الفصل التاسع

الفن والعلم والدين١

على عكس العلم والفن، نشبت حروب بين العلم والدين. يلخِّص عنوان أندرو ديكسون وايت٢ لعمله الكلاسيكي في ١٩١٠م «تاريخ الحروب بين العلم والكهنوت في المسيحية»،٣ أبعاد هذا الصراع. في محاضرة بعنوان «ساحات معارك العلم»، سبقت نشر كتابه، أيَّد وايت أطروحة أن طوال التاريخ الحديث، أدَّى باستمرار تدخُّل العلم فيما يُفترض أنه مجال اهتمام الدين، بصرف النظر الوعي بهذا التداخل، إلى أفظع الشرور لكلٍّ من الدين والعلم؛ ومن ناحية أخرى، أدَّى باستمرار التحقيق العلمي غير المقيَّد، بصرف النظر عن الخطورة التي ربما بدت في بعض مراحله بالنسبة للدين، إلى الخير الأسمى لكلٍّ من الدين والعلم.٤

(١) تضارب العلم والدين

رغم ذلك، كما يشهد المجلدان الضخمان اللذان كتبهما وايت، كان التضارب بين العلم والدين متصلًا وشديدًا، وأحرز العلم سلسلةً رائعة من الفتوحات. يكتب مؤرخ العلم وليم دامبير:٥ «رغم الجهل والحماقة والعاطفة كسب المنهج العلمي معركةً بعد أخرى منذ أيام جاليليو؛ من الميكانيكا إلى الفيزياء، ومن الفيزياء إلى علم الأحياء، ومن علم الأحياء إلى علم النفس؛ حيث يتكيَّف ببطء مع أرض غير مألوفة. ولا يبدو أن هناك حدودًا للبحث.» وواصل دامبير «لأنه، كما قيل بشكل جيد ودقيق، كلما اتسع حقل المعرفة، اتسع سطح التماس مع المجهول.»٦
منذ ظهور العلم الحديث، تكرَّر السيناريو المألوف مرات ومرات. يرى الدين أنه مهدَّدٌ بنظرية أو اكتشاف علمي جديد فيعارضه بقوة. وبعد ذلك يُسعَى إلى تقليل التهديد بإعادة تفسير عنصر أو آخر في الصراع أو بالانسحاب إلى ما يُفترض أنه مقاطعة خاصة للتفكير محصَّنة ضد النقد العلمي. وأخيرًا، بعد معادلة المبدأ المزعج، ينتهي بقَبوله، أو بالزعم بأنه الحقيقة. ويتبادر إلى الذهن أسماء برونو وكوبرنيكس وجاليليو باعتبارهم الأمثلة الأكثر شهرة، ويأتي بعدهم بسرعة داروين وليل٧   Lyell وفرويد.

(٢) العلم والفن

لا يبدو أن مثل تلك الحروب تميِّز العلاقات التاريخية بين العلم الحديث والفن، التي تبدو، عمومًا، أنها كانت سلميةً تمامًا. أكَّد جون كونستابل٨ أن «الرسم علم وينبغي اعتباره بحثًا في قوانين الطبيعة.» ويواصل: «لماذا إذن لا تُعتبر لوحة لمشهد طبيعي فرعًا من فلسفة الطبيعة، تكون فيه الصور تجارب؟»٩ وموافقًا على هذه الكلمات لكونستابل، يُعلن جومبريتش أن «الرسم في التراث الغربي كان يُعتبر علمًا. تُطبق كل أعمال هذا التراث التي نراها معروضةً في المجموعات العظيمة اكتشافات جاءت نتيجة تجريب مستمر.»١٠ وبالطبع، تمتَّع الفن بعلاقات أكثر حميميةً مع الدين. لكن بينهما بوضوح، في التوجه المختلف للعلم، اختلافًا حقيقيًّا؛ نشبت حروب بين الدين والعلم، بينما ساد السلام بين الفن والعلم. لماذا كان الأمر بهذا الشكل؟

(٣) الدين معرفي والفن وجداني؟

ثمة مقاربة تقليدية معروفة تحدِّد الإجابة في العالم السيمنطيقي، تؤكِّد أن الدين معرفي في فحواه بينما الفن وجداني. وهكذا يزعم الدين أنه، مثل العلم، يصف الواقع. إنهما يسعيان خلف الحقيقة، وكل منهما معرفي في أهدافه ومبادئه؛ وبالتالي يمكن فهم أن الاختلافات الناشئة بينهما حول حقيقة الواقع ولَّدت صراعًا. والفن، من ناحية أخرى، وفي تناقض مع آراء كونستابل وجومبريتش، ليس معرفيًّا، إنه عاطفي في فحواه، وظيفته حثُّ العواطف أو التعبير عنها أو التنفيس عنها وليس وصف الواقع. هدفه ليس نظريًّا، بل وجداني؛ ومن ثم لا يمكن بطبيعة الحال أن يتضارب مع التأكيدات الوصفية للعلم. ولو كان الفن مشروعًا معرفيًّا، لكان هناك لغز وراء عدم نشوب حرب بينه وبين العلم، كما كان الحال بالنسبة للدين.

ثمة مشكلتان تواجهان على الفور هذا الرأي التقليدي؛ الأولى: إذا كان الفن وجدانيًّا فقط أو وجدانيًّا بشكل أساسي، كيف نفسر حقيقة أن الفنانين كثيرًا ما فكَّروا في أنفسهم بمصطلحات مألوفة للعلماء؟ بشكل أكثر عمومية، كيف نفسِّر أهمية التجريب في الفن والمدخل لفهم ما يقدِّمه هذا التجريب؟ المشكلة الثانية: كيف نفسر الارتباطات القوية للفن مع الدين إذا كان الفن وجدانيًّا بشكل أساسي بينما يزعم الدين بأنه يصف الواقع؟ صحيح أن الفن بوصفه وجدانيًّا خالصًا يتناغم مع الدين بوصفه معرفيًّا. لا يمكن أن يتحدَّى التأكيدات العقائدية للدين أكثر ممَّا يمكن أن يهدِّد الاقتراحات النظرية للعلم. لكن الفن أكثر من أن يتناغم ببساطة بهذه الطريقة مع الدين؛ إنه يتمتع بارتباط حميم بالدين يتجاوز علاقاته السلمية بالعلم. كيف يمكن فهم هذه العلاقة الحميمة؟ يتطلَّب الرد على هاتين المشكلتين توضيحين للرأي التقليدي.

(٤) توضيحان للرأي التقليدي

أولًا، ينبغي رؤية أن الفن والعلم، ضمن أمور أخرى، مشروعان لحل المشاكل، رغم اختلاف أهدافهما. في مسار تطوير أوصاف صحيحة، ينبغي أن يبتكر العلم فرضيات ويختبرها، ويلاحظ ويصمِّم تجارب. في مسار إبداع مواضيع تحث العواطف أو تعبِّر عنها أو تنفِّس عنها بشكل مناسب، ينبغي على الفن أيضًا أن يبتكر فرضيات متنوعة ويجربها، ويلاحظ وينهمك في تجارب. تختلف المشاكل في كل حالة، لكن الجهود الخاصة بحل المشاكل متماثلة. وبالتالي يمكن فهم انهماك الفنانين في التجريب وسعيهم للفهم حتى لو كان هدفهم الأساسي حث العواطف والتعبير عنها والتنفيس عنها، وكان التجريب والسعي للفهم ثانويين بالنسبة لهذا الهدف؛ هكذا يدور توضيح للرأي التقليدي.

ثانيًا، بينما يزعم الدين بأنه يصف الواقع، لكن الأمر، على أية حال، لا يقتصر على هذا. يعبِّر الدين أيضًا عن توجُّه معياريٍّ وعاطفيٍّ للواقع الذي يصفه، ويشجِّع هذا التوجه. وهو، في ذلك، وجداني بقدر ما هو معرفي. يمكن، إذن، فهم أن الدين لا يتناغم فقط مع الفن، لكنه يرتبط به ارتباطًا حميمًا، مستخدمًا القوة الوجدانية للفن لتعزيز توجُّهه العاطفي المفضَّل، ويتكيَّف من جانبه مع التعبير عن المعاني الوجدانية التي تنقلها بشكل مستقل بعض الأعمال الفنية؛ وهكذا يدور التوضيح الثاني.

حين يؤخذ توضيحَا الرأي التقليدي معًا، يتم تفسير العلاقات الثنائية للفن مع العلم والدين. مع العلوم، يشترك الفن في روح حل المشاكل؛ ومع الدين، يشترك في قدرته على التعبير وحث الحياة العاطفية. وهكذا يتطلَّب الأمر تأمل الرأي التقليدي، وقد تم توضيحه، مرةً أخرى. الهدف الأساسي للفن، رغم تشابهه مع العلم في حل المشاكل، وجداني؛ ومن ثم لا يدخل في صراع مع الفرضيات المعرفية للعلم. ومن الناحية الأخرى، الغرض الأساسي للدين متمثلًا في البحث عن الحقيقة يُدخله في صراع محتمل مع الآراء العلمية بشأن العالَم؛ ومن هنا تنشب الحروب بين العلم والدين.

هذه النسخة الموضحة من الرأي التقليدي أقوى دون شك من الصيغة الأصلية، لكنها تواجه عقبةً يتعذَّر اجتيازها؛ توصيفها للفن بأنه وجداني في هدفه الأساسي غير مؤكد. لا تتنافر الوظائف الوجدانية للفن مع تدريبه على الوظائف المعرفية أيضًا. إن الفن يقوم عادةً بوظائفه وجدانيًّا من خلال قوته المعرفية، كما يقوم بوظائفه معرفيًّا من خلال قوته الوجدانية. ولا يمكن ببساطة تصديق مفهوم أن السمات المعرفية للفن تقتصر على تجاربه الخاصة بحل المشاكل في ملاحقة الأهداف الوجدانية بشكل أساسي؛ إنه أداة خاصة لإنقاذ النظرية العاطفية للفن وليس هناك شيء آخر يزكيه.

جادل جودمان بقوة للوصول إلى تفسير عكسي، مدفوعًا بالفضول وساعيًا للتنوير، مستخدمًا العواطف نفسها أدواتٍ للمعرفة. يكتب:

التمثيل أو الوصف مناسب وفعَّال ومنير ورقيق ومخادع، حتى يستوعب الفنان أو الكاتب علاقات جديدةً ومهمة ويبتكر وسائل لإظهارها … متهرِّبًا من عناصر أو فئات جديدة، أو مألوفة بأسماء من نوع جديد أو بمجموعات جديدة من أسماء قديمة ربما تقدم رؤيةً جديدة … وإذا لم يتحقَّق هدف الصورة بنجاح فقط واستُقبل بشكل جيد أيضًا، إذا كانت إعادة التخطيط التي تؤثر فيها بشكل مباشر أو غير مباشر شيقةً ومهمة، تقدِّم الصورة — مثل التجربة الحاسمة — مساهمةً أصيلة للمعرفة.١١

يُدعَم اكتشاف هذه المعرفة الجديدة، كما يبرهن جودمان، بمواصلة الفهم. يكتب:

الدافع الفضول، والهدف التنوير. ويكون استخدام الرموز بما يتجاوز الاحتياج الفوري للفهم، لا الممارسة؛ الرغبةُ الشديدة في المعرفة تشجِّع، والاكتشاف يُنير، والتواصل ثانوي بالنسبة لاستيعاب ما يتم التواصل معه وصياغته. الهدف الأساسي المعرفة لذاتها؛ ويعتمد عليه التطبيق العملي والمتعة والدافع القهري والفائدة التواصلية.١٢

توظِّف العواطف نفسها معرفيًّا في الفن. يكتب جودمان:

يُستوعَب العمل الفني بالمشاعر كما يُستوعَب بالحواس. يعجز الخدر العاطفي هنا بشكل مؤكد إن لم يكن بشكل كامل مثل العمى والصمم. ولا يقتصر الأمر على استخدام المشاعر لاستكشاف المحتوى العاطفي لعمل. ربما نشعر، إلى حدٍّ ما، بشكل لوحة كما قد نرى كيف تُحس. يلاحظ الممثل أو الراقص — أو المشاهد — أحيانًا الشعور بحركة ويتذكَّرها ولا يتذكَّر شكلها، بقدر التمييز بين الاثنين عمومًا. إن العاطفة في التجربة الجمالية وسيلة لاستجلاء الخصائص التي يتسم بها عمل ويعبِّر عنها.١٣

وهكذا إذا دُحض الرأي التقليدي نهائيًّا، واعتُبر الفن معرفيًّا بالأساس، نواجه مرةً أخرى المشكلة التي بدأنا بها. لماذا يتصارع الدين وحده مع العلم، ولا يتصارع معه الفن، بوصفه مشروعًا معرفيًّا مثل الدين؟

(٥) وظائف رمزية مختلفة؟

ربما نقترح أن الاختلاف الذي يجب البحث عنه في الوظائف الرمزية الخاصة متضمَّن في كل حالة، بدلًا من أن نلاحظ ببساطة أن كل مشروع من مشاريعنا الثلاثة معرفي في طبيعته. وبشكل خاص، لنتذكر أن جودمان يميِّز بين الدلالة وضرب الأمثلة والتعبير بوصفها صِيَغ مختلفة للإشارة الرمزية وأننا قد نلاحظ اختلافًا بين العلم من ناحية والفن من ناحية أخرى في صيغة الإشارة السائدة؛ أي إن الفحوى الدلالية تحتل دورًا أساسيًّا في العلم أكبر من الدور الذي يحتله في الفن، وضرب الأمثلة والتعبير أكثر بروزًا في الفنون من العلوم. مفترضين أن الدين أقرب إلى العلم من الفن فيما يتعلَّق بهذا، ربما نُغرى بحل المشكلة الأساسية على النحو التالي: العلم والدين في حالة حرب لأن الدلالة، بالنسبة للاثنين، الأداة الأساسية للمعرفة، بينما الفن ليس في حالة حرب مع أيٍّ منهما؛ لأنه، رغم أنه معرفي، يعمل أساسًا بضرب الأمثلة والتعبير.

لكن هذه التباينات، أولًا، مسائل تتعلَّق بالدرجة في أفضل الأحوال؛ حيث إن «الفن والعلم»، كما يلاحظ جودمان، «ليسا غريبين تمامًا»،١٤ ولا يثير الدهشة أن نرى نماذج في الفيزياء تقدِّم أمثلةً لسمات نظرية حاسمة، وأن المعلومات في علم النفس والأنثروبولوجيا كثيرًا ما يُحكَم عليها بسِماتها التعبيرية، وأن تشكيلةً واسعة من الأعمال الفنية تعمل بانتظام من خلال الدلالة. بينما من المؤكد أن الموسيقى وفن العمارة لا يعملان عادةً بشكل دلالي، تعتمد الكلمات المستخدمة في الشعر والرواية على الدلالة، وكثيرًا، إن لم يكن دائمًا، ما تأتي الصور بأسلوب يمكن وصفه بالدلالي. ثانيًا، من غير الواضح تمامًا حقيقة ما يعتقد أنها علاقة التباينات المفترضة. حتى إذا كانت الدلالة فن الفن، مثلًا، تحتل دورًا أقل هيمنةً مقارنة بضرب الأمثلة والتعبير من الدور الذي تحتله في العلوم، لا تزال هناك فرصة كبيرة للصراع بين الاثنين في عالم خاص من الدلالة يشترك فيه الاثنان. ويبقى أن العلم يخوض حربًا مع الدين فقط وليس مع الفن أيضًا. لكن لماذا؟

(٦) ادعاءات بامتلاك الحقيقة

هنا تُطرح فكرة سيمنطيقية نفسها. إن اعتماد العلم والفن كليهما على الدلالة لا يكفي لإظهار صراع محتمل بينهما. لكي ينشب صراع نحتاج أيضًا ادعاءات بامتلاك الحقيقة، مجسدةً في تصريحات متضاربة. إن الدلالة وظيفة تقوم بها المصطلحات العامة أو المسندات وحدها، ولا شيء منها يكوِّن تصريحًا أو يتضمَّنه.

يتضمَّن العلم تصريحات كما يتضمَّن مسندات، وهي ما يتضمَّنه الدين. إنهما بالتالي قادران على تأكيد تصريحات متضاربة بشكل متبادل، ومن ثم تقديم ادعاءات متضاربة بامتلاك الحقيقة. لكن الصور، وهي توازي المصطلحات أو المسندات، يمكن أن تدلَّ لكنها لا تؤكِّد؛ لا يوجد، في الحقيقة، في التصوير ما يوازي التصريحات، ومن ثم لا توجد ادعاءات تصويرية بامتلاك الحقيقة. هنا، إذن، اختلاف حاسم بين الفن التصويري والدين يفسِّر توجُّههما المختلف من العلم: يقدم الدين والعلم ادعاءات بامتلاك الحقيقة لكن الفن التصويري لا يقدِّم ادعاءات من هذا القبيل.

لكن هل هذه المسألة واضحة جدًّا؟ تبنَّى جودمان الرأي القائل بأن «الصورة لا تقدِّم تصريحًا». ويكتب: «صورة السيارة الصفراء الضخمة القديمة المحطمة، مثل الوصف «السيارة الصفراء الضخمة القديمة المحطمة»، لا تسلِّم بأيٍّ من التصريحات التالية:

السيارة الصفراء الضخمة المحطمة قديمة.
السيارة الصفراء الضخمة القديمة محطمة.
السيارة الضخمة القديمة المحطمة صفراء.
السيارة الصفراء القديمة المحطمة ضخمة.
أو أي تصريحات أخرى. يختلف التمثيل والوصف بطرق مهمة، لكن لا يمكن أن يكون صواب أي منهما مسألة تتعلَّق بالحقيقة.»١٥
صحيح أن الوصف المحدد «السيارة الصفراء الضخمة القديمة المحطمة» ليس في ذاته تصريحًا، ومن ثم لا يتضمن، منطقيًّا، أي تصريح. لكن أية جملة ذرية١٦ تتشكل بإضافة مسند إلى هذا الوصف تتضمن وجودًا كما تتضمن ادعاءً فريدًا، طبقًا لنظرية راسل١٧ عن الوصف؛ أي الادعاء بأن شيئًا ضخم وأصفر ومحطم وقديم وسيارة، والادعاء بأنه لا شيء آخر ضخم وأصفر ومحطم وقديم وسيارة. إذا فشل أيٌّ من هذين الادعاءين المفهومين ضمنيًّا، كما نعرف، دون أية معلومات أخرى عن المسند المضاف، تكون الجملة الذرية المطروحة خطأ. ورغم أن الوصف لا يتضمَّن أي تصريح، لكنه مع ذلك يرتبط بهذه الطريقة بقوة ببعض التصريحات. صحيح، إذا لم يكن الوصف المطروح مكتملًا واكتمل ﺑ «ليس»، يُنكَر الوجود المتحد وتُنكَر الادعاءات الفريدة. لكن إضافة هذه الكلمة لا تعادل مسندًا لكنها تعادل تحديد المتغيِّرات: أي لا يوجد شيء من قبيل السيارة الصفراء الضخمة القديمة المحطمة. ومع ذلك، كل حالات التكملة بمسند أصيل لإنتاج جملة ذرية تفعِّل هذه الادعاءات.
ناقشنا حتى الآن الوصف المفرد «السيارة الصفراء الضخمة القديمة المحطَّمة» وبرهنَّا على ارتباطه الخاص بتصريحات معينة. ومع ذلك، حين نتحول من الوصف إلى صورة سيارة صفراء ضخمة قديمة محطمة، يصبح من المستحيل تطبيق البرهان نفسه؛ حيث لا يوجد نظير تصويري لأداة التعريف «ال». ومع ذلك، قد نحكم، في سياقات خاصة، بأن صورةً تزعم بأنها تدل على موضوع فريد وتنجح حقًّا في القيام بذلك. وفي تلك الحالات، قد نفترض أن الصورة ترتبط بشكل خاص بادعاءات بوجود مناسب وتفرد، كما في حالة الوصف. لكن هل يمكن أن يكون هذا كل شيء؟ وهل يمكن أن يكون كافيًا؟ في حالة الوصف، يتضمَّن التصريح الذري الكامل الذي نفهم محتواه ادعاءات الوجود والتفرد. ما الموازي في حالة الصورة؟ ماذا تقول ككل عن الموضوع الفريد الذي تدل عليه؟ ما التصريح الذي يُفترض أنها تصنعه؟
اقترح ريتشارد رودنر١٨ نظريةً جديدة ترى أن «كل رمز … يقول في الواقع إنه يشير إلى ما يشير إليه في الحقيقة.» تقول صورة البلاك فوريست١٩ (في نسخة جودمان عن رودنر) «أصوِّر البلاك فوريست». ويجادل جودمان، إذا كان هذا كل ما تقوله الصورة ماذا يمكن أن تشكِّل صورة زائفة أو خطأ للبلاك فوريست؟ في ظل هذا المعيار، كل ما يصوِّر البلاك فوريست يُعتبر صورةً حقيقية أو صحيحة لها؛ بالنسبة للجميع تدَّعي الصورة أنها تصوِّر البلاك فوريست. والصورة التي لا تصوِّر البلاك فوريست لا تدَّعي ذلك، وبالتالي لا يمكن اعتبارها صورةً زائفة أو خطأ. لإعطاء فرصة للصور الخطأ، ينبغي تفسير صورة البلاك فوريست باعتبارها تقول ما هو أكثر من أنها تصوِّر البلاك فوريست. لكن ينبغي حينذاك أن نسأل «أي أكثر؟»؛ لم يعد أمامنا مبدأ عام واضح لارتباط فريد لتصريح بصورة.٢٠
تطرح فكرة مختلفة نفسها فيما يتصل بالمفهوم الإشاري ﻟ «تمثيل بوصفه كذا»، ويناقشها جودمان في «لغات الفن»؛ حيث يكتب: «عمومًا، تُمثِّل صورة p الموضوع k بوصفه كذا وكذا، إذا وإذا فقط كانت p صورة تمثل k وتكون صورة كذا وكذا، أو كانت تحتوي على هذه الصورة.»٢١ إن تمثيل صور معينة لونستون تشرشل مدخِّنًا للسيجار مُعادل، طبقًا لهذا الرأي، لتشرشل. وبدلًا من ذلك، إن تمثيل صورة معينة لتشرشل رضيعًا يعادل أن تكون هذه الصورة لرضيع يمثِّل تشرشل؟ أو تحتوي على هذه الصورة.

في الحالة الأولى من هاتين الحالتين، يمكن اعتباره الصورة، رغم أنها ليست تصريحًا ولا تتضمَّن حرفيًّا أي تصريح، مرتبطة بالتصريح «تشرشل مدخن سيجارًا» ربما بطريقة تناظر ما قيل من قبلُ عن الوصف؛ أي إنه إذا حكم على هذا التصريح بأنه زائف ونحن نحكم على الصورة بأنها تمثِّل تشرشل مدخِّنًا للسيجار، يمكن الاعتقاد بأن الصورة تقدِّم تصويرًا غير حقيقيٍّ لموضوعها. وفي الحالة الثانية، يمكن اعتبار الصورة، بطريقة موازية، مرتبطة بالتصريح «تشرشل رضيع»، رغم أن التصريح الأخير، بالطبع، يقدم ادعاءً بحقيقة استعارية لا حرفية.

لدينا هنا على ما يبدو إجابة للسؤال «أي أكثر؟» الذي وُجِّه من قبلُ لنظرية رودنر؛ لأن كل صورة من صور تشرشل ترتبط بأكثر من مجرد ادعاء بأنها تصور تشرشل. إنها ترتبط بالإضافة إلى ذلك بالادعاء بأن تشرشل يُصوَّر بوصفه كِيانًا، وهو ما قد يكون أو لا يكون صوابًا في الحقيقة. لكن النقطة المهمة ليست الصحة بل ادعاء الصواب. إن الادعاء في حالة حرفيًّا، وفي الأخرى استعاريًّا، وينبغي ألَّا تطمس الحقيقةُ النقطة الأساسية المتمثلة في أن التصريح هنا مرتبط بصورة. بقدر ما يمكن تعميم هذه النقطة، نعود مرةً أخرى إلى مشكلتنا الأصلية: إذا كان من الممكن تفسير فن تصويريٍّ بأنه مرتبط بادعاء الحقيقة، مثل العلم والدين، لماذا يحارب العلم الدين ولا يحارب الفن؟

وتتصاعد المشكلة، بالطبع، إذا لم نتأمل الفن التصويري وحده وتأملنا أيضًا الأنواع اللفظية أو الأدبية؛ لأن من الواضح أن هذه الأنواع تقدم تصريحات، حرفية واستعارية؛ وبالإضافة إلى ذلك، حتى حيث يكون الزعم الحرفي لتلك التصريحات زائفًا، قد يقدِّم الزعم الاستعاري ادعاءات بامتلاك الحقيقة. وهذه حقيقة تُدخل الفن مرةً أخرى في صراع محتمل مع العلم، لكن لا تنشب حرب كما يحدث حين يواجه العلم الدين.

(٧) إعادة النظر

توحي هذه النتائج بأننا أعدنا النظر بشكل أفضل في النقط التي بدأنا منها؛ لأنه سواء اعتبرنا الفن غير معرفي، كما يدَّعي الرأي التقليدي، أو معرفيًّا، كما ألححنا حديثًا، لا يوجد حل وشيك للمشكلة الأصلية. وينبغي أن نتساءل عن إمكانية تصور المشكلة الأصلية بشكل خطأ.

هل صحيح أن علاقات الفنِّ ودية مع كلٍّ من العلم والدين؟ هاجم الكتاب الرومانسيون في القرنين التاسع عشر والعشرين العلم؛ لأنه يدمر حياة الفن والثقافة، وهاجم أنصار العلم الجمالية العقيمة والانحطاط. وهاجم متدينون متشددون من انتماءات شتى، من وقت لآخر، المسرح والرقص والموسيقى والصور المحفورة، بينما سخر الفنانون الطليعيون من جمود المعتقدات الدينية. حدثت الانقسامات بين الفن والعلم، من ناحية، والفن والدين، من ناحية أخرى، بعمق شديد حتى إنها ألهمت مجموعةً من المنظِّرين الاجتماعيين للسعي إلى التغلب على مثل هذه الشروخ الثقافية باسم التعقل الاجتماعي.

صحيح أن العلم والدين لا يقتصران تمامًا على العالم اللفظي، يتطلب الاثنان تعبيرًا صريحًا في مواضيع ملموسة من العالم الفيزيائي — الأول في التجربة، والآخر في طقوس الرمزية الدينية — وهذا يجعلهما في اتصال تعاوني مع الفنان والحِرَفي. لكن مثل هذا الاتصال لا يحول تمامًا دون وقوع الصراع، أو حتى الحرب. يبدو أن هذا الخط من التفكير يدفعنا إلى استنتاج أن العلم في حرب ليس فقط مع الدين لكن أيضًا مع الفن، والدين في حرب ليس فقط مع العلم لكن مع الفن أيضًا. ونحتاج إلى التخلي عن فرضيتنا الأولية بأن هناك صراعًا بين العلم والدين فقط. يبدو أن علينا أن نقتنع ليس فقط بصراع واحد لكن بحرب يشنها الجميع ضد الجميع.

ولا يقلل من هذا الاستنتاج أن نشير إلى أن هذه الصراعات الأخيرة متفرقة وليست مستمرة، وأن الدين كثيرًا ما يتعايش في سلام مع الفن، ويتعايش الفن في سلام مع العلم. ولأن الشيء نفسه يصح على العلم والدين، الذي رغم اشتعال حالات الحرب في أحيان مختلفة، يعيشان أيضًا فتراتٍ متقطعةً من نعيم التوافق. ألَا يوجد إذن اختلاف يمكن ملاحظته؟ هل السؤال الذي كُنا نسعى للوصول إلى إجابة له مؤسَّس على الوهم؟ لماذا تبرز غالبًا بشكل خاص الحرب بين العلم والدين في مناقشات الثقافة؟

رأينا أن الإجابة على هذا السؤال لا تكمن، على أية حال، في القدرات السيمنطيقية؛ أي في اختلافات مفترضة بين الفن والعلم والدين فيما يتعلَّق بقواها المعرفية أو الرمزية. إذا كان الدين يقدِّم تصريحات، فإن الفن يفعل ذلك بطريقته الخاصة. الاثنان بطبيعة الحال قادران على تقديم تصريحات في صراع مع العلم.

(٨) علاقة السلطة

لكن ربما تكمن إجابة سؤالنا في البعد البراجماتي وليس السيمنطيقي؛ أي إن السياق الاجتماعي للتصريح المقدَّم في الفن يختلف عن السياق الاجتماعي للعلم والسياق الاجتماعي للدين. يتضمَّن الأسلوب في كلٍّ من العلم والدين، بكلمة واحدة، سلطة؛ ولا يتضمن الأسلوب في الفن سلطة. إن المبادئ التي يؤيدها الدين في مجتمع معين في وقت معين هي تلك التي تسنُّها السلطة الدينية المناسبة في ذلك الوقت. وبشكل مماثل، المبادئ التي تشكِّل كِيان العلم في مجتمع في وقت معين هي تلك التي تؤيدها سلطة الرأي العلمي للخبراء في ذلك الوقت. ولا يهم أن السلطة الدينية تتمركز غالبًا في المجتمع الديني أكثر ممَّا تتمركز سلطة العلم؛ أي إن السلطة العلمية أكثر انتشارًا. ولا يهم أن السلطة الدينية نفسها يتنوع تجسيدها في تنوُّع المجتمعات الدينية. والقضية الرئيسية أنه يوجد عادةً شيء من قبيل العقيدة الدينية الرسمية في كلٍّ من تلك المجتمعات التاريخية وشيء من قبيل الرأي العلمي للخبراء في كل تخصُّص في مرحلة معينة حاسمة.

وربما نكون معتادين أكثر على التفكير في ارتباط الدين بالسلطة وغير مرتاحين لمفهوم السلطة في عالم العلم؛ حيث يفترض أن الحكم العلمي للعالِم الفرد له الكلمة العليا. ولم يكتب أحد بشكل أكثر تعبيرًا عن طبيعة السلطة في العلم من ميشيل بولاني،٢٢ الذي لم يؤكِّد فقط على إجماع الرأي العلمي، بل على حقيقة أن مثل هذا الإجماع ينبثق من الحكم الفردي. يكتب:
الإجماع السائد في العلم الحديث لافت بالتأكيد؛ نظرًا لحقيقة أن كل عالِم يتبع حكمه الشخصي للإيمان بأي استحقاق خاص للعلم، ومسئول عن العثور على مشكلة وبحثها بطريقته؛ وأن كل عالم مرةً أخرى يؤكد ويعرض نتائجه الخاصة طبقًا لحكمه الشخصي. وبالإضافة إلى ذلك نظرًا لاستمرار الاكتشافات يتغير العلم بعمق في كل جيل. ورغم هذه الفردية المتطرفة التي تعمل في فروع متباعدة جدًّا، ورغم التدفق العام الذي يحدث في كل الفروع، نرى العلماء يواصِلون الاتفاق على معظم القضايا في العلم … الانسجام بين آراء يعتنقها علماء فرادى بشكل مستقل يطرح نفسه أيضًا في طريقة تناولهم لأمور العلم … لا توجد سلطة مركزية تمارَس على الحياة العلمية. تتم تمامًا في نُقط عديدة متناثرة بناءً على توصية بضعة علماء تصادَف أنهم مشاركون رسميًّا أو مكلَّفون بالتحكيم في مناسبة ما. وهذه القرارات عمومًا لا تتصادم لكنها، على العكس، تعتمد على قَبول واسع. إذا لم يستطع العلماء أن يثقوا ببعض طبقًا لتقاليد محددة يمكن أن تعتمد عمليات النشر وتأليف الكتب المدرسية، وتعليم الأصغر، وإعداد التجهيزات، وإنشاء مؤسسات علمية جديدة، على مجرد الصدفة في اختيار متخذ القرار. ومن ثم قد يكون من المستحيل الاعتراف بأي تصريح بوصفه اقتراحًا علميًّا أو بوصف أي شخص بأنه عالم. ويمكن أن ينقرض العلم عمليًّا.٢٣

يصف بولاني التقاليد العامة للعلم بأنها ترتكز على سلاسل ممَّا قد نعتقد أنها سلطة داخلية، وهذه السلطة الداخلية ضرورية لأن:

لا أحد يعرف أكثر من جزء ضئيل من العلم ليحكم جيدًا على مصداقيته وقيمته مباشرة. وبالنسبة للباقي عليه الاعتماد على آراء تقبل بشكل غير مباشر، بناءً على سلطة جماعة من الناس معتمدين بوصفهم علماء … ما يحدث هو أن كل من يعترف بعدد من الآخرين بأنهم علماء يعترفون به بدورهم عالمًا، وتشكل هذه العلاقات سلاسل تنقل هذه الاعترافات المتبادلة بشكل غير مباشر عبر المجتمع كله، وتمتد المنظومة إلى الماضي. يعترف أعضاؤها بمجموعة من الأشخاص بأنهم أساتذتهم ويستنبطون من هذا الولاء تقاليد مشتركة، يحمل كل منهم جزءًا خاصًّا منها.

تدعم الإجماعَ على رأي علمي في أي وقت شبكةٌ من جمعيات معتمدة تشكِّل المجتمع العلمي. يقول بولاني: «أي شخص يتحدَّث عن العلم بالمعنى الحالي وبالقَبول المعتاد، يقبل هذا الإجماع المنظم باعتباره يحدِّد «العلمي» و«غير العلمي». حين أتحدث عن العلم، أعترف بتقاليده وبسلطته المنظمة، وأرفض إمكانية وصف أي شخص يرفض هذا رفضًا تامًّا بأنه عالم، أو لديه أي فهم حقيقي وتقدير للعلم.»٢٤

رغم فردية العلم، إذن، إلا أنه مجسد في مؤسسات تمثل حكامًا للرأي العلمي الرسمية. وتؤدي هذه الحقيقة إلى نتيجة حاسمة بالنسبة لمشكلتنا. إنها تجعل من الممكن ألَّا نتكلم فقط عن هذا العالم أو ذاك بوصفه لا يتفق مع رجل الكنيسة هذا أو ذاك. ما ينشب هو صراع مؤسسي للعلم مع الدين حين تتصادم العقيدة الدينية الرسمية مع رأي علمي كفؤ. حتى حيث يكون عالم واحد هو الذي يحمل وطأة الصراع، فإنه يمثل الوسط الرسمي للباحثين والمجرِّبين العلميين.

قد يكون للأعضاء الفرادى في الوسط الديني آراؤهم الخاصة، لكنهم يدركون الاحتياج إلى العقيدة الرسمية ويعترفون بالسلطات التي تتخذ القرارات المؤسسية للوسط. ولا يختلف العلماء المعاصرون، عمومًا، على الإجماع العلمي للخبراء، حتى إذا تغير هذا الإجماع، بسرعة أو ببطء، عبر الزمن وحتى إذا، كما يرى بولاني «كان كل خضوع مدروس للسلطة يقيده تعارض له ولو كان ضئيلًا.»٢٥
وحين نتحول إلى الفن نجد تناقضًا صارخًا مع كل من الدين والعلم كما وُصفَا للتو. في الفن ليس هناك خبراء أو سلطات مذهبية لوضع مواد مشتركة للإيمان أو لاتخاذ قرارات للجماعة. إن مجتمع الفنانين ليس مجتمعًا للإيمان. من المؤكد أن الفن له أساليب، لكن هذه الأساليب ليست ملزمة. إنها تشكل خلفيةً لتدريب الفنانين الناشئين وصقلهم، لكن أولئك الفنانين الناشئين غير معنيين بتأكيد إجماع لمذهب فني أو بتأييد سلطة رأي فني للخبراء. لا يعني تفردهم أن يتحدثوا بصوت واحد بل بأصوات كثيرة. وهكذا بينما يمكن أن يكون هناك بالتأكيد صراع بين فنان معين، أو مدرسة للفنانين، مع الدين في وقت ومكان معينين، يمكن ألَّا يكون هناك صراع للفن بوصفه بنيةً مشتركة، مع الدين، حتى لو عبَّر كل الفنانين الموجودين في وقت ما ومكان ما عن هرطقة دينية. وهذه الهرطقة الطائفية يمكن أن تكون فردية، لا جمعية، واقعيةً لا شرعية. وبشكل مماثل، يمكن أن ينشق هذا الفنان الفرد أو ذاك، أو هذه المجموعة من الفنانين أو تلك، على الإجماع العلمي للخبراء في وقته، لكن يمكن ألَّا يكون هناك صدع بين الفن بهذا الشكل والعلم كما يتجسَّد عادةً في الرأي العلمي الرسمي، حتى لو هزأ كل فنان بانتظام من هذا الرأي.
ومن المؤكَّد أن هناك معنًى شخصيًّا ﻟ «السلطة» وليس مؤسسيًّا، معنًى يلاحظه بيترز،٢٦ وفيه تتناقض السلطة مع كونها في السلطة. وهذه السلطة الشخصية «تعتمد تمامًا»، كما قال بولاني «بمعنى أنه [قد] يسيطر [على أشخاص] المعجبون بهم ومريدوهم، كما هو الحال مع الشعراء والرسامين.»٢٧ لكن التناقض بين الفن والعلم رغم ذلك ثابت. يكتب بولاني:
الفنون مثل العلوم أنشط ما تكون في عملية تجديد نفسها؛ تكتسب الشهرة في الفنون، كما في العلم، بالإبداع. لكن الأصالة الفنية تتضمن عادةً تغيرات أشمل في المظهر ممَّا تتضمَّنه الأصالة في العلم، وتميل بالتالي إلى إنتاج انقسامات أكثر وضوحًا في الرأي بين المبدع الذي يسعى إلى ترسيخ سُلطته، والقادة الذين رسَّخوا الفن من قبل … وبالطبع … الفنون ليست، ولا يمكن أن تصبح، متماسكةً بشكل منتظم على شاكلة العلوم. وبالتالي لا يمكن أن يوجد … مثل هذا الإجماع الصارم في الرأي بينهم، كما يوجد في مجتمع الاختصاصيين في العلم.٢٨

من النتائج الطبيعية لهذه النقاط الخاصة بالتضارب أن العلم قد يكون تراكميًّا حتى إذا كان يخضع في الحقيقة للتطور ولا يتراكم دائمًا، وأن الإيمان الديني قد يتراكم بشكل مماثل، حتى إذا كان يخضع في الحقيقة للانشقاق والهرطقة. وهناك، فيما يتعلق بهذه الأمور، تنظيم شبه خطي لحالات الإيمان المشترك، بالاحتواء، في كلٍّ من العلم والدين. لكن الأمر ليس كذلك مع الفن؛ لأنه لا يوجد إيمان فني مشترك، حتى رغم إمكانية استخلاص سِمات أسلوبية سائدة في فترات معينة من التطور الفني. وبالإضافة إلى ذلك، لا تنمو هذه السمات بالتراكم. إن التطور الفني يحدث، لكن مبدأه ليس من مبادئ الاحتواء النسبي.

إن النزعة الفردية في الفن الحديث تعني أنه لا ينهمك في حرب مشتركة مع العلم أو مع الدين. لكن هذا لا يكفي للدلالة ضمنيًّا على سلام تام. إن عدم وجود صراع للبنى الرسمية للإجماع على الجانبين لا يعني أنه يمكن ألَّا تكون هناك هجمات بالجملة على الحريات الفنية من جانب الدين، أو تهديدات للمخيلة الفنية من بناء ضيق للحقيقة العلمية أو المنهج العلمي. إن ذلك لا يعني أن الفنانين لا يستطيعون تأسيس طوائف غير علمية ونشر الخرافة. ولا يعني ذلك، كما تشير حالة سلمان رشدي، أن بعض الأعمال الفنية لا يمكن أن يُفهم منها أنها تهدِّد المعتقدات الدينية. إذا برزت الحرب الحقيقية بين العلم والدين فإن ذلك يعود إلى أن بنى السلطة على الجانبَين في خطر بصرف النظر عن المبرِّرات الخاصة للحرب. لكن هناك، للأسف، طرقًا كثيرة لتعكير السلام. بدل الحرب المشتركة، كثيرًا ما تقع مناوشات متفرقة، نشوب متكرر للغارات والغارات المضادة، غزوات متقطعة وهجمات حرب عصابات. ليست هناك حرب كاملة للكل ضد الكل، وليس هناك أيضًا انسجام أو حتى هدنة.

١  نُشر «الفن والعلم والدين» أول مرة بالفرنسية “Art, Science, et Religion,” Les Cahiers du Music National d’Art Moderne, 41 (Automne 1992), 45–53.
٢  وايت White (١٨٣٢–١٩١٨م): مؤرخ أمريكي، شارك في تأسيس جامعة كورنيل. (المترجم)
٣  Andrew Dickson White, A History of the Warfare of Science with Theology in Christendom, 2 vols. (New York: D. Appleton, 1910).
٤  Ibid., p. viii.
٥  وليم دامبير Dampier (١٦٥١–١٧١٥م): كاتب إنجليزي مهتم بتاريخ العلوم. (المترجم)
٦  Sir William Cecil Dampier, A History of Science and its Relations with Philosophy and Religion, 4th ed. (Cambridge University Press, 1961), p. 500.
٧  سير تشارلز ليل Lyell (١٧٩٧–١٨٧٥م): جيولوجي بريطاني. (المترجم)
٨  جون كونستابل Constable (١٧٧٦–١٨٣٦م): رسام بريطاني، اشتهر برسم المشاهد الطبيعية. (المترجم)
٩  From Constable’s fourth lecture at the Royal Institution in 1836. See C. R. Leslie, Memoirs of the Life of John Constable, ed. Jonathan Mayne (London: Phaidon, 1951), p. 323.
١٠  E. H. Gombrich, Art and Illusion (New York: Pantheon Books, 1960), p. 34.
١١  Nelson Goodman, Languages of Art (Indianapolis, Ind.: Hackett, 1976), p. 33.
١٢  Ibid., p. 258.
١٣  Ibid., p. 248.
١٤  Ibid., p. 255.
١٥  Nelson Goodman, Ways of Worldmaking (Indianapolis, Ind.: Hackett, 1978), p. 131.
١٦  جملة ذرية atomic sentence: جملة تقريرية تكون صحيحةً أو خطأ ولا يمكن تقسيمها إلى جمل أخرى أبسط؛ مثلًا «جرى الكلب» جملة ذرية، بينما «جرى الكلب واختبأ القط» جملة جزيئية molecular. (المترجم)
١٧  راسل Russell: (١٨٧٢–١٩٨٠م): الفيلسوف البريطاني الشهير. (المترجم)
١٨  ريتشارد رودنر (١٩٢١–١٩٧٩م): كان أستاذًا للفلسفة في جامعة واشنطون. (المترجم)
١٩  بلاك فوريست Black Forest: منطقة جبلية جنوب غرب ألمانيا. (المترجم)
٢٠  Nelson Goodman, Of Mind and other Matters (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1984), pp. 97-8. See Richard Rudner, “Show or Tell: Incoherence Among Symbol Systems,” Erkenntnis, 12 (1978), 129–151, 176–9.
٢١  Goodman, Languages of Art, pp. 28-9.
٢٢  ميشيل بولاني Michael Polanyi (١٨٩١–١٩٧٦م): كيميائي وفيلسوف مجري. (المترجم)
٢٣  Michael Polanyi, Science, Faith, and Society (Chicago: University of Chicago Press, 1996), pp. 50–3.
٢٤  Michael Polanyi, Personal Knowledge (New York: Harper, 1958, 1962), pp. 163-4.
٢٥  Ibid., p. 164.
٢٦  ريتشارد ستانلي بيترز (١٩١٩–٢٠١١م): فيلسوف بريطاني. (المترجم)
٢٧  Ibid., p. 220, and R. S. Peters, Ethics and Education (London: Allen & Unwin, 1966, 1970), chap. 9, p. 239.
٢٨  Polanyi, Personal Knowledge, p. 220.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤