الفصل الثامن

كيفية جذب أفضل المرشحين وتحفيزهم

إذا اتبعْتَ كلًّا من الخطوات المذكورة في الفصول السابقة، يجدر بنا إذن تهنئتك: فلقد نجحت في تحديد أفضل مرشح محتمل للوظيفة. لكن انتبه! بإمكانك في هذه المرحلة أن تنجح في تعيين ذلك الشخص أو العودة إلى نقطة الصفر في حال فشلت في ذلك.

لقد انصب تركيزنا الأساسي، حتى الآن، على إيجاد أفضل المرشحين وتقييمهم لتلبية احتياجاتنا، أما الآن، فنعود إلى نقطة الاختيارات المتبادلة والتحدي الرئيسي المتعلق بدفع هؤلاء المرشحين إلى قبول عرضك — بمعنًى آخر، نعود إلى نقطة احتياجاتهم هم. تزخر هذه المرحلة بالشك والمخاطرة لكلا الجانبين، وتلعب خلالها مسائل المال والدافع دورها، وينبغي أن تشهد هذه المرحلة أقوى مزيج بين العقلانية والحماسة …

دعني أستهل هذا الفصل بسيناريوهين مقتبسين من واقع الحياة:

«السيناريو الأول»: بدأتُ في مارس ١٩٨٨ عملية معقدة للبحث عن مدير عمليات لشركة نفط ناشئة في الأرجنتين. كان العميل مسئولًا تنفيذيًّا شابًّا بالغ الذكاء والنجاح، وعلى دراية تامة بما يبحث عنه، من ناحية توقعات الأداء ومواصفات المرشحين على السواء. كان العميل يتوقع سُنوح سلسلة من الفرص في السوق على مدار السنوات المقبلة نتيجة لخصخصة بعض الجوانب الإنتاجية لشركة واي بي إف، التي كانت حتى ذلك الحين شركة مملوكة للدولة. كان من المقرر أن يقود هذا العميل الشركة الناشئة؛ لكنه كان يرغب في تعيين مدير عمليات قوي يتمم مهاراته الإدارية، والاستراتيجية، والتِّجارية، والمالية العامة. كان من المقرر أن يَضْطَلِعَ المدير الجديد بمسئوليات واسعة النطاق: مساعدة عَميلِي على تحديد فرص الاستثمار المتنوعة وتقييمها، وتقديم إسهامات فنية مع محاولة اقتحام مجالات مختلفة، والسيطرة الفعالة على النواحي الإنتاجية الموكلة إليه، وتشكيل فِرَق العمل المعنية، كلٍّ في مكانه، وأخيرًا التحكم في التكاليف في سبيل تحقيق الكفاءة العالية في الإنتاج.

عملنا معًا كفريق واحد بفاعلية كبيرة، ونفذنا عملية بحث تنفيذي شاملة تمكَّنَّا خلالَها من تحديد ٤٩ مرشحًا محتملًا للمنصب ودراستهم. عَقِب إجراء تقييمات عميقة لمجموعة فرعية كبيرة، ومن خلال مقابلات واتصالات ملائمة بالجهات المرجعية، وصل كلانا إلى قناعة بأن ثَمَّةَ مرشحًا واحدًا متميزًا. كان من الواضح أن مسألة الراتب لن تكون محل إشكال؛ نظرًا لأن ذلك المرشح كان يعمل بالفعل في شركة واي بي إف ذات الرواتب المنخفضة للغاية آنذاك. إضافة إلى ذلك، كان كثير من الموظفين في واي بي إف يشعرون بالقلق حولَ مستقبلهم؛ نتيجة للشائعات الدائرة حول الخصخصة؛ لذلك كنا على ثقة، لكل هذه الأسباب، بأننا سنفوز بمرشحنا، لا سيما حين نضع أمامَه عرضًا مُغْرِيًا للغاية.

لك أن تتخيل دهشتَنا حين رَفَضَ عرضَنا رفضًا باتًّا وانسحب تمامًا. من البحث تبيَّن أن المسألة لم تكن لها علاقة بالمال؛ بل إنه لم يكن مقتنعًا نهائيًّا بالمشروع ولم يرغب في المضيِّ قُدُمًا في تنفيذه.

«السيناريو الثاني»: بعد حوالي ثماني سنوات من هذا الموقف، كنت في اجتماع مهم مع الرئيس والرئيس التنفيذي لشركة منتجات استهلاكية كبرى، بل كانت في الواقع رائدةَ مجالها حولَ العالم. كان يطرح عرضه على المرشح النهائي لشغل منصب المدير المالي، وقد رأينا جميعًا أن هذا المرشح يتمتع بمجموعة فريدة من المهارات تلائم التحديات المتوقعة. كان اجتماعًا شخصيًّا وكنت أحضره. حين طُرِح العرض، شكَرَنا المرشحُ بلباقة وقال إنه أقلُّ مما يتوقع. برغم أنه لم يكن يشغل وظيفة آنذاك، فإنه لم يستطع قبول العرض. ذُهِل رئيس الشركة ورئيسها التنفيذي (الذي من المقرر أن يكون المدير المباشر للمرشح المعيَّن) من هذه العثرة غير المتوقعة؛ فسأله ما إذا كانت توقعاته بشأن الراتب تبعد كثيرًا عن العرض، فأجاب المرشح بنعم، مضيفًا أن توقعاته كانت بالقطع أعلى بكثير من العرض؛ لقد كان يتوقع في الحقيقة ضعف هذا العرض بالضبط. نهض كلٌّ منهما وتبادلا المصافحة ثم غادرا.

سوف أعاود الحديث عن كلتا القصتين ونهايتهما لاحقًا في هذا الفصل؛ لكن النقطة التي أود توضيحها الآن هي أن لكل بحث توظيفي نهاية، لكن هذه النهاية ليست دائمًا كما يرجو المرء؛ فكثير من أفضل المرشحين يتلاشَوْنَ حين ينتقل تركيز عملية التعيين من التقييم إلى الاستقطاب؛ وذلك في بعض الأحيان نتيجة لأن إقناعهم بالوظيفة كان خاطئًا (أو لم يكن ثَمَّةَ محاولةُ إقناعٍ أصلًا)، وفي أحيان أخرى نتيجة لانعدام التوليفة الصحيحة من العقلانية والحماسة.

(١) أهذا هو الأفضل للمرشح؟

في المراحل الدقيقة كالتي وصفناها في الموقفين السابقين، يمكن أن تغلَبنا عواطفنا، بإقناعنا إما بالاستسلام قبلَ الأوان أو بتحمل الْمَشَاقِّ في سبيل الفوز بالمرشح المتردد من خلال وعود أو شروط غير واقعية لن تزيدك إلا متاعب في المستقبل. لذا، تعوزنا في مواقفَ كهذه السيطرة على عواطفنا ووضع أنفسنا موضع المرشح، وأن نسألَها ما إذا كان التغيير المطروح هو أفضل خيار حقًّا بالنسبة إلى المرشح.

لا شك أنني شهدت كثيرًا من حالات الرضا، والنجاح، والسعادة بفضل التغيير الوظيفي الصحيح. (وذلك من أسباب استمتاعي الشديد بعملي.) لكنني رأيت في الوقت ذاته بعضًا من الوقائع البائسة وتطوراتها التي انتهت بإحباطات وإقالات، بل قابلت بضع حالات انتهى بها المطاف إلى أمراض ذات صلة بالضغط العصبي أو الانتحار. أخبرني مؤخرًا الأستاذ بجامعة هارفارد، هاورد ستيفنسون: «من أفضل ممارسات التعيين أن تفكر ليس فقط فيما يمكن أن يسهم به الشخص في الوظيفة، بل فيما يمكن أن يدمر الشخص في تلك الوظيفة أيضًا.»1

سبق أن أشرت إلى أن الكثير من المرشحين — لا سيما العاطلين عن العمل أو المحبطين في وظائفهم الحالية — يقعون فريسةً لإغراء تقديم أنفسهم بأفضل صورة ممكنة، والأمر ذاته يصدق على كثير من الشركات للأسف؛ إذ تعمد هذه الشركات إلى تسويق وظيفة مثالية، بدلًا من الوظيفة الحقيقية، ثم تفقد مصداقيتها، لا محالة، إما خلال مرحلة تقديم العرض للمرشح، أو الأسوأ من ذلك، حين يواجه المرشح الحقيقة القاسية بعد تعيينه.

قلَّما تبذل الشركات — إن بذلت — أي جهد لفهم ظروف المرشحين ومحفزاتهم، بل تسارع بتقديم عرض، بل أحيانًا تقدِّم عرضًا ثانيًا (وهو ما يعد في الواقع مزايدة على نفسها) في محاولة للتعويض بالمال عن غياب الدافعية لدى المرشح أو وجود شكوك واضحة لم تُحسِن الشركات التعامل معها.

تتمثل أولى الخطوات الجوهرية لتسويق أية وظيفة في فهم أهم دوافع المرشح وأبرز مخاوفه، والتحقق من وجود اتساق بين تلك الحقيقة وحقيقة الوظيفة. بعض الأشخاص يحفزهم المال، بينما يمثل التحدي حافزًا لآخرين. يرغب البعض في العمل مع مجموعة متميزة من الزملاء. عادةً ما يكون للمهنيين احتياج ملموس إلى الإنجاز، أما المديرون والقادة فتدفعهم الحاجة الماسَّة إلى السلطة أو النفوذ. لكن كل شخص مختلف عن الآخر، وعليك أن تدرك الخصائص الفردية لذلك الشخص.

أجريت مقابلة منذ عدة سنوات مع شخص بارع الذكاء، وكان الرئيسَ التنفيذي لإحدى المؤسسات غير الحكومية. كشف لي هذا الشخص، قُبَيْلَ نهاية المقابلة، عن دخله الذي كان يتقاضاه عندَئذٍ. سألْتُه ما إذا كان يعرف أنه سيتقاضى ثلاثة أضعاف هذا الراتب على الأقل إذا عمل في شركة هادفة للربح. نظر إلى عيني مباشرة وقال ما مفاده:

كلاوديو، إنني أعرف تمام المعرفة أنني سأتقاضى ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف راتبي الآن لو عملت في مؤسسات أخرى؛ لكنني أقول لنفسي إنني أتقاضى ثلاثة أضعاف هذا الراتب، وأقرر بكامل وعيي أن أنفق ثلثي هذا الراتب في سبيل إنجاز ما أستمتع به بالفعل، وما يضفي على حياتي معنًى، وما يُكسبني سعادةً حقيقية. من حسن حظي أنني أستطيع بالثلث الباقي من راتبي أن أعيشَ حياةً كريمة وأن أَعُولَ أسرتي كما ينبغي.

طالما انبهرت بذلك الرجل. عادت ذكراه إلى خاطري، بعدَ عدة سنوات من المقابلة؛ وذلك حين طالعت نَعْيَه في صحيفة، وكان مقالًا طويلًا عن إسهاماته البارزة في المجتمع. لقد عاش هذا الرجل حياةً تشهد على ما خلَّف من أثر وما شكَّله من أهمية، وقدم إسهامًا مجتمعيًّا متميزًا، وتُوفِّي بلا شك سعيدًا. أجل، كان في حاجة إلى المال لإعالة أسرته، لكن بعد نقطة معينة، لم يكن للمال أية قيمة مطلقًا في اختياراته المهنية وقراراته الوظيفية.

يمثل المالُ وأنواعٌ أخرى من المزايا الوظيفية، بلا شك، أهمية أكبر بالنسبة لآخرين؛ لذلك عليك أن تستوعب اهتمامات المرشح ومحفزاته، وأن تبذل قُصارَى جهدك في ذات الوقت للوصول إلى فهم حقيقي لخياراته المهنية. لن تنجح في جذب مرشح إلى وظيفتك إلا لو وصلت إلى قناعة بأن العرض الذي تقدمه له هو الأفضل لمصلحته.

(٢) انشر حماسك

الإيمان هو أقوى حُجَّة؛ لو أديت عملك وفهمت حافز مرشحك وكنت مؤمنًا بأن ما تقدمه هو الأفضل له، فلا شيء (تقريبًا) سيعوقك، وسوف تنجح، في أغلب الأحوال، في تعيين الأفضل.

لنرجع إلى التصور الأول الخاص بالبحث عن مدير عمليات لشركة نفط: عقب رفض المرشح للعرض، التقينا بعميلنا، وأجرَيْنا تحليلًا بالغ التفصيل للمرشحين الآخرين والأسباب التي دفعت مرشحنا إلى الرفض. توصلنا إلى نتيجة مفادها أن مرشحنا يفوق جميع من سواه من المرشحين بدرجة تجعلنا على استعداد لبذل كل الوقت والجهد اللازمَيْن لإقناعه، ولو تطلب ذلك شهورًا عدة. قررنا مع عميلنا أن الطريقة الوحيدة للنجاح في إقناعه هي إتاحة الفرصة للمرشح للتعرف الوثيق على المشروع والعميل بما يكفي لمعالجة أية مخاوف والقضاء عليها.

شرعنا بعد هذا القرار في تنفيذ عملية مذهلة لكسب ود المرشح. بادرت على مدار الشهور التي تلت بالسفر ثلاث مرات إلى منزله الكائن في منطقة باتاجونيا النائية في جنوب الأرجنتين؛ مما كان يعني بالنسبة إليَّ استقلال طائرة والقيادة لمسافة تقرب من ٢٠٠ كيلومتر. وبنيت معه ومع زوجته علاقة، بل مع كلبيهما أيضًا. أمضيت وزوجتي ماريا عشيةَ العام الجديد وقتًا مبهجًا مع المرشح وزوجته في سان مارتين دي لوس أنديز، تلك البلدة الباتاجونية الجميلة الواقعة أعلى الجبال والتي يفصلها عن منزلنا ألف ميل. ولم يَمْضِ على ذلك وقتٌ طويل حتى زارهم عميلُنا بنفسه خلالَ عطلتهم على البحر.

نتيجة لهذا الجهد المبذول للتعرُّف على بعضنا عن قرب، قرر المرشح في النهاية أن يلتحق بالشركة في مارس ١٩٨٩؛ أي بعدَ عامٍ بالضبط من بدء مشروع البحث. كان أداؤه الوظيفي اللاحق مذهلًا بمعنى الكلمة؛ كان المرشح متمتعًا بمعرفة فريدة بكلٍّ من المناطق النفطية على مستوى الدولة بأكملها؛ مما جعله مصدر قيمة لا تقدَّر بثمن حين بدأت شركة واي بي إف خصخصة إنتاجها. شكَّل هذا المرشح مع عميلنا فريقَ عمل رائعًا: تولَّى هذا الفريق تقييم كل منطقة من وجهة نظر فنية وتحديد حجم الموارد التي سيبذلونها للسيطرة عليها، وذلك من ناحية استراتيجية، ومالية، وتنافسية. بعد أن فازت هذه الشركة ببضع مناطق نفطية، أبدى هذا المرشح عبقرية في تدشين العمليات بسرعة فائقة مع تحقيق مستويات إنتاجية بالغة الارتفاع. وأخيرًا وليس بالتأكيد آخرًا، أثبت مهارة فائقة في التشكيل السريع لفريق رائع، ويُعزى ذلك إلى حد كبير إلى معرفته الواسعة بالسوق، وكفاءته، ومصداقيته، وسُمعته.

أجل، تُعد هذه حالة استثنائية! لكن لن أبالغ مهما أكدتُ على أهمية مخالفة الروتين المعتاد في سبيل فهم المرشحين ودوافعهم، ومعالجة مخاوفهم، ومشاركتهم حماسك لشركتك، ومشروعاتك، والوظيفة التي تعرِضها عليهم.

بمقدور أي شخص تعيين أفراد متوسطي الكفاءة أو أفراد عاطلين عن العمل وفي حاجة إلى أية وظيفة، أما تعيين أفضل الكفاءات، خاصة أولئك الذين لا يبحثون عن وظيفة؛ فيتطلب منك بذل أقصى جهد على المستويين العقلاني والحماسي.

(٣) المال أعلى صوتًا

بينما يغني الحماس، يعلو صوت المال. حين سألت جاك ويلش عن الاستراتيجيات التي يتبعها لجذب أفضل المرشحين الذين لا يتطلعون إلى تغيير وظائفهم، أجاب قائلًا: «أعطهم كثيرًا من المال، وصورة. ارسم صورة لهم. إذا نجحوا، اجعلهم أبطالًا، وافعل ذلك بمنتهى النزاهة. مَناط الأمر كله المال والصورة.»2 إذن، نشر حماسك عامل أساسي في «رسم الصورة»، لكن المال ينبغي أن يصاحب الصورة كذلك.
إن المناقشات العامة الدائرة حول المزايا الوظيفية لكبار المسئولين التنفيذيين مفعمة بالعواطف، وتعلو أصوات متَّقدة الحماس من كلا طرَفَي النقاش. يشير النقاد إلى أن متوسط المزايا الوظيفية الحقيقية لأكبر ١٠٠ رئيس تنفيذي في الولايات المتحدة الأمريكية بين ١٩٧٠ و١٩٩٩ قفز من ١٫٣ مليون دولار إلى ٣٧٫٥ مليون دولار.3 وفي عام ١٩٧٩، كان متوسط المزايا الوظيفية لأكبر ١٠٠ رئيس تنفيذي في الولايات المتحدة الأمريكية يفوق نظيره لدى العامل المتوسط ٣٩ مرة، وبعد عشرين عامًا، وصل إلى ١٠٠٠ ضعف.4 إن بعض الأرقام التي يتقاضاها الرؤساء التنفيذيون كمزايا وظيفية لا تُصدَّق مطلقًا؛ كحزمة الخيارات المقدمة إلى ويليام ماجواير، الرئيس التنفيذي لشركة يونايتيد هيلث جروب، التي تبلغ قيمتها ١٫٦ مليار دولار، وذلك في وقت يعيش فيه «أكثر من ٤٠ مليون مواطن أمريكي من دون تأمين صحي» كما جاء في تقرير أصدرته كلية وارتون.5
لكن المراقبين على الطرَف الآخر يعتقدون أن ما يتقاضاه الرئيس التنفيذي المتوسط ليس مُبالغًا فيه؛ بِناءً على ما أوضحه الأستاذ بكلية وارتون، وين جواي، فإن «حُزم المزايا الوظيفية الباهظة المستحوذة على اهتمام الصحافة — البالغة تقريبًا ٢٠ مليون دولار فأكثر — لا يحصل عليها سوى بضعة رؤساء تنفيذيين.» يشير جواي إلى أن الرئيس التنفيذي المتوسط لإحدى الشركات المدرجة في مؤشر ستاندرد آند بورز ١٥٠٠ يتقاضى، في الواقع، حوالي ٢٫٥ مليون دولار سنويًّا.6

لنواجه الحقيقة: جميعنا نتوقع أن نتقاضى أجورًا تتناسب، على نحو ما، مع جهودنا وإنجازاتنا، ومهما أكدنا على تلك الحقيقة فلن نبالغ؛ فنحن نحسب المخاطرات التي نتحملها مقارنةً بالمكاسب التي نَحُوزها. وهذه النزعة ليست جزءًا من الطبيعة البشرية فقط، بل ومن الطبيعة الحيوانية أيضًا؛ فالوَشَق الذي يطارد أرنبًا جليديًّا لا يلاحقه سوى لمسافة ٢٠٠ ياردة فقط، وبعدَها يتوقف عن المطاردة؛ لأن الطعام الذي سيفوز به لو أمسك بالفريسة لن يُعَوِّضَه عن الطاقة المستهلكة في المطاردة. لكن بالطريقة ذاتها في تقييم المكاسب المحتملة، يطارد الوَشَق أَيْلًا لمسافة أطول.

كشف متخصصان في دراسة الرئيسيات، سارة إف بروسنان وفرانس بي إم دي فال، عن أن القرود تَسْتاء من المكافآت غير المنصفة. أجرت بروسنان تجربة مذهلة على مجموعة من إناث قُرود الكبوشي. في هذه التجربة، أنشأت بروسنان سُوقًا درَّبت فيه القرود على إعطائها حَصاة مقابل منحهم شريحة من الخيار. صممت الباحثة التجربة بحيث تتعاون القرود في فرق ثنائية، وحين كان ينال القردان الخيار، كانا يبادران إلى مبادلته بالحصَى، وذلك في ٩٥ في المائة من المرات. لكن عندما غيرت الباحثة القواعد، مانحةً أحد القرود حبة عنب كمقابل (وهي بالنسبة للقرد خيارًا أفضل بكثير من الخيار) ومانحةً الآخر شريحة من الخيار، بلغ الإحباط بالقرود حدًّا جعلهم يمتنعون عن المقايضة في ٤٠ في المائة من المرات، برغم أن مبادلة الطعام بقطعة من الحصى كانت صفقة رابحة للقرود. عندما مُنِحَ أحد القرود عنبًا بلا مقابل، أُحبِط القرد الآخر لدرجة أنه ألقى بحصاته بعيدًا، ولم يواصل المقايضة في مثل هذه السوق الظالمة سوى ٢٠ في المائة من القرود!7

لا، لسنا أَوْشاقًا ولا قِرَدة، ولكننا نعرف مصلحتنا ونريد مقابلًا عادلًا في لُعبة عادلة.

(٤) تقييم أولويات استبقاء الموظفين

سنعود لاحقًا إلى مسألة تصميم الْحُزمة المناسبة من المزايا الوظيفية لجذب المرشح الأفضل، لكن، أولًا: أريد أن أسلِّط الضوء على مدى أهمية التأكد من اتساق حُزم المزايا الوظيفية مع أولويات استبقاء الموظفين. من غير المنطقي أن تضع أفضل حُزمة مزايا وظيفية لجذب مرشح خارجي بينما تخسر في الوقت ذاته موارد بشرية لا تقدَّر بثمن نتيجة المزايا الوظيفية غير التنافسية المقدمة للموظفين في الداخل.

تبرز الأهمية الخاصة لهذه النقطة في أوقات التغيير، كما هو الحال في شركة الاتصالات (المذكورة في الفصل الرابع) التي كانت تواجه مجموعة جديدة من التحديات، من بينها إلغاء القيود التنظيمية على الخدمات وزيادة المنافسة في الأسواق المحلية. إلى جانب تقييم فريقهم الإداري من حيث الكفاءة والإمكانيات الكامنة، ساعدنا القائمين على هذه الشركة في تقييم أولويات استبقاء موظفيهم. أنجزنا تقييمًا لأهمية كل مدير (على أساس كفاءته وإمكانياته الكامنة)، وأنجزنا، بالإضافة إلى ذلك، تقييمًا لأهمية كل وظيفة، ثم قارنَّا ذلك بالطلب المحتمل للسوق عَقِب إلغاء القيود. يلخص الشكل ٨-١ نتيجة هذا التحليل.
fig37
شكل ٨-١: أولويات استبقاء الموظفين.
fig38
شكل ٨-٢: الأهمية مقابل المزايا الوظيفية.
متى وقعت تغييرات جسيمة في مجال ما، تصبح حُزم المزايا الوظيفية عُرضة لفقدان اتساقها مع الأهمية الحساسة لكبار الموظفين، وهو ما ينطبق على حالة شركة الاتصالات عن بُعد. تطالع في الشكل ٨-٢ مقارنة بين أهمية كل مدير كبير، وتنافسية حزمة المزايا الوظيفية في السوق. في حين ينبغي وجود اتساق بين تنافسية هذه الحُزم وأهمية كلٍّ من المديرين، إلا أنه لم يكن ثَمَّةَ أي ارتباط مطلقًا بينهما؛ مما يُعرِّض الشركة لخطر حقيقي جَرَّاءَ فقدان بعض من أهم مواردها البشرية خلال الأعوام المقبلة.
في ظل هذا الموقف، حللنا المخاطر التي تواجه استبقاء الموارد البشرية الاستراتيجية كافة، في ضوء أهميتها، وطلب السوق المحتمل، ومخاطر تقديم مزايا وظيفية غير تنافسية (وهي تتناسب عكسيًّا بالتأكيد مع تنافسية حُزمة كلٍّ منهم). كان هذا التحليل البسيط الموجز في الشكل ٨-٣ مفيدًا للغاية في إضفاء بعض الموضوعية على سلسلة من إجراءات الاستبقاء التي تتضمن — على سبيل المثال لا الحصر — تعديل حُزم المزايا الوظيفية، التي ربما كانت قائمة، لولا ذلك، على العواطف وتثير جدلًا واسعًا.
fig39
شكل ٨-٣: المخاطر التي تواجه الاستبقاء.

(٥) مشكلات الحوافز

اكتب في محرك البحث جوجل كلمة «مزايا وظيفية» وستجد ما يقرب من ٢٤٠ مليون نتيجة، واكتب كلمة «مكافآت» وستظهر أمامك أكثر من ٥٫٦ مليون نتيجة، وهذا يعني بوضوح أن ثمة تلالًا من الأدبيات حول هذه الموضوعات. برغم أن المال لا شك مهم، فإن من المثير للدهشة أن الشواهد الدالة على القوة الذاتية لفكرة «الأجر حسب الأداء» غير حاسمة. فحسبما ذكر جيفري فيفر وروبرت ساتون، الأستاذان في جامعة ستانفورد: «إن استعمال الحوافز المالية مسألة مليئة بالأيدولوجيات والمعتقدات، وكثير من تلك المعتقدات لا تدعمها أدلة كافية، إن وُجِدَت أصلًا.»8 ولذلك خلص الأستاذان إلى ضرورة إجراء تحليل متأنٍّ قبل وضع الحوافز المالية.

بادِئَ ذِي بَدْءٍ، يُعتبر تقديم مزايا وظيفية مرتفعة ارتفاعًا معقولًا ضرورة لجذب المرشح الأفضل، وهو ما ينطبق خاصةً على المناصب العليا، التي يتسع فيها فارق الأداء بحيث تستحق أن يتولاها صاحب أداء مرتفع. لا شك أن ما يُعد «مرتفعًا ارتفاعًا معقولًا» يختلف من سوق إلى آخر ومن وقت إلى آخر.

ثاني أهداف المزايا الوظيفية هو أن تحفز المرشح الأفضل. من هذا المنظور، لا تقل أهمية كيفية دفع الأجور عن مقدارها. تدل فكرة التحفيز من أجل الموضوعية على نمط ما من الحوافز طويلة المدى، على غرار الأسهم المقيدة (أو مكافئ لها) بدلًا من خيارات شراء الأسهم، التي ترتفع أسعارها بمعدلات كبيرة للغاية ولا تنخفض إلا بقدر محدود، أما التحفيز من أجل الأداء فغالبًا ما يدل على شكل من أشكال المزايا الوظيفية قصيرة المدى والمتغيرة، كالمكافآت السنوية.

يتعين عليك في الوقت ذاته أن تُعِير اهتمامًا خاصًّا إلى الهيكلة الصحيحة للعرض الذي تقدمه تجنُّبًا لإنتاج الحوافز الخاطئة. أولًا: قد تؤدي الحوافز المُبالغ فيها، لا سيما الحوافز قصيرة المدى، إلى التركيز الزائد على النتائج قصيرة المدى، كما أنها قد تدفع أداء الشخص إلى تجاوز نقطة التحول. أجل، نحن في حاجة إلى مستوًى ما من الضغط العصبي لإنجاز عملنا بفاعلية، وهو ما تنجح في تحقيقه الأهداف الواضحة والحوافز المناسبة شريطة ألا تتجاوز مستوًى معينًا. إن مثل هذه الفكرة مستمدة، جزئيًّا، من كيمياء الدماغ: فمن شأن المستوى الصحيح من الضغط العصبي أن يزيد من نشاط الجهاز القشري السكري الذي يصاحبه مستوًى معتدل من إفراز الكورتيزول، والمرتبط بالالتزام والأداء والتعلم. لكن حين يتجاوز الضغط المستوى المعقول، يبدأ جهاز عصبي ثانٍ في العمل، ويفرز الدماغ كميات كبيرة من الكورتيزول والنوريبينيفرين المرتبطة بحالة من الخوف المطلق؛ ومن ثم يحدث هبوط حادٌّ في قدراتنا المنطقية وفعاليتنا في العمل، بل في أداء ذاكرتنا وقدرتنا على التعلم.9
برغم أن أدمغتنا مُشكلة بحيث تركز انتباهنا على هدف ما (ربما كانت تلك آلية للبقاء على قيد الحياة اعتمد عليها أسلافنا الصيادون الذين كانوا في حاجة إلى توجيه كل اهتمامهم إلى فريستهم)، فإن الاستغراق الزائد في التركيز على الهدف قد يؤدي بك إلى فقدان القدرة على رؤية الأشياء من المنظور الصحيح، وتبلد الإحساس، بل ارتكاب أخطاء قاتلة. ويمثل تحطم جميع طائرات فريق «ثَندر بيردز» الاستعراضي التابع للقوات الجوية الأمريكية عام ١٩٨٢ مثالًا مأساويًّا على تلك الظاهرة. لقي جميع قائدي الطائرات حَتْفهم نتيجة لتركيزهم الحصري على اتباع الطائرة المحلِّقة أمامَهم على بعد بضعة أقدام؛ إذ وقع عطلٌ ميكانيكيٌّ في طائرة القائد فسقطت الطائرة أرضًا، وتبعتها بقية الطائرات.10

ثانيًا: من الصعب جدًّا إنشاء نظام مناسب للحوافز، ويمكن لأية معادلة قائمة على معايير كمية صِرْفَة أن تواجه إحدى مشكلتين: فإما أن تكافئَ المديرين على نتائج لا تنسب إليهم، أو — على النقيض — ألَّا تُحسن تقدير الجهود والإسهامات المبذولة في حال أدت عوامل خارجية إلى نتائج غير مُرضية؛ لذلك إذا كنت ترغب في وضع حوافز كبيرة في حزمة المزايا الوظيفية، فيجب أن تحرص على تحليلها بعناية، ويمكن أن تستعينَ بمساعدة المتخصصين.

ثالثًا: يتطلب أغلب الوظائف المعقدة تعاونًا بين الأفراد، الأمر الذي يمكن أن يجعل الحوافز الفردية ذات أثر سلبي تمامًا، وذلك من خلال تحفيز الأفراد على التنافس لا التعاون. خلال حضوري برنامجًا تنفيذيًّا لشركات الخدمات المهنية في جامعة هارفارد منذ عدة سنوات، سأل الأستاذ عن عدد الحاضرين في الغرفة ممن يتقاضَوْنَ حوافز مالية فردية في شركاتهم؛ فرفع سبعون فردًا، من بين الثمانين مشاركًا في البرنامج، أيدِيَهم. لاحظت أنه لم يكن من بين العشرة الذين لم يرفعوا أيديهم أي ممثل لشركة أمريكية، برغم أن الأغلبية الساحقة من المشاركين كانوا أمريكيين. يتضح من ذلك أن تقديم الحوافز المالية الفردية هو العرف السائد في شركات الخدمات المهنية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وعادة ما يطلق على هذا النوع من الحوافز اسم «المال بقدر الأعمال». أما نقيض هذا النوع فغالبًا ما يسمى «النظام الموحد»، وفيه لا تعتمد المزايا الوظيفية الفردية على الأداء الفردي، بل تعتمد على أرباح الشركة الكلية وعلى الأقدمية، ونعني بها مدة الخدمة التقليدية.

يتضمن أغلب الشركات شكلًا ما من أشكال «نظام المال بقدر العمل»، إلا أنه عادة ما يوجد بضع شركات في كل مجال من مجالات الخدمات المهنية تعمل بالنظام الموحد. من المثير للاستغراب بعض الشيء أن تلك الشركات القليلة هي غالبًا الأكثر أرباحًا والأفضل سمعة، كما هو الحال في شركة واكتيل، ليبتون، روزين آند كاتس في مجال الشركات القانونية، أو ماكنزي آند كومباني في مجال الاستشارات الإدارية (تعتمد «نظامًا موحدًا معدلًا» بتعبير أدق)، أو شركتنا في مجال البحث التنفيذي.11 في الحقيقة، نُشِر مقال مؤخرًا كتبه مارشال دبليو فان ألستاين، أستاذ اقتصاد المعلومات في جامعة بوسطن والباحث في إم آي تي، وفيه استدل الكاتب على أن الشركات التي تطبق الحوافز الجماعية يتبادل أفرادها المزيد من المعرفة، وتحقق المزيد من الأرباح مقارنة بتلك التي تكافئ الأداء الفردي.12

(٦) التعامل مع المخاطر والحوافز

لنلخص ما تناولناه حتى الآن: في سبيل جذب أفضل المرشحين وتحفيزهم، عليك أن تضع نفسك مكانهم وأن تقيِّم الفرصة التي تقدمها بصراحة لتحدد ما إذا كانت الأفضل حقًّا بالنسبة للمرشحين، وبعدها تحتاج إلى أن تبث حماسك في المرشحين، ثم تُعِد حُزمة مزايا وظيفية جذابة (دون المبالغة فيها وفي ضوء سياسات الاستبقاء التي تتبناها شركتك).

من المفيد حقًّا في هذه المرحلة أن تتسم إجراءاتُك بالانضباط، لا سيما بالنسبة للمناصب العليا كمنصب الرئيس التنفيذي؛ إذ ينبغي أن تكون مفردات المزايا الوظيفية لهذا المنصب النتيجة الطبيعية لمعايير الأداء الرئيسية المتسقة مع أهم أهداف المدير الجديد.

قبل وضع الملامح الأساسية لعرضك وتحديد الحوافز المناسبة، عليك أن تحاول تقييم أهم مصادر المخاطر بأكبر قدر ممكن من الموضوعية. عادة ما تلجأ الشركات إلى تعيين مديرين خارجيين لمواجهة مواقف منطوية على قدر كبير من المخاطرة، كالشركات الناشئة، وعمليات الدمج والاستحواذ، ومحاولات التغيير الكبرى كإنقاذ الشركات من التصفية.13

نصيحتي الأولى للتعامل مع المخاطر هي بذل الوقت الكافي لتعريف جميع الأطراف بالمصادر الحقيقية للمخاطر وبشكل صريح. حين أتحدث عن هذه النقطة مع العملاء والمرشحين، كثيرًا ما أستعين بقياس مستمدٍّ من الإحصاء؛ إذ لا مَناص من الوقوع في نوعين من الأخطاء: إما أن ترفض فرضية صحيحة أو تقبل فرضية خاطئة، وإذا حاولت الحد من خطر الوقوع في أحدهما، فسوف تزيد من خطر الوقوع في الآخر لا محالة. من جهة المرشح، قد يرتكب نوعين من الأخطاء: قبول الوظيفة غير المناسبة أو إضاعة فرصة متميزة، والاستراتيجية الوحيدة لتقليل خطر الوقوع في كليهما هي أن يعرف المزيد عنك وعن شركتك والوظيفة، بما في ذلك المخاطر المحيقة.

غالبًا ما يُرتَكب، في هذه المرحلة، خطآن تقليديان على صلة بالمخاطر. أولهما، كما أشرت آنفًا، هو أن تتجاهل المخاطر كما يراها المرشح. (وتضيع بذلك فرصة مواجهة الانطباعات الخاطئة لدى المرشح وتصحيحها.)

الخطأ الثاني هو أن تعوض المرشح عن هذه المخاطر بمنحه كثيرًا من المال دون إجراء تحليل مناسب؛ مما يسفر عن نتائج سلبية من بينها إضاعة مالك، وتقديم الحوافز الخاطئة (في كثير من الحالات). أفضل مثال على ذلك هو حوافز «المظلات الذهبية» التي تخلق حافزًا عكسيًّا لتأجيج الصراعات ومن ثم التعرض للإقالة والحصول على مكافأة الخروج من الخدمة. غير أن مكافآت الانضمام لا تقل سوءًا؛ نظرًا لأنها تقوم على فكرة منح المرشحين الممانعين مالًا مقابل إرجاء قرارهم، وهو ذات الشيء الذي تعيِّنهم لأجله!

من بين أكثر من ٣٠٠ مَهمة بحث تنفيذي قمت بها، لم أنصح بحوافز المظلات الذهبية ولا مكافآت الانضمام إلا في حالات استثنائية، ولا أوصي بها مطلقًا للتغلب على فقدان الثقة من جانب المرشحين؛ فينبغي ألا يعمل شخص في شركة لا يثق بها، وبرغم أن بعض المواقف الخاصة تستدعي حقًّا هذه الأنواع من المزايا الوظيفية، فينبغي أن تكون تلك المواقف الاستثناء لا القاعدة. يجب أن يلتحق المدير بالشركة الجديدة وهو يشعر بالثقة أن كلا الطرفين سيفي بالتوقعات وأنهما سينعمان بالراحة المتبادلة في العمل معًا. لو تحقق هذان الشرطان، فلا حاجة إلى تطبيق تلك الأنواع من الحوافز.

أؤكد مجددًا على ضرورة تحليل أهم المخاطر بموضوعية والتعامل معها باطلاع المرشح على المعلومات بصراحة ثم التحقق من أن العقد الذي تقدمه يُعالج هذه المخاطر كما ينبغي.

fig40
شكل ٨-٤: تصميم الحزمة.
يوضح الشكل ٨-٤ تحليلًا مفاهيميًّا لحزمة المزايا الوظيفية التي وضعتها شركة منتجات استهلاكية عند تعيينها لمدير قُطْري محلي لبدء شركة ناشئة لأول مرة في دولة جديدة. الْمَهمة الأولى للمدير المعيَّن هي أن يؤكد مرة أخرى ما إذا كان من مصلحة الشركة المحققة المضيُّ قُدمًا في المشروع المطروح في الدولة المستهدفة أم لا. برغم أن احتمال التوقف التام عن المشروع كان ضئيلًا، فإننا اتفقنا مع عميلنا على ضرورة تحلي المرشح بالموضوعية بحيث لا يوصي بتدشين مشروع ضخم في حال اقتنع بعدم جدواه. تضمَّن العقد حماية استثنائية كانت (١) منصفة عن طريق تعويض المدير إذا قرر مغادرة المنصب بعد بضعة أشهر لكنها. (٢) لم تكن زائدة عن الحد بحيث توجِد حافزًا ضد المشروع، إذا وُجِدَ ما يبرره حقًّا.
كما هو موضح في الشكل ٨-٤، تضمنت المراحل المختلفة للمشروع الوليد، بالترتيب: تنقيح المشروع، وإقامة المنشآت وبناء المؤسسة، وإطلاق منتجهم لمواجهة المنافس الاحتكاري السابق، وأخيرًا المحافظة على إدارة فعالة للمشروع. حددت الشركة، لكلٍّ من هذه المراحل، أولويات إدارية واضحة، مع وضع سلسلة من الأهداف الكمية والنوعية؛ مما أسهم في تحديد المفردات المختلفة لحزمة المزايا الوظيفية طوال عمر المشروع.

برغم أن تفاصيل العقد المعقد تتجاوز نطاق هذا الفصل، فإن الهدف هنا هو إبراز سلسلة من الحوافز لكل مرحلة — بل أنواع مختلفة من حوافز المظلات الذهبية لكل مرحلة حسب المخاطر الخاصة بها — والتي تقلَّصت مع الوقت. في سبيل تحقيق الاتساق مع المساهمين، تضمَّن العقد حافزًا طويل المدى على درجة كبيرة من الأهمية متمثلًا في الأسهم الصورية إلى جانب خيار البيع المسموح بممارسته بعد إتمام الشركة لعملية تغلغلها في السوق. نظرًا لانعدام اليقين الذي يسود الفترات الانتقالية، قدمت الشركة للمدير علاوة ضخمة لكنها تقديرية، بالإضافة إلى راتب تنافسي.

أحرز المرشح المعيَّن، كما تبيَّن، نجاحًا كبيرًا لعدة سنوات، ثم قرر في الوقت المناسب (في نظره وفي نظر الشركة) أن يمارس خيار البيع ويغادر، وحينَها عينت الشركة مديرًا من طراز آخر.

(٧) الأشخاص المناسبون هم أهم ما في الأمر

أجريتُ مَهمة بحثية منذ عدة سنوات لإيجاد مراقب لمؤسسة غير هادفة للربح. كان العرض الذي قُدِّمَ للمرشح النهائي يعادل نصف ما كان يتقاضاه في وظيفته آنذاك، ومما أثار دهشتي أنه قَبِل العرض وتفوَّق في أداء عمله لسنوات عدة، بل بَقِيَ في وظيفته برغم أنه كان عليه أن يبادر بمكافحة مستويات عالية من الفساد الداخلي؛ الأمر الذي ترتب عليه تعرُّضه وعائلته لتهديدات متكررة واضطراره إلى تغيير رقم هاتفه مرتين ليتسنَّى له النوم دون استقبال مكالمات مفزعة.

يجب أن أعترفَ أنني أُصِبت بالدهشة، والقلق، بل خيبة الأمل؛ حين بادر العميل بتقديم العرض إلى المرشح دون مناقشتي قبلَها (كنت حاضرًا في الاجتماع)، لكنني أقررت لاحقًا أن العرض شكَّل اختبارًا حقيقيًّا لالتزام المرشح بالرسالة النبيلة التي تؤديها المؤسسة، وهو شرط أساسي للنجاح والاستمرارية.

ربما يبدو ذلك ساذجًا أو مثاليًّا، لكنها الحقيقة ببساطة: لقد اكتشفت من واقع خبرتي التي تزيد عن ٢٠ عامًا في البحث التنفيذي أن ما يتطلع إليه المرشحون في المقام الأول ليس مزيدًا من المال، بل يبحثون عن وظيفةٍ تدفعهم إلى بذل أفضل ما لديهم وتضعهم أمام تحدٍّ يلائم مهارتهم تمامًا، في مكان يساعدهم على التطور والتحسُّن ومؤسسة يحبونها، وتحت قيادة مدير جيد ووسط مجموعة رائعة من الزملاء. وفي المقابل، لا يترك أغلب الموظفين وظائفهم بسبب المال؛ إنهم يتركون مديرًا سيئًا وظروفًا محبِطة. لو وُجِدَ التحدي المناسب، والظروف المناسبة والمدير المناسب، فسوف يجد المرشحُ المناسب الدافعَ لقبول الوظيفة.

دائمًا ما تُظهِر الأبحاث المعنية بالسعادة أن العاملَين الدافعين إلى السعادة، من منظور المرشح، هما وظيفة هادفة وعلاقات قيِّمة، أما المال (بعد حدٍّ أدنى معين) فلا يعدو كونه عاملًا وقائيًّا. أما بالنسبة للمؤسسة، فتريد المرشح الصحيح الحريص بحق على الوظيفة والمؤسسة. اكتشف جيمس بارون، الأستاذ بجامعة ستانفورد، من واقع تدريسه لمقرر إدارة الموارد البشرية لطلاب ماجستير إدارة الأعمال أن طلاب ماجستير إدارة الأعمال (الذين يُزعَم أنهم يركزون أكثر من غيرهم على الحوافز المالية) يفضلون الطبيب الذي تخصص في الطب لشغفه بالمجال ورغبته في خدمة الآخرين على الطبيب الذي دخل ميدان الطب أساسًا لجني الأموال الوفيرة.14
حين سُئِل جيم كولينز عن مدى أهمية قرارات المزايا الوظيفية والحوافز المقدمة للمسئولين التنفيذيين في بناء شركة ممتازة، أجاب قائلًا:

من دواعي دهشتنا أنه لا يبدو أن المزايا الوظيفية المقدمة للمسئولين التنفيذيين تلعب دورًا ملموسًا في تحديد الشركات التي ستدرك الامتياز؛ فبعد ١١٢ تحليلًا أجريناه للبحث عن ارتباط قوي بين المزايا الوظيفية التنفيذية والنتائج التي تحققها الشركات، لم نعثر على أي نمط واضح؛ فأدركنا أن العوامل التي تجعل شركةً ما ممتازة ليس لها علاقة قوية بشكل المزايا الوظيفية التي تقدمها للمسئولين التنفيذيين بل بالمسئولين التنفيذيين الذين تعيِّنهم ابتداءً.

إذا كان لديك الموظفون المناسبون، فسوف يبذلون ما في وسعهم ليجعلوا شركتهم ممتازة؛ فالمزايا الوظيفية لا تهدف إلى تحفيز السلوكيات المناسبة لدى الأفراد غير المناسبين، بل تهدف، في المقام الأول، إلى جذب الأفراد المناسبين واستبقائهم. وهذا لا يعني أن علينا تجاهل مسألة المزايا الوظيفية بالكلية، فلا شك أن كثيرًا من مجالس إدارات الشركات أخفقت في أداء مسئولياتها إزاء المساهمين نتيجة لتقديمها حُزَمًا ذات مزايا هائلة وسلبيات ضئيلة، لكن، مع ذلك، يبقى القرار الأهم هو لمن تُقَدَّم هذه المزايا لا كيف تقدمها.15

ختامًا، إذا كنت تريد بناء شركة ممتازة، فمدار الأمر كله على تعيين أفضل الأشخاص، الذين يَرَوْنَ المال مهمًّا، لكن دون مبالغة. فالأهم، كما قال كولينز، هو لمن ستدفع، لا كم ستدفع أو كيف.

(٨) مسألة شجاعة

لنعد الآن إلى السيناريو الثاني، إلى اجتماعي منذ عشر سنوات مع الرئيس والرئيس التنفيذي لإحدى شركات المنتجات الاستهلاكية الكبرى، حيث رفض المرشح النهائي العرض، معترفًا بأنه كان يتوقع ضِعْف المزايا الوظيفية المقدمة له، وهَمَّ كل منهما بالمصافحة ومغادرة الاجتماع. كنت جالسًا على رأس الطاولة، ويجلس عن يميني العميل وعن يساري المرشح.

ما فعلته فيما يلي أدهشني أنا شخصيًّا. وقفت وقلت: «من فضلِكما لا تُنهيا الاجتماع!» نظرت إلى العميل قائلًا: «بصراحة شديدة، أنا معجب بما فعلتَه لأجل شركتك وإنني على قناعة تامَّة بأنه لا يمكن إضاعة هذه الفرصة.»

ثم التفتُّ إلى المرشح مخاطبًا: «لقد تابعتك كذلك خلال السنوات العشر الماضية ولديَّ إيمان مطلق ليس فقط بأنك تستطيع إضافة قيمة هائلة إلى هذه الشركة، بل بأن هذه أفضل فرصة مُتاحة أمامَك. سوف تحقق نجاحًا باهرًا وستجد متعة شديدة في وظيفتك. ببساطة، ليس من المعقول أن تدَع هذه الفرصة تضيع.»

اصطحبت المرشح إلى غرفة اجتماعات أخرى طالبًا منه الانتظار لدقيقة، وعدت إلى عميلي. جلسنا معًا وبعد لحظات من الصمت، أخبرته بصراحة تامة أن العرض كان متدنيًا للغاية مقارنةً بواقع السوق وكفاءة المرشح، وأنه حتى لو كان وافق على قبول العرض، لكان سيمثل استبقاؤه في الشركة مشكلة منذ اللحظة الأولى لتولِّيه منصبه. أشرت كذلك إلى مدى ضآلة حُزمة المزايا الوظيفية المقدمة إلى المدير المالي لو قورنت بالقيمة المحتملة التي يمثلها للشركة، وتابعت قائلًا إنه لو كان ثَمَّةَ شكوكٌ بشأن قدرات المرشح أو ملاءمته للوظيفة، فلا شك أن علينا التوقف، لكن لو لم تكن هناك شكوك، فينبغي ألا نتقبل رفض المرشح، دون بذل جهد إضافي على الأقل.

كان هذا الموقف، بلا مبالغة، نقطة تحوُّل في تاريخ الشركة. لم يسبق أن قدم الرئيس التنفيذي ذلك المستوى من المزايا الوظيفية لأيٍّ من مرءوسيه؛ لكنه كان على دراية تامَّة أن كثيرًا من المرشحين الذين تناولهم بالدراسة كانوا يتقاضَوْنَ مزايا وظيفية مشابهة للغاية لتلك التي توقَّعها المرشح، بل أكبر منها في بعض الأحيان.

تركتُه ليفكر في حديثنا وعدتُ لألقَى المرشح، الذي كان لا يزال منتظرًا في الغرفة الأخرى. لاحظت جلوسه على طرَف الكرسي؛ مما يعني أنه كان يشعر كذلك باحتمال وقوع نقطة تحوُّل في الموقف.

تحدثنا. كنت أعرف أنه ظل بلا عمل لمدة عام كامل، لكن ما لم أكن أعلمه (وذُهِلت حين علمتُه) أنه خلالَ هذه الفترة العصيبة كان لديه من الشجاعة ما مكَّنه من رفض سبعة عروض عمل. أخبرني بكل صراحة أنه لم يكن باستطاعته حَمْل نفسه على قبول وظيفة غير مقتنع بها، وصارحني أنه مقتنع تمامًا بفرصة العمل المقدَّمة له، فيما عدا نقطة الماديات. تحققت مما إذا كانت ثمة مشكلات أخرى، لكنه أقنعني بعدم وجودها. طلبت منه الانتظار.

ثم عدت مجددًا إلى العميل وأعربت له عن إيماني المطلق بدوافع المرشح ووجاهة حُزمة المزايا الوظيفية التي كان يتوقعها. وافق الرئيس التنفيذي في نهاية الأمر. وخلال ٢٠ دقيقة، كان الرجلان يتصافحان مرة أخرى، لكن هذه المرة بدافع استهلال علاقة مهنية رائعة. كانت الشروط النهائية، حسب التفاوض، أقرب إلى توقعات المرشح (وأسعار السوق) من العرض الأول. عَمِلَ الرئيس التنفيذي والمدير المالي الجديد معًا لما يقرب من عَقْد، قدَّم خلاله المدير المالي الجديد قيمة مالية هائلة للشركة، ولعب دورًا لا يُقدَّر بقيمة ليس فقط في إدارة الشئون اليومية للشركة، بل في ظروف استثنائية للغاية شملت إعادة الهيكلة المالية، وعمليات استحواذ، وإدارة أزمات. لم يَتَلَقَّ المدير المالي الجديد خلالَ هذا العَقْد مزايا وظيفية سخِيَّة فقط، بل تمتَّع بمكافآت غير نقدية قيِّمة.

الدرس الذي استفدتُه من ذلك الاجتماع هو أن العنصر الحيوي في هذه المواقف المحورية هو امتلاك الشجاعة الكافية؛ ينبغي أن تتحلى بالشجاعة لمخالفة التقاليد والقيود التي تفرضها على ذاتك حين يتحتم عليك ذلك، وكما ينص القول المأثور: الأغبياء ليس لديهم قواعد. الأذكياء لديهم قواعد ويتبعونها. أما العباقرة فيعلمون متى يخالفونها.

إذا أنجزت مَهمتك بإيجاد أفضل المرشحين وتقييمهم، وكان حجم المزايا الوظيفية معقولًا بالنسبة للسوق، وتحققت من وجود الدافعية المناسبة وتعاملت مع المخاطر المحتملة كما ينبغي؛ فالوقت قد حان إذن للتحرك: من الصراحة، والقلق، والتحليل العقلاني إلى الشجاعة الخالصة. عليك أن تقطع شوطًا إضافيًّا لإتمام الصفقة.

(٩) تلقِّي المساعدة الصحيحة

لعلك اندهشت من جرأتي في رَأْب الصَّدْع بين الرئيس التنفيذي والمدير المالي كما أوضحتُ لِتَوِّي. حسنًا، لقد أدهشني ذلك أنا أيضًا. لكن ما شجعني هو أنني عملت مع هذا العميل عن قُرْب على مَدار عدة سنوات، وكنا يعرف ويفهم أحدنا الآخر.

يقودني هذا إلى طرح مسألة الاستعانة بمساعدة خارجية خلالَ بحثك عن مرشحين. سألت جاك ويلش مرة عما إذا كان يتعاقد مع شركات للبحث التنفيذي في الحالات غير المعتادة التي بحثتْ فيها جنرال إلكتريك عن مرشحين خارجيين، وإذا كان الجواب نعم، فما هي النصيحة التي يقدمها للآخرين الذين يخوضون التجربة ذاتها؟ أجاب قائلًا:
أجل، استعنت بشركات بحث. لا يسعني التحدث عن معايير اختيار الشركات البحثية والاستعانة بها نيابة عن جنرال إلكتريك، لكن بالنسبة إليَّ، ليس لديَّ سوى معيار واحد: أن أختار شخصًا أثق به. ولا يتأتَّى هذا إلا مع الوقت، مع السنوات. اختر شخصًا تربطك به علاقة شخصية جيدة، شخصًا منخرطًا في اللُّعبة وماهرًا بها. شخصًا يَحْدوه اهتمام دائم بإيجاد الشخص المناسب لا تحصيل الأتعاب.16

في هذا السياق، تتكون الثقة من عدة عناصر. تنبثق الثقة، بلا شك، من إحساس العميل بالكفاءة الشخصية التي يتمتع بها الاستشاري؛ لكنها تنشأ كذلك من إيمان العميل بشركة الاستشاري وكيفية تنظيمها؛ الأمر الذي يترتب عليه توجيهان:

أولًا: اختر استشاريًّا بعينه، لا مجرد شركة؛ فاختيار شركة بحث بِناءً على ما كُتِبَ عنها فقط يشبه تعيين مسئول تنفيذي بِناءً على سيرته الذاتية فحَسْب. كغيرها من شركات الخدمات المهنية، تستعين بعض شركات البحث التنفيذي بالشركاء الْمُحَنَّكِين للحصول على المهامِّ البحثية ثم يُحيلون عمليات البحث إلى الأفراد الأقل خبرة (كالحاصلين حديثًا على درجة الماجستير في إدارة الأعمال)؛ لذلك عليك أن تقابل الاستشاريين الذين سيُجرون فعليًّا كل خطوة من خطوات البحث الخاص بك، وأن تقيِّم خبرتهم وكفاءتهم الفنية وتستشفَّ مدى سهولة الوصول إليهم، ودماثة خُلُقهم، وصدقهم. كما تلعب النزاهة دورًا محوريًّا؛ كذلك الجهات المرجعية القوية والموثوقة شرط أساسي.

ثانيًا: عليك أن تتعرف على مدى استقرار الموظفين المهنيين داخل الشركة، والآليات التي تستخدمها الشركة لتعزيز التعاون فيما بينهم. من المهم تنفيذ هذه الخطوة نظرًا لأن قيمة شركات البحث التنفيذي تنشأ مباشرةً من قدراتها على تقاسم المعرفة. سوف تمنحك أولًا شركة البحث الجيدة فكرة عن المناصب والمرشحين؛ ومن ثَمَّ تمنحك طريقةً للوصول إليهم، ومن الجليِّ أن المَهمَّتين تعتمدان على ما يتحلَّى به الاستشاريون من قدرات على التعاون وتقاسُم المعرفة. كتب عالم الاقتصاد والأستاذ بجامعة بوسطن، مارشال دبليو فان ألستاين، مقالًا مؤخرًا أثبت فيه أن للحوافز المشجعة على التعاون (أو عدمها) داخلَ شركات الاستقطاب الوظيفي تأثيرًا بالغًا على الاتصالات الداخلية بين الاستشاريين؛ ومن ثَمَّ أثَّرَت على الخدمة المقدمة للعملاء.17 إن الشركات التي تكون فيها فرق العمل مستقرة وتتشارك المعرفة فيما بينها يزداد احتمال تجميعها لمخزون متميز من المعلومات وتوفيرها لجميع موظفيها. يشمل هذا المخزون معلومات عن:
  • المرشحين المحتملين والمصادر الخارجية، والجهات المرجعية.

  • الاحتياجات الخاصة للمناصب المختلفة.

  • أكثر الطرق فاعلية لإيجاد أفضل المرشحين، وتقييمهم، وتحفيزهم، ودمجهم.

وإحقاقًا للحقِّ أُقِرُّ أن مهنة البحث التنفيذي منذ ظهورها تحمل في طَيَّاتها تضاربًا عميقًا بين المصالح، ولا يزال هذا الوضع، للأسف، قائمًا إلى يومنا هذا. يشير كلٌّ من فيفر وساتون في كتباهما الأخير إلى أن العديد من شركات البحث التنفيذي الكبرى لا تزال تقدِّم الحوافز غير الصحيحة؛ لأن الأتعاب التي تتقاضاها من عملائها من الشركات تُحسب بِناءً على نسبة من المزايا الوظيفية التي يتلقَّاها المسئول التنفيذي (عادة ما تكون ثلث المزايا الوظيفية النقدية التي يتلقاها المسئول في عامه الأول). يشير المؤلفان قائلَيْن: «كلما زادت المزايا الوظيفية التي يتقاضاها المسئولون التنفيذيون، ازدادت أتعاب شركات البحث.»18 لا شك أن مثل هذا النظام الذي يحسب الأتعاب كنسبة مئوية من المزايا الوظيفية يخلق حافزًا غير مشروع لدى الاستشاري لتقديم أغلى المرشحين، الذين قد يكونون الأفضل أو لا.

ثَمَّةَ مصدرٌ نظامي آخر للصراعات وثيق الصلة بما سبق، ينشأ حين تتقاضى شركات البحث أتعابها حسب النتائج، كليًّا أو جزئيًّا. تتقاضي الشركة أتعابها، بِناءً على هذا النظام، إذا عُيِّن مرشح (وغالبًا ما يكون مرشحًا خارجيًّا) في نهاية العملية. إذا طُبِّق هذا النظام، فمن المحتمل أن تظهر إحدى مشكلتين أو كلتاهما. أولًا: يشجع هذا النظام الاستشاري على تقييم المرشحين بمزيد من الرفق. (وإلا فلن تحصل الشركة على أتعابها!) إلا أنه ما من مرشح كامل، وينبغي أن يكون لدى الاستشاريين الحافز لينقلوا بصراحة إلى عملائهم وجهة نظرهم الصادقة بشأن كلٍّ من المرشحين. علاوة على ذلك، يضع مثل هذا النظام ضغطًا على الاستشاري لترشيح مرشح خارجي، بدلًا من النظر بموضوعية إلى المرشحين الداخليين والخارجيين على السواء.

يمكن تجاوز جميع هذه المشكلات التنظيمية المتعلقة بالأتعاب عن طريق تحديد أتعاب ثابتة وموحدة ودفع مقدم أتعاب. كما سيساهم ذلك في تعزيز الثقة الشخصية بالسلامة التنظيمية.

(١٠) إبرام الصفقة

باختصار، إن كل الجهود المبذولة في الإعداد والتحديد والتقييم ستضيع سُدًى في النهاية إذا رفض أفضل مرشح الانضمام إلى الشركة؛ لذلك عليك أن تُبرم الصفقة.

إليك مثالًا لمؤسسة أجنبية كبيرة متخصصة في البيع بالتجزئة، أجرَتْ عملية بحث في أمريكا الشمالية في ظل مصاعب متنامية تواجهها الشركة وتهديدات متزايدة من المنافسين. درست الشركة أفضل الكوادر الأمريكية وحددت مرشحًا نهائيًّا للوظيفة، لكن الشركة أبدت رفضها لحزمة المزايا الوظيفية التي طلبها هذا المرشح والتي تُقدَّر بقيمة مليوني دولار؛ ومِنْ ثَمَّ عيَّنت، في نهاية المطاف، مرشحًا داخليًّا لم يكن على نفس مستوى الكفاءة. تبيَّن لاحقًا أن ذلك القرار كان موفِّرًا لبضعة ملايين؛ لكنه أهدر أموالًا طائلة إذ أعلنت الشركة إفلاسها في النهاية.

تأمَّلْ، في المقابل، الجهد الذي بذلتْهُ شركة الألبان العالمية المذكورة في الفصول السابقة. بمجرد أن عقدت الشركة العزمَ على تعيين المرشح المتميز الذي حددَتْه اتجهت إلى إتمام العملية. لم تكن محاولات كسب وُدِّ المرشح في تلك الحالة تدور بشكل أساسي حولَ المزايا الوظيفية، بل تضمنت لَفَتاتٍ مهمةً — من بينها جولة موسعة لزوجة المرشح في الدولة التي انتقلت إليها — ومجموعة من اللمسات البسيطة، بدايةً من عدم افتراض أن زوجة المرشح تحمل لقب زوجها (لم تكن تحمله)، مرورًا بتوفير دراجات جبَلِيَّة لهما فورَ وصولهما، وخرائط بالطرق التي يُنصَح باستكشافها، ودعوتهما إلى تناول غداء غير رسمي وغير متكلَّف مع رئيس مجلس الإدارة وزوجته، وانتهاءً بتوفير مدرسة خاصة لأطفالهما، وهو أمر حيوي لأسرة اضْطُرَّتْ إلى الانتقال إلى الجانب الآخر من العالم، بالإضافة إلى اصطحابهما في جولات موسَّعة للبحث عن مسكن، وتقديم النصائح والمعلومات بشأن ذلك. إن كثيرًا من الصفقات، بحسب خبرتي، لم يكن لتُكتَب لها الحياة لولا مثل هذه اللمسات البسيطة.

fig41
شكل ٨-٥: كيفية جذب أفضل المرشحين وتحفيزهم.

ثَمَّةَ تعليقانِ أخيران بشأن هذه المرحلة الحاسمة، التي قد تشهد تتويجًا لنجاح كل الجهود السابقة أو تُحولها جميعًا إلى مَضْيَعة كبيرة للوقت والجهد:

أولًا: كما تحتاج إلى أشخاص بكفاءات عالية لتقييم المرشح المناسب، تحتاج كذلك إلى أشخاص بكفاءة عالية لتحفيزه.

ثانيًا: وكما أشرت سلفًا، كثيرًا ما يمكن للاستعانة باستشاريٍّ وسيط أن تلعب دورًا قيِّمًا في مساعدة كل طرَف على التعبير عن مصالحه ومخاوفه بصراحة مع تقديم خيارات مبتكرة والتقريب بين خيارات الطرَفين في سبيل تحقيق التراضي المتبادل. لا شك أن شركات البحث التنفيذي يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًّا في جذب أفضل المرشحين وتحفيزهم في مرحلة إبرام الصفقة.

يلخص الشكل ٨-٥ أهم النقاط التي تناولناها في هذا الفصل.

•••

إذا اتبعت الممارسات الواردة في هذا الفصل، فستنجح في إتمام الصفقة وتعيين المرشح الأفضل.

لكن مَهمتك لم تَنْتَهِ بعدُ! فيمكنك أن تعزز فرص نجاح الموظف الجديد وأداءه المتوقع تعزيزًا كبيرًا من خلال التخطيط والدعم الملائمَيْن لعملية الإدماج، وهذا ما سنناقشه في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤