الفصل الثاني عشر

العلم والعالَم١

يُعتقد عادةً أن العلم يعطينا وصفًا حقيقيًّا للواقع، صورة صحيحة للعالم، لكنه يتكون من فرضيات قابلة للتغيير، مفتوحة دائمًا على التغير. وإذا كانت هذه الفرضيات إلى حد ما، رغم ذلك، مرتكزةً على الواقع، كيف يمكن اعتبار أن العلم يعطينا مدخلًا صحيحًا للعالَم؟ تحدِّد استجابةً شائعة لهذه المشكلة السلطةَ النهائية للعلم في المُعطَيات؛ أي فيما يُعطَى بيقين للحواس، تاركةً كل ما سواها مفتوحًا على تفسير متغيِّر. لكن هذه الاستجابة مشوَّشة. يمكن أن يُعزَى الخطأ واليقين، مثل الحقيقة والزيف، للأوصاف، وليس، عمومًا، للأشياء الموصوفة.

(١) اليقين والاتساق

لا يمكن أن يحمي ما يسمَّى يقين المعطيات أوصافَه المزعومة من الخطأ؛ لا يمكن، إذن، للمعطيات أن تقدِّم سيطرةً ثابتة على التصور. وإذا حاولنا تصوير كل معتقداتنا بأنها تقع إلى حد ما تحت سيطرة تقاريرنا عن المعطيات، نستنتج أن تلك التقارير نفسها ليست مقيدةً بصرامة بالمعطيات؛ لأنها نفسها عرضة للخطأ. ولا يُجدي نفعًا، إذن، افتراض أنها تكوِّن أهدافًا للاحتكاك المباشر البديهي بين نظم معتقداتنا والواقع، محكَّات ثابتة للحكم على كل معتقداتنا الأخرى، لكنها هي نفسها تتجاوز النقد. ولا يمكن، باختصار، تشييد تقارير الملاحظة باعتبارها حقائق يقينية معزولة. ينبغي أن تنجو من عملية مستمرة للتكيف مع معتقداتنا الأخرى، عملية في سياقها قد تُلغَى معتقداتنا نفسُها. ولا تكمن السيطرة التي تمارسها في عصمة، لا يمكن أن تصل إليها؛ إنها تتكون مستقلةً عن المعتقدات الأخرى، مع قدرةٍ على التصادم مع البقية بطريقة تدفع المراجعة المنهجية إلى تهديد للكل.

لكن هل يكفي هذا التصور للاستقلال لنظرية عن السيطرة الموضوعية على المعتقد؟ هل يقدِّم قيدًا كافيًا لعشوائية اختيار الفرضيات؟ يقدِّم الخلاف في أفضل الأحوال، رغم كل شيء، حافزًا لإحياء الاتساق. لكن إذا كان هذا هو الحافز الوحيد الذي أكون ملزمًا باحترامه، أكون حرًّا في أن أختار بإرادتي من بين مجموعات متماسكة بالقدر نفسه من المعتقدات المختلفة إحداها مع الأخرى؛ لا أحتاج إلى تفضيل التعليق الحقيقي المتسق على التشويه المتسق، أو على الحكاية الخرافية المتماسكة. ومواجهًا بخلاف بين تقارير ملاحظتي ونظريتي، يمكن أن أعدِّل بحرية أو أنبذ الأولى أو الأخيرة أو كليهما، طالما أستبدل بمجموعتي الأولية غير المتسقة من المعتقدات مجموعةً متماسكة. بوضوح، هذا القدر الكبير من الحرية كبير جدًّا من الحرية، ويجب الاعتراف بالقيود التي تتجاوز الاتساق.

لكن في إنكار مبدأ اليقين، ألم نجعل مجرد القيام بذلك مستحيلًا؟ إذا أصيبت كل معتقداتنا باحتمال الخطأ، إذا لم يُضمَن بأن يكون أي وصف من أوصافنا حقيقيًّا، لا يمكن لأحد أن يمدنا برباط بالواقع موثوق به بشكل مطلق. تطفو معتقداتنا متحررة من الحقيقة، وأفضل ما يمكن القيام به التأكد من الاتساق بينها. الورطة شديدة ومزعجة؛ نبتلع أسطورة اليقين أو نستنتج أننا لا يمكن أن نعرف الحقيقة من الخيال.

تكمن هذه الورطة في جذر كثير من الجدل بين الفلاسفة ذوي التوجه العلمي، وتثري مراجعة بعض عناصر الجدل فهمنا للمشكلة. أتناول المناظرة التي دارت في حلقة فيينا في ثلاثينيات القرن العشرين المتعلقة بوضع ما يسمى جمل البروتوكول٢ في العلم موضوعًا أساسيًّا لهذه المراجعة. كان البطلان الرئيسيان في هذه المناظرة أوتو نيورات وموريس شليك،٣ رفض الأول مبدأ اليقين وأصر على «أن العلم يبقى في مجال الفرضيات، الفرضيات بدايته ونهايته»،٤ ويصر الأخير على أن العلم «وسيلة نعثر بها على طريقنا بين الحقائق»، وتشكِّل تصريحاته المؤكدة «نقاطًا ثابتة بشكل مطلق للتماس» بين «المعرفة والواقع».٥

(٢) نيورات ضد اليقين

أنتقل أولًا إلى نيورات الذي يقترح أن العمليات العلمية تُفهَم بوصفها تنحصر تمامًا في عالم التصريحات:

إن العلم بوصفه نظامًا للتصريحات موضع للبحث دائمًا. تقارَن التصريحات بتصريحات، وليس ﺑ «الخبرات»، أو «العالم»، أو أي شيء آخر … يقارن كل تصريح جديد بمجموع التصريحات السابقة المنسَّقة من قبل؛ ومن ثم يعني القول بصحة تصريح أنه يمكن دمجه في هذا المجموع. ما لا يمكن دمجه يرفض باعتباره غير صحيح. إن البديل لرفض التصريح الجديد، عمومًا، هو التصريح المقبول بتردد هائل: يمكن تعديل النظام السابق كله للتصريحات بدرجة يستحيل معها دمج التصريح الجديد (SP, 291).
وقد وقف نورات بصلابة ضد مفهوم مجموعة بدائية لا يمكن إصلاحها ممَّا يسمَّى بتصريحات البروتوكول بوصفها أساسًا للعلم. يكتب: «ليس هناك سبيل للحديث عن جمل بروتوكول نقي وراسخ بشكل قاطع بوصفها نقطة بداية العلوم.»٦ وبعيدًا عن الحشو، تشترك جمل البروتوكول وغير البروتوكول أيضًا العلم المتسق في الشكل الفيزيائي٧ نفسه وتخضع للمعالجة نفسه. وتتميَّز جمل البروتوكول بحقيقة أن «فيها اسمًا شخصيًّا يظهر عدة مرات في ارتباط خاص بالمصطلحات الأخرى. ويمكن أن تقول جملة بروتوكول كاملة، مثلًا: «بروتوكول أوتو في الساعة ٣:١٧: [في الساعة ٣:١٦ قال أوتو لنفسه: (في الساعة ٣:١٥ كانت هناك طاولة في الغرفة يدركها أوتو)]»» (PS, p. 202). ومع ذلك، ليست النقطة الرئيسية التي يجب التأكيد عليها أن جمل البروتوكول مميزة لكن بالأحرى أن «كل قانون وكل جملة فيزيائية للعلم المتسق أو لأحد علومه الفرعية خاضعة ﻟ … التغير. ويصح الشيء نفسه بالنسبة لجمل البروتوكول» (PS, p. 203).
ويتمثل حافز التغير في الرغبة في استمرار الاتساق؛ لأننا «نحاول في العلم المتسق أن نشيد نظامًا غير متناقض من جمل البروتوكول وجمل غير البروتوكول (بما فيها القوانين) … قد يقع مصير النَّبذ حتى على جمل البروتوكول» (PS, p. 203).
يجب التخلي عن مفهوم أن جمل البروتوكول بدائية وتتجاوز النقد لأنها خالية من التفسير؛ لأن «الصيغة السابقة لجملة بروتوكول كاملة توضح أن التفسير، طالما تظهر أسماء شخصية في البروتوكول، ينبغي أن يكون قد حدث دائمًا بالفعل» (PS, p. 205). بالإضافة إلى ذلك، هناك، في الأقواس الداخلية، إشارة لا مفر منها إلى «فعل إدراك» شخص ما (PS, p. 205). والخلاصة أنه لا توجد جملة في العلم تعتبر بدائيةً أكثر من غيرها:
كلها متساوية في البدائية؛ الأسماء الشخصية، والكلمات التي تدل على الإدراك، والكلمات الأخرى التي تتسم بقدر ضئيل من البدائية تظهر في كل الجمل الحقيقية … وتعني جميعًا أنه لا توجد جمل بروتوكول بدائية أو جمل لا تخضع للتمحيص (PS, p. 205).
وبالإضافة إلى ذلك؛ حيث إن «كل لغة بهذا الشكل شبه موضوعية٨» (PS, p. 205)، ومن العبث الحديث عن لغات خاصة، أو اعتبار أن لغات البروتوكول متباينة بداية، ممَّا يتطلب في النهاية جلبها معًا بأسلوب خاص. وفي المقابل، «تتقارب لغات برتوكول كروزو Crusoe الأمس وكروزو اليوم وتتباعد عن بعضها البعض بقدر تقارب لغات بروتوكول كروزو وفرايداي٩ وتباعدها» (PS, p. 206).
يمكن أن نتصور آلة فرز تُلقَى فيها جمل البروتوكول. القوانين والجمل الحقيقية الأخرى (بما فيها جمل البروتوكول) تعمل على تعشيق تروس الآلة لفرز جمل البروتوكول التي تُلقى في الآلة ويرن الجرس إذا حدث تناقض. عند هذه النقطة يمكن أن نستبدل بجملة البروتوكول التي أدَّى إدخالها في الآلة إلى التناقض جملة بروتوكول أخرى، أو نعيد بناء الآلة كلها. لا أهمية على الإطلاق لمن يعيد بناء الآلة، أو أية جمل بروتوكول تُلقى في الآلة (PS, 207).
يؤكِّد نيورات على مكانة التنبؤ في العلم. ومع أنه يصح بالنسبة لقيده المفروض ذاتيًّا على عالم التصريحات وحده، فإنه لا يفسِّر نجاح نبوءة وهي تتشكل في اتفاقها مع الحقيقة. إنه يعلن: «النبوءة تصريح يُفترض أنه سوف يتفق مع تصريح مستقبلي» (SP, p. 317).
ورغم رفضه لمقابلة «الشخص المفكر» ﺑ «الخبرة» (SP, p. 290) لمقارنة التصريحات ﺑ «الخبرات أو العالَم أو أي شيء آخر» (SP, p. 291)، ولطرح تلك «المسائل الخطيرة … من قبيل كيفية ارتباط الملاحظة والتصريح؛ أو، بالإضافة إلى ذلك، كيفية ارتباط بيانات الحواس والعقل، العالم الخارجي والعالم الداخلي»١٠ ينزلق إلى ما كان ينبغي بالتأكيد أن يعتبره، في لحظة أكثر حذرًا، ميتافيزيقا خطيرة:
متجاهلًا كل التصريحات الخالية من المعنى، يبدأ العلم المتسق الحقيقي بالنسبة لفترة تاريخية معينة من فرضية إلى فرضية، ويمزجها معًا في نظام متسق ذاتيًّا وهو أداة للتنبؤ الناجح، وبالتالي للحياة (SP, p. 286).

إن الكلام باندفاع بهذه الطريقة عن العلاقة بين العلم والحياة يعني بوضوح ترك العالم النقي للتصريحات والاعتراف، رغم كل شيء، بأن العلم لا يمكن أن يتميز بشكل كافٍ فيما يتعلق بالاتساق وحده، أن يكون هدفه الحقيقي، أن يشير إلى ما يكمن وراءه.

بالتأكيد، ليست كل النظم المتسقة ذاتيًّا «أدوات للحياة»، بالمعنى المقصود. يشير نيورات ضمنًا إلى أن الفائدة العملية تعود على العلم بفضل نبوءاته الناجحة الطيعة. لكنه يفهم أن نجاح النبوءة يتكون ببساطة من اتفاقها مع تصريح أخير؛ وبهذا المعيار كل النبوءات تلي تلك التي تُتبَع بتكرار نفسها أو بتصريحات أخرى تترابط معها.

في الفقرة الأولى التي اقتبسناها من نيورات من قبل، يتحدَّث عن مقارنة كل تصريح جديد «بمجموع التصريحات الموجودة والمتسقة من قبل» (SP, p. 291). ربما تكون الفكرة أن هناك مجموعًا واحدًا مترابطًا بشكل مفترض ينبغي تمييزه باعتباره معياريًّا في كل حالة مقارنة، أقصد المجموع الذي اتفق على قَبوله مؤخرًا ولا يزال مؤثرًا في تلك الحالة.
لكن القَبول ذاته يفشل في التفريق بين المعتقدات التي تُقبَل بشكل نقدي على أساس دليل حقيقي وتلك التي لا تقبل. ومع ذلك، ما له أهمية بالغة أن هذه الطريقة لا تقدِّم باعثًا لمراجعة مجموع المعتقدات المقبولة. ولأن الترابط المفترض لهذا المجموع يمكن أن يُحفَظ دائمًا برفض كل الجمل الجديدة المتعارضة. يستنتج نيورات أن بديل هذا الرفض، المكوَّن من مراجعة المجموع المقبول، يُتبنَّى «بتردد شديد فقط» (SP, p. 291). السر، في تعليقه، هو لماذا ينبغي أن يُتبنَّى عمومًا.

وبالإضافة إلى ذلك، ثمة سؤال وثيق الصلة بالتفسير المفترض للقَبول: قَبول بواسطة من؟ ربما يكون افتراض أن القَبول يميِّز مجموعًا واحدًا مترابطًا بشكل مفترض في كل حالة مقارنة مستساغًا إذا وضعنا في الاعتبار فردًا واحدًا. ويكون بلا أساس إذا وضعنا في الاعتبار قَبول كل الجماعة «شبه الموضوعية» في خط واحد مع الموقف العام لنيورات. إن اللجوء التام لعامل القَبول يطرح تعددية المجموعات المتضاربة للمعتقد: أيٌّ منها يكون معيارًا؟

هناك فقرات، في الحقيقة، لا يلجأ فيها نيورات إلى القبول لكنه يعترف بتعدد مجموعات متضاربة بشكل متبادل مفتوحة أمام الباحث. ليتسق الباحث مع نفسه قد لا يختار أكثر من واحدة منها، لكن لا يوجد قيد آخر على اختياره يتجاوز الملاءمة. وهكذا يكتب نيورات:

عالم الاجتماع الذي يرفض، بعد تحليل دقيق، بعض التقارير والفرضيات، يصل في النهاية إلى حالة يكون عليه فيها مواجهة مجموعات شاملة من التصريحات. ويمكن أن تتألف كل هذه المجموعات من تصريحات تبدو له مستساغةً ومقبولة. وليس هناك مكان لسؤال إمبيريقي: ما المجموعة «الصحيحة»؟ لكن فقط سواء كان لدى عالِم الاجتماع الوقت الكافي والطاقة ليجرب أكثر من مجموعة أو ليقرر أنه، لافتقاره إلى الوقت والطاقة — وهذه هي النقطة المهمة — ينبغي أن يعمل فقط مع إحدى تلك المجموعات الشاملة.١١

ومن المؤكد أننا نجد هنا إشارةً عابرة إلى المعقولية والقابلية، لكنها غير مفسرة تمامًا. حيث إن الاختيار بين نُظم متنافرة، يصلح كل نظام منها مثل أي نظام آخر؛ تقدم وحدها قيود الزمن والطاقة أساسًا للقرار. إن القياس مع الآلة الذي اقتبسناه من قبلُ يجعل القضية، كما يقول نيورات، «واضحةً تمامًا». تكتشف الآلة التناقض، لكن بعيدًا عن تقييد عام للغة الفيزيائية، التي قد تُفترَض، لا يوجد مبدأ للانتقاء يُقدَّم لتحديد مدخلها. يمكن لجمل البروتوكول، متميزةً فقط بشكلها، أن تُختار بشكل عشوائي للإدخال. وطالما لم يكتشف تناقض ضمن عناصر عشوائية فعليًّا، تعتبر الآلة التجسيد الحقيقي للحقيقة ومعيارها. إن الصورة صورة ترابط تام يخلو من أي أثر للحقيقة.

ماذا يدفع نيورات إلى بناء هذه الصورة الكاريكاتورية للعلم؟ إن تقديرنا لحافزه الفلسفي يعني فهمًا أعمق للورطة الأساسية التي نواجهها بين الترابط واليقين.

يبدو أن المفهوم الفعلي لمدخل معصوم إلى الحقيقة يتطلب فرضية أن التصريح والواقع قد يُحدَّدان، بمقارنة مباشرة، ليتواءما معًا. لكن هذه المقارنة خالية من المعنى من منظور نيورات.

إنه يرفض الميل الفلسفي لتأويل السمات اللغوية. لا ينبغي، رغم كل شيء، تناول بنية اللغة بسذاجة باعتبارها مفتاحًا لبنية الواقع. تُفهَم الحقائق، عمومًا، باعتبارها كِيانات خاصة خارج اللغة توازي بدقة التصريحات الحقيقية، التي تنتمي في مخطط نيورات، لفئة «النسخ الخالي من المعنى … الذي ينبغي رفضه» (SP, p. 291).١٢

ولا يقتصر الأمر على أن تلك النُّسَخ زائدة؛ إنها تضلِّلنا لنفترض تحديد موضعها بشكل مستقل ونرى أنها تشترك في البنية نفسها مع تصريحات لدينا طريقة أصيلة لتبرير قَبولها. لكن الحقائق، بوصفها كِيانات متميزة عن التصريحات الحقيقية، التي يُفترض أنها تُناظرها، ليس لها مسارات خاصة بها قادرة على دعم تلك الطريقة. إذا كنْتُ مترددًا بشأن حقيقة جملة «السيارة في الجراج»، أكون متردِّدًا بالقدر نفسه بشأن إن كان وجود السيارة في الجراج حقيقةً أم لا؛ لا توجد قضيتان هنا، بل واحدة. ولا أرى كيف أمضي بشأن حل التردد الأخير بطريقة تختلف عن محاولتي لحل الأول. وهكذا يتبين أن اللجوء إلى الحقائق مسألة توسل طريقة عامة لتأكيد الحقيقة. وتتطلب، حقًّا، تحديد الحقيقة بوصفها حالةً لها تأكيدُها الخاص.

الخلاصة التي يبدو أننا نُدفَع إليها أن الفكرة كلها، فكرة مقارنة المعتقدات بالخبرة مضللة. لا نذهب خارج عالم التصريحات إطلاقًا. ذلك هو استنتاج نيورات كما رأينا بالفعل، استنتاج مهما تمَّ تحفيزه ينبغي أن يُحكَم بأنه غير مقبول كتعليق للعلم.

(٣) النقط الثابتة المطلقة للعلم عند شليك

مقتنعًا بعدم إمكانية قَبول تعليق نيورات، يُصر شليك على أنه ينبغي أن تكون هناك «نقطة لا تتزعزع للتماس بين المعرفة والواقع» (ص٢٢٦). للتخلي عن «التعبير القديم الرائع «الاتفاق مع الواقع»» (ص٢١٥). وتبنَّى بدلًا منه نظريةً للترابط من قبيل تلك التي اقترحها نيورات يؤدِّي إلى نتائج لا تُحتمل.

إذا تناولنا الترابط بجدية بوصفه معيارًا للحقيقة، يمكن إذن أن نعتبر قصص الجنيات العشوائية حقيقيةً مثل تقرير تاريخي، أو تصريحات في كتاب دراسي في الكيمياء، بشرط أن تُشيَّد القصة بطريقة لا يظهر فيها أي تناقض (ص٢١٥-١٦).

وحيث إن نظرية الترابط تسمح لنا بحذف التضارب الداخلي بطرق متنوعة، مقدمةً «أي عدد من النظم المتسقة للتصريحات المتضاربة مع بعضها البعض» (ص٢١٦)، يستنتج شليك أن «الطريقة الوحيدة لتجنُّب هذه العبثية لا تتمثَّل في السماح بالتخلي عن أي تصريحات أو تُعديلها، بل في تحديد تلك التي ينبغي أن تستمر، وعلى المتبقي أن يتواءم معها» (ص٢١٦).

قد نفترض، على أساس هذا الاستنتاج، أن شليك يمكن أن يتقدَّم ليدافع عن يقين تصريحات البروتوكول، لكن الأمر ليس كذلك؛ إنه يسلِّم بأن تلك التصريحات، كما تمثِّلها التعليقات المسجلة المألوفة للملاحظة العلمية، تخضع للخطأ والمراجعة. حتى تصريحات البروتوكول التي أعلنَّاها من قبلُ يمكن سحبها. يكتب شليك:

نسلِّم بأن عقلنا في لحظة إصدار الحكم ربما كان مشوَّشًا تمامًا، وأن الخبرة التي نقول الآن إننا مررنا بها منذ دقيقتين يتبيَّن بفحص تالٍ أنها كانت هلوسة، أو حتى لم تحدث قط (ص٢١٣).

وهكذا يتفق شليك مع نيورات في إنكار دور مميز لتصريحات البروتوكول. مثل نيورات، يُصر على أنها «تتسم أساسًا بالخاصية نفسها التي تتسم بها كل التصريحات الأخرى في العلم: إنها فرضيات، مجرد فرضيات» (ص٢١٢). أين، إذن، النقطة الثابتة للتماس بين المعرفة والواقع؟ رأى شليك أن موقعها يتحدَّد في فئة خاصة من التصريحات ليست في العلم، لكنها مع ذلك ضرورية لوظيفته وبشكل خاص لتأكيده. والمصطلح الخاص الذي يُطلقه على هذه التصريحات هو تأكيدات  Konstatierungen، رغم أنه يسميها أحيانًا «تصريحات الملاحظة»؛ وسوف أُشير إليها هنا بانتظام ﺑ «تصريحات التأكيد».١٣
تصريح التأكيد وصف خاطف لِما يُدرَك أو يُختبر بشكل متزامن. إنه يقدِّم فرصةً لإنتاج تصريح بروتوكول حقيقي، يُحفَظ كتابةً أو في الذاكرة، وينبغي تمييزه بحدة عن تصريح البروتوكول الذي قد ينشأ عنه. وتصريح البروتوكول هذا لم يعد يصف ما يتزامن معه؛ تعثَّرت الخبرة الحاسمة وقت تثبيته كتابةً أو في الذاكرة. وبالإضافة إلى ذلك، لا يموت تصريح البروتوكول، على عكس تصريح التأكيد، بمجرد ولادته؛ تمتد حياته الخاصة إلى أبعد من نقطة البداية الأقرب إلى الخبرة المذكورة. ومن المؤكد أنه رغم تمتُّعه بمزية تقديم تعليق مستمر، إلا أن تصريح البروتوكول، بهذا الشكل، لا يكون أبدًا أكثر من فرضية، تخضع للتفسير والتنقيح. «لأنه حين يكون مثل هذا التصريح أمامنا، تكون صحته مجرد فرضية؛ أي إنه يتفق مع تصريحات الملاحظة [أي تصريحات التأكيد] التي ينشأ عنها» (ص٢٢٠-١).
قد تعمل تصريحات التأكيد على تحفيز نشأة فرضيات علمية حقيقية، لكنها مراوغة بدرجة تحول دون أن تشيد بوصفها قاعدةً نهائية وأكيدة للمعرفة. وتتمثَّل مساهمتها في تقديم تتويج مطلق وثابت لعملية اختبار الفرضيات. حين تحدث خبرة متوقعة، ونُعلن في الوقت نفسه أنها حدثت، يتولَّد لدينا «شعور بالتحقق، برضًا مميز تمامًا: إننا راضون» (ص٢٢٢). وتحقِّق تصريحات التأكيد وظيفتها المميزة حين نشعر بهذا الرضا.

ونشعر به في اللحظة نفسها التي يحدث فيها التأكيد، التي يتم فيها تصريح الملاحظة [أي تصريح التأكيد]. وهذا بالغ الأهمية. لأن وظيفة التصريحات بشأن ما يختبر على الفور تكمن هي في التو. وقد رأينا أنه لا وقت لديها إذا جاز التعبير، أن في لحظة رحيلها ينبغي أن يتوفَّر على الفور تصريح مكان نقوشها، أو آثار الذاكرة، ويمكن أن تلعب فقط دور الفرضيات ومن ثم تفتقر إلى يقين نهائي. لا نستطيع بناء أية بنية يمكن الدفاع عنها منطقيًّا على التأكيدات؛ لأنها تتلاشى لحظة البدء في تشييدها. إذا بقيت في بداية عملية المعرفة فهي بلا فائدة منطقيًّا. ومع ذلك يختلف الأمر تمامًا إذا بقيت في النهاية؛ تكمل التحقق (أو التزييف أيضًا)، وفي لحظة حدوثها تكون قد أنجزت مهمتها. منطقيًّا لا يعتمد عليها أكثر من ذلك، ولا تستخلص نتائج منها. إنها تشكل نهايةً مطلقة (ص٢٢٢).

في الوصول بدورة اختبار إلى نهاية مطلقة، يساعد تصريح التأكيد على توجيه مسار آخر للفحص العلمي: تُرفَض فرضية زائفة ويبدأ البحث عن بديل مناسب؛ تُدعَم فرضية محققة «ويتم البحث عن صياغة فرضيات أكثر عمومية، ويستمر التخمين والبحث عن قوانين عامة» (ص٢٢٢). كان للذروة المعرفية الممثَّلة بتصريحات التأكيد، في الأصل، طبقًا لرأي شليك، مضمون عملي صرف: أشارت إلى فاعلية الفرضيات الأساسية بالنسبة لطبيعة بيئة الإنسان، وساعدت على تكيُّف الإنسان مع هذه البيئة. في العلم، لم تعد متعة التأكيد مرتبطةً ﺑ «أهداف الحياة» (ص٢٢٢)، لكنها تُلاحَق لذاتها:

هذا ما تُحدثه تصريحات الملاحظة [تصريحات التأكيد]. بها يحقِّق العلم، إذا جاز التعبير، غايته: من أجلها يوجد … تبدأ مهمة جديدة بمتعة تصل بها إلى الذروة، ولا تنشغل بالفرضيات التي تتركها خلفها. لا يعتمد العلم عليها لكنه يؤدي إليها، وتشير إلى ما أدَّى إليه بشكل صحيح. إنها النقط الثابتة المطلقة؛ يمتعنا الوصول إليها، حتى لو لم نستطع إثبات صحتها (ص٢٢٣).

ومع ذلك ماذا يمكِّن تصريحات التأكيد من تشكيل «نقط ثابتة مطلقة»؟ يتصوَّر شليك أن هذه التصريحات تحتوي دائمًا على مصطلحات توضيحية. وأمثلته هي «هنا حدود صفراء على زرقاء»، «هنا نقطتان سوداوان متطابقتان»، «هنا ألم الآن». الإيضاحات المكونة بمثابة إيماءات. «ومن ثم لفهم معنى تصريح ملاحظة [تصريح تأكيد] من هذا النوع ينبغي على المرء في الوقت نفسه تنفيذ الإيماءة، أن يشير بشكل ما إلى الواقع» (ص٢٢٥). وهكذا يرى أن المرء يمكن أن يفهم تصريح ملاحظة «فقط بمقارنته بالحقائق وعند مقارنته بها، وهكذا ينفِّذ تلك العملية الضرورة للتحقق من كل التصريحات التركيبية» (ص٢٢٥). ولفهم معناه ينبغي في الوقت ذاته إدراك الواقع الذي تشير إليه مصطلحاته التوضيحية:

بينما في حالة كل التصريحات التركيبية الأخرى أن يكون تحديد المعنى منفصلًا عن تحديد الحقيقة ومتميِّزًا عنها، يتزامنان في حالة تصريحات الملاحظة … لحظة فهمهما هي في الوقت ذاته لحظة التحقق منهما: أستوعب معناها وأنا أستوعب حقيقتها (ص٢٢٥).

يكمن، إذن، تميُّز ملاحظات التأكيد في فوريتها؛ أي قدرتها على الإشارة في الوقت ذاته إلى خبرة متزامنة، بإيماءة. ولمثل هذه الفورية «تدين بقيمتها والتقليل من قيمتها؛ قيمة التحقق المطلق، والتقليل من قيمة عدم الجدوى بوصفها أساسًا دائمًا» (ص٢٢٥). وممَّا هو بالغ الأهمية، في رأي شليك، الاعتراف بتميُّز تصريحات التأكيد، وبشكل خاص فصلها عن تصريحات البروتوكول؛ لأن هذا الفصل مفتاح المشكلة كما يراها. «هنا أزرق الآن» لا يجب خلطه بتصريح بروتوكول من النوع الذي يقدِّمه نيورات «م. س. أدرك الأزرق في يوم كذا من أبريل ١٩٣٤م وقت كذا وكذا وفي ذلك المكان وذلك.» التصريح الأخير فرضية غير مؤكدة، لكنه متميز عن الأول: ينبغي أن يذكر إدراكًا ويحدد ملاحظًا. ومن الناحية الأخرى، لا يستطيع المرء أن يدوِّن تصريح تأكيد دون تعديل معنى مصطلحاته التوضيحية، ولا يمكن له أن يصوغ تصريحًا مكافئًا دون مصطلحات توضيحية؛ لأن المرء حينذاك «يستبدل به حتما … تصريح بروتوكول له على هذا النحو طبيعة مختلفة تمامًا» (ص٢٢٦).

باختصار، إذا تأملنا ببساطة هيكل التصريحات العلمية، نرى أنها كلها فرضيات، وكلها غير مؤكدة. وإذا نظرنا أيضًا إلى علاقة هذا الهيكل من التصريحات بالواقع يتطلب الأمر أن نعترف بالدور الخاص لتصريحات التأكيد أيضًا. ويمكننا فهم هذه التصريحات من رؤية العلم على «أنه، بالتحديد، وسيلة يعثر بها المرء على طريق وسط الحقائق؛ للوصول إلى بهجة التأكيد، الشعور بالحقيقة النهائية» (ص٢٢٦). وهذه التصريحات لا «تكمن في قاعدة العلم؛ لكنها مثل اللهب، يلعقها الإدراك، إذا جاز التعبير، يصل إلى كل منها لكن للحظة ويستهلكها على الفور. تدعم وتقوى من جديد، وينطلق اللهب إلى التالي (ص٢٢٧).

عبَّرتُ عن اتفاق مع الجانب الحاسم من مبدأ شليك، أعني، رفضه لنظرية ترابط من قبيل نظرية نيورات. لكن نظرية الإيجابي positive theory عند شليك تعاني من مجموعة متنوعة من الصعوبات الجوهرية تجعل قَبولها متعذرًا تمامًا. لنتأمل، أولًا، يوحي منظور الترابط بأنه نظرية للعلم؛ «للعلم باعتباره نظامًا للتصريحات»، كما يعبر نيورات. وأية محاولة لتقييد عشوائية الارتباط مع خطوط تشخيص شليك ينبغي أن تحدد نقطًا ثابتة ينبغي ضبط تصريحات العلم طبقًا لها؛ أي ينبغي تحديد نقطة ثابتة يستجيب لها العلم، وتُحتوَى به التلقائية العلمية؛ ينبغي وضع قيود محددة على تنقيح التصريحات في العلم.

هنا بالضبط يفشل مبدأ شليك؛ لأنه يحدد تصريحات التأكيد بوصفها وحدها «النقط الثابتة المطلقة»، وهي تصريحات تفشل خارج العلم، ويصر، بالإضافة إلى ذلك، على أن هذه التصريحات لا تقدِّم أي حاجز مهما يكن لتنقيح التصريحات العلمية الحقيقية. وبشكل خاص، يؤكد شليك على أن تصريحات البروتوكول، وهي النظائر الأقرب لتصريحات التأكيد في العلم، «تتسم أساسًا بالخاصية نفسها التي تتسم بها كل التصريحات الأخرى في العلم: إنها فرضيات، مجرد فرضيات» (ص٢١٢-١٣). لدينا هنا، على ما يبدو، اعتراف واضح بأن في عالَم العلم، يستمر الترابط في السيطرة، رغم اليقين المنسوب لتصريحات التأكيد. وتنفصل الأخيرة فعليًّا بحدة عن هيكل العلم حتى إنها لا يمكن أن تقدِّم له أية مزية منبثقة من ثباتها المفترض.

وليس من السهل توضيح التعليق العام لشليك على الدور العلمي لهذه التصريحات. توصف بأن لها دورًا أساسيًّا في العمل العلمي، وخاصةً في اختبار الفرضيات والتحقق منها. «إنها تُكمل التحقق من صحتها (أو زيفها أيضًا) … منطقيًّا لا شيء أكثر من ذلك يعتمد عليها، وليست هناك نتائج تستخلص منها. إنها تشكِّل غايةً مطلقة» (ص٢٢٢). وفي تسويق النبوءات العلمية، يقال إن تصريحات التأكيد لا تقدِّم فقط إشباعًا مميزًا، لكنها تؤثر على مسار البحث التالي: «الفرضيات التي ينتهي التحقق منها تُعتبر مؤيَّدة، ويتم البحث عن صياغة لفرضيات أكثر عمومية، ويستمر التخمين والبحث عن قوانين عامة» (ص٢٢٢). وتكمن المشكلة في إمكانية أن تتصالح معًا هذه السمات المتنوعة التي تُعزى لتصريحات التأكيد.

ولأن هذه التصريحات، من الناحية الأخرى، تشكِّل غايةً مطلقة، ليس لها وظيفة منطقية حين توجد في بداية عمليات معرفية إضافية؛ حيث «ينبغي أن يوجد لحظة رحيلها تصريح متاح على الفور مكان نقوشها، أو آثار الذاكرة، يمكن أن تلعب فقط دور الفرضيات ومن ثم تفتقر إلى يقين نهائي» (ص٢٢٢). ومن الناحية الأخرى، تمكِّننا من تأييد الفرضيات التي تتحقق صحتها ورفض تلك التي تدحض، وتقودنا في الحالتين إلى القيام ببحث تالٍ بأسلوب مختلف إلى حد كبير. لكن إذا كان تصريح تأكيد يشكل حقًّا غايةً مطلقة، كيف يعمل إذن على تحديد معالجتنا الإضافية للفرضيات المناسبة؟ يبدو أن تصريحات التأكيد لا يمكن أن تصل بعمليات الاختبار إلى اكتمال مطلق دون تحديد بحث إضافي بأسلوب تعوقه مدتها الخاطفة. لكنها لو لم تصل بهذه العمليات إلى اكتمال مطلق، لا يكون لها، في رأي شليك، أية وظيفة في اقتصاد العلم.

إن مفهوم أن تصريحات التأكيد يمكن ألَّا يكون لها وظيفة منطقية بالنسبة للعمليات المعرفية التالية يعتمد على فوريتها الجذرية. إن تدوين تصريح تأكيد أو حتى الاحتفاظ به في الذاكرة، بكل دقة، مستحيل؛ لأن معنى التوضيحات الحاسمة يتغيَّر بالحفظ؛ وبالإضافة إلى ذلك، يؤدِّي حتمًا تبديل هذه التوضيحات «بتحديد زمان ومكان» إلى خلق «تصريح بروتوكول له طبيعة مختلفة تمامًا» (ص٢٢٦). لكننا قد نشعر بأن الفورية ينبغي أن تكون ذات حدين؛ إذا استُبعد الارتباط بالعمليات التالية، ينبغي بالقدر نفسه استبعاد هذا الارتباط بالعمليات السابقة. لكن شليك يعتقد، كما رأينا، بأن تصريحات التأكيد تصل بعمليات الاختبار إلى اكتمال مطلق:

هل صحَّت نبوءاتنا حقًّا؟ في حالة تحقق «تأكيد» [تصريح تأكيد] أو دحضه تكون الإجابات بشكل غير ملتبس بنعم أو لا، بمتعة الرضا أو بالإحباط. التأكيدات نهائية (ص٢٢٣).

كيف يمكن هذا؟ التنبؤ، رغم كل شيء، فرضية علمية ذات «طبيعة مختلفة تمامًا» عن طبيعة تصريح التأكيد المطروح. كيف يمكن توليد أية منفعة من يقين الأخير أكثر ممَّا يمكن لتصريح البروتوكول السابق؟

يقدِّم شليك، مثالًا للتنبؤ، «إذا نظرْتَ في وقت ما خلال تليسكوب مضبوط بأسلوب ما فسترى نقطة ضوء (نجمة) متطابقةً مع علامة سوداء (أسلاك متقاطعة)» (ص٢٢١). لنفترض أن لدينا الآن تصريح التأكيد «هنا الآن نقطة ضوء متطابقة مع علامة سوداء.» للمناقشة، نسلِّم بأن التصريح الأخير مؤكد في اللحظة الحاسمة. هل يستتبع ذلك أنه يشكل إجابةً نهائية غير ملتبسة للسؤال عمَّا إن كان التنبؤ قد جاء صحيحًا؟ لا إطلاقًا؛ لأن التنبؤ يشترط، في الفقرة السابقة، شروطًا معينة ترتبط بالأداة الفيزيائية والزمن ونشاط المراقب. إذا لم توصف الخبرة بتصريح التأكيد المفترض أنه حدث بالتوافق مع الشروط المفروضة، لا يمكن حتى الحكم بأنها ترتبط بالتنبؤ، ومن المؤكد أنها لا تفي بالحقيقة النهائية. ومن ناحية أخرى، إذا افترضنا أن هذه الشروط تم الوفاء بها حقًّا، فإن هذه الفرضية الحاسمة تساهم في الشك في التنبؤ، ولا تكون أكثر من فرضية فيزيائية. ويكون السؤال عمَّا إن كان التنبؤ صحيحًا مجرد سؤال عمَّا إن كان تصريح علمي قابل للإصلاح، وليس تصريح التأكيد، صحيحًا. إن اليقين المزعوم لتصريحات التأكيد لا يمكِّنها من تقديم اكتمال مؤكد بشكل مطلق للعمليات العلمية السابقة أكثر ممَّا يجهِّزها لتشكل أصولًا مطلقة.

وينبغي، أخيرًا، وضع اليقين المزعوم لهذه التصريحات موضع الشك. طبقًا لرأي شليك، لا يمكن أن أُخدَع في حقيقة تصريحات التأكيد التي أقدِّمها، وكما يكتب، رغم أن «احتمالات الخطأ لا تُحصى» (ص٢١٢). وكما يعبِّر «هذا هنا له معنًى فقط بالارتباط بإيماءة» (ص٢٢٥). لفهم معنى تصريح تأكيد «ينبغي على المرء أن يشير إلى الواقع بشكل ما» (ص٢٢٥). ويستتبع ذلك، في رأيه، أنني لا أستطيع فهم تصريح تأكيد دون أن أحدِّد بذلك أنه صحيح. وهنا المصدر الأساسي ليقين تصريحات التأكيد: يستلزم فهمها التحقق منها. لكن، تصور شليك للقضية يرتكز على موقف مشوش.

لافتراض التسليم بأن معنى المصطلحات التوضيحية ينبثق من وظيفتها بوصفها إيماءات، يتم بها، كما يلاحظ شليك «توجيه الانتباه إلى شيء ملاحَظ» (ص٢٢٥). وبفرض الاعتراف بأنه «لفهم معنى» تصريح تأكيد «على المرء في الوقت ذاته أن يقوم بإيماءة، ينبغي على المرء أن يشير إلى الواقع بشكل ما» (ص٢٢٥). ماذا نستنتج من هذه الاعترافات؟ إنها تتضمَّن فقط أن فهم تصريح تأكيد يتطلَّب انتباهًا إلى العناصر الملاحَظة التي تشير إليها مصطلحاته التوضيحية المكوِّنة. وبهذا المعنى وبه فقط يمكن القول بأن فهم التصريح يتضمَّن «إشارةً إلى الواقع.» ويتضمَّن هذا لا محالة أنه ينبغي أن نشير إلى الواقع بمعنًى يختلف تمامًا عن التحقق من الصفة التي يمثِّلها التصريح ككل. إن معادلة هذه المعاني يعني اقتراف مغالطة. بمجرد كشف هذه المغالطة، يتهاوى جدل شليك بشأن يقين تصريحات التأكيد: إن فهم تلك التصريحات، رغم كل شيء، لا يستوجب التحقق من صحتها. قد أفهم تصريح تأكيد وأتردَّد في قَبول حقيقته؛ والأكثر من ذلك، قد أفهم، وأؤكد حتى، تصريح تأكيد زائفًا. وهكذا يتبيَّن أن النظرية الإيجابية لشليك، بشكل لا يقل عن نظرية نيورات، يتعذَّر الدفاع عنها.

ربما يولِّد فشل هاتين النظريتين اليأس؛ لأنه يبدو أنهما تستنفدان، فيما بينهما، احتمالات التعامل مع المأزق الأساسي بين الترابط واليقين. ينبغي أن تكون بعض معتقداتنا صحيحةً حقًّا بشفافية وتتجاوز مجال الخطأ والتنقيح، أو نكون أحرارًا في اختيار أية مجموعة متسقة من المعتقدات مهما تكن باعتبارها معتقداتنا، ونعرِّف «الصواب» أو «الحقيقة» طبقًا لها. ونفترض أن معتقداتنا تعكس الحقائق، وفي هذه الحالة نسلم بمسألة الحقيقة ذاتها ونُسقط لغتنا بشكل غير مبرر على العالم، أو نتخلَّى تمامًا عن نية وصف الواقع، وفي هذه الحالة تتقلَّص جهودنا العلمية إلى مجرد لعبة بالكلمات.

(٤) طريق ثالث

رغم هذا التقييم المحبط أومن بإمكانية تجنُّب اليأس. أرفض اليقين، ومن المحتمل أن أعتنق المضمون المرجعي للعلم، أن أفرض قيودًا مؤثرة على الترابط الذي لا يحتاج إلى التسليم بمسائل تتصل بالأمر أو ملء العالم بنسخ باهتة من لغتنا.

أعود أولًا إلى التضاد الجوهري بين الترابط واليقين. رأينا أن هذا التضاد مركزي في تفكير كل من نيورات وشليك، اللذين يتبنيان موقفين متناقضين. لكن، شليك ونيورات يتفقان في ربط الإشارة خارج اللغة باليقين بحسم، من ثم يشتركان في تقليص البدائل المؤثرة إلى اثنين: (١) رفض اليقين، واللجوء إلى الإشارة خارج اللغة، والإذعان لمنظور الترابط، (٢) رفض منظور الترابط لصالح اللجوء إلى الإشارة خارج اللغة، والاذعان للالتزام باليقين. لكن ينبغي رفض هذا التقليص نفسه. ليست هناك حاجة إلى افتراض أن البدائل تُستنفد بالترابط واليقين؛ ثمة طريق ثالث مفتوح.

المطلوب ببساطة قيود «مرجعية» مستمر على الترابط غير المقيد؛ يقدم اليقين أكثر بكثير من المطلوب. إنه، بشكل خاص، يجلب مفهوم الثبات والتخلُّص من الخطأ والتنقيح الناجم عنه، الذي لا يمكن الدفاع عنه لأنه لا يوجد في أي مكان. نحتاج فقط إلى الاعتراف بأن للتصريحات قيمًا مرجعية، مستقلةً عن علاقات اتساقها مع التصريحات الأخرى، وأن هذه القيم، رغم تعرُّضها للتنوع، تُمدنا، في كل لحظة، ﺑ «ثبات» كافٍ لتكوين إطار للإشارة لاختيار الفرضيات.
كيف تُرى هذه القيم للتصريحات، المتوافقة مع انعدام اليقين؟ يمكن الاعتقاد بأنها تمثِّل ميولنا المتنوعة لتأكيد أن تصريحات معينة صحيحة أو الجزم بأنها مقبولة علميًّا؛ وبشكل مماثل، يمكن أن تُشيَّد باعتبارها الادعاءات الأولية التي نعرف أن التصريحات تفرضها علينا، في وقت معين، للتضمين في نظمنا المعرفية. وضع برتراند راسل مفهومًا من هذا النوع العام في «المعرفة الإنسانية»، تحت اسم «المصداقية الداخلية»،١٤ وتحدَّث نيلسون جودمان، بشكل مشابه، عن «المصداقية الأولية»،١٥ وتتمثَّل المهمة الإجرائية في كل حالة في تمييز الفكرة المطروحة عن التصوُّر النسبي البحت «للاحتمالية المتعلقة بتصريحات أخرى». ويشرح جودمان تصوُّره كما يلي:

من الواضح أن الترابط الداخلي شرط ضروري لكنه غير كافٍ لحقيقة نظام … ويُدَّعى أنه ينبغي أن يكون هناك ارتباط بالحقيقة من خلال بعض التصريحات الفورية.

ومن الواضح الآن أننا لا يمكن أن نفترض أن التصريحات تستمد مصداقيتها من تصريحات أخرى دون جلب هذه السلسلة من التصريحات إلى أرض الواقع باستمرار … الحجة سليمة حتى الآن … لكن لا يُشار إلى يقين بل إلى مصداقية بدرجة ما. إن القول بأن بعض التصريحات ينبغي أن تكون ذات مصداقية في البداية إذا كان لأي تصريح مصداقية لا يعني القول بأن أي تصريح محصَّن ضد الاستبعاد … لا يتضمَّن إذن أن لدينا معرفةً محتملة؛ أي يقينًا لكنه يتضمَّن فقط مصداقيةً أولية.١٦

النقطة الجوهرية بالنسبة لأهدافنا الحالية هي: بينما يتعذر الدفاع عن اليقين إلا أنه مفرط أيضًا بوصفه قيدًا على الترابط. ولا يتطلب مثل هذا القيد أن نضمن بقاء جملة من الجمل التي نؤكِّدها محصنةً ضد التنقيح إلى الأبد؛ يكفي أن نجد أنفسنا الآن مكرهين، بدرجات مختلفة، على تأكيدها والإبقاء عليها، ساعين قدر المستطاع إلى تلبية كل المتطلبات الحالية لها. وتتنوَّع المتطلَّبات الحالية بالنسبة للتصريحات المختلفة حتى لو كانت متسقةً بالقدر ذاته، ويمكن أن نميِّز، وإن يكن بشكل تقريبي، خصائص المصداقية والمحافظة للنظم المترابطة البديلة، بما يكفي لتقديم قيد مهم على الترابط.

إن ادعاءات الجمل في وقت معين تُصدر الحكم المنهجي في ذلك الوقت، فتكبح عشوائية الترابط. إن التخلي عن الجملة في وقت لاحق لا يعني أن ادعاءها الحالي ضدنا أننا قد نتجاهلها بسعادة. إن فكرة أن مجرد الاعتراف بأن تصريحًا يمكن تنقيحه نظريًّا، لا يمكن أن تحمل أية قيمة معرفية لا تُستساغ أكثر من الاقتراح بأن رجلًا يفقد صوته الانتخابي بمجرد أن يتبيَّن أن القواعد تجعل من المحتمل أن يكون صوته مجرد صوت زائد في الجانب الفائز.

هكذا ينهار المأزق الأساسي الذي بدأنا به، بين الترابط واليقين. لا يتضمَّن تصريح من التصريحات التي نؤكِّد أنها خالية من احتمالية الاستبعاد أنه لا يوجد تصريح يفرض قيدًا مرجعيًّا في أي وقت. إن عدم إمكانية بقاء التصريح «هناك حصان» مؤكدًا نظريًّا لا يسمح لي بأن أسمِّي أي شيء حصانًا فقط لمجرد أنني لم أُعارض بذلك تصريحًا آخر لي. على العكس، إذا كنت قد تعلَّمت مصطلح «حصان» أكون قد اكتسبت عادات مميزة للتمييز والتصنيف مرتبطة به؛ أكون قد تعلمت ما يشير له كوين ﺑ «نمطه المدمج … لتقسيم إشارته.»١٧ لا تكفل هذه العادات ألَّا أخطئ أبدًا في استخدام المصطلح، لكن لا يستتبع ذلك أنها لا تمثِّل قيودًا انتقائية على طريقة استخدامي للمصطلح. على العكس، تولِّد هذه القيود ادعاءات بالمصداقية تدخل تقديري بشكل نقدي وأنا أعاين نظام معتقداتي. لا أبحث عن اتساق فقط، لكنني ملزَم بأن أضع في الاعتبار أيضًا التضمين النسبي الذي يُبجل به نظام بوادر المصداقية.

يمكن، مثلًا، تحدِّي توقع الملاحظة أقنعنا بنظامنا المُرْضِي حتى الآن، بملاحظة تجريبية تزيد بشدة مصداقية تصريح غير متوافق مع هذا التوقع، ويقلص جذريًّا مصداقية التوقع نفسه. وتتمثَّل المشكلة في تحديد البديل المتسق الذي يُحدث توازنا أشمل لادعاءات المصداقية ذات الصلة. إن إسقاط التوقع الأولي لصالح التصريح المتنافر والأكثر مصداقيةً يتطلَّب مراجعةً منهجية داخلية في أمر الاتساق. إن استبعاد التصريح المتنافر وإبقاء النظام سليمًا يخفض قيمة المصداقية الكلية للأخير؛ لأن فقدان مصداقية توقعه الأساسي ينعكس للداخل. لكل حل لصدام، باختصار، ثمن. وفي بعض هذه المواقف، قد يكون الاختيار سهلًا نسبيًّا؛ وفي بعضها الآخر قد يكون دقيقًا إلى أبعد حد، وقد يستعصي على الحل في بعض الظروف.

ومن الواضح أننا لسنا بحال من الأحوال أحرارًا ببساطة في أن نختار بإرادتنا من بين كل النظم المترابطة مهما تكن. ومن الواضح، بالإضافة إلى ذلك، أن التحكم الذي تمارسه تصريحات الملاحظة لا يتعلَّق باليقين. إنه لا يتطلب إلا أن تكون المصداقية التي تكتسبها في أوقات معينة قادرةً على أن تتحدَّى، بالطريقة التي وُصفت من قبل، التوقعات المنبثقة من مصادر أخرى. ينطلق التحكم، بالإضافة إلى ذلك، من روابط مميزة بأي نوع خاص من التصريحات وينتشر خلال عالم التصريحات ككل.

(٥) الحقيقة والواقع

ما يُقال الآن يتناول المفاهيم الصعبة للحقيقة والواقع. رفض بعض الفلاسفة ومنهم نيورات، متجنبين اليقين، أي حديث عن الواقع والحقيقة، مشيرين إلى أن اللجوء إلى مقارنة فورية مع الحقائق بوصفها طريقةً لتأكيد الحقيقة بأنها مسألة تعسُّف، وأن الحقائق، مشيدة حرفيًّا بوصفها كِيانات، مجرد نسخ باهتة للجمل الحقيقية، تشكِّك في كل تفكير في الإشارة الخارجية، كما تتجسد في الحديث الساذج فلسفيًّا عن الواقع والحقيقة، وفي الحديث الساذج كما في الحديث العميق عن الحقيقة. ومثل هذا النزوع إلى الشك يؤدِّي إلى صعوبات مستعصية؛ لأن العلم، دون إشارة خارجية، لا يكون له هدف. إذا بقينا في دائرة التصريحات تمامًا، نقع في فخ لعبة الكلمات، ولا يمكن لها أن تُرضي نيورات تمامًا (كما تدل على ذلك إشارته إلى العلم بوصفة أداةً للحياة). إن مبدأ نيورات، بشكله المتطرف يثير بشكل مفهوم نوعًا من النقد الذي يقدمه راسل.

إذا تناولنا مبدأ نيورات بجدية، يتبيَّن لنا أنه يجرِّد المقترحات الإمبريقية من كل معناها. حين أقول «الشمس مشرقة»، لا أعني أن هذه جملة من عدد من الجمل لا يوجد بينها تضارب؛ أعني شيئا ليس لفظيًّا، من أجله ابتُكرت كلمات مثل «شمس» و«مشرقة». إن هدف الكلمات، رغم أن الفلاسفة يبدو أنهم ينسون هذه الحقيقة البسيطة، التعامل مع مسائل غير الكلمات.١٨
أحد مصادر الاضطراب الخلط المستمر بين الحقيقة وتقييم الحقيقة، بين مضمون تصريحاتنا والعمليات التي نختار بها من بينها. إذا كان اللجوء إلى الواقع، مثلًا، أو المقارنة المباشرة مع الحقائق معيبًا بوصفه وسيلةً للتأكد من الحقيقة، لا يوضح ذلك أنه لا يمكن وصف زعم تصريح صحيح بدقة بلغة المعتادة مثل «يصف الواقع» أو «يقر الحقائق.» ربما لا يكون لدينا حدس معين بالحقيقة، لكن هذا لا يعني أن عدم فهم أن تصريحاتنا صحيحة. إذا كانت جملة «الثلج أبيض» صحيحة، يكون الثلج (في الواقع، أو في الحقيقة) أبيض، والعكس بالعكس، كما يؤكِّد تارسكي.١٩ وكما لاحظ كوين «نسبة الحقيقة وخاصةً إلى الثلج أبيض، على سبيل المثال، واضحة تمامًا بالنسبة لنا بوصفه تنسب البياض إلى الثلج.»٢٠ ربما لا يكون واضحًا لنا كيف نقرِّر إن كانت جملة «الثلج أبيض» صحيحة، لكن الجملة على أية حال تشير إلى الثلج وتدَّعي أنه أبيض، إذا قرَّرنا أن نسلِّم بأن الجملة صحيحة، ينبغي أن نكون مستعدين للتسليم بأن الثلج (في الواقع، أو في الحقيقة) أبيض. وبصرف النظر عن الطريقة التي نستخدمها لتقييم الحقيقة، تشير تصريحاتنا إلى أشياء بشكل عام تمامًا وتزعم أنها تنسب إليها ما يمكن أن يُنسب إليها في الواقع أو في الحقيقة.
ومن ثم ليست هناك طريقة للبقاء تمامًا في دائرة التصريحات؛ لأن في عملية اتخاذ القرار ذاتها بتأكيد أي منها بوصفه صحيحًا، نقرِّر كيف نشير إلى الأشياء ونصفها بشكل عام تمامًا. إن مضمون تصريحاتنا مرجعي لا محالة. لكنها مسألة أخرى تمامًا أن نفترض أن المنهج الذي نقبل به التصريحات يمكن وصفه باللجوء إلى هذه الكِيانات المفترَضة بوصفها حقائق، ينبغي أن تقارَن بها مباشرةً التصريحات المرشحة. إن الوقائع، مفترضةً بوصفها كِيانات خاصة تُناظِر الحقائق، موضع شك عمومًا، وتحديد وجودها مسألة تعسُّف إذا اقترحت حرفيًّا بوصفها طريقةً لتأكيد الحقيقة.
إننا بهذه الصورة نفصل مسألة مضمون النظم العلمية عن مسألة الوسائل التي نختار بها تلك النظم. هل يمكن وصف هذه الوسائل دون الاعتماد على مفهوم المقارنة المباشرة مع الوقائع؟ يفترض كلٌّ من نيورات وشليك أن أي تصوُّر للعلم بوصفه مرجعيًّا ينبغي أن يُظهِر هذا الاعتماد. وهذا الاقتراح خطأ ببساطة. تصوُّر المصداقية الذي تناولنا خطوطه العريضة من قبلُ يمثل مفهومًا للاختيار بين نظم التصريحات، لكنه لا يفيد فكرةً مثل فكرة المقارنة مع الوقائع. ويتوافق تمامًا، رغم ذلك، مع الاعتراف بأن أي نظام منتقًى مرجعيٌّ في مضمونه. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد اعتبارات المصداقية على القيم المرجعية التي تقدِّمها التصريحات لنا في وقت معين؛ أي على ميولنا، في ذلك الوقت، لتأكيد أن هذه التصريحات صحيحة.
من المؤكد أن مثل هذه الميول كما هو الحال بالنسبة للتصريحات، تعتدل بعادات التفرد والتصنيف المكتسبة خلال العملية الاجتماعية التي تعلِّمنا معجمًا معينًا للمصطلحات. وأنا أتعلم مصطلح «حصان»، مثلًا، دمجْتُ العادات الانتقائية لاستخدام المصطلح والسيطرة عليه؛ وهذه العادات، مؤثرة على ما هو أمامي، دفعتني بدرجة ما لتأكيد التصريح «هناك حصان». إذا تعلمت المصطلح «أبيض» كما تعلمت مصطلح «حصان»، قد أميل، بالإضافة إلى ذلك، بقوة، في موقف معين، لتأكيد «أن الحصان أبيض»، ويُفهَم ميلي، في ذلك الموقف، جزئيًّا، بوصفه نتاجًا لاستخدامي كلمتَي «حصان» و«أبيض» للإشارة إلى ما أراه. ومن المؤكد أنني لا أحتاج إلى الاعتراف بأيٍّ من هذه الكِيانات الإضافية باعتبارها حقيقة أن ذلك الحصان أبيض، أو إلى أن يكون لديَّ مصطلح يمكن استخدامه لهذا الكِيان المفترض في معجمي. ورغم أن مفهوم المصداقية الأولية يعتمد بطرق متنوعة على العادات المرجعية المرتبطة بمعجم معين لكنه لا يتطلَّب إشارةً إلى وقائع، بشكل خاص.
ومن المؤكد أن قَبولي لتصريح لا يعتمد على ميلي الأولي لقَبوله فقط، بل يعتمد أيضًا على انسجامه بشكل يرتبط بنظام معتقداتي الذي يحتفظ بما يكفي من أشكال مناسبة من المصداقية. وهنا مرةً أخرى لا توجد إشارة على أيٍّ من تلك الكِيانات بوصفها وقائع، ينبغي مقارنة هذه التصريحات بها. حين أقبل نظامًا، وأعتبر مضمونه مرجعيًّا؛ أسلِّم بأن تصريحاته صحيحة وأقبل بصدق أية خصائص ينسبها للكِيانات التي تُذكر في هذه التصريحات. وبمفهوم فلسفي حميد، يمكن أن أقول إذن إنني أعتبر النظام معبِّرًا عن الوقائع. وليس لديَّ إطلاقًا أي ضمانات بأن يحتمل نظامي الاختبار في المستقبل، لكن المهمة المستمرة للتقييم الحالي المهمة الوحيدة التي يمكن القيام بها. لا يزدهر العلم، عمومًا، بالبحث عن الضمانات المستحيلة، بل بالكفاح ليُنظِّم بمصداقية خبرةً تمتد باستمرار.
١  “Science and the World” is drawn from my Science and Subjectivity, 2nd ed. (Indianapolis, Ind.: Hackett, 1982), Chap. 5.
٢  جملة البروتوكول protocol sentence: في الوضعية المنطقية، تصريح يصف الخبرة المباشرة أو الإدراك المباشر، ويعتبر الأساس النهائي للمعرفة. (المترجم)
٣  أوتو نيورات Neurath (١٨٨٢–١٩٤٥م): فيلسوف نمساوي، اهتم بفلسفة العلم. موريس شليك Schlick (١٨٨٢–١٩٣٦م): فيلسوف ألماني، يعتبر الأب المؤسس للوضعية المنطقية وحلقة فيينا. (المترجم)
٤  Otto Neurath, “Sociology and Physicalism,” tr. Morton Magnus and Ralph Raico. Reprinted with permission of the Free Press from Logical Positivism, by A. J. Ayer, ed., p. 285, Copyright 1959 by the Free Press, a corporation. Originally appeared as “Soziologie in Physikalismus,” Erkennis, 2 (1931-2). Page references to this article in the text will be preceded by “SP”.
٥  Moritz Schlick, “The Foundation of Knowledge,” tr. David Rynin. Reprinted with permission of the Free Press from Logical Positivism, by A. J. Ayer, ed., p. 226, Copyright 1959 by the Free Press, a corporation. Originally appeared as “Uber das Fundament der Erkenntnis,” Erkennis, 4 (1934). Page references to Schlick in the text refer to this article.
٦  Otto Neurath, “Protocol Sentences,” tr. Frederic Schick. Reprinted with permission of the Free Press from Logical Positivism, by A. J. Ayer, ed., p. 201, Copyright 1959 by the Free Press, a corporation. Originally appeared as “Protokollsatze,” Erkenntnis, 3 (1932-3). Page references to this article in the text will be preceded by “SP”.
٧  الفيزيائية physicalistic: النزعة الفيزيائية physicalism موقف فلسفي يرى أن كل ما يوجد ليس أكثر انتشارًا من خصائصه الفيزيائية؛ أي إنه لا يوجد إلا الأشياء الفيزيائية. والمصطلح من ابتكار أوتو نورات في سلسلة مقالات في بدايات القرن العشرين. (المترجم)
٨  شبه الموضوعية intersubjectivity، مصطلح مستخدم في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع لوصف حالة تقع في مكان ما بين الذاتية والموضوعية، حالة تدرك فيها الظاهرة بشكل شخصي (ذاتية) لكن بأكثر من شخص؛ أي اشتراك أكثر من شخص في حالة ذاتية. (المترجم)
٩  كروزو Crusoe بطل رواية روبنسون كروزو، وفرايداي Friday شخصية ساذجة في الرواية. (المترجم)
١٠  Otto Neurath, Foundations of the Social Sciences (Chicago: University of Chicago Press, 1944), p. 5.
١١  Ibid., p. 13.
١٢  عن توازي اللغة والواقع، انظر: Ludwig Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus (London: Routledge & Kegan Paul, 1922). ولمزيد من المناقشة، انظر: John Passmore, A Hundred Years of Philosophy (London: Duck-worth, 1957), and Nelson Goodman, “The Way the World Is,” Review of Metaphysics, 14 (1960), 48–56.
١٣  هناك مشاكل في اختيار ترجمة مناسبة؛ انظر ملاحظة ديفيد رانين [ Rynin (١٩٠٥–٢٠٠٠م)، فيلسوف أمريكي (المترجم)] على هذه المشاكل في Ayer, ed., Logical Positivism, p. 221. وأختار «تصريحات التأكيد» لأؤكد على أن التصريحات يُدَل عليها بهذا الشكل، وأفضِّله على «تأكيدات» رانين، رغم أنني أعتقد بأن الاختيار الأخير يتبع استخدام شليك بشكل أكثر دقة.
١٤  Bertrand Russell, Human Knowledge (New York: Simon & Schuster 1948), Part 2, Chap. 11, and Part 5, Chaps. 6 and 7.
١٥  Nelson Goodman, “Sense and Certainty,” Philosophical Review, 61 (1952), 160–7.
١٦  Ibid., 162-3.
١٧  Willard Van Orman Quine, Word and Object (New York: Technology Press of MIT and Wiley, 1960), 91.
١٨  Bertrand Russell, An Inquiry into Meaning and Truth (London: Allen & Unwin, 1940), pp. 148-9; Penguin ed. (Harmondsworth: Penguin Books, 1962), pp. 140-1.
١٩  Alfred Tarski, “The Semantic Conception of Truth,” Philosophy and Phenomenological Research (1944); reprinted in Herbert Feigl and Wilfrid Sellars, eds., Reading in Philosophical Analysis (New York: Appelton-Century-Crofts, 1949), pp. 52–84.
٢٠  Willard Van Orman Quine, From a Logical Point of View (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1953), p. 138.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤