الفصل الأول

الاختيار السليم للموظفين: أحد مواردك المهمة

عندما انتصف عام ١٩٨٦، كنت على موعد لحضور مقابلة غاية في الأهمية بمدينة زيورخ. خلال الأيام الأربعة التي سبقت هذه المقابلة، توقفت في كلٍّ من لندن وباريس وكوبنهاجن وبروكسل؛ حيث أجريت في كلٍّ من هذه العواصم مقابلات مع استشاريين بشركة البحث التنفيذي الدولية، إيجون زندر إنترناشونال، عقدت خلالها محادثات قاربت الثلاثين تضمنت جلسات مع مجموعة كبيرة من شركائها علاوة على جميع أعضاء هيئتها التنفيذية.

لكن عندما وصلت إلى مدينة زيورخ كان من المقرر أن ألتقي بإيجون زندر نفسه — مؤسس الشركة، ورئيس مجلس إدارتها حينئذٍ. أقل ما يقال في وصف حالتي حينَها هو أنني كنت متوترًا. (بإمكاني أن أتذكر بعضًا من هذا التوتر القديم إلى يومنا هذا.) كنت على وعي تامٍّ بمكانة الرجل الماثل أمامي الذي دشن — بعد تخرُّجه في كلية هارفارد لإدارة الأعمال في العام الذي وُلدت فيه — مسيرة البحث التنفيذي في أوروبا عام ١٩٥٩، وأنشأ شركته الخاصة في ١٩٦٤ التي ما لبثت أن امتد نطاقها دوليًّا. لقد كان، ببساطة، أسطورة.

أستحيي الآنَ من الاعتراف بأنني لا أذكر كثيرًا من أسئلته لي ذلك اليوم، لكنني، ولسبب ما، أذكر جيدًا بعضًا من أسئلتي له، وأذكر على وجه الخصوص سؤالًا وجهتُه إليه كان مفاده: بِناءً على خبرتك التي تربو على ٢٥ عامًا في مجال البحث التنفيذي أمضيتَها في مقابلة عملاء ناجحين ومرشحين لمناصب عليا، ما السر وراء نجاح المرء؟

أعتقد أنني توقعت عندئذٍ أن يجيبني بنظرية مستفيضة عن النجاح؛ فقد كان في ذاته رجلًا فائق النجاح، وأدركت بالفعل أنه رجل ذو قناعات راسخة ونزاهة بالغة. فبِمَ أجاب هذا الرجل العظيم على سؤالي؟

«الحظ!»

أعترف أنني ذُهلت؛ الحظ؟! استأنف الإجابة قائلًا:

جميع الناجحين الذين قابلتهم كانوا على قدر عالٍ من الذكاء والعمل الجادِّ لا شك، ويؤمنون بضرورة الإعداد، ويجيدون التواصل مع الآخرين. لكنك لو طلبت مني أن أحدد أهم سبب وراء نجاحهم، فإنني لَأومِن أنه الحظ. لقد كانوا محظوظين بالنشأة في عائلات ودول معينة والتمتع ببعض الملَكات المميزة والالتحاق بمدارس جيدة وتلقِّي تعليم لائق والعمل في شركات محترمة والتمتع بالصحة والحصول على فرص للترقي؛ لذا فإنني أقول جوابًا على سؤالك إن السبب الأول وراء نجاح الفرد هو الحظ.

لو كنت أسرع بديهةً (وربما أشد جرأةً) لكنت استجمعت شتات نفسي وطلبت منه أن يخبرني بالسبب الثاني، لكن اللحظة انقضت وانتقلنا للحديث عن مسائل أخرى.

منذ ذلك اللقاء البعيد، تسنَّى لي مرارًا أن أعاود التفكير في سؤالي وجواب زندر، وكثيرًا ما أقررت له بالحكمة؛ فمن المؤكد أن الحظ لعب دورًا في المسيرة المهنية للكثيرين، بما فيهم أنا. لكنني حاولت أن أجد إجابات أكثر منهجية تساعد على اتخاذ خطوة ما. (من الجلي أن نصح شخصٍ بأن يكون محظوظًا ليس كافيًا.) لذلك كلما التقيت بمرشحين مناسبين خلال مهمة بحث، أو قابلت عملاءَ مثيرين للإعجاب، أو عقدت مناقشات مع مسئولين تنفيذيين يرغبون في اختيار طريق مهني جديد، أو حاضرت طلاب كلية هارفارد لإدارة الأعمال، أو تطلَّعت إلى أبنائي — لم أكُفَّ عن طرح تساؤلي: ما هو التفسير الدقيق للنجاح المهني الساحق؟

مضى على ذلك اللقاء الأول مع إيجون زندر ما يزيد على عشرين عامًا، أجريت خلالَها ما يقرب من ٢٠٠٠٠ مقابلة شخصية (بمعدل ألف مقابلة سنويًّا أو أربع مقابلات يوميًّا على مدار عملي كاستشاري للبحث التنفيذي). بالإضافة إلى ذلك، طُفت حول العالم إما لتنفيذ تكاليف من عملاء، أو لتدريب زملاء لي، أو لحضور اجتماعات لجنتنا التنفيذية أو لشركائنا، أو لإلقاء محاضرات. وأجريت خلال هذه الرحلات آلافًا من المحادثات الشخصية العميقة والمؤثرة مع مديرين ومسئولين تنفيذيين، ناقشتُ معهم خلالها مسيرتهم المهنية وحياتهم وأمجادهم ومآسيهم.

كنت شاهدًا على نجاحات عظيمة، وعلى آلام مأساوية، وأبهرتني نماذج مبهرة لإدارة الحياة الوظيفية والشخصية، وآلمتني قصص لنوابغ قتلوا أنفسهم، حرفيًّا.

أُقر أن الأمر صار هَوَسًا بالنسبة لي. لماذا ينجح أشخاص بعينهم، ويُخفق الباقون؟ أظن أن لديَّ جوابًا.

(١) معادلة النجاح

أولًا: أنا — وكما أشرت سابقًا — لا أخالف زندر في نقطة الحظ؛ فالحظ يمكن أن يلعب دورًا بكافة الأشكال التي عدَّدها وغيرها، وفي الحالات القصوى يمكن أن يضع الحظ السيئ نهايةً لمسيرتك المهنية، بالموت أو بغيره من المآسي.

غير أني أعتقد أن معادلة النجاح المهني تضم أربعة عوامل أخرى على الأقل، وهي:

  • (١)

    التكوين الجيني.

  • (٢)

    التطور.

  • (٣)

    القرارات المتعلقة بالمسار المهني.

  • (٤)

    قرارات اختيار الأشخاص.

لديَّ قناعة بأن هذه العوامل تعزز ويعتمد بعضها على بعض، محدثةً أثرًا مضاعفًا. أعتقد كذلك أن أغلب هذه العوامل تختلف أهميتها باختلاف مراحل حياتنا، باستثناء الوراثة الجينية بالطبع، فهي — كحظك — تحتفظ بذات القدر من التأثير من المولد إلى الوفاة. للتطور أهميته على مدى حياتك، لكن محوريته تبرز بوضوح في مراحل حياتك المبكرة، أما قرارات المسار المهني فتزداد أهميتها ببلوغنا أوائل العشرينيات، وأخيرًا — وليس آخرًا — تتضح ضرورة ما أطلق عليه قرارات اختيار الأشخاص.

سأخبرك أولًا بخلاصة الأمر: إنني مقتنع اقتناعًا مطلقًا أنه بمجرد الانتهاء من التعليم النظامي واستهلال الحياة المهنية، يصبح لقرارات اختيار الأشخاص وحدَها الإسهام الأهم في نجاحك المهني.

ولنتناول الآن كلًّا من هذه العناصر بمزيد من التفصيل:

  • التكوين الجيني: يلعب التكوين الجيني دورًا كبيرًا ومستمرًّا. يقدِّم تكوينك الجيني تفسيرًا لما تجده (مثلًا) من سهولة في تعلُّم بعض الأشياء وصعوبة في تعلُّم بعضها الآخر. وكما توصد جيناتك بعضَ الأبواب أمامَك فإنها تفتح أخرى على مِصْراعَيْها. لكن هذا لا يعني أنها معامل ثابت تمامًا؛ كان يُفترض حتى وقت قريب أن التكوين الجيني معامل ثابت في معادلة النجاح، إلا أن الأبحاث الحالية تُظهر أن ما يرثه الإنسان من جينات وراثية يمكن أن يطرأ عليه تغير؛ ففي كتابه «الطبع والتطبع»، يُثبت مات ريدلي أن ما تمر به من خبرات يومية يساهم جزئيًّا في تحديد نوعية الجينات الفاعلة، وهو ما يحدد بدوره نوعية البروتينات التي يبنيها جسمك، ويشكل المشابك العصبية الواصلة بين خلايا دماغك ويعيد تشكيلها.1 لذا يبدو أن كلا طرَفَي السِّجال الدائر حول الطبع في مقابل التطبع على حق.
  • التطور: التطور، الذي أطلقه اختصارًا على التعلم النظامي وغير النظامي على مدار حياة الفرد، يمكن أن يكون قوة دافعة إلى النجاح المهني. تتوقف قدرتك على التعلم بشكل جزئي على ما اتخذته من خيارات مهنية: ما نوعية الفُرص التي تلوح لك في مكان عملك لتتعلم؟ هل تلقى أمورًا جديدة باستمرار؟

    إننا في غنًى عن القول إن ما تقوم به من استثمار رشيد في الوقت والجهد لتنمية ذاتك مهنيًّا يمكن أن يحقق تحسُّنًا بالغًا في مستوى جدارتك؛ ومن ثم زيادة فرص نجاحك؛ فإن أفضل تجارِب التطور يمكن أن تحرز تأثيرًا هائلًا.

    لكن هذا لا يعني أن إمكانية تطورك غير مقيدة بقيود واضحة، فكما أشرنا سلفًا تعتمد قدرتك على التعلم بشكل جزئي على تكوينك الجيني، كما أنه يؤسفني كثيرًا أن أقول إن هذه القدرة تضعُف مع تقدُّم العمر.2 أجَلْ، يمكنك أن تعلِّم كلبًا عجوزًا حيلًا جديدة، لكن الأمر يستغرق وقتًا أطول، وربما لا ينجح الكلب في حفظ الحيلة كاملةً؛ لذلك فإنه مع مرور السنوات تلحق تغيرات دقيقة بتكاليف التدريب ومنافعه.

    سأدع صديقي لايل سبنسر يلخص لكم إمكانية التطور بأسلوبه الوجيز (سبنسر مرجعية دولية في الانتقاء والتطور): «بإمكانك أن تدرب ديكًا روميًّا على تسلُّق الأشجار، لكني أُفضِّل أن أستعين بسنجاب.»

  • الخيارات المهنية: لا يمكننا أن نستهين بأثر الخيارات المهنية على النجاح الشخصي، فعلى مدار حياتي المهنية، كانت تدهشني التباينات الشاسعة بين الإنجازات المهنية التي أحرزها أفراد تشابهت مَلَكاتهم عند بدء كلٍّ منهم مسيرته المهنية، لكن اختلفت خياراتهم لبيئة العمل. سأضرب لكم مثالًا: لي زملاء من الدراسة الجامعية كانوا على قدر كبير من الذكاء والبراعة لكنهم أخطئوا بالعمل في مؤسسات تفتقد المهنية أو تعاني من البيروقراطية الصِّرفة. واليوم، هؤلاء الزملاء، من الناحية المهنية، متخلفون عن أقرانهم الذين يضاهونهم في الملَكات، لكنهم سلكوا مسارات مهنية أفضل والتقَوْا أصحاب أعمال أكثر تنورًا؛ لذا يمكننا أن نشير ببساطة إلى أن الخيارات المهنية الموفقة تضاعف ثمار جهودك الشخصية للتطور؛ ومن ثم تقف كعامل رئيس في إحراز النجاح المهني البارز.
    تذكر مونيكا هيجنز، الأستاذ بجامعة هارفارد، في كتابها «بصمات مهنية: إعداد القادة داخل كل مجال» كيف أسس العاملون في شركة باكستر صناعة التكنولوجيا الحيوية في الولايات المتحدة.3 بِناءً على دراستها التي شملت ٣٠٠ شركة متخصصة في التكنولوجيا الحيوية و٣٢٠٠ مسئول تنفيذي في المجال ذاته، خلصت هيجنز إلى أن معامل باكستر كانت الشركة الوحيدة التي قدمت تربة خصبة لعدد مذهل من الشركات الفرعية والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الحيوية. شهدت صناعات أخرى الظاهرة ذاتها — وهي تولي شركة واحدة إفراز القادة عبر قطاع كامل — كما حدث في حالتَي شركتَي هوليت باكارد وأبل في صناعة المعَدات الحاسوبية ذات التكنولوجيا العالية، وشركة فيرتشايلد في مجال إنتاج أشباه الموَصِّلات. لذا يتضح أن العمل في بيئة تحضُّ على الابتكار أفضل من النجاح المهني الطويل المدى في بيئة راكدة.
  • قرارات اختيار الأشخاص: تبرز أهمية قرارات اختيار الأشخاص بالنسبة لأغلبنا في مرحلة ما من عشرينيات العمر. على صعيد حياتنا الشخصية، نكوِّن صداقات تدوم العمر كله، في الكلية، وفي الدراسات العليا، وفي الكنيسة، وفي محيطنا السكني، ونلقى شركاء حياتنا ونقترن بهم. وعلى صعيد مكان العمل، نبدأ في اتخاذ قرارات تتعلق بالأشخاص، كالزملاء، والعملاء، والموردين.
    fig1
    شكل ١-١: التأثير على النجاح المهني.

    بمجرد تولِّيك منصبك كمدير، تبدأ في العمل عبر آخرين؛ ومن ثَمَّ تصبح قراراتك المتعلقة بالأشخاص ذات أهمية بالنسبة لأداء الوحدة التي تتولاها، ومع ازدياد حجم مسئولياتك — من إدارة متجر وصولًا إلى قيادة سفينة — تتضاعف المجازفات؛ ذلك لأن وسيلتك الوحيدة لممارسة سلطتك تكمن في الفريق الذي شكَّلته، ومع ارتقائك في المناصب من مدير إلى مسئول تنفيذي كبير وانتهاءً برئيس الشركة التنفيذي أو رئيس مجلس إدارتها، تبرز قرارات اختيار الأشخاص باعتبارها أصعب تحدياتك وألمع فرصك.

    سأعيد عليك الآن خلاصة القضية: بعد عشرين عامًا من الممارسة والبحث والتأمُّل، بات لديَّ اعتقاد راسخ بأن لقرارات اختيار الأشخاص وحدَها الإسهام الأقوى في النجاح المهني، كما هو موضح في الشكل ١-١. لاحظ أيضًا أن مع امتداد مسيرتك المهنية وارتقائك للسلم المؤسسي، تزداد أهمية هذه النوعية من القرارات، سواءٌ أكان ذلك مطلقًا أم مقارنةً بجميع ما سواها من عوامل.

(٢) كيف تنال تكريمًا من كلية هارفارد لإدارة الأعمال

دعنا نُلْقِ نظرة على مثال فعليٍّ لمعادلة النجاح تلك. لا أعتقد أن إيجون زندر سيمانع أن ندقق النظر في مسيرته المهنية في ضوء هذه المعادلة، حتى لو انتهى بي الأمر إلى القول إن هذه المسيرة تضمنت ما هو أعقد من مجرد الحظ.4
حاز زندر عام ٢٠٠٢ جائزة الإنجاز لخريجي كلية هارفارد لإدارة الأعمال، التي تُعدُّ واحدةً من أهم جوائزها التكريمية. ومنذ تاريخ تدشينها في عام ١٩٦٨، لم تُمنَح هذه الجائزة إلا لعدد قليل جدًّا من الخريجين المرموقين (خريج أو اثنين سنويًّا) الذين التزموا على مدار حياتهم المهنية «بتقديم إسهامات بارزة في شركاتهم ومجتمعاتهم والحفاظ في الوقت ذاته على أعلى المعايير والقيم في كل ما ينجزون.» وحسب ما عبر عنه عميد الكلية آنذاك، كيم كلارك، فإن حائزي هذه الجائزة «يمثلون صفوة الخريجين [في الكلية]. إن هؤلاء الخريجين، باعتبارهم نماذج مثالية يجدر الاقتداء بها، يلهمون كلَّ مَن تطمح نفسه إلى ترك بصمة في كلٍّ من العمل والمجتمع.»5
كيف حقق إيجون زندر هذا النجاح على وجه الدقة؟ أحسب أنك لو طالعت الشواهد فسوف تستنتج أن التكوين الجيني لعب دوره؛ فزندر يتمتع بحسن الحظ الجيني بكونه فارعَ الطول، وحسَنَ المظهر، وطَلْق اللسان، وفائق الذكاء بالمعنى التقليدي لمستوى الذكاء. (عند خوض رهانات الحياة، لا تستهِنْ أبدًا بأهمية الحضور الجسدي الطاغي!) بالإضافة إلى ذلك، يُعد زندر في الوقت نفسه — في حدود خبرتي الشخصية به على الأقل — أستاذًا من أساتذة ما نشير إليه غالبًا باسم «الذكاء العاطفي». (سأفرد لهذا المفهوم عرضًا مفصلًا في الفصل الخامس.) ربما نتجادل بشأن أيٍّ من هذه السمات هي نتاج التكوين الجيني إلى حد كبير (ورأيي أنها كثيرة)، إلا أن زندر على قدر كبير من الوعي بالذات، ويتميز بالنزاهة، ويتمتع بدرجة مدهشة من الالتزام وحس المبادرة والتفاؤل. لقد وُلد زندر ليكون قائدًا، بكل ما يصاحب ذلك من تبعات جينية، كما أنه خبير في التحفيز الوجداني،6 كما أشار إلى ذلك جيم كوزيس في كتابه «تحدي القيادة». ليس لديَّ أدنى شك في أن زندر يتمتع بتكوين جيني متميز.

علاوة على ما سبق، وتعزيزًا لما وهبه الله من ملكات، فإن زندر اجتهد طوال حياته فعليًّا لتطوير ذاته؛ فبرغم أنه توَّج تعليمه النظامي بحصوله على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هارفارد، فإنه لم يكُفَّ قَطُّ عن التعلم؛ فهو يتعلم من جميع أنواع الشخصيات والمواقف بفضل نَهَمه لقراءة الكتب وفطنته في قراءة الأشخاص.

يتعلق التطور كذلك بإيجاد وسائل لتفعيل ما تعلمته وتطبيقه — لمصلحتك ولمصلحة مؤسستك. عمل زندر بجد — ستة أيام طويلة أسبوعيًّا دائمًا — وكان يُعِدُّ نفسه بإتقان مذهل لكل ما يزدحم به جدوله سواءً أكان فعالية سيشهدها، أم اجتماعًا سيحضره، أم كلمة سيلقيها. ربما تجدر بي الإشارة هنا إلى سابقة شخصية. كان زندر قبل إلقاء خطاباته يتدرب لساعات طوال أمام مرآة ويسجل أداءه على شريط كاسيت ويضع له حدًّا زمنيًّا. أذكر أني سألته مرةً عن الوقت الفعلي الذي يحتاجه لإلقاء كلمته خلال إحدى الجلسات التعريفية لواحد من الاستشاريين الجدد. كان الوقت المخصص له في الجدول ساعة واحدة، لكن ربما كان بحاجة إلى أكثر أو أقل قليلًا. نظر إليَّ زندر متعجبًا وأجابني: «أمامي ساعة واحدة؛ لذا فسوف تكون ساعة واحدة.» وكانت بالفعل ساعة واحدة، لا ٥٩ دقيقة، ولا ٦١ دقيقة — كانت ٦٠ دقيقة بالضبط.

دعنا نتفق أن كلًّا من التكوين الجيني والتطور الشخصي وضعا زندر على الطريق وساعداه على البقاء عليه، ولعلِّي أزعم أن خياراته المهنية مكَّنته من الارتقاء عبر منحنى النجاح، حين قرر بدايةً العدولَ عن دراسة القانون إلى إدارة الأعمال، وثانيًا حين انتقل من مجال الدعاية إلى مِضْمار البحث التنفيذي. لقد قام زندر في الواقع بجلب هذه المهنة إلى أوروبا، مطلِقًا شركته برؤية متميزة تجمع بين منهج استشاري مبتكر ودرجة دقيقة من الاحترافية.

بإمكانك أيضًا أن تشير إلى أن قرارات زندر اللاحقة فيما يخص العمل كانت أيضًا بمنزلة «خيارات متعلقة بالمسيرة المهنية»، بما في ذلك قراره بعدم طرح أسهمه للجمهور إلى جانب إيجاد نمط فريد من الشراكة المتكافئة، والتعاون، ونظام الأجور. لقد أوجز زندر هذا المنهج، الذي لا يزال مَثار حسد كثير من شركات الخدمات المهنية عالميًّا، وذلك في مقال منشور له في مجلة «هارفارد بزنس ريفيو» بعنوان «طريقة أبسط لدفع الأجور».7

أجَلْ، كل ما سبق كان خيارات مهنية حكيمة (بل بارعة)، غير أن أهم العوامل التي أسهمت في نجاح زندر الشخصي (ولعلك تخَمِّن إلامَ أرمي) هي قدرته على اتخاذ قرارات صائبة عند اختيار الأشخاص؛ لقد بنى زندر، ببساطة، شركة عظيمة من خلال مشاركته شخصيًّا في تعيين كل استشاري للشركة في جميع أنحاء العالم على مَدار عمله كامل الدوام الذي دام ٣٦ عامًا في شركته التي أسسها. ولهذا السبب تواجدت في زيورخ في ذلك اليوم المحطم لأعصاب من عام ١٩٨٦. كان زندر يتخذ قرار اختيار أشخاص، وبالنسبة له كان ذلك أهم شيء على الإطلاق.

كنت القاعدةَ، لا الاستثناء؛ فلم يكن زندر يسمح في الحقيقة بأية استثناءات بشأن دورة المقابلات الإجبارية التي يُجريها عدة أشخاص في عدة دول للمرشحين. وحتى يومِنا هذا، تشترط الشركة أن يُجري عشرات الزملاء من عدة مكاتب مختلفة — بالإضافة إلى رئيس مجلس الإدارة — مقابلات مع جميع المرشحين لمنصب الاستشاري؛ وذلك لضمان وفائهم بالمعايير العالمية الصارمة للشركة وانسجامهم ثقافيًّا مع محيطهم.8

باختصار، أجَلْ، كان زندر رجلًا محظوظًا، أوفر حظًّا من كثيرين. وامتد حظه ليطول إرثه الجيني، لكنه أضاف إلى حظه وجيناته من خلال التطور والاجتهاد. لقد اتخذ خيارات عظيمة بشأن مساره المهني (بل نجح في استحداث مساره المهنيِّ الخاص، وهو إنجاز رائع لو تسنَّى لك). لكن الأهم أنه جعل من نفسه خبيرًا في اتخاذ قرارات صائبة لاختيار الأشخاص.

لاحظ صيغة المبني للمعلوم: جعل من نفسه خبيرًا. كيف اتخذ قرارات صائبة لاختيار الأشخاص؟ لقد حقق ذلك جزئيًّا بابتكار نظام يعتمد على ذكاء وخبرة العديد من ألمع الأشخاص في مؤسسته. أجَلْ، نَعِمَ زندر بمواهب فطرية فيما يخص التعامل مع الناس، لكن صاحَب ذلك أساليب للارتقاء بهذه المواهب.

إن اتخاذ قرارات صائبة لاختيار الأشخاص حرفة يمكن تعليمها وتعلُّمها.

(٣) ما هي سمات المديرين الناجحين

دعنا نُلْقِ نظرة أكثر عمقًا على كيفية تعريف النجاح الفردي.

برأيي، يعد التحليل المقدَّم من باحثي مركز القيادة الخلاقة بمدينة جرينزبورو بولاية كارولاينا الشمالية واحدًا من أفضل التحليلات المعنية بالنجاح الفردي.9 بعد أن قام الباحثون بتحليل مئات الحالات الخاصة باختيار أشخاص لشغل مناصب تنفيذية استنتجوا أن المسئولين التنفيذيين يُعتبرون ناجحين إذا: (١) قدموا أداءً مؤسسيًّا قويًّا و(٢) أقاموا علاقات حسنة، لا سيما مع مرءوسيهم.

وبِناءً على هذا التعريف، على الأقل، يمثل الأداء المؤسسي القوي (وهو محور حديثنا في الفصل القادم) مكونًا ضروريًّا من مكونات النجاح الشخصي. لكن من أين ينبع هذا الأداء المؤسسي القوي؟ إنه ينبع من أفراد المؤسسة القادرين على اتخاذ قرارات صائبة بشأن اختيار الأشخاص، بحيث يختارون شخصًا مثاليًّا في كل قرار. أجل، للاستراتيجية وزن لا يُستهان به، والمنتجات والخدمات المميزة من الأهمية بمكان، والإيداعات النقدية في البنك مصدر مهم للقوة، لكن وراء كل مورد من هذه الموارد — وراء إيجادها وتوظيفها — أشخاص متميزون.

ما الأشياء الأخرى التي تصنع قائدًا عظيمًا ونجاحًا شخصيًّا على مستوى المسار المهني التي بوسعنا أن نتعلمها من أدبيات الإدارة؟ لقد قدم كلٌّ من ماركس باكينجهام وكورت كوفمان ملخصًا لواحدة من أبرز الدراسات المتعلقة بالمديرين الناجحين في كتابهما «أولًا: حطِّم جميع القواعد». قامت هذه الدراسة على مقابلات متعمقة أجرتها منظمة جالوب مع أكثر من ٨٠٠٠٠ مدير فيما يزيد على ٤٠٠ شركة؛ لتصير بذلك واحدة من أضخم الدراسات من نوعها. من بين أبرز النتائج التي خلص إليها هذا الكتاب أنه — خلافًا لآرائنا الشخصية عن ذواتنا — جميعنا محدودو الإمكانيات.10

ما الامتداد المنطقي لهذه الرؤية؟ أزعم أنك لو لم تتمكَّن من الاعتماد على التطور الشخصي وحدَه، فعليك أن تُعيِّن وتُرقِّي أشخاصًا لديهم المواصفات المطلوبة. يتعين عليك أولًا تعيين أفضل الموظفين، وضمان إمكانية نموهم وتطورهم في مواقعهم، ثم مساعدتهم على تحقيق ذلك.

أَتْبَعَ ماركس باكينجهام كتابَه الأول بكتاب ثانٍ بعنوان «الشيء الوحيد الذي تلزمك معرفته … عن الإدارة المثالية، والقيادة المثالية، والنجاح الفردي المستدام». في هذا الكتاب، يناقش ماركس المهارات الأربع التي يجب عليك إجادتها لتصير مديرًا ناجحًا. بدأ باكينجهام كتابه بالتأكيد على ضرورة بدء المديرين باختيار الأشخاص المتميزين.11

بعد الحديث عن المهارات الأربع الأساسية اللازمة للإدارة «الجيدة»، انتقل باكينجهام لتعريف الشيء الوحيد الذي تلزمك معرفته عن الإدارة «المثالية». ما الشيء الذي يأتي على رأس ضروريات الإدارة المثالية؟ على حد تعبير باكينجهام، «اكتَشِف الجانب المتميز في كل شخص واستفِد منه الاستفادة القصوى.» بعبارة أخرى، عيِّن الأشخاص المتميزين ثم ضع الشخص المناسب في الوظيفة المناسبة. هذان نوعان أساسيان من قرارات اختيار الأشخاص.

آخر توصيات باكينجهام في كتابه تتصل بالشيء الوحيد الذي تلزمك معرفته عن النجاح الفردي المستدام، ويقول فيها: «اكتشف ما لا تهوَى فعله، وكُفَّ عنه.» حسنًا، لكي تكف عن فعل ما لا تهوَى، عليك أن تفوِّض غيرك لتنفيذه؛ مما يعني أن عليك إحاطة نفسك بأشخاص أكْفاء. ولنفترض أنك أحببت ما تفعل، لكن مع مرور السنين أصابك الملل، فكيف تنتقل إلى وظيفة أو منصب أفضل؟ مرة أخرى، عليك أن تخلِّف أشخاصًا أكْفاء وراءك لكي يتسنَّى لك ترك مكانك إلى منصب أو وظيفة أفضل. في كثير من الأحوال، يكون إيجاد الخلفاء الأكْفاء شرطًا أساسيًّا للترقية. لهذا السبب أيضًا تحتاج إلى أن تُجيد تعيين أفضل أشخاص وترقيتهم.

(٤) تجاوز إطار البديهيات

إذن تحتل قرارات اختيار الموظفين المتميزين مكانة في غاية الأهمية داخل الهياكل الوظيفية الكبيرة وذات الرؤى التقليدية، لكن حتى في الشركات التي يدير فيها المهنيون عددًا محدودًا جدًّا من الموظفين (كما كان الحال معي دائمًا)، يمكن لقرارات اختيار الموظفين المتميزين أن تؤثر في الفاعلية الشخصية تأثيرًا مذهلًا.

بعد حوالي عام من التحاقي بشركة إيجون زندر إنترناشونال، بدأت في البحث عن مساعد جديد، وقررت أنه بما أنني استشاري بحث تنفيذي فمن غير المنطقي أن أتعاقد مع وكالة لتوظيف المساعدين التنفيذيين. قررت أن أقوم أنا بهذه الْمَهمة.

كانت الخطوة الأولى أن جلست وفكرت فيما أحتاجه حقًّا بدلًا من مجرد افتراض أنني بحاجة إلى شخص يشبه من كان يتولى هذا المنصب سلفًا. بالإضافة إلى ذلك، تناقشت مع بعض الزملاء ذوي الخبرة حول سمات المساعد المثالي، وعدَّلت تفكيري بِناءً على هذه المعطيات. لم يكن نموذج إيجون زندر الذي عيَّن مساعدته الرائعة بريجيت جينتش حين أسس شركته منذ ٤٣ عامًا ولا يزال يعمل معها إلى اليوم — يفارق ذهني.

لذلك أجريت بحثًا عن مساعدي الجديد وكأنني في تكليف من أهم عملائي. لم أحصر بحثي في أولئك الذين يبحثون عن وظيفة، بل درست أفضل الشركات والمناصب المستهدفة، وانتهيت إلى ما يقرب من ٤٠ مرشحًا محتملًا، لم يكن أحدهم يسعى إلى تغيير وظيفته. أجريت مقابلات معهم بنفسي، وحصلت على جهات مرجعية لأفضل هؤلاء المرشحين من أشخاص محل ثقتي. انتابتني الهواجس بشأن قراري النهائي؛ إذ لم أُرِدْ أن يكون مجانبًا للصواب، لا من أجل مصلحتي فقط؛ بل لأجل ذلك الشخص الذي سأعكر صفو حياته بقراري إلى هذا الحد الملموس.

نتيجةً لهذه العملية، وقع اختياري على جوانا إيدِن، والتي كانت مساعدة متميزة على مدار التسعة عشر عامًا السابقة، وصارت مكسبًا حقيقيًّا للشركة. حققت جوانا تحسُّنًا هائلًا في إنتاجيتي وجودة حياتي، وصارت في الحين ذاته شريكًا مهنيًّا مهمًّا وصديقةً رائعةً.

ولذا يرجع الفضل إلى جوانا في تذكيري أنه يتوجب عليَّ التركيز بانضباط شديد على القرارات المهمة المتعلقة باختيار أشخاص، في كل يوم من أيام العمل على مدار حياتي، بالمعنى الحرفي للعبارة. لم يقتصر ذلك على التعيينات الخارجية بل امتد إلى استغلال الموارد داخليًّا. فعلى سبيل المثال، متى لزم الأمر إمداد إحدى فرقنا الداخلية بأفراد — وهي في كثيرٍ من الحالات تكون ارتباطات قصيرة المدى، تدوم بدوام فترة المشروع فقط — كنت أحاول أن أفكر بإمعان شديد فيما يستدعيه المشروع من مهارات وأوجُه تكامُل، وأن أفحص خياراتي المتاحة، وأن أقابل الجهات المرجعية وأتحقق من خلالهم من المعلومات المقدمة على نحو مفصل.

كنت أتبع النهج ذاته عند تقييم الشركاء الخارجيين، كالمؤسسات التدريبية. وبصراحة شديدة، عند اختيار العملاء الذين نعمل لصالحهم.

الطريقة عينها كنت أمارسها في جوانب حياتي غير المهنية كذلك؛ فقد حاولت أن أنتقي مربيات الأطفال، والبُستَانيين بنفس القدر من المنهجية. (أي قرارات اختيار أشخاص تفُوق قرار اختيار المربية أهميةً؟!) وفي حالة طلب مني الآخرون المساعدة، فإني أقدم لهم يدَ العون لتطبيق المنهج نفسه في حياتهم الخاصة. لقد أمضت صديقة لي ما يقرب من عَقد كامل في ألمٍ وهَمٍّ بلا داعٍ بسبب تلقِّيها رعاية طبية رديئة — تشخيص غير دقيق ومن ثَمَّ علاج غير ملائم — فساعدتُها على اختيار الطبيب «المناسب» ذي المهارات المناسبة، وهي الآن في طريقها إلى التعافي.

يروقني الاعتقاد بأني أجيد ذلك، لكن الحق أنني ببساطة قد تعلمت هذه المهارة عبر السنوات. أنت أيضًا بإمكانك تعلُّمها.

(٥) انسَ الخرافة: بإمكانك أن «تتعلم» هذه المهارات

«كل شيء يكمن هنا.»

لطالما سمعت هذه العبارة مرارًا وتكرارًا على مدار حياتي المهنية، ولعلك سمعتها أنت أيضًا. غالبًا ما تتضمن هذه العبارة شخصًا معجبًا بذاته يشير ناحية قلبه بينما يتحدث عن قرارات اختيار الأشخاص. والمعنى الضمني وراء ذلك بالطبع هو أن القرارات الصائبة بشأن اختيار الأشخاص المتميزين تُبنى على الحاسة السادسة.

يعتقد الكثيرون أن القدرة على تحديد أهلية مرشح لشغل وظيفة ما هي إلا فن: نتاج غريزة، أو حَدْس، أو إحساس فطري؛ شيء تعجز عن تفسيره تفسيرًا واضحًا؛ وملَكة لا يمتلكها سوى بعض الأشخاص، فيما يظل الباقون متخبطين. من الغريب أن كثيرين ممن لا يمتلكون أي سبب واضح لتصديق حسهم الفطري لا يزالون يصدقونه؛ بمعنى أنهم يعتقدون أنه عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرارات لاختيار أشخاص فإنهم خبراء بالفطرة. تحضرني دراسة استطلاعية أوضحت أن ٦٥ في المائة من جميع سائقي الولايات المتحدة أشاروا إلى امتلاكهم مهارات تفُوق المستوى المتوسط.12 بل الأسوأ ما كشفت عنه دراسات شملت عدة مئات من المهندسين العاملين في شركتين معتمدتين على التكنولوجيا الحديثة؛ إذ كشفت أن ٣٢ في المائة من المهندسين في إحداهما و٤٢ في المائة من المهندسين في الأخرى صنفوا أداءهم ضمن فئة الخمسة في المائة الأعلى أداءً!13 هذا ما يطلق عليه «تحيز التفاؤل» أو «التفاؤل غير الواقعي».
فضلًا عن استحالة ذلك رياضيًّا (لا يمكن أن يقع ٤ من بين ١٠ مهندسين في فئة الخمسة في المائة الأعلى أداءً)، فإن مثل هذا التفكير تشوبه ثلاثة أخطاء، أولها ذلك التصور بأننا نُجيد التقييم. (فنحن لا نجيده. على سبيل المثال، ما يعتقده الأشخاص حول قدرتهم على كشف كذب الآخرين لا يتطابق مع أدائهم إلا بنسبة ٠٫٠٤.)14 ثانيًا ذلك التصور بأن الأمر غريزي (وهو ليس كذلك). ثالثًا: ذلك التصور أن لا حاجة بك إلى العمل على هذه الملَكة، فإما أن تكون متمتعًا بها أو مفتقرًا إليها (في الواقع، عليك أن تعمل عليها).

لنتعمق أكثر في هذه النقطة.

(٦) خبراء مذهلون!

لكن تمهل دقيقة (ربما يتبادر ذلك إلى ذهنك)، ألا يوجد أشخاص ممن «يجيدون حقًّا» اتخاذ قرارات اختيار الأشخاص؟ ألا يوجد خبراء في هذا المجال؟

أجَلْ، يبرع البعض بالفعل في تقييم الأشخاص، ولا غَرْو أن بعضهم عاملون في شركات البحث التنفيذي، ومثال ذلك شركتنا (ولديَّ يقين أن شركات البحث الأخرى ستشير إلى بيانات مشابهة). خلال دراسة حديثة لتقييم المرشحين الداخليين الذين نالوا ترقية في عدد من شركات عملائنا، عقدنا مقارنة بين النتائج الفعلية التي أحرزها هؤلاء الأشخاص وتوقعاتنا حول تلك النتائج، وكذلك توقعات الشركة نفسها بشأنها، متى توافرت (بمعنًى آخر، أخذنا تقييمنا الخاص بالمرشح الداخلي أو تقييم الشركة الخاص بالمرشح الداخلي أو البيانات المتعلقة بنجاح الشخص الحاصل على الترقية أو فشله بعد عدة سنوات من شغله لوظيفته، ثم قارنَّا المجموعات الثلاث من البيانات). اتضح من واقع هذه الدراسات أن قدرة الشركة على تقييم موظفيها فيما يتعلق بالجدارة الإدارية وإمكانية التطور كانت في بعض الأحوال تصل في تدنيها إلى ٣٠ في المائة، وذلك مقارنةً بنسبتنا التي قاربت ٩٠ في المائة.

بعبارة أخرى، فاقت احتمالية صحة تقييمنا لموظفي الشركة نظيرتها لدى الشركة ثلاث مرات، برغم معرفتها بهم لسنوات وتعاملها معهم يوميًّا.

يتفوق بعض الأشخاص على غيرهم في تقييم المرشحين تفوقًا كبيرًا. على الرغم من توافر أبحاث مهمة بشأن دقة أساليب التقييم المختلفة (بدءًا من التنجيم ودراسة الخطوط ووصولًا إلى أنواع مختلفة من المقابلات، والاتصال بالجهات المرجعية، ومراكز التقييم، والاختبار، وغيرها من الأساليب التي سنطرحها للنقاش في فصل لاحق). فإن الأبحاث التي تتناول تفاوت مستويات الدقة باختلاف الأفراد الذين يطبقون الأسلوب ذاته قليلة. لكن هذه القلة من الأبحاث تشير إلى تفوُّق بعض الأشخاص الملحوظ على بعضهم الآخر حتى عند تطبيق أسلوب التقييم عينه؛ وتفوُّقهم الكبير عند تطبيق الأساليب المُثْلى. يتناول كلٌّ من إيدر وهاريس في كتابهما «دليل مقابلات التوظيف» مسألة ما إذا كان بعض من يُجرون المقابلات أفضل من غيرهم. استعرض الكتاب ست دراسات، خمسًا منها أيدت هذه الفرضية. كشف بعض من تلك الدراسات أن الصدق التنبؤي لدى أفضلهم كان عشرة أمثال نظيره لدى أسوئهم.15
في واقع الأمر، لا مجال للاستغناء عن تقييمات الخبراء (الهادفة إلى تشخيص الأوضاع الراهنة أو التنبؤ بالأداء المستقبلي) في جوانب جمة من الحياة والعمل؛ اختيار استثمارات، تشخيص أوضاع صحية، تقييم مخاطر قانونية، التنبؤ بأداء المرشحين — كل ما سبق ما هو سوى غَيْض مِنْ فَيْض الأشياء التي يستطيع الخبراء — ويجب عليهم — تقييمها. في كتابه «في لمح البصر: القدرة على التفكير من دون تفكير»، كتب مالكوم جلادويل عن جون جوتمان الخبير في التنبؤ بنجاح الزِّيجات أو فشلها. بحسب ما نقله جلادويل، فإن جوتمان، من خلال تحليله لمحادثة مدتها ساعة بين رجل وزوجته، يستطيع أن يتنبأ بإمكانية استمرار زواجهما لمدة ١٥ عامًا مقبلة وذلك بمستوى دقة يبلغ ٩٥ في المائة. وفي حالة لو اقتصرت ملاحظة جوتمان للزوجين على ١٥ دقيقة فقط، فإن معدل نجاحه يبقى في حدود ٩٠ في المائة. كانت الأستاذة سيبِل كارير، التي تعمل مع جوتمان، قد أخبرت جلادويل أن بإمكانهما تحقيق دقة معقولة في التنبؤ بنجاح أو فشل أي زيجة من خلال ملاحظة التفاعل بين الزوجين لمدة لا تزيد عن ثلاث دقائق.16

لذا، أجل، ثمة خبراء؛ لكنهم لا يتخذون قراراتهم بِناءً على الإحساس الفطري. إنهم أشخاص على قدر عالٍ من التدريب والخبرة (ستجد المزيد عن هذه النقطة لاحقًا).

(٧) انسَ التفويض

لعله يدور في ذهنك الآن أنه لو كان هؤلاء الخبراء على هذا القدر من الكفاءة، فربما ستكون أفضل استراتيجية هي، ببساطة، أن نفوض مَهمة تقييم الموظفين إليهم. (هل عليك أن تتخذ قرارًا صعبًا لاختيار الموظفين؟ إذن، اتصل بخبير!)

تواجه هذه الاستراتيجية مشكلتين. الأولى، أن من طبيعتنا أن نحكم على الناس ونصنفهم، حتى في حال عدم استعدادنا لذلك واحتمال إطلاقنا «لأحكام متعجلة» سيئة. ترجع هذه المشكلة إلى ما أشرنا إليه سلفًا من اعتقاد نصفنا بأنهم سائقون ذوو مهارة تزيد عن المتوسط؛ فعندما يتعلق الأمر بالحكم على الأشخاص، فإننا نُهْرَع للمشاركة. يصاب أغلبنا بالتردد حِيال اتخاذ قرار مالي معقد أو استثمار تكنولوجي كبير دون بيانات وافية ونصيحة شافية. لكن عندما نتخذ قرارات تتعلق باختيار الأشخاص، نكون أقل تواضعًا وأكثر ثقة بأنفسنا. هذه حقيقة ينبغي الإقرار بها والتعامل معها.

ثانيًا: برغم أن كثيرًا من الشركات تفخر بأن لديها كوادر أعلى استعدادًا وخبرةً من غيرهم في اتخاذ قرارات اختيار الموظفين (بما فيهم كثير من مديري الموارد البشرية)، غالبًا ما يرغب كبار المسئولين التنفيذيين في إشراكهم شخصيًّا في هذه القرارات، وحُقَّ لهم ذلك؛ لا تفوض غيرك لاتخاذ هذه القرارات الرئيسية لاختيار الموظفين إلا لو اطمأن قلبك لتفويض غيرك في اختيار شريك حياتك. وكما قالها لاري بوسيدي ورام تشاران: «اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب هي المَهمة التي لا ينبغي أن يفوضها أي قائد لسواه.»17

لكن هذا يعني في كثير من الأحوال أن أولئك الذين يمتلكون العلم لا سلطة لهم لاتخاذ هذه القرارات، بينما السلطة بيد من لا علم لديهم. وتلك ليست بالمعادلة المقبولة!

(٨) اعلم عمَّ تبحث

كانت قرارات الموارد البشرية لسنوات عديدة (قبل دخولي هذا المجال بفترة طويلة) تُعتبر ميدانًا محيِّرًا ويصعب تقييده بمعايير مادية، الأمر الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم «الإحساس الفطري»؛ فإما أنك تملكه أو لا تملكه.

هذا الاعتقاد، ببساطة، عارٍ من الصحة؛ فقرارات اختيار الموظفين، كالكثير من التقييمات الأخرى، يمكن أن تخضع لتحليل منهجي وتحسين كبير؛ فلكي يحظى بدقته اللافتة للنظر، عكف جون جوتمان (الذي درس الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وحصل على تدريب أهَّله ليكون عالمًا نفسيًّا) على مؤشرات التنبؤ بنجاح الزيجات أو فشلها بالتحليل المضني العميق على مدار ثلاثة عقود.

الخطوة الأولى هي التركيز على ملاحظة الأمور ذات الأهمية، والتي كانت تعني في حالة جوتمان ما أطلق عليه «الفرسان الأربعة»: الدفاع، والمراوغة، والنقد، والازدراء. ويوضح جوتمان أن الازدراء، من بين هذه المشاعر الأربعة، يفسر معظم الأمر: فكلما ارتفعت مستويات الازدراء بين الرجل وزوجته، تضاءلت احتمالية نجاح الزيجة.

يروي مالكوم جلادويل أيضًا قصة بريندان رايلي، الذي كان يشغل منصب رئيس قسم الطب بمستشفى كوك كاونتي بشيكاجو عام ١٩٩٦. واحدة من أكبر المشكلات التي كان يتعين على رايلي التعامل معها هي تحسين قدرة المستشفى على تحديد ما إذا كان الشخص يعاني بالفعل من نوبة قلبية، أم تبدو عليه فقط أعراض مثيرة للقلق (أو يشكو منها). لا شك أن أمرًا كهذا ليس إلا مسألة حياة أو موت، وقد يرتكب الفريق الطبي خطأً في أي الاتجاهين. بحسب ما نقله جلادويل، فإن بين ٢ و٨ في المائة من الوقت يحصل مريض يعاني من نوبة قلبية حقيقية في مستشفى أمريكي على إذن بالخروج من المستشفى.

ثمة حالات أخرى يبدو فيها الشخص مريضًا بنوبة قلبية، لكنه ليس كذلك، وهي مشكلة أقل خطورة لكنها تبقى مثيرة للقلق؛ إذ تستنفد موارد حيوية. يشير جلادويل إلى أن الأطباء في الوقت نفسه يخشَوْن الوقوع في تقصير وظيفي مما يُضعف من استعدادهم للمجازفة مع المريض، الأمر الذي يُفضي في النهاية إلى أن من بين إجمالي الحالات التي تستقبلها المستشفيات لاشتباهها في الإصابة بنوبة قلبية، يعاني ١٠ في المائة فقط منهم من نوبة قلبية حقيقية.

في ظل هذا الوضع، بذل رايلي جهدًا لعزل المؤشرات القليلة التي ينبغي على الأطباء التركيز عليها، الأمر الذي كان يعني في الحقيقة تحليلًا لقدر أقل من المعلومات، لكن مع مضاعفة التركيز على أهم المعلومات.

يذكر جلادويل أن ما خلص إليه رايلي هو أن على الأطباء الجمع بين دلائل التخطيط الكهربائي للقلب وثلاثة فقط من عوامل الخطر العاجلة (الشعور بالألم، وجود سائل في الرئتين، وضغط الدم الانقباضي). أسهمت هذه القاعدة المبسطة لاتخاذ القرار إسهامًا بارزًا في الحد من الأخطاء بنوعيها؛ إخراج مرضى النوبة القلبية من المستشفى، أو احتجاز أولئك الذين لا يعانون من نوبة قلبية.18

يجب أن تتضح هذه النقطة؛ إن هؤلاء الخبراء لا يَسْتفتون حَدْسهم؛ إنما يحددون المؤشرات الرئيسية ويتفقدونها. تستطيع تطبيق الشيء ذاته فيما يخص قرارات اختيار الموظفين.

(٩) معنى أن تكون خبيرًا

تبيَّن أن مجرد التعرف على تلك المؤشرات وتفقُّدها ليس بكافٍ؛ فمتى عرفت محط تركيزك، يلزمك أن تحدد الأهمية المناسبة لتلك المؤشرات المختلفة، وبعدها عليك أن تستعين بالمفردات الصحيحة لتناقش مع الآخرين تشخيص الحال وتوقُّع المآل في سبيل اتخاذ قرار جمعي صائب. ماذا لو لم يكن بريندان رايلي يتحدث الإنجليزية ولم يكن طاقم مستشفى كوك كاونتي يتحدثون غيرها؟ لن يهم حينَها مدى صحة مؤشراته ولا فاعليته في تحديد أهميتها.

انتقل جلادويل إلى منطقة أقل خطورة في تقييم الخبراء — تذوق الطعام — وراح يناقش كيف يعجِز أغلبنا عن تمييز الفوارق حين يتعرض لاختبار بسيط لتذوق ثلاثة أكواب من الكولا (كوبان من نفس العلامة التجارية وكوب من علامة ثانية). لا شك أن خبيرًا في تذوق الطعام دائمًا ما سيجتاز هذا الاختبار، وغيره الكثير؛ وذلك بفضل قدرته على تمييز الفوارق الطفيفة للغاية بين منتج وآخر، بل التنبؤ بمدى قبول أو عدم قبول الشرائح الاستهلاكية المختلفة لهذا المنتج، والسبب وراء ذلك.

في سبيل الوصول إلى مكانتهم كخبراء، اكتسب ذوَّاقو الطعامِ جدارة هائلة في معرفة الأبعاد المختلفة للمذاق وتقييمها، كما أنهم تعلَّموا مفردات غاية في الخصوصية تمكِّنهم من تقديم وصف دقيق لردود أفعالهم إزاءَ أطعمة محددة.

أشار جلادويل إلى أن المايونيز مثلًا يتم تقييمه على أساس ٦ أبعاد محددة للشكل، و١٠ أبعاد تتعلق بالقوام، و١٤ بعدًا يتعلق بالمذاق، ثم يتم تقييم كل واحد من هذه العوامل المحددة بدوره على مقياس مكوَّن من ١٥ نقطة.19

لا يمثل المايونيز استثناءً؛ حيث يمكن تحليل كل منتج في السوق طبقًا لنفس الطريقة. مع مرور الوقت، يصير التفكير والتحدث بهذا النمط عادة لخبراء تذوق الطعام. بإمكانك مجددًا أن تخمن إلامَ أرمي بهذا المثال. عندما يُقدِم الخبراء على اختيار الموظفين، فإنهم يتبعون (شعوريًّا في البداية ثم لا شعوريًّا بشكل أو بآخر لاحقًا) عملية تتضمن تحليل التحديات القائمة، وتحديد الكفاءات الأساسية الواجب توافرها في المرشح، وقياسها بدقة، والتنبؤ بالأداء، ومناقشة قرارات التعيين أو الترقية مع الآخرين وحسم مثل هذه القرارات على نحو صحيح.

لذا دعوني أطرح سؤالًا، وإن بدا بديهيًّا، ألا تفُوق قرارات اختيار الأشخاص في أهميتها قرارات اختيار المايونيز؟

(١٠) قليل من التعلم يمكن أن يُحدِث نقلةً كبيرة

كل هذا الحديث يدور حول نقطة واحدة؛ لا تفزع من صعوبة تقييم الأشخاص، فلا حاجة لك في الواقع إلى معرفة متخصصة عميقة بالكفاءات ومقاييسها لكي تحرز تحسُّنًا كبيرًا في قرارات اختيارك للموظفين.

رجوعًا إلى مثال الزيجات، يروي جلادويل أن مجموعة من علماء النفس أخذوا شرائط الفيديو الخاصة بمقابلات جوتمان مع الأزواج وعرضوها على أفراد غير متخصصين، وليس بمستغرب أن قدرة هؤلاء على التنبؤ بنتائج الزيجات كانت محدودة للغاية. ثم طلب علماء النفس من الأشخاص أنفسهم أن يعيدوا المحاولة، ولكنهم قدموا لهم هذه المرة مساعدة بسيطة بمنحهم قائمة بالعواطف ذات الصلة التي يلزمهم التركيز عليها. جزَّأ علماء النفس شرائط الفيديو إلى مقاطعَ، مدة كلٍّ منها ٣٠ ثانية، وطلبوا منهم أن يشاهدوا كل مقطع مرتين؛ مرة يركزون فيها على الرجل والأخرى يركزون فيها على السيدة.

طرح جلادويل سؤالًا بلاغيًّا: «تُرَى ماذا حدث؟» ثم أضاف: «حققتْ تقديرات المراقبين هذه المرة دقة تفُوق ٨٠ في المائة في التنبؤ بشأن الزيجات التي ستنجح.»20

كثيرًا ما شهدت بنفسي كيف يتمكَّن المديرون والمسئولون التنفيذيون من تحقيق تحسُّن كبير في تقييمهم للأشخاص بمجرد إجراء مناقشات معهم حول بعض المفاهيم الأساسية المرتبطة بهذا التقييم. لكنك لست ملزمًا بالتسليم بكلامي، هناك أدلة وافرة على إمكانية تعلُّم الكثير في هذا المجال وإمكانية تطبيق ما تعلمته على نحو ناجح. مثال ذلك هو أوسكار ماريل، وهو أحد معارفي الذي حظي بمسيرة مهنية مجزية جدًّا كأحد كبار مديري الموارد البشرية في سيتي بنك؛ إذ عمل في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وأمريكا اللاتينية، ثم قضى فترة ممتعة في مَهمة عمل بالمملكة العربية السعودية. بحسب ماريل، يرجع جزء كبير من هذه المسيرة المهنية الطويلة والناجحة إلى مهارته في مساعدة الرؤساء التنفيذيين في اختيار الموظفين المتميزين.

أكد ماريل كذلك أنه قد تبيَّن له مدى استفادته من التدريب الأوَّلي الذي ناله في مجال الموارد البشرية بسيتي بنك، وأنه لا يزال يذكر بعضًا من جلساته التدريبية الأولى برغم مضيِّ عدة عقود على ذلك. وذكر ماريل أنه كان يقابل في تلك الجلسات ممثلًا محترفًا (مؤديًا دور المتقدم للوظيفة) بينما كان مدربه (يحادثه عبر سماعة دقيقة مثبَّتة) يوجهه بشأن أساليب الاستجواب والتقصي القائمة على السلوك.

لو أتيح لك تحسين قدرتك على تقييم الأشخاص، ألا يجدر بك أن تستغل هذه الفرصة؟

(١١) التركيز طريقك إلى المجد

ربما نميل أحيانًا إلى إرجاع النجاحات العظيمة إلى الهبات الربانية، لكن الحق أنه حتى الناجحون يصيرون أكثر نجاحًا بالممارسة. يذكر جاك ويلش في كتابه «الفوز» أنه عندما كان مديرًا شابًّا كان يتخير الموظفين المناسبين في ٥٠ في المائة من الحالات بينما تحسَّنت هذه النسبة لتصل إلى ٨٠ في المائة بعد ٣٠ عامًا.21

أعتقد أن جاك ويلش كان متحفِّظًا في تقدير دقته التي أحرزها في مرحلة متأخرة من حياته بنسبة ٨٠ في المائة؛ لكن ليس لديَّ أدنى شك أنه لم يحقق هذه الدرجة العالية من الدقة فحسب، بل تمتع بقوة عاطفية تمكِّنه من الاعتراف بارتكاب أخطاء؛ ومن ثم اتخاذ إجراءات حاسمة للتعامل مع التبعات.

دعنا نُلْقِ نظرة أخرى على شركتي كمثال. تمثل شركة إيجون زندر إنترناشونال واحدةً من أكبر شركات البحث التنفيذي وأكثرها احترامًا.22 يتركز عملنا بنسبة تقارب ١٠٠ في المائة على التحديات المتعددة المرتبطة بتقييم الأشخاص. فمن نُعَيِّنه إذن لإجراء هذه التقييمات، والتي يقع كثير منها في المستويات العليا من المؤسسة؟ ربما يفاجئك الجواب. من نُعَيِّنهم لا يأتون أبدًا من خلفيات ذات صلة بالموارد البشرية أو من أية شركات أخرى للبحث التنفيذي. أبدًا! بل عادةً ما نعيِّن أشخاصًا من مجال الاستشارات الإدارية، أو أشخاصًا مارسوا الإدارة عمليًّا على مدار مسيرتهم المهنية بِناءً على افتراض أن بإمكانهم تفهُّم المسائل الاستراتيجية والتحديات الإدارية القائمة.23

أجل، دائمًا ما يكونون من حمَلة الدرجات الجامعية — أو المهنية — ومن أصحاب الخبرات الدولية الثرية ومتصفين بالكفاءة العالية على عدة مستويات، لكن ما أود إيضاحه هنا هو أننا نعيِّن أشخاصًا لا سابقة لهم مطلقًا في تقييم الأشخاص، فنقوم بتعيينهم وتدريبهم، وأنشأنا — بِناءً على هذا النمط — مؤسسة لم تنجح إلا بفضل قدرتها على تقييم الأشخاص.

هذه المهارات إذن تعلُّمها ممكن؛ فلقد تعلمتُها ويمكنك أنت أيضًا أن تتعلمها، وإذا فعلْتَ، فسوف تشهد آفاقك المهنية تحسُّنًا مذهلًا.

(١٢) المفارقة الكبرى

تقف قرارات اختيار الموظفين المتميزين خلف النجاح الفردي؛ ومن ثَمَّ النجاح المؤسسي (وهو موضوع الفصل التالي). أليس من العجيب إذن ألا يحصل على أيِّ تدريب منهجي في هذا المجال سوى قلة قليلة من الأشخاص العاملين فيه؟

كما سبق أن ذكرت في المقدمة، فإن كليات إدارة الأعمال، خاصة على مستوى الدراسات العليا، تميل إلى تقليص الموضوعات المندرجة تحت مادة إدارة الموارد البشرية في العموم، أو التركيز على إدارة الموارد البشرية، في أحسن الأحوال، باعتبارها مجرد فرع ثانوي من ستة مجالات وظيفية؛ إنهم نادرًا ما يُعِيرون اهتمامًا لبناء المهارات المطلوب.

فلا عجب من وجود هذا السجل الضعيف من قرارات اختيار الأشخاص! كيف لنا أن نتوقع من الأفراد حل مشكلات مؤسسية بالغة الأهمية — وأحيانًا بالغة الصعوبة — دون امتلاكهم لأدوات يمكنهم الوثوق بها والاعتماد عليها؟

لقد تحدثت في المقدمة عن الرغبة في عقد استثمارات ناجحة، مثل وارن بافت، دون التمتع بحكمة بافت وخبرته. إن هذا مستحيل! فلتنظر إلى كمِّ التدريب الذي نتلقاه لاتخاذ قرارات مالية لصالح مؤسساتنا. كم دورة تدريبية في المحاسبة والمالية حضرناها؟ (الجواب: ربما كثير جدًّا.) كم تسنَّى لنا ممارسة هذه القرارات من خلال تدريبات ودراسة حالات ونماذج محاكاة، كل ذلك من أجل احتراف اتخاذ تلك القرارات؟ (الجواب: ربما كثير جدًّا.)

بصرف النظر عن التركيز الدراسي غير المتوازن في كليات إدارة الأعمال، فإن لهذا الوضع الغريب تفسيرين على الأقل. أولهما هو أن المهارات التي ترتبط بالأشخاص لا تبرز أهميتها الحيوية إلا بعد فترة طويلة من انتهاء دراساتك النظامية وبعد أن تصبح مديرًا. أما أثناء دراستك، فربما لا تدرك الأهمية الجوهرية لقرارات اختيار الأشخاص. فلِمَ تدرس شيئًا دون وجود حاجة ملحَّة لدراسته؟ بعد ذلك لن يتوفر لك للأسف سوى القليل من الوقت والالتزام لبدء عملية التعلم، وسيكون كثيرٌ من العادات السيئة التي اكتسبتها قد ترسخت، وربما من بينها الميل إلى إطلاق أحكام متعجلة وإشباع تحيزاتك النفسية اللاواعية.

التفسير الثاني لهذه الظاهرة هو الاعتقاد الذي ذكرناه سابقًا بأن هذا المجال فن بعيد عن المعايير المادية، لا مهارة يمكنك أن تجيدها بالتعلم واتباع أفضل الممارسات. وهذا ليس صحيحًا كما اتضح لك. لكن إليك الحقيقة المجردة: «لن تجد مجالًا آخر يمنحك عائدًا استثماريًّا أعلى مقابل ما بذلت من وقت وجهد لتنمية ذاتك.» وكما أوضحتْ ليندا هيل، الأستاذة في جامعة هارفارد، في كتابها «معنى أن تصبح مديرًا» فإن تنمية مهارة إطلاق الأحكام المتبادلة بين الأفراد هي إحدى الخطوات الضرورية للتحول الذاتي، إذا صدقت رغبتك في النجاح كمدير.24

إليك تحديًا آخر: قد لا تتعلم بالضرورة من تجارِبك في قراراتك اختيار الأشخاص، في البداية على الأقل؛ إذ لا يتوفر لك في كثير من الأحوال تقييم فوري وواضح لما اتخذته من قرارات في هذا الشأن؛ فالموظف الذي عينته في منصب ما يتأثر أداؤه بعدة عوامل خارجية، منها ظواهر الاقتصاد الكلي، والفعاليات التكنولوجية، وتحركات المنافسين، وغيرها. علاوةً على ذلك، عندما يتعلق الأمر بتقييم الأداء في منصب رفيع ومعقد، فإن هذا عادةً ما يتطلب وقتًا طويلًا؛ إذ يستحيل التخطيط للتغيرات وتنفيذها وتقييمها بين عَشِيَّة وضُحاها. لأجل تلك الأسباب، لا يتعلم أغلب المديرين من تجارِبهم الشخصية في اتخاذ قرارات اختيار الأشخاص، إلا إذا تلقَّوْا أيضًا شكلًا من أشكال التعليم والتدريب المنهجي في التعامل مع أدوات المهنة الأساسية.

برغم أننا قد لا نتعلم من تجارِبنا، فإننا نظل على ثقة من أن أداءنا على ما يرام، وفي الحقيقة هو ليس كذلك. بل لا ندرك أصلًا نقاط ضعفنا. يكشف أفضل الدراسات التي تناولت إدراكنا لذواتنا عن علاقته بالغة الضعف بالواقع؛ بل إنه في مجال المهارات الاجتماعية المعقدة — حيث عادةً ما يكون التقييم عَرَضيًّا ومتأخرًا ومبهمًا — تصل هذه العلاقة إلى أدنى مستوياتها. (على سبيل المثال؛ تبلغ قيمة العلاقة بين الإدراك الذاتي والواقع فيما يخص الجدارة الإدارية ٠٫٠٤ وتبلغ ٠٫١٧ فيما يخص مهارات التفاعل مع الآخرين.)25

الخلاصة هي أننا لا نتلقى سوى النَّزْر اليسير من التدريب المنهجيِّ على القدرة على اختيار الموظفين المتميزين؛ نتيجةً لانعدام الإدراك المبدئي بأهمية هذه الخيارات ولاعتقادنا الخاطئ أنها مهارة غير قابلة للاكتساب. ثم حين نكون في موضع يؤهلنا للتعلم من الخبرات السابقة، لا يسعنا ذلك. وفوق ذلك كله نحسب أنفسنا على درجة عالية من الكفاءة لاختيار الأشخاص المتميزين، أعلى بكثير من الحقيقة.

(١٣) من النجاح إلى السعادة

حتى الآن حاولت أن أخاطب حساباتك الخاصة بمصلحتك الشخصية؛ وأن أوضح لك لماذا تضمن لك إجادتك لقرارات اختيار الموظفين المتميزين تأثيرًا هائلًا على فرص نجاحك المهني. أرجو أن تكون مقتنعًا الآن أن المسارات المهنية الإدارية اللامعة ليست مبنيةً فقط على الحظ، والتكوين الجيني، والجهد الدءوب للتطور، والقرارات المهنية الصائبة، بل تعتمد أيضًا (بل وأساسًا) على قرارات صائبة في اختيار الموظفين المتميزين تبدأ مع أولى مهامِّك الإدارية، وتزداد أهميتها بترقيك في السُّلَّم الوظيفي. أرجو كذلك أن تكون مؤمنًا الآن أنها مهارات قابلة للتعلم. ويدور أغلب ما بقي من الكتاب حول هذه النقاط.

غير أن الفقرات القليلة التالية تخاطب جزءًا مختلفًا من عقلك، أو ربما قلبك. أريد أن أتطرَّق لأمر يفوق في أهميته مجرد النجاح المهني؛ إنها السعادة الشخصية.

توصَّل الفلاسفة من جميع الثقافات وعبر كل العصور إلى أن الهدف النهائي من الوجود هو السعادة، وأطلق أرسطو على السعادة مصطلح summum bonum أي الخير الأسمَى. صحيح، نحن نسعى إلى أشياءَ أخرى، كالمال أو القوة أو الصحة أو النجاح المهني؛ لكننا نسعى وراء هذه الأشياء لا لذاتها؛ بل لأننا نؤمن أنها ستجلب لنا السعادة (أو الرضا أو القناعة).
أصبحت مسألة السعادة محل تدقيق متزايد في السنوات الأخيرة، وذلك على يد أمثال ميهاي تشيكسينتميهاي،26 ودان بيكر،27 ومارتن إي بي سليجمان. يُعتبر سليجمان، الرئيس السابق لجمعية علم النفس الأمريكية، أحد كبار مؤيدي حركة علم النفس الإيجابي التي تركز على الصحة النفسية بدلًا من الاضطراب النفسي. يعرض سليجمان في كتابه «السعادة الحقيقية» لمعادلة قد تبدو بسيطة لتحقيق مستوًى ثابت من السعادة.28 يشير سليجمان إلى أنه بالرغم من أن العوامل الجينية قد تحدُّ من نطاق سعادتك الممكنة، فإن العوامل المتبقية تخضع لسيطرتك. يذكر سليجمان أن أهم هذه العوامل هي علاقاتك الشخصية ومستوى رضاك عن عملك.

وإليك خلاصة القول الأخيرة في هذا الفصل: «إجادة قرارات اختيار الأشخاص المتميزين ستُحقق لك الأمرين.» ستقوِّي علاقاتك الشخصية وتُحسِّنها وتزيد من رضاك المهني.

لذا فإن اتخاذ قرارات صائبة عند اختيار الأشخاص مهارة حياتية ضرورية وأكثر المهارات حسمًا في تحديد نجاحك المهني وسعادتك الشخصية كذلك.

•••

لا تكتسب قرارات اختيار الأشخاص أهميتها من دورها في تحقيق النجاح الشخصي فحسب بل والنجاح المؤسسي المستدام، وهو ما سيكون محل حديثنا في الفصل القادم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤