الفصل الثاني

الاختيار السليم للموظفين المتميزين: أحد الموارد المهمة لمؤسستك

دعني أستهل هذا الفصل أيضًا بموضوعٍ جانبيٍّ طويل بعض الشيء وذي طابعٍ شخصيٍّ، أعتقد أن هذا هو الموضع الصحيح لطرحه.

عقب تخرُّجي في الكلية بمسقط رأسي الأرجنتين، وحصولي على شهادة جامعية في الهندسة الصناعية، بدأت العمل في العاصمة بوينوس أيريس، والتحقت بوظيفة في سوق ضخمة للبيع بالجملة في مجال الخدمات اللوجستية والعمليات؛ من وجهة نظري، كانت هذه الوظيفة فرصة ذهبية أحسَنَت استغلال نقاط قوتي. وفوق ذلك كله، كنت وقتها أَنْعَمُ بالفعل بزواجي من شريكة حياتي الرائعة، ماريا. باختصار، كنت أعيش عصري الذهبي. كل ما كان عليَّ فعله آنذاك هو أن ألتحق بواحدة من أفضل كليات إدارة الأعمال في العالم وأنالَ درجة الماجستير في إدارة الأعمال، وأبدأ رحلة صعودي إلى الدرجات العليا في عالم الأعمال والشركات.

لكني واجهت مشكلة؛ لم أكن أملك ثروة شخصية، وبرغم تخرُّجي في جامعتي مع مرتبة الشرف فإني لم أَرَ بَصِيصًا من أمل في حصولي على منحة دراسية تتكفل بدراساتي العليا في الخارج. تقدمت للالتحاق بأبرز كليات إدارة الأعمال في الولايات المتحدة، وبعثت بنماذج طلب منحة دراسية لبضعة برامج مانحة قبلت طلبات أفراد في مثل وضعي، لكن دون أن أعلِّق أملًا كبيرًا على ذلك الأمر. بدا لي وكأن الْمَطاف انتهي بي إلى ضرب رأسي في سقف عجزْتُ عن اختراقه.

في إحدى الليالي في منتصف عام ١٩٨٠، ولدى عودتنا أنا وماريا إلى البيت بعد تناول العشاء مع بعض الأصدقاء، فوجئنا عند الباب بمظروف أبيض كبير، غيرَتْ مرفقاتُه حياتي إلى الأبد. وجدت داخل هذا المظروف خطابًا بحصولي على «منحة الهيئة الدولية للهاتف والبرق»، وهي واحدة من البرامج المانحة البعيدة المنال التي تقدمت للحصول عليها. لا تُقدَّم مثل هذه المنحة في الأرجنتين سوى مرة واحدة كلَّ عامين، وتتكفل بسداد تكاليف عامين من الدراسات العليا في أي جامعة بالولايات المتحدة الأمريكية!

وقع اختياري على جامعة ستانفورد.

تبيَّن أن مباشرة دراستي في كلية الدراسات العليا في إدارة الأعمال بجامعة ستانفورد تحدٍّ حقيقي. يقال إن الطلاب في عامهم الأول من الدراسة في كلية الدراسات العليا للحصول على ماجستير إدارة الأعمال يمرون بثلاث مراحل متتابعة: قلق ثم غضب وأخيرًا لا مبالاة. لكنني، في جميع الأحوال، لم أتجاوز قَطُّ مرحلة القلق. كنت مدركًا تمام الإدراك ما أشهده من درجات عالية من القلق؛ لكني كنت أقل قلقًا، على الأقل في البداية، لشيء آخر كان يَعْتَمِل داخلي. كنت ألقى يوميًّا كثيرًا من العقول المتَّقِدة الذكاء، لا على مستوى الأساتذة المرموقين فقط، بل زملائي من الطلاب الاستثنائيين أيضًا. لم يكن بوسعي إلا أن أفسح المجال لآفاقي؛ الأمر الذي ولَّد لديَّ فضولًا متزايدًا حول المسائل الكلية. عندما أبرز فضولي أفضلَ ملَكاتي، تراجع قلقي، وعندها بدأ يتشكل اهتمامي بمصادر النجاح المؤسسي. ما أسباب نجاح المؤسسات وفشلها؟

أمضيت العطلة الصيفية الفاصلة بين العام الأول والثاني من دراستي في كلية الدراسات العليا في إدارة الأعمال في إسبانيا؛ حيث عملت في شركة ماكنزي آند كومباني التي عُدت إليها عقب تخرُّجي لأعمل بها لمدة ثلاث سنوات كمدير تعاقدات في إسبانيا وإيطاليا. أسهمتْ هذه التجربة في مجال الاستشارات الإدارية في تحفيز حبي للاطِّلاع على الأسباب الحقيقية وراء النجاح المؤسسي.

واقع الأمر أن بعضًا من أفضل الإجابات عن هذا السؤال الذي كان يشغلني آنذاك قد تلقيتها بعد مرور بضع سنوات من أُناس تصادَفَ وجودهم في جامعة ستانفورد في نفس وقت وجودي هناك (إما بصفتهم أساتذة أو زملاء في فرقتي وقسمي) ومن أناس من شركة ماكنزي وجامعة هارفارد أيضًا.

(١) ما هي مقومات النجاح؟

مما أدركته تدريجيًّا فيما تلا ذلك من أعوام، على مدار رحلتي التي دامت ٢٥ عامًا سعيًا وراء إجابات عن النجاح المؤسسي، أن هذا السؤال — ما هي مقومات النجاح؟ — لم يتناوله تناولًا جادًّا سوى ثُلَّة قليلة جدًّا من الأشخاص.

ضم عدد يوليو-أغسطس ٢٠٠٥ من مجلة هارفارد بزنس ريفيو (عدد خاص مزدوج معنيٌّ بالمؤسسات العالية الأداء) مقالًا رائعًا عن المقصود بالشركة العالية الأداء، بقلم كبير المحررين جوليا كيربي.1 قدمت كيربي تأكيدًا بأنه على مدار الألف عامٍ الأولى من تاريخ الأعمال التِّجارية — على الأقل حين كانت الأعمال التِّجارية تُدار نوعًا ما على النحو المعهود الآن — لم يسبق قَطُّ أن طرح أحد هذا السؤال الذي يفرض نفسه؛ ما هي مقومات النجاح؟ ذكرت كيربي أن استعراضًا لما نشرته مجلة هارفارد بزنس ريفيو خلال ٨٣ عامًا يكشف عن أن السؤال طُرِح للمرة الأولى في أوائل الثمانينيات، في غضون تلك الفترة التي شهدت نشر كتاب «بحثًا عن الامتياز» من تأليف توم بيترز وبوب ووترمان.

لماذا تأخر ذلك ألف عام؟ أشارت كيربي إلى الصعوبات الجوهرية في تعريف وحدة التحليل، ومن يُطلَق عليه «ناجح»، وما الذي يشكل نمطًا، وما إذا كانت الإجابات عالمية الطابع، وما إذا كان الأداء المتميز مرتبطًا بتوقيت معين أم لا، غير أنها خلصت في النهاية إلى أن هذا المسعى لا يبدو محالًا وأن ثمة فرصًا لتحقيق إنجاز في المستقبل القريب. في سبيل دعم هذا القول، أشارت إلى كتابين ممتازين نُشِرا أخيرًا؛ الأول بقلم جيم كولينز وجيري بوراس، والثاني اشترك في تأليفه كلٌّ من ويليام جويس ونيتين نوريا وبروس روبرسن.

حسنًا، لقد عرفت كثيرًا من هذه الشخصيات، إما شخصيًّا أو لذيوع صِيتهم. مثلًا بينما كنت في ستانفورد أعاني القلق وأكافح، كان جيم كولينز نفسه أحد زملائي. أُعجبت خلال هذه المرحلة بكولينز إعجابًا عظيمًا؛ وذلك لسببين محددين وغير مرتبطين. أولهما أنه — بخلاف بقيَّتنا — كان يطرح أسئلته على الأساتذة بحكمة ووضوح وشجاعة. ثانيهما، أنه كان وَلوعًا بتسلُّق الصخور، وكثيرًا ما كنت تراه متسلقًا الجدران الخارجية لمبنى كلية الدراسات العليا لإدارة الأعمال.

في نفس الوقت كان جيري بوراس أحد أساتذتي، ثم صار بعدَها بسنوات شريكًا لكولينز في تأليف «مؤسسات نشأت لتبقَى» وأشارت إليه كيربي باعتباره أحد أهم المصادر التي استعانت بها عند كتابة مقالها. أما عن دوره مهنيًّا، فقد كان بوراس أحد أوائل الأشخاص الذين ساعدوني في أن أبدأ التمعُّن في مسائل الأداء المؤسسي. كان علينا — نحن طلابه — أن نكتب «سجل تفاعلات» طوال الفصل الدراسي، وكان بوراس يعاينه بانتظام. بدأت — بتحفيز من بوراس — أُدرك حجم التأثير المباشر والقويِّ لتلك العوامل غير المادية — والتي طالما استهنْتُ بها نتيجةً لخلفيتي المتخصصة في الموضوعات المادية المرتبطة بالهندسة والعلوم — على نجاح المؤسسات أو فشلها.

عاد جيم كولينز إلى كلية الدراسات العليا لإدارة الأعمال، بعد سنوات قليلة من تخرُّجه من ستانفورد مدفوعًا بحبه الدءوب للمعرفة؛ ليبدأ مسيرته في البحث والتدريس، وما لبث أن نال جائزة التدريس المتميز. وبعد مُكْثه سبع سنوات في مدينة بالو ألتو عاد إلى مسقط رأسه في بولدر بولاية كولورادو لينشئ معمل أبحاث في فصله المدرسي الذي حضر فيه سنته الدراسية الأولى. صار كولينز باحثًا وكاتبًا مستقلًّا، وبخلاف ما قد يعتقده الآخرون رهانًا خاسرًا، أصدر كولينز كتابين من أكثر الكتب مبيعًا، وهما على التوالي: «مؤسسات نشأت لتبقى»2 الذي شاركه جيري بوراس في تأليفه و«من الجودة إلى الامتياز».3
يدور كتابه «مؤسسات نشأت لتبقى» حول المتغيرات التي تُميز رواد النجاح عن المتخلفين عن رَكْبه، أما في كتابه «من الجودة إلى الامتياز» فيأخذ كولينز وفريقه البحثي هذا المفهوم ويَمْضون به قُدُمًا، واصفين كَوْكبة من الشركات المتميزة التي خطت خطوات واسعة وحققت نتائج عظيمة ثم حافظت عليها على مدار ما لا يقل عن ١٥ عامًا. وكما أشار كولينز مؤخرًا:

لقد استخدمنا أسلوبًا بحثيًّا صارمًا يعتمد على الزوج المتطابق، وعقدنا مقارنة بين شركات أحرزت نجاحًا مع مجموعة مرجعية تضم شركات لم تحققه، واستخلصنا استنباطات تجريبية مباشرةً من البيانات. وفي «من الجودة إلى الامتياز»، درسنا الشركات التي حققت قفزة في أدائها لتنتقل من الأداء الجيد إلى الأداء المتميز وحافظت عليه لمدة لا تقل عن ١٥ عامًا، وقارنَّا هذه الشركات بأخرى لم تحقق قفزة مشابهة في أدائها، ثم طرحنا سؤالًا بسيطًا: ما الأسس التي تفسر هذا التفاوت؟

عندما درسنا بنك ويلز فارجو مثلًا مقارنةً بشركة أخرى خلال حقبة رفع القيود التنظيمية، وجدنا أن ديك كولي، رئيس البنك التنفيذي، ركز على الموظفين أولًا، بينما لم يفعل ذلك المديرون محل المقارنة، فبدلًا من وضع استراتيجية أولًا للتعامل مع الاضطراب المصاحب لرفع القيود، شكل كولي فريقًا هو الأفضل في مجال البنوك والأكثر قابلية للتكيُّف مع المتغيرات. علَّق كولي على ذلك قائلًا: «هكذا تبني المستقبل. لو لم أكن لَمَّاحًا بما يكفي لرؤية التغيرات الآتية، فإن هذا الفريق سيراها، وسيَتَّسِم بالمرونة الكافية التي تؤهله للتعامل معها.» تفهَّم ديك كولي أن صمام الأمان الوحيد ضد المجهول في هذا العالم المتقلب هو الاستعانة بالأشخاص المناسبين القادرين على التكيف مع معطيات العالم أيًّا كانت، تمامًا كما تُبقي متسلقين متمكِّنين بجانبك على سفح جبل ضخم محفوف بالمخاطر والمفاجآت.

تكمن قوة بحثنا في أسلوب الزوج المتطابق؛ لقد درسنا الشركات التي صارت متميزة مقارنةً بتلك التي أخفقت في تحقيق التميز في نفس البيئة. ثمة فرص للتميز في كل بيئات العمل الصعبة تقريبًا، سواءٌ أكانت في مجال الخطوط الجوية، أم المصارف المحررة من اللوائح التنظيمية، أو صناعة الصلب، أو التكنولوجيا الحيوية، أو الرعاية الصحية، أو حتى المؤسسات غير الهادفة للربح. تواجه كل شركة مجموعة مختلفة من العوائق الصعبة، غير أن بعض الشركات تنطلق، بينما تركد أخرى تواجه التحديات البيئية ذاتها. لعل هذه النقطة أهم ما ناقشه كتاب «من الجودة إلى الامتياز»؛ فالامتياز ليس وليد الظروف بل تبيَّن أنه — إلى حد كبير — اختيار واعٍ والتزام.4
اكتشف كولينز وفريقه أدلةً دامغة تثبت أن القيادة المتميزة والقدرة على تشكيل فرق تنفيذية متفوقة هما الشرطان الضروريان والأساسيان لتحقيق الأداء المؤسسي اللافت. وكما ذكر كولينز مُوجِزًا في هذا السياق، حين يسعى القائد لبناء شركة ممتازة:
… فإن قرارات اختيار الموظفين تأتي على رأس قائمة أهم القرارات. إن قادة الشركات محل دراستنا، الذين حفزوا التحول من الأداء الجيد إلى الأداء المتميز، طبقوا قاعدة ««مَن؟» أولًا»: اجعل أولًا الأشخاصَ المناسبين يستقلُّون الحافلة وأَنزِل غير المناسبين، ثم ضع الشخص المناسب في المقعد المناسب، ثم قرر بعدها وِجْهة الحافلة. تَوَخِّيًا للوضوح، هذه القاعدة ليست الشرطَ الوحيد لبناء شركة عظيمة؛ فهي واحدة من ثمانية مفاهيم اكتشفناها في بحثنا. لكنها أول الشروط، وحتى تُشغَل ٩٠٪ إلى ١٠٠٪ من مقاعدك الأساسية بالأشخاص المناسبين، ليس أمامَك ما هو أهم من ذلك.5
بعبارة أخرى، قرارات اختيار الموظفين هي المفتاح؛ فهي أساس الأداء المؤسسي الرائع بجميع أشكاله تقريبًا.
وماذا عن الكتاب الثاني الذي سلطتْ كيربي الضوء عليه في مقالها؟ في الدراسة التي تحمل اسم «عوامل النجاح الأكيد»6 (وهي دراسة رائدة لأفضل شركات العالم واستغرقت خمس سنوات)، طرح كلٌّ من ويليام جويس، ونيتين نوريا، وبروس روبرسن (بل أثبتوا في رأيي) ذلك الزعم المثير للدهشة نوعًا ما بأنه لاختيار رئيس الشركة التنفيذي أثر كبير على ربحية الشركة، وأن أهمية هذا الخيار لا تقل أهمية عن القرار الخاص باستمرار الشركة في مجالها الحالي أو الانتقال إلى مجال آخر. برغم ميل البعض — في أعقاب بعض الفضائح الأخيرة في أوساط قطاع الشركات — إلى الحط من أهمية القيادة المؤسسية أو الاستهانة بها، فإن جويس ونوريا وروبرسن لم يتبعوا هذا النهج.
أكدت عدة دراسات أخرى، كتلك التي أشار إليها ثلاثة استشاريين في شركة ماكنزي في كتابهم «الحرب لأجل المواهب»، أكدت أن أفضل الشركات، طبقًا للنتائج والسمعة، تُبدي بشكل واضح التزامًا ومهارةً أكبر بشأن اختيار الموظفين المتميزين.7

الآن اتضحت الفكرة لك. ثمة عدد متزايد من الأبحاث رفيعة المستوى يشير بقوة إلى أن اختيار الموظفين المتميزين هو المحرك الرئيسي للأداء المؤسسي، وقد يكون أهم عامل في تحقيق الأداء الممتاز.

إن قرارات اختيار الموظفين المتميزين هي التي تصنع الفارق.

(٢) الأمور الجديرة بالاهتمام

لنفترض أنك ترغب في التسليم بالنظرية القائلة بأن قرارات اختيار الموظفين المتميزين هي التي تصنع الفارق المؤسسي، أو التفكير فيها على الأقل. لكن قد تظل تتساءل ما إذا كانت هناك عوامل مؤسسية أو ممارسات إدارية أخرى تؤثر — مجتمعةً أو منفردةً — تأثيرًا أكبر على أداء الشركات؟ هل يتمحور «الأمر بِرُمَّته» حقًّا حول الموظفين ولو حتى على نحو أساسي؟

حين باشرتُ عملي مع ماكنزي في أوروبا، كانت أولى المهام التي أُوكلت إليَّ هي العمل مع سلسلة كبيرة للبيع بالتجزئة؛ كانت تعاني من ضعف الأداء مقارنةً مع منافسها المباشر. وكما هو معهود، نفذنا جميع أنواع التحليلات المرتبطة بالربحية على مختلف المتاجر. وما أثار دهشتنا أننا وجدنا أن بعض متاجر السلسلة كانت تخسر كلَّ عام منذ افتتاحها، وبدا واضحًا كذلك أنه ما من أمل في تحسين ربحية هذه العمليات الخاسرة؛ ويرجع ذلك جزئيًّا إلى وجودها في مدن تبلغ من الصغر بحيث لا تدعم وجود هذه المتاجر.

لكننا رأينا صورةً أكثر تعقيدًا في متاجر أخرى؛ فعلى سبيل المثال، كان أحد هذه المتاجر يقع عمليًّا في الجهة المقابلة من متجر منافس، وكان متجر عميلنا يتهاوى بينما بدا منافسُه مزدهرًا. كان عميلنا يعتقد أن المتجر في حاجة إلى مزيد من الدعاية لجذب مزيد من الزبائن. لكننا بادرناه قائلين: «تمهَّل قليلًا. هل أنت واثق من تقديمك التشكيلة الصحيحة من المنتجات والخدمات؟»

قررنا أن نُجريَ تحليلًا بسيطًا جدًّا؛ أحصينا عدد الزبائن الخارجين من كلٍّ من المتجرين، وكذا أحصينا عدد من يغادرونه حاملين حقيبة تسوق. اتضح من هذا التحليل أن عدد الزبائن لم يكن مختلفًا بالقدر الكبير؛ لكن عدد حقائب التسوق الخارجة من المتجرين كان متفاوتًا تفاوتًا شاسعًا؛ تقريبًا كلُّ من ارتاد المتجر المنافس خرج مبتاعًا شيئًا ما، في حين لم يشترِ زوار متجر عميلنا أي شيء.

من الواضح أن وضع مزيد من الاستثمار في أنشطة دعائية، في ظل هذا الموقف، لن ينجم عنه سوى مزيد من الزبائن الساخطين، وربما لن يعاود أغلبهم زيارة المتجر. كان جليًّا أن الأولوية الأولى هي لعلاج المشكلات المتعلقة بتنسيق المكان، وتشكيلة المنتجات، ومستوى الخدمات. ولتنفيذ ذلك، كان من اللازم تغيير الإدارة العليا. لماذا؟ لوجود أوجه قصور واضحة على مستوى كبار المسئولين التنفيذيين، لا سيما في الجانب التِّجاري (المسئول عن تنسيق المكان وتشكيلة المنتجات) وفي الجانب التشغيلي (المسئول عن الخدمات).

إذن، لم تكن المشكلة متعلقة بالاستراتيجية، ولا الموقع، ولا الوضع الاقتصادي الكلي، بل كانت مشكلة أفراد! كان الأفراد في الإدارة العليا عاجزين عن إجراء تشخيص أساسي وبسيط للوصول إلى سر الأداء الضعيف لمتجرهم، فضلًا عن أداء مهامهم كما ينبغي. كما كان أولئك العاملون في الخطوط الأمامية لخدمة الزبائن مفتقرين تمامًا للقيادة الفعالة.

إن تجربتي الأولى مع ماكنزي، للأسف، كانت تمثيلًا لباقي سنوات عمري التي أمضيتُها كاستشاري إداري، من بدايتها حتى النهاية. كانت المشكلات، بلا استثناء، ترجع إلى الأشخاص. آخر مشروع تولَّيْتُه كان مع شركة تُنتج مجموعة كبيرة من المنتجات البلاستيكية الرقائقية، بدءًا من ورق الحائط، مرورًا بالأدوات القابلة للنفخ، حتى الأقراص المرنة. وكانت الشركة تتكبد خسائر تبلغ إجمالًا ٢٠ في المائة من مبيعاتها. ونتيجةً لمشكلات تواجهها مع اتحاد العمال في مرحلة حساسة للغاية، لم يكن بإمكانها وقف التشغيل ولا تسريح عدد كبير من الموظفين. ونظرًا لأن الشركة كانت جزءًا من مجموعة كبرى، فقد كانوا سيرضون بمجرد وقف نزيف الخسائر، دون الاستغناء عن أي موظفين إن أمكن.

أجرينا مجددًا تحليلاتنا الأساسية لتقدير الربحية حسب المنتج، والعميل، وقناة التوزيع. وكانت النتائج صادمة؛ فبعض المنتجات كانت تحقق هامش ربح سالبًا بمقدار ٢٠٠ في المائة؛ أي إن ما كلفهم ٣٠٠ دولار لإنتاجه كانوا يبيعونه مقابل ١٠٠ دولار فقط! كانت الشركة تستعين بجهة توزيع مملوكة لها لطرح ثلث إنتاجها في السوق؛ لكنها عديمة الكفاءة، لدرجة أن الشركة ستكون أفضل حالًا لو استغنت عنها، حتى لو افترضنا أنه يتعين على الشركة: (١) الاستمرار في سداد رواتب موظفي التوزيع مقابل عدم قيامهم بأي شيء على الإطلاق، و(٢) تحَمُّل هبوط حجم المبيعات بمقدار الثلث. أوصينا، إزاء هذه الحالة خصوصًا، بعدة أمور؛ منها تغيير الرئيس التنفيذي، وهو ما تم بنجاح.

في جميع التكليفات الكبرى التي كُلفت بها في ماكنزي، تكرر هذا النموذج: المشكلة الرئيسية تكمن في سوء التشخيص والتنفيذ نتيجةً لتولِّي الأشخاص غير المناسبين لمقاليد الأمور.

لعلك تظن أن هذا النوع من الأدلة القائمة على التجارب الشخصية لا تَرْقَى لتكوِّن نظرية، وأن خبرتي الشخصية هي نتاج عملي مع قائمة رديئة من العملاء. لكن هل توجد أية أبحاث أكاديمية مقنعة تُقدم حُجَّة دامغة على تمحور الأمر بِرُمَّته فعليًّا — أو حتى أساسيًّا — حول الأشخاص؟

«عوامل النجاح الأكيد» — الكتاب الثاني الذي أشارت إليه كيربي — يتناول هذا السؤال على وجه الدقة؛ محللًا عشر سنوات من البيانات المتصلة بهذا الصدد، والخاصة بمائة وستين شركة وأكثر من مائتي ممارسة إدارية. توصَّل مؤلفو الكتاب الثلاثة إلى استنتاجٍ مَفاده أن قدرًا ضئيلًا فقط من هذه الممارسات يحقق فارقًا قابلًا للتقييم في الأداء المؤسسي، ولخصوا نتائجهم في صورة معادلة «٤ + ٢». يزعم المؤلفون أن هناك أربع ممارسات أساسية يجب اتباعها على مستوى الاستراتيجية، والتنفيذ، والثقافة، والتنظيم، وأن هناك أربع ممارسات ثانوية ينبغي اتباع أيِّ اثنتين منها. تشمل الممارسات الثانوية: ملَكات الموظفين، والقيادة والحوكمة، والابتكار، وعمليات الدمج والشراكة.

وبالنظر إلى هذا الكتاب، توصلت إلى استنتاج آخر: أغلب هذه الممارسات (سواءٌ أكانت أساسية أم ثانوية) تتعلق أساسًا — بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة — بقرارات اختيار الموظفين. أرى من وجهة نظري أن أربعةً على الأقل من هذه الجوانب تتعلق فقط بقرارات اختيار الموظفين، وهي التنفيذ، والثقافة، والملَكات، والقيادة. وماذا عن بقية الجوانب؛ الاستراتيجية مثلًا؟ حسنًا، مما يسترعي الانتباه أن كبرى شركات الاستشارات الاستراتيجية ينظرون الآن إلى القيادة باعتبارها عاملًا أساسيًّا في التنفيذ الناجح للاستراتيجيات، بل نقطة الانطلاق في وضع هذه الاستراتيجيات.8

إن قرارات الاختيار السليم للموظفين هي السر.

(٣) استشر خبيرًا

أحسب أن بالإمكان أن نستنتج بثقة أن كبار المنظِّرين في عالم الأعمال يؤمنون بالأهمية البالغة لقرارات اختيار الموظفين. لكن ماذا عن الأفراد العاملين في الخطوط الأمامية للشركات؟ أيعتبرون هذه القرارات بمنزلة أولويتهم الأولى والعامل الرئيسي في تحديد نجاحهم أو فشلهم؟

دعنا نتناول حالة واحدة كمثال. إذا استطلعت آراء ممتهِني الأعمال التِّجارية المعاصرين بشأن تحديد أنجح قائد في عالم الأعمال في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنني على يقين بأن المركز الأول سيكون — بلا منازع — من نصيب جاك ويلش، الرئيس التنفيذي السابق لشركة جنرال إلكتريك.9

منذ بضع سنوات نلت فرصة التعاون مع جاك ويلش وزوجته سوزي في وضع الفصل الخاص بتحقيق التوازن بين الحياة المهنية والحياة الخاصة، وهو أحد فصول كتابهما الأكثر مبيعًا «الفوز». وخلال بعض لقاءات المتابعة التي أجريناها في منزلهما ببوسطن، تناقشنا بشأن خططي لهذا الكتاب، واستنبطت من ويلش رأيه في المحور الأساسي الذي طرحته. كان بإمكاني، مما عرفته عن مسيرته المهنية، أن أتوقع إيمانه الراسخ بالأهمية المحورية لقرارات اختيار الأشخاص؛ لكن ما لم أتوقعه هو مدى عمق ما يشعر به إزاء هذا الموضوع. لقد تحدث باستفاضة وبشغف عظيم عن أهمية تعيين الأشخاص المناسبين في المناصب المناسبة، ومما أخبرني به قوله: «بوسعك الاستعانة بأعظم الاستراتيجيات في العالم، لكنها ستظل عديمة الجدوى ما لم تستعن بالأشخاص المناسبين.»

من واقع خبرتي وعملي مع «آلاف» المسئولين التنفيذيين بالمعنى الحرفي للكلمة، تُعد آراء ويلش القاعدةَ، لا الاستثناء. إن القرارات الصائبة لاختيار الموظفين المتميزين تَصنع الفارق.

إذن يتضح أن كلًّا من كبار المنظِّرين في عالم الأعمال والعاملين في الخطوط الأمامية يَرَوْنَ أن الأولوية الأولى لتحقيق النجاح المؤسسي هي اتخاذ القرارات الصائبة لاختيار الموظفين المتميزين. لكن ربما لا تزال تتساءل عن الأهمية الفعلية لهذه الملحوظة. أيمكن حقًّا أن تكون الطريقة الحالية لمزاولة الأعمال بهذا السوء؟ وهل لهذه القرارات تلك الجدوى العظيمة فعلًا؟

(٤) الطريق نحو الفشل المؤسسي

أغرقتنا الصحافة العالمية على مدار العَقد المنصرم أو نحو ذلك بفيض لا يكاد ينقطع من القصص التي تتناول نماذجَ من التقاعس، والإخفاق، بل الفضائح، على مستوى الإدارة العليا؛ فقد نشرت مجلة فورتشن، مثلًا، في صيف عام ١٩٩٩ على غِلافها قصة إخبارية لافتة للانتباه (وكئيبة) عن إخفاقات الرؤساء التنفيذيين. واستعرض المقال، من دون مبالغة، العشرات من حالات الأداء التنفيذي الْمُقصِّر على مستوى الإدارة العليا. أكد المقال أن من أبرز أسباب فشل هؤلاء الرؤساء التنفيذيين هي تلك الصعوبة البالغة التي واجهوها عند تعيين أفراد في المناصب العليا.

ثم طرح كاتبو المقال سؤالًا بلاغيًّا قائلين: «كيف أساء الرؤساء التنفيذيون التعامل مع هذه الصعوبة؟ بإخفاقهم، بالدرجة الأولى، في تعيين الأشخاص المناسبين في المناصب المناسبة، وما ارتبط به من إخفاق في معالجة المشكلات المتعلقة بالموظفين في الوقت المناسب.»10

لقد أصابت المجلة كَبِد الحقيقة؛ فمن واقع تَجارِبي الكثيرة في البحث التنفيذي والتقييم الإداري ولقاءاتي وعملي مع عشرات الآلاف من المديرين والمسئولين التنفيذيين، ليس لديَّ أدنى شك بشأن أهم أسباب فشل الشركات الكبير: القرارات غير الصائبة في اختيار موظفي المناصب العليا؛ فتعيين الأشخاص غير المناسبين في مناصب مهمة يؤدي إلى إخفاق الشركة، الذي يؤدي بدوره إلى المزيد من الإخفاقات الفردية، وقرار خاطئ واحد (أو اثنان أو ثلاثة) يولِّد المزيد والمزيد من أمثاله؛ ليشكل سلسلة من الإخفاقات.

لعل الرؤية الأشمل للطريق نحو الفشل المؤسسي هي تلك التي تناولها سيدني فينكلستين في كتابه الصادر عام ٢٠٠٣ بعنوان «السر وراء إخفاق المسئولين التنفيذيين الأذكياء».11 أشار فينكلستين، في سياق تحليله لملابسات الإخفاق المؤسسي، إلى أربعة طقوس انتقالية رئيسية تمر بها الشركات: إقامة مشروعات جديدة، والتعامل مع نتائج الابتكار والتغيير، وإدارة عمليات الدمج والاستحواذ، ومواجهة الضغوط التنافسية الجديدة. قد تبدو جميع هذه الانتقالات مختلفة تمامًا في ظاهرها، لكن لو ألقيت نظرة عميقة عليها ستجد أن كلًّا منها يحتاج إلى مهارات جديدة؛ مما يعني بدوره أن شخصًا ما ينبغي أن يُولِيَ عناية فائقة بالفريق المعني بتنفيذ المطلوب؛ أي، بعبارة أخرى، ينشأ أغلب الإخفاقات المؤسسية مباشرةً عن عجز المؤسسة عن وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.

وفي محاولته لتحليل الأسباب التي تقف وراء الإخفاق التنفيذي، وضع فينكلستين قائمة من أربعة عناصر: خلل عقليات المسئولين التنفيذيين (بما في ذلك التصورات المغلوطة عن الواقع)، تبَنِّي مواقف قائمة على توهُّمات (مما يساهم في بقاء التصورات المغلوطة عن الواقع)، وانهيار قنوات الاتصال اللازمة لإيصال المعلومات العاجلة، وسمات شخصية (تضم نقاط ضعف في القيادة) تحُول دون تعديل هؤلاء المسئولين المخطئين لمسارهم.

ما هو القاسم المشترك؟ إنه الأشخاص مجددًا. يقف الأشخاص وراء ثلاثة على الأقل من هذه الأسباب الأربعة، بينما يمكن تجنُّب السبب الرابع (انهيار قنوات الاتصال) في جميع الأحوال تقريبًا إذا وُجِدَ الأشخاص المناسبون.

لماذا عرَّجنا على منطقة الفشل؟ لأنها ببساطة طريق آخر لطرح التساؤل حول مصادر الأداء المؤسسي والإجابة عنه أيضًا. ما الذي يؤدي إلى الفشل المؤسسي؟ قرارات اختيار الموظفين غير المناسبين. ما الذي يؤدي إلى تميز الأداء المؤسسي؟ قرارات اختيار الموظفين المتميزين.

(٥) معدلات نجاح غير مبشرة

شدد الراحل بيتر دراكر، في مستهل مقاله الرائع «كيفية اتخاذ قرارات اختيار الموظفين» المنشور في هارفارد بزنس ريفيو في ١٩٨٥، على الأهمية الحيوية لقرارات اختيار الموظفين المتميزين. كتب دراكر قائلًا: «إن الوقت الذي يُمْضِيه المسئولون التنفيذيون في إدارة الموظفين واتخاذ قرارات متعلقة بهم يفوق الوقت الذي يبذلونه لتنفيذ أية مهمة أخرى، وحريٌّ بهم ذلك؛ فما من قرارات أخرى تكافئ هذه القرارات في تبعاتها طويلة المدى وصعوبة الرجوع عنها.» ثم تابع قوله: «ورغم ذلك، فإن المسئولين التنفيذيين، بوجه عامٍّ، يتخذون قرارات غير سديدة فيما يتعلق بالترقيات والتعيينات؛ إذ لم يتجاوز معدل نجاحهم، بجميع المقاييس، ٠٫٣٣٣، ففي الأعم الأغلب، يتبيَّن أن ثلث هذه القرارات سديد، وثلثها فعَّال بالحد الأدنى، وثلثها فاشل تمامًا.» وأضاف أننا لم نكن لنتحمل هذا القدر من «الأداء الْمُزْرِي» في أيٍّ من مجالات الإدارة الأخرى.12
إن السجل المخزي للفضائح العامة وحجم الأبحاث المرتبطة بهذا الشأن — على مدار عَقدين من نشر هذا المقال المؤثر — لم تَزِد فكرة دراكر سوى تأكيد، تلك الفكرة القائمة على سجل الأداء الهزيل جدًّا فيما يخص قرارات اختيار الموظفين، لا سيما في المناصب العليا. أشارت مارجريت ويرسيما إلى أن منحى هذا الأمر كان يسير إلى الأسوأ في السنوات الأخيرة، وذلك في مقالها المنشور في هارفارد بزنس ريفيو عام ٢٠٠٢ بعنوان «ثغرات في مستويات الإدارة العليا: لماذا لا تُؤتي إقالات الرؤساء التنفيذيين ثمارها المرجوة». أشارت مارجريتا إلى أن نسبة الرؤساء التنفيذيين الذين أُجبروا على مغادرة مناصبهم في الثمانينيات كانت تتراوح بين ١٣ إلى ٣٦ في المائة، بينما ارتفعت هذه النسبة بين عامي ١٩٩٧ و١٩٩٨ لتصل إلى ٧١ في المائة.13
نشرت شركة الاستشارات بووز ألين آند هاملتون على مدار السنوات القليلة الماضية أبحاثًا ممتازة حول معدل تبدُّل الرؤساء التنفيذيين، مسجلةً نسبة كبيرة جدًّا من حالات التعيين والمغادرة، ونسبة كبيرة من حالات المغادرة الإجبارية للمنصب.14 ومن المفارقات المثيرة للاهتمام أن الأرقام التي توصلت إليها شركة بووز ألين تتوافق توافقًا كبيرًا مع ما توصَّل إليه دراكر منذ عشرين عامًا من تخمين مدروس بشأن معدل النجاح؛ فقد قدَّر دراكر أن ثلث تعيينات الرؤساء التنفيذيين تعد قرارات فاشلة تمامًا، وهو ما يتطابق تمامًا مع عدد الرؤساء التنفيذيين الذين أُجبروا على مغادرة مناصبهم والتي توصلت إليها بووز ألين من خلال عملياتها الحسابية.
بل الأسوأ من ذلك أنه، بينما هناك تغطية إعلامية ضخمة حول خروج معدل تبدُّل الرؤساء التنفيذيين عن السيطرة، فإن معظم الدلائل تشير إلى أن بقاء الرؤساء التنفيذيين لمدة أطول من اللازم في مناصبهم قد يُفضي في نهاية الأمر إلى تحولهم إلى عامل مدمر لقيمة الشركة؛ إذ إن من أكثر النتائج تكررًا بانتظام في دراسات بووز ألين هي تلك التي تشير إلى أن أداء الرؤساء التنفيذيين في النصف الثاني من مدة تولِّيهم منصبهم أضعف بكثير من أدائهم في النصف الأول (وفي كثير من الحالات يكون مدمرًا لقيمة الشركة).15

لقد توليت أنا وزملائي في شركة إيجون زندر إنترناشونال، خلال السنوات الماضية، تقييم عشرات الآلاف من كبار المسئولين التنفيذيين، من بينهم رؤساء تنفيذيون، وجميع المناصب التنفيذية العليا الأخرى، ونواب رؤساء الشركات، وأعضاء مجالس إدارة، من جميع أنحاء العالم ومن جميع المجالات الرئيسية. وكانت النتائج محبِطة على الدوام؛ حتى في الشركات التي تفُوق في أدائها وسمعتها المستوى المتوسط. كان الأفراد غير المناسبين يشقون طريقهم إلى المناصب التنفيذية، وما يقرب من ثلث المسئولين التنفيذيين الذين خضعوا لتقييمنا في هذه المؤسسات الراقية كانوا يقعون فعليًّا في النصف الأدنى من منحنى الجدارة مقارنةً بنظرائهم في شركات أخرى عاملة في نفس مجالاتهم.

حين أجرينا تحليلًا لكفاءات الرؤساء التنفيذيين بالنسبة إلى الكفاءات المحددة الجوهرية لكل وظيفة معينة، وجدنا أن أغلب الرؤساء التنفيذيين كانوا أدنى قليلًا في أدائهم من المستوى المطلوب. وكانت القاعدة العامة أن الفجوة بين المسئول التنفيذي العادي ونظيره المتميز شاسعة جدًّا، إلى الحد الذي يجعل الوصول إلى المستوى المطلوب من الكفاءة احتمالًا مستبعدًا للغاية، حتى مع تحقيق أعلى مستويات الدافعية من جانب الفرد وبذل أقوى جهود التطوير من جانب الشركة، وحتى لو أمكن رَأْب هذه الفجوة، فسوف تستغرق هذه العملية عدة سنوات، وببساطة، لا يملك أغلب المؤسسات هذا المدى الزمني.

وختامًا، فبرغم حاجتنا الماسَّة إلى تحسين أدائنا فيما يتعلق بقرارات اختيار الموظفين فإن الكثير من المؤسسات لا تزال تفتقر إلى برامجَ فعالةٍ للتعاقب الوظيفي أو وجود أيٍّ من هذه البرامج مطلقًا. هذه القصة الحزينة رواها رام تشاران مؤخرًا في مقاله «إنهاء أزمة خلافة الرؤساء التنفيذيين».16 إذا لم تُرِد أو لم تَقْدر شركتك أن «تؤهل كوادرها الخاصة» — ولو لبعض الوقت على الأقل — فلن يمكن إنهاء هذه الأزمة.

(٦) المناصب الأقرب إلى الإدارة العليا: مخاطر أعلى، مكاسب أكبر

لكن لا يزال هناك المزيد. فكلما طالت رحلة الأشخاص غير المناسبين في المسارات المهنية غير المناسبة، زاد احتمال إضرارهم بالمؤسسة إضرارًا حقيقيًّا. السبب وراء هذا الأمر يُعْزَى إلى أن الفارق بين الموظف صاحب الأداء الفائق ونظيره صاحب الأداء المتوسط يتباعد كلما ازدادت الوظيفة تعقيدًا؛ فمثلًا، العامل اليدوي الذي يرتفع أداؤه عن المعدل المتوسط بدرجة واحدة ستزيد إنتاجيته عن إنتاجية العامل المتوسط بمقدار ٢٠ في المائة، بينما يزداد اتساع هذا الفارق مع ازدياد درجة تعقيد الوظيفة. ومن النماذج القصوى لهذه الفروق، أن في الوظائف بالغة التعقيد؛ كإدارة الحسابات في شركة استشارات، قد يعكس الانحراف المعياري الواحد زيادةً مقدارها ٦٠٠ في المائة على المعدل المتوسط.

الأشكال من ٢-١ حتى ٢-٣، والمقتبسة من مقالي «لكي تذهب المناصب العليا للأشخاص المناسبين» المنشور في إم آي تي سلون مانجمنت ريفيو، تسلِّط الضوءَ على نقطتين: (١) إن المؤسسات التي تُعَيِّن مسئولين تنفيذيين متوسطي الأداء أو تُرَقيهم غالبًا ما تعاني من مصاعب جَمَّة. (٢) وبالمقابل فإن المؤسسات القادرة على اختيار المتميزين وتعيينهم عادةً ما تحقق ميزة تنافسية فريدة.17
أظهرت عدة دراسات أن ازدياد درجة تعقيد الوظيفة يصاحبه اتساع الفارق بين صاحب الأداء الفائق وصاحب الأداء المتوسط؛ فعلى سبيل المثال — وكما يوضح الشكل ٢-١ — العامل اليدوي الذي يرتفع الانحراف المعياري لأدائه عن المعدل المتوسط بمقدار واحد ستزيد إنتاجيته عن إنتاجية العامل المتوسط بمقدار ٢٠ في المائة. ويظهر الشكل التوزيع الطبيعي جرسي الشكل الذي يُعد التوزيع النموذجي للأداء في الوظائف البسيطة.
أما بالنسبة للموظف صاحب المهام الأكثر تعقيدًا (كممثل مبيعات تأمين على الحياة)، فإن الانحراف المعياري الواحد فوق المعدل المتوسط يعكس زيادة في الأداء مقدارها ١٢٠ في المائة مقارنةً بالمستوى المتوسط. وبالنسبة إلى الوظائف التي تتضمن قدرًا أعلى من التعقيد (كمدير الحسابات في شركة استشارات)، فالانحراف المعياري الواحد قد يعكس زيادة مقدارها ٦٠٠ في المائة على المعدل المتوسط. وفي الشكل ٢-٢، يمكننا أن نلاحظ كيف يتسع فارق الأداء على نحو متسارع مع ازدياد مستوى التعقيد في الوظيفة.
fig2
شكل ٢-١: توزيع الأداء، وظيفة بسيطة.
fig3
شكل ٢-٢: فارق الأداء كدالَّة للتعقيد الوظيفي.
fig4
شكل ٢-٣: المكاسب المحتملة للقرارات الصائبة بشأن اختيار الموظفين.
يمكن لهذا الفارق في الأداء أن يجلب مكاسب مجزية أيضًا؛ فكما هو موضح في الشكل ٢-٣، ستحظى الشركات التي تنجح في تمييز أصحاب الأداء المرتفع وتعيينهم في المناصب العليا بمستوًى من الأداء يفوق عدة مراتٍ نظيرَه في الشركات التي لا تصعِّد سوى المسئولين التنفيذيين متوسطي الأداء إلى هذه المناصب. هذا يعني، بعبارة أخرى، أن المؤسسات التي تعيِّن مسئولين تنفيذيين متوسطي الأداء أو تُرَقيهم سوف تعاني بشدة من قصورهم النسبي. أما أولئك الذين ينجحون في اتخاذ قرارات سديدة بشأن اختيار الموظفين المتميزين فسوف يتمتعون بمصدر قوي للغاية من مصادر الميزة التنافسية، كما هو موضح في الشكل.

(٧) تقييم العوائد المتوقعة من تعيين الموظفين المتميزين

إذن تلخيصًا لما توصلنا إليه حتى الآن، للمؤسسات تاريخ شديد السوء فيما يتعلق باختيار الموظفين المتميزين، وذلك برغم القيمة المحتملة الضخمة التي يمكن أن تحظَى بها لو نجحت في مواجهة هذا التحدي. لكن إلى أي حد يبلغ كِبَر هذه القيمة؟ هل من سبيل إلى تحديد قيمة العائد المتوقع من الاستثمار في مثل هذه الاختيارات؟

لقد وجدت أفضل جواب عن هذا التساؤل في دراسة نشرها واسرمن، ونوريا، وأناند. في هذه الدراسة، قدم الباحثون الثلاثة حُجَّة مقنعة بأنه يمكن لاختيار القادة المناسبين أن يكون ذا تأثير هائل على أداء الشركة.18 زعم هؤلاء الباحثون الثلاثة أن «تأثير القائد» — في بعض الأحوال — يفسر ما يصل إلى ٤٠ في المائة من التفاوت في الأداء أو القيمة. دعني أؤكد هذه النقطة بطرحها في شكل عكسي: ثَمَّة عوامل أخرى قد يكون لها تأثير أكبر من تأثير القائد؛ مثل السنة محل الدراسة والمؤثرات المرتبطة بمجال الشركة؛ لكننا من المحال أن نسافر عَبْر الزمن لنختار عامًا أفضل، وأغلب الشركات لا يمكنها تغيير نشاطها. ومِنْ ثَمَّ يتضح أن تأثير القائد ليس كبيرًا فقط، بل يكون — في كثير من الأحوال — المصدرَ العملي الأضخم لقيمة الشركة. قد لا يكون عامل «تأثير القائد» أهم مواردك على الإطلاق، لكنه أهم مورد يمكنك الاستفادة منه.

أثناء إحدى زياراتي لجامعة هارفارد لإلقاء كلمة، التقيت بأحد المشاركين في تأليف الدراسة، وهو نوم واسرمن، للتحقق من صحة فهمي لنتائج الدراسة، ولمحاولة التوصل إلى القيمة المالية لما يدعونه تأثير القائد. كان الجواب مذهلًا لي؛ ففي ضوء ما توصلوا إليه من نتائج، يمكن للشركات الأمريكية متوسطة الحجم أن تَزيد من قيمتها بواقع مليار دولار من خلال اختيار الأشخاص المناسبين في المناصب العليا.

لكن هل من سبيل إلى الاستفادة من هذه الفرصة مع وضع صعوبة تقييم المديرين في اعتبارنا؟ من أجل الإجابة عن هذا التساؤل، نحتاج إلى الانتقال من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي، ومنه إلى أستراليا، وذلك عام ١٩٧٢.

عودةً إلى أيام دراستي لماجستير إدارة الأعمال، كان أحد المقررات الاختيارية التي درستها هي أنماط التسويق، وكان يُدَرِّسها ديفيد مونتجومري، وهو حاليًّا أستاذ متقاعد في جامعة ستانفورد والرئيس التنفيذي السابق لمعهد علوم التسويق. لم يَختر هذا المقرر سوى عدد قليل من طلبة الدكتوراه وعدد أقل من طلبة الماجستير؛ ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنه كان أحدَ أكثر المقررات دقةً وتركيزًا على التحليلات الكمية في الكلية. عبر مسيرتي المهنية، كنت أعود بفكري دوريًّا إلى ورقة بحثية كنت قد طالعتها أثناء دراستي لهذا المقرر؛ كانت دراسة رائدة أجراها إروين جروس ونشرتها مجلة سلون مانجمنت ريفيو في ١٩٧٢، وتحمل عنوان «الملامح الإبداعية للدعاية».19 حاولتْ هذه الورقة — حسبما أتذكر — أن تقدِّر، بطريقة غاية في البراعة، القيمة الكمية لشيء يصعب قياسه؛ القيمة المتوقعة لاستثمارات محددة في الدعاية.
منذ بضعة أعوام، عُدت أخيرًا إلى منهج هذا المقرر وعثرت على هذا المقال، ولم يَخِبْ رجائي؛ فقد سلط ذلك المقال الضوء على الكيفية التي اكتشفت بها الشركات المنتجة للسلع الاستهلاكية أن اتِّباع أسلوب أكثر ذكاءً في الإنفاق على الدعاية كان من شأنه تحسين ربحية هذه الشركات، الأمر الذي مَكَّنها من تطوير نماذج إحصائية تُقدِّر القيمة المتوقعة من الاستثمار السليم في وضع الدعاوى الإعلانية وتقييمها. وحين تعمقت أكثر، اكتشفت أن دراسة جروس تلتها دراسة أخرى نشرتها نفس المجلة بعد بضع سنوات، وكان صاحبها هو آر واي دارمون. حاولت الدراسة، التي تحمل عنوان «إدارة فريق المبيعات: نحو عملية استقطاب أكثر فاعلية»،20 حاولت أن تطبق النماذج ذاتها على نحو يُحقق الاستفادة القصوى من استثمارات الشركات في فِرَق مبيعاتها.
دفعني هذا للتفكير. لن أرهقك بتفاصيل هذه النماذج والحسابات المعقدة، لكن يكفي أن أخبرك أنني استعنت بها لحساب القيمة المتوقعة من الاستثمار في البحث عن أفضل المرشحين للمناصب الإدارية وتقييمهم واستقطابهم. أعتقد أن النتائج مذهلة؛ يمكن أن يبلغ عائد هذه الاستثمارات بسهولة حاجز اﻟ ١٠٠٠ في المائة أو أكثر،21 حتى لو اعتمدنا على افتراضات متحفظة للغاية بشأن صلاحية تقييمات المرشحين وموثوقيتها. تلك هي القيمة المالية لاحتراف اتخاذ قرارات صائبة بشأن اختيار الأشخاص.

لكن أيمكن أن أدعي أنه لا استثناءات من ذلك؟ كي أجيب عن هذا السؤال، دعنا نتناول هذه القرارات من مستويات عدة، ولنبدأها بالمستوى الجغرافي.

(٨) قرارات اختيار الأشخاص حول العالم

أوردت في الفصل الأول وصفًا للمقابلة التي أجراها معي إيجون زندر في صيف ١٩٨٦، وكما بدا واضحًا، سار هذا اللقاء (وربما غيره من اللقاءات التي شاركت فيها) على خير؛ إذ عُيِّنْتُ بعده. عدت إلى الأرجنتين بعد فترة وجيزة من التحاقي بالشركة، وكانت مهنة البحث التنفيذي قيد التأسيس لتَوِّها.

كان من أوائل العملاء الذين عملت معهم، ثم تابعته عن قرب على مدار العشرين عامًا التالية، هو نوربيرتو موريتا الذي وُلد في الأرجنتين لأبوين يابانيَّين. تخرَّج موريتا أولًا في جامعته كمهندس كيميائي، ثم حصل بعدها على درجة الماجستير في إدارة الأعمال بتقدير امتياز من جامعة كولومبيا.

أتْبَع موريتا هذا الأداء الأكاديمي المتميز بمسيرة إدارية مثيرة لمزيد من الإعجاب. التحق موريتا في ١٩٧٥ بشركة كورنينج جلاس حيث أحرز نجاحًا وظيفيًّا، وتولى المزيد من المسئوليات الإدارية في مجالات إدارة الشئون المالية، والتخطيط، والرقابة (في الولايات المتحدة الأمريكية أولًا ثم في المملكة المتحدة.) وبعد ست سنوات من التحاقه بالشركة، عُيِّن مديرًا للشئون المالية لفرع الشركة في أوروبا وبعدها بعامين صار الرئيسَ التنفيذي لفرع الشركة في فرنسا، وهو أكبر فروعها خارج الولايات المتحدة الأمريكية.

عاد موريتا في ١٩٨٥ إلى الأرجنتين حيث عمل مديرًا للشئون المالية في شركة مشروبات رائدة إقليميًّا تسمى كوينسا. كانت كوينسا شركة مثيرة للاهتمام تسيطر عليها عائلة واحدة ثم ضعفت في أعقاب عدة جهود بذلها المساهمون في سبيل فرض طابع احترافي على إدارة الشركة؛ لكنها لم تكلل بالنجاح. في ظل هذا المناخ السائد من الإحباط في الشركة، قاد موريتا جهدًا تحويليًّا ناجحًا، لم يجعل من كوينسا واحدة من أفضل نماذج إضفاء الطابع المهني على شركة عائلية في أمريكا اللاتينية فحسب، بل واحدة من أبرز حالات خلق القيمة بتحفيز من الإدارة وعلى نحو منهجي.

غادر موريتا كوينسا في عام ١٩٩٧ لينشئ ساذرن كروس جروب، وهي شركة تستثمر في أسهم رأس المال الخاصة في أمريكا اللاتينية، لكنه خلَّف في كويسنا فريقًا على درجة من التميز بحيث واصلت المجموعة إحراز نتائج لافتة للنظر على مدار العَقد التالي، محققةً أعلى معدلات الربحية في تاريخ المجموعة، وذلك برغم الأزمات الطاحنة التي كانت تجتاح أمريكا اللاتينية (والأرجنتين خصوصًا) خلال هذه الفترة. وأحرز موريتا، في الوقت ذاته، نجاحات في مجموعته لرأس المال الخاص، برغم ما مرت به أمريكا اللاتينية من فترات عصيبة أيضًا.

لقد استشهدتُ بمثال نوربيرتو موريتا لأثبت أن القدرة على اختيار الموظفين المتميزين هي الشرط الأساسي للنجاح، في أي مجال، وفي أي وقت، وفي جميع المناطق الجغرافية. كثيرًا ما تحدثت مع موريتا بشأن أسباب نجاحه، وراقبته مباشرةً عشرين عامًا، ولم يكن لديه شك، ولا أنا، أن المفتاح إلى نجاحه اللافت للنظر كان قدرته على اختيار الشخص المناسب لكل وظيفة رئيسية.

وأؤكد مجددًا أن تجربتي الشخصية أثبتت ذلك؛ فمن خلال عملي في التطوير المهني الداخلي في شركتنا والتعامل مع استشاريي البحث التنفيذي من ٦٢ مكتبًا حول العالم، كنت أجد دائمًا أن احتراف اتخاذ القرارات التي تجلب الموظفين المتميزين هي الضرورة التي لا غنى عنها مطلقًا لتحقيق أداء ناجح في جميع أنحاء العالم.

(٩) من الشركات الناشئة إلى عمليات الاستحواذ

هل يُعد الأشخاص عاملًا جوهريًّا فقط للمؤسسات الراسخة القائمة على التسلسل الوظيفي والتي تهيمن عليها التقاليد؟ لا، إطلاقًا؛ إذ تبرز أهمية اتخاذ قرارات اختيار الموظفين المتميزين للأداء المؤسسي في جميع مراحل حياة النشاط التجاري، بدءًا من خطة المشروع فصاعدًا. وحسب ما ذكر ويليام سالمن (وهو مرجعية أكاديمية كبرى في عالم ريادة المشروعات الجديدة) قائلًا: «حين أتلقى خطة مشروع، فإن أول ما أقرؤه دائمًا هو السيرة الذاتية لفريق عمل المشروع، ليس لأن الجزء البشري من المشروع هو الأهم، بل لأنه دون وجود فريق عمل مناسب، ليست هناك أهمية حقيقية لأية أجزاء أخرى.»22
وبالمثل، يعد اتخاذ هذا النوع من القرارات المصدر الرئيسي للقيمة في عمليات الاستحواذ. خلص مقال حديث في مجلة فايننشال تايمز، استنادًا إلى نتائج استقاها من شركة ماكنزي آند كومباني، إلى أن أكبر عامل مساهم — إلى حد كبير — في عوائد الصفقات الناجحة لرأس المال الخاص كان الإدارة الفاعلة، إما من خلال تغيير فريق الإدارة أو تزويده بعناصر من مجموعة الكوادر الخاصة بصندوق رأس المال الخاص. ومثل ذلك ينطبق على عمليات الاستحواذ؛ إذ تبيَّن أن إسهام سعر الشراء الزهيد، أو عوائد القطاع، أو حتى الاستثمار الأولي — ضئيل أو يكاد ينعدم، إذا ما قورن بالقيمة التي تسهم بها قرارات اختيار الموظفين.23

(١٠) من مجلس الإدارة إلى ورشة الإنتاج

يبدو إذن أن قرارات اختيار الموظفين على قدر كبير من الأهمية بصرف النظر عن المنطقة الجغرافية التي تنتمي إليها الشركة، أو القطاع الذي تعمل فيه، أو المرحلة التي تمر بها. لكن ماذا عن التدرج الوظيفي داخل الشركات؟ أتبرز أهمية هذه القرارات على بعض المستويات فقط، أم على جميعها؟

دعنا نبدأ بمجلس الإدارة الذي يقع (أو ينبغي أن يقع!) على قمة الهرم الوظيفي في الشركة. إليك بعض التعليقات التي تسلط الضوء على أهمية تعيين الأشخاص المتميزين الذي يشاركون في إدارة الشركة على مستوى مجلس الإدارة:

  • «تقرير كادبري» الرائد الذي صدر في عام ١٩٩٢، الذي ركز على مسئوليات مجالس الإدارة العاملة في المملكة المتحدة فيما يتعلق بإعداد التقارير المالية والمساءلة؛ شدد على أن وجود أعضاء رفيعي المستوى على مقاعد مجلس الإدارة يمثل أهمية حيوية لجميع جوانب الإدارة الناجحة.24
  • في مقاله المعنوَن «سر نجاح مجالس الإدارة العظيمة» والمنشور في مجلة هارفارد بزنس ريفيو، ذكر جيفري سونينفيلد أن ما يصنع نجاح مجلس الإدارة «ليس القواعد واللوائح، وإنما كيفية تعاون الأفراد معًا.»25
  • أكد كلٌّ من ريتشارد لوبلون وجيمس جيليس، في كتابهما الصادر حديثًا «داخل قاعة اجتماعات مجلس الإدارة»، أن لعمليات إدارة المجلس وعضويته دورًا أكبر أهمية في تحديد فاعليته من الدور الذي يلعبه هيكل المجلس.26
  • صرح رام تشاران، الذي يعمل مستشارًا لكثير من مجالس الإدارات، أنه يرى أن «٦٠ في المائة من أداء الشركات يعتمد على وجود الرئيس التنفيذي المناسب وعلى نظام التعاقب الوظيفي»، ولا شك أن هذا من أبرز مهام مجلس الإدارة.27
  • يعتقد كلٌّ من كولين كارتر وجاي لورش أنه «بالرغم من أهمية التكوين الهيكلي للمجلس وكونه نقطة البداية المثالية للتفكير في تخطيط المجلس، فإن مستوى أعضاء مجلس الإدارة وقدراتهم، في نظرنا، هي العامل الأهم في تحديد فاعلية المجلس؛ فالأفراد المتميزون، والأفراد الملائمون للوظائف المطروحة — سيحققون أداءً جيدًا حتى في ظل هيكل مؤسسي دون المستوى المثالي، غير أن العكس ليس صحيحًا بالتأكيد.»28
لكن لا تستنتج من هذه القائمة أن قرارات اختيار الموظفين لا تهم إلا في المستويات العليا من المؤسسات، بينما يقع تحت أيدي الأفراد في هذه المستويات المزيد من الموارد والسلطات، إلا أن العامل الذي يحتل أسفل السلم الوظيفي يمكن أن يؤثر على المؤسسة تأثيرًا كبيرًا، بالإيجاب أو بالسلب. بالإضافة إلى ذلك، كانت أهمية اختيار الموظفين المتميزين في جميع المستويات الوظيفية أحد الموضوعات الأساسية التي تناولها جيفري فيفر، الأستاذ بجامعة ستانفورد، في كتابَيه «المعادلة البشرية»29 و«الأفراد كمصدر لميزة تنافسية».30

(١١) مؤسستك كبيرة أم صغيرة؟

ماذا عن اختلاف أحجام المؤسسات؟ عملت خلال العشرين عامًا الماضية مع شركات يتراوح حجم إيراداتها من مليون دولار إلى عدة مليارات سنويًّا وأرى، من واقع خبرتي، أن قرارات اختيار الموظفين ذات أهمية حيوية بالنسبة لجميع المؤسسات باختلاف أحجامها.

يمكنك في الواقع أن تبرهن على أن المخاطر المطلقة أكبر في الشركات الكبرى في حين أن المخاطر النسبية ربما تكون أكبر في الشركات الصغيرة. لا شك في قدرة جنرال إلكتريك على تحمُّل عواقب تعيينات فاشلة لشخص أو اثنين في المناصب التنفيذية العليا؛ لكن بالنسبة لشركة صغيرة، ربما يودي بها قرار واحد خاطئ متعلق بمنصب حساس، وليس بالضرورة أن يكون منصبًا قياديًّا.

أثناء دراستي في جامعة ستانفورد في الفترة بين ١٩٨١ و١٩٨٣، كانت سيليكون فالي منطلقة في التوسع بافتتاح مشروعات جديدة؛ ومِنْ ثَمَّ كان من المقررات الاختيارية المفضلة بين الطلاب هو ذلك المقرر الذي يتناول المشروعات الجديدة وإدارة الشركات الصغيرة. كان المرجع الأساسي لهذا المقرر كتابًا صغيرًا ذا طابع عملي ألَّفه ستيفن برانت، الأستاذ في جامعة ستانفورد. وعلى غرار الإنجيل، ضم الكتاب «وصايا عشرًا» لضمان بقاء المشروعات الصغيرة. كانت أولى هذه الوصايا تنص على الآتي: «اعمل على الحد من عدد المشاركين الأساسيين بحيث لا يشملون إلا هؤلاء الأفراد القادرين على الاتفاق بشأن ما ينبغي على الشركة إنجازه، ولأجل من، ومتى، والإسهام مباشرةً في تحقيق ذلك.» أما الوصية الخامسة فتتضمن التالي: «وظِّف المسئولين الذين ثبت إحرازهم لسجلات حافلة بالنجاح في تنفيذ المطلوب بما يتسق مع منظومة القيم المطلوبة للمؤسسة.»31

حاول أن تجد الأفراد القادرين على العمل سويًّا بفاعلية؛ اعثر على الناجحين الذين يمكنهم إنجاز المهام الأساسية بأساليب تنسجم مع المنظومة القيمية. بعبارة أخرى، اتخذ قرارات سديدة بشأن اختيار الأشخاص المتميزين.

(١٢) هكذا كان الوضع على الدوام

دعنا نُسلِّم أن كلًّا من المهنيين والباحثين على السواء اتفقوا على الأهمية العالمية التي تمثلها قرارات اختيار الموظفين للمؤسسات الكبيرة والصغيرة، الجديدة والقديمة، في أعلى السلم الوظيفي وأسفله. ربما تكون هذه النظرية بدعة عابرة. ألا يحتمل أن تظهر نظرية أخرى بعد عدة سنوات لتَدْحَضها؟ الدلائل تجيب على السؤال بالنفي. دعنا أولًا نُلْقِ نظرة على الماضي.

لو حدث وسألت مؤرخي عالم الأعمال عن أفضل مدير شهده النصف الأول من القرن العشرين، فإن معظمهم سيجيبون غالبًا بأنه ألفريد بي سلون الذي أدار شركة جنرال موتورز بنجاح لمدة تناهز الأربعين عامًا، برغم ما شهدته هذه الفترة من ضغوط في ظل الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية. كان بيتر دراكر مستشارًا لسلون ومتابعًا لأدائه خلال هذه المدة، وأشار إلى أن السبب الرئيسي لنجاح سلون يكمن في أنه «انتقى كل مسئول تنفيذي عمل في جنرال موتورز وصولًا إلى مديري التصنيع، والمراقبين، والمديرين الهندسيين، وكبار الميكانيكيين، حتى في الأقسام الفرعية الصغيرة.»

أورد دراكر اعترافًا بأنه «ربما تبدو رؤية سلون وقيمه — بمقاييس اليوم — محدودة. كانت بالفعل كذلك؛ كان اهتمامه منصبًّا فقط على الأداء داخل جنرال موتورز ولأجلها، لكن بالنسبة لأدائه على المدى الطويل فيما يتعلق بتعيين الأفراد في الوظائف المناسبة، فلا غبار عليه.»

علق بيل جيتس ذات مرة على كتاب سلون، «سنواتي في جنرال موتورز»، قائلًا بأنه لو لم يَسَعِ المرء إلا قراءة كتاب واحد عن عالم الأعمال، فإن كتاب سلون هو الأفضل.32 منذ ظهور هذا الكتاب، الذي سجل أعلى مبيعات فور نشره في ١٩٦٣، ظل دليلًا يستعين به المديرون بما يعرضه من خبرات شخصية في تطبيق «علم الإدارة» يقدمها الرجل الذي أتقنه.

أبرز الراحل بيتر دراكر، في مقدمة جديدة كتبها للطبعة الحالية من الكتاب، أهم الدروس المستفادة مما اعتبره هو أيضًا أفضل كتاب تناول علم الإدارة على الإطلاق. في حين ركز دراكر على منهج الإدارة الاحترافي، أكد أيضًا أن «مَهمة المدير المحترف ليست أن يحب الموظفين ولا أن يغيرهم، بل مَهمته هي أن يفعِّل نقاط قوتهم. وبصرف النظر عن استحسان المرء للموظفين أو لطريقة عملهم، فإن الشيء الوحيد المهم هو أداؤهم، وهو الشيء الوحيد حقًّا الذي يُسمح للمدير المحترف أن يعيره اهتمامه.» وبحسب ما ذكر دراكر، يفوق في معناه مجرد صافي الربح؛ «إنه أيضًا تقديم نموذج يُحتذى به، وهو ما يتطلب النزاهة.»

والنزاهة، بلا شك، تكمن في قلب قرارات اختيار الأشخاص المناسبين.

(١٣) الشركة الأكثر استحواذًا على إعجاب العالم

تنشر مجلة فورتشن كلَّ عام تصنيفًا للشركات الأكثر استحواذا على الإعجاب حول العالم. جاءت جنرال إلكتريك على رأس القائمة في عام ٢٠٠٦ والعام الذي سبقه، وذلك للمرة السادسة خلال العَقد الماضي. وإذا اعتقدت أن فورتشن هي الوحيدة في الاحتفاء بجنرال إلكتريك، فعليك أن تعيد التفكير؛ ففي الدراسة الاستطلاعية التي أجرتها فايننشال تايمز لاختيار الشركة «الأكثر حظوةً بالاحترام»، تصدرت الشركة ذاتها القائمة لسبع سنوات خلال السنوات الثماني الماضية، وجاءت في المركز الأول في تصنيف أجرته مجلة بارونز مؤخرًا لتسمية الشركات الأكثر إثارةً للإعجاب.

فلماذا تحظى جنرال إلكتريك بكل هذا القدر من الإعجاب؟ لا شك أن ثمة إجابات كثيرة؛ لكن من أهم ما اتفق أغلب المراقبين عليه أن جنرال إلكتريك كانت حاضنة متميزة لعظماء القادة. لم يَعُدْ ذلك بالنفع على جنرال إلكتريك وحدَها، بل استفاد كثيرٌ من الشركات الأخرى مما أنتجته الشركة من القادة.

سبق أن كتبتُ عن جاك ويلش وما يحظى به من احترام شبه عالمي وسط أقرانه في مجال الأعمال، لكن ما لا يدركه الكثيرون أن ويلش لا يمثل إلا مظهرًا حديثًا لتقليدٍ موغلٍ في العراقة داخل جنرال إلكتريك؛ ذلك التقليد الذي نشأ عن اختيار هادف تبنَّاه قادة الشركة، منذ ما يزيد على قرن مضى؛ للاستثمار في الأشخاص المناسبين. لا يذكر الكثيرون في يومنا هذا اسم تشارلز كوفن، الذي كان مسئولًا تنفيذيًّا سابقًا في قطاع صناعة الأحذية قبل أن يصير رئيسًا لشركة جنرال إلكتريك في عام ١٨٩٢. إليك ما كتبته فورتشن عنه:
نجحت جنرال إلكتريك، تحت رئاسة تشارلز كوفن من عام ١٨٩٢ إلى ١٩١٢، في ترسيخ مبادئ التصميم التنظيمي التي ستمثل دليلًا لشركات كبيرة، ورسخت — فوق ذلك — فكرة مفادها أن مصابيح الإضاءة والمحولات لم تكن أهم منتجات الشركة، بل كانت الملَكات الإدارية أهم ما أنتجت.33
إن أغلب العاملين في مجال البحث التنفيذي يعتبرون الشركة موفقةً لو وجدت رئيسًا تنفيذيًّا واحدًا ناجحًا، بينما نعتبرها نحن محظوظةً حقًّا لو نجحت في الحصول على رئيسَيْن تنفيذيَّيْن ناجحَيْن على التوالي، ويبدو أن تلك الرؤية يتقاسمها كذلك الدارسون المتخصصون في مجالَي القيادة والفاعلية المؤسسية. كتب كولينز وبوراس في كتابهما «مؤسسات أُنشئت لتبقى» قائلَيْن: «أن يحظى المرء برئيس تنفيذي في كفاءة ويلش فإنه أمر مذهل، وأن يمضي قرن من الزمان حافل برؤساء تنفيذيين يتمتعون بكفاءة ويلش وكلُّهم من أبناء الشركة — حسنًا، إن ذلك من أهم ما يفسر ما تتمتع به شركة جنرال إلكتريك من بُعد النظر.»34

(١٤) استشراف القادم: الموارد البشرية في المستقبل

تناولنا قرارات اختيار الأشخاص في مجموعة متنوعة من البيئات، واستنتجنا أنه من العسير إيجاد بيئة حاليًّا لا تمثل فيها هذه القرارات أهمية حيوية. ماذا سنجد لو حاولنا استشراف المستقبل؟

لا شك لديَّ أنه في السنوات المقبلة سيكتسب اتخاذ قرارات اختيار الأشخاص المتميزين أهمية متزايدة للأداء المؤسسي. فكر في النقاط التالية:

  • إن أسرع الشركات نموًّا في يومنا هذا، في مجالات كالتكنولوجيا الحيوية، وعلوم الحياة، والخدمات المهنية، والإعلام، والترفيه، هي تلك التي تعتمد بكثافة على أصولها البشرية. بمعنى آخر، يقل اعتماد هذه الشركات (وهذه المجالات) في تحقيق نجاحها على الأصول المادية، ويزيد اعتمادها على ملكات الموظفين، لا سيما قدرتهم على العمل سويًّا.

  • إننا نشهد عصر التغيرات غير المسبوقة، يدفعها التوسع في التطور التكنولوجي والابتكار والآثار المتعاقبة التي أحدثتها الثورات الجينية، والرقمية، والمعرفية. كما نواجه، إلى جانب ذلك، قضايا سياسية وثقافية دقيقة للغاية وسط قرية عالمية يتزايد تعقيدها (وخطورتها أحيانًا). وفي ظل وضع يتطلب الاستفادة من مهارات جديدة — بسرعة وفاعلية — تصبح قرارات اختيار الموظفين المتميزين أمرًا لازمًا، ليس لإحراز النجاح فقط، بل لبقاء المؤسسة على قيد الحياة.

  • اتساقًا مع الملاحظة التي أوردها بيتر دراكر في أحد مقالاته الأخيرة في هارفارد بزنس ريفيو، يشرع كثير من المسئولين التنفيذيين اليوم في بناء مسيرات مهنية ثانية.35 لنفترض أنك واحد من هؤلاء الذين اختاروا البدء من جديد في مسار مهني مختلف. مهما يكن دافعك — سواءٌ كنت تسعى إلى مزيد من المرونة، أو إلى عائد مادي أعلى، أو إلى مجرد الاستقلال — فمن شبه المؤكد أن انتقالك إلى مسيرة مهنية ثانية سيُلقي على كاهلك متطلبات جديدة لاختيار الموظفين المتميزين.
  • حتى بالنسبة إلى أولئك الذين يبقون داخل الحدود المريحة لعالم الشركات، فإن ثمة توجهًا واضحًا (وصحيًّا) اليوم إلى المبادرات متعددة الأقسام، إما لتطوير منتج جديد أو لإعادة تصميم خدمة ما. وتتطلب هذه المبادرات التشكيل المستمر لفرق عمل مختلفة. حسبما أكده بقوة كلٌّ من كاتسينباخ وسميث في كتابهما «حكمة فرق العمل»،36 فإن الفرق المتميزة تتفوق في أدائها على الأفراد النابغين. لكن إيجاد فريق متميز — تمامًا كإيجاد رئيس تنفيذي متميز — ليس بالمهمة السهلة؛ فطبقًا لما ورد في هذا الكتاب، كثيرًا ما يُهمَل بعض المبادئ المرتبطة بفرق العمل، ومن ضمنها اختيار الأفراد المكوِّنين للفريق.
  • شرع كثير من العمليات التقليدية في الشركات الكبرى في التقوُّض مع تزايد الاعتماد على شركاء من خارج الشركة، من خلال إسناد بعض هذه العمليات إلى طرَف ثالث ليؤديها داخل مقر الشركة أو خارجها. وهذا مُلاحظ على وجه الخصوص في العمليات الابتكارية التي تقوم بها شركات ذات توجه تكنولوجي، كما هو الحال في آي بي إم وميرك؛ على سبيل المثال لا الحصر، فالشركات حاليًّا تعرف أن عليها الاستفادة من أفكار الآخرين خارج حدود الشركة، كما تعرف — في الوقت نفسه — أن استعدادية موظفيها من ذوي التخصصات المعرفية للتنقل تتزايد. بالإضافة إلى ذلك، تعمل قاعدة رأس المال المتغيرة، التي تضم مشاركة أكثر فاعلية من شُرَكَاء رأس المال المخاطر، على الدفع نحو التغيير. ترتب على ذلك تحوُّل كثير من الشركات من نموذج الابتكار المنغلق إلى نموذج الابتكار المنفتح؛ كما أوضح هنري تشيسبرو في كتابه الرائد حول هذا الموضوع.37 ومما لا شك فيه أنه ينبغي عليك اتخاذ قرارات صائبة عند اختيارك لشركائك الخارجيين.
  • يعمل تشيسبرو (من المصادفات أنه زميل آخر من زملاء دراستي في ستانفورد) حاليًّا باحثًا ومعلمًا بارزًا في مجال جديد نسبيًّا وهو «علم الخدمات». دلَّلَ تشيسبرو بحُجج مقنعة على أن الابتكار لم يتغلغل بعدُ في قطاع الخدمات؛ برغم أنها تمثل ٨٠ في المائة من النشاط الاقتصادي في جميع الاقتصادات المتقدمة. حاول أن تفكر في الآثار التي قد تنتُج عن تزايد الابتكار في الخدمات إلى حد بالغ، وذلك من ناحية التأثير الذي يمكن لأفضل الموظفين من أصحاب التخصص المعرفي أن يُحدثوه، والأهمية التي قد يمثلونها. مرة أخرى، المفتاح إلى ذلك يكمن في اختيار الفائزين.

  • أشير في الختام إلى أحد التوجهات الصحية التي لاحظتُها بصفة شخصية، ألا وهو تحقيق اللامركزية في قرارات اختيار الموظفين؛ ففي المستقبل، سيتزايد الطلب على المديرين (من أمثالك) لتشكيل فرق عمل متميزة، ويُتَوقَّع منهم أن يتمتعوا بالمهارة الكفيلة بإيجاد الكفاءات المتميزة وتعيينها. في السابق كان فريق التخطيط الاستراتيجي في مقر المؤسسة يرسم الاستراتيجية ثم يدفعها إلى أسفل باتجاه باقي المناصب، وكان من المتوقع أن يصير جميع المديرين استراتيجيين. واليوم تسير إدارة الموارد البشرية تدريجيًّا على النهج ذاته؛ لذا إذا كنت تريد أن تنجح في حياتك المهنية؛ فعليك — ببساطة — أن تُجيد هذه الْمَهمة.

(١٥) ما تعلمته

بعد ما يزيد على ٢٠ عامًا أمضيتها في الاحتكاك ببعضٍ من أنجح الأفراد والمؤسسات وبعض من أفضل المنظِّرين في عالم الأعمال، أشعر بالرضا أخيرًا حيال ما توصلت إليه من جواب عن ذلك التساؤل الذي سبق وأرَّقني حين كنت طالبًا في كلية الدراسات العليا في إدارة الأعمال بجامعة ستانفورد أتدبر حالي بالكاد.

ما الشيء الذي يؤدي إلى تحقيق النجاح؟ قرارات اختيار الموظفين المتميزين هي الإجابة.

ومثل هذه القرارات تحتاج إلى إدارة فعالة؛ فهي أقرب إلى المال منها إلى البنية التحتية المادية؛ ولا تبلغ طاقاتها الفعلية إلا لو أدركت كيفية الاستفادة منها بفاعلية. إذن، فإن احتراف اتخاذ مثل هذه القرارات — تشكيل فريق عملك، والمحافظة عليه، وإعادة تشكيله حسب الحاجة — ليست فقط المهارة الوحيدة الأكثر حسمًا في تقرير نجاحك المهني، بل أيضًا السر وراء الأداء المؤسسي المتميز. وهذا هو ثاني أسباب أهمية هذه القرارات لك.

•••

في حين أن قرارات اختيار الموظفين المتميزين ضرورية من أجل النجاح الشخصي والمؤسسي؛ فإن ثمة أسبابًا قوية وراء الصعوبة البالغة الكامنة في احترافها، وسنناقشها في الفصل القادم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤