الفصل الخامس

المواصفات التي ينبغي البحث عنها

متى تأكدت أن من الضروري إجراء تغيير في الموظفين، ينفتح أمامك درب جديد، والخطوة الأولى على هذا الدرب أن تدرك النقاط التي عليك أن تبحث عنها.

غنيٌّ عن الذكر أن تحديد ما تبحث عنه خطوة حاسمة؛ ذلك لأن كل ما يلي ذلك سوف يرتبط ارتباطًا أساسيًّا بهذه النقطة المبدئية. لقد شهدت شخصيًّا بضعة آلاف من المقابلات التي أجراها عملاء شركتنا، وأجريت محادثات مطولة مع عملائنا فيما يخص نوع المعلومات التي يضعونها في اعتبارهم عند تحديد احتياج لشركاتهم. العبارة التي توجز الدرس الأساسي المستفاد من هذه الساعات الطوال من المحادثات؛ أن هذه الخطوة الأولى موفورة بالإمكانيات، لكنها محفوفة أيضًا بالتحديات.

يشمل التحدي الأول الاستقرار على أفضل مؤشرات للتنبؤ بالأداء الناجح في أي وظيفة، وهو الموضوع الرئيسي لهذا الفصل. بالنسبة لبعض أصحاب الأعمال المحتملين، بما فيهم الكثير من الأوروبيين، تُعتبر الخلفية التعليمية القوية، والسيرة الذاتية الحافلة بأسماء أصحاب الأعمال السابقين المرموقين ذات أهمية بالغة، أما بالنسبة إلى كثيرٍ من الأمريكيين الشماليين؛ فالأداء الفعلي أثناء الوظيفة، الذي يُقدَّر حسب الإنجاز والنتائج الملموسة، أكثر أهمية.

يولي البعض أهمية كبيرة للغاية لنتائج اختبار حاصل الذكاء، بينما يوجه آخرون اهتمامهم أولًا إلى الخبرة، أما البعض الثالث فينصبُّ تركيزهم على الشخصية (مستعينين بنظرية أو أكثر من مستودع زاخر من النظريات المعنية بتحليل الشخصية). يضع بعض أصحاب الأعمال المحتملين في اعتبارهم الكفاءات القائمة على الذكاء العاطفي، ويركز آخرون على القيم، ويحاول البعض منهم أن يحددوا الإمكانيات الكامنة لدى المرشح ويرجحون كفتها، بعد تقييمها من خلال اختبار واحد أو أكثر.

لقد مرت بي، كما أشرت، طائفة هائلة من النظريات والسلوكيات المتنوعة. أذكر مسئولًا تنفيذيًّا اعتاد أن يسأل المرشحين للمناصب الإدارية العليا، إذا كان لديهم الخيار أن يكونوا حيوانات؛ فأي نوع من الحيوانات يفضلون أن يكونوا. (لا أذكر الإجابات الصحيحة والخاطئة عن هذا السؤال.) ناقشت مدربًا ذات مرة حول أساليب إجراء المقابلات فأطلعني على قائمة أسئلته المفضلة، والتي كان من بينها: «إذا كنت من الخضروات؛ فأي نوع تفضل أن تكون؟» (كانت الإجابة الصحيحة: «البروكلي»). عرض أحد زملائي على عميل أكثر من اثني عشر مرشحًا على مستوًى عالٍ من الكفاءة فرفض كلًّا منهم على الفور، دون إبداء أسباب، ثم كشف أخيرًا مساعد العميل عن أن مديره لن يعيِّن أبدًا شخصًا لا ينتمي إلى برج العذراء. وبالفعل، من عُيِّن لهذا المنصب كان من مواليد برج العذراء.

من الأهمية بمكان أن تحدد بالضبط المواصفات التي تبحث عنها؛ وذلك لثلاثة أسباب على الأقل. أولها هو أنه بالرغم من اختلاف كل موقف عن غيره، فإن هناك تعميمات بإمكاننا أن نستعين بها فيما يخص أفضل مؤشرات التنبؤ بالأداء في وظيفة ما؛ لكن لكي تعتمد على تلك المعرفة بنجاح، عليك أن تعرف عمَّ تبحث.

ثانيًا: حين تبحث عن مرشحين لوظيفةٍ ما، فإنك تواجه كل أنواع التحديات العملية، بما فيها افتقادك للوقت الكافي لدراسة كل مرشح محتمل بتمعُّن؛ لذا عليك أن تحدد أولوياتك وتركز، بشكل أو بآخر؛ فبالتركيز على أصح المؤشرات، تستطيع أن تحقق تقييمات أفضل في وقت أقل؛ ومن ثَمَّ إنجاز عملك بمزيد من الفاعلية والكفاءة.

ثالثًا: التركيز على أصح مؤشرات للتنبؤ بأداء المرشح في وظيفة ما سوف يجنبك أي نوع من التمييز.

السبب الأخير وراء الضرورة البالغة لتحديد ما تبحث عنه على وجه الدقة هو أن المرشح المثالي لا وجود له على الأرجح؛ فعلى أرض الواقع، ينبغي عليك أن تجري مفاضلات؛ ولكي تجريها بنجاح، سيكون عليك أن تستوعب نقاط القوة ذات الأهمية الحيوية ونقاط الضعف التي لا تنطوي على ضرر فتَّاك.

(١) تلك المفاضلات الصعبة

كنت أعمل منذ بضع سنوات مع عميل قرر أن يغير الإدارة العامة لمؤسسته المالية الكبيرة؛ وبعد وضع تصوُّر جديد، بمساعدة شركة استشارات استراتيجية، أقنعته أن يغير استراتيجية مؤسسته تغييرًا كاملًا.

استبدلت الشركة في السنة الأولى المرءوسين الستة الرئيسيين للرئيس التنفيذي، وبعد ذلك بعامين، انتقل هذا الرئيس التنفيذي (الذي يتبعه ستة أفراد جدد) إلى منصب غير تنفيذي في المجموعة ذاتها. اقتضت الخطة ترقية أحد المرءوسين الستة المباشرين لهذا المدير التنفيذي السابق كي يخلفه في منصبه، لكن الستة جميعهم كانوا مسئولين تنفيذيين أكْفاءً وطموحين؛ فكيف للشركة أن تختار أحدهم؟ وما هي المواصفات التي كانت الشركة تبحث عنها في الرئيس التنفيذي التالي؟

يقدِّم الشكل ٥-١ وصفًا للمرشحين الداخليين الستة، ويلخص تصنيف صناع القرار لكل واحد من المرشحين بِناءً على ثلاثة معايير إجمالية مختلفة؛ كان أول هذه المعايير الخبرة المتعلقة بالمجال، والتي تشمل الخبرة بالسوق والنشاط التِّجاري والخبرة الوظيفية والظرفية. على سبيل المثال، المرشح «أ» هو أكثر من مر بأنماط من الظروف المتعلقة بالوظيفة، بينما المرشح «و» لا يمتلك سوى خبرة محدودة جدًّا ذات صلة بالمنصب. المعيار الثاني كان مهارات القيادة وإدارة العلاقات؛ فمن المثير للاهتمام أن المرشح «أ» (صاحب الخبرة الأوسع في المجال) أحرز أقل النتائج فيما يخص المعيار الثاني. أما المعيار الثالث فكان مستوى الذكاء؛ كممثل للذكاء اللفظي والتحليلي.
fig14
شكل ٥-١: اختيار خليفة الرئيس التنفيذي، الجزء الأول. وصف تقييمي للمرشحين الداخليين الستة.
يسلط الشكل ٥-١ الضوء على الحاجة إلى إجراء مبادلات في غاية الصعوبة. أتختار المرشح «أ» الأذكى والأوسع خبرة، لكنه الأقل من حيث مهارات القيادة وإدارة العلاقات؟ أم ستفضل المرشح «ﺟ»، ثاني أفضل المرشحين من حيث الخبرة والمهارات الشخصية، لكنه أحد الأقل ذكاءً بين المرشحين؟ أم سيقع اختيارك على المرشح «ﻫ»، الأفضل في مهارات القيادة وإدارة العلاقات، لكنه ليس أذكى المرشحين وأقل خبرة مقارنةً بأغلب الأفراد الذين يُفتَرَض أن يكونوا مرءوسيه المباشرين؟

سوف أعود لاحقًا إلى هذا المثال الواقعي لأُبَيِّن القرار الذي تم اتخاذه وأسبابه وأوجز تبعاته، لكن النقطة التي أطرحها الآن هي أن هذه الأنواع من المفاضلات ليست يسيرة على الإطلاق؛ لكنها تصير أكثر سهولة عندما تعرف تحديدًا المواصفات التي تبحث عنها؛ وتستطيع مِنْ ثَمَّ أن تولي المعايير المتنوعة ذات الصلة درجات مختلفة من الأهمية.

سوف أستعرض أولًا بعض النتائج العامة حول ملاءمة وأهمية المؤشرات المختلفة المستخدمة للتنبؤ بالنجاح في وظيفة ما، بما فيها حاصل الذكاء، والخبرة، والذكاء العاطفي، والإمكانيات الكامنة، والقيم. بعدها، سأقدم وصفًا لتطور أداة تسمى نموذج الكفاءة، وأوضح علاقته بنموذج الذكاء العاطفي. سوف أتحدث عن الإمكانيات الكامنة وكيفية النظر إليها، وأدرس الكفاءة الفردية مقارنة بكفاءة الفريق، وأخيرًا سأقدم بعض النصائح العملية لتحقيق الفاعلية والكفاءة في قراراتك المتعلقة بالموظفين.

(٢) هل حاصل الذكاء مهم؟

لنبدأ استعراضنا للمؤشرات الممكنة للتنبؤ بالأداء الوظيفي بحاصل الذكاء الذي يحظى بتقدير كبير. ببساطة، تحاول اختبارات الذكاء (التي تتعدد أنواعها) أن تحدد الذكاء العام للفرد. وعُدِّلَت هذه الاختبارات بحيث تقع النتيجة الوسيطة دائمًا عند الرقم ١٠٠؛ مما يعني أن نصف المجتمع الإحصائي يحرز نتائج أقل من ١٠٠ والنصف الآخر يحرز نتائج أكثر من ١٠٠. تتميز هذه الاختبارات باستخدامها على نطاق واسع للتنبؤ بالأداء الأكاديمي، والأداء الوظيفي، وحتى النجاح الاجتماعي الاقتصادي. لكن هل تحقق الغرض منها؟ هل تتسم بما يسميه العلماء الاجتماعيون «الصدق التنبؤي»؟

فحص عالما النفس فرانك إل شميت وجون إي هانتر صلاحية أساليب الاختيار المختلفة لعدة سنوات، وقد جمعا استنتاجاتهما من عدد ضخم من الدراسات مستخدمَين ١٩ عملية مختلفة من عمليات الاختيار للتنبؤ بالأداء الوظيفي، كما حلَّلا بعضًا من هذه العمليات مجتمعةً.

يؤكد ما أجراه الباحثان من عملٍ أن حاصل الذكاء يمثل بالفعل أهمية كبيرة؛ فقد ذكرا في الحقيقة أنه في حال تعيين موظفين دون سابق خبرة تتعلق بمهام الوظيفة، يكون المؤشر الوحيد الأصح للتنبؤ بأدائهم وتعلمهم في المستقبل هو القوة العقلية العامة، التي يمكن قياسها باستخدام اختبارات حاصل الذكاء المتاحة تِجاريًّا. علاوة على ذلك، يشير كلٌّ من شميت وهانتر إلى أنه بالنظر إلى مجموعات من القدرة العقلية العامة وكلٍّ من عمليات الاختيار الأخرى البالغ عددها ١٨ عملية، يتضح أن التوليفات الثلاث التي أثبتت أعلى صلاحية في مجملها للأداء الوظيفي هي:

  • (١)

    القدرة العقلية العامة بالإضافة إلى اختبار عينة العمل.

  • (٢)

    القدرة العقلية العامة بالإضافة إلى اختبار النزاهة.

  • (٣)
    القدرة العقلية العامة بالإضافة إلى المقابلة المنظمة.1
إذن الإجابة: نعم، حاصل الذكاء مهم.

(٣) هل الخبرة مهمة؟

لم يمض وقت طويل على ذلك النقاش الذي أجريتُه مع جاك ويلش بخصوص الحالات التي أحرز فيها موظفون سابقون في جنرال إلكتريك نجاحًا باهرًا لدى تولِّيهم مناصب الرؤساء التنفيذيين في شركات أخرى. سألت ويلش ما إذا كان باستطاعته إطلاق أية تعميمات بشأن العوامل التي شكلت نجاح هؤلاء المديرين برغم التحديات الاستثنائية التي تواجه جميع المديرين الجدد الوافدين من خارج الشركات، الذين يفتقرون بطبيعة الحال إلى أية خبرة بشركاتهم الجديدة.

أجاب ويلش بإيراد أمثلة تؤكد أهمية الخبرة السابقة؛ ومن بين هذه الأمثلة كان جيم ماكنرني، الذي وصفه ويلش باعتباره ذا «إرادة حديدية في قفاز مخملي». إن ثقافة شركة ثري إم ذات التوجه المركَّز على الفريق دعت إلى إجراء تغييرات ذات طابع تطوري متدرج بدلًا من التغييرات الجذرية؛ ومِنْ ثَمَّ كان ماكنرني يتمتع بالمواصفات المناسبة لِنَيْل ما يلزم من دعم داخلي وإحراز النجاح.

يتفاعل كلٌّ من الخبرة السابقة والسياق الجديد وشخصية الفرد بصور غير ملحوظة لكن قوية. نشرت مجلة هارفارد بزنس ريفيو مؤخرًا مقالًا تناول بالبحث حالات لعشرين مسئولًا تنفيذيًّا سابقًا في جنرال إلكتريك ممن اعتلوا مناصب عليا في شركات أخرى.2 خلص المقال إلى أنه بالرغم مما أحرزه هؤلاء المسئولون العشرون من نجاح في جنرال إلكتريك وما يتمتعون به من كفاءة عالية فيما يتعلق بالمهارات الإدارية العامة، فإن معرفتهم السابقة بالظروف المحيطة والوظيفة والمجال كانت ذات أهمية حاسمة في تحديد درجة نجاحهم في وظائفهم الجديدة. عند دراسة هؤلاء المسئولين من حيث ملاءمتهم الظرفية (ما أطلق عليه المقال «رأس المال البشري الاستراتيجي»، وهو ما يشير إلى المعرفة المكتسبة من الخبرة في التعامل مع ظروف تحتاج إلى مهارات استراتيجية خاصة؛ كتخفيض التكاليف، أو تحفيز النمو، أو إجراء مناورات في أسواق ذات تقلبات دورية)، وُجِدَ أن تسعة من بين المسئولين العشرين يتوافقون بشكل جيد مع الظروف المحيطة، بينما ينعدم هذا التوافق في المسئولين الباقين. في حالة توافقت احتياجات الشركات الاستراتيجية مع الخبرات الاستراتيجية للمسئولين التنفيذيين القادمين من جنرال إلكتريك، حققت الشركات عائدات سنوية غير معتادة بما يزيد على ١٤ في المائة في المتوسط، أما في حالات عدم التوافق؛ فقد تسبب ذلك في عائدات سلبية بحوالي ٤٠ في المائة.

لذا، فالإجابة ستكون مجددًا: نعم، الخبرة ذات أهمية كبيرة.

(٤) ماذا عن الشخصية؟

يعد حاصل الذكاء والخبرة عاملين ملموسين؛ بمعنى أنه بالإمكان التحقق منهما على نحو أسهل، وأنه من اليسير إلى حد ما الاتفاق على الشروط والتفسيرات المرتبطة بهما. أما الشخصية فهي جانب أوسع وأقل تقيدًا بالمعايير المادية. لكننا جميعًا نعرف (أو نشك) أنها عامل رئيسي. حين صرت استشاريًّا في البحث التنفيذي منذ ٢٠ عامًا تقريبًا؛ كان من أول ما سمعت من زملائي أن «تعيينك قائم على الخبرة وإقالتك قائمة على الشخصية».

ما هي الشخصية، وما مدى أهميتها، ومتى تبرز هذه الأهمية؟ تشير الشخصية إلى المجموعة المتفردة من السمات التي تحدد هوية الفرد ونمط تفاعلاته مع بيئته المحيطة. تتضمن هذه السمات الأفكار والمشاعر والسلوكيات. من الغني عن القول إن هذه السمات تتسم بالثبات التام؛ مما يعني أن من الراجح أن يكون سلوك الفرد متسقًا عبر مجموعة مختلفة من المواقف.

حتى الآن تبدو الأمور على ما يرام؛ لكن التمادي في تفكيك مفهوم الشخصية إلى عناصره الأساسية وتطبيقه في اختيار الأشخاص ليس بالمهمة اليسيرة، ففي اللغة الإنجليزية، مثلًا، يوجد ما يقرب من ١٨٠٠٠ مصطلح دال على السمات، وهو عدد كبير للغاية بحيث يصعب وضع جميع هذه المصطلحات في مصفوفة والتعامل معها! إذن المطلوب هو نموذج يعكس العناصر الأساسية في الشخصية ويبسِّطها.

وضعت مجموعة من الأدوات لدراسة الشخصية، ويمكن تصنيف هذه الأدوات في فئتين أساسيتين؛ تضم أولاهما استبيانات الرأي القائمة على الإبلاغ الذاتي؛ مثل عناصر الشخصية الخمسة، وقائمة كاليفورنيا النفسية، ومؤشر مايرز بريجز لأنماط الشخصية. (يلخص نموذج عناصر الشخصية الخمسة، على سبيل المثال، الشخصية بِناءً على خمسة معايير: الانبساط، والوداعة، ويقظة الضمير، والثبات الانفعالي، الانفتاح على التجارب.) أما الفئة الثانية فتشمل الأساليب الإسقاطية، ومن أشهرها اختبار تفهُّم الموضوع ومقياس ماينر لإكمال الجمل.

تستعين الشركات كثيرًا باختبارات الشخصية عند اتخاذ قرارات اختيار الموظفين، خاصة في حالة المرشحين المبتدئين الذين لا يمتلكون ما يكفي من الخبرة المرتبطة بمجال العمل.3 (ظني أن بعض الاختبارات تُستخدم في حوالي نصف عمليات التعيين حاليًّا.) على الرغم من انتشار هذه الاختبارات، فإنها لا تتسم بمستوًى عالٍ من الفاعلية. إذا نظرنا إلى نموذج عناصر الشخصية الخمسة الرئيسية مثلًا، فسنجد أن «يقظة الضمير» مهمة في جميع المهن، غير أن الاختبار ليس جيدًا بما يكفي في إبراز هذه السمة على نحو مفيد.4

من أهم الأسباب التي تجعل اختبارات الشخصية غير ذات فائدة كبيرة هو أنها ليست مخصصة لوظيفة بعينها؛ فمن الواضح أن الانبساط، أحد معايير نموذج عناصر الشخصية الخمسة، يعد أكثر أهمية في بعض المهن مقارنة بغيرها. يبقى الاستقراء من نتائج هذا النموذج تحديًا أمام صاحب العمل المحتمل. إذا كشف اختبار لمرشح أنه مصاب بوَسْواس قهري، فهل يُعد ذلك جيدًا أم سيئًا؟ حسنًا، إذا كان ذلك الشخص مرشحًا لتولِّي وظيفة محاسب رفيع المستوى؛ فمن الراجح أن يُعد ذلك أمرًا إيجابيًّا (بل إيجابيًّا جدًّا!) أما إذا كان مرشحًا لتولِّي وظيفة مدير، فمن شبه المؤكد أن ذلك أمر سلبي.

إني على ثقة بأن النظريات المرتبطة بالشخصية وما يرتبط بها من أساليب لاختبارها ستتحسَّن بالتأكيد مع مرور الوقت؛ إذ يواصل الباحثون إحراز تطورات هائلة في العلوم العصبية. وفي غضون ذلك، ينبغي استخدام اختبارات الشخصية وتفسيرها مع الاحتفاظ بدرجة من التشكك وعدم التعامل معها كأمر مطلق.5 إذا كنت تريد أن تكون اختياراتك للموظفين متميزة، فعليك أن تتجاوز نطاق هذه الاختبارات وتصل إلى ما هو أبعد منها.

(٥) قوة الذكاء العاطفي

خلال السنوات الأولى من عملي في مجال البحث التنفيذي، أمضيت وقتًا طويلًا محاولًا فهم أسس النجاح الشخصي والأداء المؤسسي المتميز، وقرأت كل ما وقع تحت يدي مما يبدو مرتبطًا بهذا الموضوع. أصابتني الدهشة حين اكتشفت العدد الهائل من الكتب والمقالات التي تطلق مزاعم حول الأداء؛ لكنها تفتقر إلى تقديم نظرية شاملة والأبحاث اللازمة لدعم هذه النظرية.

اقترح عليَّ زميلان لي في عام ١٩٩٥ أن أقرأ كتابًا بعنوان «الذكاء العاطفي» لمؤلفه الباحث دانيال جولمان.6 يتمتع جولمان (كما اكتشفت سريعًا) بعقل متَّقِد الذكاء على قدر كبير من التمرُّس. نال جولمان درجة الدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي وتطور الشخصية من جامعة هارفارد، ثم بدأ مسيرة مهنية متميزة في مجال الصحافة، رُشح خلالها لنيل جائزة بوليتزر وجائزة الإنجاز المهني للصحافة من جمعية علم النفس الأمريكية، كما انتُخِب زميلًا للجمعية الأمريكية لتقدم العلوم اعترافًا بجهوده في نقل العلوم السلوكية إلى الجماهير. بالإضافة إلى ذلك، فإن لجولمان تأثيرًا على آلاف المدارس حول العالم باعتباره أحد مؤسسي جمعية التعلم الأكاديمي والاجتماعي والعاطفي، والتي تساعد المدارس على إدخال مقررات محو الأمية العاطفية ضمن مقرراتها.

قرأت كتاب «الذكاء العاطفي» وأثار بالغ إعجابي. عرَّفَ جولمان الذكاء العاطفي بأنه الاستخدام الذكي لعواطف الفرد أو (بطريقة أخرى) القدرة على التحكم في أنفسنا وعلاقاتنا. في الأقسام اللاحقة، سأقدم مزيدًا من التفاصيل حول نظرية جولمان؛ لكن ما هو مثار اهتمام خاص بالنسبة لي هو احتجاجه عام ١٩٩٥ بأن هذه السمة التي أطلق عليها «الذكاء العاطفي» أو الكفاءة العاطفية، يمكن أن تلعب دورًا أكثر أهمية من حاصل الذكاء بالنسبة للنجاح الشخصي. لم يرجع ذلك إلى عدم ملاءمة حاصل الذكاء، بل لأن أغلب الأشخاص يتشابهون في امتلاكهم لمستويات عالية من الذكاء، خاصة في المناصب العليا في المؤسسات؛ وذلك نتيجةً لتعرُّضهم لعمليات فرز وتصنيف طوال فترة دراستهم. (تحتاج صفوة كل شيء إلى وقت طويل لترقى إلى السطح.) لكن الأشخاص يختلفون فيما بينهم اختلافًا ملموسًا فيما يتمتعون به من كفاءة عاطفية، حتى في المستويات الوظيفية العليا. وذهب جولمان إلى أن هذه الظاهرة لم تَنَلْ ما يكفي من الاهتمام.

كان الكتاب علميَّ الطابع، عالج بعبقرية مسألة بعيدة عن المعايير المادية، برغم تركيزه على الجانب الشخصي أكثر من الجانب المؤسسي. قررت أن أقابل جولمان لأناقشه فيما تحمله نتائجه من دلالات بالنسبة للمؤسسات.

في أكتوبر من عام ١٩٩٦، التقيت أخيرًا بجولمان. (وتكرم بدعوتي إلى منزله في ولاية مين.) تحدثنا على مدار ساعات عن العوامل التي تدفع المؤسسات إلى الإنجاز والمديرين إلى النجاح، وتناولنا ارتباط الكفاءات القائمة على الذكاء العاطفي بالشركات. كان اللقاء بالنسبة لي مذهلًا، بل مثيرًا. إن عمق المعرفة التي جمعها جولمان، وما يتمتع به من قدر ملحوظ من الموضوعية والأمانة الفكرية، أقنعني للمرة الأولى أنه يوجد بالفعل مجموعة مثيرة للإعجاب من الأبحاث الجادة التي تُثبت قيمة المهارات الشخصية في تحقيق النجاح في الحياة، والمجتمع، والعمل، علاوةً على إطار قوي لتقييم هذه المهارات الجوهرية وتنميتها.

اتفقنا على استكمال الحديث. طوال طريق عودتي (على متن طائرة صغيرة إلى نيويورك ثم أثناء رحلتي إلى بوينوس أيريس التي استغرقت ليلة كاملة)، ظللت أفكر في النتائج العميقة التي يحملها كتاب جولمان بالنسبة للموظفين داخل المؤسسات. وبدلًا من انتهاز لحظات من النوم الذي كنت في أمَسِّ الحاجة إليه، انشغلت في الحقيقة بوضع قائمة للموضوعات التي أردت أن أناقشها مع جولمان في لقاءات مستقبلية.

واصلنا حديثنا على مدار العام التالي، ومن بين القضايا التي ناقشناها فارق الأداء الإداري، ومؤشرات التنبؤ بالأداء الناجح، والأبحاث التي تتناول أساليب التقييم، وأهمية الذكاء العاطفي حول العالم، والاختلافات بين الثقافات فيما يتعلق بالذكاء العاطفي، وفرق الإدارة، والعوامل المؤسسية والقيادية التي تحفز الذكاء العاطفي في المؤسسات وتعززه.

كما سنرى، صرت أومن بمزيد من الحماس بقوة الذكاء العاطفي.

(٦) الأساس: الكفاءات

في نفس الوقت، بحثت بمزيد من التعمق في جذور النموذج القوي الذي وضعه جولمان؛ وذلك في سبيل الوصول إلى فهم أفضل لأصوله وتطبيقاته الممكنة. لا مجال للشك في أن الشخص صاحب التأثير الأهم على ذلك المجال الشائك الذي يتناول التنبؤ بالأداء الوظيفي — لا سيما بالنسبة للأدوار الإدارية العليا — هو الراحل ديفيد ماكليلاند.

أصدر ماكليلاند، أحد كبار علماء النفس في القرن العشرين، ورقة بحثية رائدة في عام ١٩٧٣ بعنوان «البحث عن الكفاءة بدلًا من الذكاء».7 أشار في هذه الورقة إلى انتشار اختبارات الذكاء والقدرات في الولايات المتحدة الأمريكية. استخدمت جميع أنواع المؤسسات هذه الاختبارات، محققة نجاحًا ملحوظًا، إلا أن ماكليلاند رأى أن هذا النجاح محدود للغاية وأن اختبار الذكاء وحدَه أخفق في تفسير الأداء الناجح، خصوصًا في المناصب التنفيذية العليا.

طرح ماكليلاند في ورقته المتميزة مصطلح «الكفاءة» لوصف أية سمة تميز الأداء العادي عن الأداء المتميز في وظيفة محددة. قد تشمل تلك السمة الدافعية، والميزات، وصورة الذات، والمعرفة، والمهارات، وأجَلْ، تشمل حاصل الذكاء أيضًا. انطلاقًا من بعض الافتراضات بالغة البساطة؛ كتلك القائلة إن السلوك الصادر في الماضي هو خير مؤشر للسلوك المتوقع في المستقبل، أثبت ماكليلاند أن أفضل مؤشرات على النجاح المحتمل في أية وظيفة هي السلوكيات الفعلية المرتبطة بتلك الوظيفة.

كتب ماكليلاند قائلًا: «إذا أردت أن تعرف من سيكون شرطيًّا ناجحًا، اذهب لترى ما الذي يفعله الشرطي، واتبعه في كل مكان، وأعدَّ قائمة بأنشطته، ثم استعن بعينة من تلك القائمة في التصفية بين المتقدمين للوظيفة.» لكن لا تعتمد على أحكام المشرفين بشأن من هم الشرطيون الأفضل؛ لأن «هذا — توخيًا للدقة — ليس تحليلًا وظيفيًّا، بل تحليلًا لما يتضمن أداءً أفضل حسب اعتقاد الآخرين.»

قارن ماكليلاند في بحثه بين مجموعتين متمايزتين: من يقع أداؤهم في فئة أعلى ٥ إلى ١٠ في المائة، حسبما أثبتت القياسات الواضحة للنتائج، وأصحاب الأداء المتوسط. أجريت عملية معقدة وتكرارية، ومن خلالها تم تحديد «الكفاءات» (أي السلوكيات التي لجأ إليها أصحاب الأداء المتميز على نحو أكثر تكرارًا واتساقًا من أصحاب الأداء المتوسط).

أطلق بحث ماكليلاند ثورة حقيقية في أماكن العمل منذ عام ١٩٧٣ وما تلاه من سنوات؛ فقد أسهمت قرارات اختيار الموظفين المبنية على كفاءاتهم في خفض معدل تبدُّلهم، وحسَّنَت الأداء الوظيفي، ووسعت مجموعات الموظفين الذين يمكن ترقيتهم. كما استُخدِم معيار الكفاءات لدعم تطبيقات مؤسسية أخرى ذات أهمية، كالتدريب، محققًا نتائج إيجابية دائمة.

واصل عديد من تلاميذ ماكليلاند عمله الرائد في حركة الكفاءة؛ ففي عام ١٩٨٠ مثلًا، نشر ريتشارد بوياتسيس (الذي سأعود إلى ذكره بعد قليل) كتاب «المدير الكفء» الذي جمع باكورة النتائج في هذا المجال، وأضاف آراءً جديدة.8 استعان بوياتسيس بعينة تضم ٢٠٠٠ شخص من ١٢ شركة، وتوصَّل — بِناءً على هذه العينة — إلى مجموعة أساسية من الكفاءات الضرورية للنجاح الإداري. وفي عام ١٩٩٣، نشر كل من لايل وسيجني سبنسر كتابًا بعنوان «الكفاءة في العمل» الذي سَرَّع من تطور حركة الكفاءة.9

(٧) ضروريات المديرين والمسئولين التنفيذيين

وصولًا إلى هذه النقطة، وقبل العودة إلى مسيرتي الشخصية، دعني أُشِر إلى عدة ملاحظات بشأن الكفاءات؛ أولًا: تختلف مجموعة الكفاءات المطلوبة لتحقيق الأداء المتميز باختلاف الوظيفة والمؤسسة. ثانيًا: عادة ما تتسم قائمة الكفاءات الرئيسية النموذجية للمديرين بالقصر. ثالثًا: تختلف أهمية كل كفاءة ويختلف المستوى المطلوب منها لتحقيق لأداء الناجح باختلاف المناصب.

أجرينا في إيجون زندر إنترناشونال، على مدار السنوات العديدة السابقة، تحليلًا مستفيضًا لخبرتنا العالمية في مجال البحث التنفيذي والتقييمات الإدارية، وذلك على مستوى مكاتبنا التي يبلغ عددها ٦٢ مكتبًا، والموزعة في شتى أنحاء العالم؛ وبناءً على هذا التحليل، حددنا الكفاءات التنفيذية الرئيسية. وأول هذه الكفاءات أن المديرين الناجحين ينبغي أن يتمتعوا بتوجه قوي نحو النتائج (أي أن ينصبَّ تركيزهم على تحسين نتائج الشركة)؛ فالتوجه الضعيف يعني ببساطة الرغبة في إنجاز المهام على نحو جيد أو أفضل، أما المستويات المتوسطة فتُترجَم إلى تحقيق الأهداف وتخطيها، يلي ذلك إدخال التحسينات، وفي الختام — وعلى رأس كل ما سبق — يأتي التصميم على التغيير الكامل لوجه الشركة.

الكفاءة الرئيسية الثانية هي «قيادة فِرَق العمل»، والتي تسمح للقادة بالتركيز، والتنسيق، وبناء مجموعات فعالة. من يتصفون بمستويات منخفضة من هذه الكفاءة يركزون على وضع أهداف الفريق، بينما تركز المستويات المتوسطة على بناء فريق منتج؛ أما المستويات المرتفعة فتهدف إلى بناء فريق عالي الأداء.

الكفاءة الرئيسية الثالثة هي ما نطلق عليها «التعاون والتأثير»، والمتمتعون بهذه الكفاءة يتميزون بالفاعلية في العمل مع أقرانهم وشركائهم، والآخرين ممن لا يقعون مباشرةً في نطاق قيادتهم؛ وذلك من أجل التأثير بإيجابية على أداء الشركة.

fig15
شكل ٥-٢: الكفاءات المعتادة للقادة الفعَّالين (المصدر: إيجون زندر إنترناشونال).

والكفاءة الأخيرة هي «التوجه الاستراتيجي»، الذي يُمَكِّن القادة من التفكير فيما هو أبعد من المسائل الراهنة الملحة، وتجاوز نطاق مسئولياتهم ليفكروا من منظور أوسع.

إلى جانب هذه الكفاءات الأربع الرئيسية، توجد مجموعة ثانية من خمس كفاءات ثانوية، قد تساهم أيضًا في النجاح في المستويات الإدارية العليا من المؤسسة. تضم هذه المجموعة: التوجه التِّجاري، الذي يعكسه السعي لجني المال؛ وقيادة التغيير، التي تعني قيادة الآخرين في سبيل تحويل المؤسسة وإعادة تنسيقها؛ وتنمية القدرة المؤسسية، والتي تُعنَى بتطوير القدرات طويلة المدى لمن يعملون في المؤسسة؛ وتأثير المستهلك؛ ومعرفة السوق.

يلخص الشكل ٥-٢ الكفاءات المعتادة للقادة الأكْفاء.

توجد بالطبع كفاءات أخرى قد تكون ذات أهمية خاصة في مواقف محددة؛ لكن هذه الكفاءات التسع (الأربع الرئيسية بالإضافة إلى الخمس الثانوية) تغطي معظم الجوانب.

(٨) تحديد الأهداف

fig16
شكل ٥-٣: افهم ما تحتاج إليه، الجزء الأول. مثال: من عالِم إلى مدير.
fig17
شكل ٥-٤: افهم ما تحتاج إليه، الجزء الثاني. مثال: من عالِم إلى مدير (تابع).

إلى جانب تحديد الكفاءات الهامة في كل وظيفة، من المهم تحديد المستوى المطلوب من كل كفاءة في كل وظيفة. وبرغم أن موضوع تقسيم الكفاءات إلى مستويات يتجاوز نطاق هذا الكتاب، فإنه من الأمثل أن تحاول تحديد المستوى المستهدف من كل كفاءة ذات أهمية في إدراك الأداء الناجح أو المتميز في كل وظيفة.

على سبيل المثال، يصور الشكل ٥-٣ والشكل ٥-٤ الظروف الخاصة بشركة متخصصة في علوم الحياة والتي كانت تعاني من صعوبة في إيجاد المديرين المناسبين لمنصب مدير المشروعات، وهو منصب مهم بين الدرجات الوظيفية الفنية في الشركة. وحسبما يوجز الشكل ٥-٣، فإن أغلب مديري المعامل لا يمكنهم الترقي إلى منصب مدير المشروعات، فضلًا عن الوصول إلى مستوى مدير أول البحث والتطوير. وثبت من خلال تحليل متطلبات كلٍّ من هذه المناصب أن المواصفات المطلوبة في مدير المشروعات تختلف اختلافًا كبيرًا للغاية عن المواصفات المطلوبة في مدير المعمل، لا سيما فيما يتعلق بجوانب العمل الجماعي، والتركيز على المستهلك، وقيادة التغيير، والتوجه الاستراتيجي. باختصار، كان النجاح في هذا المنصب الجديد يتطلب مستويات أعلى بكثير في كلٍّ من تلك الكفاءات.

(٩) الاستفادة من إخفاقاتي الشخصية

دعنا الآن نعاود الحديث عن اكتشافاتي الشخصية فيما يخص مسألة الكفاءات والذكاء العاطفي.

دعاني دانيال جولمان في أواخر تسعينيات القرن العشرين، بِناءً على تعاملاتي معه، إلى الالتحاق باتحاد أبحاث الذكاء العاطفي داخل المؤسسات، الذي يشارك في رئاسته. كان من دواعي سروري العمل لسنوات عديدة مع طائفة مرموقة من الأفراد في هذه المؤسسة البحثية القوية، وكان أغلبهم من حَمَلَة درجة الدكتوراه في علم النفس المؤسسي، وكثير منهم تتلمذوا على الراحل ديفيد ماكليلاند.

نتيجةً لتعاملي مع جولمان والاتحاد، بدأت أحلل خبراتي المهنية الخاصة لأرى ما إذا كانت الكفاءات المبنية على الذكاء العاطفي ذات أهمية محورية في تحقيق النجاح (كما زعم جولمان) أم لا. كان لديَّ، بحلول هذه المرحلة، خبرة عمرها ١١ عامًا تقريبًا، وعقدت مقابلات شخصية مع حوالي ١١ ألف شخص. اخترت من بين هذه العينة الضخمة للغاية مجموعة فرعية من أفراد أعرفهم معرفة وثيقة جدًّا، عُيِّنوا على يدي أو على يد زميل مقرب، وكنت أتابعهم متابعةً مستمرة من قبلُ وأثناء وبعد تعيينهم.

ضمت هذه العينة ٢٥٠ فردًا، يعيش أغلبهم في أمريكا اللاتينية، حقق ٢٢٧ منهم (أو أكثر بقليل من ٩٠ في المائة) نجاحًا بالغًا. ضمت العينة كذلك ٢٣ فردًا ممن أخفقوا — في رأيي — في وظائفهم، والإخفاق لم يكن يعني بالضرورة أنهم أقيلوا من مناصبهم؛ بل كان يحمل معنًى أوسع وهو أن أداءهم لم يَرْقَ إلى مستوى التوقعات إما من حيث النتائج المادية أو العلاقات أو كليهما.

ولمن تعنيهم التفاصيل، يمكنهم الاطلاع على ملخص هذا التحليل في فصل من كتابي «مقرات عمل ذكية عاطفيًّا»، وهو الكتاب الذي حرره كلٌّ من دانيال جولمان وكاري تشيرنيس.10 الأمر ببساطة أني حاولت أن أتبيَّن ما هي أبرز سمة أو سمتين في المرشحين المعينين، وأن أحدد ما إذا كانت هناك أية صلة بين تلك السمات ونجاحهم (أو إخفاقهم) في الوظيفة الجديدة. أمعنت النظر في ثلاث فئات واسعة النطاق: حاصل الذكاء، والخبرة، والذكاء العاطفي. كانت التقييمات نسبية، بمعنى أني كنت أقارن كلًّا من المرشحين المعيَّنين مع غيره من المرشحين الآخرين للوظيفة في كل حالة.
غيرتْ نتائج هذا التحليل وجهة نظري تمامًا. أولًا: وكما هو موضح في الشكل ٥-٥، كانت التوليفة الأكثر تكرارًا، والتي أدركت أني غالبًا ما كنت أبحث عنها، هي الخبرة المتصلة بمجال العمل، بالإضافة إلى الذكاء العاطفي المرتفع. وبرزت هذه التوليفة في ٤٠ في المائة من الحالات. وأثبت هؤلاء المرشحون أنهم ناجحون نجاحًا بالغًا، ولم تَزِدْ نسبة إخفاقهم عن ٣ في المائة؛ أي بعبارة أخرى، حين بحثت عن المرشحين أصحاب الذكاء العاطفي المتميز والخبرة الكبيرة ذات الصلة، وجدت أن ٩٧ في المائة من الحالات نجحت برغم التحديات التي تواجه تعيين مدير جديد.
fig18
شكل ٥-٥: معدلات الإخفاق لمجموعة متنوعة من المواصفات.
fig19
شكل ٥-٦: إحدى أبرز سمتين، الجزء الأول. مواصفات المديرين الفاشلين مقابل مواصفات المديرين الناجحين.
كما يشير الشكل ٥-٥، كانت كل واحدة من التوليفتين التقليديتين الأخريين (إما الخبرة مع حاصل الذكاء أو الذكاء العاطفي مع حاصل الذكاء) موجودة في واحدة من بين كل أربع حالات محل بحث، غير أنه من اللافت للنظر أنه حين تفوَّق المرشحون في معيارَي حاصل الذكاء والخبرة المتصلة بمجال العمل مع انخفاض نسبة الذكاء العاطفي لديهم، أخفقوا في ٢٥ في المائة من المرات!
بدا لي ذلك مذهلًا ومفيدًا. وقد حدا بي ذلك لإخضاع هذه البيانات لمزيد من التحليلات، كالموضحة في الشكل ٥-٦ الذي يعرض المواصفات المميزة للمديرين الفاشلين مقابل مواصفات المديرين الناجحين، في إشارة إلى نسبة تكرارية إظهارهم لكل واحدة من هذه الفئات الثلاث باعتبارها إحدى أبرز سمتين لديهم.
فيما يلي عرض لبعض الاستنتاجات الجلية المستقاة من الشكل ٥-٦:
  • الخبرة مهمة. كان لدى ٧٠ في المائة من الأفراد الناجحين خبرة سابقة متصلة بمجال العمل.

  • الخبرة وحدَها لا تكفي للتنبؤ بالنجاح. في الحقيقة، كانت الخبرة المتصلة بمجال العمل إحدى أبرز سمتين لدى ٨٣ في المائة من المديرين الفاشلين!

  • حاصل الذكاء لا يكفي للتنبؤ بالنجاح. كان حاصل الذكاء واحدًا من أبرز سمتين لدى ثلثي المديرين الفاشلين، بينما لم تشمل تلك الفئة سوى ٥٠ في المائة فقط من المديرين الناجحين.

  • كانت نسبة تكرار الذكاء العاطفي كواحد من أبرز السمات أعلى لدى المديرين الناجحين (ما يقرب من ثلثي الحالات في مقابل ٥٠ في المائة). بدا الذكاء العاطفي أهم للمديرين الناجحين من حاصل الذكاء.

  • ختامًا، برغم أن الذكاء العاطفي كان واحدًا من أبرز سمتين لدى المديرين الناجحين في ثلثي الحالات، فإن الذكاء العاطفي لم يكن أحد أبرز سمتين لدى أيٍّ من المديرين الفاشلين في تلك العينة؛ أي بمعنى آخر، هناك صلة وثيقة للغاية بين انعدام الذكاء العاطفي والفشل.

(١٠) التعامل مع المبادلات

دفعني انبهاري بهذه الدلائل إلى معالجة هذه البيانات بطريقة أخرى عن طريق دراسة التركيبة المكونة من أبرز سمتين للمديرين الناجحين والفاشلين. تتضح تلك المعالجة في الشكل ٥-٧ الذي يوجز التكرار النسبي بين المديرين الناجحين والفاشلين، على التوالي؛ لإظهارهم لكلٍّ من التركيبات الممكنة في الفئات الثلاث المشار إليها سابقًا (الخبرة + الذكاء العاطفي؛ الخبرة + حاصل الذكاء؛ الذكاء العاطفي + حاصل الذكاء).
fig20
شكل ٥-٧: تركيبة من أبرز فئتين. مواصفات المديرين الفاشلين مقابل مواصفات المديرين الناجحين.

على سبيل المثال، كان ٣٦ في المائة من المديرين الناجحين الذين شملهم التحليل يملكون خبرة متصلة بمجال العمل وذكاءً عاطفيًّا قويًّا جدًّا.

تشمل الاستنتاجات المستقاة من التحليل الموضح في الشكل ٥-٧ النقاط التالية:
  • إذا تسنَّى التوصل إلى فئتين فقط لأغراض البحث العام؛ فالتوليفة الأقوى في التنبؤ بالنجاح ينبغي أن تكون تلك المكونة من الخبرة المتصلة بمجال العمل والذكاء العاطفي المرتفع.

  • يمكن أن يكمل الذكاء العاطفي حاصل الذكاء على نحو جيد في حال عدم إمكانية وجود خبرة. بعبارة أخرى، تركيبتا الذكاء العاطفي + حاصل الذكاء، والخبرة + حاصل الذكاء، كانتا موجودتين بالمثل في المديرين الناجحين.

  • لعل أهم ما تمخَّض عنه هذا التحليل هو أن في غياب الذكاء العاطفي، تبدو التركيبة التقليدية المكونة من الخبرة المتصلة بمجال العمل وحاصل الذكاء المرتفع مؤشرًا للتنبؤ بالإخفاق أكثر منها مؤشرًا للتنبؤ بالنجاح (٥٧ في المائة من المديرين الفاشلين كانوا متميزين في هذه التركيبة التقليدية، بينما كانت هذه التركيبة تمثل أبرز سمتين لدى أقل من ربع المديرين الناجحين).

مجددًا، كان لهذا الاستقصاء وما ترتب عليه من نتائج تأثير عميق حقًّا عليَّ؛ في الواقع، أدى التوصل إلى هذه الاستنتاجات غير المتوقعة إلى تغيير قراراتي في اختيار الأشخاص تغييرًا كاملًا منذ تلك المرحلة فصاعدًا.

لنعد الآن إلى المفاضلة الصعبة التي طرحناها أول هذا الفصل، والتي تشير إلى الوصف التقييمي لستة مرشحين داخليين للترقية إلى منصب الرئيس التنفيذي الجديد في مؤسسة مالية. يقدِّم الشكل ٥-٨ إعادة صياغة للموقف.

لو وُضعت الخبرة وحدَها محل الاعتبار لكان ترتيب المرشحين للترقية المرتقبة كالتالي: الأول المرشح «أ»، والثاني المرشح «ﺟ»، والثالث المرشح «ب». أما لو وُضع حاصل الذكاء فقط محل الاعتبار؛ لكان الترتيب كما يلي: الأول المرشح «أ»، والثاني المرشح «ب»، والثالث المرشح «ﻫ». أما لو استعملنا التركيبة المكونة من الخبرة وحاصل الذكاء، فيبدو أن المرشح «أ» هو الخيار الواضح بينما من الراجح أن يأتي المرشح «ب» في المركز الثاني. لو نظرنا إلى الفئات الثلاث العريضة، لكان بعض الخيارات المتاحة للترقية الداخلية كما يلي:

  • المدير «أ»، الخيار التقليدي: الأعلى في الخبرة وحاصل الذكاء.

  • المدير «ﺟ»، خيار الخبرة: قوي جدًّا من حيث الخبرة والذكاء العاطفي؛ لكنه ليس الأذكى (يأتي خامسًا في حاصل الذكاء).

  • المدير «ب»، الخيار الآمن: ذكاء مرتفع، خبرة مقبولة، ذكاء عاطفي متوسط.

  • المدير «ﻫ»، خيار الذكاء العاطفي: أعلى مهارات في القيادة وإدارة العلاقات، ذكاء فوق المتوسط، خبرة محدودة.

fig21
شكل ٥-٨: اختيار خليفة الرئيس التنفيذي، الجزء الثاني. وصف تقييمي للمرشحين الداخليين الستة.

كان القرار هو ترقية المدير «ﻫ»، خيار الذكاء العاطفي. فبينما كان المدير «أ» أذكى وأكثر خبرة، إلا أن ذكاءه العاطفي المنخفض للغاية كان سيؤدي إلى فشلٍ أكيدٍ. وبينما كان المدير «ﺟ» أكثر خبرة من المدير «ﻫ»، إلا أن الخبرة كفاءة متغيرة، ومن المتوقع للمدير «ﻫ» أن يتحسَّن فيها مع مرور الوقت؛ لكن تقييمه أثبت أنه أقوى من المرشح «ﺟ» في الكفاءتين الأقل قابلية للتغير (الذكاء العاطفي وحاصل الذكاء). وأخيرًا، بينما كان المدير «ب» يحقق مستوًى متوسطًا في جميع الفئات بالمشابهة مع «ﻫ»، بل في الواقع كان أقوى من «ﻫ» في الخبرة والذكاء، إلا أن ذكاءه العاطفي كان أقل من المتوسط.

غنيٌّ عن الذكر أنه لولا ما قمت من تحليل وتأمُّل لإخفاقاتي السابقة لما وصلت إلى هذه الدرجة من التيقن بشأن اقتراحي في هذه الحالة!

وبالفعل، صار المدير «ﻫ» الرئيس التنفيذي للشركة، وأحرز نجاحًا كبيرًا؛ لدرجة أنه ضاعف قيمة المؤسسة المالية في غضون عامين فحسب، وهو ما كان قابلًا للتقدير الموضوعي نظرًا إلى أن الشركة بيعت بنهاية هذه المدة. ومما يعد ميزة إضافية لاختيار هذا المدير أن ما كان يتمتع به من مهارات في القيادة وإدارة العلاقات سهَّل على المديرين الخمسة الآخرين (الذين كانوا يتنافسون فيما مضى على منصب الرئيس التنفيذي) تقبُّل ترقيته. لقد كان حقًّا قرارًا في غاية الذكاء العاطفي!

(١١) النجاح والإخفاق في ثقافات مختلفة

على إثر اندهاشي بما كشفه لي تحليلي لخبراتي، قررت أن أُطلع دانيال جولمان على النتائج التي توصلت لها، وكما توقعت، أجابني بأن عبَّر عن تشوقه لمعرفة ما سينتج عن إجراء تحليل مشابه في ثقافات أخرى على درجة كبيرة من التمايز، وبالأخص الثقافة الألمانية والثقافة اليابانية. ومع تشجيع جولمان، طلبتُ من زميليَّ هورست بروكر من ألمانيا وكين ويتني من اليابان، أن يُجريا تحليلات مشابهة، وأطلعتهما على منهجي في البحث دون أن أكشف لهما عن النتائج التي خلصت إليها.

كانت النتائج المستقاة من هذه الثقافات الثلاث المختلفة للغاية (أمريكا اللاتينية، وألمانيا، واليابان) مذهلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. يعرض الشكل ٥-٩ مواصفات المديرين الفاشلين مقابل مواصفات المديرين الناجحين من الثقافات الثلاث المختلفة محل التحليل، موضحًا التكرار النسبي لاتصاف كلٍّ من المديرين الناجحين والفاشلين بكل واحدة من الفئات الثلاث العامة، باعتبارها واحدة من أبرز السمات. على سبيل المثال، يمتلك ٧١ في المائة من المديرين الناجحين المعيَّنين في ألمانيا خبرة سابقة وثيقة الصلة بمجالات عملهم، باعتبارها واحدة من أبرز سماتهم.
fig22
شكل ٥-٩: إحدى أبرز سمتين، الجزء الثاني. مواصفات المديرين الفاشلين في مقابل مواصفات المديرين الناجحين، ثلاث ثقافات مختلفة. عينة مكونة من ٥١٥ مديرًا من ٣ ثقافات مختلفة (المصدر: إيجون زندر إنترناشونال).
كما ترى في الشكل ٥-٩، كانت مواصفات المديرين الناجحين شبه متطابقة بين الثقافات الثلاث التي تختلف اختلافًا كبيرًا؛ مما اعتبرته إقرارًا هامًّا بالاستنتاجات المستقاة من أمريكا اللاتينية وحدَها. (الاختلافات الطفيفة في الجانب الأيسر من الشكل، والتي تعبر عن نفس الشكل الأساسي بوجه عام، من الراجح تُعزى إلى صغر حجم العينة المأخوذة من حالات الإخفاق.) بعبارة أخرى، ثبتت صحة كلٍّ من الاستنتاجات السابقة الواردة كنقاط. وختامًا، إذا نظرت إلى التركيبة المكونة من أبرز سمتين فستجد مرة أخرى أن جميع الاستنتاجات السابقة تنطبق على كل واحدة من الثقافات الثلاث على الرغم مما بينها من اختلافات كبيرة.

وفيما يلي موجز لما عقدته من استنتاجات بشأن النجاح والإخفاق في الثقافات المختلفة وأهمية الذكاء العاطفي:

  • يوجد قدر هائل من الأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية التي تُثبت مدى أهمية الذكاء العاطفي للنجاح، خاصة في المناصب الإدارية والتنفيذية العليا.11
  • تتسم هذه الاستنتاجات بقوة بالغة في أمريكا اللاتينية، كما أن تحليلًا مشابهًا أجراه زميليَّ في ألمانيا واليابان، توصَّل إلى نفس الاستنتاجات بالضبط، وثبتت أهمية كفاءات الذكاء العاطفي للمناصب الإدارية العليا على الصعيد العالمي. ثمة ثلاثة استنتاجات رئيسية بالتحديد تبرز بقوة لا مراء فيها في جميع الثقافات محل التحليل:
    • (١)

      الذكاء العاطفي أهم للنجاح من حاصل الذكاء، وفقدان الذكاء العاطفي له صلة وثيقة جدًّا بالإخفاق في المناصب الإدارية العليا.

    • (٢)

      إذا تسنَّى التوصل إلى فئتين عريضتين فقط خلال البحث عن مدير كبير، فالتركيبة الأقوى لتحقيق النجاح تتكون في العموم من الخبرة والذكاء العاطفي.

    • (٣)

      التركيبة التقليدية المكونة من الخبرة ذات الصلة وحاصل الذكاء (مع ذكاء عاطفي محدود) تؤدي في الأغلب إلى الإخفاق أكثر مما تؤدي إلى النجاح.

دعني أُضِف ملاحظة تفسيرية أخيرة، تعود أصولها إلى أول كتاب ألَّفه جولمان حول الذكاء العاطفي. كان كل واحد من المديرين في هذه العينات يتمتع بمستوًى عالٍ من الذكاء، لم يكن بينهم شخص غبي، وإلا لما اجتازوا تعليمهم الجامعي (ودراساتهم العليا في كثير من الحالات)، فضلًا عن النجاح في المستويات الصعبة التي تميز الإدارة الوسطى. بمعنًى آخر، كانوا جميعًا أذكياء (بل في غاية الذكاء)، لكن لو لم يتمتعوا بميزة الذكاء العاطفي المرتفع؛ فليس ثمة ما يكفل نجاحهم.

مجددًا، استوقفني هذا الإدراك.

(١٢) لماذا يعد الذكاء العاطفي مهمًّا؟

يرى البعض مفهوم الذكاء العاطفي حلًّا شافيًا لجميع المشكلات، بينما يرفض آخرون الفكرة بِرُمَّتها معتبرين إياها بدعة، وما أراه أن الرؤيتين جانبهما الصواب؛ لذا دعني أُوجز ما أظنه كُنْه الذكاء العاطفي.

من النقاط الهامة أن الذكاء العاطفي، خلافًا لحاصل الذكاء، ليس مؤشرًا بل مقياسًا للكفاءات. ما الفارق؟ يقدِّم مؤشر حاصل الذكاء متوسطًا حسابيًّا لسلسلة من القدرات وثيقة الصلة بعضها ببعض، والمرتبطة بالشكل التحليلي/اللفظي للذكاء التقليدي، أما الذكاء العاطفي فيمثل — على النقيض — تجميعًا لسلسلة من الكفاءات المختلفة.

ما النقاط الأساسية المنبثقة من المفهوم الخاص بمخزون الذكاء العاطفي؟

  • أنت في حاجة إلى مستوًى أساسي — مستوًى أدنى — في بعض الكفاءات.

  • أنت في حاجة أيضًا إلى بعض الكفاءات في كل واحدة من المجموعات الأربع الأساسية من الكفاءات (الوعي بالذات، وإدارة الذات، والوعي الاجتماعي، وإدارة العلاقات؛ سأتناول هذه الكفاءات بمزيد من التفصيل فيما بعد).

  • يوجد كم أساسي معين من الكفاءات يمثل الحد الأدنى اللازم لتحقيق الأداء المرتفع، برغم أنه لا يتوجب عليك أن تتفوق في جميعها.

  • ينبغي أن تكون كفاءاتك ملائمة لمتطلبات الوظيفة. كما ذكرت سلفًا، فواحدة من المشكلات الرئيسية التي تواجه أغلب اختبارات الشخصية هي أنها ليست مخصصة لوظيفة بعينها؛ فكل وظيفة تتطلب مستويات مختلفة من الكفاءات المختلفة.

توجد طرق كثيرة لتعريف الذكاء العاطفي؛ ومِنْ ثَمَّ توجد مجموعات كثيرة من الكفاءات وأساليب كثيرة لقياسها، أكثرها فائدة ذلك النموذج الذي وضعه دانيال جولمان وريتشارد بوياتسيس الذي يضم أربع مجموعات: (١) الوعي بالذات (وتتصل بها الكفاءات التالية: الوعي العاطفي بالذات، والتقييم الدقيق للذات، والثقة بالذات). (٢) إدارة الذات (ضبط النفس الانفعالي، والشفافية، والقابلية للتكيُّف، والتوجه القائم على الإنجاز، والمبادرة، والتفاؤل). (٣) الوعي الاجتماعي (التعاطف، والوعي المؤسسي، والتوجه القائم على تقديم الخدمات). (٤) إدارة العلاقات أو المهارات الاجتماعية (تنمية الآخرين، والقيادة الملهمة، والتأثير، وتحفيز التغيير، وإدارة الصراعات، والعمل الجماعي والتعاون).

كيف تقاس كفاءات الذكاء العاطفي؟ وضع جولمان وبوياتسيس الأداة الأجدى لقياسها وهي «اختبار قياس الذكاء العاطفي». لا يُعتبر التقييم الذاتي أفضل طريقة لقياس هذه الكفاءات، وإنما تُعتبر الملاحظات، وخاصة التقييمات الشاملة (تقييمات ٣٦٠°)، الوسيلة المُثْلى لبلوغ هذا الهدف، مع ما تنطوي عليه هذه الملحوظة من مبالغة في التبسيط.

لماذا يُعتبر كل هذا مهمًّا لقرارات اختيار الموظفين؟ لأن الكفاءات القائمة على الذكاء العاطفي ضرورية في أية وظيفة وعنصر أساسي لتحقيق الأداء المتميز. إن الأداء في الوظائف المعقدة — كما أشرت في الفصل الثاني — يصنع فارقًا كبيرًا؛ ومن ثَمَّ لو تمكَّنت من تقييم الكفاءات القائمة على الذكاء العاطفي، فسيكون في استطاعتك التنبؤ بالأداء المتميز على نحو أفضل؛ ومن ثم خلق قيمة اقتصادية كبيرة.

(١٣) خلاصة القول في الذكاء العاطفي

لكن مثل هذه العبارة لن تدهش القادة والمديرين أصحاب الدراية الواسعة بالمجال بعد الآن؛ فكثير من المؤسسات اليوم (حتى تلك التي لا تتحدث صراحةً عن الذكاء العاطفي) تَعِي جيدًا أن الكفاءات غير المادية ذات أهمية رئيسية لتحقيق النجاح في المستويات المؤسسية العليا. ولذلك، يمتلك كثير من المؤسسات الآن مخزونًا من الكفاءات المحددة بوضوح، وتحاول أن تُعيِّن الموظفين وترقِّيهم بِناءً على كفاءات الذكاء العاطفي المناسبة (برغم أن هذه المؤسسات، مرة أخرى، قد لا تفصح عما تقوم به). كما تستعين هذه المؤسسات — ضمن حدود سأناقشها فيما بعد — بأساليب قائمة على الذكاء العاطفي في أغراض التطوير التنفيذي.

ونتيجةً لذلك، يتم اتخاذ قرارات أفضل فيما يتعلق باختيار الموظفين؛ مما يعكس التأثير الهائل الذي خلفه دانيال جولمان وزملاؤه. وبالتطلع إلى العَقد القادم، يبدو لي أن هذا التأثير لن يشهد إلا ازديادًا؛ فمستوى معيشتنا يعتمد اعتمادًا مطلقًا على التميز في القمة؛ وهو ما ينبثق إلى حد كبير من هذه الكفاءات. ومن ثَمَّ سوف تزداد الاستعانة بهذه الكفاءات في اختيار الموظفين، في جميع أنماط المؤسسات.

علاوة على ذلك، سيكون مطلوبًا من مفهوم الذكاء العاطفي أن يستعيد سمعة الرأسمالية والاقتصاد الحر ويدافع عنهما. ربما يبدو ذلك في البداية من قَبيل المبالغات، لكن لو نبشت وراء فضائح شركات إنرون، وورلدكوم، وأديلفيا؛ فستجد في نهاية المطاف أن السبب الجذري لمتاعبهم لم يكن نقصًا في حاصل الذكاء ولا الخبرة، بل كان انعدام الشفافية وضبط النفس، وهل هناك طريقة أفضل لاستعادة الثقة في الشركات وقاداتها من بِناء الذكاء العاطفي كجزء من مؤسساتنا؟

وختامًا، فإن عالمًا تتنامى فيه ظاهرة العولمة إنما هو عالم أكثر تقلبًا؛ مما يتطلب مستوًى أعلى من الكفاءات القائمة على الذكاء العاطفي؛ من حيث القابلية للتكيُّف، والتعاطف، ومراعاة الفروق بين الثقافات، والقيادة. لأجل هذه الأسباب وغيرها الكثير، ستتزايد أهمية الذكاء العاطفي في السنوات المقبلة.

(١٤) معضلة التنمية

باعتباري استشاريًّا في البحث التنفيذي، أمضيت أغلب وقتي خلال العَقدين الماضيين في مساعدة المؤسسات على تحسين أدائها باتخاذ قرارات متميزة فيما يخص اختيار الموظفين، إما بمرشحين داخليين أو خارجيين؛ أي إن أغلب عملي، بعبارة أخرى، لم يكن معنيًّا بتنمية الموظفين، بل بتعيين (أو ترقية) أفضل الأشخاص المتاحين.

لكنني في الوقت ذاته أمضيت نحو عَقد من الزمان قائدًا لجهود التنمية المهنية في مؤسستنا على مستوى العالم؛ ومِنْ ثَمَّ مساعدة زملائي على تنمية أنفسهم والتقدم مهنيًّا؛ مما أعطاني نظرة مباشرة على تحدي التنمية المهنية ووضع على عاتقي التزامًا شخصيًّا بإتمام هذه الْمَهمة على أكمل وجه.

غير أن الحديث عن «إتمام الْمَهمة على أكمل وجه» أسهل من تحقيقه على أرض الواقع؛ فالمؤسسات حاليًّا في الولايات المتحدة الأمريكية فقط تنفق ما يقرب من ٦٠ مليار دولار سنويًّا على برامج التدريب، والتي ينصرف جزء كبير منها إلى التطوير الإداري؛ ولكن من غير الواضح تمامًا ما إذا كانت هذه الأموال تُنفَق كما ينبغي؛ فالمحاولات القليلة التي أُجريت للتحقق المنهجي من تأثير التطوير الإداري أسفرت عن نتائج محيرة. وفي أغلب الحالات، يبدو أن الآثار القليلة الإيجابية، والقابلة للقياس، المترتبة على جهود التدريب والتطوير، تتلاشى في غضون أشهر معدودة بعد انتهاء البرامج.

لا يوجد، على وجه التحديد، كثيرٌ من الأدلة الدامغة على أن المهارات العليا (المهمة للغاية للنجاح في المناصب العليا!) يمكن تنميتها بأية طريقة بنَّاءة؛ وربما يترتب على ذلك أن كثيرًا من المؤسسات والمديرين لا يُبدون تركيزًا صريحًا على مسألة التنمية، ويركزون بدلًا من ذلك على اختيار الموظفين، معتمدين على افتراض ضمني بأن المديرين إما أن يكون لديهم الموظفون المناسبون أو لا. تعمل الخبرة، في هذا النموذج، بشكل أساسي على صَقْل سمات المدير الرئيسية، التي تكون راسخة بشكل أو بآخر، ونتاجًا للإرث الجيني الجيد أو السيئ.

لا شك أن الجينات تلعب دورًا كبيرًا، كما أوضحتُ في الفصل الأول من هذا الكتاب؛ لعل نصف ما نحن عليه الآن، وما بوسعنا أن نكون، مشروط جينيًّا. (لاحظ أني تجنَّبت كلمة محتوم.) حاصل الذكاء، مثلًا، يعتمد إلى حد كبير على الذكاء الفطري الذي يلازمك منذ الميلاد (وتضاف إليه بالطبع إسهامات كبيرة من التعليم والتطبع بثقافة المجتمع)؛ لكن النصف الثاني يتشكل من خلال التنمية. والمؤسسات، على الأقل في الجانب المهني من حياتنا، تتحكم في مستوى تلك التنمية.

إليك البُشرى: الذكاء العاطفي قابل للتنمية. لم يكتفِ ريتشارد بوياتسيس بإجراء بعضٍ من أفضل الأبحاث حول تعلُّم البالغين بالتوجيه الذاتي بل قاد أيضًا تطبيق ذلك في أحد برامج ماجستير إدارة الأعمال المعني بتنمية هذه الكفاءات.12 فنشر في عام ١٩٩٦ ورقةً بحثية تُلخص عمله في وضع البرامج التطويرية للكفاءات القائمة على الذكاء الانفعالي.13 كانت النتيجة التي توصَّل إليها كما يلي: بوسع الأفراد رفع درجة كفاءاتهم، خاصة تلك المرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالفاعلية الإدارية، غير أن هذا لن يتحقق في البرامج التطويرية التقليدية.
في كتاب «القيادة الأولى»، الذي تشارك في تأليفه ريتشارد بوياتسيس ودانيال جولمان وآني ماكي، يقدِّم بوياتسيس نظريته الخاصة بالتعلم الموجَّه ذاتيًّا، وتضم خمس خطوات أساسية في سبيل التغيير. تضم الخطوة الأولى الرغبة في التغيير؛14 ومن ثم تعريف ذاتك المثالية؛ أي من ترغب في أن تكون. الخطوة الثانية هي اكتشاف ذاتك الحقيقية؛ مما يتطلب الاستعانة بآراء الآخرين؛ نظرًا للحدود التي تقيد وعينا بذواتنا. أما في الخطوة الثالثة، فعليك أن تخلق أجندة تعلُّم واقعية تستند إلى نقاط قوتك وتعوض نقاط ضعفك.

وفي الخطوة الرابعة، تحتاج إلى تجربة السلوكيات، والأفكار، والمشاعر الجديدة وممارستها إلى أن تجيد الكفاءات الجديدة. هذه النقطة ضرورية وتشكل فارقًا كبيرًا بين عملية التعلم التقليدي وتنمية الكفاءات القائمة على الذكاء العاطفي. أجَلْ، هذه الكفاءات قابلة للتعلم لكنها تحتاج إلى قدر كبير من العمل الجاد على مدار فترة طويلة حتى يتسنَّى اكتساب العادات الجديدة.

والخطوة الخامسة والأخيرة، والتي تنطبق على كلٍّ من الخطوات السابقة، هي إقامة علاقات قوامها الثقة بحيث تساعد كل خطوة في العملية وتدعمها وتستحثها.

باختصار، إن معضلة التطوير المشار إليها سَلَفًا ينبغي ألا تتمركز حول ما إذا كان التطوير ممكنًا أم لا؛ فبوسعنا تطوير أهم الكفاءات اللازمة للقيادة، لكن المعضلة الحقيقية هي أن التطوير يستغرق وقتًا، وتحتاج إلى جهد شخصي ملموس ودعم مناسب من المؤسسة.

(١٥) كيفية النظر إلى الإمكانيات الكامنة

هذا بدوره يدل على أن من بين الأمور التي يجب أن تبحث عنها عند اختيار الموظفين هي الإمكانيات الكامنة، فلا شك أنك تريد أن تضع رهاناتك الخاصة بالتطوير حيث تتعاظم فرص النجاح.

أحيانًا تُعرَّف الإمكانية الكامنة، بمفهومها الضيق، باعتبارها استعداد الفرد لأداء دور محدد؛ أي بمعنى آخر ما إذا كان الشخص مهيَّأً للانتقال من منصب راهن إلى آخر ينطوي على تحدٍّ مختلف أو يتضمن ازديادًا كبيرًا في حجم مسئولياته أو نطاقها.

أما أنا فأستخدم هنا تعريفًا أشمل؛ فحين أشير إلى الإمكانية الكامنة، فإني أتساءل ما إذا كان لدى الفرد القدرة على التطور الملحوظ في المستقبل؛ ومن ثَمَّ مواجهة تحديات أكبر.

تتكون الإمكانية الكامنة، كما أراها، من ثلاثة مكونات أساسية، أولها بالطبع الطموح. أتتوق إلى شيء؟ ما الذي تطمح إليه على المدى البعيد؟ أشار ديفيد ماكليلاند إلى ثلاثة محفزات قوية: الحاجة إلى الإنجاز، والحاجة إلى الانتماء، والحاجة إلى القوة.15 حسنًا، ما درجة تحفزك؟ هل أنت على استعداد لبذل تضحيات كبرى في سبيل تلبية واحدة من تلك الحاجات أو أكثر؟
ثانيًا: تلزمك القدرة على التعلم من التجارِب. برهن مورجان ماكال وآخرون على هذه النقطة بأسلوب بليغ.16 أتلتمس الفرص للتعلم؟ هل تُقدِم على مجازفات وتسعى وراء الحصول على تقييم لأدائك تستفيد منه، وتتعلم من أخطائك وتتقبل النقد بسعة صدر، وما إلى ذلك؟

أخيرًا وليس آخرًا، يشير البحث في قواعد بيانات شركتنا — والتي تضم تقييمات لآلاف المسئولين التنفيذيين على مدار سنوات عديدة — إلى أن بعض الكفاءات المحددة تُعتبر مؤشرًا قويًّا على الإمكانيات الكامنة عالية المستوى. هل تتمتع بمستويات عالية من الكفاءات الموجهة للمستقبل (ومن بينها التوجه الاستراتيجي وقيادة التغيير والتوجه القائم على النتائج) والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإمكانيات التنفيذية العالية؟

(١٦) ماذا عن القيم؟

أحيانًا حين تصل إلى نهاية هذه القائمة ذات المؤشرات الثلاثة على الإمكانيات الكامنة، تثار مسألة القيم. حين تقيِّم الإمكانيات الكامنة لشخص ما، ألا يجدر بك أن تضع في اعتبارك قِيَم هذا الشخص، وما إذا كانت هذه القيم قابلة للتطور؟

جوابي ذو الشقين عن هذا السؤال ذي الشقين هو «نعم، ولا.» إن أفضل المسئولين التنفيذيين الذين رأيتهم أثناء أداء عملهم يبذلون قُصارَى جهدهم سعيًا لاختبار الأمانة والنزاهة فيمن يقابلونهم من مرشحين، ولا يقدِّمون أبدًا أية تنازلات بخصوص قيم المرشحين. يشير جاك ويلش في كتابه «الفوز» إلى النزاهة باعتبارها أول الاختبارات الحاسمة التي يتعين عليك إجراؤها حتى قبل التفكير في تعيين شخص ما.17
تناول جيم كولينز مؤخرًا مسألة ماهية السمات الشخصية للموظفين الذين يساعدون شركاتهم في التحول من مؤسسات جيدة إلى مؤسسات ممتازة. وفيما يلي أول المعايير التي عدَّدها:
إن الموظفين المتميزين يشاطرون المؤسسة ما تتبناه من قيم أساسية. عادةً ما يُطرح السؤال التالي: «كيف ندفع الموظفين إلى مشاطرة المؤسسة قِيَمها الأساسية؟» الجواب: «لا تفعلوا.» أهم ما في الأمر أن تجد أشخاصًا لديهم ميل مسبق لاعتناق القيم الأساسية لمؤسستك، وأن تشكل ثقافة لمؤسستك تدعم تلك القيم دعمًا صارمًا؛ إلى الحد الذي يدفع الدخلاء عليها إلى المغادرة من تلقاء أنفسهم. تستطيع الشركة أن تُعلِّم الموظف مهاراتٍ لكنها لا تستطيع أن تعلمهم طباعًا؛ لذا لجأت شركة نيوكور ستيل، على سبيل المثال، إلى تعيين أفراد من بلدات قائمة على الزراعة لا على صناعة الصلب، معتمدةً على الفكرة القائلة بأنه «يمكننا تعليم العاملين كيفية صناعة الصلب، لكن لا يمكننا أن نعلمهم التحلي بالأخلاقيات المهنية للمزارعين.»18

يقودني هذا إلى الشطر الثاني من جوابي، ذلك الخاص ﺑ «لا». سبق أن سُقت تعليق صديقي لايل سبنسر: «بإمكانك أن تدرب ديكًا روميًّا على تسلُّق الأشجار، لكن من الأسهل أن تستعين بسنجاب.» من الأفضل لك أن تجد شخصًا متوافقًا مع قيمك بحيث يوجه تركيزه إلى شق طريقه إلى الأمام بدلًا من محاولة اللحاق بالرَّكْب.

(١٧) ماذا عن فِرَق العمل؟

بينما أنت منهمك في محاولة تحديد المواصفات محل بحثك، من المهم أن تركز على الفريق لا الفرد فحسب، ولهذه المسألة تأثيرات عديدة؛ أولًا: من الأهمية بمكان ألا تبالغ في تقدير الأثر المحتمل من تعيين فردي. نشر كلٌّ من جرويسبرج وناندا ونوريا في مايو ٢٠٠٤ نتائج بحثهم الذي تتبَّعوا فيه المسيرة المهنية لأكثر من ألف محلل لامع للأوراق المالية.19 كان أداء المحلل اللامع في منصبه الجديد مثيرًا للإحباط في كثير من الحالات. لماذا؟ ذلك لأنه حين ينتقل ذلك المحلل المتميز إلى وظيفته الجديدة لا يكون بوسعه أن يصطحب معه كثيرًا (أو أيًّا) من الموارد التي ساهمت في إنجازاته التي أحرزها في وظيفته الأولى؛ ففي الوظائف التي يعتمد بعضها على بعضٍ اعتمادًا كبيرًا، لا ينتج الأداء عن المهارات الفردية فقط بل عن الموارد والقدرات، والأنظمة والعمليات، والقيادة، والشبكات الداخلية، والتدريب، وكلها أمور تلخصها كلمة «فرق العمل».
من المهم أيضًا ألا تُفْرِط في تقدير قيمة الفريق الحافل بالأعضاء النابغين. علَّق ميريديث بيلبين منذ عدة سنوات على نتائج بحث أُجريَ في هينلي، أقدم كليات الإدارة في أوروبا. ركَّز البحث على تدريب إداري شمل مشاهدة ثمانية فرق من المسئولين التنفيذيين أثناء انخراطهم في لُعبة ما. في واحدة من تلك التجارِب، عمد الباحثون إلى تشكيل فريق (فريق أبوللو) يتكون كليةً من أفراد في غاية الذكاء، ثم أدخلوه في منافسة أكبر. نظرًا لأنه كان من الواضح أن الفوز في اللعبة يتطلب عقولًا متوقدة الذكاء ذات قدرات تحليلية، افترض الباحثون أنه حريٌّ بفريق النابغين أن يفوز.20

لكن كما نقل بيلبين لاحقًا، في المرة الأولى التي أجريت فيها هذه التجربة، جاء فريق أبوللو الحافل بالنابغين في واقع الحال في المركز الأخير! بدا أن هذه النتيجة من التبعات الطبيعية لعملية تشكيل الفريق السيئة؛ فبمجرد تشكيل فريق أبوللو، أمضى كلٌّ من أعضائه قسطًا كبيرًا من وقته في محاولة إقناع زملائه بتبنِّي وجهة نظره الخاصة، دون أن يُفلح أيٌّ منهم في تغيير رؤية غيره. خلال الخمس والعشرين مرة التي أُجريت فيها التجربة متضمنةً فريقًا من النوابغ، لم يحتَلَّ هذا الفريق المركز الأول سوى ثلاث مرات فقط، وكان ترتيبهم في المتوسط في المركز السادس من بين ثمانية فرق.

أثبت باحثون آخرون التأثير التنازلي لإضافة أفراد نابغين إلى الفريق (أي إن المزيد ليس بالضرورة أفضل). في ورقة بحثية حديثة بعنوان «كثرة الطُّهاة تفسد الحساء»، أثبت المؤلفون أن إضافة أفراد من ذوي الأداء المرتفع إلى الفريق تزيد فاعليته في البداية، إلا أنها سرعان ما تتحول إلى حالة من العوائد المتناقصة.21

خلاصة القول أن قوة فرق العمل لا يمكن المبالغة في تقدير أهميتها. يسهل على الفرق الفعالة التفوق في أدائها على الأفراد النابغين؛ لكن لكي تُدرك الفرق مستوى الفاعلية، تلزمها ميزتا التصميم المتميز والعمليات الذكية. إن تعزيز التنوع، على سبيل المثال، طريقة مؤكدة للارتقاء بفاعلية الفريق. ذكر لي جاك ويلش ذات مرة أننا نميل بشكل فطري إلى انتقاء الأشخاص لمجرد الحصول على مزيد من المساعدة في إنجاز مَهمة محددة؛ أي بعبارة أخرى، تنفيذ الْمَهمة بطريقتنا الخاصة. لكن استغلال جهود الفرد ليس الهدف الرئيسي لفكرة الفريق؛ فالأشخاص في حاجة إلى استكمال أفكارهم ومهاراتهم؛ مما يعني بدوره ضرورة امتلاكهم لمستويات عالية من مهارات التعاون.

ربما ترغب في بعض الحالات في تعيين فريق (صغير) بدلًا من تعيين فرد. أشرت سابقًا في هذا الفصل إلى الدراسة المنشورة في مجلة هارفارد بزنس ريفيو حول عشرين موظفًا ممن سبق لهم العمل في جنرال إلكتريك ثم صاروا رؤساء تنفيذيين في شركات أخرى.22 وخلص مؤلفو الدراسة إلى أن من أهم المصادر التي تَستمد منها الشركات قيمتها ما أطلقوا عليه «رأس المال البشري في العلاقات»؛ مما يعني بعبارة أخرى أن فاعلية أي مدير تنشأ إلى حد كبير عن علاقاته الراسخة مع غيره من أعضاء الفريق أو الزملاء؛ فالمديرون الذين انتقلوا من وظيفة ١ إلى وظيفة ٢ مصطحبين معهم زملاء مختارين — تَحَسَّن أداؤهم على نحو مُطَّرِد في الوظيفة ٢؛ لأنهم اصطحبوا معهم شبكة علاقاتهم الفعَّالة ورأس مالهم الاجتماعي.

المبرر الأخير لضرورة وضع فكرة الفريق في اعتبارك أثناء تحديد المواصفات التي تبحث عنها في مرشحك هو أنك في كثير من الحالات قد لا تنجح في العثور على مواصفات الرجل الخارق، والرجل الْوَطْواط، والرجل العنكبوت (أو نظيراتهم من الجنس الناعم!) كلها في نفس الفرد؛ لذا قد تساعدك فكرة الفريق على مواجهة تحديات قيادية وإدارية مهمة تعجِز عن مواجهتها مستعينًا بفرد رئيسي وحيد، مهما كان تميزه.

(١٨) وضع جميع الحقائق جنبًا إلى جنب

غطينا في هذا الفصل الكثير من النقاط، والشكل ٥-١٠ يجمع بين أغلبها في إطار بسيط إلى حد معقول:
fig23
شكل ٥-١٠: الأمور التي تبحث عنها في أي مرشح، الجزء الأول.
  • أولًا: عند اتخاذ قرارات مرتبطة باختيار الموظفين، لا تتنازل أبدًا عن القيم.

  • ثانيًا: لحاصل الذكاء أهمية بالفعل؛ إذ إن بعض الكفاءات المعرفية الأساسية التي تقيِّمها اختبارات حاصل الذكاء (كالذاكرة والتفكير الاستنباطي) تُعد شروطًا مسبقة لتحقيق مستويات مقبولة (بالكاد) في أغلب الوظائف.

  • ثالثًا: في عالم الأعمال المعاصر، لا غنى مطلقًا عن الكفاءات القائمة على الذكاء العاطفي لا سيما لتحقيق النجاح في المناصب الإدارية والقيادية العليا.

  • أخيرًا: عند تعيين أفراد في المستويات الدنيا من الهرَم المؤسسي، اهتم دائمًا، إلى جانب استعداد الفرد لأداء الوظيفة في المدى القريب، بالإمكانيات الكامنة؛ فحين تُعيِّن أفرادًا يتمتعون بإمكانيات كامنة مرتفعة؛ فإنك على الأرجح تعزز المؤسسة على المدى البعيد.

    بالنسبة للوظائف رفيعة المستوى للغاية، تكتسب الخبرة مزيدًا من الأهمية؛ فلا يملك المسئولون التنفيذيون عادةً وقتًا كافيًا للتعلم في مناصبهم البارزة المنطوية على درجة عالية من التحديات، كما أن المؤسسة لا يَسَعُها إمهالهم الوقت للارتقاء تدريجيًّا في أدائهم.

(١٩) كيفية الوصول إلى حل

أرجو أن يتسع صدرك لي، وتتحمل مجموعة أخرى من التوصيات ذات التوجه العملي.

لقد تناولنا إلى الآن معاييرَ عريضة نسبيًّا لما ينبغي أن تبحث عنه في المرشحين؛ لكن حين تُقْدِم على شغل وظيفة في مؤسستك، فلا شك أنك في حاجة إلى مزيد من التفصيل؛ ونظرًا لأن لكل موقف خصوصية، فعليك أن تبذل جهدًا كبيرًا في استيعاب المعايير الضرورية للنجاح في كل وظيفة على وجه الخصوص.

إذا كنت تعمل في مؤسسة كبيرة، فغالبًا ما ستجد دراسات تعالج مسألة الكفاءات الرئيسية والمستويات المطلوبة لكل منصب على حِدَة، خاصة في المستويات الدنيا. أما إذا لم تتمتع بميزة الوصول إلى هذا النوع من التحليلات، فعليك إما أن تستعين بمشورة الخبراء أو أن تُجريَ تحليلك الخاص. إنني أُومِن أن اللجوء إلى الخبراء المناسبين يمكن أن يُضيف إليك قيمة ملموسة؛ لكن دعني أحاول أن ألخص هنا بعضًا من التوصيات المرتبطة بوضع عملية ملائمة لتحديد المواصفات التي ستكون محل البحث.

عليك أولًا أن تضع الأولويات الخاصة بكل منصب؛ وذلك من خلال الإجابة على سلسلة من الأسئلة على غرار ما يلي:

  • بعد عامين من الآن، كيف سيتسنَّى لنا تحديد نجاح المدير الجديد من عدمه؟

  • ما المهام التي نتوقع أن يؤدِّيَها، وكيف سيؤديها في مؤسستنا؟

  • ما الأهداف الأولية التي يمكننا الاتفاق عليها؟

  • لو طبقنا لهذا المنصب نظامًا للحوافز على الأجلين القصير والمتوسط، فما المتغيرات الرئيسية التي ستشكل أهمية كبرى؟

بعد وضع هذه القائمة الخاصة بالأولويات، يجب عليك أن تحدد المواقف الحرجة التي ينطوي عليها المنصب؛ أي المواقف شائعة الوقوع والتي سوف يواجهها المسئول التنفيذي الجديد وعليه أن يجيد مواجهتها كي يُعتبر صاحب أداء قوي. إن وضع مثل هذه القائمة يستغرق وقتًا؛ لكنك ستدرك أن الأمر يستحق أن تستثمر فيه.

لنأخذ مثالًا على ذلك. كانت إحدى شركات السلع الاستهلاكية تسعى إلى تعيين مدير تسويق جديد؛ فتوصلت إلى ثلاثة مواقف حرجة:

  • (١)

    كان من المؤكد أن المدير الجديد سيواجه خفض منافسيه للأسعار فجأةً وبنحو غير متوقع، وعليه أن يعرف كيفية الاستجابة لهذا الموقف بسرعة.

  • (٢)

    سيكون على المدير الجديد إعادة تحديد وضع منتج شركته في السوق، برغم أن وضعه الحالي كان يحظى بإعجاب شديد داخليًّا.

  • (٣)

    سيكون على المدير الجديد استقطاب مديري إنتاج ذوي إمكانيات عالية وتطويرهم واستبقاؤهم، برغم المنافسة المتزايدة للاستحواذ على تلك الموارد.

تمكَّنت الشركة من تضييق النطاق الذي يركز عليه بحثها بفضل تحديد المواقف الحرجة بوضوح.

(٢٠) الحاجة إلى تحديد الأولويات

خلال عملك في مرحلة تعريف المشكلة، ستبرز قائمة تضم الكفاءات المطلوبة لأداء الوظيفة. ينبغي عليك حينئذٍ أن تتجنَّب وضع قائمة مستفيضة للغاية (ومضنية كذلك!) إلى الحد الذي تعجِز معه عن إيجاد المرشح المناسب. احذر أن تنخدع بالاعتقاد بأن مرشحًا واحدًا سيملك كل ميزة موجودة في قائمتك الطويلة، بل ضع في اعتبارك الكفاءات غير المتوافرة في فريقك الحاليِّ، واسعَ جاهدًا للعثور على تلك الكفاءات بين من تقابلهم من المرشحين.

توضح واحدةٌ من أنجح عمليات التعيين التي شهدتها أهمية هذا النهج؛ ففي تسعينيات القرن الماضي عُيِّن مسئول تنفيذي فرنسي في سبيل إنقاذ مجموعة أوروبية تفقد أموالًا طائلة. كانت تعمل تحت مظلة الشركة تسع وحدات أعمال كبيرة تفتقر إلى استراتيجيات تنافسية. قرر الرئيس التنفيذي الجديد أن يغير كلًّا من رؤساء الوحدات على وجه السرعة؛ فحدد في كل حالة الكفاءات المطلوبة في الوظيفة الشاغرة ثم بحث عنها داخل المؤسسة. في حال توفرت هذه الكفاءات مجتمعةً في شخص واحد، كان يُرَقيه إلى الوظيفة العليا، أما في حال لم يعثر إلا على بعض الكفاءات الضرورية في الشخص، كان يقوم بنقل هذا الشخص إلى منصب المساعد ويعيِّن مرشحًا خارجيًّا يمتلك بقية الكفاءات في الوظيفة العليا.

كان الأشخاص الذين عيَّنهم الرئيس التنفيذي خارج إطار التوقعات؛ إذ لم يكونوا نابغين في مجالاتهم (وكثير منهم كانوا مغمورين نسبيًّا)، إلا أن كلًّا منهم كان يمتلك المهارات المطلوبة بالضبط. آتَتْ هذه الاستراتيجية ثمارَها، واستطاعت المجموعة أن تخلق قيمة سهمية هائلة خلال العَقد اللاحق.

(٢١) الحاجة إلى الوضوح

بينما تنهمك في إعداد قوائم الكفاءات المطلوبة، ينبغي عليك أن تبذل جهدًا استثنائيًّا في تحديد هذه الكفاءات بأكبر قدر ممكن من الوضوح.

لا قيمة للكفاءات ما لم توصف من ناحية سلوكية. تأمَّل مصطلح «التمتع بروح الفريق» الذي كثيرًا ما يرد في التوصيفات الوظيفية باعتباره كفاءة مطلوبة. حاول أن تسأل ثلاثة أشخاص حول معنى هذا المصطلح وستتلقى ثلاث إجابات مختلفة. أو فكر في «الرؤية الاستراتيجية»، السمة التي يكثر طرحها ككفاءة. بالنسبة لشخص ما، تعني الرؤيةُ الاستراتيجية القدرةَ على إجراء تحليلات متعمقة للعوامل المؤثرة في مجال ما. أما بالنسبة لشخص آخر، فتعني القدرة على إلهام الموظفين وإرشادهم أثناء مضيهم قدمًا في اتجاه جديد.

يكمن الحل في الوضوح؛ إليك مثالًا على ذلك، كانت إحدى الشركات الصناعية الكبرى تبحث عن مدير عام، واتفق فريق البحث على أن المسئول التنفيذي الجديد يجب أن يكون متخصصًا في التسويق. بعض الفِرَق تقف عند هذا الحد؛ لكن هذا الفريق — لحسن الحظ — مضى لِأَبْعدَ من هذا، مستعينًا بالتوصيف الوظيفي لترجمة مصطلح «متخصص تسويق» كما يلي:

يجب على المرشح أن يمتلك القدرة على تمييز الفرصة التِّجارية الدولية وخلق بيئة تدفع جميع وحدات العمل المطلوبة إلى الالتزام بهذه الْمَهمة. ينبغي عليه أن يجيد إتمام الصفقات متى لزم ذلك؛ لكنه يجب أن يجيد أيضًا التراجع وإدراك الوقت المناسب لنقل الصفقات إلى شخص أكفأ وأقدر على إتمامها.

لذا فأقولها مجددًا، إن تحديد الكفاءات المطلوبة من ناحية سلوكية يدفع إلى الوضوح.

(٢٢) الانضباط أهم ما في الأمر

الأهم من كل ما سبق أنه يتوجب عليك أن تتسم بالانضباط في هذه المرحلة. عليك أن تقر أهم الكفاءات اللازمة في كل موقف، وأن تعيِّن لكل كفاءة درجة الأهمية النسبية بحيث يقيَّم المرشحون الداخليون والخارجيون بِناءً على درجة الأهمية تلك.

دعني أوضح هذه النقطة بإيراد حالة شركة عالمية كبرى متخصصة في منتجات الألبان. كانت هذه الشركة تبحث منذ بضع سنوات عن رئيس تنفيذي جديد، وكان لهذا المنصب متطلبات خاصة للغاية من حيث المعرفة بالسوق، والتركيز على المستهلك، والكفاءة الوظيفية، والكفاءات القيادية الرئيسية، ومن ضمنها التوجه القائم على النتائج، والتوجه الاستراتيجي، وقيادة فِرَق العمل.

اجتمع مجلس إدارة الشركة عدة مرات قبل الشروع في عملية البحث؛ وذلك لإجراء مناقشة متعمقة بشأن اتجاه الشركة الاستراتيجي.23 مكنت هذه العملية مجلس الإدارة من تحديد استراتيجية مكونة من سبعة أجزاء محددة.
fig24
شكل ٥-١١: ما ينبغي أن تبحث عنه في أي مرشح، الجزء الثاني.

بعد ذلك أجرى المجلس محادثات مع شركة للبحث التنفيذي بخصوص هذه العناصر؛ وذلك من أجل تحديد الكفاءات العامة المطلوبة لتحقيق التنفيذ الفعال للاستراتيجية المتفق عليها. خضعت هذه الكفاءات للتقييم لإبراز أهميتها النسبية؛ فحظيت القيادة المؤسسية بدرجة أهمية بلغت ٤٠ في المائة، بينما حصلت كل واحدة من الكفاءات الأربع الأخرى على درجة أهمية بنسبة ١٥ في المائة. من الملاحظ أن الشركة أخذت ما كان يطلق عليه كفاءات عامة (القيادة المؤسسية) وحولتها إلى سلوكيات محددة (كان على الرئيس التنفيذي أن يقيم علاقات طيبة مع أكثر من ١٠ آلاف من مزارعي قطاع الألبان المحليين الذين كانوا يملكون الشركة ملكية جماعية).

تشكَّل فريقُ عمل صغير يتكون من أعضاء ينتمون إلى الشركة العميلة وشركة البحث التنفيذي، وحدد الفريقُ القدرات القيادية المحددة ذات الأهمية الكبرى في دفع الشركة قدمًا في الأجلين القريب والمتوسط. سمحت هذه العملية للقائمين على استقطاب المرشحين بأن يطرحوا عليهم أسئلة في غاية التحديد في سبيل تصفيتهم؛ مثل، هل سبق لهم إعادة تشكيل الثقافة الخاصة بمؤسسة راسخة بحيث يكون محور هذه الثقافة رؤية جديدة؟ هل حدث أن قادوا مؤسسة وهي تشهد فترة من النمو الكبير، بما في ذلك ضم كيانات تم الاستحواذ عليها؟

حريٌّ بي أن أقول إن عملية البحث بدأت بمستوًى منخفض نسبيًّا من التوقعات؛ ويرجع ذلك جزئيًّا إلى مجموعة من التحديات التي تواجه النشاط والعوائق السياسية التي مُنِيَتْ بها الشركة آنذاك؛ إلا أن عملية البحث عالية الانضباط حولت كارثة محتملة إلى تجربة تعلُّم في غاية الإيجابية للشركة وقادتها. ومن الجدير بالذكر أن عملية البحث لم تكن لِتَظهر إلى الوجود لولا وجود إدراك واضح تمامًا للمواصفات التي تبحث عنها المؤسسة.

يلخص الشكل ٥-١١ أهم النقاط التي ناقشناها في هذا الفصل.

•••

وبمجرد أن تحدد جيدًا المواصفات التي تبحث عنها، تكون الخطوة التالية هي أن تحدد أين تبحث عن المرشحين، داخليًّا وخارجيًّا، وهذا هو محل نقاشنا في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤