنه على النقيض من انعدام القيمة الزمنية الذي يصاحب التركيز «الآني» الشديد للتصوُّف، فإنَّ نموذج التقليد يوضِّح كيف أن متلقِّي التقليد يمتلكون وعيًا ذاتيًّا تاريخيًّا خاصًّا بهم كأفرادٍ يعيشون في علاقة مستمرة (إنْ لم تكن مُفسَّرة ومُبتكَرة غالبًا) مع ماضيهم. رابعًا وأخيرًا: أنه يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة التراكمية للصوفية خلال ظهورها التدريجي كمنتج ثقافي متعدد الأجيال ظهر في نهاية الأمر؛ ومن ثَمَّ فإنه يُفسِح مجالًا أمام التطوير والتنوُّع. بالإشارة إلى هذه الدينامية التي يغطِّيها غالبًا التماسُكُ الظاهري للتقليد، يصف شيلز كيف أنه «من المُحتمل أن يمر التقليد بتغيُّرات كبيرة جدًّا، ومع ذلك، قد يرى المتلقُّون أنه لم يتغيَّر على نحوٍ كبير.»17 إن هذه الاستمرارية القائمة على النظر للماضي فيما يتعلق بالتعاليم التي يعتقد الصوفيون أنها ميراثُ النبي محمد لوَرَثته الصالحين؛ هي ما جعلتنا نُعرِّف الصوفيةَ باعتبارها تقليدًا وفقًا للمعايير التي حدَّدها إدوارد شيلز.

(٢) من الهامشية إلى القوة: تحديد سياق الصوفية

بعد تناوُل مسألة التقليد كمفهوم ومحتوى، يجب أن نَلتفتَ الآن إلى التركيز السياقي لهذا الكتاب، الذي يقدِّم الصوفيين باعتبارهم لاعبين اجتماعيِّين مُؤثِّرين وأقوياء، وليس باعتبارهم معارضين للحياة الاجتماعية؛ ومن ثَم يعيشون على الهامش في المجتمع. وكما هو الحال مع تحوُّل تركيز الكِتاب من التصوف إلى التقليد، فعند تركيز الكِتاب على قوة الصوفيِّين بدلًا من هامشيتهم، فإننا نتناول مسألةَ إعادة التأكيد بدلًا من مسألة الرفض. فعلى الرغم من أنه بالتأكيد كان يوجد الكثير من الصوفيين الهامشيين (والخارجين كذلك عن الأعراف على نحوٍ كامل)، فإن الفكرة المقدَّمة في هذا الكتاب هي أنه بفضل الأتباع الأقوياء للصوفية وليس الهامشيين، تمكَّنت من ترك بصمة قوية جدًّا في المجتمعات التي انتشرت في ربوعها. ونتيجةً للعمليات التاريخية والاستراتيجيات الجمعية الموضَّحة في الفصول التالية، فإن هذا الاكتساب للقوة كان تدريجيًّا بالتأكيد. إلا أنه بحلول فترتَي العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، كان هذا الاكتساب حقيقيًّا على نحوٍ كافٍ؛ بحيث يسمح لنا بالحديث عن «مؤسسة» صوفية اجتماعية ودينية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي. وعلى الرغم من وجود الكثير من الصوفيين الهامشيين والمُنحرِفين الذين عاشوا في هذه الفترة، فإن المؤسسة الصوفية حقَّقت مكانتها وحافظت عليها بنجاحِ أفرادها في تقديم أنفسهم باعتبارهم مجسِّدين للإسلام الحنيف الذي جاء به النبي محمد، وبالتأكيد باعتبارهم وَرَثته الأحياء. وحتى في حالة ازدهار المجموعات الصوفية الرافضة للأعراف المجتمعية والهامشية اجتماعيًّا (كما في حالة الحركة «القلندرية» التي ظهرت في فترة العصور الوسطى)، فإنه من المُنصِف على الأرجح القولُ بأن قدرتهم على الإفلات من العقاب على انتهاكهم للأعراف الاجتماعية، كانت في حدِّ ذاتها انعكاسًا لما حظيت به الصوفيةُ من قوةٍ ومكانةٍ في وقت هذه المجموعات.

عند التحدُّث عن قوة الصوفيين، يجب أن نميِّز بين ثلاثة أنواع رئيسية من القوة التي سنرى اكتسابَهم إياها في الفصول التالية؛ وهذه الأنواع هي: القوة الخطابية، والقوة الإعجازية، والقوة الاقتصادية. تشير القوةُ الخطابية إلى السلطة التي حصلت عليها الصوفية كخطابٍ يتضمَّن مجموعةً مشروعة من الكلمات والمفاهيم، والنماذج المجتمعية والكونية المؤثِّرة، والنماذج السلوكية والخُلقية التي يُقتدَى بها. كان خطاب الصوفية نفسُه أحدَ مقوِّمات التقليد؛ لأنه استمدَّ سلطتَه من ربط نفسه بالقرآن والسُّنة؛ وهي النموذج النبويُّ الذي قدَّمه النبي محمد. إن القوة الخطابية التي اكتسبتْها الصوفية من ربط نفسها بالسُّنة الحنيفة تشير إلى الطريقة التي لم يَقتصِر فيها دورُ الصوفية على كونها نوعًا من التجارب أو حتى المعتقَدات، بل كانت فيها خطابًا له القدرةُ على تشكيلِ أفعالِ الآخرين من خلال تقليدهم للنماذج القدوة التي يُقدِّمها. وبإبعادنا عن التركيز على التجربة التي لا وسيطَ فيها في نموذج التصوف، فإن هذه القدرة القوية على تشكيل السلوك والتصرف كانت أيضًا من مقوِّمات التقليد، من حيث قدرة التقاليد على تعزيز «أنماط أو صور للتصرفات»، وكذلك «المعتقَدات التي تتطلَّب أو تُزكِّي أو تنظِّم أو تبيح أو تحظر إعادةَ القيام بتلك الأنماط.»18
النوع الثاني من القوة الذي سنعرض كيفية اكتساب الصوفيِّين له، هو القوة الإعجازية، التي تتمثِّل في قدرتهم — حسبما يرى الكثيرون — على اجتراحِ المعجزات والعجائب نتيجةً لقُرْبهم الخاص من الله. يرى إيه جيه آربري وكثيرٌ من المعلِّقين المسلمين الإصلاحيِّين في القرن العشرين أن هذا التعاطي الكبير مع الجانب الإعجازي مَثَّل «الجانب المظلم من الصوفية في مرحلتها الأخيرة»، عندما «كان تأثيرها في أكثر فتراتها انحطاطًا شرًّا بالكامل.»19 إلا أنه في دراسةٍ تاريخية مثل هذه يجب أن يكون الهدف هو الوصف والفهم بدلًا من الوعظ. وعلى الرغم من أن نموذج تصوُّف القرن العشرين المتحرِّر علميًّا من الأوهام والبروتستانتي الثقافة يفرِّق على نحوٍ قاطع بين التصوُّف وصانعي المُعجزات، فإن الحقيقة التاريخية للأمر هي أن زعم الصوفيِّين المتعلق بصنع المعجزات كان غيرَ قابل للانفصال عن زعمهم القُرْب التصوفي من الله. مرة أخرى، إن الأولياء الذين كوَّنت أقوالهم وأفعالهم التقليد الصوفي هم مَن يجب أن يكونوا محور الاهتمام؛ فالمتصوفُ البارز هو الذي يصنع المعجزات. وعلى الرغم من أنه دائمًا ما كان يظهر المسلمُ العادي الذي يتحدَّى قدرةَ الصوفيين على إظهار تلك القدرات، فإنه — كما توضِّح الفصول التالية — كان يوجد عددٌ أكبر من الأشخاص — بدايةً من السلاطين والتجار وحتى الفلاحين ورجال القبائل — الذين سعوا إلى الاستفادة من هذه القدرات، من خلال تكوين علاقات مع الصوفيين. ونظرًا لأن هذه العلاقات، سواء فيما يتعلَّق بالمحتالين أو الملوك، كانت عادةً علاقاتِ تتلمُذ، فإن القدرة على اجتراحِ المعجزات تحوَّلت بدورها إلى سبيل للتأثير الاجتماعي.

إن البناءَ على هذا التأثير الاجتماعي ودعْمَه نتَجَ عنهما ثالثُ أنواع القوة التي اكتسبها الصوفيُّون، أَلَا وهو القوة الاقتصادية. فلقد بدأ الصوفيون البارزون، بدايةً من فترة العصور الوسطى، في تلقِّي هبات كبيرة (وهائلة في حالات قليلة) من الأراضي والعقارات من المُرِيدين المنتمين إلى الطبقة الحاكمة، وكذلك تلقِّي عطايا نقدية أو عينية أقلَّ من الأتباع الأقل غنًى. وعلى الرغم من حديث هؤلاء الصوفيين البارزين المطوَّل عن الزهد، فإن أشكال تبادُل العطايا هذه وضعَتْهم ضمن النخبة الضئيلة المميزة في المجتمعات ما قبل الصناعية، التي كانت الصوفية نَشِطة فيها حتى العصور الحديثة. في هذا الصدد أيضًا، نرى عمل الصوفية كتقليد؛ لأن الحاجة إلى نقل الأملاك عبر السلالات الأُسَرية جعلت الوَرَثة الماديِّين للصوفيين الأقوياء اقتصاديًّا هم في الوقت نفسه وَرَثة التقليد الصوفي؛ لذلك ورثت السلالاتُ الأُسَرية الصوفية الأملاكَ إلى جانب التعاليم والقدرات المباركة. ونظرًا لأنه لا يمكن أن يوجد أيُّ شكل من أشكال المعرفة القوية بمَعزل عن أشكال القوة المادية، فقد كانت القوة الاقتصادية للصوفية مُهمَّةً للصورة العامة التي اكتسبتها؛ ولذلك أصبحت القوى الخطابية والإعجازية والاقتصادية للصوفيِّين في حالةِ اعتمادٍ متبادَل في نهاية المطاف. وإذا كان هناك يومًا اتجاهٌ لاعتبارِ ظهور امتلاك هذه القوة انتقاصًا من ورع الرسالة الصوفية، فيُمكن الردُّ بأن رؤيةَ التاريخ الديني من هذا المنظور المُحمَّل بالمعتقدات الشخصية رؤيةٌ عاطفية ورومانسية. في هذا الصدد أيضًا، من المفيد النظر للصوفية باعتبارها تقليدًا؛ لأنه لا يوجد تقليد يستطيع مُطلقًا الاستمرارَ وتكرارَ نفسِه عبر الزمن دون الاستعانة بالموارد المادية التي تقيم البيوت، والمقررات المالية لتأليف الكتب وممارَسة الطقوس، ودعم الأتباع الذين يُكوِّنون «التقليد» «الذي يُتوارث.»

ومقارَنةً بالكثير من الأعمال السابقة التي تناولت الصوفية، إذا كان تحويلُ التركيز هنا نحوَ القوة والتقليد يُوحِي بتحوُّل هوبزي، فإن هذا على الأرجح إجراءٌ تصحيحي ضروري؛ إذ إنَّ تلك الرؤية المتعلقة بوجودِ تقليدٍ قوي تجعل زيادةَ أتباع الصوفية أمرًا مفهومًا على نحوٍ أكبر، وكذلك الحال بالنسبة إلى المعارضة التي أثارَتْها على نحوٍ متزايد مع تزايُد تأثيرها، سواء أكانت من السلطات الدينية المنافسة في فترة العصور الوسطى، أم من بُناة الدول في أوائل العصر الحديث، أم من الإصلاحيِّين المسلمين في العصر الحديث. ففي نهاية المطاف، القوة والنفوذ والامتياز هي التي أدَّتْ إلى ظهور استراتيجيات الاستحواذ والدمج والمعارَضة التي كثيرًا ما أعاقت مسيرةَ الصوفية. وإذا كانت الفصول القادمة ستسلِّط الضوءَ على الصوفيين، بوصفها تأريخًا للصوفيين وليس لمُنافِسيهم، فإنه يجب النظر إلى عَرْضنا لبعض منافسيهم على أنه يعكس المكانةَ العالية التي اكتسبها الصوفيون، الذين زعموا أنهم «القطب» أو المِحوَر الذي يدور حوله الكون كله.

(٣) من السياقات إلى الخصائص: تعريف الصوفية

عند تقديم نبذة عن الخصائص الأساسية للصوفية، من الضروري في مثل هذه الدراسة التاريخية الإشارةُ أولًا إلى أنَّ الوصف التعريفي، الذي نحن بصددِ قراءته، ظهَرَ على نحوٍ تدريجي فحسب من خلال سلسلةٍ من التطورات التي أتتبَّعُها في الفصلين الأول والثاني. وبعد قبول هذا التحذير التاريخي، يُمكننا الآن تقديم تعريف أساسي للصوفية بوصفها تقليدًا قويًّا من المعرفة والممارسة الإسلاميتَين يُحقِّق القربَ من الله أو الوساطةَ لديه، ويُعتقَد أنه مُتوارَث عن النبي محمد من خلال وَرَثته من الأولياء الصالحين الذين تبعوه. ومنذ بداية ظهور الصوفيين، نادرًا ما اعتبروا أنفسهم سوى مسلمين. ومع زيادة نفوذ التقليد الصوفي، وبالنسبة إلى أعداد كبيرة من المسلمين، بَدَا أن الإسلام لا يمكن فصله عن الصوفية. وعلى الرغم من أن العُرْف يمنع ذلك، فقد يكون من الأفضل الحديثُ عن «الإسلام الصوفي» بدلًا من «الصوفية»؛ إذ باستثناء بعض المجموعات الخارجة عن الأعراف، فإن الصوفيِّين في العموم اتَّبعوا أساليبَ التقليد الإسلامي، فواظبوا على الصلاة التي تُعَد العبادةَ الأساسية التي تُمارَس كلَّ يوم، وأدَّوا صيامَ شهر رمضان المعظَّم، والتزموا بكافة أنواع الأحكام الشرعية المتَّبعة في مجتمعهم. والأكثر أهميةً أنهم اتَّبعوا كذلك مجموعةً من الممارسات النافلة، أهمها: ذِكْرُ الله الذي كانوا يؤدُّونه بطريقة إنشادية؛ و«المراقبةُ» وهي تأمُّل جوانب مختلفة من النفس والله؛ و«الإحسانُ» وهو إثراءُ الفضائل الأخلاقية من خلال اتباع «الآداب» (قواعد السلوك) الشرعية؛ و«الصُّحبةُ» أي التفاعُل المحترم مع شيوخهم. واستخدمت بعض مجموعات من الصوفيين (لكنْ ليس كلها على أي حال) ما يُعرَف ﺑ «السماع»؛ أي الاستماع الطقسي للموسيقى والشعر كوسيلةٍ للوصول لما يُعرَف ﺑ «الأحوال»، وهي حالاتُ النشوة التي تجعلهم أكثرَ قُرْبًا من الله أو من الأولياء الصالحين.

لطالما شدَّد الصوفيُّون على ضرورةِ القيام بكل هذه الممارسات تحت إشرافِ شيخٍ مرشد تلقَّى هذا التقليد؛ ومن ثَمَّ فهو (من الناحية النظرية على الأقل) سلَكَ هذا المسلكَ من قبلُ. وعلى نطاق واسع، اعتُبِرت الطاعةُ الكاملة للشيخ من أساسيات حياة الصوفي. ومنذ فترة العصور الوسطى، جمع هؤلاء الشيوخ والمريدون أنفسَهم في جماعاتٍ تُعرَف ﺑ «الطُّرق»، ومثَّلت هذه الطرقُ القنواتِ المفاهيمية — والمؤسسيةَ في نهاية الأمر — عبر الزمان والمكان، التي ساهمت في تأسيس الصوفية كتقليدٍ يَعتبره أتباعُه التراثَ السرِّي للنبي محمد. مثَّلت طقوسُ الالتحاق بإحدى هذه «الطرق» وما يُصاحبها من «بيعة» — أيْ تعهُّد بالولاء للشيخ — اكتسابَ الشخص الرسمي لصفة المريد. وعلى الرغم من أن طقوس الالتحاق تلك كانت غالبًا ما تُمارَس من قِبل مسلمين بالغين ساعين إلى التنوير الروحاني، فإنه من الناحية العملية خضع كثير من المسلمين لتلك الطقوس وهم أطفال؛ كي يتأكَّدوا من حصولهم على الحماية الاجتماعية والرُّوحانية لشيوخهم في مسارهم عبر الحياة.

من الناحية النظرية، إن الهدف من الالتحاق بطريقة صوفية ما هو إلا تعلُّم ممارسات الآداب والذِّكْر والمراقبة المتوارَثة من شيوخها؛ بهدف الوصول إلى «فناء» النفس (أي الذَّات الدنيا) الذي يقود إلى «بقاء» الرُّوح (أي الذَّات العليا). تلك التجارب يراها الصوفيون باعتبارها «مقامات» (أيْ محطات) في رحلة الصعود إلى الله، ويعتقدون أنها تمنحهم سلطةَ توجيهِ المسلمين الآخرين؛ أيْ توبيخهم أو حتى معاقبتهم. إنَّ زعم المرور بهذه المقامات أثناء الطريق إلى الله يعني أن هؤلاء الشيوخ الكبار اعتُبِروا أولياء الله أثناء حياتهم وبعد مماتهم. أما الذين يحظَوْن بأكبر قدرٍ من التبجيل والهيبة من هؤلاء الشيوخ، فقد اعتُبِروا أنهم «برازخُ» حيةٌ بين العالَم البشري والعالَم الإلهي (أيْ في مكانةٍ وُسْطى)، ويعملون كوسطاء بين المؤمن العادي والهَرَمية السماوية المكوَّنة من الأولياء والأنبياء والله.

بنِسَب متفاوتة، اعتُبِر أن كل هؤلاء الأولياء يعلمون صفات الله الإلهية من خلال ما يمتلكونه من «معرفة» خاصة، هذا بالإضافة إلى قدرتهم على صنْعِ المعجزات أو ما يُطلَق عليه «الكرامات». وإذا كان زعْمَا التنبُّؤ بالمستقبل وصنْعِ الطلاسم الحامية (الأحجبة) يُعتبَران في العصور الحديثة مُنتميَيْن لعالَم «الشعوذة» أكثر من انتمائهما لعالم «التصوُّف»، فإن كلا الأمرَيْن كانا من الخدمات المهمة التي كان يطلبها المُريدون من شيوخهم الصوفيِّين. ونظرًا لأن القدرات الإعجازية للأولياء كانت تتراوح بين شفاءِ الأطفال المرضى وتحديدِ نتائج المعارك الحربية، فقد كان السلاطين من ضمن مُرِيدي هؤلاء الأولياء بقدرِ ما كان الفلاحون. وبالرغم من ذلك، لم يكن هؤلاء المُريدون أقلَّ أهميةً من شيوخهم الأولياء فيما يتعلَّق باستمرار التقليد الصوفي؛ فمن خلال استقبالِهم التعاليمَ والمعجزات وتقديمِهم المناصَرةَ والدعم، سمحوا بالاحتفاء بأفعالِ وتعاليمِ شيوخِهم وتوارُثها. ونظرًا لكون الشيوخ والمريدين يمثِّلان شقَّي التقليد الصوفي المتلازمَين، فقد اعتُبِرا لأغراضِ هذا الكتاب شريكَيْن متساويَين فيه.

ونظرًا لمحورية هذه الروابط بين المريدين والشيوخ، وبعيدًا عن كونها السعي الفردي للحصول على الخلاص الشخصي، فإنه من الممكن اعتبار الصوفية محصلةَ مجموعاتٍ مشابهة من العلاقات؛ وذلك على النحو التالي: العلاقة بين الأولياء وأتباعهم، والعلاقة بين قرَّاء وكُتاب النصوص الصوفية، والعلاقة بين النبي محمد والشيخ الوسيط والمؤمن البسيط، والعلاقة بين الشيخ ومَن يُطيعونه؛ حيث إن الطاعة الكاملة لطالما كانت الأساسَ العاطفي للتقليد الصوفي. وفيما يتعلَّق بمساعي الصوفيِّين الشخصية للخلاص، فقد فعلوا ذلك عادةً من خلال إدارةِ تلك العلاقات بين الحي والميت، والمادي والنصي، والمرئي وغير المرئي. إن هذا الوصفَ للصوفية القائمَ في جوهره على العلاقات، هو ما جعل تعبيراتها ومكوناتها المتنوعة حاضرةً في قلبِ كثيرٍ من المجتمعات المسلمة التي في حد ذاتها ترابطت معًا بمجموعات من العلاقات التي تشرَّبت هذه الروابطَ الصوفية المباركة، وتضافرت معها. إن نتائج هذه العلاقات التي أسفرَتْ عن التقليد الصوفي الذي تراكَمَ في أماكن كثيرة عبر قرون كثيرة، هي ما يركِّز عليه هذا الكتاب.

(٤) نظرة عامة على السرد المُقدَّم في الكتاب

تُقدِّم الفصولُ القادمة سردًا تاريخيًّا لظهورِ التقليد الصوفي والانتشارِ الاجتماعي والجغرافي الذي صاحَبَ استحواذَه التدريجي على السلطة والمكانة. وقد اقتضت الحاجة لتقديم سردٍ متماسِك وسَلِس وجودَ تقييمٍ غير مُعلَن على نحوٍ كبير للمصادر الأساسية أو الثانوية المختلفة؛ ومن ثَمَّ، يجب على الطلاب الراغبين في تقييمات تأريخية دقيقة الرجوعُ إلى المقالات النقدية الحديثة التي كتبها باحثون مثلي ومثل ألكسندر كنيش ودينا لي جال.20 ولمساعدة القراء في وضع الصوفيين في إطارِ مفاهيم أكبر خاصة بالتاريخ الإسلامي، والتاريخ المقارن، والتاريخ العالمي في نهاية المطاف، قُسِّم سردُ الكتاب إلى أربع فترات تقليدية إلى حدٍّ كبير، لكنها فترات يُعتقَد أنها تشتمل على تطوُّرات مميزة في التاريخ الصوفي نفسه. وهذه الفترات التي يتناولها الكتاب في أربعة فصول هي كالتالي: فترة أوائل العصور الوسطى (٨٠٠–١١٠٠)، وفترة العصور الوسطى (١١٠٠–١٤٠٠)، وفترة أوائل العصر الحديث (١٤٠٠–١٨٠٠)، وفترة العصر الحديث (١٨٠٠–٢٠٠٠). الفصول مؤلَّفةٌ بطرقٍ مختلفة على نحوٍ تدريجي؛ فبينما يركِّز الفصل الأول على المفكِّرين الأوائل والنصوص الأولى اللذَين قدَّمَا الأسسَ والمصادر اللاحقة للتقليد الصوفي، يركِّز الفصل الثاني على العمليات التي تمكَّنَ من خلالها هذا التقليدُ من التكيُّف والتوسُّع في سياقات جغرافية واجتماعية مختلفة. ونظرًا لتناول الفصل الثالث لفترة التوسُّع الصوفي «ذي الطابع العالمي» في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وحتى الصين، فإنه يتناول جوانبَ جغرافية، في حين أن الفصل الرابع يلتفت إلى التأريخ السياسي ليتتبَّع أحوالَ التقليد الصوفي في العصر الحديث، فيما يتعلق بفترتين مترابطتين، هما فترة الاستعمار وفترة عولمة ما بعد الاستعمار.

ونظرًا للطابع المتغيِّر للمصادر التي تناولت هذه الفترات المختلفة، واختلاف أنواع الخبرات والمناهج الأكاديمية التي انجذبت إلى تلك المصادر، فإنه لا بد من وجود تحوُّل في التركيز مع تقدُّم هذه الفصول؛ من التركيز على كتابات «الرجال العظماء» الحضريين المستقلِّين في الفصل الأول، إلى العرض التدريجي لمجموعاتٍ اجتماعية وتطوُّراتٍ أخرى بدلًا من التركيز على التطورات الفكرية. إن معظم القراء الأكثر حصافةً سيُدركون بسهولة أن هذا جزءٌ من مسعى البحث التاريخي والتاريخ الصوفي نفسه؛ فمع ترك الكثير من الصوفيِّين، على اختلاف طرقهم، أنواعًا مختلفة من التراث — سواء النصي، أو المادي، أو الطقسي — لوَرَثتهم، تمكَّنَ الباحثون من تكوين صورٍ أكمل لعوالمهم. على الرغم من ذلك، وعلى النقيض من الدراسات السابقة للصوفية، فقد خَصصتُ في هذا السرد مساحاتٍ متساويةً تقريبًا لكل فترة من الفترات الأربع، هذا بالرغم من أنه من الجائز القول إن المتخصِّصين سوف يجدون الكثيرَ من الأمور المألوفة حقًّا بالنسبة إليهم في أجزاء من الفصلين الأول والثاني؛ نظرًا لأن الفترات الأولى قد حظيَتْ بتناوُلٍ أكبر بكثير. بالرغم من ذلك، عند تناوُل التوسُّع العالمي المتزايد تدريجيًّا للصوفيين، يقدِّم الفصل الثاني، والفصلان الثالث والرابع بصفة خاصة، تغطيةً لمناطق في أفريقيا ووسط آسيا وجنوبها الشرقي وجنوبها، وأخيرًا أوروبا التي اعتُبِرت عادةً هامشيةً بالنسبة إلى «مَواطن» الصوفية، المُفترَض أنها واقعةٌ في الشرق الأوسط. وحتى إذا وَجَد بعضُ القراء في بعض المواضع أن الموضوع مألوفٌ بالنسبة إليهم، فإنني آمُل أن يُضفِي نطاقُ التناوُل والنموذجُ الشامل لتقليدٍ يتطوَّر ويتوزَّع تدريجيًّا في سياقات كثيرة مختلفة؛ الأصالةَ على السرد ككلٍّ.

تتمثَّل خطورةُ تناوُل هذا القدر الكبير من الموضوعات في كتاب واحد في فقدان الوضوح وسطَ هذا الكمِّ الكبير من البيانات، خاصةً في الفترات التي شهدت التوسُّع السريع للصوفية بدايةً من أوائل العصر الحديث. لهذا السبب، قد يكون من المفيد في هذه المرحلة أن نوضِّح بأبسط طريقةٍ التفسيرَ الكلي للتاريخ الصوفي الكامن في هذا السرد. تتمثَّل الحُجة باختصارٍ في أن التقليد الصوفي تشكَّلَ على نحوٍ تدريجي في أوائل فترة العصور الوسطى، داخلَ الدوائر نفسها التي تكوَّنت فيها الفكرةُ الإسلامية المِعيارية الخاصة بالسُّنَّة التي تمثِّل النموذج النبوي؛ ففي القرنَين التاسع والعاشر، كتبت مجموعةٌ متنوعة من المفكرين المقيمين في العراق وإيران سلسلةً من الأعمال باللغة العربية، أصبحت أساسية في تقديم المصادر الاصطلاحية والمفاهيمية التي ستورث إلى الأجيال التالية. نُقِلت مصطلحات هذا المعجم الصوفي على هيئةِ كلماتٍ مُقترضة إلى اللغات الإسلامية المتعددة، ومثَّلت مع النماذج الخطابية التي طوَّرتْها الإطارَ المفاهيميَّ للصوفيين في العصور الحديثة.21 ومنذ أوائل القرن الحادي عشر، بُنِي الجيل الثالث والجيل الرابع من الصوفيين على أفكار المُنظِّرين الأوائل، هذه الأفكار التي تكون متناقضةً في بعض الأحيان؛ من خلال وضع سجلاتِ أنسابٍ وتواريخ لتعاليمهم تَربطها بوقت قديم يعود إلى عصر النبي محمد. منذ هذه اللحظة فصاعدًا، أصبح هذا الميل إلى النظر إلى الماضي ضروريًّا للوعي الذاتي التاريخي الذي قدَّمَ تعاليم الصوفيين كتقليدٍ يمكنهم أن يُقدِّموه على أنه العقيدة الأسمى التي توارثوها دون انقطاعٍ عن النبي محمد نفسه.

بالتمسُّك بما حوَّله الصوفيون في فترة العصور الوسطى من بلاغة خطابية إلى تقليد راسخ مَلموس، تمكَّنوا من الحفاظ على وضعهم المعياري المُحترَم عندما جعَلَهم انهيارُ السلطة الإسلامية المركزية ممثِّلين مُهمِّين للكيانات القبلية الضعيفة التي ناصَرَتْهم في المقابل. ومع توسُّعهم حينَها في مناطق حدودية جديدة في جنوب شرق آسيا، وأيضًا في أفريقيا في أوائل العصر الحديث، تمكَّنوا من الحفاظ على مكانتهم هذه حتى بالرغم من اندماجِهم المتزايدِ في دول إمبريالية أكثر قوةً، وحملةِ التصحيح التي أعقبت بداية الألفية الإسلامية عام ١٥٩١. وأثناء الانهيار الكبير للقوة التجارية والسياسية الإسلامية في العصر الحديث، كانت الصوفية من بين المؤسسات الإسلامية القليلة الموجودة فيما قبل العصر الحديث، التي نجتْ من الاستعمار الأوروبي بلا تأثُّر إلى حدٍّ كبير. وباعتبار الصوفيين تجسيدًا للتقليد النبوي، وكذلك للتقليد الصوفي في المجتمَعات الكثيرة جدًّا، التي ظلوا يمتلكون فيها الأراضي ويسيطرون على شبكات التعليم والالتحاق بالطرُق الصوفية؛ فإن استمرار مكانتهم البارزة في القرن التاسع عشر جعلهم يَنجذِبون إلى اتجاهاتٍ مختلفة بسبب مَطالب كلٍّ مِن المُريدين المحليِّين والحكَّام الاستعماريِّين.

إنَّ سياسات الإصلاح الإسلامي المعارِضة للصوفية، التي دخلت القرن العشرين وهي واثقةٌ في حالات كثيرة من مكانتها العالية المُكتسَبة من تحالُفاتها الحديثة مع الدول الاستعمارية والدول الإسلامية على حدٍّ سواء؛ جعلت هذا الكيانَ الصوفي هدفًا طبيعيًّا للمُنافسة والهجوم. ومنذ بداية القرن العشرين تلقَّتِ الصوفية الهجومَ الأقوى والأكثر نجاحًا، سواء على يد إصلاحيِّين صعدوا إلى طبقةٍ اجتماعيةٍ أعلى، وكانوا قادمين مِن خلفيات غير تقليدية مثل تعليم المدارس الحكومية أو الصحافة، أو على يد أتباع التيار الحداثي الحاصِلين على تعليمٍ علمي، الذين رفضوا الصوفية لكونها رمزًا للتقليدية المنحَطَّة التي أدَّت إلى وقوع المسلمين في قبضة الاستعمار. وعلى الرغم من أنه في نهاية القرن العشرين حافَظَ عدة ملايين من المسلمين على الروابط التي تربطُهم بالأولياء الأموات والشيوخ الأحياء للتقليد الصوفي، وسمحَتِ العولمة لروَّاد نشر التقليد الصوفي بالعثور على أتباعٍ جُددٍ في أمريكا وأوروبا؛ فقد أصبحت الصوفية بالنسبة إلى المسلمين المتعلِّمين بصفة خاصة تمثِّل الفسادَ والخرافة والتخلُّف.

أخيرًا، ينبغي توضيح المقصود من استخدام الكِتاب لِلَفظة «عالمي». الأمرُ «العالمي» في السرد التاريخي المقدَّم هنا ليس له علاقةٌ مباشِرة بما كُتِب عن نظرية العولمة، بل هو محاوَلة لتقديم تناوُلٍ لكلِّ منطقة على الكوكب انتشرت فيها الصوفية على مدار فترةٍ تزيد عن ألف سنة. علاوةً على ذلك، فإن هذا التناول العالمي التدريجي مُقدَّم كسردٍ تاريخي من الترابط، يوضِّح أن الصوفية وسيلة ثقافية للترابط والتبادل بين المناطق. ونظرًا لامتداد الصوفية من شرق البحر المتوسط وغربه، إلى وسط آسيا وجنوبها في فترة العصور الوسطى، لتصل تدريجيًّا إلى جنوب شرق آسيا والصين وأفريقيا في أوائل العصر الحديث، وفي النهاية إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وحتى أستراليا في بداية القرن العشرين؛ فمن المعقول الزعم أن نطاق الانتشار الصوفي كان حقًّا عالميًّا. والأهم من ذلك، أنَّ هذا السردَ يحاول تحديدَ بعض العمليات التي تغيَّرَ من خلالها هذا التقليد الديني الذي تكون في سياق مكاني وزماني (وأيضًا لغوي وخطابي) معيَّن؛ تغيَّرَ من ناحية التكيُّف واستيعاب اللغات والعادات المحلية، عبر تقديمه إلى بيئات جديدة على نطاق عالمي تدريجي. وعلى الجانب الآخَر، يتتبَّع السردُ المشاكلَ التي سبَّبها ذلك التوسُّع العالمي للصوفية نتيجةً لتكيُّفها مع الكثير من البيئات المختلفة، خاصةً أثناء توسُّعها الجغرافي الأسرع أثناء فترة أوائل العصر الحديث وفترة العصر الحديث اللتين اتَّسمتا ﺑ «الطابع العالمي». من المهم على نحوٍ خاص في هذا الصدد معرفةُ الطريقةِ التي أدَّت بها عملياتُ التكيف — التي انتشرت بمُقتضاها الصوفيةُ بدايةً من القرن السابع عشر في مناطق جديدة — إلى انتشار صورٍ محلية متنوعة من التقليد الصوفي. وعندما صاحَبَ استراتيجيةَ التكيُّف العالمية تلك التقلباتُ الاقتصادية والسياسية لعصور الرأسمالية والاستعمار العالميَّيْن، أدَّى ذلك إلى حملةِ تصحيحٍ إسلامية سعَتْ إلى إصلاح التقليد الذي اعتزَّ به الصوفيون ونشروه على مدار الألفية الماضية، وسعت إلى قمعه في نهاية المطاف. لذلك، فإن التكيُّف الثقافي للتقليد الصوفي، الذي حدث من خلال استيعاب اللغات والعادات المحلية في التقليد، نُقِض على يد الصوفيين والمُعادِين للصوفيين في نهاية المطاف، الذين سعَوْا إلى إنهاء الزخم «التراكمي» للتقليد من خلال تجديد الاهتمام بتعلُّم اللغة العربية والسُّنَّة النبوية. ومع بداية القرن العشرين، عندما أصبح المسلمون أكثرَ احتكاكًا بأنواع المعرفة الأوروبية، أصبحت الصوفية، التي ركبت موجةَ الانتشار العالمي للإسلام في بداية العصر الحديث، ضحيةَ نجاحها السابق على نحوٍ متزايد؛ ومن ثَمَّ أصبحت توجد ديناميةُ دفعٍ وجذبٍ متأصِّلة تكشف عن نفسها من خلال هذه الدراسة المطوَّلة والموزَّعة على نطاق عالمي.

في حين أن هذا الاستعراض لمحتوى الكتاب قدَّمَ فقط أقصرَ توضيحٍ للتطورات الأساسية التي ستتناولها الفصول القادمة، فإنه يجب أن يكون واضحًا أن الهدف الأساسي للسرد هو تقديمُ تاريخ الصوفية وفقًا لتكوينها على يد مجموعة من العمليات «الطويلة الأمد»، التي من خلالها تشكَّلَ التقليدُ تدريجيًّا وانتشر، وأُعِيد تشكيله، وبالنسبة إلى كثيرين، رُفِض أخيرًا في القرن العشرين بسبب المنافَسة مع الأشكالِ البديلة الكثيرة من الإسلام، المطروحةِ في السوق الدينية العالمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤