الفصل الثالث

الإمبراطوريات والحدود والمجددون (١٤٠٠–١٨٠٠)

(١) تمهيد

في الفصل الثاني، رأينا نفوذَ وامتدادَ الصوفيين ينتشر في عدة اتجاهات اجتماعية وجغرافية. ونظرًا لأنَّ الصوفية تراوَحت ما بين سلاسل من النُّظم الماورائية والأغاني المؤلَّفة باللغات المحلية والشبكات الاجتماعية والحماية عن طريق المعجزات، فإنَّ الأمور المختلفة التي كانت تعنيها في فترة العصور الوسطى ضمنت قبولَها بين أوساط الأمراء والفلاحين، والبدو والحضريين، والمتعلمين والأميِّين. وبطبيعة الحال، فإن هذا الانتشار المؤثِّر للأشخاص والممارسات كان يعني وجود مُنتقِدين لأنواع معينة من الصوفية وممارسيها، وكان أشهر هؤلاء المُنتقِدين العالِم الشامي ابن تيمية (المتوفَّى عام ١٣٢٨). إلا أن هذه الانتقادات كانت إلى حدٍّ كبير موجَّهةً لجوانب معينة — ومتعلِّقة بالجماهير بصفةٍ خاصة — من تبجيل الأضرحة، وليس إلى البناء الماورائي والأخلاقي الكامل المرتبط بالأولياء. كان ابن تيمية عنيفًا بصفة خاصة في انتقاده للموالد التي تُقام حول مقابر الأولياء الصوفيِّين؛ إذ اعتبَرَها «بدعة» منحرِفة عن السُّنَّة النبوية.1 بالرغم من ذلك، من الممكن أن يكون ابن تيمية نفسه من الصوفيين، وقد كان من مُحبِّي عبد القادر الجيلاني (المتوفَّى عام ١١٦٦)، الذي كان أعظم صوفي في بغداد.2 أما الانتقادات التي وجَّهها الآخَرون، فكانت على الأرجح حالاتِ هجومٍ «شخصي» على صوفيِّين بعينهم، وليست على مجموعات متَّحدة من الصوفيين في العموم، وكانت الانتقادات في شكلِ هجومٍ من قِبَل مسلمين معيَّنين (غالبًا ما كانوا صوفيِّين) على مسلمين معيَّنين آخَرين.

على الرغم من أنه في أحيان قليلة جاءت حالات الهجوم تلك من جهات مؤثِّرة بدرجة كافية على نحوٍ يُمكِّنها من استخدام سلطات الدولة (كما في حالةِ إعدامِ شهاب الدين السُّهروردي في حلب عام ١١٩١)، فقد شهدت فترة العصور الوسطى في أغلب الأحيان ممثِّلين للدولة يَدعمون بقوةٍ الصوفيين والمؤسسات الصوفية. وإلى حدٍّ كبير، فإنَّ النفوذ الهائل الذي تحقَّقَ للصوفية جاء من خلال تحالُف مُمثِّليها مع السلطنات الإقليمية التي كانت شرعيتها مُعتمِدة على الدعم العام للإسلام؛ وأدَّى هذا إلى استثمارٍ كبيرٍ في الأضرحة والمساكن الصوفية، جعل الصوفية طوالَ فترة العصور الوسطى راسخةً مكانيًّا في المدن والقرى، بدءًا من ساحل أفريقيا المطلِّ على المحيط الأطلنطي، حتى خليج البنغال. وإذا كان انتقاد صوفيين معيَّنين جزءًا من إيقاع الجدل الديني في فترة العصور الوسطى، فإنه لم يكن يوجد هجوم كامل على الصوفية، وما كان يمكن أن يوجد هجوم؛ لأن «الصوفية» لم يكن لها وجود محدَّد كفئةٍ بالمعنى المعاصر، وهذا يعني أن مهاجَمة الصوفية ككلٍّ ستكون هجومًا على الإسلام نفسه؛ ومِن ثَمَّ فمن المُهمِّ أن ندرك أن الصوفية إلى حدٍّ كبير جدًّا كانت تمثِّل صورةَ الإسلام في فترة العصور الوسطى؛ أيْ إسلام الأولياء والمعجزات المدعوم ليس فقط بالجهود الفكرية المقدَّمة من العلماء، وإنما أيضًا بالحماس الشديد تجاهَه من قِبَل رجال القبائل. وبالرغم من الاستخدامات المعتادة لمصطلح «الصوفية» من قِبَل الأكاديميِّين والناشرين، فإن مصطلح «الإسلام الصوفي» أكثر فائدةً على الأرجح منه.

على الرغم من أنه سيكون من التبسيط المُخِل تقديمُ مسارٍ واحد للمصائر التي لاقَتْها الصوفية في المناطق المختلفة تمامًا، التي انتشر فيها ذلك «الإسلام الصوفي»، فإنه مِن الممكن ملاحظة حدوثِ تطوُّراتٍ معينة شائعة أو واسعةِ النطاق في القرون ما بين القرن الخامس عشر والقرن التاسع عشر. وإلى حدٍّ كبير، تتعلَّق هذه التطورات بتغيُّرات كبرى في العلاقة بين الصوفية والدولة، وكانت هذه التغيُّرات نفسها مُعتمِدةً على ظهور أنواع جديدة من الدول المنتمية لأوائل العصر الحديث، التي كانت أكثرَ بيروقراطيةً ومركزيةً وثقةً في سلطتها. ومع التداوُل السريع للحُكْم بين الأُسَر الحاكمة في قرونِ غزْوِ القبائل في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر تقريبًا، لم تكن سمةُ تفاعُلات الدولة مع الدين التقلُّبَ فحسب، بل كانت هذه التفاعلات أيضًا مؤيِّدة في الغالب لاستقلال الطبقات الدينية؛ لأنَّ الأُسَر الحاكمة القبَلية الوافدة حديثًا سعت إلى اكتسابِ الشرعية من خلال رعايتها للصوفيين، الذين كانوا يتمتَّعون بتأثيرٍ كبير على الشعب. وبالإضافة إلى استخدامِ هِباتِ «الوَقْف» التي ضمنَتِ استمرارَ هذا الاستثمار في دعم العائلات الصوفية عبر الأجيال في المستقبل، فقد كان أثر ذلك من الناحية العملية أنْ كانت المؤسَّسات الصوفية أكثرَ استقرارًا في الغالب من مؤسَّسات الدولة؛ فقد كانت هذه الأُسَر الحاكمة القبلية تَعتلِي سُدَّة الحُكْم وتَسقُط من الحكم بقصورها وسياساتها في تعاقُب سريع، إلا أن الأضرحة والمساكن التي منحَتْها للصوفيين استمرَّت بعد رحيلِ تلك الأُسَر لتكون السِّمة الأكثر ديمومةً على الصعيدين المادي والاجتماعي. ومن خلال العمارة المَهيبة والمُعمَّرة في أغلب الأحيان لأضرحة الصوفيين، اكتسبوا نوعًا من الخلود الحجَري؛ إذ تحوَّلت أجسادهم إلى أحجار الأضرحة التي أصبحت جزءًا دائمًا من المناطق الحضرية والريفية التي عاش ومات فيها المزيد من المسلمين الفانين.

في ضوء هذه الخلفية، ليس من العجيب انتشار فكرةِ أن الصوفيين هم الحكَّام الحقيقيون للمناطق المحيطة بأضرحتهم؛ لأن «وِلاية» الولي تعني أيضًا سلطته الروحانية على النطاق أو «الولاية» الإقليمية خاصته، وقد اتضحت هذه الأيديولوجية في العديد من الأعمال السردية التي تصف الأولياء وهم يمنحون ممالكَ للسلاطين الذين كانوا مجرَّد حكَّامٍ مرئيِّين لهذه الممالك. وتظهر أيضًا الاستمرارية النِّسبية للصوفيين مقارَنةً بالسلاطين في أمورٍ متعلِّقة بالسلالة؛ فلقد رأينا بالفعل الطرقَ الصوفية تدعَم نموذجَ سلسلةِ نَسَب الشيوخ؛ حيث يَرِثُ كلُّ شيخٍ البركةَ والمعرفة والسلطة من أسلافه. وفي ظلِّ عصرٍ كانت فيه سلسلةُ النَّسَب (سواء المُختَلَقة أو الحقيقية) ضروريةً للمطالَبة بأي سلطة، سواء سياسية أو دينية، استطاعت أُسَر الأولياء الكبيرةُ — التي ظهَرت في فترة العصور الوسطى — زعْمَ امتلاكِ سلاسل نَسَب لا يُمكن انتقادها. واستُخدِم للإشارة إلى هذه السلاسل المصطلحات نفسها التي استخدمها السلاطين؛ إذ يمكن استخدام المصطلح الصوفي «سلسلة» للإشارة إلى «سلالة» ملكية ودينية على حدٍّ سواء. وقد لعبت الأُسَر والطرق الصوفية الكبيرة — التي ظهرت في فترة العصور الوسطى، واتَّسمت بالثراء بسبب ممتلكاتها، وأثارت خشيةَ الناس بسبب قدراتها الغريبة — أدوارًا مِحوَرية في مجتمعاتها؛ فقد كانوا، باختصار، طبقةً متحكِّمة ذات نفوذ واسع. وكما هو الحال مع كل الطبقات أصحاب النفوذ، فقد كانوا يحافظون على مكانتهم من خلال مكانهم المحوري في شبكة العلاقات التي ربطتهم بأتباعهم في كل قطاعات المجتمع.

سنرى في هذا الفصل التخلِّي التدريجي عن هذه الأوضاع القديمة؛ نظرًا لظهورِ كياناتٍ دولية أكبر وأكثر نجاحًا، سمح طولُ بقائها وسيطرتها الأكثر فاعليةً على مواردها بفرض تغييرات مؤسَّسية في الهياكل الدينية لمُجتمعاتها على مدار فتراتٍ أطول. وعلى الرغم من أن كل إمبراطورية من الإمبراطوريات التي ظهرت في أوائل العصر الحديث طبَّقت هذه السياسات لأهداف مختلفة، فإنها في كل حالة أحدثت تغييرًا في العلاقة بين الصوفيين والدولة. وأدت هذه التغييرات، التي كانت مصحوبةً في الوقت نفسه بتقوية الروابط بين الدولة والمجتمع، التي كانت ضعيفةً في السابق مقارَنةً بالروابط بين الصوفيين والمجتمع، التي كانت أقوى في السابق؛ إلى تحوُّل تدريجي في ميزان القوة بين النخب الدينية والنخب الحاكمة، ولم يُضعف هذا بالضرورة الصوفيين؛ لأنهم، كما سنرى، أصبحوا في حالات كثيرة أكبر المستفيدين من السيطرة الأكثر كفاءةً للدولة على مواردها. ونظرًا لأن هذه الموارد تضمَّنت توظيفَ أعداد أكبر من الموظفين الحكوميِّين، فسنرى في سياقات عديدة أن الطرق الصوفية أصبحت مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بسلطات معينة في الدولة. ونرى أحد الأبعاد المهمة لهذه العملية في تزايُد دور الصوفيين في سكن الحدود؛ حيث لعبوا دورًا كبيرًا في توسيع الأراضي الجديدة الواقعة على أطراف نطاق سيطرة الدولة واستيطانها. ولم يحدث ذلك فقط على الحدود في فترة العصور الوسطى، مثل جبال جنوب شرق أوروبا وغابات البنغال، بل امتد في ذلك الوقت نحوَ الحدود الجديدة الآخِذة في الاتساع في أفريقيا وجنوب شرق آسيا؛ نظرًا لأنَّ الدول الإسلامية الجديدة التي ظهرت كسماسرة للتجارة العالَمية المُزدهِرة في الذهب والتوابل والرقيق استخدمت الصوفيين كمُستوطِنين ومديرين لأراضيهم الجديدة؛ ومن ثَمَّ، إذا كانت الصورة الجديدة تتمثَّل في تغييرِ مكانةِ الصوفيين بين الدولة والمجتمع أكثر من كونها تحوُّلًا بسيطًا في المصائر، فإنها شهدت دخولهم في علاقات جعلتهم أكثر اعتمادًا على الدول، وأكثر تأثُّرًا بالتغيُّرات في سياسات أو مصائر الدول المرتبطين بها في نهاية المطاف.

في الصفحات التالية، سوف نتتبَّع الدورَ المتناقض الذي لعبتْه الصوفية في الإمبراطوريات والسلطنات الإقليمية البارزة في فترة أوائل العصر الحديث، من خلال فحص الطرق التي من خلالها كانت الصوفيةُ لهذه الدول وسيلةً لتحقيق السيطرة العقائدية، والترابط الاجتماعي، والتوسُّع الإمبراطوري، وفي الوقت نفسه وفَّرت سبلًا للتحريض على التمرُّد وتحديد نطاق الانقسامات. أول نسَقٍ عام نَستنتجه هو استخدام الأفكار الصوفية والصوفيِّين كموارد لبناء الدولة، وأوضَحُ تمثيلٍ لهذا النسَق نجدُه في استخدام أنماطِ السلطة الصوفية من قِبَل الحكَّام، واستخدام أنماط السلطة السياسية من قِبَل الصوفيين. ونظرًا لأنَّ الأباطرة أنفسهم سعوا إلى تقديمِ أنفسهم في صورة صوفيين، فربما من الجائز قول إنَّ القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر شهدا أعلى ذروة للتأثير الصوفي حتى وقتنا الحاضر؛ حيث اقترضت اللغة الإنجليزية كلمة sophy (المأخوذة من اسم الطريقة الصفوية)، وتسرَّبت هذه الكلمة حتى إلى معجم شكسبير ومؤلِّفي مسرحية «رحلات الإخوة الإنجليز الثلاثة»، واستُخدِمت كلقبٍ للملوك الفرس، وليس للشخصيات الدينية. إلا أن هذا النجاح الكبير انطوى على الحاجة إلى التقليل من تأثيره؛ لأنَّ الأشخاص الموجودين خارج زُمَر الصوفيين أصحاب النفوذ قلقوا مِن اطِّلاعهم على الموارد المالية للدولة ومعارفها؛ لذلك مع مرور الوقت أصبح هذا التواطُؤ بين السلطة السياسية والسلطة الصوفية يُعتبَر ذا نتائج عكسية، بل مهدِّدًا أيضًا لاستمرارية سلطة الدولة على المدى الطويل مقارَنةً بالاستيلاء الأصلي على السلطة، واتَّضح ذلك الأمر من خلال تزايُد قدرةِ دول معيَّنة على تكوين نموذجٍ ﻟ «العقيدة الإسلامية الحنيفة» وفَرْضه على مواطنيها.
النسق العام الثاني الذي سوف نُناقشه يتعلَّق بازدياد انتقاد الفقهاء لأشكال معيَّنة من الصوفية، وهذا الانتقاد إنْ كان يعود إلى حدٍّ كبير إلى التحاق الفقهاء بمناصب في الدولة، فإنه يُعدُّ أيضًا انعكاسًا ﻟ «حملةِ تصحيحٍ» أكبر لازمَتْ بدايةَ الألفية الإسلامية عام ١٥٩١. وعزَّز التأثير الثقافي لهذا الحدث الأخير ارتباطه بخطابٍ طويل الأمد، يحتفي ﺑ «التجديد» الديني و«المجدِّدين» الدينيين الذين يأتون مع مرور كل قرن ومع مرور الألفية بصفة خاصة.3 بطبيعة الحال، كانت بداية هذه الألفية أكثر أهميةً؛ من حيث الزمن الثقافي مقارَنةً بالزمن الطبيعي أو العملياتي الذي يهتمُّ به المؤرخ. أما ما أكسَبَ هذه الألفية الأهمية، فتمثَّلَ في أن القرن الذي أعقبها — أول قرن في الألفية الثانية بالزمن الثقافي الإسلامي — تزامَنَ مع مجموعةِ تطورات في الزمن العملياتي الذي يهتمُّ به المؤرِّخ. أثَّرت هذه التطورات على مناطق إسلامية مختلفة بطرق متعدِّدة ومميزة، والتي شملت زيادة عدد السكان، التي غيَّرت العلاقات الديموغرافية بين المجموعات الاجتماعية المُختلفة؛ وزيادة التحضُّر، الذي أدَّى إلى ازدياد التفاعل بين أهل الحضر والفلاحين والبدْو؛ وتوسُّع التجارة، الذي مكَّنَ مجموعات التجار وأدَّى إلى تزايُد التعاملات مع الشعوب غير المسلمة؛ والتغيُّرات البيئية الطبيعية أو البشرية الصُّنْع؛ التي أسفرت عن عملياتِ هجرةٍ واستيطانٍ لمناطق جديدة، وفترة جديدة من المواجَهات العسكرية مع كيانات وثنية ومسيحية في أوراسيا وأفريقيا، هذا بالإضافة إلى أمر آخَر لا يقلُّ أهميةً على الإطلاق؛ أَلَا وهو تكوين دول إمبراطورية جديدة لها أجندات بيروقراطية جنَّدت القادة الدينيين والخطابات الدينية في خدمة الحُكْم على نحو متزايد. كان لكلٍّ من هذه التطورات على صعيد التاريخ الاجتماعي أثرُه على تطوُّرات أخرى على صعيد التاريخ الديني، ممَّا جعل أفرادًا معيَّنين أو جماعات معينة من الصوفيين — الذين يعملون في نطاق متنوِّع من المناطق — يشعرون أن المسلمين من حولهم فقَدوا مبادئهم الأخلاقية أو الروحانية الأساسية. وعلى الرغم من أن قدوم الألفية الإسلامية الجديدة لم يكن سَلِسًا، وكان سَيْرها معقَّدًا، فإن تزامُنَ الزمن الثقافي للألفية الإسلامية الجديدة مع الزمن العملياتي للحداثة المبكِّرة كان له أهمية كبرى. وعلى الرغم من كون مصطلح «حملة تصحيح» مثيرًا للجدل، فقد استخدمناه في هذا الفصل في محاوَلةٍ لإدراك أهمية هذا التزامُن العام والمتنوِّع الجوانب بين المسارَين الزمنيين على الصعيدَين العام والمقارن.

في معظم الأحيان، لم يُعبَّر على نحوٍ صريح عن حملة التصحيح التي رافقَتِ التغيرات الاجتماعية المتعدِّدة الجوانب التي حدثت في أوائل العصر الحديث، فيما يتعلَّق بالألفية الجديدة، بل عبر المُطالَبات العديدة بالتأمُّل الذاتي أو التجديد التي انطلقَتْ من جنوب شرق آسيا وحتى غرب أفريقيا. ولم تحدث تلك الحملة في وقت واحد في كل المناطق، بل اعتمَدَ توقيتها على عوامل محلية متعلقة بالتغيير الاجتماعي والتحرك الفردي. وعند استحضار الألفية على نحوٍ صريح استُخدِمت أهميتها الدلالية لأهداف استراتيجية وبلاغية؛ سعيًا لتحقيق أجندات معينة. وعلى الرغم من ذلك، يُمكن استنتاج بعض الاتجاهات العامة. وفي كل المجالات تقريبًا، شهدت حملة التصحيح محاولات لتقليل تأثير الأفراد أو الحركات التي اعتُبِرت على نحوٍ مُتزايد «متعارِضةً مع العقيدة الإسلامية الحنيفة» في نظر الدولة، لا سيَّما الحركات ذات الجاذبية، التي كانت قادرةً على تأجيج التمرُّدات ضد السلطة الحاكمة. وللأسباب نفسها، عندما كان حماس الفقهاء الزائد يهدِّد السلامَ الاجتماعي، لم تكن الدول في هذه الفترة أقلَّ رغبةً في قمع الفقهاء المُنتقِدين للصوفيين. وسواء أتعلَّقَ الأمر بالحركات ذات الجاذبية أم بالفقهاء، فقد تمثَّلَ النسق الأكبر في تزايُدِ سيطرة الدولة على الساحة الدينية التي استحسنَتْ أو استهجنَتْ بالتبادُل جماعاتٍ مختلفةً صوفية أو مناهِضةً للصوفية في الفترات والأماكن المتنوِّعة التي سوف نتناولها في هذا الفصل. في العموم، ما سنراه في هذا الفصل هو تصوير للإمبراطوريات الإسلامية في أوائل العصر الحديث، والتي ربطت نفسها في البداية بأشكال الصوفية الجذابة في القرن السادس عشر، ثم تزايد ابتعادها عنها مناصرةً للإسلام الأكثر التزامًا بالشريعة (سواء الصوفي أو غيره) في القرن السابع عشر.

على الرغم من ذلك، إذا نظرنا إلى الجانب الآخر من «منظور الدولة» هذا، فسنتعلَّم الكثير من الأمور من المنظور الأصغر نطاقًا، المتعلِّق بأفعال الجماعات الصوفية الصغيرة والأفراد الصوفيِّين. فبينما كانت الدول في أوائل العصر الحديث تلعب دورًا أكثر تأثيرًا في تاريخ الصوفيِّين مقارَنةً بالقرون السابقة، فهذا لا يعني أن الصوفيين كفوا عن كونهم عناصر فاعلة في صناعة تاريخهم. وإذا غيَّرنا المنظور كي ننظر إلى أنشطة الطرق الصوفية وحتى العائلات الصوفية (إذ يبدو من المُمكن أننا نستطيع أيضًا تمييز شخصيات صوفية باعتبارهم أفرادًا وليسوا أنماطًا في ذلك الزمن)، فإننا نستطيع أن نرى كيف تكيَّفَ الصوفيون مع الظروف الجديدة في فترة أوائل العصر الحديث. مرةً أخرى، كان التناقض هو السمة السائدة؛ فمن ناحية، تواطَأَ الصوفيون مع الدول، وعملوا بإرادتهم ﮐ «إمبرياليِّين» (وإنْ كان ذلك في الغالب على نحوٍ غير رسمي) في خدمة الدولة، ومن ناحية أخرى استخدموا الفُرَص الوفيرة للغاية المتاحة لهم في هذه الفترة لتكوين نطاقات خاصة بهم ذات نفوذ يفوق نفوذَ الدولة، بصفتهم نُخَبًا متنقلة تتجاوز حدودَ الإقليم.

وأخيرًا، في سياق تقلُّص الإمبراطوريات وانتشار الاضطرابات الاجتماعية منذ منتصف القرن الثامن عشر، سوف نتتبَّع في هذا الفصل ظهورَ سلسلة من الطرق الصوفية الفرعية الجديدة، التي سعت إلى فرض النظام على المجتمعات التي رأت أنها تنهار. وكان نجاح تلك الطرق الفرعية في فعل هذا في حد ذاته نتيجة للحركة المتزايدة في أوائل العصر الحديث، والشرعية المنتقلة من فترة العصور الوسطى للتقليد المستمر الذي زعم الصوفيون نقله، إلى القرن الثامن عشر المتسم بالاضطراب. مرة أخرى، فإن فكرة الصوفية كآليةِ «تقليدٍ» قادرةٍ على التكيُّف وإعادة إنتاج نفسها عبر الزمان والمكان، تساعدنا على فهم كيف كانت الصوفية ردًّا فعَّالًا للغاية على انهيارِ أشكالِ التنظيم الاجتماعي اللوجستية والأيديولوجية الأخرى.

(٢) العلاقات المُتناقضة بين الإمبراطوريات والطرق الصوفية فيما بين عامَيْ ١٤٠٠ و١٦٠٠ تقريبًا

في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر، سيطرت القبائل الرُّحَّل أو الاتحادات القبلية على تكوين الدول في معظم الشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا. وكانت معظم هذه الجماعات القبلية لديها ارتباطات مميزة مع عائلات أو طرق صوفية معينة، وعلى الرغم من ذلك، كان ثمة اختلافٌ في نوع الصوفيين الذين اختار حكَّام تلك القبائل الارتباط بهم في فترات مختلفة من مسيرتهم؛ فمن خلال ارتباط الصوفيين بالمرحلتين اللتين كانت تمر بهما أيُّ قبيلةٍ تنجح في تكوين دولة، يُمكِننا تقسيمهم على نحوٍ فضفاض إلى صوفيين «قبليِّين» وصوفيين «مستقرين». في الفصل الثاني، رأينا جلال الدين الرومي (المتوفَّى عام ١٢٧٣)، الذي يُعدُّ أشهرَ مثال على «الصوفي المستقر» المتعلِّم والمثقف، الذي يَلقى مناصَرةً من كيان قَبلي في أثناء فترة استقراره؛ حيث بزغ نجمه بدعمٍ من الأتراك السلاجقة بعد استقرارهم في عاصمتهم قونية. أما في هذا الفصل، فاهتمامُنا مُنصبٌّ أكثر على «الصوفي القبَلي» الذي ارتبط بالجيل التالي من القبائل، الذين كانوا لا يزالون في مرحلة البداوة. لقد قابلْنا بالفعل هذا النوعَ من الصوفيين على نحوٍ وجيز في الفصل الثاني، عندما ناقشنا كيف تمثَّلَ أحدُ جوانب إضفاء الطابع المحلي على الصوفية في ظهورِ أولياء ذوي شخصياتٍ جذَّابة، كانوا يَرتدون جلودَ وقرونَ الحيوانات، ويعملون على حمايةِ عشائرَ أو قبائلَ بعينها. كان هذا الارتباط مناسبًا؛ حيث تخصَّص كثير من هؤلاء الصوفيين في توظيف قدراتهم الخارقة للطبيعة لصالح مُتطلَّباتٍ قبليةٍ تقليدية؛ مثل اكتشاف مصادر المياه، أو التدخُّل في الصراعات المتعلِّقة بأراضي الرعي.4 ونظرًا لأن هذه القبائل الناجحة كانت ثرية بثرواتها المتنقِّلة المُتمثِّلة في الماشية والعبيد وسبائك الذهب أو الفضة، فقد كانت هذه الارتباطات مفيدةً للطرفين. وفي حالات عديدة، وجدنا هؤلاء القبَليِّين يُعطون البيعةَ لهؤلاء الحماة الصوفيين، الذين استطاعوا نتيجةً لذلك الإطاحةَ بسلطة شيوخ القبائل. ونظرًا لكون هذه العملية نتيجةً للتركيب الاجتماعي الانفصالي للقبائل أكثر منها نتيجة لعمليات الجاذبية المستقلة، فإنها قد اكتسبَتْ أهميةً خاصة من خلال قدرتها على توحيد جماعات قبَلية مختلفة تحت لواء قائد صوفي مشترك؛ إذ إن الصوفي، بصفته «غريبًا» مولودًا خارج الجماعات التي تنتسب لها القبائل، كان قادرًا على توحيد أعضاء القبائل المختلفة المُتنافِسة بفاعليةٍ أكبر، مقارَنةً بما يستطيع أن يفعله أي عضو ينتمي لأيٍّ منها. وحتى عندما لم يدخل الصوفيون القبليون في تلك التحالفات، فإن كثيرًا منهم برزوا كقادةٍ للجماعات القبلية البدوية، أو لمجتمعاتِ المرتفعات شبه الرعوية التي سكنت السهوبَ والجبالَ فيما بين الأناضول وآسيا الوسطى.
من المُهمِّ أن نُدرك العواقب التي لحقت بالحياة الاجتماعية لدِينٍ بهذه الخلفية القائمة على وحدات اجتماعية مقطَّعة ومستقلة؛ ذلك لأن في مثل هذه البيئات لم يكن يوجد شخص أو مؤسسة تتمتَّع بسلطة دينية مهيمنة، ولا أساس عقائدي مشترك، وفي كثير من الحالات لم تكن توجد وسيلة عامة للاطِّلاع على القرآن. ونظرًا لأن كل جماعة قبَلية امتلكت راعيًا دينيًّا خاصًّا بها، فما ظهَر وسطَ هذه المُجتمَعات المُتناثِرة والمتفرِّقة كان نظامًا من اللاسلطوية الدينية، كان فيه وليُّ كلِّ قبيلة هو مصدر السلطة. إذًا كيف أصبحت المعتقدات والطرق الصوفية التي شهدنا تطوُّرها في السابق جزءًا من هذا السياق؟ يُمكننا مرةً أخرى أن نعثر على إجابةِ هذا السؤال في نموذج الصوفية باعتبارها «تقليدًا»، والطرق الصوفية لا باعتبارها منظَّمات في الأساس، بل آليات لإعادة إنتاج التقليد وتوثيقه. وعلى الرغم من أن مفهوم التقليد يقدِّم محتواه في صورة المحتوى الذي لا يتغيَّر (وهذا هو الهدف منه في واقع الأمر)، فإن اختصاصيِّي علم الاجتماع لطالما أدركوا أن التقليد في الحقيقة مَورِدٌ يتَّسم بالمرونة الشديدة. وعند استخدام هذا النموذج في المجتمعات القبلية المتنقِّلة والمنقسمة الموجودة خارج المدن، فإن ما سيوضِّحه هو أنه على الرغم من أن الأولياء في القبائل اشتركوا في التقليد الصوفي فيما يتعلق باستخدام مصطلحاته، وتكييف طقوسه، ومنح الانتساب إلى طرقه؛ فلقد فعَلوا ذلك على طريقتهم، وليس تحت قيادة شيخ يوجد في مكان آخَر، وفعلوا ذلك بما يتفق مع احتياجات مُناصِريهم القبليِّين. وعلى أي حال، فإنه في مثل هذه البيئة «اللاسلطوية» لم يكن يوجد ما يمنع الصوفيين القبَليِّين من تكوين أشكالٍ من الصوفية مُتفرِّدةٍ خاصة بهم من مصادر التقليد التي ورثوها؛ نظرًا لأنه لم يكن يوجد كيان صوفي يُماثل «الفاتيكان» يَضمن وجودَ تعاليم عقائدية عامة يلتزم الجميع بها.5 وعلى الرغم من أن كثيرًا من العلماء وصفوا الصوفيِّين القبليين بأنهم «غير متَّبعين للعقيدة القويمة» أو «مُبتدِعون»، فإنه في الحقيقة لم توجد في زمنهم عقيدة قويمة ذات سلطة مركزية يُمكن مقارنتهم بها. وكما سنرى لاحقًا في هذا الفصل، فإن هذه «العقائد القويمة» (التي تغيَّرت مقوماتها في كل دولةٍ إمبراطورية) لم تظهر إلا كنتيجة فرعية لمركزيةِ إمبراطورياتِ أوائل العصر الحديث، التي أعقبت الحِقبة القبَلية الأكثر تقلُّبًا في القرن الخامس عشر.

عانى مؤسِّسو الدول الجديدة القبليون، من البلقان إلى الهند في الفترة بين منتصف القرن الخامس عشر ومنتصف القرن السادس عشر، من أجل تحويل أنفسهم من غزاة إلى حكَّام. وتضمَّن هذا التحوُّل أيضًا تغيُّرًا في أشكال الإسلام التي دعموها؛ لأنهم لم يُصبحوا مسئولين عن مصائر أتباعهم القبليِّين فحسب، بل أصبحوا مسئولين أيضًا عن السكان الذين يَحكمونهم، الذين يتَّسمون بتركيبةٍ أكثر تعقيدًا وتنوُّعًا؛ فقد كان لزامًا أن تُجرِي النُّخَب الحاكمة في الإمبراطورية الصفوية، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية المغولية؛ هذا التحوُّلَ، وكان للأساليب المختلفة التي حقَّقوا بها هذا التحول عواقبُ مهمة على مصائر الصوفية في بلادهم. إنَّ بيئة السهوب والجبال التي تتَّسم بالترحال، والتمرد، واللاسلطوية الدينية، وكثرة القبائل الطَّموحة، والتعاقُب السريع للكيانات السياسية المستقرَّة؛ هي ما أسفَرَ عن كلٍّ من الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية. لقد كانت بيئةً اضطرَّ حكامها الجُدد في نهاية المطاف إلى مواجَهة أشكالها الدينية في إطارِ محاولاتهم السيطرةَ على الأراضي الجامحة التي نشئوا منها. وعلى الرغم من أن حالة المغول أكثر تعقيدًا؛ لأنهم عندما صعدوا إلى السلطة انطلقوا من السهوب ذات الطبيعة المترحِّلة إلى مجتمع الهند الزراعي المستقر، فإنهم عندما حكموا منطقةَ الهند ذات الطبيعة التعدُّدية إلى حدٍّ كبير، واجَهوا أيضًا مشكلةَ كيفيةِ الانفصال عن ولائهم القديم في السهوب للطريقة النقشبندية.

(٣) منطقة البحر المتوسط: الإمبراطورية العثمانية المبكرة

لكي نرى كيف حدث هذا التحوُّل المضطرب من دعم الصوفيين «القبليين» إلى دعم الصوفيين «المستقرين»، ينبغي أن نلتفت أولًا إلى الحالة العثمانية؛ ففي الفترة ما بين القرن الرابع عشر والقرن السادس عشر، تضمَّن تطوُّرُ الدولة العثمانية من زعامةٍ قبلية قليلةِ الشأن إلى إمبراطوريةٍ بيروقراطية معقَّدة تَربط جنوبَ أوروبا بالأناضول ومصر وفي نهاية المطاف شبه الجزيرة العربية؛ تحوُّلًا مضطربًا عن أنواع الولاء الديني القَبلي والمستقر. وكما رأينا في الفصول السابقة، فإن البُعْد التعليمي والبُعْد الأدبي للصوفية تطوَّرا بارتباطٍ وثيق بدراسة القرآن وتطبيق الشريعة الإسلامية. وقد اعتَبر الحكَّام العثمانيون — مثل الحكَّام السلاجقة والأيوبيِّين والمماليك السابقين عليهم — النسيجَ المؤسَّسي للطرق الصوفية في المدن عاملًا مهمًّا في الحفاظ على النظام الاجتماعي.6 ونتيجةً لذلك، شهد التوسُّع العثماني إعادةَ تأكيدٍ على دور الطرُق الصوفية المتعلِّمة والمسالِمة في الحياة الحضرية، سواء أكان ذلك من خلال دعم الطرق الموجودة قبلهم، أم من خلال تقديم طرُق أو طرق فرعية جديدة تتمتَّع بعلاقات وثيقة على نحوٍ كبير مع العثمانيين أنفسهم. وتُعدُّ الطريقة الخلوتية مثالًا على الطريقة المتفقة مع الشريعة، التي لا يَربطها بالأناضول إلا أقل القليل.7 فكوَّنت الطريقة الخلوتية علاقاتٍ وثيقةً مع كلٍّ من السلاطين العثمانيين وكبار مسئوليهم؛ مما أدَّى إلى تأسيس مقرٍّ كبير للطريقة عام ١٥٧٤ في قلب إسطنبول على يد الصدر الأعظم صقللي محمد باشا.8 بالإضافة إلى ذلك، دعمت الإمبراطورية الجديدة توسُّعَ طريقة الرومي المولوية ذات «الدراويش الدوَّارة»، التي أصبحت الطريقةَ المفضَّلة لدى البيروقراطيين العثمانيين. وهذا بدوره جعَلَ تنظيمَ الطريقة المولوية مُتمركزًا بمزيدٍ من الفاعلية حول مجمع الضريح المُشيَّد حول قبر الرومي في قونية. بطبيعة الحال، لم تحدث رعايةُ الطرق المفضَّلة هذه في خواء اجتماعي، وشهِدَ تزايُدُ تأثيرِ هذه الطرق المفضلة تضاؤلًا مصاحبًا في تأثير الطرق التي فضَّلها الحكَّام السابقون على العثمانيين؛ فقد شهِدَ استيلاءُ العثمانيِّين على سوريا ومصر من أيدي المماليك فيما بين عامَيْ ١٥١٦ و١٥١٧، على سبيل المثال، الاستبدالَ التدريجي للصوفيِّين البارزين المرتبطين بالمماليك لتحلَّ محلَّهم طريقةٌ صوفية جديدة أكثر ارتباطًا بالنظام الجديد.9 واتضحت هذه الأجندة «الاستعمارية» عندما أعلن حسن الرومي — بعد أن ترك الأناضول متوجِّهًا إلى مصر في أعقاب الغزو العثماني — شروطَ الوقف لمسكَنٍ صوفيٍّ جديد مشيَّد في القاهرة على الطراز العثماني؛ حيث أكَّدَ على ألَّا يكون أيٌّ مِن موظَّفيه من العرب المحليين.10
ومن خلال رعاية تشييد مساكن وأضرحة صوفية جديدة، اكتسبت الجغرافية المقدَّسة لهذه الأراضي التي غزاها العثمانيون «الطابعَ العثماني» تدريجيًّا.11 في واقع الأمر، إن رعاية الإمبراطورية العثمانية للمؤسسات الصوفية الجديدة في الأراضي التي غَزَوها حديثًا في جنوب شرق أوروبا وفي الشام، جعلت العديدَ من المؤرِّخين يَصِفون الصوفيين بأنهم لعبوا دورَ «المستعمرين» و«المستوطنين».12 وفي البيئات الحضرية مثل حلب أو القاهرة، تضمَّنت هذه العملية تفضيلَ مجموعة من المسلمين على غيرها، مثلما حلَّتْ طرُق صوفية أو أفراد صوفيون مرتبطون بالعثمانيين محلَّ أولئك الذين كانوا محلَّ تفضيلٍ من المماليك. أما في السياقات الأخرى (خصوصًا الريفية)، فيبدو أن هذا الأمر تضمَّنَ تكوينَ ما يمكن وصفه بنقاطِ انطلاقٍ صوفية عن طريق المستوطنات الإسلامية في الأراضي المسيحية في الأساس. كانت الوسيلة الأساسية لسياسة الاستيطان تلك هي نظام «الوقف»، الذي من خلاله كان يُعطي السلطان أو أيُّ مسئولٍ بارز في الإمبراطورية للشيخ الصوفي أرضًا كافيةً لإعالةِ نفسه ولجذْبِ جماعةِ أتباعٍ أكبر.
ونظرًا لأن الصوفيين بصفتهم متَّبعين للسُّنَّة النبوية، كان من المتوقَّع منهم أن يتزوَّجوا ويتناسَلوا، فقد عنى هذا تزايُدَ أعدادِ المستوطِنين الأصليين هؤلاء تدريجيًّا مع مرور الزمان. ونرى مثالًا على ذلك في عام ١٥١٦، عندما وهب السلطان سليم الأول لأحد الصوفيين أحدَ الأدْيِرة المسيحية وما حوله من مَزارعِ عنب وبساتينِ زيتون في قرية دير البعنة في الجليل، التي شكَّلَ المسيحيون السوادَ الأعظم من سكانها.13 وحيث إنَّ المساكن الصوفية كانت تَحتوي في الغالب على أماكن إقامة، وتمثِّلُ في بعض المناطق شبكةً رسمية بنحوٍ أو بآخَر لدعم المسافرين، فقد جذبَت أيضًا التجارَ المسلمين الذين عزَّزوا اقتصادَ المنطقة المحيطة.14 لم تكن تلك السياسة موجهة فقط للمناطق المسيحية، وكما في حالةِ فروعِ الطريقة البكتاشية في الأناضول، فقد كانت تُستخدَم أيضًا للسيطرة على المناطق الريفية التي يَسكنها قبائلُ مسلمة غير مستقرة.15 ومن ثَمَّ، لم تقتصر رعاية الإمبراطورية العثمانية للصوفية على كونها مسألةَ دعمٍ لمؤسساتٍ جعلت السكانَ أكثرَ نظامًا وطواعيةً للحُكْم بسبب دورها في «عملية التحضُّر»، بل كانت أيضًا مسألةَ دعمٍ لمؤسَّسات ساعدت في استيطانِ أراضٍ جديدة في أعقاب غزوها، وسيكون من الخطأ اعتبارُ هذه المستوطَنات جزءًا من مسارٍ طويلِ الأمد من الصراع بين المسلمين والمسيحيين؛ فعلى الرغم من أنه على الأرجح كان يوجد في حالات كثيرة مسيحيُّون استاءوا وحُرِموا من حقوقهم كمواطنين، بسببِ وصولِ الصوفيِّين الذين تجمعهم صداقاتٌ بأشخاصٍ أصحابِ مناصِبَ رفيعة، كما حدَث بالفعل في حالة المُستوطَنات الصوفية المبكِّرة في فترة العصور الوسطى، فإنه مع مرور الوقت أصبحت المجتمعات الدينية المختلفة يتقبَّل بعضها بعضًا، وتَخلق تراكيبَ جديدة من الممارسات الدينية.16 وكما سنرى مرة أخرى في حالة الإمبراطورية المغولية، فإن فترة أوائل العصر الحديث لم تكن لهذا السبب فترةَ مواجَهاتٍ فقط، بل أنتجَت أيضًا أنواعًا جديدة من المزج الديني الذي لعب فيه الصوفيون دورًا مُهمًّا.
على الرغم من أن محاولة العثمانيين تعيينَ صوفيين مختارين في المدن والقرى كانت في جزءٍ منها صدًى لنسَقٍ سابقٍ تمثَّلَ في دعمِ الدولة للمذهب السُّنِّي الذي رأيناه في الفصل الثاني؛ فقد تطوَّرت هذه المحاوَلة في حالة العثمانيين إلى سياسةٍ أكثرَ جديةً، تهدف إلى تحقيقِ مركزيةٍ في التعيينات الدينية، والسيطرةِ على الجماعات الصوفية الهدَّامة، لا سيما القبَلية منها. ويقال إنَّ العثمانيين شجَّعوا توطينَ الصوفيين النقشبنديِّين المُهتمين بالشريعة في أراضيهم كجزءٍ من محاوَلةِ نشْرِ الالتزام بالإسلام السُّنِّي المِعياري إلى حدٍّ كبير، والقائم على أحكام الشريعة بين القبائل التركمانية في الريف.17 وعلى الرغم من تشكيك الأبحاث الحديثة في هذا الأمر، فإنه لا يوجد مجالٌ كبير للشك في أن رعاية العثمانيين للنقشبنديين أسهمت في الطابع السُّنِّي الأكثر ثباتًا للمجتمع العثماني الذي ظهر على المدى الطويل.18 والسبب في ذلك يعود إلى أنه في الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر ظهَرت بيروقراطية دينية رسمية، كانت التعيينات فيها — سواء كمُدرِّسين في المدارس، أو وعَّاظ في المساجد، أو شيوخ في المساكن الصوفية — تتحكَّم فيها إدارةٌ مركزية تعود إلى مركز الحكم في إسطنبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية.
وبفضل وجود هذه الإدارة، تمكَّنَ المؤرِّخون من استخدام سجلات الإمبراطورية العثمانية في جمعِ بياناتٍ إحصائية عن الحياة الاقتصادية في المساكن الصوفية في كلٍّ من إسطنبول والمُقاطَعات الريفية؛ حيث بدا أنَّ الأراضي والثروة — اللتين كانتا مملوكتين لتلك المساكن — كانتا أكبر بكثير مما كان عليه الحال في المدن.19 لقد توسَّعَ جمعُ البيانات توسُّعًا كبيرًا لدرجةِ أنَّ جماعات الدراويش المتجوِّلين الخارجين عن الأعراف وجَدوا أن مساكنهم أصبحَت ضمْن نطاق البيروقراطية العثمانية، بل حتى أنشطة الزهد في الدنيا المتمثِّلة في التسوُّل والتجول أصبحت أيضًا مقنَّنةً نسبيًّا في هذه العملية.20 إلا أن تلك الدولة المتقدمة نسبيًّا لم تتمكَّن مطلقًا من السيطرة على كل المساكن الصوفية في أراضيها، ولا على كل الأفراد الصوفيين. وربما نظرًا لوصول الطريقة النقشبندية متأخِّرًا نسبيًّا إلى الأناضول، فقد عملت في العموم في الأراضي العثمانية ضمن إطار مؤسسي أقل تنظيمًا؛ من خلال حلقات غير رسمية في المساجد أو في المساكن الصوفية المموَّلة من قِبَل تجار من وسط آسيا، وليست من قِبَل الأوقاف الممنوحة لهم من قِبَل الإمبراطورية.21 وعلى المستوى الفردي، تُظهِر مسيرة نيازي المصري (المتوفَّى عام ١٦٩٤) أنه كان يوجد صوفيُّون مستعدون لاستخدام نفوذهم الاجتماعي في التعبير عن انتقادهم الواضح للحكَّام العثمانيين.22 وعلى الرغم من أن السلطات الحاكمة قرَّرت أنه ليس من الحكمة إعدام هؤلاء المُنتقِدين، فقد كانت تمتلك القدرةَ على فعل ذلك؛ ففي حالة نيازي المصري اختارت استخدامَ نفوذها من خلال آليةٍ أكثرَ تحفُّظًا تمثَّلت في نفْيه إلى جزيرة رودس، ثم إلى جزيرة ليمنوس؛ ومن ثَمَّ كانت نتيجة اعتماد الدولة العثمانية على حنكتها التنظيمية وطول بقائها أنْ حقَّقت في العموم قدرًا غير مسبوق من السيطرة على المجالس الصوفية الهرَمية في المدن والمساكن الصوفية، التي تمكَّنت من خلالها من السيطرة على القرى. ومن ثَمَّ، فلا عجب في أن بالي أفندي (المتوفَّى عام ١٥٥٣) — ذلك الصوفي البارز التابع للطريقة الخلوتية، الذي تربطه علاقات قوية بالنظام الإمبراطوري — قد اكتسب لقب «جاسوس المشايخ».23
لم يكن العثمانيون أُولى السلالات الحاكمة التي تَدعم جماعات صوفية متعلِّمة ومسالِمة في الأراضي التي حكمتها، إلا أنهم من خلال محاولات السيطرة على الحماس الديني الريفي والقبَلي قد أعربوا عن الطموحات الجديدة للدولة (إنْ لم تكن دائمًا القدرات). وفي هذه السياقات القبلية، يكشف التفاعُل الغامض بين الصوفية والمؤسَّسة الإمبراطورية الحاكمة عن نفسه على أفضل وجه؛ ذلك أن العثمانيين في فترة توسُّعهم المبدئي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر كانوا سعداء كثيرًا بالاعتماد على مساعَدةِ جماعاتِ المُحاربين الرُّحَّل التي يقودها «الصوفيون القبَليون» الذين وصفناهم. وقد أوكَلَ العثمانيون إلى تلك الجماعات غزْوَ معظم الأراضي التي غزَوها في البلقان والروملي (أيْ وسط اليونان وتراقيا الشرقية في العصر الحديث) على هذا النحو بالضبط.24 اعتمد هؤلاء المُحارِبون الصوفيون على فكرةِ «غزو» أراضي المسيحيِّين الكُفَّار، وهي أيديولوجية للعنف المشروع كانت أكثر مرونةً من مُعتقَد «الجهاد» المحكوم بضوابط شرعية أكثر.25 وفي بعض الحالات، نشهد ضمَّ هذه الغارات الصوفية على نحوٍ رسميٍّ إلى الجيوش العثمانية الأكثر تنظيمًا، مع إلحاقِ صوفيِّين معيَّنين بوحدات الجيش؛ من خلال تعيينهم في منصب «شيخ الجيش».26 ولم يكن هؤلاء الصوفيون شخصيات حدودية مؤثِّرة في حياتهم فقط، بل كانوا كذلك بعد موتهم؛ حيث دُوِّنت أساطيرهم، وتحوَّلت قبورُهم إلى مراكز للزيارة، وساعد هذا في نشر شهرتهم خارج حدودِ زمانِ ومكانِ المُجتمعات الحدودية التي حقَّقوا فيها هدفَ الإمبراطورية الأصلي؛ ومن ثَمَّ خلدوا تصوُّراتهم العنيفة والغريبة عن الإسلام في فترة الاستيطان التي روَّجت فيها الدولةُ العثمانية الصوفيةَ الأكثر مُسالَمةً، التي كانت موحدة كثيرًا في كل أراضيها.27
إن هذه المُحاولة لاحتواء العوامل نفسها التي ساعدت في تأسيس الإمبراطورية العثمانية كانت إحدى المعضلات المستمرَّة في التاريخ العثماني، ولم يكن الأمر على الإطلاق مقتصرًا فقط على حدودها مع أوروبا المسيحية، وأوضَحُ مثالٍ على ذلك نراه في تاريخ الطريقة البكتاشية، التي سُمِّيت نسبةً لصوفي قَبَلي تقليدي يُدعَى الحاج بكتاش ولي (المتوفَّى عام ١٣٣٧).28 ومثل بقية منتجات البيئة التي تنتهج اللاسلطوية الدينية الموجودة خارج المدن، فقد كانت الصوفية التي روَّجَها الحاج بكتاش تتكوَّن من مزيجٍ فريدٍ من عناصرَ متعدِّدةٍ مأخوذة من التقليد الصوفي وبيئته القبَلية؛ فقد كانت خليطًا من الأفكار الصوفية، والتراث الشاماني للقبائل التركمانية، والشيعية الشعبية، والمسيحية الريفية للأناضول.29 وعلى غرار الطرُق الحدودية لشخصيات مشابهة؛ مثل صاري صالتق (المتوفَّى عام ١٢٩٨) في البلقان، فقد كانت طريقة الحاج بكتاش مرتبطةً في البداية بالمستوطِنين الجُدُد المتحدِّثين بالتركية فحسب، سواء أكانوا محاربين قبَليِّين أم مزارعين حديثي الاستيطان.30 ومع مرور الوقت، ومنذ أواخر القرن السادس عشر فصاعدًا، حافظَتْ طريقةُ الحاج بكتاش على ارتباطها بالعسكرية (أو اكتسبتْه) من خلال علاقاتها بالجيش العثماني الأكثر تنظيمًا. وعلى الرغم من ذلك، فقد بدأت محاولاتُ فرْض المركزية والسيطرة على البكتاشيِّين فيما بعدُ في وقت مبكِّر، يعود إلى عام ١٥٠١ عندما عيَّنت الدولة بالم سلطان (المتوفَّى عام ١٥١٦) المُوالِي للعثمانيين كرئيسٍ للبكتاشيِّين، والذي عُيِّن في منصب «الشيخ الثاني» كوريثٍ رسميٍّ ﻟ «الشيخ المؤسِّس» الحاج بكتاش.31 وقد اتخذت هذه المُحاوَلة لسيطرة الدولة على البكتاشيِّين — التي لم تكن تسعى لقمع هذه الطريقة (إذ لو حدث هذا، لَكان أمرًا بالغَ الخطورة) — شكلَ تقنينِ تنظيمها لتَنتقل من كونها جماعةً صوفيةً قبَلية إلى طريقةٍ صوفيةٍ رسمية لها قيادة مُعيَّنة، بطريقة مركزية، ولها مساكن في المدن وليس في الريف. وبينما كان السلاطين الأوائل مناصِرين كُرَماء، ومُتحمِّسين لضريح الحاج بكتاش، فبعدَ حكمِ بايزيد الثاني (الذي حكم من عام ١٤٨١ إلى عام ١٥١٢) أصبح دعم الإمبراطورية للضريح أقلَّ انتظامًا إلى حدٍّ كبير.32 وعلى نحوٍ ينطوي على مفارَقةٍ نسبيًّا، فإنه في الفترة التي حاولت فيها الدولة العثمانية ترويجَ إسلامٍ موحد ومسالِم إلى حدٍّ كبير، ضمنت هذه السياسة انتشارَ وتخليدَ كثيرٍ من سمات إسلام القبائل اللاسلطوي القديم، عن طريق المساكن البكتاشية التي أُنشِئت في كل مدينة في الإمبراطورية العثمانية. أما على صعيد الإطار الأوسَع للتاريخ الصوفي، فقد أدَّى تدخُّلُ الدولة العثمانية المركزية في الشئون الصوفية إلى تحوُّلِ الطريقة البكتاشية من مزيجٍ متنوِّع من القبَلية والتقليد إلى مُنظَّمةٍ ذات تقليد تتَّسم بقدر أكبر من البيروقراطية، وسيتكرَّر هذا النسق من القرن السادس عشر فصاعدًا في محاوَلاتِ فرضِ التنظيم والبيروقراطية التي سوف تَنتهجها الدولةُ العثمانية مع الطرق الصوفية البارزة الأخرى في أراضيها.
fig18
شكل ٣-١: ولي وإمبراطور إيراني: ضريح صفي الدين في أردبيل (تصوير: نايل جرين).
لم تكن محاولات السيطرة هذه على سلطةِ واستقلالِ الصوفيِّين القبَليِّين ببساطةٍ جزءًا من مسار محدَّد لبناء الدولة، وقد شكَّلتها على نحوٍ كبير أحداثُ الفترة. وعلى الرغم من أن القرن الخامس عشر شهد قيادةَ الصوفيِّين القبَليين لحملات عسكرية كثيرة ناجحة لتوسيع نطاق الدولة العثمانية، فقد شهد أيضًا محاولاتِ تمرُّدٍ منهم (تُعدُّ محاوَلةُ الشيخ بدر الدين التي قام بها عام ١٤١٦ الأبرزَ من بينها)، ومع مرور القرن أصبحَت محاوَلاتُ التمرُّد تلك أكثر تكرارًا.33 وكان الحراكُ المكاني والحماسُ الديني اللاسُلطوي لهذه الحركات يعني أن إمكانية مقاوَمتهم لأهداف الإمبراطورية تُساوي إمكانيةَ مُساعدتهم في تحقيقها، بل إنه في عام ١٤٩٣ حاوَلَ أحد الصوفيِّين المُنتسِبين للطريقة الحيدرية الخارجة عن الأعراف أن يغتال الإمبراطور بايزيد الثاني.34 وكان التوتُّر بين الصوفية القبلية والصوفية المستقرة انعكاسًا للعناصر المتعددة لمجتمع غير متجانس يضمُّ جماعاتٍ مختلفةً من البدو والحضر. وفي مثل هذه السياقات، كانت الطرق الصوفية أدواتٍ مهمةً للترابُط الاجتماعي والتفاعُل بين الجماعات المختلفة؛ ولهذا السبب كانت الحكومة المركزية ترى فكرةَ تعيينِ قادة صوفيين، ودعْمِ هياكل تنظيمية أكثر تماسكًا للطرق التي يقودها هؤلاء الصوفيون، جذَّابةً على نحوٍ واضح. وحتى إذا ظلَّت هذه المحاولات جزئيةً وغير كاملة، فإنها على مدار القرن السادس عشر والقرن السابع عشر جعلت الطرق تَرتبط بعلاقات وطيدة أكثر مع الدولة العثمانية، حتى إنْ لم تتَّصف هذه العلاقات مطلقًا بالولاء التام.

(٤) إيران: الإمبراطورية الصفوية المبكرة

لم تكن أقدارُ الصوفية داخلَ الأراضي العثمانية انعكاسًا للشئون الداخلية فحسب، بل شكَّلتها أيضًا الحاجةُ إلى الردِّ على التطوُّرات الواقعة في المناطق المجاورة. في هذا الصدد وفي غيره، لم يوجد حدثٌ في فترة أوائل العصر الحديث أكثر أهميةً من الغزو السريع لإيران، على يد جماعة صوفية قبَلية نشأت في الحدود الشرقية الجبَلية للحكم العثماني؛ ففي عام ١٥٠١، غزا مُراهِق أصبح شيخًا صوفيًّا بالوراثة مدينةَ تبريز الإيرانية بمساعدةِ جيشٍ من أتباعه القبَليِّين، وعلى مدار العقد التالي، غزا بقيةَ إيران ليضع أُسسَ إمبراطورية ستمتدُّ في أوج اتساعها من شرق الأناضول إلى حدود الهند. وحملت الإمبراطورية الحاكمة التي أسَّسها المراهِق إسماعيل الصفوي (١٤٨٧–١٥٢٤) حتى انهيارها عام ١٧٢٢ اسمَ أسرته الصوفية الصفَوية.

اكتسبت الأسرة والطريقة الصفوية أتباعَها في الأساس من قبائل المناطق المحيطة بضريحِ مؤسِّس الطريقة، الشيخ صفي الدين (المتوفَّى عام ١٣٣٤)، الموجودة في المرتفعات بشمال غرب إيران حاليًّا، على الرغم من أن ثروتها ومكانتها اعتمدتا أيضًا على ما تمتلكه من أراضٍ، وعلى أتباعها أصحاب النفوذ من أبناء الحضر، إلا أن أتباع الصفوية من القبَليين كانوا الأكثرَ تأثيرًا في ظهور الدولة الصفوية. وعلى غرار الحركات الصوفية القبَلية الأخرى؛ ففي القرن الخامس عشر اكتسب جُنيد وحيدر حفيدا الشيخ صفي الدين عددًا مُتزايدًا من الأتباع التركمان القبَليين، الذين سخَّروا طاقاتهم في الغزو المصحوب بمُباركة دينية، الذي رأينا أنه كان أيضًا سمةَ الحدود العثمانية في الفترة نفسها.35 وكان الأتباع القبَليُّون، الذين عُرِفوا باسم «القزلباش» أو «أصحاب العمائم الحمراء»، يَدِينون بالولاء الشديد لشيوخهم الصفويين. وعلى الرغم من أننا ليس لدينا أيُّ مصادر تُعطينا معلوماتٍ عن هؤلاء القبَليِّين، كما هو الحال مع غيرهم من القبَليِّين، فمن خلال شِعر مؤسِّس الإمبراطورية الصفوية الشاه إسماعيل، يبدو أنهم بجَّلوه بصفته التجسُّدَ الحيَّ لله.36 ونظرًا لأن المشروع التنظيمي والعاطفي، المتمثِّل في تأسيسِ دولةٍ جديدة وتوحيدِ شعبها حول حاكمٍ صاحبِ شخصيةٍ جذابة، لم يكن أمرًا مقتصرًا على الدول الإسلامية في فترة أوائل العصر الحديث، فربما من المفيد مقارَنة «اللاهوت السياسي» للصفويِّين الأوائل بالتصوُّرات الأوروبية في الفترة نفسها المتمثِّلة في جسد الملك المقدَّس.37 لم يكن تصوُّر الملوك صانعي المعجزات مقتصرًا على التجربة الأوروبية فحسب، وظهر بناءً على مُطالَبات سياسية جماعية لقادة المجتمعات الأكثر تعقيدًا التي نشأت عبر منطقة أوراسيا في هذه الفترة، واستمرَّ من خلال الأداء الطقسي، وكذلك المعتقَد المكتوب، وانتشر من خلال الشائعات التي تتحدَّث عن القدرات الشفائية الإعجازية للَّمْسة الملكية، وخُلِّد من خلال بناءِ أضرحةٍ دينية خاصة بالسلالات الحاكمة. واعتراضًا على وجهة النظر القائلة إنَّ الشاه إسماعيل زعم أنه الله في صورة بشرية، قيل إن شِعْره ليس استحضارًا لمُعتقَد جديد مُتعمَّد متمثِّل في التجسُّد أو «الحلول»، قدرَ ما هو مجازٌ شعريٌّ لمعتقَدٍ قديم أكثر قبولًا، متمثِّلٍ في وصول الصوفي إلى حالةِ اتحادٍ مؤقت مع الله من خلال تدمير صفاته الشخصية، فيما يُعرَف بمفهوم «الفناء».38 وعلى الرغم من أن أفكار الشاه إسماعيل كانت مشابِهةً بالتأكيد لأفكار الفترات المبكِّرة، فإنَّ السياق الريفي والقبلي الذي استُخدِمت فيه كان مختلفًا كثيرًا عن السياق الذي شهدنا فيه ظهورَ المصطلحات والأفكار الصوفية في السابق.
سمحت البيئة الدينية غير المحكومة بالقوانين، التي ظهر فيها الصفويون، باستخدام موارد فكرية من التقليد الصوفي مثل المصطلحات الخاصة بولاية الشيوخ وقدرات الأولياء لخدمةِ أهدافِ تعظيم الذات هذه دون وجود مُعارَضة حقيقية. وفي واقع الأمر، يُبيِّن عددٌ من الروايات شبه المعاصرة كيف أن القبليين القزلباش في حالات عديدة التهموا لحومَ أعداءِ شيخهم الشاه إسماعيل.39 وقد قال أحد السفراء الهنود المسلمين للبلاط الصفوي: «لقد تقرَّر أنه يجب على كلِّ مؤمن مُعتقِد بين صفوف الغزاة العظماء أن يتناوَل قطعةً من الجسم البشري المشوي كنصيبٍ له. واحتشد جمعٌ مخيف من آكلي لحوم البشر، والْتُهِم الجسمُ لدرجةِ أنه لم تبْقَ منه أيُّ قطعةِ لحم أو عظمة.»40 كان هذا دليلًا ماديًّا على الولاء الذي لا يَتزعزع، الذي يكنُّه القبَليون لإلهٍ لم يكن هو نفسه أقلَّ ماديةً في الهيئة عند التجسُّد في جسم الشاه إسماعيل. وفي السياقات التي قدَّمَ فيها الشاه إسماعيل نفسَه على أنه أداةُ الله في الأرض، لم تكن ثَمَّة سُلطةٌ مركزية للدولة أو للدِّين تمنعه من فعل ذلك، وإذا كان أتباعه القبليون قد اختاروا تفسيرَ قصائده باعتبارها تأكيداتٍ على ألوهيته التي سوف تَحميهم في ساحة الحرب؛ فهذا يعني أنه لم يكن يوجد ممثِّلون للعقيدة الصوفية أو غيرها من العقائد الإسلامية «القويمة» ليُخبروهم أن معتقداتهم «ضالَّة». ومن الناحية التاريخية، كانت الحركة الصفوية إلى حدٍّ كبير نتيجةَ بيئتها القبلية والجبلية التي لم توجد بها مؤسساتُ دولةٍ لوضْعِ ضوابطَ للإسلام المُرتكز على الأولياء الصوفيين ذوي الشخصيات الجذَّابة.
في هذا الصدد، يتشابه الصفويون الأوائل كثيرًا مع البكتاشيِّين الأوائل والحركات القبَلية المشابِهة التي رأيناها في أراضي العثمانيين، وكانت هذه هي المشكلة بالتحديد؛ والسببُ في ذلك لا يقتصر على ظهور الطريقة الصفوية على التخوم الشرقية المُنفلِتة للإمبراطورية العثمانية، بل يتمثَّل أيضًا في أن استحسانها من قِبَل القبَليين — الذين يَدِينون اسميًّا بالولاء للعثمانيِّين — أسفَرَ عن انتفاضاتٍ من جانبهم، مناهِضةٍ للعثمانيين ومؤيِّدةٍ للصفويين، وزاد ذلك من احتماليةِ انفصالِ المقاطَعات العثمانية الشرقية وانضمامِها إلى الكيان الصفوي الجديد المجاوِر. ونظرًا لأن الشاه إسماعيل أعلن أيضًا عام ١٥٠١ أن دولته سوف تتبَع تعاليم الإسلام الشيعي وليس الإسلام السُّنِّي، فقد منَح التنافُسُ بين العثمانيين والصفويين أيضًا لكلِّ إمبراطورية منهما مسوغاتِ التحدُّث بحماسةٍ عن دفاعها عن الإسلام الحقيقي ضد مخرِّبيه من السُّنَّة أو من الشيعة. وأدى نجاحُ الأسرة الصفوية في توجيه ولاء القبَليين القزلباش إلى تأسيس الدولة الجديدة؛ إلى محاوَلة مقابلة لم تَهدف فقط إلى قمع المُتعاطفين مع الصفويين على نحوٍ مباشِرٍ، بل أيضًا إلى قمع كل الحركات المشابهة الموجودة بين قبائل الأناضول العثمانية. وكجزء من محاوَلةِ احتواء التهديد الصفوي، أقدَمَ كلٌّ من السلطان العثماني بايزيد الثاني (الذي حكم من عام ١٤٨١ إلى عام ١٥١٢)، والسلطان العثماني سليم الأول (الذي حكم من عام ١٥١٢ إلى عام ١٥٢٠) على عدة محاوَلات لقمعِ وجودِ القبَليين القزلباش في أراضيهم.41 إلا أننا عند مقارنة مسارَي الصوفية في ظل الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية، سنجد أن الأمر لا يتمثَّل فحسب في انتصارٍ للصوفية القبلية في الأراضي الصفوية أدَّى إلى قمْعٍ مُقابل للصوفية القبلية ودعمٍ للصوفية المستقرة في الإمبراطورية العثمانية؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنه مثلما رأينا في السابق مُعاناةَ الدولة العثمانية نفسها في احتواءِ جماعات الصوفية القبلية التي أسهمت بفاعليةٍ في كل توسُّعاتها؛ فقد كان لزامًا على الصفويين، من أجل تأسيسِ نظامٍ مُستقرٍّ للدولة الصفوية، إعادةُ تقييمِ جدوى أتباعهم الصوفيين القبليين. وفي حالة الدولة الصفوية، كانت عاقبة الصوفيِّين أكثر كارثيةً على نحوٍ هائل من محاوَلة العثمانيين تحجيمَ الطرُق الصوفية من خلال فرضِ قدْرٍ أكبر من التنظيم عليها؛ ذلك لأنه على مدار القرن السادس عشر حوَّلَ هذا التغييرُ إيرانَ الصفوية من دولةٍ أوصلتها الصوفية إلى سُدَّة الحُكْم إلى دولةٍ تَضطهد الصوفيِّين حتى شفا الانقراض.
fig19
شكل ٣-٢: الصوفي كجندي: بلطة درويشٍ إيرانيٍّ من أوائل العصر الحديث (بلطة درويش (إيران، القرن الثامن عشر تقريبًا)، رقم القطعة: ٣٣٧٦. الصورة منشورة بإذنِ متحف الإثنولوجيا الوطني في ميونيخ (تصوير: ماريتا فايدنر)).
وعلى الرغم من أن القزلباش أثبتوا كفاءتهم في تقديم العنف اللازم لتوصيلِ كبارِ الطريقة الصفوية إلى العرش، فإنهم على المدى الطويل كانوا أقلَّ فائدةً في الحفاظ على الحُكْم المستقرِّ للإمبراطورية الصفوية؛ إذ إنه كما أدركَتْ كلُّ إمبراطورية جديدة من إمبراطوريات هذه الفترة، ليست عواملُ الترحال والعنف والولاء المطلوبة لغزْو الأراضي كافيةً مُطلقًا لحُكْم تلك الأراضي؛ وهذا بدوره تطلَّبَ تعديلَ العلاقات الدينية عند التحوُّل من غزو الأراضي إلى حكمها؛ ففي بداية الفترة الصفوية كان القزلباش آمِنين بنحوٍ أو آخَر في مكانتهم الخاصة باعتبارهم المريدين الروحانيِّين للرجل الذي جعَلوه ملكًا. أما في العقود التالية، فقد رأى الحكَّام الصفويون أن علاقتهم الخاصة بالقزلباش تُبعِد عنهم الأعيانَ المقيمين وأصحابَ النفوذ الآخَرين، الذين كانوا في حاجةٍ إلى كسب ولائهم، وأدركوا أيضًا أن إطار الطريقة الصوفية لم يكن كافيًا في نهاية الأمر للحفاظ على تلاحُم الشعب.42 وأدَّى ذلك إلى تضاؤل دور القزلباش القبَليين تدريجيًّا في الحكم، إلى أنْ وجدوا أن ولاءَهم للدولة في نهاية الأمر قد أُسِيء استغلالُه، لدرجةِ أنهم أصبحوا جلَّادي الدولة، الذين يلتهمون أنوفَ وآذانَ المحكوم عليهم بالإعدام.43 أما انعكاسُ ذلك على إيران في العموم، فقد تمثَّلَ في إقرار الإسلام الشيعي تدريجيًّا باعتباره «دين الدولة»، وهو مصطلح بدأ يتبلوَر منذ فترة أوائل العصر الحديث.

ونتيجةً لذلك، فقد تعرَّضَ الصوفيون الذين رفضوا قبولَ الإسلام الشيعي لقمعٍ وحشي أدَّى، على سبيل المثال، إلى قتْل ما يقرب من أربعة آلاف عضو من الطريقة الكازرونية في جنوب إيران في بداية القرن السادس عشر. وخلال عقود قليلة ظهرت عقيدة جديدة مدعومة من الدولة؛ نظرًا لتغيُّر نوع الإسلام المدعوم من الدولة الصفوية إلى نوع الإسلام الشيعي الأكثر اعتمادًا على الفقه والعلماء، وهاجمَتْ طبقةُ العلماء الصاعدة حماسَ وعنفَ القزلباش وتبجيلَهم للأسرة الصفوية، واعتبرت صوفيَّتَهم القبلية نوعًا من «التطرف» أو «الغلو». وعلى النقيض من صوفية القزلباش القبَلية — التي كغيرها من الأنواع الناتجة عن المرتفعات الحدودية، بدتْ بدائيةً بل مهرطقة أيضًا بالنسبة إلى النُّخَب الحضرية التي كان يتعامل معها الصفويون في ذلك الوقت — فقد امتلك الإسلامُ الشيعي العلماءَ الفقهاء، والرؤيةَ المنهجية للنظام الاجتماعي، والاحترامَ الدولي؛ مما منح الإمبراطوريةَ، التي أصبحت مستقرةً في ذلك الوقت، بديلًا يَحظى بقدرٍ أكبر من الاحترام للإرث الحدودي.

(٥) الهند: الإمبراطورية المغولية المبكرة

عندما نَلتفِت إلى الإمبراطورية الإسلامية المنتمية لفترةِ أوائل العصر الحديث، التي أسَّسها الحكام المغول في الهند، سنجد أوجهَ تشابُه واختلاف مع وضع الصوفيين في ظلِّ العثمانيين والصفويين في القرن السادس عشر؛ فعلى الرغم من أنَّ المغول أنفسهم لم يَصلوا إلى الحُكْم كأسرةٍ صوفية مثلَما حدث مع الصفويين، فإنهم مثل غيرهم من الحكَّام المَغول الأتراك، كوَّنوا في تاريخهم المبكر في آسيا الوسطى تحالُفاتٍ مع أولياء الطريقة النقشبندية.44 وفي تشابُه مع العثمانيين والصفويين، فإن المنطقة التي آلَ حكْمُها إلى المَغول بعد غزواتِ مؤسِّسها بابر (الذي حكم من عام ١٥٢٦ إلى عام ١٥٣٠) ضمَّت جماعاتٍ صوفيةً ترتبط بعلاقات مؤثِّرة مع السكان، لم يكن من السهل تهميشُها لصالح حلفاء المغول النقشبنديين. ونظرًا لإدراكِ قوةِ المؤسسة الصوفية التي كانت موجودة بالفعل في الهند منذ قرون، فقد كانت أول خطوة لبابر في غزو دلهي هي القيام بزيارةٍ رسميةٍ إلى أضرحة أوليائها الصوفيين الجشتيِّين.45 وعلى الرغم من ذلك، فإنه توجد أدلة على الدور الفعَّال الذي لعبه الصوفيون، عندما أُطِيح بهمايون بن بابر، عن طريق انتفاضةِ الأفغان الذين لاقَوْا تهميشًا في ظلِّ النظام الجديد بسبب ارتباطهم بالنظام الحاكم السابق؛ حيث كانوا سببًا في فترة الحكم الأفغاني الذي تبع الانتفاضةَ، ثم كانوا سببًا في إنهائه في نهاية المطاف.46 ولذلك، إذا مثَّلت بداية الحكم المغولي استمراريةً للأمر الذي شهدنا ظهورَه في الفصل الثاني المتمثِّل في وقوف الأولياء الصوفيين على قدم المساواة مع السلاطين، فإنه مع استقرار حكم المغول في الهند تغيَّرَ ميزانُ القوة لصالح الدولة. وعلى الرغم من أن المغول لم يُحاولوا مطلقًا فعْلَ أي شيء فيما يتعلَّق بالتنظيم المركزي للطرق الصوفية الذي وجدناه لدى العثمانيين، فإن المغولَ يجمعهم أوجُهُ شبهٍ مهمة مع العثمانيين والصفويين تتعلَّق بطريقةِ تعامُل المغول مع الصوفيين والرموز الصوفية. وكما هو الحال مع دول تلك الفترة الأخرى، فقد مثَّلَ التقليدُ الصوفي موردًا قيِّمًا يُمكن للدولة الاستحواذ عليه. وأبرزُ مثالٍ تتجلَّى فيه الصوفية كمورد للدولة هو المعجم الجغرافي العظيم للإمبراطورية المغولية، الذي يحمل عنوان «الدستور الأكبري» (الذي كُتِب تقريبًا عام ١٥٩٠)، والذي صُنِّفت فيه أضرحةُ الصوفيين وأوليائهم في الأراضي المغولية ضمن الممتلكات الإمبراطورية الأخرى.47
fig20
شكل ٣-٣: النفوذ الصوفي: تجمُّع الصوفيين والعلماء أمام الإمبراطور المغولي، عام ١٦٣٥ تقريبًا (معرض فرير للفنون، مؤسسة سميثسونيان، واشنطن: بيرتشيس، إف١٩٤٢١٧، إف١٩٣٧. ٦. ٧ب).
يمثِّل الإمبراطور جلال الدين أكبر (الذي حكم من عام ١٥٥٦ إلى عام ١٦٠٥)، الذي رعى هذا العمل، أجرأَ مُحاوَلة مغولية لتوجيه الصوفية نحو تحقيق أهدافٍ تخدم الإمبراطورية. وأوَّل مظاهر ذلك يتمثَّل في قراره بناءَ عاصمةٍ جديدة للإمبراطورية في فتح بور سيكري حول منزل سليم الجشتي (المتوفَّى عام ١٥٧٢) — الذي سرعان ما أصبح قبره — ذلك الصوفي الذي منَح «أكبر» ابنًا ووريثًا من خلال معجزاته.48 وفي صدًى لرعاية الصفويين لمُجمَّع ضريح وقصر حول قبر الشيخ صفي الدين خلال العقود السابقة، كان تأسيس المغول لمُجمَّع مشابه حول قبر أحد الأولياء من بعض النواحي علامةً على المكانة الرفيعة للصوفيين.49 إلا أن إحاطة الضريح بجدران عالية من الحجر الرملي كان يمثِّل أيضًا نوعًا من الحصار؛ ومن ثَمَّ إشارة صريحة على سياسةِ احتواءِ ودمجِ الصوفيين الأكثر أهميةً في الإمبراطورية. وعلى الرغم من غزو أكبر للبنغال وراجبوتانا وكجرات وكشمير، فإن طموحه كان أكبرَ من ذلك؛ ما قاده (أو قاد وزيره أبا الفضل) إلى ترويجِ نظامٍ دينيٍّ اجتماعي جديد، امتزجَت فيه عناصرُ من الدين الإسلامي والدين الهندوسي لتكوين «دين إلهي» جديد.50 وكان هذا الدين الإلهي في جوهره عبارة عن دين إمبراطوري استُخدِمت فيه المصطلحاتُ الصوفية التي أصبحت راسخة منذ أمد طويل؛ للإشارة إلى الإمبراطور نفسه، الذي وُصِف بأنه «الإنسان الكامل» و«المرشد» لحلقةٍ من المُريدين الصوفيِّين الأوفياء، الذين لم يكونوا سوى أفراد حاشيته.51 ونظرًا لاهتماماتِ أكبر المتنوِّعة المتعلِّقة بالألفية الإسلامية، فإنه يوجد أيضًا سببٌ لربط تصوُّره للدين الإلهي ببدايةِ تلك الألفية في منتصف عهده. وعلى الرغم من أن كثيرًا من المسلمين الآخرين سوف يَرون الألفيةَ الجديدة فرصةً للعودة إلى السُّنَّة النبوية؛ فقد كانت بالنسبة إلى أغنى إمبراطورٍ في هذا العصر فرصةً لخَلقِ تركيبةٍ دينية جديدة تمامًا.
على الرغم من ذلك، فقد كانت توجد عدة سوابق للأيديولوجية الصوفية الإمبراطورية للمغول، خاصةً في إيران؛ فقبلَ قرن، كتب الجامي الهراتي (المتوفَّى عام ١٤٩٢) قصةً رمزية صوفية شِعْرية بعنوان «سلامان وأبسال»، قالها في نصيره السلطان يعقوب سليل أسرة آق قويونلو (المتوفَّى عام ١٤٩٠)، قدَّمَ فيها أيضًا الحاكم القبَلي في صورة «الإنسان الكامل» الصوفي، الذي كان على هذا النحو حاكمًا مثاليًّا لغيره من المسلمين الأقل مكانةً.52 ومن السوابق الأخرى طقس «عصا الطريق»، وهو طقس كان يُقام في بلاط الحكام الصفويين الأوائل في إيران؛ حيث كان القبَليون القزلباش يُضرَبون رمزيًّا؛ تعبيرًا عن الامتثال لشيخهم الملكي والروحاني.53 وفي صدًى للقصائد والطقوس الموجَّهة إلى الحكام، فقد كان الهدف من الدين الإلهي المغولي ونموذج المرشد والمريد خاصته أن يكونا وسيلةً لتعزيز الولاء في البلاط الملكي، أكثر من أن يكونا نظامًا يُروَّج في المجتمع الهندي في العموم. وعلى الرغم من أن قِصَر أمَدِ استمرار الدين الإلهي قلَّلَ من شأنه لدرجةِ اعتباره نزوةً ملكية، فإن اللغة الصوفية التي وصَفت الإمبراطورَ ﺑ «المرشد» ووصفت الحاشيةَ ﺑ «المريدين» سوف تستمرُّ في ظلِّ الحكَّام المغول اللاحقين؛54 فعلى سبيل المثال: في عهد جهانكير (الذي حكم من عام ١٦٠٥ إلى عام ١٦٢٧) الذي خلف أكبر، جمع شخصٌ من الحاشية يُدعَى عبد الستار حواراتِ الإمبراطورِ في صورة كتابِ ملفوظاتٍ من النوع المخصَّص عادةً لحوارات الشيوخ الصوفيين.55 وباستخدام المصطلحات الصوفية أشار عبد الستار على نحوٍ مُعبِّر إلى مجموعة الحوارات هذه باسم «ملفوظات جهانكيري»، هذا بالإضافة إلى وصف جهانكير بصانع مُعجزات يحمل اللقبَين الصوفيين «المعلم والمرشد».56 ولم يكن المغول الحكَّامَ الوحيدين في جنوب آسيا في فترة أوائل العصر الحديث الذين استخدموا نماذجَ السلطة الصوفية هذه لأغراض البلاط الملكي خاصتهم، فبعد قرن من حكم جهانكير كوَّنَ الحاكمُ الهندوأفغاني محمد خان بنكش (الذي حكم من عام ١٧١٣ إلى عام ١٧٤٣)، من مملكته الجبَلية الصغيرة إلى شمال دلهي، لنفسه شخصيةً مُشابهة، مزجَت ما بين صورة الشيخ الصوفي وصورة الغازي، وشجَّعَ كلَّ فرد من أفراد حاشيته على اعتبارِ نفسه من مُرِيديه الصوفيين؛ ومن ثَمَّ، كانت نماذجُ السلطة الصوفية من السهل نقلها إلى حدٍّ كبير.57
وكما هو الحال مع الصفويين والعثمانيين، فقد عبَّرت الثقة الجديدة لدولة المغول عن نفسها، في أوائل العصر الحديث، في استعدادها لمواجَهةِ واحتواءِ الجماعات التي هدَّد استخدامها للتقليد الصوفي السلطةَ الإمبراطورية. ومثلما سعى العثمانيون والصفويون في نهاية المطاف إلى قمع الصوفية القزلباشية القبلية، ففي عهد جلال الدين أكبر قُوبِلتْ بقمع شديد الحركةُ الروشنية الموحدة للقبائل التي قادها الصوفي صاحب الشخصية الجذابة بايزيد الأنصاري (المتوفَّى عام ١٥٨٥) وسط القبائل الأفغانية على الحدود الشمالية.58 في العموم، تعكس تعاملات البلاط المغولي مع الصوفية الأدوار المختلفة التي لعبتها الصوفية في المجتمع الهندي في العموم خلال فترة الحكم المغولي.59 وتفوَّقت الإمبراطورية المغولية على غيرها من الإمبراطوريات الأخرى في هذه الفترة، في تجميع عددٍ من الجماعات العِرْقية والدينية المتنوعة معًا، وعلى الرغم من خضوع هُوِيَّات هذه الجماعات للتغيُّر على مر الزمان، فقد وُجِدت اختلافات وتحزُّبات واضحة فيما بينها. وأدَّت تعدُّدية المجتمع المغولي وتعقيده إلى توجيهِ الطرق والطوائف الصوفية إلى اتجاهين مختلفَين، كان أحدهما يرى أن الانتماءات الصوفية تضاهي وتحاكي أشكالَ الارتباط العِرْقي أو اللغوي أو الطبَقي، والاتجاه الآخَر كان يرى أنها بمنزلة وسيط للتفاعُل بين الجماعات المختلفة يؤدِّي إلى لمِّ الشمل الاجتماعي. من ناحية، نجد أن الأشخاص الذين تجمَّعوا حول أحد الصوفيِّين كانوا في الأساس من الجماعة العِرْقية التي ينتمي إليها الصوفي نفسه، وقد ظهر هذا العامل من سياق الهجرة والتهجير، الذي كان من سمات المجتمع الإمبراطوري.60 ومن الناحية الأخرى، نجد حالات كثيرة يكون فيها الشيوخ الصوفيون الأحياء أو أضرحتُهم وسائلَ للاندماج الاجتماعي، من خلال تجميع أعضاء من جماعات عِرْقية وحتى دينية مختلفة معًا.61 ويُقال إن معتقد «وحدة الوجود» لعب الدورَ الأساسي في هذا الصدد، والذي قد رأيناه في الفصل الثاني ينشأ في الأساس من تعاليم ابن عربي (المتوفَّى عام ١٢٤٠). وفي السياق الهندي، ربما كان هذا المُعتقَد أداةَ تمكينٍ للوحدة الاجتماعية، جعَلتِ المسلمين والهندوسَ يَعتقدون أن آلهتهم وممارساتهم المختلفة تمثِّل جزءًا من وحدةٍ كونيةٍ أكبر.62
على الرغم من صعوبة معرفة كيفية إثبات هذا التعميم، فإن مُعتقَد وحدة الوجود مكَّنَ كثيرًا من الشعراء المسلمين (ومستمعيهم) من تخيُّل أنفسهم يدخلون المعابد ويَسجُدون أمام تماثيلها، وحيث إنه مِن المُمكن أن نعزو هذا الدور الأيديولوجي إلى هذا المعتقَد في الهند، فإن الدعم الذي تمتَّعَ به هذا المعتقَد أيضًا في الإمبراطورية العثمانية التي تُشبه الهند في تعدُّدية الأديان كان له أثرٌ كبير. إلا أن هذه التسوية بين أعضاء الجماعات الدينية المختلفة لم تكن ناتجةً عن الفكرة فحسب، بل كانت ناتجةً أيضًا عن الوسيلة؛ فيجب ألا نقلِّل من الدور الذي لعبته اللغة الفارسية في تمكين نشر المصطلحات الصوفية بين الجماعات المختلفة التي اطَّلعت على ثقافتها الأدبية في الهند المغولية؛ حيث كانت الفارسية تُروَّج بين كل الجماعات المرتبطة بالدولة، بما في ذلك الكثير من الهندوس من طبقات الكُتاب الذين مثَّلوا دعامةَ البيروقراطية المغولية.63 وبعيدًا عن الفارسية، فقد رأينا بالفعل كيف أدَّى إضفاء الطابع المحلي على التعاليم الصوفية إلى انتشارها، ولم يختلف الأمر في الهند. وفي حالة شعراء البنجاب، أمثال شاه حسين (المتوفَّى عام ١٥٩٩)، وسلطان باهو (المتوفَّى عام ١٦٩١)، وبلهى شاه (المتوفَّى عام ١٧٥٧)؛ وشعراء السند أمثال شاه عبد اللطيف (المتوفَّى عام ١٧٥٢)، شهدت فترةُ المغول انتقالَ المصطلحات الصوفية إلى المستوى الريفي، تلك التي كانت حكرًا إلى حدٍّ كبير على الطبقات الحضرية قبل القرن السادس عشر.64 وهذا الانتشار الريفي لم يقدِّم الأفكارَ الدينية فحسب إلى الجمهور الريفي، بل قدَّم أيضًا آليات التحكيم والسيطرة؛ حيث أصبح الصوفيون دعائمَ مهمة للنظام الاجتماعي الريفي، سواء فيما يتعلَّق بتعنيفِ ووعظِ مخالفي القانون، أو تسويةِ النزاعات، أو تعليمِ السلوك اللائق. وعلى الرغم من أن الصوفيين في الهند المغولية لم يكونوا قريبين على الإطلاق من الدولة كما حدث في عهد الإمبراطورية العثمانية، وحتى إنْ كانوا بعيدين جدًّا عنها، فقد حافظوا كثيرًا على النظام والتناغُم الاجتماعيين في الهند.65 وعلى الرغم من أنه كان يوجد الكثير من الصوفيين الفقراء الذين عاشوا على هامش المجتمع والدولة أيضًا، فإنه لن يكون من المبالَغة القولُ بأن الصوفية في الغالب كانت إلى حدٍّ كبير جزءًا من المؤسسة المغولية الحاكمة.
نرى تشابهًا مُهمًّا آخَر بين علاقة الصوفيين بالدولة في الأراضي العثمانية والأراضي المغولية، في الدور الذي لعبه الصوفيون في توسيع الحدود الإمبراطورية. لقد رأينا بالفعل أهميةَ الصوفيِّين «المستوطنين» في التوسُّع العثماني في جنوب شرق أوروبا والشام، وفي الهند المغولية كانت توجد عملية مشابهة. ولم تكن العملية نفسها بجديدة على الهند؛ فقد ساعَدَ الصوفيون في توسيع رقعة الاستيطان الإسلامي على طولِ سهلِ نهرِ الجانج الخصب طوالَ فترة سلطنة دلهي (١٢٠٦–١٥٢٦)، سواء في صورة ساكني الحدود الذين يساعدون أنفسهم أو عن طريق حصولهم على الأراضي الممنوحة من السلطان.66 واستمر النمط القديم هذا المتمثِّل في توظيف الصوفيين في توسيع الحدود الزراعية في ظل المغول، الذين منَحهم غزوهم لمنطقة غابات البنغال الشاسعة عام ١٥٧٤ قدرًا هائلًا من الأراضي يُمكن منحها للرعايا الأتقياء والموالين لهم. وعندما تسلَّمَ الصوفيون هِبَات الأراضي الممنوحة لهم في الغابات، وظَّفوا الحطَّابين المحليِّين لإزالة الأشجار لتصبح الأراضي صالحةً للزراعة؛ وبهذه الطريقة، قدَّموا لسكان الغابات الأصليين الإسلامَ في صورته الصوفية؛ مما أدَّى إلى توسيعهم لحدود الإمبراطورية، وكذلك تنفيذ عملية «الدعوة للإسلام عن طريق المحراث».67 وبينما وسَّع هذا الأمر جزئيًّا نطاقَ التعليم الإسلامي الرسمي، فإنه أيضًا دفع عمليةَ إضفاءِ الطابع المحلي على التعاليم الصوفية إلى مستوياتِ دمجٍ جديدة؛ فأصبحت موضوعاتُ الأدب الصوفي البنغالي مأخوذةً من التنترية وأساطير الغابات القديمة.68
لم يكن هذا النسق المتعلِّق بالاستحواذ على الأشخاص الصوفيين والمصطلحات الصوفية وإعادة توجيههم من قِبَل الدول في أوائل العصر الحديث؛ مقتصرًا على الإمبراطوريات الثلاث الكبرى في هذه الفترة، ويُمكن رؤيته في عدد من البيئات الأخرى. وفي كثير من الحالات، تضمَّن هذا الأمر انتقالَ أُسرٍ صوفية من النخبة من المراكز القديمة المرموقة إلى البيئات الحدودية، التي كان فيها علمهم ومكانتهم الوجودية كأولياء لله — اللذان يُمثِّلان رأسمالهم الرمزي — موردَين نادرَين. ويساعدنا دمج هؤلاء الأولياء المتنقلين في الدول الجديدة الموجودة على الحدود البحرية للمحيط الهندي في ربط تاريخ الصوفية في المناطق المختلفة بعضه ببعض. وتعدُّ السلطنات الإقليمية في منطقة الدكن الواقعة جنوب الهند أحدَ الأمثلة في هذا الشأن؛ فقد جذب السلاطين البهمنيون في منطقة الدكن أسرةَ الصوفي الإيراني المقدس شاه نعمة الله (المتوفَّى عام ١٤٣١) إلى عاصمتهم في بيدار، كجزء من سياسة أكبر تُفضِّل النخب المهاجرة على النخب المحلية.69 ونظرًا للدعم الهائل الذي تلقَّاه النعمتلاهيون من قِبَل الأسرة الحاكمة نفسها، وتحالُفها معهم عن طريق الزواج، فقد أصبحوا شخصيات أساسية في البلاط الملكي، ولم يقتصر دورهم على قيادةِ مَراسِم تتويج السلاطين، بل منحوا أيضًا السلطان أحمد شاه (الذي حكم من عام ١٤٢٢ إلى عام ١٤٣٦) مرتبةَ «الولي» الصوفية؛ كي يضيفها إلى ألقابه الرسمية الملكية الأخرى. وتصف سيرةٌ فارسية نادرة لشاه نعمة الله، تعود إلى فترة السلاطين البهمنيين، كيف أن أحمد شاه قبل أن يصل إلى الحكم رأى شاه نعمة الله في الحلم يضع تاجًا على رأسه، وبعد أن استيقظ استلم خطابًا منه يَزيد طمأنته على نجاحه في المستقبل.70 واستكمالًا لهذه العلاقات بين الأولياء والسلاطين في الأجيال التالية، كرَّر هذه القصة مؤرخُ جنوب الهند العظيم فرشته (المتوفَّى عام ١٦٢٠)، في حين أُهدِيت سيرةٌ أخرى لشاه نعمة الله للسلطان البهمني التالي، علاء الدين أحمد شاه الثاني (الذي حكم من عام ١٤٣٦ إلى عام ١٤٥٨)، الذي وُصِف في الإهداء بأنه «سلطان العرفاء».71 وشهدت أيضًا سلطنات أخرى في جنوب الهند تقويةً للعلاقات بين الصوفيين والدولة، كما في حالة الزيادة الكبيرة في منْح هبات الأراضي، أو ما يُعرَف ﺑ «الإنعام» والمعاشات، أو ما يُعرَف ﺑ «اليوميات» للصوفيين على يد سلاطين سلالةِ عادل شاه الذين حكموا بيجابور في القرن السابع عشر.72 وعلى غرار السياقات الأخرى في أوائل العصر الحديث، فإنه يبدو أن الهدف من ذلك كان خلْقَ مؤسسةٍ دينية مستقرة وموحدة موالية لمُناصِريها الذين يُمثِّلون الدولةَ؛ نظرًا لاعتمادها عليهم.73

(٦) جنوب شرق آسيا: سلطنات الملايو

إذا كان الوضع في هضبة الدكن يُشبه كثيرًا النموذج العثماني، فقد كانت توجد أيضًا أمثلة على كياناتٍ إقليميةٍ أصغر انتهجَت الاستحواذَ الكامل على المصطلحات الصوفية، الذي شهدناه في حالة الشاه إسماعيل في إيران وجلال الدين أكبر في الهند؛ فقد حدث أيضًا أن قُدِّم الملك في صورة الولي أو في صورة الإنسان الكامل في السلطنات الموجودة في جنوب شرق آسيا؛ مما أسفَرَ عن ملوكٍ صنَّاعِ معجزات في جزيرتَيْ جاوة وسومطرة اللتَين تشتهران بالتوابل. وتُظهِر المصادر الملايوية المبكِّرة مثل «حكايات ملوك باساي» كيف أنه حتى في السلطنات الإسلامية المبكِّرة التي تأسست في المنطقة، كان يُصوَّر السلاطين على أنهم يتشاركون في القدرة على صنْع المعجزات مع الصوفيين.74 ومثلما استضافت الهند نفسها الصوفيين الرحَّالين القادمين من المراكز المرموقة القديمة في آسيا الوسطى وإيران، فإن الممالك الصغيرة في أرخبيل الملايو الإندونيسي رحَّبت بدورها بالصوفيين الذين كانوا تجسيدًا للمكانة المرموقة وقوة تلك الأماكن الروحانية البعيدة. وعلى الرغم من أن جنوب شرق آسيا لطالما وُصِف بأنه الطرفُ السلبي في هذه الشراكة؛ نظرًا لاستقباله هذه الهجرات الصوفية، فإنه يلزم الانتباه إلى الأخبار التي تقول إنَّ العلماء المسلمين من جنوب شرق آسيا كانوا يدرسون في شبه الجزيرة العربية منذ وقت مبكر يعود للقرن الرابع عشر، كما هو الحال مع أبي عبد الله بن مسعود الجاوي.75 وفي قصائد المديح المتأخرة استُخدِمت «جاوة»، وطن ابن مسعود المفهوم على نحوٍ غامضٍ، الذي كان يُعتبَر بالغَ الثراء بالنسبة إلى المدن البعيدة في شبه الجزيرة العربية، لربطِه مجازيًّا بالتوابل والعطور الباهظة الثمن التي يُشتهَر بها جنوب شرق آسيا على نحوٍ أساسي.76 إن هذه الارتباطات الخيالية ليست مُبالَغةً تبجيلية فحسب، بل إنها تشير إلى الاعتماد المتبادل بين الدين والتجارة، الذي أفسح مجالًا أمام «الواردات» الصوفية في أوائل العصر الحديث. وعلى الرغم من أن هذه العملية يمكن لمحها فقط في الأعمال السردية التي تتحدَّث عن المعجزات المحفوظة في السجلات الملكية، فإن تحوُّل الحكَّام الملايويين في الدول التجارية الحديثة، التي ظهرت في جنوب شرق آسيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، إلى الإسلام؛ عُزِي كثيرًا إلى بركةِ وتعاليمِ هؤلاء الصوفيين الرحَّالين، الذين أبحَروا إلى المنطقة من مراكز قديمة مثل بغداد، على الرغم من أن الأبحاث الأحدث تُظهِر أن الهند كانت المصدرَ المرجَّح أكثر لهؤلاء الأولياء.77 والروايات التي تسرد قصصَ التحوُّل إلى الإسلام المحفوظة في السجلات الملايوية تتَّسم عادةً بالإثارة البالغة؛ حيث تروي ختانَ الملوك بطريقةٍ إعجازية أثناء نومهم، أو إنقاذهم أثناء سُكْرهم من الشياطين التي تتبوَّل في كئوسهم. وتُظهِر أدلةُ انتشارِ الإسلام في أعماق جنوب شرق آسيا وجودَ تطوُّرات مشابِهة؛ حيث ارتبَطَ تحوُّل جاوة إلى الإسلام بقصص «الأولياء التسعة» المشهورين وأضرحتهم. وبالمثل، فإن أقدم الأدلة الأدبية المهمة على الإسلام الجاوي، مثل كُتَيِّب «بريمبون» الجاوي الذي يعود إلى القرن السادس عشر، يوثِّق انتشارَ إسلامٍ صوفيِّ النوع في جوهره في جاوة.78
ومن جنوب شرق آسيا في القرن السادس عشر، توجد أدلة من كتابات الصوفيين أنفسهم، الذين كانت أعمالهم شاهدةً على إدراكهم الشديدِ التعقيدِ للتفاصيل الدقيقة الماورائية في حدود المحيط الهندي هذه. وعكس هذا التعقيد ظهورُ طبقةٍ من العلماء الصوفيِّين المتنقِّلين في المنطقة؛79 ففي حالةِ حمزة الفنصوري (المتوفَّى عام ١٥٢٧ أو ١٥٩٠)، نجد صوفيًّا وُلِد في جنوب شرق آسيا يسافر إلى مكة وبغداد وحتى فلسطين، قبل أن يعود إلى التدريس في وطنه؛ مما يشير مرةً أخرى إلى نموذج التداوُل الثنائي الجانب، أكثر مما يشير إلى مجرد الانتقال من المركز إلى الحدود،80 فتُرجِّح إعادةُ تقييم حديثة للأدلة المتعلقة بالحياة المهنية لحمزة الفنصوري أنه كان عضوًا في الطريقة القادرية التي تأسَّست في بغداد، وكان يستقطب المريدين في بلاطِ ملوكِ باساي في سومطرة؛ حيث إن حاكمها في حوالي عام ١٢٧٠ اعتنَقَ الإسلام.81 وقد عكس وجودُ الفنصوري الكونيةَ التي تسبَّبت فيها معدلاتُ التجارة في المنطقة؛ فعندما زار الرحَّالةُ الشمالُ أفريقي ابن بطوطة (المتوفَّى عام ١٣٦٨) مملكةَ باساي، تحدَّثَ عن أنه وجَدَ عالِمَيْن إيرانيين خبيرين في الفقه الإسلامي يَعملان في خدمة السلطان.82 وفي عصر الفنصوري؛ أيْ بعد قرن من هذه الزيارة، كانت باساي قد أصبحت ملتقًى دينيًّا وتجاريًّا نقل منه الفنصوري ومريدوه التقليدَ الصوفي إلى مناطق جغرافية جديدة. ومن خلال استخدامهم اللغةَ الملايوية لغةً للكتابة، وصلتْ تعاليمُ الصوفي الأندلسي الكبير ابن عربي (المتوفَّى عام ١٢٤٠) إلى جماهير لم يكن ليَحلم بها مطلقًا؛ مما أدَّى إلى توسيعِ نطاقِ عمليةِ إضفاء الطابع المحلي على التعاليم الصوفية التي شهدناها في الفصل الثاني إلى آفاق جديدة. وتُعدُّ كتاباتُ الفنصوري الشعرية والعقائدية الغزيرة المكتوبة باللغة الملايوية أهمَّ الأمثلة المبكِّرة في هذا الشأن.83 وفي الوقت الذي بحث فيه الفنصوري عن مُرادفات ملايوية للمصطلحات الصوفية أثناءَ عمليةِ إضفاءِ الطابع المحلي على التعاليم الصوفية، اقترَضَ المصطلحات الأساسية العربية الأصلية التي استخدمها الصوفيون الأوائل في بغداد ليستخدمها في الصوفية الملايوية؛ ممَّا ساعَدَ في الحفاظ على صِلَة هذه الصوفية الجديدة بالتقليد الصوفي القديم.84 وفي وقت متأخِّر نسبيًّا، اقتُرِضت أيضًا كلماتٌ أساسية مثل «ولي» إلى اللغة الجاوية نقلًا من المصطلحات الصوفية العربية.

وعلى غرار الصورة الأكبر للتفاعل بين الدول والصوفيِّين في أوائل العصر الحديثة، فقد حدَثَ تكييفٌ للتقليد الصوفي وفقًا للسياق الثقافي الملايوي الجديد هذا، في إطار أجندات أيديولوجية أوسع نطاقًا. ونظرًا لأنَّ الصوفيين من أمثال الفنصوري كانوا مدعومين من مُناصِريهم من الحكَّام، فإنه ليس من المفاجئ أنَّ الصوفية التي دعمها هؤلاء المُناصرين كانت تُعزِّز سلطتَهم ولا تقلِّل منها. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يجب القول إنَّ ظروف الفنصوري وكذلك زمن حياته المهنية يَبقيان محلَّ خلاف؛ ومن ثَمَّ، يُمكننا الحديث بمزيدٍ من الوضوح عن التفاعل بين الصوفيين والدولة في جنوب شرق آسيا في القرن السابع عشر فقط، كما سنرى فيما يلي.

(٧) آسيا الوسطى: مجتمعات الأضرحة

إذا كانت الصورة في جنوب شرق آسيا ضبابيةً أثناء القرن السادس عشر، فإننا نمتلك توثيقًا أكثر كمالًا للعلاقة بين الطرُق الصوفية والدولة في آسيا الوسطى. كما رأينا في الفصل الثاني، في منطقةٍ كانت الهياكلُ التنظيمية للسلالات القبَلية الحاكمة فيها ترتبط مع المجتمع الأوسع نطاقًا بروابط ضعيفة نسبيًّا؛ فقد شهد القرن الخامس عشر ظهورَ قائد يَنتمي لأحدِ فروع الطريقة النقشبندية، أصبح أكبرَ مالك للأراضي في آسيا الوسطى، وأيضًا حاكمًا لدولة مُوازية استمرَّت بعد زوال حكَّام الدولة التيمورية والدولة الشيبانية، وفاقت حدودَهما في المنطقة. وتُمثِّل الطريقة النقشبندية حالة مهمَّة؛ لأنها تُظهِر كيف يمكن أن تُصبح الطريقة نفسها مختلفة للغاية في الأماكن المتعدِّدة الموجودة بها؛ مما يشير إلى التفاعل بين التقليد والمشاركين فيه وبيئته. وإذا ظلت النقشبندية في الأراضي العثمانية شبهَ منظَّمة طوال فترة أوائل العصر الحديث، فإنه لم يكن من الممكن أن يصبح حالها أكثر اختلافًا في المدن الواحية في آسيا الوسطى؛ فبعدَ تكوينها هيكلًا تنظيميًّا مركزيًّا تحت قيادة عبيد الله أحرار (المتوفَّى عام ١٤٩٠)، أسَّست (أو بالأحرى أسَّس أتباعُ عبيد الله أحرار) فعليًّا دولةً خاصة بها، وانتهجت نظامَ «الحماية» الذي تلقَّى من خلاله أعضاؤها البركاتِ الروحانية، وكذلك مُساعَدة ملموسة متمثِّلة في العمل في الأراضي الزراعية الشاسعة التي يمتلكها أحرار.85 وروَّج السلاطين التيموريون (لا سيما حسين بايقرا الذي حكم من عام ١٤٦٩ إلى عام ١٥٠٦) لتلك السياسة القائمة على التوسُّع الزراعي، من خلال استخدام الوقف لمنْح الأراضي الزراعية غير المستغَلَّة على نحوٍ كافٍ لأُسَر الأولياء، وعندما انهارت الدولة التيمورية نفسها، تمسَّكت أُسَر الأولياء بمواردها الزراعية الثَّرِية.86 وعلى مدار القرنين الخامس عشر والسادس عشر، منحت الطريقة النقشبندية أعضاءَها الكثُرَ الموجودين بين الفلاحين والحضريِّين المستقرِّين الخدمات التي تُقدِّمها الدولُ لرعاياها مثل الحماية من غارات الغُزاة البدو، أو امتيازات مثل الإعفاء من الضرائب.87 ونظرًا لامتلاك شيوخ الطريقة ونوَّابهم قُدراتٍ روحانيةً ومادية، فقد احتُفِي بهم في الحكايات التي صوَّرتْهم وهم يُعاقِبون على نحوٍ خارق للطبيعة أعداءَ الأتباع الموجودين تحت «حمايتهم».88 وبعد أن ظهرت تلك الطريقة في القرن الثاني عشر كطريقة هادئة وفقيرة وشبه مُنظَّمة، أصبحت في القرن السادس عشر تنظيمًا فاحشَ الثراء، وشديدَ المركزية، تربطه صلاتٌ قويةٌ بكل أسرة حاكمة صادفَتْه. وتوثِّق الخطاباتُ الباقية التي كتبها عبيد الله أحرار وأعضاءُ تنظيمه البيروقراطيةَ البالغةَ الكفاءة التي ضاهتْ — بل فاقَتْ أيضًا في بعض الحالات — سلطةَ حكَّام المنطقة الرسميِّين.89 وتُظهِر الخطاباتُ الكثيرة الباقية، العمليةُ الطابع على نحوٍ مذهل، أن الطريقة كانت آليةً لحلِّ نزاعات الملكية والنزاعات القانونية؛ إذ كانت تقدِّم «تصاريح سفر» للمُسافرين، وتقدِّم هباتٍ نقديةً للفلاحين وتخفيضاتٍ ضريبيةً للتجار.
على الرغم من أن عبيد الله أحرار ووَرَثته النقشبنديين كانوا أنجح مَن انتهَجَ نظام «مجتمعات الأضرحة» هذا، فإنهم بالتأكيد لم يكونوا الوحيدين؛ فقد شهدت فترة أوائل العصر الحديث انتشارَ هذا النظام في كل أنحاء أراضي سهوب آسيا الوسطى الشاسعة، وكان لطول بقاء المؤسَّسة الصوفية أثرُه في تمكين الصوفيِّين من إدارةِ نظامٍ بيئي زراعي ضعيف بفاعلية أكبر بكثير، مقارَنةً بسلالات السلاطين القصيرة الأجل.90 وفي أقصى الشرق على طول طريق الحرير، كانت ذرية عبيد الله النقشبندية أكثر نجاحًا في مَساعيها لتأسيس الدول؛ فقد وسَّع أحمد الكاساني (المتوفَّى عام ١٥٤٣)، أحد أبناء عبيد الله نفسه، نطاقَ الطريقة، فامتدت إلى قشغر في الصين الغربية في الوقت الحاضر، وإلى التبت في نهاية المطاف، محاولًا تكرار النجاح الذي حقَّقته الطريقة في السابق عندما قدَّمت للقبائل التركية في السهوب الضوابطَ الأخلاقية الشرعية. وفي عام ١٥٣١، وفي إطارِ ما بدا أنه مُزاوَجة مُناسِبة بين التوسُّع التبشيري للطريقة ومزايا طرق التجارة الثرية التي عبرَتْ جبال الهيمالايا، أعلَنَ أحدُ مُريدي الكاساني المنتمي للسلالة الشيبانية الجهادَ ضد التبت.91 ولاحقًا في هذا الفصل سوف نتناول تأسيسَ أحد أحفاد الكاساني دولةً نقشبندية جديدة، فيما أصبح الآن الصين الغربية.

(٨) شمال أفريقيا: المملكة المرينية والمملكة السعدية

في عهد السلالة المرينية (١٢١٥–١٤٦٥) والسلالة السعدية (١٥٠٩–١٦٥٩) اللتَين حكمتا المغرب، شهدت منطقة شمال أفريقيا شغْلَ الصوفيين مكانةً مرموقة أيضًا. وعلى الرغم من أن الصوفية واجهت في السابق الكثيرَ من المنتقدين في شمال أفريقيا، فقد شهدتْ فترةُ المملكة المرينية مكاسبَ مُستمرَّةً صبَّتْ في جانبِ مكانةِ صوفيِّي المنطقة. ومن ناحيةٍ، تحقَّقَ هذا الأمر من خلال ارتباط الصوفيين بالعلماء الذين تلقَّوْا تعليمهم في مدرسة القرويين التي موَّلَها المرينيون في عاصمتهم فاس كي تمدَّ حكومتَهم بالإداريين.92 بالرغم من ذلك، لم يكن الصوفيون أداةً طيِّعة في يد الدولة، وأدَّى عجز الدولة المرينية عن الدفاع عن أراضيها ضد الإمبراطوريتَين الإسبانية والبرتغالية الناشئتين؛ إلى ظهورِ جبهةٍ داعمة للحرب يقودها الصوفيون الرافضون للأسرة الحاكمة، الذين دعوا أتباعهم للجهاد ضد المسيحيِّين؛ على سبيل المثال: عندما غزا البرتغاليون طنجة، ساعَدَ محمد بن سليمان الجزولي أحدَ أتباعِ الطريقة الشاذلية (المتوفَّى عام ١٤٦٥) في الدفاع عن الأراضي الإسلامية، حاشدًا اثني عشر ألفَ صوفيٍّ وقبليٍّ تحت قيادته.93 وأدَّت الانتفاضة إلى الإطاحة بالسلالة المرينية على يد الجبهة الداعمة للحرب، التي كانت تتكوَّن من السلالة الوطاسية المنحدرة من نسل النبي محمد وحلفائهم الصوفيين أتباع الطريقة القادرية. ولم يكن كل الصوفيين سعداء بتولِّي الوطاسيِّين الحكم، لا سيما أولئك الذين كانوا يشغلون مناصب في الإدارة المرينية، ممَّا أدَّى إلى مُغادَرة الصوفيين من غير أتباع الطريقة القادرية مدينةَ فاس، مثلما تركها أحمد الزروق (المتوفَّى عام ١٤٩٣) وقضى مدةً طويلة في القاهرة.94
لعب نموذج السلطة السياسية للجزولي، المُعتمِد على الاتحاد ما بين الأولياء الصوفيين والسلاطين الذين كانوا من «الأشراف» (أيْ من نسل النبي محمد)؛ دورًا أساسيًّا في إضفاء الشرعية على السلالة السعدية (١٥٠٩–١٦٥٩) التي حلَّت محلَّ الدولة الوطاسية.95 وعلى غرار الدولة العثمانية والدولة الصفوية في الوقت نفسه، تمكَّنت الدولة السعدية من السيطرة على سكان الحدود القبليِّين الواقعين تحت إمرتها لدرجةٍ غير مسبوقة؛ فقد كان رجال مثل الجزولي مُساعِدين مُهمِّين في تكوينِ ما سيصبح في نهاية المطاف الدولةَ القومية المغربية، من خلال الحصول على ولاء القبليِّين ورفع مكانة مواقع الزيارة الصوفية في الأراضي السعدية (مقارَنةً بتلك الموجودة في مصر وشبه الجزيرة العربية). وبحلول القرن السادس عشر، أصبح صوفيو شمال أفريقيا يَمتلكون قدرًا بالغًا من الوعي الذاتي بنفوذهم السياسي كوَرَثة للنبي محمد، لدرجةِ أنهم كانوا يُشيرون إلى أنفسهم علنًا بلقب «أقطاب الدولة»، وهو مصطلح يدمج بين المصطلحات الصوفية والمصطلحات السياسية.96 وكوَّنَ الجزولي وخلفاؤه فكرةَ أن الصوفي هو «البديل» الذي يَمتلك السلطةَ شرعيًّا في غياب النبي محمد؛ ومن ثَمَّ حصلوا لأنفسهم على مكانة مهمَّة، ليس فقط في البلاط الملكي، لكنْ أيضًا في المجتمعات الريفية في شمال أفريقيا.
وعلى غرار السلالة الصفوية في إيران في الفترة نفسها؛ فقد استعملت السلالة السعدية عند صعودها إلى السلطة التوقُّعات الألفية الخاصة بالفترة، واعتمدت على الموضوعات الأُخروية الموجودة في كتابات الجزولي بصفة خاصة. وكما هو الحال في المناطق الأخرى؛ فقد شهدت العقود القريبة من بداية الألفية الإسلامية في عام ١٥٩١ همومًا ألفيةً في المغرب، سعى كلٌّ مِن الصوفيين والسلاطين إلى توجيهها لخدمةِ مزاعمهم بأنهم المخلِّصون الذين سيؤدُّون إلى سعادة العالم.97 وصِيغتْ شرعيةُ السعديِّين الأوائل في هذا الإطار تحديدًا؛ فقد اعتمد اسم الدولة السعدية (أيِ الدولة المخلِّصة) على فكرة «السعادة» (أيِ النعمة والخلاص) في تعاليم الجزولي، وتضمَّنَ الوعدَ الألفي المتمثِّل في تكوين مجتمع إسلامي مثالي يقوم على طرْدِ البرتغاليِّين الكفار، والحكْمِ المشترك للسلالة المُنحدِرة من نسل النبي محمد والأقطاب الأولياء أتباع الجزولي.98 ومنذ وقت مبكِّر في عهد السعديين، تجلَّت الأهمية التي أولَوْها للصوفيين في التبجيل الذي أولاه مؤسِّسُ الدولة السعدية محمد القائم بأمر الله (الذي حكم من عام ١٥٠٩ إلى عام ١٥١٧) للجزولي نفسه؛ الذي بلغ به الأمر أن طلب أن يُدفَن بجواره؛ وأدَّى هذا إلى قيام أحمد الأعرج (الذي حكم من عام ١٥١٧ إلى عام ١٥٤٤) خليفةِ القائم بأمر الله باستخراج جسد الجزولي بعد وفاته وإعادة دفنه في ضريح شُيِّد خصوصًا في مراكش عاصمة السعديين، جنبًا إلى جنب مع مؤسِّس الدولة السعدية، في رمزٍ واضح لاتحادهما.
وتضمَّن صعود السعديين إلى السلطة أيضًا الصراعَ من أجل السيطرة على الحدود الجنوبية شبه الإسلامية التي يَسكنها قبائل البربر وتمرُّ بها طرق القوافل المزدهرة. وهنا أيضًا لعبت المساكن الصوفية الريفية دورًا مهمًّا في زعم انتماء المنطقة للإسلام؛ ومن ثَمَّ أحقية السعديين في حكمها بصفتهم من سلالة النبي محمد.99 وعلى غرار الأراضي الزراعية الغنية في آسيا الوسطى، فإنَّ هذه المزاعم شجَّعت محاولاتِ إضفاءِ المركزية على فرع الجزولي من الطريقة الشاذلية، فطالَبَ عبد الله الغزواني (المتوفَّى عام ١٥٢٩) خليفة الجزولي بعقد اجتماعات في الجنوب القبَلي لتوحيد قادة المساكن الجزولية المختلفة وراء الأسرة السعدية.100 ولم يقتصر دور المراكز التعليمية الكثيرة، التي أسَّسها أتباع الجزولي في الريف والمدن على حدٍّ سواء، على نشر القراءة والكتابة من خلال الأهمية التي أولتْها لدراسة القرآن والفقه، بل منحت أيضًا أتباعَ الجزولي المؤهِّلات التي مكَّنتْهم من الالتحاق بالبيروقراطية السعدية على نحوٍ مناظِرٍ لمكانة الصوفيين المتعلِّمين في البيروقراطية العثمانية.101 على الرغم من ذلك، وكما شهدنا في بيئات أخرى في الفترة نفسها، فإن المشاركة في البلاط الملَكي لها مخاطرها؛ فعلى نحوٍ مُشابه لمصير الصوفيين الصفويين وأتباعهم القزلباش في إيران، رأى الحكام السعديون عام ١٥٥٠ تقريبًا أن مزاعم السلطة التي يزعمها الجزوليون تمثِّل تهديداتٍ أكثر مما تحمله من فوائد؛ ومن ثَمَّ تحرَّكوا لاضطهاد شركائهم الصوفيين السابقين.
على الرغم من ذلك، فإن سلطة الصوفيين العاملين في الدولة الآخِذة في التوسُّع هذه، تحقَّقَتْ ليس فقط في البيئات الحضرية في «بلاد المخزن» المغربية (أيِ المناطق الخاضعة للدولة)، بل تحقَّقت أيضًا من خلال تأسيسِ مساكنَ صوفيةٍ ريفية بين قبائل البربر في «بلاد السيبة» الحدودية (أيِ المناطق التي لم تكن للدولة سيطرةٌ كبيرة عليها). وكما هو الحال مع المناطق الأخرى التي تناولناها، فقد ازداد نفوذُ الصوفيين الريفيين من خلال المُمتلكات الزراعية التي سيطَرَ عليها الصوفيون. ووسطَ ترْكِ الأراضي الزراعية والمجاعات اللاحقة التي صاحبَتْ حروبَ القرنين الخامس عشر والسادس عشر، قدَّمَ مُلَّاكُ الأراضي الصوفيون هؤلاء العملَ والمساعَدةَ الماديةَ للفلاحين والقبليِّين المُهجَّرين. وفي هذه الأثناء، أعادوا زراعةَ الأراضي المتروكة، التي لم تكن مزروعة في السابق، وكانت هذه التطوُّرات مشابِهةً لدور النقشبنديِّين في المناطق القبلية والزراعية المُضطربة في آسيا الوسطى في الوقت نفسه، التي جعلت الصوفيين قادةً لِمَا بلغ منزلةَ الإقطاعيات الحدودية الصوفية الزراعية.102 وستشهد أيضًا سياسيةُ التنمية هذه التي حدثت في أوائل العصر الحديث شراءَ عبيدٍ أفارقة للعمل في الأراضي؛ ممَّا أسفَرَ عن تكوينِ اقتصادٍ ديني طويلِ الأمد، قائمٍ على الأولياء العرب والعبيد الأفارقة، استمرَّ حتى الأوقات المعاصرة.103

(٩) أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى: إمبراطورية سونجاي وسلطنة الفونج

شهد القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر أيضًا دخولَ الصوفية إلى الدول الإسلامية الحديثة الناشئة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وعلى الأرجح كان ذلك هو الوضع في الدولة الإسلامية الأفريقية الأقدم في هذه الفترة؛ وهي إمبراطورية سونجاي (١٤٦٤–١٥٩١)، الواقعة غربَ أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ حيث استُخدِمت الرموز الإسلامية لتبجيل الإمبراطور الذي مُنِح قدرات إعجازية.104 وعلى الرغم من أن دور الصوفيين في هذه التطورات غير واضح بسبب عدم توفُّر مصادر مبكِّرة عن إمبراطورية سونجاي، فإننا نعرف أن كثيرًا من صوفيِّي شمال أفريقيا استقروا في مركز العلم والتجارة الرئيسي المتمثِّل في تمبكتو أثناء عصر إمبراطورية سونجاي. وسواء في الطرف الغربي أو الطرف الشرقي لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فقد كان اتجاه انتشار الصوفية من الشمال إلى الجنوب، خاصةً بطُول طرُق التجارة والهجرة الرعوية التي وصلت شمالًا من خلال الصحراء الكبرى إلى المغرب ومصر؛ ونتيجةً لذلك، فقد كانت الطرق الصوفية ذات الوجود الكبير في شمال أفريقيا، مثل الشاذلية والقادرية، هي نفسها التي نُقِلت جنوبًا.105 على سبيل المثال: قُدِّمت الطريقة الشاذلية إلى السودان النِّيلي على يدِ حمد أبو دُنانة (الذي ازدهر نشاطه عام ١٤٥٠)، التابع للجزولي الصوفي الشمال أفريقي.106 إننا في هذا الصدد نتحدَّث فعليًّا عن مُسافرين من التجار أو العلماء على حد سواء، جلبوا من الشمال مرةً أخرى الانتسابَ إلى الطرق الصوفية وأفكارها. ومن هذا المُنطلَق، فقد كان وجود الصوفية الشاذلية والقادرية المبكِّر ممثَّلًا في أفرادٍ مهاجرين منتسِبين لها وليس طرقًا منظمة؛ ومن ثَمَّ، فما نشهده يتكوَّن في أفريقيا هو «طرق» عائلية؛ أيْ عائلات مقدَّسة ذات نفوذ محلي، مرتبطة من حيث النسب بالطرق الأوسع نطاقًا، المنتشرة في العديد من المناطق؛ مثل طريقة القادرية التي اكتسبَتْ منها تلك العائلاتُ المكانةَ في بيئاتها المحلية، مع استقلالها عنها من الناحية التنظيمية.107 وكما هو الحال عند أَسْلَمة المناطق الأخرى في العالم في أوائل العصر الحديث؛ فقد لعب دورًا مُهمًّا في هذه العملية الصوفيون المُهاجِرون المنتمون إلى السلاسل الصوفية المرموقة، التي تربطهم بطرقِ منطقةِ البحر المتوسِّط الإسلامية، لا سيما طرق المغرب ومصر. ويَصف أحد المؤرخين الأمرَ قائلًا:
كانت السمةُ المميِّزة للوجود الإسلامي في دولة الفونج ودولة دارفور (في السودان في أوائل العصر الحديث) هي السلالة المقدَّسة التي كانت تعود عادةً إلى مُهاجِر تزوَّجَ من المحليِّين. احتكرت هذه السلالةُ التعليمَ والطبَّ والسِّحرَ في منطقتها المحلية، وعزَّزت قوتَها باستمرارٍ بالحصول على «الجاه»؛ تلك المكانة التي تجعلها معفاةً من الضرائب، أو بالحصول على «حاكورة» أو «إقطاع» (أيْ أراضٍ خاصةِ الملكية) من الحكَّام.108

وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، كما هو الحال في غيرها من المناطق في الفترة نفسها، تفاوَضَ الملوكُ والصوفيون، وعقدوا تحالُفات عملية. كانت الصوفية في تلك المنطقة تمتاز أيضًا بالتركيز الشديد على التعليم المكتوب، وهذا يمثِّل من ناحيةٍ انعكاسًا للصوفية الفقهية التي شهدنا ازدهارها في شمال أفريقيا في هذه الفترة، ومن ناحيةٍ أخرى انعكاسًا لنُدْرةِ معرفةِ القراءة والكتابة في السياق الأفريقي في هذه الفترة، وفي كثيرٍ من المناطق، كان يُطلَق على الصوفيين «فقهاء»، في إشارةٍ إلى المجال المرموق الذي تخصَّصوا فيه أيضًا.

fig21
شكل ٣-٤: واحات الأولياء: مستوطنة ضريح زراعية، شمال غرب الصحراء الكبرى (تصوير: نايل جرين).
على الرغم من وصول بعض الحكايات إلينا، التي ترى أن الصوفيين تنقَّلوا عبر منطقة السودان خلال هذه الفترة، فإنَّ صورةَ الأنشطة الصوفية لم تصبح أكثرَ وضوحًا إلا بظهور سلطنة الفونج (١٥٠٤–١٨٢١)؛ فقد ظهر الإسلام لأول مرة في السودان النيلي من خلال تدفُّق الرعاة العرب أثناء القرنين الثالث عشر والرابع عشر؛ ممَّا أدَّى إلى انهيارِ مملكتَيْ مقرة وعَلوة المسيحيتَين. وأثناء فترة حكم الفونج، كان العلماء من مدارس مصر وشمال أفريقيا وشمال السودان مُنتسِبين على نحوٍ كبير إلى الطرق الصوفية، وقدَّمت الطبقةُ الحاكمة في سلطنة الفونج فرصَ رعايةٍ ثرية للعلماء الراغبين في الارتحال جنوبًا عبر الصحراء. وفي السودان، عمل هؤلاء الصوفيون المسلَّحون ﺑ «بركة» أنسابهم المقدَّسة وإجادتهم للكتابة كشخصياتٍ وسيطةٍ جعلتْهم مكانتُهم المرموقة أعمدةَ النظام الاجتماعي في دولةٍ كان نفوذُها على سكَّانها ضعيفًا.109 وكان حكام الفونج يمنحون رعايتهم عادةً في صورةِ أرضٍ شاسعة غير مستغَلَّة، وهكذا، على غرار محاولات الحكام التي رأيناها لاستيطان المناطق الحدودية، مُنِح الصوفيون في السودان الأراضيَ، وأسَّسوا قرًى زراعية عُرِفت باسم «الخلوات»؛ ومن هناك، ومن خلال توظيف المحليين والزواج منهم، تسبَّبوا في تحوُّلهم تدريجيًّا إلى الإسلام، الذي كان لا يَنفصل عن الصوفيين الذين نقَلوه لهم.110 وكما هو الحال في المناطق الأخرى، فقد صاحَبَ نمط التأقلم التدريجي مع أساليب الحياة الإسلامية من جانب الأفارقة عملية تكيُّف إسلامي موازية مع أساليب الحياة الأفريقية.111 ومن خلال قدرات الصوفيِّين الإعجازية، ومهارتهم في كتابة الأحجبة العربية، وتحوُّل قبورهم بعد وفاتهم إلى أضرحة مقدسة، كانوا مِحوَريِّين في تنفيذ نسق الأَسْلمة الثنائي الجانب هذا.

(١٠) حملة تصحيح: الفقهاء والمجدِّدون، من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر تقريبًا

سواء من حيث الأشخاص أو المؤسَّسات أو الأفكار، رأينا في هذا الفصل حتى الآن كيف أن الصوفية بلغت قدرًا من التأثير جعلها مندمِجة في أساليب الحكم التي تَنتهجها الدولة، أو جعلها حتى تحلَّ محلَّ الدولة تمامًا. لقد تغلغلت الأفكار والمؤسَّسات الصوفية في كل مستويات المجتمع في أوائل العصر الحديث في معظم أنحاء العالم الإسلامي، لدرجةِ أنه أصبح من الصعب في الغالب التمييزُ بين الصوفي وغير الصوفي. مارَسَ المسلمون العاديون الصوفيةَ، سواء عن طريق تبجيل الأضرحة أو غناء أغنية صوفية رائجة، أو الانتساب لطريقة صوفية انتسابًا رسميًّا على يد شيخٍ حي، وأصبحت الصوفية إلى حدٍّ كبير لا يمكن تفريقها عن الإسلام في العموم. وبحلول القرن السابع عشر أصبح التقليد المدعوم من الصوفيِّين — ذلك التقليد الذي يَزعُمون أنه منقول عن النبي محمد من خلال الصوفيين الأوائل أمثال الجنيد ومؤسِّسي الطرُق حتى وقتهم — متنوعًا على نحوٍ كافٍ، لدرجةِ أنه أصبح ثمة مجموعة متنوعة محيِّرة من الممارسات والمعتقدات والمنظَّمات الصوفية. كان الصوفيون على اختلافهم يفعلون أمورًا مختلفة على نحوٍ مدهش للغاية في أغلب الأحيان، وأثار نطاقُ المعتقدات والممارسات هذا التساؤلَ حول إمكانية أن تكون كلُّ هذه الممارسات والمعتقدات التقليدَ الحقيقي الذي تركه النبي. وفي القرن السابع عشر، درس الفقهاء الصوفيون في كل أرجاء العالم الإسلامي، وكان أول الأسئلة الأساسية في هذه الدراسة هو: أيُّ طريقة تربط المسلمين على أفضل وجهٍ بالسُّنَّة المحمدية؟ ونظرًا لأنه كان واضحًا أن كثيرًا من الصوفيين كانوا يقومون بأمور لم يَفعلها النبي قطُّ، فكان السؤال الثاني هو: أيُّ ممارسات الصوفيين التي تُعدُّ «بدعًا حسنة» مقبولة، حتى إنْ لم تكن جزءًا من السُّنَّة النبوية، وأيُّها يُعدُّ «بدعًا سيئة» يجب قمْعُها؟ كانت فكرةُ «البدعة» هذه أداةَ النقد الأساسية التي استخدمها الصوفيون وغير الصوفيين في نقد مَن يرون أنه مُنحرِف عن سُنَّة النبي وتقليد الصوفيين الأوائل الذين تبعوه.

توجد أسبابٌ كثيرة لحدوثِ «حملة تصحيح» القرن السابع عشر في ذلك الوقت، فكما رأينا في تمهيد هذا الفصل، فإنه على الرغم من أنَّ توقيت هذه الحملة يُمكن إرجاعه جزئيًّا إلى بداية الألفية الإسلامية عام ١٥٩١ (أيْ عام ١٠٠٠ في التقويم الإسلامي)، فإن الزمن الثقافي للتقويم الإسلامي لم يكن العامل الوحيد، بل يجب الأخذ في الاعتبار أيضًا الزمن العملياتي الذي يستخدمه المؤرخون. وكما رأينا في السابق، فقد تزامَنَ القرنُ الأخير في الألفية الإسلامية الأولى، والقرنُ الأول في الألفية الإسلامية الثانية، مع الزمن العملياتي الذي حدثتْ فيه مجموعةُ تغيُّرات اجتماعية واقتصادية وسياسية، جعلَت المؤرِّخين يشيرون إلى هذه الفترة بأنها تَنتمي لأوائل العصر الحديث. والآثار الكبيرة لهذا التزامُن بين الزمن الثقافي والزمن العملياتي هي ما تَجعلنا نقول إنَّ هذه الفترة تميَّزت بحملةِ تصحيحٍ أثَّرت على جماعات كثيرة، وليس على الصوفيين وحدهم.

إلا أن مرور الوقت أثَّرَ على الصوفيين أيضًا من نواحٍ أكثر تحديدًا، خاصةً من خلال التوتر بين حملة التصحيح الأكثر عموميةً هذه، وبين نتاجِ مرورِ الوقت المتمثِّل في تكوين فيض من الأفكار والمُمارسات والمؤسَّسات، التي تزعم جميعها أنها تمثِّل التقليدَ الصوفي الحقيقي. وقد وصفنا في السابق هذا التطوُّرَ بأنه عملية تنويع. وأثناء حملة التصحيح في هذه الفترة، وُصِفت أشكال كثيرة من هذ التقليد الصوفي المتنوِّع بأنها «بدعٌ» منحرفة عن السُّنَّة النبوية، وكان ذلك جزءًا من نقد تدريجي وتراكُمي، بدافع الرغبة في التصحيح، ظهر في القرن السابع عشر، وازدهر بوضوحٍ بالغ في القرن الثامن عشر، عندما أدَّتِ الضغوط المتزايدة في أوائل العصر الحديث إلى انهيارِ كثيرٍ من الدول الإسلامية؛ ومن ثَمَّ، فإن أحد الأسباب التي جعَلت العلماء الصوفيِّين وغير الصوفيين يَنتقدون كثيرًا من المُمارسات التي كانت موجودةً في القرن السابع عشر، هو أنه في هذه الفترة كان يوجد ببساطةٍ أشكالٌ مِن المُمارسات الصوفية أكثر تنوُّعًا بكثير من تلك التي تطوَّرت في القرون السابقة؛ وذلك عن طريقِ عملياتِ إضفاءِ الطابع المحلي على الصوفية، التي تناولْناها في الفصل الثاني. وأيًّا كانت الأبعاد الدينية لحملة التصحيح، فإنه يُمكن اعتبارها من الناحية التاريخية نتيجةً ﻟ «النجاح» الهائل لعملية الأَسْلمة، وليست نتيجةً لفشلها، كما زعم العديد من علماء الدين المنتقدين للصوفيين في اتهاماتهم؛ فالكثير من الطقوس التي انتُقِدت باعتبارها ذات أصول «وثنية» تعود لفترةِ ما قبل الإسلام، كانت نُسَخًا محلية من الإسلام، أو ممارسات إسلامية قديمة أصبحَتْ محلَّ جدلٍ في أوائل العصر الحديث؛ ومن ثَمَّ، يُمكِن جزئيًّا توصيفُ ممارسة انتقاد «البدع» على أنها ردُّ فعلٍ ديني تجاهَ عمليةِ إضفاء الطابع المحلي التاريخيةِ التراكمية، ذاك الذي اكتسَبَ زخمًا من حملة التصحيح الأكثر عموميةً، التي أثَّرت على نطاقٍ عريض من المسلمين أثناءَ التغيُّرات العنيفة التي حدثت في تلك الفترة.

إن انتشار انتقاد «البدع» منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر يُمكن أن يكون مرتبطًا بدوره بزيادة «الوعي» بهذا التنوُّع في الممارسات. وقد حدث هذا الوعي المُتزايد بالتنويع المزعج للتقليد مع سَفَر أعداد مُتزايدة من العلماء المسلمين إلى مناطق إسلامية أخرى (لا سيما خارج الشرق الأوسط) كجزء من التفاعلات الأوسع نطاقًا بين المناطق المختلفة التي ميَّزت تلك الفترة. كذلك من الممكن أن نربط بين انتشارِ انتقادِ البدع والتفاعلِ المتزايد بين مناطق معينة، الذي ميَّز هذه الفترة أيضًا. فمع انتقالِ أهل الريف إلى المدن الناشئة في إمبراطوريات تلك الفترة، جلبوا معهم إسلامَهم المحلي المميز. ومع انتقال أهل الحضر المتعلمين في بعثات حكومية إلى المناطق الإقليمية أو الريفية، فإنهم صادفوا بدورهم أشكالَ الإسلام الصوفي المتنوِّعةَ الموجودة في الريف. وفي هذا الصدد أيضًا، كانت التفاعلات الاجتماعية هي السبب في إثارة المشاكل الدينية؛ حيث استخدم العلماء المسلمون (سواء أكانوا صوفيِّين أم غير صوفيين) مفهومَ «البدعة» أثناء محاولة فهم المشكلة المفاهيمية المتمثِّلة في عدم إمكانيةِ أن تكون كلُّ ممارسة إسلامية حافظوا عليها نابعةً من تعاليم النبي محمد. ويُمكن مقارَنة العواقب الدينية لهذا الحراك المتزايد بين مسلمي الحضر ومسلمي الريف بظهورِ نظريةٍ قامعة ﻟ «ممارسة السِّحْر» في أوروبا المسيحية في الفترة نفسها، كردِّ فعلٍ على تفاعُلات مشابهة بين أهل الريف وأهل الحضر. ومثلما كان ممكنًا استخدامُ الاتهام بممارسة السِّحْر والعلم به لإدانة ممارساتٍ وأحوالٍ مُتنوِّعة على نحوٍ مُدهِش في عدد من الأماكن المختلفة، كان مفهومُ «البدع» على نحوٍ مُماثل قابلًا للنقل من حيث تطبيقه، وسلطويًّا من حيث تناسُقه. وعلى الرغم من أن حملة التصحيح الجديدة هذه أدَّت من ثَمَّ إلى انتقادِ البدع على نطاقٍ جغرافي واسع، فإنها باستثناء حالات قليلة (أبْرَزها في إيران) لم تتضمَّن هجومًا كاملًا على قدرة الصوفية بشكلها هذا على نقل تراث النبي محمد، بل كانت في القرن الأول من الألفية الإسلامية الجديدة تدور حول تحديدِ سماتِ التقليد الصوفي المُفيدة، وتلك الهادمة للحياة الإسلامية الصحيحة. وتطلَّبَ الأمر انتظارَ حركةِ الإصلاح الإسلامي الكبيرة، التي حدثت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حتى ترى أعدادٌ كبيرة من المسلمين أن الصوفية بكل صُوَرها عاجزة عن ربطهم بالنبي.

على الرغم من أن الباحثين الغربيين كانوا يَعتبرون الصوفيين خصومًا متصوفين لعلماء الإسلام — كما أوضَحَ الفصلان الأول والثاني — فإنه في كثير من الحالات كان الصوفيون والعلماءُ الأشخاصَ أنفسهم، وحتى عندما لم يكونوا كذلك، فقد كانت توجد بينهم اهتمامات متشابهة متمثِّلة في الشريعة والقرآن والسنة. وعلى الرغم من ذلك، ظهَر في القرن السابع عشر توجُّهٌ جديد نحوَ الالتزام بالشريعة في كل إمبراطوريةٍ من إمبراطوريات أوائل العصر الحديث. إلا أنه بدلًا من البحث عن التوتُّرات الكامنة بين المعرفة التصوفية والمعرفة الشرعية المجردة، اللتين تمثِّلان السلطةَ الشرعية والسلطةَ التصوفية، فإنه من المفيد أكثر من الناحية التاريخية أن ندرك أن هذا التحوُّلَ نحو الالتزام بالشريعة وحملةَ التصحيح المُسبِّبة له، ينطويان على جماعاتٍ معينة تتخذ ردَّ فعل تجاه ظروف معيَّنة. وعندما نرى المعرفةَ التصوفية والعلمَ الشرعي كنوعَيْن من السلطة يُمكن توحيدهما في شخص واحد، أو مُناصَرتهما على نحوٍ مُنفصل من قِبَل أشخاص مُتنافِسين، سيساعدنا هذا النهج المُعتمِد على السياق في التعامُل مع تناقُضات الصورة القديمة الثابتة المتمثِّلة في «التعارُض بين المتصوفين والعلماء»؛ إذ ما ننظر إليه في الغالب هو صورةُ الصوفيين الذين يستخدمون الشريعة، إما لانتقاد بعضهم البعض، أو لانتقاد العوامِّ (على الرغم من أننا سنرى أمثلةً مهمة لعلماء ليست لديهم علاقة بالصوفيين يستخدمون الشريعة لانتقاد الصوفيين في العموم). في الصفحات المُقبِلة، سوف نلتفت إلى دراساتِ حالةٍ لما وصل في القرن السابع عشر إلى منزلة المعارَضة الواسعة النطاق للصوفية من قِبَل علماء الشريعة في كل أنحاء العالم الإسلامي تقريبًا. وإذا كان كثير من هؤلاء العلماء هم أنفسهم صوفيون يسعون إلى التقليل من شأن إخوتهم الذين استخفُّوا بالشريعة، فإننا سنرى في حالاتٍ أخرى تزايُد مكانة طبقة العلماء الذين لا يَرتبطون بصلةٍ بالصوفيِّين على الإطلاق.

(١١) منطقة البحر المتوسط: العثمانيون المتأخرون

دعونا نلتفت أولًا مرة أخرى إلى الإمبراطورية العثمانية في استعراضنا هذا لحملة التصحيح التي حدثَت في القرن السابع عشر، سنجد أنه على الرغم من اعتناء الإمبراطورية العثمانية بتدريب طبقة من علماء الشريعة، فقد شهدت الفترة تقريبًا ما بين عام ١٦٢٠ وعام ١٦٨٥ استخدامَ جماعةٍ من هؤلاء العلماء لمكانة عِلمهم في نشر بذور الشقاق في المجتمع الذي كانوا يَعتبرونه فاسدًا أخلاقيًّا، بدلًا من جعل علمهم مُسخَّرًا لتحقيق التناغم الاجتماعي، وانتقدت هذه الجماعة المعروفة باسم «حركة قاضي زاده» الصوفيِّين الذين كانوا جزءًا لا يتجزأ من المجتمع العثماني. وعلى هذا النحو؛ فقد مثَّلت المجادلات التي دخلها هؤلاء مع الخصوم الصوفيين صراعًا بين أطراف مختلفة داخل النظام العثماني.112 إنَّ المسألة أبعد بكثير من كونها مجرد مثال بسيط على الخلاف بين الصوفيين والعلماء؛ إذ احتفظ كثير من العلماء بعضويتهم في الطرق الصوفية، لا سيما تلك الأكثر التزامًا بالشرعية؛ مثل الطريقة الخلوتية، والطريقة النقشبندية. ونظرًا لأن حركة «قاضي زاده» جعلت العلماء ينقسمون على أنفسهم، فقد وُصِفت الخلافات التي أثارتها وصفًا مناسبًا هو: «انقسام قلب المؤسسة الدينية … على نفسه.»113
كان قاضي زاده محمد (المتوفَّى عام ١٦٣٥)، مؤسِّس حركة قاضي زاده الذي سُمِّيَت الحركة على اسمه، ابنًا لقاضٍ بسيط في إحدى المقاطعات جاء إلى إسطنبول بحثًا عن وظيفة في البيروقراطية الدينية الإمبراطورية المعروفة باسم «العلمية»، وعلى الرغم من أن قاضي زاده محمد حاوَلَ الارتباطَ بالطريقة الخلوتية صاحبة العلاقات القوية، فإنه لاحقًا حَمَّل الصوفيين مسئوليةَ إضلالِ سكان الدولة وإبعادهم عن السُّنَّة النبوية، وبعد أن تدرَّجَ في هرمية الوعظ الرسمية، وأصبح «واعظًا» (وهي إحدى المراتب الدنيا في «العلمية»)، استخدم تأثيره كواعظ في أكبر مساجد إسطنبول لنشر رؤيته عن العصر المنحطِّ أخلاقيًّا، الذي يحتاج إلى «تجديد الإيمان»، وكان نطاق انتقاده واسعًا؛ إذ لم يقتصر على مُعتقَد وحدة الوجود، بل امتدَّ ليشمل الحفلاتِ الموسيقية الصوفية، والطقوسَ الشائعة المتعلِّقة بتبجيل الأولياء الصوفيين، ومجموعةً من الأنشطة المنحطة (مثل: تدخين التبغ، وشرب الخمر أو القهوة) التي اعتبر الصوفيين المنحلِّين أخلاقيًّا مسئولين عنها. وكما أشرنا بالفعل، فقد كانت فكرة «البدع» هي الأداة النقدية الأساسية التي استخدمها لتقديم تقليد الصوفيين باعتباره انحرافًا عن الإيمان الحقيقي. ونظرًا لأنه كان خطيبًا مُشعِلًا للحماسة، فقد أثار قدرًا كافيًا من الغضب الديني في نفوس مُستمعيه، لدرجةِ أن الجماعة التي كان مُلهِمَها أصبحت فعليًّا ميَّالة إلى الاقتصاص الأخلاقي؛ مما أدَّى إلى تخريب الممتلكات الصوفية، وضرب الصوفيين أنفسهم، وقتلهم في بعض الأحيان أثناء عشرينيات وثلاثينيات القرن السابع عشر (وبين الحين والآخَر على مدار نصف القرن التالي). وبطبيعة الحال، ردَّ الصوفيون ودافَعوا عن الممارسات التي أدانَتْها تلك الجماعة، إلا أنه لا يُمكن إخفاء حقيقةِ أنه بعد قرون من تزايُد النفوذ الصوفي في كلٍّ من المجتمع والدولة، نشأت جماعةٌ اجتماعية جديدة أو حتى حزب اجتماعي جديد، استخدَمَ تُهمةَ البدعة ونفوذَ الشريعة ليُمكِّن أعضاءَه من معارَضة سلطة الصوفيين، الذين كانوا في كثيرٍ من الحالات أعضاءً مميَّزين في الطبقة الحاكمة العثمانية.114
fig22
شكل ٣-٥: «دراويش المولوية»: طقوس موسيقية لوَرَثة الرومي في الإمبراطورية العثمانية (الصورة من مجموعة الصور الخاصة بالمؤلف).
الأمر المثير في جماعة قاضي زاده هو الطريقة التي أظهَرت بها الانقسامات داخل البيروقراطية الدينية في الإمبراطورية العثمانية، وكذلك الأساليب التي استُخدِمت بها أشكالٌ معيَّنة من الإسلام كوسائل لتحقيق مصالح جماعات معينة. فكما رأينا، كان كثير من كبار مسئولي الدولة والعلماء مُنتسبين لطرق صوفية. علاوةً على ذلك، كانت النخبة الحاكمة ترى أن مهمة البيروقراطية الدينية ليست فرْضَ الإسلام فرضًا صارمًا، بل الحفاظ على النظام الاجتماعي من خلال التفسير العملي وليس الحَرْفي للشريعة الإسلامية. وقد كان يُرى في البداية أن جماعة قاضي زاده لا تُحافِظ على الإطلاق على التناغُم الاجتماعي، بل كانت تعكِّر صفْوَه، لكن مع مرور الوقت أدَّى ازديادُ أتباعها إلى أن أصبَحَ أعضاؤها لاعبين سياسيِّين مُهمِّين، وحاوَلَ بعض كبار المسئولين استخدامَهم لخدمةِ أهدافهم الخاصة. ولم يكن الصراع بين أتباع تلك الجماعة والصوفيين صراعًا عقائديًّا فقط حول ما يمثِّل السُّنَّة المحمدية الحقيقية، بل كان أيضًا صراعًا على فُرَص التوظيف؛ فقد كان الصوفيون في العموم يعملون في كثير من الوظائف السهلة المريحة للغاية في النظام العثماني؛ فمثلًا: على النقيض من أصحاب المراكز الأقل من الوعَّاظ والقضاة، الذين كانوا يَحتفظون بوظائفهم عن طريق نظامٍ يشبه العقْدَ القصير الأجل الحديث، كان شيوخ المساكن الصوفية يُعيَّنون عادةً في وظائف يستمرُّون فيها طوال حياتهم، وتُظهِر الإحصائيات أن فترةَ ازدهارِ جماعة قاضي زاده ما بين عام ١٦٢١ وعام ١٦٨٥، كان يُمنَح فيها ما يَقرب من نصف وظائف الوعَّاظ إلى أعضاء الطرق الصوفية المفضَّلة لدى كبار المسئولين الذين يَقومون بالتعيينات.115 وفي المستويات الدنيا من السلَّم الوظيفي، كان أتباعُ الجماعة يتقلَّدون المراتبَ الدنيا في وظائف الوعظ في البيروقراطية الدينية، وكان الصوفيون المميَّزون يَحصلون على أفضل وظائف الوعظ؛ ومن ثَمَّ، فلا عجبَ من أن الصوفيين كانوا مكروهين ومُنتقَدين بسبب كونهم مُترَفين خارجين عن الدين الصحيح.
على الرغم من ذلك، كانت هناك مشكلاتٌ أخرى غير الوظائف الحكومية؛ فالتعاطُف الذي وجدَتْه جماعةُ قاضي زاده في الشوارع يُشير إلى أنهم لم يكونوا مجرَّد طائفة ساخطة، وأنهم جزءٌ من حملةِ التصحيح الأوسع نطاقًا، المُهتمَّة بالشاغلَيْن المتلازِمَيْن المتمثِّلَيْن في التدهور الأخلاقي والحاجة إلى التجديد؛ فقد كان كثيرون يعتبرون الصوفيِّين أساس المشكلة، بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ شعبية الحركة الماشيحانية بين يهود الإمبراطورية العثمانية، التي تركَّزت حول اليهودي شبتاي تسيفي (المتوفَّى عام ١٦٧٦)، الذي زعَم أنه الماشيح (المسيح المخلِّص) تشير إلى أن الرغبة في التجديد لم تكن مقتصرةً على المسلمين، وأنها ربما نجمَت عن توتُّرات اجتماعية وسياسية أعمق أثَّرت على كل الجماعات في الإمبراطورية.116 وحتى بعدما وهَنت قوةُ جماعةِ قاضي زاده في ثمانينيات القرن السابع عشر، عاوَدَتْ حملةُ التصحيح هذه الظهورَ في مناطق عديدة في الإمبراطورية العثمانية. وربما يكون هذا الانتشارُ مرتبطًا بالمناطق الإسلامية الأخرى التي انتشرت فيها تلك الحملة، من خلال شبكات الكتب والمعلِّمين التي لم يتتبَّعْها المؤرِّخون بعدُ؛ فعلى سبيل المثال: في عام ١٧١١ أعلَنَ أحد الوعَّاظ في القاهرة أن الأولياء الصوفيِّين غير قادرين على صنع المعجزات، وأنهم مُفتقِرون إلى أيِّ معرفة خاصة مَحجوبة عن بقية المسلمين؛ ومن ثَمَّ، شجَّعَ مستمعيه على منْعِ حلقاتِ الذِّكْر الصوفية، وتدميرِ أضرحة الأولياء الصوفيِّين، وتحويلِ المساكن الصوفية إلى مدارس؛117 ونتيجةً لذلك، تعرَّضت جماعة من الصوفيين العرب إلى الضرب، ودُمِّر العديد من الأضرحة على يد مجموعةٍ مكوَّنة من ألف جندي تركي مُسرَّح، كانوا من بين مستمعي الواعظ. وعلى غرار جماعة قاضي زاده، فإن ذلك الهجوم على الصوفية لا يُمكن فصْلُه عن مصالح مَن شنُّوه، سواء أَنَظَرنا للهجوم من منظورِ المُطالَبة بتحويلِ الممتلكات الصوفية إلى مدارس، أم من منظور الصراعات حول رواتب الجند التي أدَّت إلى وفاة أربعة آلاف شخص في القاهرة في العام نفسه الذي حدث فيه الهجوم.118 على الرغم من ذلك، وكما في حالةِ عمر الفؤادي (المتوفَّى عام ١٦٣٦) الصوفي الأناضولي المنتمي إلى الطريقة الخلوتية، فقد تمكَّنَ الصوفيون في الأراضي العثمانية من التغلُّب إلى حد كبير على هجماتِ جماعةِ قاضي زاده، ووجدوا مُناصِرين للطرُق ومؤسسات الأضرحة الجديدة التي أسَّسوها في القرن السابع عشر.119 إلا أنه على الرغم من أن انتقادات العلماء للبدع والتجاوُزات الصوفية لم تكن مقتصرةً على تلك الفترة، فإنها بدايةً من القرن السابع عشر وجدَتْ لها صدًى اجتماعيًّا أعمق؛ لأن جماعاتٍ معينةً في المجتمع اختارَت الارتباط بحركةِ نقدٍ عقائدي، كانت لها عواقب ملموسة مُرتبطة بتوزيع النفوذ والمنافَسة والفُرَص، وإذا كنا رأينا في سلطنة مغول الهند كيف أنَّ صوفية الترابُط الاجتماعي استطاعَتِ الجمع بين الهندوس والمسلمين، فإننا في هذا السياق العثماني نرى كيف أن بروزَ الأضرحة الثرية، ونفوذَ الطرُق ذات العلاقات القوية، كانا من مسبِّبات التفسُّخ الاجتماعي؛ حيث أصبحا ملاذَ الجماعات الساخطة والمحرومة.
في مصر في القرن الثامن عشر، كان الصوفيون العثمانيون أتباعُ الطريقة الخلوتية يروِّجون صوفيةً كانت تجربةُ «الحقيقة» المطلَقة فيها مُتناغمةً بدقة مع أحكام الشريعة،120 وبدلًا من حدوث انفصالٍ بين الصوفيين والعلماء، كانت نتيجة ذلك أنه بحلول منتصف القرن الثامن عشر أصبحَتِ الخلوتية الانتماءَ المفضَّل لدى علماء الجامع الأزهر، الذي يُعدُّ أهمَّ جامعةٍ دينية للعلماء السُّنِّيين في الشرق الأوسط.121 ولم تكن حملة التصحيح مقتصرةً على مدنٍ مثل القاهرة وإسطنبول، بل وصلت إلى الحدود القِبلية للحكم العثماني في منطقة نجد في شبه الجزيرة العربية. شهد أيضًا النصف الثاني من ذلك القرن ظهورَ مُنتقِد البدع الصوفية الأكثر تأثيرًا على الإطلاق محمد بن عبد الوهاب (المتوفَّى عام ١٧٨٧).122 كان الاهتمام الرئيسي لابن عبد الوهاب هو مُهاجَمةُ كلِّ أنواع البدع وأشكال الوثنية، التي أبعدت المسلمين عمَّا رآه التعاليمَ الأصلية للنبي محمد، وهذا بدوره جعله يُدين ممارساتٍ مثل تبجيل الأضرحة، واعتبار الأولياء الصوفيين وسطاءَ بين الإنسان والله. وعلى الرغم من أن اتجاه «الوهابية» الأوسع نطاقًا (والفضفاض كثيرًا) سيُصبح في نهاية المطاف هجومًا على كل أنواع الفكر الصوفية، وكذلك كل أنواع الممارسات الصوفية، فإن نقد ابن عبد الوهاب نفسه كان أضيق نطاقًا؛ فنظرًا لأن الصوفية في أوائل العصر الحديث كانت جزءًا لا يتجزَّأ في العديد من الجوانب من الإسلام نفسه، فلم يكن الرفض الفوري والكامل لكل ما يقوله ويفعله الصوفيون مُمكنًا، وابن عبد الوهاب على أي حال لم يستخدم مصطلح «الصوفيين» في انتقاداته.123 وعلى الرغم من أن صعود آل سعود إلى سدَّة الحكم في شبه الجزيرة العربية سيُؤدِّي فيما بعدُ إلى تطويرِ أفكار ابن عبد الوهاب إلى أجندةٍ كاملةٍ مُناهِضةٍ للصوفية، فإن فترةَ ابن عبد الوهاب نفسها كانت جزءًا من حملة التصحيح الأوسع نطاقًا، المُطالِبة بالعودة إلى السُّنَّة النبوية ورفْضِ البدع. وإذا كان ابن عبد الوهاب يُعدُّ الأكثر تطرُّفًا في هذا الاتجاه (مما جلب له كثير من المُنتقدين، والمؤيدين أيضًا)، فإنه على الرغم من ذلك كان رجلًا من عصرٍ كان من المُمكن فيه إصلاح الصوفية، وكان من الصعب رفضها بالكامل.

(١٢) إيران: الصفويون المتأخرون

بينما شهد القرن السابع عشر في الإمبراطورية العثمانية تزايُدَ وتضاؤلَ نفوذِ العلماء المناهِضين للصوفية، على حسب التحالُفات التي عقدوها ضد الصوفيين الذين وصفوهم بالأعداء، فقد شهدت إيران تطوُّرات مماثلة في الوقت نفسه. لقد رأينا بالفعل كيف أنَّ السلالة الصفوية، بعدما وصلت إلى الحكم كحركةٍ صوفية قبَلية مدعومة بالقزلباش القبليين، وجدَتْ نموذجَ الطريقة الصوفية مقيِّدًا للغاية، لدرجةٍ تَحُول دونَ تحقيق الترابط بين شعوب الإمبراطورية المتنوِّعين، وعلى مدار العقود اللاحقة، جلب الصفويون علماءَ شيعة من منطقة جبل عامل في لبنان، الذين نشروا نقدهم للصوفيين على نطاقٍ واسع في المجتمع الإيراني من خلال جذْبِ الطلبة، وكتابةِ كتبٍ فقهية بلغةٍ فارسيةٍ بسيطة.124 وكان لدعم الدولة الرسمي لهذا النوع الفقهي من الشيعية تَبعاتٌ متنوعة على الصوفيين، وعلى الرغم من أنَّ المصطلحات الصوفية ظلت تتردد في الثقافة الشعبية والأدبية في إيران، فقد تزايَدَ تهميشُ الطرق الصوفية نفسها باعتبارها وسيلةً للنفوذ الديني؛125 ففقدَتِ الأضرحة التي كانت محوريةً للغاية في شعبية الصوفيين وثروتهم الرعايةَ وزيارةَ الأتباع لها، وحلَّت محلها تدريجيًّا الأضرحةُ المنافِسة، ولا سيما الأضرحة الشيعية المعروفة باسم «إمام زاده» (أيْ ذرية الإمام)،126 وتعرَّضت الطرق ذات الارتباطات السُّنِّية الشديدة (مثل: القادرية والنقشبندية) إما للقمع أو النفي على أطراف الإمبراطورية. وأمَّا قادةُ الطرق الذين لم يمانعوا إعلانَ أنهم مِن الشيعة (مثل النعمتلاهيين)، فلَقُوا معامَلةً أفضل. إلا أنه في حالة الطريقة النعمتلاهية أيضًا، كان مصير شيوخها إما التعيين كحكام إقليميِّين، وإما التقاعُد في العِزَب الريفية، وعلى هذا النحو حدث تحجيمٌ لهم كمصدرِ سُلطةٍ بديل للعلماء الشيعة.127
على الرغم من أن الصوفيين الشيعة الجُدُد هؤلاء نجحوا في البقاء أثناء معظم القرن السادس عشر، وازدهروا في بعض الأحيان في إيران، فإنهم في عهد الشاه عباس الأول (الذي حكم من عام ١٥٨٧ إلى عام ١٦٢٩) تضاءل نفْعُهم السياسي شيئًا فشيئًا؛ ومن ثَمَّ بدأت دورة قمعهم. وعن طريق تكوين جيشٍ من العبيد حرَّرَ الصفويون أنفسَهم من الاعتماد العسكري على القزلباش القبليين المنتمين للصوفيين، في حين أدَّى استجلابُ العلماء الشيعة من لبنان إلى منْحِ السلالة الحاكمة السلطةَ التي لم تَعُد مُعتمِدةً على الأصول الصوفية لأسرتهم الصفوية. وفي حين استمرت الدولة العثمانية في النظر إلى الطرق الصوفية باعتبارها أدواتٍ مفيدةً في الحكم والتوسُّع، أصبحَتِ التنظيمات نفسها غير ضرورية في إيران. وفي عام ١٥٩٣ تفاقمَتِ الأمورُ عندما تمرَّدَ أتباعُ الحركة النقطوية على الحكم الصفوي، تلك الحركة التي كوَّنت تركيبة ألفية من عناصر التقليد الصوفي والميول التناسُخية لدى سكان الحدود. وكان إخماد هذا التمرد وحشيًّا ومطولًا، ولم يُسفِر فقط عن تدمير النقطويين، بل أسفَرَ أيضًا عن إعدامِ آخِر بقايا الطريقة الصوفية القزلباشية الصفوية القديمة عام ١٦١٥. وعلى الرغم من أن الشاهات احتفَظوا باللقب الصوفي «المرشد الكامل»، فمنذ ذلك الحين أصبحت سُلطتُهم كحكَّام شيعة في الأساس مُتحالِفةً مع العلماء الذين كانوا متحمِّسين للغاية لتشويه مُنافسيهم الصوفيين المهزومين.128
قرابةَ مطلع القرن الثامن عشر، أدَّى تقلُّد كلٍّ من محمد باقر المجلسي (المتوفَّى عام ١٦٩٩) الفقيه المُناهِض للصوفيِّين على نحوٍ متعصِّب، وخليفتِه محمد حسين الخاتون آبادي (المتوفَّى عام ١٧٣٩)، مَنصبَ كبيرِ الفقهاء في الدولة؛ إلى طرْدِ الصوفيين من العاصمة أصفهان.129 ولما كانت حملاتُ الطرد هذه قاصِرةً في النهاية على الصوفيين المنتمين إلى الطرق في المدن، فقد أنهَتِ التدهورَ الطويل للنفوذ الصوفي في إيران وما صاحَبَه من ظهورِ نوعٍ فقهي من الشرعية الشيعية، الذي تميَّزَ بعددٍ هائل من الأضرحة والممارسات الشعبية الجديدة، التي حلَّتْ محلَّ الأضرحة والممارَسات الصوفية. على الرغم من ذلك، منَحَ انهيارُ الإمبراطورية الصفوية في عشرينيات القرن الثامن عشر فُرَصًا جديدة للصوفيِّين، وشهدت العقودُ الأخيرة في القرن الثامن عشر عودةَ العديد من شيوخ الطريقة النعمتلاهية لإيران بعد حوالي ثلاثة قرون من طلَبِ أسلافهم الرعايةَ من بلاط سلاطين بهمن في الهند.130 وكما سنرى لاحقًا في أفريقيا وجنوب شرق آسيا على حدٍّ سواء، فإنه على الرغم من تزايُد قوة الدولة، فقد ظلَّت فترة أوائل العصر الحديث فترةً امتلكَتْ فيها النخب الصوفية المتنقِّلة قدرًا كافيًا من المكانة والجاذبية، مكَّنها من التغلب على أصعب المِحَن التي تعرَّضوا لها.

(١٣) حدود آسيا الوسطى والصين

في النصف الأول من هذا الفصل، رأينا الدورَ السياسي المُهمَّ الذي لعبه النقشبنديون في آسيا الوسطى تحت قيادة شخصيات مثل عبيد الله أحرار (المتوفَّى عام ١٤٩٠) وأحمد الكاساني (المتوفَّى عام ١٥٤٣)، وفي القرن السابع عشر، نجد واحدًا من ذرية الكاساني يُدعَى آفاق خواجه (المتوفَّى عام ١٦٩٤) يجعل النقشبنديين يلعبون دورًا أكثر تأثيرًا في المنطقة. فعندما رأى آفاق خواجه توسُّعَ سلالةِ تشينج الصينية نحو الغرب منذ أربعينيات القرن السابع عشر، وتفكُّكَ خانات جغتاي المغولية، استخدَمَ دورَ النقشبنديين الأقدم كوسطاء سياسيِّين للسفر إلى منطقةِ التبت، والدخولِ في مفاوَضات مع الدالاي لاما الخامس، نجوانج لوبسانج جياتسو (المتوفَّى عام ١٦٨٢)، الذي جعلته مصادرُ القوة العسكرية التي يَمتلكها حاكمًا لتبت موحدة.131 ومن خلال تلقِّي المساعدة الدبلوماسية من التبت البوذية، وتلقِّي الدعم العسكري من أفراد قبيلة القلميق، تمكَّنَ آفاق خواجه عام ١٦٨٠ من انتزاعِ السلطة من الحكَّام الجغتائيين، وتأسيسِ نظامِ حكمٍ سياسي نقشبندي في منطقةِ قشغر، استمرَّ حتى سقوطه في عام ١٧٦٠، على إثر غزوات إمبراطورية تشينج الصينية. وكانت تلك الدولة الصوفية تُعرَف باسم «إيشانات»، وهي كلمة فارسية تعني «هم» الدال على الاحترام الذي كان يُستخدَم للإشارة إلى قادتها، وفي أوْجِ ازدهارها أدارَتِ «اقتصادًا روحانيًّا حقيقيًّا»، تولَّت فيه هرميةُ الطريقة إدارةَ الضرائب وامتلاك الأراضي في الوقت نفسه الذي تولَّتْ فيه الإرشادَ الأخلاقي والروحاني لأتباعها، عن طريق النسق النقشبندي المميَّز المعروف باسم «الصحبة»، التي تعني ملازَمةَ الشيخ.132
في الوقت نفسه، كان لوجود دولة صوفية على أطراف النطاق الثقافي للصين أثَرُه في نقلِ أعمالٍ مثل «مثنوي معنوي» للرومي و«نفحات الأنس» للجامي إلى الشرق، تلك الأعمال التي قد أصبحت في ذلك الوقت تمثِّل الأعمالَ الكلاسيكية من الشعر والنثر الصوفي الفارسي.133 وفي القرن السابع عشر، كان العلماء المسلمون الصينيون الذين يعملون في أقصى الشرق في قلب الصين الثقافي لا يُترجِمون الأعمالَ الصوفية إلى الصينية فحسب، بل يَكتبون أيضًا كتبًا أصلية عن النظرية الصوفية باللغة الصينية الأدبية. وفي تجسيدٍ صينيٍّ لعمليةِ إضفاءِ الطابع المحلي، التي شهدنا حدوثها في البيئات التركية والملايوية والهندية، وجَدَ العالِم وانج داي يو (المتوفَّى عام ١٦٥٧ أو ١٦٥٨)، من محلِّ إقامته في نانجينج عاصمةِ سلالة مينج الجنوبية، صعوبةً في استخدام المصطلحات المفاهيمية الصينية الموجودة مثل مصطلح «تشن» (أيْ حق) للتعبير عن أفكارٍ إسلامية؛ مثل التوحيد ووحي القرآن الفريد؛ ونتيجةً لذلك، كوَّنَ مصطلحات جديدة مثل «تشن شو» (الإله الحق) و«تشن تشينج» (الفريد الحق) في عمله الرائد «العلم الشامل للنقي والحق».134 وكان ليو تشي (المتوفَّى عام ١٧٣٠) من الكُتاب المسلمين الصينيين الآخَرين في هذه الفترة المُقِيمين في نانجينج، وبالإضافة إلى تأليفه كتابَ «عرض خفاء العالَم الحق» — الذي يُعدُّ النسخةَ الصينية من كتاب «اللوائح» الفارسي الذي كتبه الشاعر النقشبندي عبد الرحمن الجامي (المتوفَّى عام ١٤٩٢) — كتب أيضًا سيرةً شهيرة للنبي محمد باللغة الصينية.135 ما نشهده في هذه الكتب ليس فقط طريقةَ انتقالِ الصوفية إلى الصين عبر كتب آسيا الوسطى من المراكز الصوفية القديمة في خراسان، لكنْ نرى أيضًا أنه في زمن ليو تشي كان تعلُّم المعتقَد الصوفي يُعتبَر جزءًا لا يتجزَّأ من تعلُّم الإسلام في العموم. ويُعدُّ هذا الترويج لصوفيةٍ مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحياة النبيِّ محمدٍ القدوةِ صدًى لأنماطٍ يُمكن رؤيتها في القرن الثامن عشر في كل أنحاء العالَم الإسلامي.

(١٤) الهند: المغول المتأخرون

بالرجوع إلى الهند تحت حكم المغول، رأينا في القرن السابع عشر سماتٍ معينةً من الفكر الصوفي (لا سيما معتقَد وحدة الوجود) تُتيح إمكانيةَ تفسير الأفكار الدينية لغير المسلمين على أنها جزءٌ من تجليات الله غير المحدودة، على سبيل المثال: في كتاب «حقائق هندية» جمع عبد الواحد بلجرامي (المتوفَّى عام ١٦٠٨) قاموسُ أَغانٍ تعبُّدية للإله فيشنو مُنِحت فيها التراتيلُ الهندية معانيَ إسلامية كي تُصبح مناسِبةً للحفلات الموسيقية الصوفية. وبعد قرن، ظهر في كتاب «مرآة الحقائق» لعبد الرحمن الجشتي (المتوفَّى عام ١٦٨٣) ترجمةٌ فارسية مُتعاطِفة للبهاجافاد جيتا السنسكريتية، رأت رسالةَ كريشنا متوافِقةً مع تعاليم الإسلام.136 وأبدى صوفيون كُثُر آخَرون، مثل ولي العهد المغولي الأمير دارا شكوه (المتوفَّى عام ١٦٥٩)، اهتمامًا بتعاليم الحكماء الهندوس، الذين اعتبروهم «موحِّدين هنودًا»، إلا أن هذا التكيُّف الصوفي مع البيئة الهندية خلَّفَ توتُّراتٍ في حدِّ ذاته، ولاقى هجومًا واسعًا في الجزء الأخير من هذه الفترة. والسببُ في ذلك أننا نرى في الهند أيضًا ظهورَ نقدِ العلماء، الذي يَرى بعضَ المُمارسات الصوفية «بدعًا» مُنحرفةً عن السُّنَّة النبوية. مرةً أخرى، لقد كان السياق السائد هو سياق حملة التصحيح التي أعقبَت بداية الألفية الإسلامية.
ظهر توجُّهُ التصحيح الألفي هذا بوضوحٍ بالغ في حالةِ الصوفي النقشبندي الهندي أحمد السرهندي (المتوفَّى عام ١٦٢٤). وُلِد السرهندي المعروف لدى أتباعه باسم «مجدِّد الألف الثاني» في مقاطعة البنجاب المغولية عام ١٥٦٤ تقريبًا، وانتسَب للطريقة النقشبندية في دلهي على يد مروِّجها خواجه باقي بالله (المتوفَّى عام ١٦٠٣) المهاجر من آسيا الوسطى.137 وعندما علَّمَ السرهندي بدوره بعضَ مُرِيديه، وأرسَلَهم إلى أماكن مهمة في الإمبراطورية المغولية، شهدت العقودُ الأولى من القرن السابع عشر اكتسابَ النقشبنديِّين مكانةً ثابتة في المجتمع الهندي؛ حيث كوَّنَ المريدون أمثال هاشم الكشمي (المتوفَّى عام ١٦٤٤) علاقاتٍ مع النخبة الحاكمة.138 ولم يكتب السرهندي أيَّ عملٍ كبير، وانتشَرت أفكارُه في الأساس من خلال الخطابات التي كتبها لأتباعه عن نطاقٍ مدهشٍ من الموضوعات. وجُمِع ما يَزيد عن خمسمائة خطاب في أحد «المكتوبات»، الذي حاوَلَ من خلاله العلماءُ إعادةَ تكوينِ مُعتقَدٍ عامٍّ متماسِك. وعلى الرغم من ذلك، توجد موضوعاتٌ أساسية واضحة في هذا العمل، أحدُ هذه الموضوعات التي وجدناها بالفعل في أماكن أخرى هو نقدُ البِدَع والحاجةُ إلى العودة إلى السُّنَّة النبوية، وهذا الموضوعُ متعلِّقٌ بالأهمية الكبرى التي أولاها السرهندي للشريعة. وقد رأى السرهندي أن الأخلاق في عصره أصبحت منحلَّةً بسبب ترْكِ السُّنَّة والشريعة؛ ومن ثَمَّ فإنه يتطلَّب مُجدِّدًا ليُعِيد المسلمين إلى طريق الخلاص. ولم يقلق السرهندي مطلقًا من إعلانِ أنه هذا المجدِّد، وعندما زعم لنفسه هذا الدورَ الكبير اكتسَبَ الكثيرَ من المُرِيدين.

كان خطرُ إساءةِ فهمِ تعاليمِ ابن عربي من المواضيع الأخرى المُهمة التي تناولَتْها خطاباتُ السرهندي. وعلى الرغم من أنَّ السرهندي اعتبر نفسَه مُفسِّرًا على نحوٍ صائب لأعمال ابن عربي وليس مهُاجِمًا لها، فإنه كان مدركًا لمخاطر إساءة تفسيرها. وكانت هذه هي الحالة بصفة خاصة فيما يتعلَّق بمعتقَدِ وحدةِ الوجود، الذي زعم مُحِقًّا أنه شجَّعَ بعضَ المسلمين على تقليل الفرق بين الإسلام والأديان الأخرى، أو الفرق بين الله وأنفسهم، وبدلًا من ذلك المُعتقَد، روَّجَ السرهندي لمعتقَد «وحدة الشهود»، الذي يقول إنَّ الصوفي في أعلى درجات النشوة قد يَشعر كما لو أنه أصبح متوحِّدًا مع الله؛ لأنه بالنسبة إلى الأشخاص (أمثال السرهندي) الذين قطعوا شوطًا كبيرًا في سَيْرهم على الطريقة، قد كان واضحًا أن الله مُغاير دائمًا لمخلوقاته، وأن وحدة الوجود ليست إلا محضَ وهمٍ كبيرٍ على طريق الإدراك الأكمل لغيرية الله. وعلى النقيض من الشخصيات التي رأيناها تُساوِي التعاليمَ الإسلامية بالتعاليم العليا للهندوس، فقد كان السرهندي يرى دائمًا فارقًا واضحًا بين الإسلام وأديان الكفَّار.

واعتمادًا على الخطابات التي كتَبها السرهندي لأعضاء البلاط المغولي، فقد ساد اعتقادٌ يَقضي بأنه كان مسئولًا عن تحوُّلٍ في سياسة الإمبراطورية، تمثَّلَ في التخلِّي عن تجارب الامتزاج الديني التي قام بها جلال الدين أكبر، وحلول الالتزامِ المجدد بالشريعة في عهد أورنجزيب (الذي حكم من عام ١٦٥٨ إلى عام ١٧٠٧) محلَّها.139 وكما في حالة جماعة قاضي زاده، فقد كان الوضع في واقع الأمر أكثر تعقيدًا؛ حيث اعتُبِر حماسُ السرهندي الفقهي وانتقادُه للأغلبية غير المسلمة تهديدًا لاستقرار الدولة الذي اعتمد على ولاء الأعداد الشاسعة من رعاياها الهندوس، بالإضافة إلى الموظَّفين الحكوميين والمحاربين المسلمين. وفي عام ١٦١٩، بلغ الحد بالإمبراطور جهانكير جد أورنجزيب إلى سجن السرهندي. وفي عام ١٦٧٩، منع أورنجزيب نفسه تداوُلَ خطاباته، ودعَمَ حقَّه في ذلك بطلبِ الدعم الفقهي من مكة.140
إذا كانت أفكار السرهندي قد أثارت جدلًا، فإنها كانت جذابة على نحو كافٍ لاكتساب عدد كبير من الأتباع. وعلى غرار جماعة قاضي زاده في الإمبراطورية العثمانية؛ ففي القرن الأول من الألفية الجديدة، كان انتقاد الطريقة النقشبندية للمجتمع الضالِّ يَلْقى رواجًا بين قِطاع كبير من النخبة الإسلامية الهندية. واعتُبِر إدخالُ أورنجزيب لجوانب مُتعدِّدة من الشريعة إلى الحكم المغولي مرتبطًا بسياساتِ الحُكْم أكثر من ارتباطه بتأثير السرهندي.141 إلا أنَّ التحوُّل الفقهي الجديد في عهد أورنجزيب يُمكن أيضًا أن يكون مرتبطًا بحملة التصحيح التي سادت هذا العصر، والتي دعمها أيضًا رجالٌ مثل السرهندي والقاضي الإيراني المؤثِّر المُناهِض للصوفية محمد باقر مجلسي (المتوفَّى عام ١٦٩٩)، الذي زار الهند عدةَ مرات ما بين ستينيات وتسعينيات القرن السابع عشر، ومن المحتمَل أن يكون قد تراسَلَ مع أورنجزيب.142 وعلى الرغم من انجذاب كثير من المسلمين في الهند إلى الصوفية التي تجعل الإسلامَ متكيِّفًا مع التعدُّدية الدينية في البيئة الهندية، فقد كان يوجد أيضًا مسلمون راقَتْ لهم مُطالَبةُ السرهندي بمعامَلة الهندوس كالكلاب، وإهانتهم من خلال ذبح أبقارهم المقدَّسة، وفرض الجزية عليهم.143 (وشهدت السنوات الأولى من عهد أورنجزيب الإعدامَ العَلَني للصوفي العاري المناهِض للأعراف، والمُتحوِّل عن اليهودية كما يُقال؛ سرمد كاشاني.)144 وعلى غرار الخلافات المُشابِهة بين العثمانيين، فإنه يجب فهْمُ انتقادِ السرهندي للهندوس في ضوءِ سياقٍ كان يُمنَح فيه العديدُ من المناصب الرئيسية، في البيروقراطية التي اعتبَرَها السرهندي إمبراطورية إسلامية، للهندوس بدلًا من المسلمين. وعلى الرغم من كل مزاعم السرهندي الكبيرة بأنه «مجدِّد العصر»، فإنه لم يَتوانَ عن إرسالِ خطاباتٍ يطلب فيها رواتبَ ومناصبَ حكوميةً لأتباعه. وعلى الرغم من انتقاداتِ السرهندي للصوفيين الذين عجزوا عن اتِّباع الشريعة، فقد كان على الرغم من ذلك مؤمنًا بفكرةِ أن الصوفية تقليدٌ يربط المسلمين بتعاليم النبيِّ محمد؛ مما يعكس اتجاهاتٍ أوسعَ نطاقًا في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي؛ ومن ثَمَّ، فإن رسالة تجديد الألفية الجديدة خاصته لم تكن طريقةً نقشبنديةً خاصةً ضيِّقةَ النطاق، بل كانت جزءًا من حملةِ تصحيحٍ أوسع نطاقًا، تَشارَكَها مع معاصريه في أماكن أخرى.
ونظرًا لأن البيروقراطية المغولية لم تكن مطلقًا على القدر نفسه من المركزية أو «الإسلامية» مثل البيروقراطية الدينية العثمانية، فإن المهارات العملية المتمثِّلة في إجادة القراءة والكتابة والتشريع، التي امتَلَكها كثيرٌ من الصوفيين، مكَّنَتْهم من الالتحاق ببيروقراطية الإمبراطورية المغولية التي كانت — مثل نظيرتها العثمانية — تُفضِّل بطبيعتها صوفيةً مستقرة ومتوقَّعة، تقدِّم الشريعةَ على الوحي. وعندما انهارَتِ الإمبراطورية المغولية أثناء القرن الثامن عشر، أصبحت هذه المهاراتُ الفقهية أكثرَ أهميةً، والسببُ في ذلك يعود جزئيًّا إلى أن تضاؤلَ دورِ الدولة كمصدرٍ للنظام الاجتماعي أبرَزَ أهميةَ مصادرِ السيطرة الاجتماعية المُنبثقة عن الدولة. وإلى حدٍّ ما، كان السببُ في ذلك هو تفسير انهيار الإمبراطورية التي تسيطر عليها نخبةٌ مسلمة على أنه عقابٌ إلهي على انحلالِ أخلاقِ المسلمين، إلا أنه عندما صُوِّر المسلمون على أنهم ضالُّون، كانت الطريقة الصوفية لا تزال تُرى على أنها تمثِّل الحل، لكنها الصوفيةُ في صورتها الملتزِمة بالشريعة، التي روَّجها وَرَثةُ السرهندي وعبد الحق الدهلوي، ووَرَثتُهم. ونظرًا لأن القرن الثامن عشر شهد نهْبَ العاصمةِ الإمبراطورية القديمة على يدِ مجموعةٍ من الغزاة الهندوس والمسلمين، فإن الصوفيِّين البارزين أمثال شاه ولي الله الدهلوي (المتوفَّى عام ١٧٦٣)، وميرزا مظهر جان جانان (المتوفَّى عام ١٧٨١) من أتباع طريقة النقشبندية في دلهي، والجشتي البنجابي نور محمد مهاروي (المتوفَّى عام ١٧٩١)؛ استمروا في دفْعِ الانتقادات الفقهية التي ظهَرت في القرن السابع عشر، خاصةً من خلال تأسيسِ مدارس من أجل نشْرِ تعاليمهم.145 كان تفضيل هؤلاء الصوفيين الإحيائيِّين في القرن الثامن عشر لتأسيس المدارس على الخانقاوات، وكذلك الأسس الفقهية لتعاليمهم، دالًّا على تمسُّكهم بجذورهم في القرن السابق. كان شاه ولي الله الدهلوي مهتمًّا بصفةٍ خاصة بالبِدَع، وعلى مدار عصرٍ تعرَّضت فيه دلهي على نحوٍ متكرِّر للتدمير على يد الغزاة، تزايَدَ انتقادُه الصارم لتبجيل الناس للأضرحة الصوفية،146 ولم يعتبر ذلك رفضًا للتقليد الصوفي؛ لأن الدهلوي كان مدركًا تمامًا لمنصبه كوريثٍ لسلالة من الشيوخ الصوفيين السابقين،147 بل تمثَّلَ الأمر في كونه جزءًا من النسق الأوسع نطاقًا الذي شهدناه، والذي أثار فيه تنوُّعُ الممارسات الصوفية الكبير المشكلةَ المنطقية المتمثِّلة في عدم إمكانية كوْنِ كلِّ هذه الممارسات على القدر نفسه من المشروعية. كان الدهلوي يرى أيضًا أن الشريعة هي الأساس الأكيد الذي يميِّز التقليدَ المشروع عن الإضافات غير المبرَّرة. والمنطق نفسه كان موجودًا في دلهي في حلقاتِ خواجه محمد ناصر عندليب (المتوفَّى عام ١٧٥٩) وابنه مير درد (المتوفَّى عام ١٧٨٥)، الذي سعى بالمثل، عند تأسيسِ شكلٍ من الصوفية أشاروا إليه ﺑ «الطريقة المحمدية»، إلى إعادةِ توجيهِ الممارَسات الصوفية؛ بحيث تتناغم مع سلطةِ وسُنَّةِ النبي محمد. وعلى غرار التركيز المتزايد على دراسة الحديث، تزايَدَ دورُ النبيِّ نفسه في الممارسة الروحانية؛ إذ أصبح المريد يسعى إلى الفناء فيه قبلَ الوصول إلى الله.148
كانت التطوُّرات في الهند أيضًا جزءًا من الصورة العالمية الأوسع نطاقًا، التي شهدت كذلك نشْرَ فكرةِ «الطريقة المحمدية» في شمال أفريقيا على يد أشخاصٍ مثل أحمد التيجاني (المتوفَّى عام ١٨١٥) بعد بضعة عقود، لكنْ بدلًا من أن تكون هذه الصوفية ظاهرةً جديدة في القرن الثامن عشر، أو «صوفيةً جديدة» مميَّزة كما أطلَقَ عليها بعضُ العلماء، فإن التركيز على النبي محمد والسُّنَّة النبوية كان ذُروةَ صَحوةِ التجديد العامة، التي ظهرت في القرن السابق.149 وتظهر الأمورُ المرتبطة بحملةِ التصحيح الأوسع نطاقًا هذه في حقيقةِ أنَّ مصطلح «الطريقة المحمدية» نفسه استُخدِم لأول مرة على يد العالِم العثماني محمد البركلي (المتوفَّى عام ١٥٧٣) في كتابه «الطريقة المحمدية والسيرة الأحمدية»، الذي ألهَمَ أيضًا جماعةَ قاضي زاده بسبب هجومه على تبجيل الناس للأضرحة، وحثِّه على التمسُّك بالسُّنَّة النبوية.150 وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الأنماط المنتشرة في عدة مناطق ظهرت فقط من خلال استحسان رسالتها في سياقاتٍ محلية محدَّدة. ومثلما دعَمَ الانتشارُ الواسع للأفكار والمؤسسات الصوفية مجموعةً من الممارَسات أزعجَتِ الدولةَ العثمانية المُحافِظة شرعيًّا، فإنه بالمثل في الهند أدَّى التكيُّف المحلي للصوفية لتتناسَب مع الأنماط الأوسع نطاقًا للحياة الاجتماعية، وحتى الترفيه، إلى وضعٍ أصبحَتِ الأَضرِحة الصوفية تستضيف فيه عروضًا لشِعر الغزل الصوفي، تُقدِّمها مغنياتٌ عاهِرات من الطبقة الدنيا، عُرِفنَ باسم «الطوائف» (أيِ الغجر). ويحفظ كتاب «مُرقَّعة دهلي» — الذي يتناول الفترة قرابة عام ١٧٥٠ — أوصافًا لثقافةِ أضرحةٍ أصبحت فيها الخدماتُ الثقافية للصوفية لا تَنفصل عن مكانٍ مشبوهٍ يُقدِّم حفلات موسيقية في وقت متأخِّر من الليل، بالإضافة إلى أوصافٍ للأفعال الطائشة المُمتعة لعاصمة إمبراطورية في مرحلة الأفول.151 ولهذا السبب، من المهم عدم تضخيم تأثير العلماء الصوفيين، خاصةً على الصعيد المحليِّ للصوفية، الذي استمرَّ في التطوُّر في الهند طوالَ هذه الفترة. وفي البيئات الريفية في السند والبنجاب تضمَّنت أشعارُ شاه عبد اللطيف (المتوفَّى عام ١٧٥٢)، وبلهي شاه (المتوفَّى عام ١٧٥٧)، الكثيرَ من التعليقات الساخرة من العلماء المسلمين. وقد غنَّى شاه عبد اللطيف ساخرًا من دارسي الكتُب الكلاسيكية في الشريعة والنحو، فقال:
إذا قرأْتَ كنز الدقائق، ومختصَر القُدوري، والكافية، وفهمْتَها كلها، فحالُكَ يُشبه نملةً عرجاءَ سقطَتْ في حفرةٍ وأخذت تنظر إلى السماء.152

(١٥) جنوب شرق آسيا: التجديد في دول الملايو

عندما نلتفت إلى الوضع في جنوب شرق آسيا في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، سنجد الكثيرَ من الأمور المشتركة مع صورة الصوفية الفقهية الهندية هذه، التي انتشرت أيضًا في البلاط الملَكي لحُكام الملايو. لقد رأينا من قبلُ حمزة الفنصوري يَنشر أفكارَ ابن عربي باللغة الملايوية في بلاط آتشيه عند الطرف الغربي للأرخبيل الإندونيسي. وفي القرن السابع عشر، تقلَّدَ تلميذه شمس الدين السومطراني (المتوفَّى عام ١٦٣٠)، الذي كان مِن باساي في شمال سومطرة، منصبَ «شيخ الإسلام» (مما جعله في المكانة التالية مباشَرةً للسلطان) في بلاط السلطان علاء الدين رعاية شاه (الذي حكم من عام ١٥٨٨ إلى عام ١٦٠٤)، وعمل كالشيخ الصوفي للسلطان إسكندر مودا (الذي حكم من عام ١٦٠٧ إلى عام ١٦٣٦)، الذي صحبه عادةً في كل المناسبات التي تخصُّ الدولة.153 هكذا كانت مكانةُ هؤلاء الصوفيين أصحابِ النفوذ المؤثِّر، لدرجةِ أنهم ذُكِروا في رواياتِ أسفارِ البحَّارة الأوروبيين في المحيط الهندي. ويبدو أن المستكشِف الإنجليزي جون دافيس كان يشير إلى شمس الدين السومطراني، عندما وصف عام ١٥٩٩ بلاطَ آتشيه الملكي قائلًا: «هناك نبي في آتشيه يُجلُّونه كثيرًا، ويقولون إنه يمتلك رُوحَ النبوة مثلما امتلكها الأقدمون. وهو يتميَّز عن البقية في ملابسه، ولديه حظوة كبيرة عند الملك.»154 وفي مصادر من سلطنة آتشيه نفسها، نجد فكرةَ «الإنسان الكامل»، التي ظهرت في تعاليم ابن عربي وحمزة الفنصوري على حدٍّ سواء، مستخدَمة في تعظيم السلطان إسكندر مودا.155 وعلى غرار ما رأيناه بالفعل في إيران والهند، فإن هذا الاستخدام من جانب الملوك للمصطلحات الصوفية، يُمكن أن نراه في إحدى قصائد مديح السلطان إسكندر مودا المكتوبة بالملايوية، التي اقتُرِضت من المصطلحات الصوفية العربية الأصلية لتَصف السلطان بأنه «القطب الملكي، الكامل تمامًا، الولي المتَّحِد تمامًا مع الله، والملك العارف.»156 ومثلما بدا إسكندر مودا متأثِّرًا بالألقاب الصوفية التي استخدمها معاصِروه المغول، أمثال جلال الدين أكبر وجهانكير، كان هذا التقديم للمَلِك على أنه «القطب» أو «ولي الله» الصوفي معمولًا به أيضًا في الدول الإسلامية الجديدة الناشئة على حدود الأرخبيل، سواء في ماتارام في جاوة، أو في جاوا في سولاويسي.157
ونظرًا لأن شمس الدين السومطراني كان واحدًا من أوائل السومطريين الذين يكتبون باللغة العربية، فقد أوضحَتْ كتاباتُه بالمثْل تأثيرَ الأفكار الهندية على الخيال الملايوي، لا سيما أفكار محمد بن فضل الله (المتوفَّى عام ١٦٢٠) المولود في برهان بور في وسط الهند، صاحب كتاب «التحفة المرسلة إلى روح النبي»، الذي انتشر لاحقًا على نحوٍ أعمق في جنوب شرق آسيا بسبب ترجمته إلى اللغة الجاوية.158 وعلى الرغم من أن محور الاهتمام الأساسي لهذا الكتاب هو الأفكار الوجودية المتعلِّقة بالطبيعة الحقيقية للوجود البشري والوجود الإلهي، فقد هدف فيه فضلُ الله أيضًا إلى التأكيد على أهمية الشريعة في السيطرة على أفعال حتى أقرب أولياء الله. وكما هو الحال في المناطق الأخرى التي تناولناها؛ فقد شهد القرن السابع عشر في جنوب شرق آسيا أيضًا محاولاتٍ لكبْحِ سلطةِ أولياء الله الصوفيِّين الجامحة والعنيدة، من خلال نسخةٍ من المعتقَد الصوفي أكثر تقييدًا من الناحية الشرعية. وكما ظهر هذا التوجُّه بالفعل في انتشار كتابات فضل الله، رأيناه أيضًا في تعاليم صوفيين من جنوب شرق آسيا مثل نور الدين الرنيري (المتوفَّى عام ١٦٥٨)، الذي استغلَّ تَولِّيه منصبَ شيخ الإسلام في آتشيه لمهاجَمةِ العديد من الصوفيين الذين اعتبَرَهم متَّهمين بالزندقة، ووثَّقَ هذه الاتهاماتِ في كتابه المثير للجدل «حجة الصِّدِّيق لدفع الزنديق»، وتشير نشأةُ الرنيري في منطقة كجرات الهندية إلى ضرورةِ رؤيةِ أفكاره أيضًا في ضوء التيارات الأكبر التي كانت تجتاح الهند في عصره، فمن الممكن أن يكون انتقادُ الرنيري لتعاليم سَلَفه الصوفي في آتشيه حمزة الفنصوري (لا سيما ما يتعلَّق برؤية الفنصوري لوحدة الوجود) معتمِدًا على الهجوم على المعتقَد نفسه، الذي رأينا أحمد السرهندي يشنُّه في الهند أثناء شباب الرنيري.159 والأدلةُ على ارتباطِ الرنيري بالطريقة العيدروسية أكثر من واضحة، وتَنتمي هذه الطريقة إلى منطقة حضرموت في اليمن، وأدَّى انتشارُها عبر المحيط الهندي إلى نشر صوفيةٍ ملتزِمةٍ بالشريعة.160
لم يكن العيدروسيون أمثال الرنيري الصوفيِّين الوحيدين الذين يروِّجون للصوفية الشرعية هذه في جنوب شرق آسيا في القرن السابع عشر؛ فبعدَ أن درس الصوفي الآتشي عبد الرءوف السنكيلي (المتوفَّى عام ١٦٩٣) في المدينة على يد الصوفي الكردي إبراهيم الكوراني (المتوفَّى عام ١٦٩٠)، عاد إلى سومطرة ليدرس منهجًا كانت فيه الصوفية غير منفصِلة عن دراسةِ الشريعة والقرآن.161 وأدَّتْ تقويةُ علاقاتِ جنوب شرق آسيا بشبه الجزيرة العربية في أوائل العصر الحديث أثناء القرن الثامن عشر؛ إلى انتشار هذه الصوفية الشرعية أكثر من خلال حركةِ مزيدٍ من الصوفيين من حضرموت، ونقلِ تعاليمهم حتى شمال أفريقيا. وكان هؤلاء الصوفيون الرحَّالة هم مَن ربطوا مسلمي الملايو بتيارات العصر الأوسع نطاقًا.162 ويبدو ممكنًا أن تكون زيادةُ تداوُلِ هذه الأفكار مرتبطةً بزيادةِ حركةِ الملاحة البحرية التي صاحبَتْ نموَّ التجارة في تلك الفترة. وأدَّى أيضًا ازدهارُ القوة التجارية الهولندية في جنوب شرق آسيا إلى تقديم الإسلام إلى جنوب أفريقيا، عن طريق نَفْي الصوفي الملايوي الشهير يوسف التاج الخلوتي المقاسري (المتوفَّى عام ١٦٩٩) إلى المستعمرة الهولندية في كيب تاون.163 وحتى في أغلال الأوروبيين، استمَرَّ الصوفيون في اختراقِ الحدود الجديدة نشْرًا للإسلام.

(١٦) الشريعة في الصحراء الكبرى

يُمكن رؤية أنماط مشابِهة في شمال أفريقيا وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أثناءَ هذه الفترة، ولقد رأينا حقًّا كيف شهد القرن الخامس عشر في المغرب ظهورَ صوفيةٍ شرعية تَمتلك وعيًا ذاتيًّا بفضلِ جهودِ شخصياتٍ مثل الجزولي وأحمد الزروق. وعلى الرغم من ضرورة وضع هؤلاء الرجال في سياقِ بيئاتهم المحلية في المقام الأول، فإنَّ اهتماماتهم كانت صدًى للمشكلة الأكبر المتمثِّلة في التنوُّعِ الكبير في الممارسات الصوفية، الذي ظهر في أوائل العصر الحديث؛ ما أثار مخاوفَ حول عدم إمكانية أن تكون جميعها متفقة مع السُّنَّة النبوية؛ فعلى سبيل المثال: كتب أحمد الزروق كتابًا بعنوان «الرد على أهل البدع»، هاجَمَ فيه البدع الصوفية المَعِيبة مثل: حلق الرأس، وارتداء عباءات معيَّنة، وتفاخُر الحشم الذين يَتبعون الشيوخ الصوفيين المشهورين.164 وفي أعمال الجزولي مثل كتاب «العقيدة»، أعرَبَ أيضًا عن اهتمامه بإظهار السلوكيات الحميدة، مطالِبًا المجتمعَ برفع معاييره الأخلاقية. وعلى الرغم مِن أنَّ الجزولي كانت له تعريفاته الخاصة بمعنى الطريقة المحمَّدية، فإنه كان واحدًا من الصوفيِّين الكثيرين في هذه الفترة الذين تحدَّثوا عنها، والتي كان يجب أن تتقيَّد فيها كل الممارسات الصوفية بمثال أفعال النبي. وفي شمال أفريقيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، استمرَّت محاولاتُ توحيدِ مزاعم المرجعية الصوفية والفقهية من خلال نموذج «الصوفي الفقيه»، الذي جمعت معرفته وسلوكه بين تقاليد الصوفيين وتقاليد النبي، ونرى ذلك بصفة خاصة في سيرة شخصياتٍ مثل أحمد التيجاني (المتوفَّى عام ١٨١٥)، وأحمد بن عجيبة (المتوفَّى عام ١٨٠٩)، اللذَين أكمَلا نموذجَ الصوفيَّة المقيَّدة بالشَّرْع. وفي إطارِ محاوَلةِ إرجاعِ الممارسات الصوفية إلى السُّنَّة النبوية، زعَمَ التيجاني أن بعض الأغاني الخاصة التي يُعلِّمها للمريدين ألَّفها النبيُّ نفسُه ونقَلها له من خلال رؤية،165 وعن طريق توسيع التيجاني لدائرة أتباعه، من خلال ضمِّ المُسافرين الذين كانوا يأتون إلى مركزه التعليمي في مدينة فاس المغربية، تمكَّنَ من توسيعِ نطاقِ مريديه غربًا ليمتدَّ إلى غرب أفريقيا، وهناك سوف تتكوَّن واحدة من أكثر المنظَّمات الإسلامية تأثيرًا في القرن التاسع عشر.166 وفي شمال أفريقيا نفسه، كان لهذا التوسُّع في الصوفية الملتزِمة بالشريعة، التي لا مكان ﻟ «البدع» فيها، صدًى في سياسات حكَّام مغاربة أمثال سيدي محمد بن عبد الله (الذي حكم من عام ١٧٥٧ إلى عام ١٧٩٠)، ومولاي سليمان (الذي حكم من عام ١٧٩٢ إلى عام ١٨٢٢) الذي اعتَبر كثيرًا من الطرق الصوفية عقَباتٍ تقف في طريق التجديد الديني الذي سعى إلى تحقيقه في مملكته.167
وعلى الرغم من ذلك، شهدت تلك الفترة في شمال أفريقيا اكتسابَ الطرق الصوفية ثروةً جديدة عندما لعبوا دورًا بارزًا في التجارة المُزدهِرة بين أوروبا وشمال أفريقيا والصحراء الكبرى؛ ممَّا جعَل قادتَها من أكثر الشخصيات ثراءً ونفوذًا في مجتمعاتهم. ولما كانت الطريقة النصيرية تتمتَّع بأعضاءٍ تجمع بينهم الثِّقة المتبادلة، فضلًا عن انتشارهم على نطاق واسع، فقد استخدمَتْهم كشبكة لها، وأدارت جزءًا كبيرًا من التجارة الأوروبية عن طريق فرْض رسوم لحماية القوافل التجارية، ونشر معلوماتٍ حول السوق وظروف السفر، والتحكُّم في التواصُل مع النُّخَب السياسية؛ واستثمرَتِ الثروةَ التي جنَتْها بدورها في شراء الأراضي أو إقراض الأموال.168 وعن طريقِ توفيرِ شبكاتِ ثقةٍ وتواصُل وائتمان واسعةِ النطاق — سواءٌ عن طريق الطريقة النُّصَيرية في شمال الصحراء الكبرى، أو عن طريق تجَّارِ قبيلةِ كنتة في مناطق جنوب الصحراء الكبرى المنتسِبين إلى الطريقة القادرية — عملت الطرق الصوفية كآلياتِ تمكينٍ للتجارة المتزايدة عبر الصحراء الكبرى التي ربطت أفريقيا بأوروبا.169 وفي الوقت نفسه، كانت طرق التجارة هذه طرقًا للمعرفة أيضًا، نقَلَ من خلالها الصوفيون تعلُّمَ اللغة العربية، ومناهج الطريقة النصيرية المتمثِّلة في الدراسة الفقهية والصوفية، إلى مستوطنات الواحات التي أصبحت حاليًّا موريتانيا ومالي والنيجر والسودان.170
وفي صحراء السودان الكبير ومناطق ضفاف النيل بها، نجد بعضًا من أبرز تفاعلات الصوفيين مع بيئاتهم المحيطة في هذه الفترة؛ إذ شهد القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر توسُّعًا كبيرًا في النفوذ الصوفي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الذي من خلاله أصبح التراث القديم للصوفيين المتعلمين والأولياء المستقلين مندمجًا في الشبكات والأنساب الممتدة عبر مناطق متعدِّدة، التي تخص طرقًا مثل الطريقة القادرية.171 وعلى الرغم من أن هذه الشبكات كانت عشوائية بعض الشيء، فقد كانت قادرةً على ربط أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بالممارسات والجدالات الناشئة في شمال أفريقيا ومصر وأفريقيا. وحدث هذا التوسُّع للطرق نحو الجنوب عن طريق دمج أنسابها وتعاليمها في الهياكل الاجتماعية والجماعات التعليمية الموجودة، وخضعَت الانتماءات الصوفية المتعدِّدة المناطق للتعديل بما يتَماشى مع السياقات المحلية، عن طريق الجماعات القبَلية وعائلات العلماء، وزاد انتشارُ الانتماءات الصوفية عبر طرق التجارة التي عبرت الصحراء الكبرى وربطت سكانها بشمال البحر المتوسِّط. وكما هو الحال بالنسبة إلى الطرق الأخرى المتعدِّدة المناطق مثل الطريقة النقشبندية، لم تكن هذه العلاقات الجديدة مركزية، وظلَّت فعليًّا حتى القرن التاسع عشر فروعًا مستقلة. وخلال منتصف القرن السابع عشر، انتشرت الانتماءات الأفريقية للطريقة القادرية على يد تاج الدين البهاري، الذي كان من بغداد في الأصل، وحاوَلَ ضمَّ العائلات السودانية الكبيرة الموجودة إلى الطريقة القادرية.172 أُسِّس فرعٌ مستقلٌّ آخَر من الطريقة القادرية في هذا الوقت تقريبًا على يد إدريس بن محمد الأرباب (المتوفَّى عام ١٦٥٠)، الذي نجح في جذب نُخَب سلطنة الفونج، وعمل أيضًا مثل بقية الصوفيين في هذه الفترة كوسيطٍ دبلوماسي، في هذه الحالة في الخلافات بين الفونج وأعدائهم.173 وفي إطارِ نشْرِ عملية التقديس في أفريقيا، شُيِّد ضريحٌ على قبر إدريس في مدينة العَيلفون جنوب الخرطوم حاليًّا في السودان، وتحوَّلت المدينة إلى مركز زيارة يَقصده سكان المنطقة المتأثِّرون نسبيًّا بالإسلام. ومن خلال خلط زيارة الأضرحة والزراعة والتعليم معًا، أصبح صوفيون آخَرون أمثال حسن ولد حسونة (المتوفَّى عام ١٦٦٥) — الذي هاجَرَ جدُّه عبر الصحراء الكبرى ممَّا يُعرَف حاليًّا بتونس — مؤسِّسين للقرى. وعلى مدار فترةٍ تُقدَّر بعدة أجيال، أصبحت هذه القرى الواقعة في قلب أفريقيا عوالمَ إسلامٍ صوفيةً صغيرة، يجمع سكانَها المترابطين السلفُ المشترَك، المتمثِّل في الشيخ الصوفي وأتباعه الأوائل.

ومع توسُّع فروع الطرق المستقلة هذه عبر القرن الثامن عشر، نجد في بعض الحالات أن العضوية فيها كانت تقوم على معيار العِرْقية أو القرابة المشتركة. وفي حالات أخرى، أوجدَتِ الطرقُ أنماطَ تآلُف جديدة تجاوَزت الحواجز العِرْقية. وفي كل الحالات، ربطت الطرقُ الأشخاصَ بالمجتمعات اعتمادًا على رؤيةٍ مشتركةٍ يحدِّدها شيوخها. وكان كثير من هؤلاء القادة ينتمون إلى العائلات المقدَّسة نفسها؛ مما جعل الطرقَ آلياتِ سيطرةٍ تمكَّنت من خلالها عائلاتٌ أو جماعات عِرْقية معيَّنة من تخليدِ مكانتها عبر الزمن. وفي أفريقيا الإسلامية كما في غيرها من الأماكن، كوَّنَ هؤلاء القادة الصوفيون طبقةً حاكمة اكتسبت الثراءَ من خلال الأراضي التي تَمتلكها، والهدايا الممنوحة لها من الأتباع. وبهذه السُّبُل، منَحَ التقليدُ الصوفي شعوبَ الصحراء الكبرى مجموعةَ موارد قابلة للتعديل لتأسيس سلام اجتماعي، بدايةً من نماذج للسُّلطة والتنظيم، إلى الطقوس الجماعية الباعثة على الوحدة، وتقديس تراثٍ تاريخي ربَطَ المؤسسةَ الصوفية الأفريقية بمراكز حضرية مرموقة مثل القاهرة وبغداد ومكة.

fig23
شكل ٣-٦: هل هي صوفية قبلية؟ الصوفي الرحَّال في مقاطعات الإمبراطورية العثمانية أو الصفوية، تقريبًا في القرن السابع عشر (بإذن مجلس المكتبة البريطانية).
وكما هو الحال في المناطق الأخرى في الفترة نفسها، أولى العديدُ من الصوفيين البارزين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أثناء القرن السابع عشر، والقرن الثامن عشر بصفة خاصة، اهتمامًا خاصًّا بالشريعة؛ ففي سلطنة الفونج في السودان، أدَّى اغتصاب نُبلاءِ الهمجِ السلطةَ عام ١٧٦٢ إلى أزمةٍ شرعية حاوَلَ الهمج حلَّها من خلال سياسة الترويج للشريعة، وهذا بدوره تطلَّبَ منهم عرْضَ مناصبَ في البلاط الملَكي والبيروقراطية على الصوفيين، أو على غيرهم من العلماء المؤهَّلين لتطبيق هذه السياسة.174 ونتيجةً لذلك، زاد نفوذُ الصوفيِّين الفقهاء، وفي نهاية القرن الثامن عشر انتشر عبر السودان هجومٌ كبير على الممارَسات الصوفية أو المُمارَسات الشعبية الأخرى التي تنطوي على بِدَع. وعلى نحوٍ مُحاكٍ لأجندات الصوفيين النقشبنديِّين بين سكان الواحات وقبائل آسيا الوسطى، تُظهِر المخطوطات العربية المتبقية من الجيوب الحضرية في الصحراء الكبرى أن صوفيِّي هذه الفترة كانوا المروِّجين الأساسيِّين للشريعة، ومن أمثلة هؤلاء السودانيُّ أحمد الطيب البشير (المتوفَّى عام ١٨٢٤)، الذي انتسَب خلال رحلاته إلى شبه الجزيرة العربية في أواخر خمسينيات القرن الثامن عشر إلى الطريقة السمانية، المُنبثقة عن الطريقة الخلوتية ذات التوجُّه الشرعي الصارم، التي سبق أن رأينا نفوذَها الكبير في الإمبراطورية العثمانية. وقد روَّج البشير تعاليمَ الطريقة السمانية عند عودته إلى وطنه، وهناك منَحَه واحدٌ من أواخر حكَّام سلطنة الفونج عزبةً زراعيةً في الأراضي المَطِيرة الخصيبة السودانية.175
نظرًا لتزايُد العلاقات هذا بين الصوفيين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأفريقيا البحر المتوسِّط في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فإنَّ دور الصوفيِّين كمُقدِّمين للشريعة ومؤسِّسين للمجتمعات يُشير إلى الأساليب التي من خلالها اشتركت أفريقيا في تطوُّراتِ توحيدِ السلوك الأوسع نطاقًا في هذه الفترة، من خلال تعويد الجماعات المختلفة على مجتمعات الطقوس المشتركة، التي مكَّنت بدورها تأسيسَ وحداتٍ اجتماعية أكبر. وبحُلول النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وصَلت هذه التطوُّرات مستوياتٍ جديدةً، عندما تجاوَزَ صوفيُّون بارزون من شمال أفريقيا مثل أحمد التيجاني (المتوفَّى عام ١٨١٥)، وأحمد بن إدريس الفاسي (المتوفَّى عام ١٨٣٧)، شعوبَ الصحراء الكبرى المُستعربة، وأدخَلوا أعدادًا كبيرة من الأفارقة السُّود في طرُقهم الجديدة. وعلى الطرف الغربي لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى فيما يُعرَف اليومَ بموريتانيا، شهدت الفترة أيضًا سفَرَ محمد الحافظ الشنقيطي (المتوفَّى عام ١٨٣٠) إلى مكة وفاس؛ حيث انتسَبَ إلى الطريقة التيجانية على يد التيجاني، قبل أن يعود عبر الصحراء الكُبرى ليَنشر نوعًا من الصوفية حازت فيه دراسةُ الحديث والسُّنَّة النبوية على مكانةٍ محورية.176 وفي أواخر القرن السابع عشر، استخدم الصوفيون في كل أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى السُّنَّة النبوية لوصف الحكَّام والأخلاق والقوانين العُرْفية في هذه المنطقة الشاسعة بأنها من صور الكفر الوثَني والبِدَع. وغالبًا كان هذا الانخراط الصوفي الشديد للغاية في الإصلاح الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من الإصلاح السياسي، مما قاد الصوفي ابن الطريقة القادرية عثمان دان فوديو (المتوفَّى عام ١٨١٧) إلى دعوة رفاقه من قبيلة الفولاني إلى سلسلة من عمليات الجهاد المشروع، التي أسفرت عام ١٨٠٩ عن تأسيس «خلافة» سوكوتو.177 وعلى الرغم من أنه قيل إنَّ فوديو اعتبر الصوفية وسيلةً للتطهير الشخصي التي كانت مُنفصلة عن مصادر رؤيته السياسية، تظلُّ حقيقةُ أن الصوفيين — وإنْ لم تكن الصوفية في كل الأحوال — كانوا مسئولين عن تأسيس دول جديدة بارزة في أفريقيا.178
على الرغم من ذلك، يجب ألَّا نرى ذلك بمثابةِ صورةٍ فحسب للتأثير الصوفي على أفريقيا، بل يجب أن نراه أيضًا صورةً للتأثير الأفريقي على الصوفية، وعلى نحوٍ أكثر تحديدًا يجب أن نُدرك العمليةَ التي من خلالها زوَّدت الصوفيةُ الأفارقةَ بالمصطلحات الدينية، والنموذج التنظيمي، ووسائل نقل المعرفة التي مكَّنتهم من تصدير سمات من الممارسة الدينية الأفريقية إلى العالَم الإسلامي الأوسع نطاقًا. وإلى حدٍّ كبير، كان هذا ممكنًا بسبب التهجير الجبري للعبيد إلى شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية والهند؛ حيث مثَّلت الصوفية وسيلةً مفهومة ومشروعة لاستمرار المُمارَسات الأفريقية التقليدية، المتمثِّلة في الغَشية الموسيقية واستحضار الأرواح. ويُمكن ملاحظة هذه العملية بين أوساط السيديِّين الذين كانوا عبيدًا في السابق ومُنحدِرين من نسل أفريقي، الموجودين في الهند وفي الطريقة الحمدوشية والطريقة الكناوية في المغرب.179 وجعل السيديون ذكرى ماضيهم الأفريقي حيةً من خلال طقوسٍ تُؤدَّى أمام ضريح سلفهم الأفريقي المزعوم، بابا جور، في كجرات.180 وشرحت الطريقة الحمدوشية طقوسَها المميزة في استحضار الأرواح من خلال أساطير مؤسِّسها سيدي حمدوش (المتوفَّى عام ١٧١٨)، الذي سافَرَ إلى السودان وأحضَرَ لدى عودتِه الناي الذي يستخدمونه في الطقوس، المعروف باسم «العواد»، وكذلك الدُّف والجنية عيشة قنديشة.181 وفي كلتا الحالتين، ظلَّت الجذور الأفريقية لمُجتمعات أو ممارَسات الشتات حيةً، مِن خلال التقاليد المتذكَّرة للأسلاف في المدن البعيدة في المغرب أو في الهند. وإذا كانت أعدادُ الصوفيِّين الرافضين لهذه الأنشطة قد تزايَدَتْ في أواخر القرن الثامن عشر، ووصفوها بالبِدَع المذمومة، فإنَّ الشعبية الهائلة لهذه الطقوس الموسيقية والسلوى التي منَحوها للمكتئبين والمهجرين، كان معناها أنها سوف تستمر إلى العصر الحديث، على الرغم من كل انتقادات المصلحين.

ملخص

في هذا الفصل، شهدنا فترةً من العلاقات الغامضة بين الصوفيين والدول، أسَّسَ فيها الصوفيون أنفسهم دولًا تارةً، وجذبتْهم الدولُ تحت قبضةِ سيطرتها الشديدة تارةً أخرى. وفي فترة كان فيها الإسلام لا يزال يتوسَّع في أجزاء كبيرة من العالَم، لعب الصوفيون أيضًا دورًا في استيطان الحدود، وأدَّت المؤسسات الصوفية دورَ الدول البديلة عندما تكوَّنت المُجتمعات الإسلامية حولها. وعلى الرغم من أنه بطبيعة الحال ظلَّ بين الصوفيين أعدادٌ كبيرة من الدراويش المتجوِّلين الفقراء، فإن العلامة الفارقة في التاريخ حدَثت على يد النُّخَب الصوفية الرحَّالة، الذين مكَّنهم علمُهم، وأنسابهم المرموقة، وقدراتهم على صنع المعجزات، وفي بعض الحالات خلفيتُهم العِرْقية، من توظيف الموارد لتأسيس الدول أو لتولِّي المناصب المهمة داخل الكيانات السياسية القائمة. وعلى الرغم من أنَّ الفترة ما بين القرنَين الخامس عشر والتاسع عشر يوحِّدها الانتشار المُستمر للنفوذ الصوفي بين عدد مُتزايد من الشعوب، فإنها يُمكن تقسيمها إلى فترتين تَفْصل بينهما بوجهٍ عام بدايةُ الألفية الإسلامية عام ١٥٩١. وعلى الرغم من أن هذه التطورات كانت تدريجية، فإنه في أول قرنين من الألفية الجديدة حازت الاستقامةُ الأخلاقيةُ المُلتزِمةُ بالشريعة التي أبداها الصوفيون على الاهتمام، وأصبحوا قُدوةً اجتماعية تروق للقائمين على إدارة الدولة. وإذا كان الصوفيون والسلاطين قد كوَّنوا في أول الأمر تحالُفات في فترة العصور الوسطى، فإن الصوفيين في قرون فترة أوائل العصر الحديث ركنوا إلى الأمان المستمَد من كونهم لاعبين أساسيين في النظام الاجتماعي والسياسي على حدٍّ سواء، خاصةً في الإمبراطوريات الأطول أجلًا. وإذا كانت الفترة قد شهدت تزايُدَ مُحاوَلات تنظيم الأبعاد الأكثر انحرافًا في السلوك الصوفي من خلال معايير شرعية موحَّدة، فإنَّ هذا في نهاية الأمر، فيما عدا في بيئات استثنائية مثل إيران الشيعية، كان علامةً على النفوذ الهائل الذي اكتسَبه الصوفيون في هذه الفترة، من خلال الإشارة إلى الأمور العديدة التي أصبحَتْ محفوفةً بالمخاطر عندما أضلَّ الصوفيون أتباعَهم أخلاقيًّا.

إذا تناولنا فترة أوائل العصر الحديث في مُجملها، فسنجد أنها شهدت جذْبَ التقليد الصوفي في اتجاهين متعارِضَيْن لكنَّهما متداخِلين. فمن ناحيةٍ، شهدت الفترة توظيفَ واستخدامَ التقليد على نحوٍ تنافُسي على يد العديد من القادة مؤسِّسي القبائل أو الدول، الذين استخدم الكثير منهم عناصرَ مميَّزة منه على نحوٍ انتقائي على حسب متطلَّبات وضعهم. وعلى أي حال، فإنه نظرًا لما تدَّعيه الصوفية من مزاعم السلطة، بالإضافة إلى ما تمتلكه من آليات الولاء والانتماء، فقد أصبحت وسيلةً قويةً للتنظيم الجماعي والتضامُن المجتمعي. ومن الناحية الأخرى، شهدت الفترة عمليةً مُقابِلة (لكنها وثيقةُ الصلة في نهاية المطاف)، تمثَّلت في زيادةِ دمجِ مصطلحاتِ ورموزِ التقليد القوية هذه في طرُق صوفية منظَّمة ومُقنَّنة، والتي أصبح سلوكها على هذا النحو أكثر استقرارًا، ومن الممكن توقُّعه على نحوٍ أكبر. وعلى الرغم من أن هذه العملية كانت متقطِّعة بالتأكيد، فإنه منذ هذه الفترة أصبحت الطرق أشبه بالمنظمات الأكثر ترابطًا منها بآلياتِ إعادةِ إنتاج التقليد التي ميَّزت فترةَ العصور الوسطى. وما دام القَدْر الأكبر من تنظيم الطرُق نتَجَ جزئيًّا من تفاعُلها الوطيد مع الدول الأكثر طموحًا وتنظيمًا في هذه الفترة، فإنَّ الهدف من ترويجِ الحكومات لها كمؤسَّسات اجتماعية مستقرة ومُستوطنة وملتزِمة بالشريعة، والتقليلِ من شأن الصوفية البدوية «اللاسلطوية» القائمة على المُعجزات والمرتبطة بالجماعات القبلية الريفية؛ كان واضحًا. وحتى في أبرز حالات قمع الصوفية في إيران الصفوية، كان العامل الأساسي هو استبدال الصوفية القبَلية الانفصالية القديمة، وأن يحل محلها نموذجُ الإسلام الشِّيعي الموحَّد والفقهي الذي يستطيع توحيدَ كلِّ السكان، على النقيض حتى من أكبر الطرُق الصوفية.

في أغلب الأحيان، قُدِّم القرن الثامن عشر على أنه «عصر إصلاح» مميَّز، رَوَّجت فيه طرقٌ صوفيةٌ أجندةً جديدة، مِحوَرُها النبي محمد، لصوفية ملتزمة بالشرع، إلا أن ما شهدنا في هذا الفصل يشير إلى أنَّ الألفية الإسلامية التي بدأت عام ١٥٩١ مثَّلت نقطةَ التحوُّلِ الأكثر أهميةً. بطبيعة الحال، إنَّ انتشار محاولات تصحيح التردِّي وانتقاد البدع تقريبًا في كل منطقة من المناطق الإسلامية لم يكن ناتجًا عن التاريخ وحده، وكان نجاح العلماء في كل منطقة في هذا الشأن مُعتمدًا على الظروف الاجتماعية والسياسية المحلية. وعلى الرغم من أن جماعات مثل قاضي زاده استخدمت الاتهامَ بالابتداع المنحرف عن السُّنَّة النبوية كوسيلةٍ لانتقادِ منافسيها الصوفيين أصحاب الامتيازات، فقد كان الصوفيون أنفسهم هم عادةً مَن استخدموا السُّنَّة والشريعة لانتقاد صوفيين آخَرين. وفي بعض الحالات، كان هذا جزءًا من أشكالٍ عقائدية أطول عُمْرًا مدعومة من طرق معينة لطالما أكَّدت على أهمية الالتزام بالشريعة مهما كان تواصُل الفرد الخاص مع الله باعثًا على النشوة. وبدلًا من أن تشهد فترة أوائل العصر الحديث ككلٍّ تلاشيَ الصوفيِّين تحت وطأة هجومِ طبقةٍ منفصلة من العلماء، على الرغم من المُواءَمات مع أنظمةِ الدول الأكثر قوةً (أو حتى بسببها أيضًا)، فقد شهدتْ من تمبكتو إلى سولاويسي تزايُدًا في انتشار النفوذ الصوفي على حياة المسلمين بدلًا من تضاؤله. وبينما لم يكن الصوفيون بلا معارضين، فإنهم كانوا على الرغم من ذلك الطبقةَ الدينية المسيطِرة إلى حدٍّ كبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤