مقدِّمة: موقع ديلي بلانِت دوت كوم

لماذا يجب علينا إنقاذ الصحافة كي تنقذ الصحافة العالم؟

أقنعتني ثلاثة أحداث مررت بها بأن مهنتي قد تغيرت إلى الأبد؛ أولها عندما كنت واقفًا في غرفة الأخبار في المحطة التليفزيونية التي أعمل بها أحاول أن أقرر ما إذا كنت سأعرض على الجمهور سلسلة من الرسوم الكاريكاتورية التي نُشرَت في صحيفة دنماركية وأسفرت عن اندلاع أعمال شغب في أنحاء العالم. كانت هذه معضلة أخلاقية خطيرة أثارت أسئلة عميقة في مجالَي السياسة والتحرير لم يكن ممكنًا الإجابة عنها في الخمس والأربعين دقيقة المتبقية لنا قبل البث المباشر على الهواء. وثانيها، حينما كنت واقفًا على ضفاف النيل برفقة مقدِّم نشرة أخبار القناة الرابعة جون سنو إبَّان فترة الإعداد لقمة «مجموعة الثَّماني» لزعماء العالم في جلنيجلز باسكتلندا في يوليو ٢٠٠٥. وكنا حينها نبثُّ البرنامج على الهواء مباشرة كل ليلة من أوغندا في محاولة لعرض أحداث العالم من المنظور الأفريقي. حملنا أحدث معدات البث الخارجي الخاصة بنا على ظهر شاحنة مسطحة ضخمة إلى مواقع مثل قرية أوغندية نائية، وهناك وجدنا أطفالًا لا يزالون يموتون من الملاريا بسبب عدم توافر شيء رخيص مثل الناموسيات المكافِحة للبعوض. وكنت قد اضْطُرِرْتُ فَوْرَ وُصولي من أفريقيا هذا الأسبوع إلى الإسراع إلى الاستوديو من أجل المساهمة في إعداد برنامج مطول يتناول في الأساس تفجيرات لندن التي قام بها مجموعة من المسلمين المولَّدين في بريطانيا. كانت الحافلة المحطمة ومحطات مترو الأنفاق التي تنبعث منها رائحة الدخَان جميعها على بُعد دقائق من محل إقامتي وعملي. ثلاثة أحداث: سلسلة الرسوم الكاريكاتورية، وأفريقيا، وتفجيرات لندن؛ ثلاثة أحداث تشابكت بأصداء قوية وبطريقة ما. شيء ما أخبرني أن هذه الأخبار والطريقة التي كنا نقدمها بها كانت مختلفة تمام الاختلاف عن أي شيء آخر كان ممكنًا أو متوقعًا حتى منذ بضع سنوات. عندما انضممت إلى فريق عمل نشرة أخبار القناة الرابعة المملوكة لهيئة التليفزيون المستقل عام ١٩٩٩ لم يكن لدى غرفة الأخبار سوى جهازَي كمبيوتر متصلين بالإنترنت وكانت الهواتف المحمولة لا تزال قليلة الاستخدام، وعندما غادرتها لإنشاء مؤسسة بحثية صحفية جديدة بكلية لندن للاقتصاد عام ٢٠٠٦ باتت هذه الأدوات هي الأدوات الأساسية لكل صحفي، حتى أولئك الذين التقيتهم في أوغندا. لكن الأهم من تغيُّر التكنولوجيا كان التكالب الجديد على المشاركة والاتصال الذي لاحظته. كنت على قناعة بأن الصحافة كانت بصدد «نقطة تحول»، وهذا الكتاب بمنزلة بيان يعرض آرائي عن وسائل الإعلام بصفتي صحفيًّا بل وأيضًا بصفتي مواطنًا في هذا العالم. يسمع الصحفيون على الدوام أن وسائل الإعلام الإخبارية تتمتع بقوة هائلة لتشكيل المجتمع والأحداث، ولتغيير الحَيَوَات والتاريخ، إذن فلماذا نحن كمجتمع غير مكترثين لمستقبل الصحافة نفسها؟

من الصعب جدًّا أن تكون لدينا نظرة حيادية عن وسائل الإعلام الإخبارية؛ فالعاملون فيها ميالون إلى تكوين آراء مبالغ فيها عن حالة مجال الإعلام بناء على تطلعاتهم وتجارِبهم؛ فهم ينظرون إلى الأمور من منظور قطاع معيَّن في مهنتهم: كالإذاعة، أو الطباعة، أو الصحافة الإلكترونية. هذا إلى جانب التحيز لموضوع تخصصهم: السياسة، أو الفنون، أو الرياضة، أو الشئون الخارجية. والصحفي دائمًا ما يعكس توجهات عصره: فهناك عصر التليفزيون الذهبي الذي تميَّز بوفرة الموارد في سبعينيات القرن العشرين، أو عصر ازدهار صحف التابلويد المصغرة في ثمانينيات القرن العشرين، أو عصر المثالية الريادية للإنترنت في تسعينيات نفس القرن، وبأي منطق يمكن مقارنة تجربة صحفي يعمل في موقع إخباري بمدينة سياتل بتجربة الصحفية جاليما بوخاربيفا بأوزباكستان، مثلًا، وهي تحاول نقل تقرير عن مجزرة أنديجان؟1 من المفترض أن يجدَّ الصحفيون في طلب الحيادية، ومع ذلك إذا سألتهم عن حياتهم في العمل ومجالهم، عادة ما ستجد آراء متحيزة تعَبِّر عن وجهة نظر شخصية؛ بل وقد يكون رأيهم مبتذلًا وعاطفيًّا.

إذن لماذا لا نلجأ إلى الأشخاص الذين يتعامل الصحفيون معهم: الساسة والمعلنين والخبراء؟ أو حتى لماذا لا نلجأ إلى أولئك الأشخاص الذين يهتم الصحفيون بهم دائمًا ولكن قلَّما يلتقونهم: القرَّاء، أو المشاهدين، أو المستمعين. كل هذه الفئات لديها آراء قوية للغاية وذاتية بشكل مذهل عن وسائل الإعلام الإخبارية؛ مما يجعل آراء الصحفي العادي تبدو كما لو كانت سيلًا من الأفكار الحيادية والمدروسة التي لا تشوبها شائبة. وبصفة عامَّة، يميل العامَّة أو الجماهير إلى الحكم على وسائل الإعلام الإخبارية بناء على آخر شيء تابعوه في الإعلام أو آخر تجرِبة لهم مع وسائل الإعلام الإخبارية. هكذا ينزِع القارئ إلى أن يبديَ رأيَه عن وسائل الإعلام الإخبارية بِناء على الصحيفة أو المجلة التي يقرؤها (أو الصحف الكريهة التي يستحيل أن يقرأها تحت أي ظرف). في حين أن المصرفيين أو الساسة أو أصحاب المحال أو الفنانين يميلون إلى الحكم على وسائل الإعلام الإخبارية بِناء على الطريقة التي يتناول بها الإعلام عملهم؛ وعليه يُصاب الخبير الرأسمالي بالإحباط من فشل الصحفي في فهم الأسباب التي تجعل أرباحهم الفلكية تخدم الصالح العام للاقتصاد، ولا يفهم تاجر التجزئة عدم قدرة الصحفي على تأييد مبدأ «الشراء على مسئولية المشتري»، ويحنق الفنانون على رغبة النقاد الشخصية في الانتقام وخشونة ذوقهم؛ فهم لا يستطيعون تذوُّق الطبيعة الثورية بحق لأعمالهم. أما عن الساسة، فمن المفارقة أنهم يحتقرون ويحنقون على عمل وسائل الإعلام الإخبارية، وفي الوقت نفسه يدركون تقاربهم مع الإعلاميين؛ فالسياسيون والصحفيون المتوسطو الكفاءة يتشاركون في ضيق وقتهم، وفي أخلاقياتهم القابلة للتغير لتناسب جميع الأجواء، وفي علاقتهم التي تتأرجح بين الحب والبغض مع العامَّة والسلطة والحقيقة.

وعليه، أخشى أن دور الصحفي هذه المرة هو محاولة فهم ماذا يحدث لوسائل الإعلام الإخبارية. أنا لست أدعي الحيادية أبدًا؛ فأنا حتى لا أملكها كصحفي، لكنني أَجِدُّ في طلب النزاهة وتحري الدقة والشمولية، وأرفض التظاهر بأنني شخص عديم الأهمية ومجرد وسيط حيادي تمر من خلاله الحقائق والآراء بانسيابية إلى العامَّة؛ لذا دعوني أشرح باختصار أساس تقييمي للصحافة ومستقبلها. كما سيتضح فيما بعد، لا يقدِّم هذا الكتاب تاريخًا للصحافة، ولا يحاول فحص حالتها الراهنة باستفاضة؛ فهذه مهمة أشبه بالكتابة على الماء في الوقت الحالي. بلا ريب يشكل الماضي والحاضر الصحافة ومستقبلها بالمثل، لكن ما أود فهمه هو القوى التحريرية التي تخلق حاليًّا ما أُصرُّ على تسميته صحافة «جيدة»، وعندما نتحدث عن الصحافة المعاصرة فإننا نقصد فعليًّا الصحافة الرقمية؛ فهذا الكتاب هو بالرغم من كل شيء مقال عن سياسة الصحافة، وتأثيرها، وقدرتها على تسيير حدوث التغيير. والدافع وراء كتابته هو قناعة بأن الصحافة الآن تعاصر لحظة فريدة في تاريخ البشرية.

في هذا السياق، أعتبر هذه الحقائق عن الصحافة بديهية:
  • تتوافر معلومات إخبارية وتنتشر الصحافة بغزارة أكثر من أي وقت مضى.

  • لدى الصحفيين موارد تمكِّنهم من الوصول إلى الأشخاص في أي وقت وفي أي مكان وفي كل الأنحاء أكثر من أي وقت مضى، والجمهور لديه قدرة غير مسبوقة للوصول إلى وسائل الإعلام الإخبارية.

  • أصبحت الصحافة ضرورية لسير حياتنا كأفراد ومجتمعات وللإدارة الناجحة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العالمية أكثر من أي وقت مضى.

  • توجد فرص تكنولوجية وتعليمية واقتصادية لحدوث توسع هائل لتأثير الصحافة ولأن يكون هذا التأثير نافعًا.

إن هذه المجموعة المتفائلة من الادعاءات تتعلق في المقام الأول بالتقنيات الجديدة، وإن كانت تتعلق أيضًا باتجاهات عالمية أخرى مثل التحرر السياسي وتحرر السوق، ونمو التعليم، وتحرير فئات مجتمعية كالمرأة. كل هذا ساهم في حدوث توسع غير مسبوق لوسائل إعلام إخبارية حرة «نسبيًّا» حول العالم، ومع كل المعوقات التي يجابهها صحفيون في أماكن مثل روسيا أو أوغندا، فإن الوضع الراهن لوسائل الإعلام الإخبارية حول العالم ولنشر المعلومات المحلية يظل أفضل مما كان عليه في الماضي، والأهم هو أن الفرص أعظم بكثير. بَيْد أننا نعيش لحظة خطيرة؛ فالوفرة الحالية لوسائل الإعلام الإخبارية ليست حتمية، وليس هناك ما يضمن أن هذه الحالة النافعة نسبيًّا سوف تستمر أو تظل قائمة. لا يوجد شيء حتمي بشأن المنافع التي ستنهال علينا منها، بل العكس هو الصحيح؛ فثمة تهديدات هائلة تواجه جودة وسائل الإعلام الإخبارية وإمكانياتها، فقِيَم الانفتاح والتعددية والجودة جميعها مثيرة للجدل وقابلة للنزاع. أحيانًا ما تأتي هذه التهديدات من مصادر مألوفة مثل عمليات إضفاء الطابع التجاري أو السلطوية السياسية، وأحيانًا أخرى تتمثل التهديدات في مواجهة مشكلات جديدة مثل تفتت الجمهور الذي يأتي في أعقاب توفر إمكانية الاختيار. لكنني لا أرى أن التبرم من انقضاء عصر ذهبي وهمي للصحافة المتفانية في معايير الجودة يطرح نقدًا وافيًا للصحافة اليوم. مخاوفي أساسها السياسة وليس الحنين إلى الماضي. وأومن بشدة بأنه في خِضَمِّ التهافت على التطور الرقمي للصحافة، يتعيَّن علينا أن نحافظ على القيم التي تدعم الصحافة الحرة كجزء ناجح من مجتمع مزدهر، فلا ينبغي أن نسمح للخوف بأن يشكل المستقبل.

الصحافة مهمة؛ فنحن نعيش في عالم أكثر ترابطًا أصبحت المعلومات فيه أكثر أهمية لحياتنا من أي وقت مضى، والصحافة هي المسئولة عن نقل هذه المعلومات، وهي توفِّر لنا فرصة مناقشة أهميتها. من الصعب دائمًا تحديد لحظات بعينها أو تقديم وصف تفصيلي لمواقف محددة شهدت تحويل الصحافة لمجرى الأحداث بدلًا من الاكتفاء بروايتها. يكاد يكون مستحيلًا فصل تأثير الإعلام عن الظروف العامَّة للأحداث. على سبيل المثال، فشل الإعلام على ما يبدو في فضح ضعف المعلومات الاستخباراتية التي ساندت قضية بوش وتوني بلير في حربهما على العراق. أكان هذا يرجع إلى أن الإعلام كان واهنًا أو غير كفء أو مخدوعًا؟ نحن ندرك دون شك أنه لو كان الإعلام قد فضح هشاشة هذه القضية وتحيُّزها في وقت سابق، لصار لدينا سيناريو سياسي مختلف تمامًا وربما تسلسل أحداث مختلف. إن الفكرة التي أرمي إلى توضيحها هي أنه على الرغم من صعوبة القياس، فمن الصعب إنكار أهمية الإعلام المتزايدة في الأحداث العالمية.

ومع ذلك، ففي الوقت نفسه تخضع الصحافة نفسها إلى تغيرات عميقة لأسباب اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية. ويتيح بعض من هذه التغيرات فرصة للصحافة للقيام بما هو أكثر من ذلك بكثير، بل وفي الواقع، تقدِّم هذه التغيرات الفرصة لظهور نوع جديد تمامًا من الصحافة. سألخص في هذا الكتاب ما أطلق عليه «الصحافة الشبكية»، وهي طريقة جديدة لممارسة الصحافة تزداد وضوحًا بالفعل. إن هذا النوع من الصحافة ما هو إلا انعكاس لوقائع ظهرت حديثًا، لكنه أيضًا فرصة لتغيير أخلاقيات الصحافة وفعاليتها على حدٍّ سواء. تتيح الصحافة الشبكية الفرصة لوسائل الإعلام الإخبارية لتعزيز دورها في المجتمع. هي اعتراف بأن الصحفيين المهنيين العاديين لا بد أن يتشاركوا عملية الإنتاج نفسها. تشمل الصحافة الشبكية صحافة المواطن والتفاعلية والبرامج مفتوحة المصادر وبرامج الويكي والمدوَّنات ووسائط التواصل الاجتماعية، ليست في صورة ملحقات وإنما كجزء أساسي من إنتاج الأخبار وتوزيعها نفسه. أرى أنه يمكننا من خلال تغيير الطريقة التي يعمل بها الصحفيون والطريقة التي يرتبطون من خلالها بالمجتمع أن ندعم الصحافة «الجيدة»، ويمكن للصحافة بدورها أن تكون قوة أعظم لنشر الخير. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تجتاز بها الصحافة العاصفة الآتية. حتى في وقت البحبوحة هذا ثمة علامات على تغير في المناخ، وبالفعل قد انقشع الضباب وبدأنا نرى بوضوح أن المستقبل القريب يجلب معه مخاطر كثيرة على الصحافة الجيدة، وهي مخاطر اجتماعية وسياسية وثقافية وتجارية.

إنها أزمة «بيئية» يضاهيها البعض بمخاطر ملموسة كالتغير المناخي:
أريد تعزيز فكرة الإعلام كبيئة؛ بيئة توفر عند أكثر المستويات الأساسية الموارد التي نحتاجها كلنا لإدارة الحياة اليومية. يترتب على هذا أن مثل هذه البيئة ربما تكون ملوثة أو تصير ملوثة، وربما لا تكون ملوثة أو لا تصير ملوثة. (أستاذ روجر سيلفرستون، «الإعلام والأخلاقية»)2

ما كان يشير إليه سيلفرستون هنا هو أن الصحافة يمكن أن تكون عاملًا محفزًا على الإصلاح في حياتنا يساعدنا على التعامل مع الكثير من مشكلات العالم، مثل الاحترار العالمي، ولكن قد تصبح هي نفسها ضحية التطورات التي يمكن أن توهن قدرتها على نقل التغير. إن سوء الفهم السائد بين الأشخاص الآن هو الأكثر خطورة على الإطلاق.

وعلى مستوى العالم يبدي مجال عمل وسائل الإعلام الإخبارية، الذي يبدو في ظاهره مزدهرًا، أمارات الاعتلال. بعض أعراض هذا الاعتلال واضحة؛ منها انحسار صناعة الصحافة في البلدان المتقدمة؛ وتركُّز ملكية وسائل الإعلام السائدة في الغرب؛ والسهولة المتزايدة التي بها يتحكم الجميع — بدءًا من مديري «جوجل» ووصولًا إلى الساسة الصينيين — في الإنترنت؛ وهناك أدلة على أن الأنظمة القمعية والقوات المناوئة للديمقراطية — بدءًا من المافيا الروسية ووصولًا إلى المتطرفين الإسلاميين — ينجحون بشدة في قمع حرية التعبير، وأي نوع من الصحافة هو الذي ننتجه بمثل هذه الوفرة؟ هل عالم صحافة الإنترنت يتجه إلى التمحور حول صحافة المواطن أم حول الأفلام الإباحية التي يصنعها الهواة؟

أرى أنه لا يزال أمامنا خمس سنوات — وربما عشرٌ — لإنقاذ الصحافة، بحيث يمكن للصحافة أن تنقذ العالم بدورها. بالتأكيد سوف يتناول الساسة وعامة الناس، لا الصحفيون، في النهاية قضايا مثل التغير المناخي والصراعات بين الأديان. لكن تخيَّل عالمًا نحاول فيه أداء أي فعل ذي عواقب كبيرة «دون» وسائل إعلام إخبارية موثوق بها وتتمتع بالشفافية. تخيَّل قضية مثل قضية ارتفاع درجة حرارة كوكبنا بكل تعقيداتها وطبيعتها العالمية في جوهرها. ثم فكِّر كيف سيكون من الأسهل التعامل معها إن كان لدينا صحافة شبكية تتبنى ميثاقًا جديدًا قائمًا على التبادل مع «جمهور» تفاعلي عالمي. هذه هي رؤيتي عن نوع الصحافة المناسب لهذا القرن. أفطن جيدًا إلى الوقائع الدنيئة للصحافة، سواء كانت في غرفة أخبار متطورة في لندن أو في قرية أفريقية أو في مدن الهند الكبيرة، بَيْدَ أنني أفطن أيضًا إلى أن الصحافة تقدِّم أملًا كبيرًا لكل تلك الأماكن.

سوف يطرح هذا الكتاب في المقام الأول سبيلًا لفهم موقعنا الحالي؛ فعلى غرار المسافرين في الريف نحن نألف البيئة المحيطة بنا مباشرة. لكن فيما تزيد سرعة خطى رحلتنا يكون من الأصعب رؤية المعالم الدقيقة للصحافة. تتحرك الأرض من تحت أقدامنا وسرعان ما سنجد أنفسنا في بلدة غريبة. لا أستطيع وصف كل شيء، لكنني أود الإشارة إلى أننا اجتزنا الآن المرحلة الأولى من قبول الإعلام الجديد، وسوف أتناول نهجًا يقوم على مبدأ فكري بشكل أكبر لوصف الكيفية التي تغيرت بها أنماط نظم العمل والصحافة. وفيما أتناول المنظور الغربي3 أود الإشارة إلى الكيفية التي تواجه بها أجزاء أخرى من العالم أيضًا تغيرات مفاجئة هائلة؛ لأنني أومن بأن الصحافة الشبكية هي في نهاية المطاف في غاية الأهمية عندما يُنظر إليها على أنها مفهوم عالمي من شأنه أن يقدِّم نموذجًا جديدًا للصحافة العالمية.

إن مِفتاح فهم إمكانية هذا التغيير، بالإضافة إلى عملية التغيير، هو فكرة الصحافة الشبكية التي نتناولها، وهي تصير بالفعل حقيقة من حقائق الحياة، ليس فقط في غرف الأخبار التي تحولت إلى غرف رقمية في الغرب، وإنما أيضًا في كل أنحاء العالم؛ فالوقائع التكنولوجية الجديدة مثل الهواتف المحمولة والقوى مثل قوة التحرر السياسي تمنح الجماهير دورًا أعظم في نقل أخبار عوالمهم. كذلك سأوضح من جديد الكيفية التي يتغير بها جوهر طبيعة الصحافة؛ إذ ليست هذه هي المرة الأولى التي تتغير فيها الطريقة التي ننقل بها الأحداث ونحللها ونعلق عليها. كثيرًا ما تقود التكنولوجيا هذه اللحظات المميزة؛ فالطباعة والتلغراف والإرسال الهاتفي والتليفزيون والأقمار الصناعية، والآن الإنترنت، كلها غيرت الطريقة التي تُمارَس بها الصحافة، لكن الأمر يتعلق أيضًا بجمهور أكثر جرأة وأوسع اطلاعًا. لا أعرف هل هذا تغير ثقافيٌّ أشبه بحركة الإصلاح البروتستانتي أو عصر التنوير. لكن يتراءى لي أن عالمًا متعدد المعتقدات في عصر ما بعد الحداثة وما بعد الثورة الصناعية يقتضي نوعًا مختلفًا من الفهم يتدفق إليه من خلال وسائل الإعلام الإخبارية.

الصحافة الشبكية هي وصف ومطمح؛ فهي تعيد التأكيد على قيمة المهام الجوهرية للصحافة، وتشيد بضرورة الصحافة ومنفعتها العامَّة التي لا يمكن إنكارها. إلا أنها تتشبث بعملية متطورة وإمكانيات واعدة جديدة. تشير الصحافة الشبكية إلى نوع من الصحافة فيه تنكسر عَمْدًا فُروق الماضي الصارمة بين المهني والهاوي، وبين المُنتِج والمُنتَج، وبين الجمهور والمشاركين، وهي تعتنق مفاهيم النفاذية وتعدد الأبعاد. هي أيضًا طريقة لِرَتْق الصَّدْع الدلالي ما بين «الإعلام التقليدي» و«الإعلام الجديد». سوف أستمر في هذا الكتاب في الإشارة إلى «الإعلام الجديد» و«الإعلام التقليدي» باعتبارهما طريقة نافعة لوصف القوى التي تشكل صناعة الصحافة. لكن في حقيقة الأمر، كما قال توم أرميتاج،4 المصطلح الأفضل هو «الإعلام القادم»؛ لأن الجميع سيستخدم التكنولوجيات «الجديدة» في لحظة ما قريبًا. الصحافة الشبكية هي مصطلح عامٌّ يُستخدَم للإشارة إلى أنواع كثيرة من الممارسات الإعلامية الأكثر ترابطًا، لكن لن ينطبق مفهوم التشابك على جميع صور الصحافة؛ فبعض «الهواة» سيظلون دون تزحزح ضمن فئة منعزلة عن «المهنيين»، وسُيلاحظ أن الكثير من وسائل الإعلام الإخبارية لم تتغير نسبيًّا. إلا أن الطريقة التي تخلق بها التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية جماهير وطرق توزيع ومجتمعات جديدة تتطلب نهجًا جديدًا، والصحافة الشبكية هي واحدة من طرق وصفها وممارستها.

الدليل الأخير على أهمية الصحافة الشبكية نجده في عالم السياسة، فسوف أفحص تأثير الإعلام الجديد في التغطية السياسية، وأرى إن كان للصحافة الشبكية أي تأثير على الطريقة التي نتفهم بها كيفية التعبير عن السلطة. وسوف أتناول تحديدًا آخر ما وصلت إليه الحرب بين النشطاء السياسيين «الذين يعبِّرون عن آرائهم عبر شبكة الإنترنت»، والصحفيين، والساسة في الولايات المتحدة. بعدها سأتناول عالم المدوِّنين السياسيين في وستمنستر البريطانية، وهو عالم مُسْتَعِرٌ إلى حد استثنائي، وإن كنتُ أَرُوم أيضًا فَحْص كون الصحافة الشبكية والتكنولوجيا الجديدة يقدمان نموذجًا جديدًا للإعلام في أماكن مثل أفريقيا، التي عادة ما يُنظر إليها على أنها لا تزال متعثرة في طريق تطوير أسواق إعلامية تقليدية. بالتأكيد ما نتناوله ها هنا هو تعريف ضيق نسبيًّا للسياسة يقصر تناولها على منظورَيِ الصحافة والحكم. وثمة أيضًا مخطط عمل أكبر للإعلام والمشاركة المدنية لا بد أن تتفاعل معه أيضًا صحافة المستقبل.

لا تواجه الصحافة تحدِّيًا عالميًّا أكبر من تحدي قدرتها على التعامل مع أخبار الإرهاب والمجتمع المعقدة، وليس المرء مضطرًا إلى الاعتقاد في أفكار صراع الحضارات بالغة التبسيط كي يتفهم أن الأفكار تتمتع الآن بنفس قوة الاقتصاد في إثارة الصراعات والخصومات. ما تأثير الصحافة وهي تكافح للتعامل مع هذه الموضوعات شديدة الصعوبة؟ ومع تزايد تحول المنتديات الرقمية إلى وسيط يعبِّر عن هذه القوى، أيمكن للصحافة الشبكية أن تطرح اتفاقًا جديدًا بين مختلف الثقافات، وبالمثل أيضًا بين الصحفي والجمهور؟

تقدِّم الصحافة الشبكية حلًّا لتحدٍّ آخر يجابِه الصحافة، فإذا أرادت وسائل الإعلام الإخبارية التمتع بالقدرة على نقل هذه النقاشات المتنوعة وفهم هذه الأخبار الجديدة، فلا بد أن تكون هي ذاتها أكثر تنوعًا. أقصد بهذا نوعية الأشخاص الذين يعملون في الصحافة وطبقاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم العرقية وخلفياتهم. وأقصد أيضًا المناهج المختلفة التي ينهجونها وتنوُّع الأساليب والموضوعات والأخبار التي يقدمونها. ثمة نقص في التنوع في الصحافة في الوقت الحالي. يحدث هذا في وقت يشهد تحسُّن مستويات التعليم وسهولة الدخول عبر الإنترنت إلى منصات الاتصالات؛ ما يدفعنا إلى افتراض كون وسائل الإعلام الإخبارية أكثر تنوعًا من أي وقت مضى، وبدلًا من ذلك هي تهدد بأن تكون هزيلة ومهلهلة عوضًا عن أن تكون تعددية وغنية بالموضوعات. هذا بالإضافة إلى وجود مشكلة تتعلق بتنوع الأشخاص العاملين بالصحافة. هناك أيضًا مشكلة تزايد صور الصحافة النمطية التي لا تنطوي على إتقان أو إبداع، ويعود أحد أسباب هذا إلى الضغوط التكنولوجية والاقتصادية. تقدِّم الصحافة الشبكية تنوعًا أكبر في المحتوى والمنتجين إذا أُمعن النظر فيها بشكل صحيح وخلَّاق.

وأخيرًا أود أن أعيد تقييم فكرة «محو الأمية الإعلامية»، فلا أمل في الصحافة الشبكية إذا كان الممارسون والعامة غير مؤهلين للمهمة. يتعلق هذا جزئيًّا بمهارات الصحفي، وفي حين يشكِّل ذلك قضية كبيرة في الاقتصادات الأقل نموًّا والمجتمعات المدنية الأقل تطورًا بشكل خاص، فإن الحاجة إلى المزيد من الثقيف الإعلامي هي حاجة عالمية. إن تحول الصحافة الشبكية إلى واقع في «أي مكان» أمر متوقف على الجماهير؛ فالأمر يتوقف على تزويد الناس — المعروفين مسبقًا باسم الجمهور — بالمهارات والموارد ليشاركوا في العملية، وتعليمهم الطريقة التي يشاركون بها في وسائل الإعلام الإخبارية، وفهم آلية عملها. وهو أمر يتجاوز المهام العملية التي يتناولها مجال الدراسات الإعلامية؛ إذ يتعلق أيضًا بمنح الأشخاص الموارد التي تساعدهم على تبنِّي تفاعل نقدي مع الصحافة، وهي أيضًا تثقيف سياسي. يحتاج الصحفيون والجماهير إلى امتلاك فكرة عامَّة عن واجباتهم وحقوقهم كذلك. أخيرًا أومن بشدة بأن الصحفيين — بمن فيهم الصحفيون العاملون بالصحافة الشبكية — لا بد أن تكون لديهم فكرة عما هو حيادي وما هو حق. يشير هذا إلى أنه فيما يصيرون أكثر اندماجًا في المجتمع من خلال عملية الصحافة لا بد أن يحتكموا في النهاية وفي داخلهم إلى أخلاقيات عملهم. سيكون هذا توازنًا صعب التحقيق بشدة، بل وسيكون من الأصعب جدًّا تعريف الحدود ووضع قواعد السلوك المهني. في النهاية، ليس أمام الصحفيين خيار؛ فسوف يصير عملهم أكثر تشابكًا شاءوا أم أبَوْا. إن مهمتنا كممارسين إعلاميين هي التفكير برويَّة في العواقب، والكدُّ في العمل، والعمل على نحو أكثر إبداعية من أجل استغلال الفرص. هكذا يدرك الجماهير والساسة والصحفيون الدور الكامن لوسائل الإعلام الرقمية في تعزيز الحكم الجيد والتطور الحسن في كل أنحاء العالم. عندئذٍ سيكون لدينا إعلام يتمتع بقوًى «خارقة». لكن قبل أن تستطيع الصحافة أن تنقذ العالم، علينا أن ننقذ الصحافة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤