الفصل الرابع

الحيوانات والإنسان: تطور الصفات البشرية

رأينا في الفصل السابق أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بين الرؤية لدى الحيوانات — التي تُعد الرؤية مكونًا أساسيًّا في قدرتها على السعي — وعمليةِ استشعار الجراثيم والنباتات للضوء. يوجد تطابُق بين بعض المستقبِلات الضوئية، كما أن البروتينات التي تحوِّل تأثير الضوء إلى إشارة تؤدي إلى نمو مختلف (في حالة النباتات) أو إلى حركة مختلفة (في حالة الجراثيم) تَنتمي إلى فصائل البروتينات التي توجد أيضًا لدى الحيوانات. في حالة البكتيريا، تمكِّنها بعض هذه البروتينات من البحث عن الطعام بالإضافة إلى الضوء، أما لدى الحيوانات فتلعب دورًا في عمليات مثل توصيل الأعصاب التي لها دور محوري في سلوكها. باختصار، إن الجينات التي تحدِّد شفرة مثل هذه البروتينات «المستشعرة» انتقلت بالوراثة من الجراثيم المبكِّرة حتى وصلت إلى الإنسان. على مستوى الجزيئات تَعمل البروتينات على النحو نفسه، وتتفاوَت نتائج أفعالها من كائن لآخر؛ فتتمثَّل لدى النباتات في البحث عن الضوء، ولدى الجراثيم في البحث عن العناصر الغذائية وتجنب الجزيئات الضارة، ولدى الحيوانات في رؤية الأشياء الموجودة حولها.

مع هذا، لا تعتبر الرؤية إحدى السمات التي تميز البشر عن الشمبانزي. في هذا الفصل سنعود إلى هذه الصفات التي تميِّزهما، والتي ترتكز عليها قدرة الإنسان الفريدة على البحث: المشية المنتصبة، واليد السلسة الحركة، والقدرة على الكلام، وعدد أكبر من العصبونات في القشرة الدماغية. وأريد في البداية لفت الانتباه إلى عادات الهجرة لدى الحيوانات؛ فقد أدَّت هذه العادات إلى انتشار البشر في جميع أنحاء العالم، وهو موضوع سنتحدَّث عنه في الفصل التالي.

(١) الهجرة

تتطلَّب الهجرة بحثًا، فتستطيع الحيوانات التنقل والبحث، فرادى أو في جماعات، عن مصادر جديدة للطعام والماء عندما تنفد الموارد الحالية أو تضمحلُّ؛ فيبحث الجراد عن أرض جديدة بمجرد قضائه على النباتات الموجودة في مِنطقة ما؛ فبسرْبٍ يصل إلى ٤٠ مليار جرادة يُمكن القضاء على ١٠٠ ألف طنٍّ من الطعام في هجمة واحدة. أما حيوان الرنة في القطب الشمالي أو الظبي الأفريقي١ في أفريقيا فلا ينتظران كل هذا الوقت؛ فهي تنتقل طوال الوقت. تؤدِّي عادةً الظروف المُناخية إلى العودة إلى أرض مألوفة، فيتكاثر الظبي الأفريقي بالقرب من بِرَك الماء في سيرينجيتي في شرق أفريقيا الاستوائي (في جنوب شرق تنزانيا) في الفترة من ديسمبر إلى أبريل، ومع جفاف البِرَك، تتجه إلى الشمال الغربي نحو بحيرة فيكتوريا؛ حيث تظلُّ هناك حتى شهر يوليو، ثم ترتحل بعد هذا إلى الشمال الشرقي إلى حدود كينيا حيث تَنتظر أول هطول للأمطار، وفي شهر نوفمبر تكون مستعدة لبدء رحلة عودتها إلى الجنوب. تتبع الحَمير الوحشية وغزال طومسون والفِيَلة والأسود وحيوانات أخرى توجد في مِنطقة سيرينجيتي استراتيجيات مُشابهة عندما تنضب بِرَك الماء في نهاية أحد المواسم وتَمتلئ مرةً أخرى في بداية موسم آخر. في نصف الكرة الشمالي والجنوبي، تحدث الهجرات نتيجة حلول الخريف والربيع؛ فالحوت الرَّمادي، على سبيل المثال، يسبح ١٢ ألف ميل من مياه القطب الشمالي في ألاسكا، ليصل إلى حافة ولاية باها كاليفورنيا ليتكاثَر في المياه الدافئة لخليج المكسيك في أثناء أشهر الخريف، وفي رحلة العودة في الربيع تكون الإناث حوامل، ولا يلدْنَ إلا عند عودتهنَّ إلى المياه الدافئة في العام التالي (تستغرق فترة الحمل ١٣ شهرًا). تهاجر أنواعٌ كثيرة من الطيور إلى الجنوب حتى تتجنب المُناخ الشمالي البارد في فصل الشتاء (وتفعل طيور نصف الكرة الجنوبي العكس)؛ فيسافر بعضها، مثل طيور السنونو والسمامة، من أوروبا إلى جنوب أفريقيا في الخريف وتعود في الربيع. هذا وتفعل طيور الخرشنة القطبية الأمر نفسه؛ إذ تطير أكثر من ١٢ ألف ميل في كل مرة تذهب فيها من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي والعكس، أما طيور أخرى، مثل الكُرْكيِّ والوَقْواق، فلا تطير المسافة كلها؛ فتقضي الشتاء في مناطق معتدلة في جنوب أوروبا أو شمال أفريقيا. تُواصل بعض الطيور الطيران لفترة قد تزيد عن العام، وتستطيع طيور السمامة قضاء عامين وهي تحلِّق في الهواء، كما يُعرف طائر القطرس بقدرته على الطيران ٢٠٠ ألف ميل بمتوسط سرعة ٤٠ ميلًا في الساعة.٢
تهاجر الحشرات أيضًا؛ وتُعتبَر الفراشة الملكية أحد الأنواع التي تطير أبعد من معظم الأنواع الأخرى، تقضي هذه الفراشة البرتقالية اللون المخططة باللون الأسود فصل الصيف في كندا، في تورونتو الملكية، التي اشتُق منها اسمها؛ إذ سمَّاها المستعمرون الاسكتلنديون المشيخيون على اسم ملكهم المفضل؛ الملك ويليام البروتستانتي من أورانج. تعمدتُ أن أقول فصل الصيف وليس فصول الصيف؛ هذا لأنها لا تعيش إلا لفصل واحد فقط، فمع دخول ليالي الخريف تترك الفراشة الشابة كندا وتبدأ في هجرة طويلة نحو الجنوب، إلى غابات الصَّنَوْبر على طول جبال سان أندريس في ولاية ميتشواكان في المكسيك، التي تبعُد ٣ آلاف ميل.٣ تعرف الفراشة الاتجاهات عن طريق استخدام بوصلة مِغناطيسية داخلية وتتبع الشمس، وتطير مسافة تصل إلى ١٠٠ ميل في اليوم؛ ونظرًا لكون هذه رحلتها الأولى، يكون عليها العثور على المكان الذي ستقضي فيه الشتاء إلى حدٍّ كبير بالغريزة فقط. ومع اقترابها من الغابات، تبدأ البحث عن أعضاء آخرين من نوعها، وتعثُر عليهم، فتجد نحو ٥٠ مليونًا من نوعها، كلها تَقضي الشتاء في هذا المكان وهي مُلتصقة على لحاء أشجار الصَّنَوْبر في نوع من السُّبات الشتوي، حيث تتوقف عن تناول الطعام. عند حلول شهر فبراير تبدأ رحلة عودتها إلى الشمال. ستكون هذه الفراشات قد تزاوجت في طريقها إلى الجنوب، وتَحمل كل أنثى الآن ما يصل إلى ٤٠٠ بيضة، عند وصولها إلى تكساس، يبدأ أهم بحث على الإطلاق؛ فعليها أن تعثر على نبات حشيشة اللبن، الذي ستضع فيه بيضها. إنَّ أوراق هذا النبات هي المكان الوحيد الذي سينمو فيه البيض ليُصبح يرقات. تُواصل الفراشات رحلتها إلى الشمال، وتضع البيض أينما عثرت على حشيشة اللبن بين مروج الربيع؛ ففي شمال تورونتو تموت حشيشة اللبن، ويضع هذا حدًّا لسفر هذه الفراشة المبهرة، لكنها على أيِّ حال أصبحت في نهاية حياتها؛ فقد أتعبتها الرحلات الطويلة من المكسيك وإليها، فتسقط ضحية لأي مُفترس يهجم عليها. أما بالنسبة لذريتها، فرحلتها على وشك أن تبدأ؛ فبمجرَّد أن تفقس تتغذى اليرقات على أوراق حشيشة اللبن، وتتحول في النهاية إلى فراشات. وتبدأ هذه الفراشات وقتئذٍ الرحلة إلى تورونتو في الشمال، وتتكرَّر دورة الهجرة.
تقدم لنا هجرة العوالق من إحدى طبقات المحيط إلى أخرى وفقًا لنقاء الماء (فهي تستمد طاقتها من ضوء الشمس عبر التمثيل الضوئي)، مثالًا جيدًا على تداخل سلوك النباتات والحيوانات؛ فكل العوالق تهاجر، إلا أن بعضها يُصنف على أنه من النباتات (العوالق النباتية)، بينما توجد أخرى ضمن مملكة الحيوان (العوالق الحيوانية). من ناحية أخرى، يوجد مَن يعتقدون أنه حتى النباتات الأرضية تقوم بنوع من الهجرة من أجل الوصول إلى مواقع إنبات جديدة،٤ ومع ذلك لم يهاجر أي نوع من الحيوانات على نطاق واسع مثل الإنسان؛ فقد جاب العالم بأكمله، فعلى عكس حوت العنبر في المحيط الهادئ، أو الظبي في مِنطقة سيرينجيتي، أو السنونو الذي يطير بين أوروبا وجنوب أفريقيا، لا يهاجر الإنسان لأسباب مُناخية؛ فالفضول يمثِّل حافزه الأساسي. كما توجد دوافع أخرى، مثل الهروب من الاضطهاد والرغبة في تحسين الوضع الاقتصادي. ويدور الفصل التالي حول هذه الأشياء مجتمعة.
ربما تقول إن بعض هذه الهجرات المذكورة لا تُعتبر بحثًا بشكل فعلي؛ لأن الحيوانات مبرمجة مسبقًا، بفعل جيناتها، على الاحتشاد أو السباحة أو الطيران من مكان لآخر في الوقت المناسب. أنا أُورد مثل هذه الاستجابات للظروف البيئية — الدوافع للبحث — على النحو ذاته الذي فسرتُ به استجابات النباتات والجراثيم للحوافز البيئية كأحد أشكال متابعة البحث؛ فالكائنات تسعى لزيادة فرصها في البقاء والتكاثر إلى أقصى حد. في حالة الحيوانات والإنسان، تكون الرؤية قاسمًا مشتركًا.٥ بالإضافة إلى ذلك، يوجد بالتأكيد عنصر البحث النشط في هجرة الحيوانات. أولًا: لا بد أن تكون أسلافها قد توصَّلت إلى الرحلات المناسبة التي تخوضها؛ فتبقى الأنواع التي نجحَت على قيد الحياة، بينما تهلك الأنواع الأخرى. ثانيًا: عند تغير الظروف المُناخية، تستجيب الأنواع المهاجرة وفقًا لهذه التغيرات؛ فتغير استراتيجيتها. ثالثًا: تَعثُر معظم الأنواع المهاجرة على طريق للعودة بالضبط إلى موطنها الأصلي؛ فيعود السنونو إلى الركن نفسه في المنزل الريفي نفسه الذي تركه منذ ٦ أشهر، وتَشتهِر السلاحف بأنها تترك أستراليا، وتسبح إلى كاليفورنيا وتعود منها (مسافة تبلغ ١٥ ألف ميلًا)، ومع ذلك يظلُّ بإمكانها العثور على الشاطئ نفسه الذي تركته منذ ٣٠ سنة.٦ من الصعب تقبُّل فكرة أن آليات تحديد المواقع لديها بمثل هذا المستوى من الدقة؛ فيبدو من المقبول أكثر افتراضُ أن الجزء الأخير من رحلة عودتها يشتمل على عملية بحث نشط عن موطنها السابق. بالطبع، تفشل الحيوانات أحيانًا في العثور عليه؛ إذ تجرفها بعيدًا عن مسارها عاصفة شديدة أو تيار شديد. توجد آليات نسخ في أدمغة الحيوانات؛ تمامًا كما توجد في أدمغتنا، تساعد في تذكر الأنواع التي نجحت في هجرتها بالمكان الذي كانت فيه. ربما تبدأ الذرية في البداية في اتباع والدَيها، لكنها تتذكر أيضًا فيما بعد طريق رحلاتها. ونحن نطلق على هذا اسم الذاكرة؛ تَذكُّر الأماكن والأحداث والأفكار.

لا تنتقل الذاكرة بالطبع إلى الجيل التالي. تقدِّم دراسة حديثة أُجريت في الولايات المتحدة الأمريكية — ليس عن التعرف على وجهات الهجرة، وإنما عن تحديد المفترسات المحتملة — مثالًا جيدًا على حاجة كل جيل إلى التعرف على المفترسات من جديد، تمامًا مثل حاجة أطفال البشر إلى تعلُّم تجنُّب المواقف الخطيرة مثل لمس المواقد الساخنة أو الأشياء الحادة، أو أكل التراب أو شرب المياه غير نظيفة. إنه النظير الحيواني للانتقال الثقافي من الوالد إلى الذرية عبر اللغة. تَمثَّل ما فعله العلماء في مقارنة استجابة حيوان الموظ في حديقة يلوستون الوطنية باستجابة الموظ في ألاسكا. في حديقة يلوستون لم يُعَدْ إدخال المفترِسات الطبيعية، الدب الرَّمادي والذئب، للموظ إلا بعد غياب ٥٠ عامًا، أما في ألاسكا فهذه المُفترِسات توجد باستمرار. واكتشف العلماء أن حيوان الموظ في حديقة يلوستون يزيد احتمال قتله على يد الدب الرَّمادي أو الذئب بخمسين مرة عن ذلك الموجود في ألاسكا؛ فقد نسيَت هذه الحيوانات كيف تتعرَّف على أعدائها. ونظرًا لعدم حدوث أي تغير جيني في مثل هذه الفترة القصيرة من الوقت، مجرد بضعة أجيال، يصبح من الواضح أن الموظ يحتاج إلى تعلم الأخطار التي تمثِّلها المُفترِسات من جديد في كل جيل. لذلك من المحتمل أن تكون المعرفة بشأن طرق الهجرة يتعلمها الصغار من والديهم أو من الحيوانات الأكبر سنًّا، التي ذهبت في الرحلة من قبل؛ فهذه المعرفة ليست فطرية.

(٢) تطور الإنسان

توجد أدلة دامغة على تطور الإنسان من سلفٍ مشترك للقِرَدة العليا؛ فقد رأينا أن ٩٥٪ من تكويننا الجيني هو نفسه الموجود لدى الشمبانزي الحالي. عاش هذا السلف منذ نحو ٦ إلى ٨ ملايين سنة، على الأرجح في مكانٍ ما في أفريقيا؛ فلم يُعثَر على أي بقايا حفرية إلا مؤخَّرًا. ومع ذلك، في عام ٢٠٠١، قرَّر فريق مشترك من فرنسا وكينيا أن العظام التي عثروا عليها في تلال توجن في كينيا، وحدَّدوا تاريخها بأنها ترجع إلى ٦ ملايين سنة، تَنتمي إلى هذا المرشَّح، وأطلقوا على الجنس اسم أورورين وعلى النوع اسم توجنسيس.٧ رغم أن الأورورين توجنسيس هو بالفعل السلف المحتمَل للإنسان، فإن الأدلة على أنه كان أيضًا سلفًا للقردة الأفريقية الحالية أقل قوة. الأمر الذي لا جدال فيه أنه منذ ذلك الوقت تقريبًا بدأت السلالتان اللتان تؤدِّيان إلى الإنسان من ناحية، وإلى الشمبانزي الحالي من ناحية أخرى (بان تروجلوديت وبان بانيسكوس) في الانفصال، وانتهى الحال بانفصال سلالتَي الغوريلا الحديثة والأورانجوتان في وقت مبكِّر؛ فالإنسان أكثر قربًا للشمبانزي من الغوريلا أو الأورانجوتان.

(٢-١) أساليب التأريخ

كيف يُحدَّد عمر قطعة من العظام أو أداة حجرية؟ في حالة البقايا المتحجِّرة يُحدد عادةً تاريخ الطبقات الصخرية المحيطة بها أو الحجر الجيري الذي عُثر على العيِّنة فيه، وليس الحفريات نفسها، فمع ترسُّب الغبار والنباتات الميتة على الأرض، تصبح بعض البقايا الحيوانية متحجِّرة، شريطة ألا يحركها شيء من مكانها، ثم تتكون طبقة جديدة فوقها، وهكذا. يحدث تحجر الحفريات، الذي يحفظ الكائنات النافقة، نتيجةً للأملاح المعدِنية الموجودة في المياه التي تجري فوق سطح الأرض، ومع تبخُّر المياه، تترك وراءها طبقة بلورية تحتفظ بشكل البقايا العضوية مثل العظام. هذا وقد عُثر على معظم حفريات الإنسان الأول على طول مجاري الأنهار أو في كهوف؛ بينما الجُثث التي تُترك في الأراضي المفتوحة لا تظلُّ في مكانها فترة طويلة تسمح لها بالتحجر.

أما البقايا العضوية التي تحتوي على الكربون، مثل الخشب (الذي ربما استُخدم في صنع إحدى الأدوات)، أو الفحم (من الحرائق)، أو العظام (من بقايا الهياكل العظمية)، أو الأصداف (من الحيوانات البحرية والأرضية)، أو الخث (من النباتات السابقة)، فيمكن تحديد تاريخها من خلال قياس نسبة أحد النظائر المشعة للكربون، ويطلق عليه الكربون١٤ ومقارنته بنسبة النظير المستقر الكربون١٢، الموجودة بها.٨ وعندما تكون النباتات والحيوانات على قيد الحياة، فإن نسبة الكربون الموجود في صورة كربون١٤ تعكس النسبة الموجودة في الجو المحيط. يرجع هذا إلى أن محتوى الكربون١٤ في ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء يعادل ثاني أكسيد الكربون الموجود داخل خلايا النباتات والحيوانات الحية. عند نفوق هذه النباتات والحيوانات، يتوقف هذا التوازن وتقلُّ نسبة الكربون١٤ تدريجيًّا مع تحلُّل النظير المشع؛ فكلما قلت نسبة الكربون١٤ الموجودة، زادت الفترة التي مرت على وفاته. يمكن استخدام هذه الطريقة في تأريخ أشياء يتراوح عمرها بين ٢٠٠ سنة إلى ٥٠ ألف سنة، بهامش خطأ من ١ حتى ٥٪؛ ومن ثم بالنسبة لشيء يؤرَّخ عمره بخمسين ألف سنة، تتراوح نسبة الدقة من ٥٠٠ إلى ٢٥٠٠ سنة زائدة أو ناقصة. إلا أنَّ عملية التأريخ بالكربون لا يَصلح استخدامها لأشياء يصل عمرها إلى مليون سنة أو أكثر، وكذا لا يمكن استخدام تحليل الدي إن إيه، بفرض إمكانية فصل عيِّنة مناسبة؛ إذ يُصبح الجزَيْء غير مستقر بعد نحو ١٠٠ ألف سنة،٩ رغم أن التحلُّل الذي يحدث بفعل الإنزيمات عقب الوفاة لا يَترك عادةً إلا قدرًا قليلًا من المادة السليمة لتحليلها على أيِّ حال.
فيما يتعلَّق بالصخور التي تحتوي على الحديد، فيُمكن تأريخها من خلال تحديد اتجاه المجال المِغناطيسي داخل العينة؛ والسبب في ذلك أن المحور المِغناطيسي للأرض يغيِّر الاتجاه في كل مرة يتغير فيها مكان الحديد المنصهر الموجود عميقًا داخل الأرض، ومِن خلال معرفة متى تحدث مثل هذه التغيرات في المحور المِغناطيسي، ومن خلال قياس الاتجاه داخل عينة من الصخور، يمكن تأريخ هذه العينة في حدود «إطار» زمني معين،١٠ ومن أجل تحديد الإطار المعين الذي حدث فيه حفظ الصخرة، يجب تطبيق أساليب تأريخ أخرى. وإحدى هذه الطرق التي لاقت قبولًا، وتكون مفيدة في الفترات الزمنية منذ نحو ٣٠٠ ألف سنة حتى أكثر من ١٠ ملايين سنة مضت، تعتمد أيضًا على تحلُّل نظيرٍ مُشعٍّ، لكنه في هذه الحالة نظير البوتاسيوم K.١١ توجد طريقة أخرى لقياس الإشعاع، تغطِّي الفجوة بين التأريخ بالكربون المشع (المفيد حتى ٥٠ ألف سنة مضت) والتأريخ بالبوتاسيوم المشع (المفيد من ٣٠٠ ألف سنة مضت فصاعدًا)، تعتمد على نسبة اليورانيوم٢٣٨ المشع إلى اليورانيوم٢٣٥ المستقر في قطع الصخور التي تحتوي على اليورانيوم (سيتذكَّر القارئ أن فصل اليورانيوم٢٣٨ عن هذه المواد الخام هو الذي أدَّى إلى إنتاج أول قنبلة نووية في عام ١٩٤٥)، ومع تحلُّل اليورانيوم٢٣٨ يترك أثرًا في عينة الصخور، يكون طول هذا الأثر معبِّرًا عن مقدار اليورانيوم٢٣٨ الذي كان موجودًا عند حفظ الصخرة. تُعتبر الطريقتان المستخدمتان في قياس الإشعاع اللتين شرحناهما للتو فعالتان إلى حدٍّ كبير في تأريخ الصخور في المناطق ذات النشاط البركاني العالي (الذي يُعاد معه في كل مرة ضبط «الساعة» إلى صفر). ونظرًا لأن هذه المواصفات تَنطبق على مِنطقة الوادي المتصدِّع الكبير، فإن هذه الطُّرق أثبتَت فاعليتها في تأريخ طبقات الصخور التي عُثر فيها على معظم بقايا حفريات الهومو وأسلافه.
تعتمد الطرق المذكورة١٢ على تحليل عينة فعلية، وبدلًا من ذلك، يُمكن الاستدلال على التاريخ الذي ظهر فيه أي كائن حي لأول مرة من التحليل الجزيئي لذريته. وتتمثَّل إحدى طرق فعل هذا في تحليل امتدادات الدي إن إيه. وثمَّة طريقة أخرى تتمثل في تحديد تسلسل بروتينات معينة. وتوجد طريقة ثالثة؛ وهي طريقة التهجين المشروحة في الفصل الثاني (الهامش ٢٦). تعتمد كل طريقة على مقارنة دي إن إيه أو بروتين أحد الأنواع بالخاص بنوع آخر، وكلما زاد اختلافهما، زادت الفترة التي مضت على انفصالهما. ونظرًا لأن الاختلافات تكون بسبب الطفرات، يُمكن لمعرفة نسبة حدوثها أن تعطي المرء نطاقًا زمنيًّا فعليًّا، ومن خلال طرح افتراضات معينة، هذا بالضبط ما تمكن العلماء المتخصِّصون في الجزيئات من فعله. وكان ثمة تشابه ملحوظ بين النتيجة، التي رُسمت في شكل شجرة ذات أغصان تعبر عن التفرُّعات داخل المملكة، والشعبة، والفئة، والرتبة، والفصيلة، والجنس، والنوع، وأشجار الحياة التي رُسمَت منذ ١٠٠ سنة اعتمادًا بالأساس على الحدس وحده. في كلا النوعين يوجد الإنسان العاقل في القمة، لكن إذا كانت نهاية الفرع من المفترض أن تُشير إلى مدى حداثة تطوُّر هذا النوع، ألا ينبغي أن يحتل فيروس مثل فيروس العوز المناعي البشري مركز الصدارة؟

(٢-٢) الأوسترالوبيثكوس

بدأ سلفنا المباشر في السير مُنتصبًا لأول مرة على نحو مستمر منذ أكثر من ٥ ملايين سنة؛١٣ إذ فقد أصابع القدم المفلطحة للرئيسيات المتسلِّقة للأشجار، وبدلًا من ذلك حصل على تقوُّس في أسفل قدمه. توجد مميزات واضحة للسير باستقامة على طرفين، بدلًا من الانحناء على أربعة أطراف؛ مثل الحصول على رؤية أفضل من أجل البحث عن مُفترِسات أو فرائس عبر الحشائش الطويلة (زيادة بأربعة أضعاف في مساحة الأفق المرئي)، وحرية اليدين من أجل حمل الأشياء مثل الطعام أو الأطفال الرضَّع، كما أن الزيادة في حساسية اليدين والطرف العلوي تعني قدرة أصحاب المشية على قدمين على الاستكشاف في الظلام وفي أماكن لا تستطيع أعينهم الرؤية فيها؛ فالقدرة على الإحساس بالملمَس والوزن تلعبان دورًا مهمًّا في التقدم الاستكشافي للإنسان. هذا وذُكرت القدرة على حمل الأدوات أو الأسلحة بوصفها فوائد جينية أخرى للسَّير على قدمين، لكن من غير المحتمل أن تكون أحد العوامل؛ نظرًا لأنَّ السير على قدمين سبق استخدام الأدوات بنحو مليونَيْ سنة. والواضح أنه بمجرد تحرُّر الأطراف الأمامية من حمل وزن الجسم، أصبح ظهور الحِرَف اليدوية ممكنًا. ولهذه الأسباب أعتبر المشية المنتصبة إحدى السمات الأربع التي مكَّنت من تحقيق سعي الإنسان وراء التكنولوجيا الحديثة؛ فطالما كان ذراعاه يُستخدمان في دعم حركته، لم يكن باستطاعة أصابعه التطوُّر إلى لواحق قادرة على صنع الأدوات. وتمثَّل البديل لظهور السير على قدمين بدلًا من السير على أربع في بطء الحركة؛ فالحيوانات التي تَسير على أربعة أقدام، مثل الغزال والفهود والخيل والكلاب، تتحرك أسرع من الإنسان، لكن مقارنةً بالرئيسيات الأخرى، لم يفقد الإنسان كثيرًا من سرعته؛ فيمكنه بسهولة أن يَسبق الغوريلا أو الشمبانزي.
عُثر على البقايا الحفرية لكائن مُنتصِب القامة، أُطلق عليه أوسترالوبيثكوس أفارينيسيس ويُسمى اختصارًا لوسي (فقد كانت لأنثى)، منذ ربع قرن في وادي أواش الأوسط في إثيوبيا، ويَرجع عمرها إلى ٣٫٢ ملايين سنة، لاحظ أن مُصطلح أوسترالوبيثكوس لا يشير إلى أصل أسترالي؛ فهو يعني فحسبُ «قردًا جنوبيًّا». كان اكتشاف لوسي مهمًّا لسببَين؛ أولًا: لأن نحو ٤٠٪ من هيكلها العظميِّ كان من الممكن إعادة تجميعه بدقة. وثانيًا: لأنه عند الانتهاء من عملية إعادة التجميع هذه، أظهر الهيكل النهائي أنها سلف الإنسان الحديث (رغم وجود شك حاليًّا لدى بعض علماء الحفريات البشرية بشأن انحدار نوع الهومو مباشرةً من الأوسترالوبيثكوس أفارينيسيس نفسه)، ومنذ بضعة سنوات، عُثر على سليل محتمل للوسي، يُدعى أوسترالوبيثكوس جارحي، في الوادي نفسه، وأُرخ إلى ٢٫٥ مليون سنة مضت، كان أطول من لوسي (التي كانت قصيرة على نحو استثنائي)، وكانت أسنانه تشبه البشر أكثر، لكن ما زالت لديه أذرع طويلة إلى حد ما ودماغ صغير نسبيًّا. عُثر على بقايا من هياكل عظمية لكائنات أخرى يَحتمِل أن تكون أسلاف الإنسان على طول الوادي الفسيح المعروف باسم الصدع الأفريقي الشرقي، الذي يمتد من إثيوبيا والبحر الأحمر في الشمال، ويمرُّ عبر أوغندا وكينيا، وصولًا إلى تنزانيا والدول الأخرى التي تقع على حدود بحيرة مالاوي في الجنوب (بحيرة مالاوي هي تسمية خاطئة؛ فقد أخطأ المستكشف ديفيد ليفينجستون، الذي أطلق هذا الاسم عليها، في فهم إشارات السكان المحليِّين الذين أشاروا إلى المياه وقالوا «مالاوي»؛ فهذه الكلمة تعني ببساطة «بحيرة»).١٤ وفي هذا الوادي الطويل أيضًا، عُثر على أقدم بقايا لجنس جديد، يَنتمي إلى الهومو، وتحدِّد تاريخه بأنه يَصل إلى نحو ٢٫٥ مليون سنة مضت.
في وقت تأليف هذا الكتاب، تحدَّد سلف آخر محتمل للهومو على أساس جمجمة عُثر عليها في الصدع الأفريقي الشرقي، هذه المرة بالقرب من بحيرة توركانا في شمالي كينيا. أظهرت القطع المتحجِّرة عند إعادة تجميعها أن صاحبها كان لديه دماغ في حجم دماغ الشمبانزي، لكن وجهه كان مفلطح أكثر وأسنانه كانت أصغر، أقرب للشبه بأسنان الإنسان. وتحدد تاريخها بين ٣٫٥ ملايين سنة و٣٫٢ ملايين سنة مضت. بعبارة أخرى في خلال فترة الأوسترالوبيثكوس أفارينيسيس. دفعت السمات المُميِّزة المتمثِّلة في الوجه المفلطح والضروس الصغيرة الفريق، الذي ضم فردين من أسرة ليكي التي اشتغلت بالبحث عن الحفريات في هذا الجزء من أفريقيا لأكثر من جيل، إلى اعتبار هذه البقايا لا تعبِّر فحسب عن نوع جديد، ولكن تَنتمي أيضًا إلى جنس مختلف عن الأوسترالوبيثكوس؛ ومن ثم أطلقوا عليه اسم إنسان كينيا (كائن ذو وجه مفلطح يشبه الإنسان من كينيا)،١٥ رغم أن إنسان كينيا عاش في نفس وقت الأوسترالوبيثكوس، يَعتبرهما البعض أسلاف الهومو؛ وقد يُشير هذا ضمنيًّا إلى أن إنسان كينيا سليل الأوسترالوبيثكوس (أو العكس)؛ فقد أدَّت حقيقة أن كليهما ظهرت لديه القدرة على المشي منتصبًا إلى إدراج كِلا الجنسين في فصيلة القِرَدة العليا، مع جنس الهومو.

(٢-٣) أنواع الهومو المبكرة

ثمة صفات كثيرة تميِّز الهومو عن أسلافه. على سبيل المثال: شكل الفك والأسنان، التي كانت أصغر لدى الهومو (أخف وأصغر حجمًا)، والتي كانت أقوى لدى الأوسترالوبيثكوس (أثقل وزنًا وضخمة). تتمثَّل إحدى الصفات الأخرى في حجم الدماغ وتعقيده، تلعب هذه الصفة دورًا أساسيًّا في قصتنا؛ فدونها كان الهومو سيظلُّ مجرد جنس آخر من الرئيسيات، ومع وجودها استطاع صقل قدرة الفضول الفطرية وتحويلها إلى بحث عقلاني، وهي قدرة بدأت مع أول نوع من أمثاله واستمرَّت في النمو حتى أصبحت إحدى الصفات المميزة للإنسان في عصرنا الحالي.

توجد لدى ليزلي إيلو، من جامعة لندن، فرضية مثيرة للاهتمام حول تطوُّر دماغ الهومو، وفي الواقع تطوُّر الهومو نفسه، مفادها أن أحد أشباه البشر (سواء كان إنسانَ كينيا، أو الأوسترالوبيثكوس أفارينيسيس، أو أيَّ نوع من الرئيسيات يَثبُت أنه السلف المباشر للهومو)، عثَر مصادفةً على هيكل عظمي لفريسة، ظبي مثلًا، قتَلها للتوِّ والتهمها أحدُ الحيوانات المفترسة، لم يَعُد يوجد أيُّ لحم متبقٍّ، لكن انتظر، ربما يوجد في الرأس شيء يُمكن أكله؛ لذا يأخذ قطعة من الحجارة ليَكسر بها الرأس ويفتحه، وبالفعل يجد بدخلها نسيجًا ليِّنًا يمتصه بشراهة، تكون هذه أول مرة يتذوَّق فيها اللحم ويُعجب بطعمه؛ فاللحم يُشعره بالشبع أسرع من الفاكهة والتوت التي اعتاد على تناولها، فيستمرُّ مثل الطير الجارح في البحث عن الحيوانات النافقة. أدى تحول مجموعة من الرئيسيات هكذا إلى نظام غذائي عالي الدهون وعالي البروتين إلى زيادة سرعة نموها وتكاثُرها، وتطوُّر مخها على نحو أفضل؛ مما أدى بدوره إلى صنع أدوات أفضل واستخدامها في الصيد، الذي أدَّى بدوره إلى الحفاظ على نظام غذائي أغنى، وهكذا؛ ومن ثم يَحدث التحوُّل من كونها كائنات جامعة للنباتات (رغم أنها كانت على الأرجح تأكل أيضًا الثدييات الصغيرة والحشرات، تمامًا مثل الشمبانزي في عصرنا الحالي) إلى كائنات تأكُل كافة أنواع الطعام الذي تجمعه أو تصطاده، وهكذا يحدث تطور كائنات الهومو من أسلافها المباشرة ببطء.١٦ لا تعني حقيقة أن بعضًا منا ربما عاد إلى نظام غذائي نباتي صارم تلف وظيفة أدمغتنا،١٧ فبمجرد اختيار عملية التطور لوظيفة معينة، تظلُّ موجودة؛ فالجينات التي تقوم على أساسها هذه الوظيفة لا تحتاج إلى «تغذية» من المحفِّز الأصلي؛ فعلى سبيل المثال، نحن نشترك مع معظم الثدييات غير المُجترة في عدم استخدامنا للزائدة الدودية، ومع ذلك فإن الجينات المسئولة عن تكوينها لم تختفِ، كذلك توجد حلمات لدى الذكور من الثدييات، رغم عدم وجود غرض منها.
توجد سمات أخرى تميِّز الهومو عن أقاربه من الرئيسيات، يُمكن أن نذكر من بينها استخدامه الشائع ليده اليمنى، وحقيقة أنه في المتوسط يكون الذكور أطول من الإناث، وتعرُّض النساء لسنِّ انقطاع الطمث.١٨ يتمثَّل أكثر السمات ارتباطًا بموضوع هذا الكتاب في تطور اليد سلسة الحركة. فمنذ نحو ٢٫٥ مليون سنة تقريبًا، بدأ ظهور الإبهام كامل الدوران. ولا يسعنا التأكيد بما يكفي على أهمية البراعة اليدوية في تطور الإنسان.١٩ ونظرًا لكون ٢٫٥ مليون سنة هي أيضًا عمر أقدم المصنوعات الحجرية التي صنَعها كائن حي، فإن هذا النوع الجديد من الرئيسيات سُمي هومو هابيليس (الإنسان البارع أو الماهر). هذا وتحدَّد تاريخ نوع آخر من الهومو، ربما مشى على نحو منتصب أكثر من الإنسان الماهر (الذي كانت قامته أكثر استقامة من الأوسترالوبيثكوس) وسُميَ الإنسان المنتصب، إلى ما بعد ذلك بنحو نصف مليون سنة؛ أي منذ ١٫٨ مليون سنة مضت. عُثر على أكثر بقايا مُكتملة لهيكل عظمي لفرد من هذا النوع منذ ١٥ سنة على يد ريتشارد ليكي، ابن عالمَي الأنثروبولوجيا لويس وماري ليكي، على الضفة الغربية من بحيرة توركانا في شمالي كينيا، ويرجع تاريخها إلى ١٫٥ مليون سنة. عند تجميع أجزاء الجمجمة والعديد من قطع العظام الأخرى، أصبح واضحًا أن صاحب هذا الهيكل كان صبيًّا، تُوفي تقريبًا في التاسعة من عمره، وقد أدى صِغر سنه ومكان وفاته إلى إطلاق اسم صبي توركانا على هذه العينة من الإنسان المنتصب.

على الأرجح تعايَشَ كل من الأوسترالوبيثكوس وإنسان كينيا والهومو معًا في الوادي المتصدِّع الأفريقي الشرقي، وفي أماكن أخرى لعدة آلاف من السنين. ومن نوعية الأدوات الحجَرية التي عُثر عليها بجوار بقايا الهياكل العظمية، يبدو أن بعض الأوسترالوبيثكوس كانت لديهم القدرة على الإمساك بأيديهم بأدوات حجرية بدائية. إنَّ الاختلاف الوحيد بين الأوسترالوبيثكوس والهومو أن الأول كان يستخدم فقط ما يجدُه حوله، بينما كان الثاني يُشكِّل فعليًّا الحجارة بحجارة أخرى؛ ليستخدمها في قطْع أو تقطيع الأغصان واللحم، بالإضافة إلى قتل الفرائس؛ فقد بدأ بذلك بحث الإنسان عن تكنولوجيا جديدة. لكن علينا الاعتراف بأن مُعظَم التفاصيل بشأن أصلنا قائمة على التكهُّنات إلى حدٍّ كبير.

أولًا: على القارئ أن يعلم أن الربط بين استخدام الأشياء وبقايا هيكل عظمي معيَّنة عُثر عليها بالقرب منها لا يَعتمد على أكثر من حقيقة أن كلاهما يوجد في الطبقة نفسها من الأرض أو الصخور تحت سطح الأرض، وكلما زاد عمر العيِّنات، زاد العمق الذي تُدفَن عليه، كما شرحنا آنفًا.

ثانيًا: إن نسبة بقايا هيكل عظمي — تتمثَّل عادةً فيما لا يزيد عن بعض العظام وجمجمة إن حالف المرء الحظ — إلى أحد الأجناس، مثل الهومو أو الأوسترالوبيثكوس أو إنسان كينيا، ناهيك عن نسبتها إلى نوع معيَّن مثل الإنسان الماهر أو الإنسان المُنتصب؛ ليس علمًا دقيقًا، ويتأثر كثيرًا بتحيز المكتشف. حقَّق المتخصِّص الكندي في علم التشريح ديفيدسون بلاك، الذي عُيِّن أستاذًا بقسم الأعصاب والأجنة في كلية اتحاد بكين الطبية المؤسسة حديثًا في عام ١٩١٩، شهرةً واسعة بعد هذا بثماني سنوات؛ من خلال العثور على سنٍّ واحدة ادَّعى بأنها تنتمي إلى أقدم حفرية شبيهة بالبشر في آسيا، وأطلَق على صاحبها القديم اسم سينانثروبوس بيكينسيس أو إنسان بكين. ربما كان محقًّا في افتراضه القدم البالغ، وعُثر على دستة من العظام المتحجِّرة الأخرى منذ ذلك الحين في المِنطقة نفسها؛ مما دفَع علماء الأنثروبولوجيا إلى نسبة إنسان بكين إلى نوع الإنسان المنتصب، بعمر يصل تقريبًا إلى ٥٠٠ ألف سنة. باءت المحاولات الحديثة من حفيد ديفيدسون بلاك لرؤية عظام إنسان بكين بالفشل. حُفظت العظام في البداية في كلية اتحاد بكين الطبية، لكن عند غزو اليابان للصين في عام ١٩٣٧ تقرر نقلها إلى مكان آخر لحفظِها في أمان. يُقال إنها نُقلت إلى السفارة الأمريكية، وكانت ضمن حمولة من الأشياء التي نُقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك ببضع سنوات، عندما اندلعت الحرب بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، ومن الواضح أنها لم تَصل إلى وجهتها قط. ثمة رواية أخرى للأحداث تفيد بأنها أُخذت إلى اليابان بناءً على أوامر الإمبراطور، لكن مساعي حفيد ديفيدسون بلاك لتحديد موقعها هناك فشلت، وربما ما زالت في الصين بعد كل هذا، أو ربما يكون شخص ما تخلص ببساطة من المحتويات المغلَّفة بعناية في صندوق بنِّي صغير؛ اعتقادًا منه بأنها قمامة، وهو التفسير الأسوأ ولكنه الأكثر احتمالًا. وهكذا أحاط بعظام أقدم إنسان في الصين الغموض الذي يحيط بلوحة مفقودة رسمها فنان عظيم، أو مخطوطة مفقودة من مكتبة أحد الأديرة القديمة.

إجمالًا، منذ نحو ٢٫٥ مليون سنة مضت عاشت معًا رئيسيات مختلفة يَتراوح شكل تكوين هيكلها العظمي بين الشمبانزي والبشر في عصرنا الحالي. ونتيجةً لقدرتها على الإمساك بأيديها الحجارة والمواد الأخرى التي وجدوها حولهم، تعلَّم بعضٌ من أشباه البشر الأول هؤلاء صنْع أدوات بدائية. مرَّ أكثر من مليوني سنة قبل ظهور الإنسان بصورته التي نعرفها الآن. لا يمكن تحديد التواريخ بدقة نظرًا للأسباب التي ذكرناها بالفعل. على أيِّ حال لا يسع المرء إلا تأريخ الأشياء التي عُثر عليها، وتوجد ندرة في البقايا، ويكون نسبة شيء من صنع الإنسان، أو بقايا مجزأة من حيوان مذبوح، أو رسمة على جدار أحد الكهوف، إلى أحد أنواع الهومو؛ معتمدًا إلى حد كبير على التخمين، خاصةً أن تطور نوع من نوع آخر يكون عملية تدريجية للغاية، مع استمرار وجود النوعين معًا لوقت طويل؛ ومن ثم يوجد جدل كبير بين علماء الحفريات البشرية بشأن هوية اكتشافاتهم، ويتجادلون أيضًا، بنفس حدة علماء اللاهوت في العصور الوسطى، بشأن حقِّ كلٍّ منهم في التنقيب في مِنطقة معيَّنة على الإطلاق؛ فكانت المكائد والنهب والقضايا التي تدَّعي التعرض لاعتقال غير قانوني، والحبس ظلمًا، والتعدي البغيض؛ أمورًا شائعة بين صائدي الحفريات في الصدع الأفريقي الشرقي، فكلٌّ منهم يسعى إلى إفساد مساعي منافسيه بقدر سعيه لاكتشاف عظام أسلافه.

(٢-٤) أنواع الهومو الحديثة

في أغسطس عام ١٨٥٦، في الوقت نفسه تقريبًا الذي كان تشارلز داروين يضع لمساته النهائية على كتاب «أصل الأنواع»،٢٠ تسلَّم مدرِّس في إحدى القرى يُدعى الدكتور يوهان كارل فولروت جمجمةً وبعض عظام أحد دِبَبة الكهوف؛ فقد عثر العمال الذين يستخرجون الحجارة على طول ضفاف نهر الدوسل في وادي نياندر، الذي يَصل إلى نهر الراين بالقرب من مدينة دوسلدورف، على هذه البقايا في أثناء تفجير أحد الكهوف التي تقع على بعد ٦٠ قدمًا فوق النهر. وعلمًا منهم بأن هواية الدكتور فولروت كانت التاريخ الطبيعي، فكَّروا أنه ربما يهتمُّ بالحصول عليها، وكانوا محقِّين في ذلك. أدرك هذا المدرِّس على الفور أن هذه العظام لم تكن لدبٍّ، وإنما لإنسان بدائي من نوعٍ ما، فكانت الجمجمة تشبه جمجمة الإنسان أكثر من أيِّ شيء عُثر عليه من قبل. في الواقع كان الدماغ أكبر من دماغ الإنسان المعاصر، رغم أن الأجزاء الأخرى كانت أثقل وزنًا إلى حدٍّ ما. عاد الدكتور فولروت مسرعًا إلى الكهف وبدأ الحفر فيه من أجل العثور على مزيد من الآثار التي تدلُّ على وجودٍ بشري، لكن في هذا الوقت كانت أجزاء الحجر الجيري والحُطام طمست كل آثار الساكن السابق لهذا الكهف الصغير. خمَّن فولروت أنه في سبيله إلى اكتشاف شيءٍ مُهمٍّ واستشار هيرمان شافهاوزن، أستاذ التشريح في جامعة بون. وافق شافهاوزن على أنَّ العينات يبدو أنها للقردة العليا (التي تأرَّخت منذ ذلك الحين ﺑ ٤٠ ألف سنة)، وأُعلن الاكتشاف بعد ٦ أشهر في اجتماعٍ لجمعية التاريخ الطبيعي والطب لدول أسفل الراين في بون. لم يَنتج عن هذا أيُّ اهتمام أو إثارة كالتي كان إصدار داروين على وشك إحداثها، وظلَّ اكتشاف فولروت غير ملحوظ لعدد من السنوات.
لم يحدث الربط بين بقايا الهيكل العظمي التي وصَفها فولروت وشافهاوزن وحفريات أخرى عُثر عليها في أوروبا إلا في وقتٍ لاحق، ضمَّت هذه الحفريات جمجمةً اكتُشفت في محجر فوربس على صخرة جبل طارق في عام ١٨٤٨. من البداية، تشكَّك علماء مثل توماس هنري هكسلي في أن هذه الهياكل العظمية تعبر عن «الحلقة المفقودة» المحيِّرة بين القرد والإنسان، وأكَّدت اكتشافات تالية في الشرق الأدنى ووسط آسيا وجهة النظر هذه. ومن أجل الإشارة إلى الاكتشاف الألماني، أُطلق على أشباه البشر هؤلاء إنسان نياندرتال (وتعني كلمة «تال» وادي بالألمانية)، أو هومو نياندرتالنسيس.٢١ ظهر هذا النوع من الهومو منذ نحو ٢٥٠ ألف سنة، وظلَّ يعيش حتى وقت قريب منذ ٣٠ ألف سنة، بعد ظهور الإنسان العاقل، الذي كان في هذا الوقت وصَل هو نفسه إلى أوروبا. ونظرًا لأن ظهور إنسان نياندرتال تزامَنَ مع العصر الجليدي الأخير، يوجد سبب جيد للاعتقاد في أن إنسان نياندرتال أتقن فن التدفئة من خلال الاحتماء في الكهوف، وصنَع ثيابًا من جلود الحيوانات، مثل الثور الأمريكي أو الدب. لم يُعثَر على أيِّ بقايا لإنسان نياندرتال في شمال الخط الذي يُشير إلى امتداد سطح الأرض الدائم التجمد في هذا الوقت، كما لم يُعثَر عليه في أفريقيا ولا في جنوب آسيا، ورغم تحفُّظات بعض علماء الأنثروبولوجيا، توجد أوجه تشابُه مذهلة بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل لدرجة جعلت كثيرين يَعتبرون الاثنين شكلين مختلفَين للنوع نفسه (هومو سيبيان نياندرتالنسيس وهومو سيبيان سيبيان). ويذهب البعض إلى أبعد من هذا، واقترحوا أن إنسان نياندرتال هو سلف الإنسان الحديث. ومع ذلك تخبرنا الأحياء الجزيئية بقصة أخرى، سنَشرحها بعد قليل.
الواضح لنا أن إنسان نياندرتال كان يمتلك ثلاثًا من الصفات الضرورية للسعي الإنساني؛ المشية المستقيمة، واليدين ذاوتَي الحركة السَّلسة، ودماغ حجمه مناسب. لا نعلم ما إذا كانت حنجرته متطوِّرة بالشكل الكافي لتمكنه من الحديث أم لا. تكمن المشكلة في التشريح التفصيلي للبلعوم؛ وهو الأنبوب الذي يبدأ من آخر الفم ثم ينقسم: إلى الحنجرة، التي تتنفَّس عبرها الحيوانات بما في ذلك الإنسان، والمَرِيء، الذي تتم من خلاله عملية البلع لدى الحيوانات بما في ذلك الإنسان. توجد داخلَ الحنجرة الأحبالُ الصوتية، التي تتكون من غشاءين مَرِنَين يمتدَّان عبرها من الداخل. يهتزُّ الغشاءان عند خروج الهواء من الرئتين عبرهما؛ مما يُصدر صوتًا. يعمل هذان الغشاءان إلى حدٍّ ما مثل أوتار الكمان؛ فيُمكن تقصيرهما وإطالتهما من خلال انقباض وانبساط عضلات متناهية الصِّغَر تتحكَّم أيضًا في فتح المساحة بينهما وإغلاقها. يُثبِّت هذه العضلات تكوينان غضروفيان؛ الغضروف الدرقي في طرَف، والغضروف الطرجهالي في الطرَف الآخر. إن الوضع الدقيق لكلِّ هذه القطع من الغضاريف والأنسجة المَرنة والعضلية في الحنجرة هو الذي يسمح لأحد الكائنات بتعديل الأصوات عبر نطاقٍ هائل من الاحتمالات، بينما لا يستطيع كائن آخر أكثر من مجرَّد النخير. على عكس العظام، فإنَّ كل التكوينات التي ذكرناها؛ الغضاريف والنسيج المرن والعضلات، تتحلَّل عند وفاة الحيوان؛ ومن ثم لا توجد بقايا لها، متحجرة أو غير متحجرة، لتحسم الأمر بشأن امتلاك صاحبها لأحبال صوتية متطوِّرة أم لا. توجد قطعة صغيرة من العظم (العظم اللامي) تتصل عن طريق العضلات إلى حدٍّ ما على نحو مختلف بالجزء الخلفي من الفم لدى الإنسان والشمبانزي، ويُسهم هذا التكوين في قوة الصوت الصادر، حتى إذا كان العظم اللامي يُكتشف مع العظام الأخرى عادةً، وهو ما لا يحدث بوجه عام، فإن هذا لا يساعد كثيرًا نظرًا لتشابه شكله كثيرًا لدى النوعين، وستكون أدوات ربطه الخاصة قد تحلَّلت. ولهذه الأسباب نحن لا نعرف إذا كان الهومو نياندرتالنسيس قد تمتَّع بالقدرة على الكلام البشري أم لا.٢٢
fig9
شكل ٤-١: المشية المنتصبة. مقارنة بين هيكل إنسان (يسارًا) وهيكل غوريلا (يمينًا). وُضع الهيكل العظمي الثاني في وضع السير على قدمين، رغم أن الغوريلا تسير عادةً على أربعة. أُعيد طبعها بإذن من متحف التاريخ الطبيعي، لندن.
بعد مرور بضع مئات الآلاف من السنوات على ظهور إنسان نياندرتال في أوروبا، وصل نوع جديد من الهومو إلى سهول شرق أفريقيا، كان يسير منتصبًا بسهولة وبإجادة (نتيجة لتغيرات في الحوض وعظْم الفخذ والقدمين، شكل ٤-١)، وكان لديه إبهام متحرِّكة وأصابع أقصر (شكل ٤-٢)، سمحت له بالإمساك بالأدوات على نحو أفضل من أيٍّ من أسلافه، ليس فقط بقبضة القوة (الإمساك بالشيء بين الإبهام والأصابع المغلقة بإحكام عليها)، بل بقبضة الدقة الأفضل (الإمساك بالشيء بين الإبهام وأطراف الأصابع المفرودة). الأهم من ذلك أن دماغه كان أكبر كثيرًا٢٣ — ثلاثة أضعاف حجم دماغ الأوسترالوبيثكوس جارحي — وتطوَّر لديه صندوق الصوت الذي تحدَّثْنا عنه للتو (شكل ٤-٣)، الذي تمكَّن من خلاله الحديث مع الآخرين من نوعه بطريقة أكثر تعقيدًا، وكانت الطبقة العليا من دماغه، القشرة، تحتوي على عصبونات (خلايا عصبية) أكثر بثلاث مرات من الموجودة لدى الشمبانزي الحديث (شكل ٤-٤)، فكان أكثر فضولًا وذكاءً وبراعةً وإبداعًا وطموحًا من أسلافه؛ فكان الكائن الذي نُطلق عليه حاليًّا اسم الهومو سيبيان، أول ممثِّل للنوع الذي ينتمي له كل البشر الذين يعيشون على وجه الأرض. يتَّفق الاختلاف الطفيف نسبيًّا بين مشية الإنسان ويديه وحنجرته ودماغه والغوريلا (شكل ٤-١) أو الشمبانزي (الأشكال من ٤-٢ إلى ٤-٤) مع تأكيدي من قبل على غياب جينات خاصة بالإنسان؛ فهذه الجينات هي مجرد أشكال مختلفة للجينات التي امتلكها السلفُ المشترك للبشر والشمبانزي. وعبر طفرات داخل امتدادات متشابهة من الدي إن إيه، نتجت بروتينات ذات وظيفة مُعدَّلة؛ فمجرد تغير في توقيت صنع بروتين معين ربما يكون مسئولًا عن اختلافات، مثل طول أصابع الشمبانزي والإبهام الطويل لدى البشر.
fig10
شكل ٤-٢: مقارنة طرف أمامي للإنسان (أ) مع طرَف أمامي للشمبانزي (ب). قُلِّل طول الشكل الثاني لسهولة المقارنة. مأخوذة من كتاب جون زاكري يونج «مقدمة لدراسة الإنسان»، وأُعيدت طباعتها بإذن من مطبعة جامعة أكسفورد، أكسفورد، ١٩٧١.
fig11
شكل ٤-٣: صندوق الصوت. مقارنة حنجرة الإنسان (أ) بحنجرة الشمبانزي (ب). ل = لسان المزمار، ح = الحنجرة، ت = تجويف الأنف، س = سقف الحلق، ن = اللسان، ص = الأحبال الصوتية. تمتدُّ الحنجرة إلى الأسفل حتى القصبة الهوائية، التي تؤدِّي إلى الرئتَين. يقع البلعوم (غير الموضَّح في الشكل) خلفها (يمينًا) ويمتدُّ إلى الأسفل حتى المريء، الذي يؤدي إلى الجهاز المَعِدي المِعَوي. انظر النص لمزيد من التفاصيل. مأخوذة بإذن من كتاب روجر ليوين «تطور الإنسان: مقدمة مصورة»، الطبعة الثالثة، إصدارات بلاكويل العلمية، أكسفورد، ١٩٩٣.
fig12
شكل ٤-٤: عصبونات القشرة الدماغية. مقارنة بين مخ الإنسان (أ) ومخ الشمبانزي (ب). المناطق المختلفة في المخ ووظائفها كما هو موضح. تقع في المِنطقة غير المظلَّلة (القشرة غير المتصلة) العصبونات (الخلايا العصبية) التي تدخل في التفكير والذاكرة والوعي والحالة المزاجية. وتمثِّل القشرة المخية الجديدة (انظر الفصل الثامن) الجزء العلوي اليساري (الأمامي) من القشرة الدماغية. مأخوذة من كتاب جون زاكري يونج «مقدمة لدراسة الإنسان» وأُعيدت طباعتها بإذن من مطبعة جامعة أكسفورد، أكسفورد، ١٩٧١.
منذ فترة طويلة أشار علماء الأحياء إلى التشابه بين مراحل تكون الجنين ومراحل التطور. يظهر هذا على وجه الخصوص في تكون حنجرة الإنسان؛ فحنجرة الطفل حديث الولادة تكون من نفس نوع حنجرة الشمبانزي؛ فلا تستطيع إلا إصدار أصوات بدائية ومحدودة، ومع ذلك يُمكنه، مثل الشمبانزي البالغ، البلع والتنفُّس في الوقت نفسه. منذ بلوغ عام ونصف إلى عامين تقريبًا فصاعدًا يحدث تغيُّر طفيف في حنجرة البشر؛ فينمو الطرف العلوي تدريجيًّا إلى الأسفل مبتعدًا عن فتحة المريء. ونتيجة لهذا يكون من الضروري غلق الحنجرة في أثناء بلع مواد صلبة أو سوائل لمنْع دخولها إلى القصبة الهوائية (ومِن ثم الرئتين)؛ ومن ناحية أخرى يُصبح من الممكن حاليًّا إصدار تنوعٍ أكبر من الأصوات. تستمرُّ الحنجرة في الانخفاض حتى تصل إلى موقعها النهائي في سن الرابعة عشر تقريبًا.٢٤ ونظرًا لوجود تشابه كبير على نحو مذهل بين حنجرة الشمبانزي وحنجرة الإنسان (انظر شكل ٤-٣)، من المحتمَل أن تكون الجينات التي تتحكم في تكوينها جميعها أشكالًا مختلفة من جينات كانت موجودةً بالفعل لدى سلفهما المشترك منذ ٦ ملايين سنة. لم يتطلَّب الأمر أكثر من مجرد تغير طفيف في بضعة بروتينات، ونتج عنه اختلاف هائل في الوظيفة بين الشمبانزي والإنسان.
توجد نتيجة هائلة لامتلاك صندوق صوتٍ قادر على إخراج كلام، متوافق مع المعالجة العصبية؛ فكما أشرنا مسبقًا يعتبر علماء أنثروبولوجيا معينون هذا أنه أهم صفة للبشر. منذ بضع سنوات اكتُشف أنه من ٢ إلى ٥٪ من كل الأطفال يُعانون من اضطراب حاد في اللغة، فتكون قدرتهم النحْوية ضعيفة للغاية، ويجدون صعوبةً في نطق الكلمات، ولا تكون لديهم القدرة على التحكم في عضلات فمهم جيدًا. تكون هذه الحالة وراثيةً، وتستمر طوال الحياة. وتُحدِّد أن جين FOXP2 هو المسئول عن مثل هذه الحالة. وأظهرت مجموعة من العلماء من مدينة لايبزيج وأكسفورد أن جين FOXP2 لدى الشمبانزي والقرود الأخرى يكون مختلفًا عن ذلك الموجود لدى البشر.٢٥ لكن كان هذا الجين مُتطابقًا لدى كافة البشر الأصحاء الذين خضعوا للدراسة، بما في ذلك أفرادٌ من أصول أفريقية وآسيوية وأوروبية وجنوب أفريقية وسكان أستراليا الأصليين ومن بابوا غينيا الجديدة. بالإضافة إلى هذا، بدا أنه لم يتعرض لطفرة طوال فترة وجود الإنسان العاقل على وجه الأرض (٢٠٠ ألف سنة). باختصار، هذا الجين هو أول علامة جزيئية تُكتشف لتطوُّر الكلام واللغة؛ ومن ثم يُمكن للمرء افتراض أن البروتين الذي يتكون بفعل جين FOXP2 يكون مختلفًا كثيرًا لدى الشمبانزي عن البشر.٢٦ في الواقع، ربما تكون جينات مثل FOXP2 مسئولةً عن كثير من التفاوت البالغة نسبته ٥٪ بين جينومات الشمبانزي والبشر. على العكس من ذلك؛ فإنَّ التفاوت في جين FOXP2 بين الشمبانزي والبشر تصل نسبته فقط إلى ٠٫٠٣٪، كما أنَّ بروتين FOXP2 يختلف لدى البشر عن نظيره لدى الشمبانزي بمجرد حمضين أمينيين من إجمالي ٧١٥.٢٧ فإن التفاوت الأكبر يَحدُث في البروتينات التي تؤدي وظائف متماثلة في الأساس لدى الشمبانزي والبشر.٢٨
تتوافق نتائج تحليل بروتينات FOXP2 بالكامل مع الفرضية الواردة في الفصل الأول؛ عدم وجود جينات «بشرية» في مقابل جينات «الشمبانزي»؛ فالاختلاف بنسبة ٥٪ بين الجينومَين المعنيَّين لا يشير إلى وجود عدد من الجينات المختلفة جوهريًّا لدى الشمبانزي والبشر؛ فربما يقتصر تأثيرها على إظهار عدد الطفرات «الصامتة» التي تراكمت لدى الشمبانزي والبشر، منذ كان سلفهما المشترك على قيد الحياة منذ ٦ إلى ٨ ملايين سنة. نحن نضلِّل أنفسنا بالمساواة بين الفروق الجينية والتغيرات في الوظيفة. إنَّ التشابه بين بروتين FOXP2 لدى الشمبانزي والبشر يدعم وجهة نظر حُجَّتي، بارتكاز القدرة المتزايدة لدى البشر على السعي المستمر على تغيرات طفيفة للغاية، فتمامًا مثلما يرتكز التشابه بين قدرة الجراثيم والنباتات والحيوانات على البحث على نطاق بي إيه إس، يوضِّح بروتين FOXP2 أحد الاختلافات بين قدرة الشمبانزي والبشر على ممارسة عملية البحث. ستظهر اختلافات أخرى بالتأكيد، خاصةً مع البدء في عملية تحديد تسلسل جينوم الشمبانزي.٢٩ ونحن ننتظر بفارغ الصبر عملية تحديد الجينات التطوُّرية المسئولة عن تكوين الإبهام والحنجرة والتي تُحدِّد عدد عصبونات القشرة الدماغية التي تُنتَج.٣٠
من بين الفروق الأربعة التي ركزتُ عليها، ربما تكون طريقة الوقوف أكثرها تميزًا (قارن بين شكل ٤-١، والأشكال من ٤-٢ إلى ٤-٤). هذا أمر متوقَّع؛ نظرًا لأن المشية المنتصبة سبقت ظهور الصفات الأخرى بعدة ملايين من السنين؛ ومن ثم كانت توجد فسحة من الوقت لتراكم الطفرات وإبراز التبايُن. وفي حالة الفروق الأخرى، كان التفاعل بين استخدام اليدين والأحبال الصوتية وعصبونات القشرة الدماغية هو الذي جعل تعديلًا طفيفًا نسبيًّا في كلٍّ منها يؤدي إلى مثل هذا التغيُّر الهائل في وظائفها مجتمعة؛ إلى اختلاف بين نوع من الرئيسيات الذي أدى فضوله إلى تعديل في جيناته، ونوع آخر لم يسفر فضوله عن تحقيق أي شيء؛ إلى نوع سافر إلى القمر ونوع ظل داخل حدود موطنه في الغابات.
يُعبِّر البعض عن دهشتهم من فكرة أن فردًا أفريقيًّا من جنوب الصحراء الكبرى أو صينيًّا أو أوروبيًّا أو من سكان أستراليا الأصليين، الذين تبدو ملامحهم مختلفة تمامًا بعضهم عن بعض، ينتمون جميعًا إلى النوع نفسه. إلا أن المظهر الخارجي مضلِّل؛ فالمسارات الأيضية، مثل الهضم وأكسدة المواد الغذائية، وتحكُّم الهرمونات في هذه العمليات، والتغيرات الأيونية التي يقوم عليها الجهاز العصبي، تُسهم في تحديد النوع أكثر بكثير من الشكل الخارجي (الذي يتحدَّد على أي حال بأقل من عشرة جينات من أصل ٣٠٠ ألف جين موجودة عند البشر). وقد ينتج عن طفرة واحدة في جين واحد أن تُنجب أسرة باكستانية تتَّسم نموذجيًّا بالجلد الداكن والشعر الداكن والعينين السود، فتاةً بيضاء البشرة وشقراء وذات عينين زرقاوين لا يُمكن تمييزها عن طفلة سويدية أو نرويجية الأصل.٣١ تبدو معظم الفراشات مُتشابهة في أعيننا؛ ومع ذلك يوجد حاليًّا بالفعل ٢٠ ألف نوع مختلف منها حول العالم.
الوصف هومو سيبيان الذي يَصف نوعنا — وهو اسم لاتيني بمعنى الإنسان «المفكر» أو «الحكيم» — صكَّه عالم تاريخ طبيعي سويدي يُدعى كارل لينيوس في منتصف القرن الثامن عشر، في الوقت الذي اعتُبرت الرئيسيات الأخرى غير قادرة على مثل هذا القدر من التفكير الواعي. أصبحنا الآن نعرف أن هذا غير صحيح؛ فحتى إذا كان ذكاؤها بوجه عامٍّ أقلَّ من ذكائنا، يستطيع الشمبانزي والغوريلا والأورانجوتان التوصُّل إلى قرارات منطقية مثلنا تمامًا، وإن افتقارهم فقط لأحبال صوتية متطوِّرة هو الذي يَحول دون التواصُل فيما بينها، كما تُظهر التجربة التالية. بانبانيشا هي شمبانزي بونوبو تبلغ من العمر ١٤ عامًا، وتعني كلمة بونوبو قزمًا، لكن لا يمكننا وصفها بالهزيلة نظرًا لأن وزنها يبلغ ١٦٠ رطلًا (انظر شكل ٤-٥). تعيش بانبانيشا في حرم جامعة ولاية جورجيا في مدينة أتلانتا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي طالبة نجيبة؛ إذ يبلغ عدد مفرداتها اللغوية ٣ آلاف كلمة، وعندما سألها مراسل قام بزيارتها إذا كانت تريد شيئًا ما، أجابت قائلة: «قهوة وحليبًا وعصيرًا بالثلج»؛ وتقول عند احتسائها للقهوة «قهوة جيد»، ثم تقول «المزيد». التزامًا للدقة هي فعليًّا لا تقول هذه الكلمات؛ إذ إن صندوقها الصوتي غير قادر على إصدار أصوات من نوع ما يصدره الإنسان، لكنها تستخدم لوح مفاتيح إلكترونيًّا محمولًا به جهاز صوتي (سِنثسَيزر)، فتُظهر مفاتيحه — التي يبلغ عددها ٣٨٤ مِفتاحًا منسقة داخل مجلد يُشبه ألبوم الطوابع — أشياءَ مثل: القهوة والحليب والعصير والثلج، بالإضافة إلى مفاهيم مثل: جيد وسيِّئ ونعم ولا ومع ودون، وهكذا. وُلدت بانبانيشا في الأَسر، ونشأت كما لو كانت مجرَّد طفل آخر لسو سافاج رومبوج من مركز أبحاث اللغة.٣٢ تعلمت بانبانيشا جيدًا، وهي الآن تُعلِّم ذريتها. يُثير اهتمام الباحثين كثيرًا كيف يتناقل هؤلاء البونوبو «الماهرين لغويًّا» مهاراتهم اللغوية.
fig13
شكل ٤-٥: بانبانيشا: (أ) مع لوحة المفاتيح الإلكترونية المصورة. (ب) وهي تعزف على «البيانو» (لوحة مفاتيح موسيقية). (ﺟ) وهي تعلِّم ابنها، نيوتا، البالغ من العمر ٤ أعوام. انظر النص للحصول على مزيد من التفاصيل. نُشرت الصور بموافقة الدكتور جارد تاجليالتيلا من مركز أبحاث اللغة، جامعة ولاية جورجيا، مدينة أتلانتا، الولايات المتحدة الأمريكية.
كوكو هي غوريلا سَهلية وُلدت في حديقة حيوان سان فرانسيسكو منذ ٣٠ عامًا، ومنذ ذلك الحين تُشرف على تربيتها فرانسين باترسون من مؤسسة الغوريلا في جبال سانتا كروز في كاليفورنيا. تعلمت كوكو باستخدام لغة الإشارة، ولديها القدرة على تحريك أصابعها الصغيرة بالكاد كي تُجري حوارًا عاديًّا. توجد لديها حصيلة من المفردات تصل إلى ألف كلمة، وتفهم ألف كلمة أخرى، ويُقال إن معدل ذكائها يصل إلى نحو ٨٠؛ المعدل النموذجي لطفل بشري يعاني من تخلُّف عقلي بسيط. لم تستخدم السنثسيزر الصوتي لأنها كسَرت أول جهاز يُقدَّم إليها؛ يُصنع واحد أقوى لها، لكن مهارتها في لغة الإشارة تجعل هذا غير ضروري.٣٣
ماذا يعني كل هذا؟ بخلاف المعلومات التي قد يقدِّمها لنا بشأن تطور اللغات البشرية، فإنه يؤكد على نقطتين؛ أولًا: أن الرئيسيات، مثل الشمبانزي والغوريلا، لديها القدرة التامة على التفكير المنطقي. وثانيًا: أنها ذكية بما يكفي لتعلُّم لغة البشر مثل الإنجليزية. وعلى الأرجح ربما تستطيع تعلُّم الصينية بالسهولة نفسها؛ فكونها لغة رمزية ربما يجعل تعلُّمها وكتابتها أسهل عليها. كذلك، يبدو أن استخدام المفردات بذكاء ليس أحد الاختلافات بين القرود والإنسان. يُظهر هذا أيضًا أن الكاتب هيكتور هيو مونرو (وكُنيته «ساكي»)، الذي ظهر في أوائل القرن العشرين كان سابقًا لعصره حين كتب:
كان السير ويلفريد يقول: «وهل تطلُب منا حقًّا أن نصدِّق أنك اكتشفت طريقةً لتعليم الحيوانات فنَّ كلام البشر، وأن صديقك العزيز القديم توبرموري أثبت أنه تلميذك الناجح الأول؟»
قال السيد أبين: «إنها مشكلة عملتُ على حلِّها طوال سبعة عشر عامًا، لكن خلال الأشهر الثمانية أو التسعة الأخيرة فقط جاءت مُكافأتي في ظهور بصيص من النجاح … مع توبرموري، كما تُطلق عليه؛ فقد وصلتُ إلى هدفي …»
علَّقت السيدة بليملي قائلة: «ألم يكن من الأفضل أن نرى القطَّ ونَحكُم بأنفسنا؟»
خيَّم صمت مفاجئ من الإحراج والارتباك على هذه المجموعة من الأفراد؛ فبَدا أن ثمَّة عنصرًا من الإحراج إلى حدٍّ ما في الحديث على قدم المساواة مع قطٍّ منزلي لديه قدرة عقلية مُعترَف بها.
سألت السيدة بليملي بصوت به قدر من التوتُّر: «أتُريد بعض الحليب يا توبرموري؟»
جاء الرد: «لا مانع عندي.» بنبرة من عدم المبالاة. أُصيب المستمعون برجفة مكتومة من الإثارة، ويُمكن التماس العذر للسيدة بليملي لسَكبها الحليب في الصحن الصغير وهي ترتجف قليلًا.
قالت معتذرة: «أخشى أنني أرقتُ كَمِّية كبيرة منه.»
فجاء رد توبرموري: «على أيِّ حالٍ إنها ليست سجادتي.»
ساد الصمت مرةً أخرى على المجموعة، ثم سألت الآنسة رسكر، بأسلوبِ متطوِّعات الكنيسة المهذَّب عما إذا كان من الصعب تعلُّم لغة البشر! نظر تومبرموري مباشرةً إليها للحظة ثم ثبَّت نظره بهدوء على منتصف المسافة بينهما. كان من الواضح أنه لا يَكترث البتة بالأسئلة المملَّة.
سألته مافيس بيلينجتون بحماقة «ما رأيك في الذكاء البشري؟»
فسألها توبرموري في برود: «عن ذكاء مَن تحديدًا؟»
قالت مافيس بضحكة ضعيفة: «حسنًا، ذكائي أنا مثلًا!»
قال تومبرموري: «أنتِ تضعينني في موقف محرج.» لكن لم تكن نبرتُه أو أسلوبه يوحيان بالتأكيد بأي قدرٍ من الإحراج. «عندما عُرض اقتراح ضمِّك إلى الحفل في هذا المنزل، اعترض السير ويلفريد لأنكِ أكثر سيدة غبية يَعرفها، ولأنه يوجد فرْق كبير بين الضيافة ورعاية البُلهاء. ردَّت السيدة بليملي قائلةً إنَّ افتقاركِ إلى القدرة العقلية هو الصفة المحدَّدة التي جعلتكِ تحصلين على هذه الدعوة؛ لأنكِ الشخص الوحيد الذي تستطيع التفكير فيه؛ الذي قد يكون غبيًّا بما يكفي لشراء سيارتهم القديمة.»٣٤

يَحتمِل أن تكون ثمَّة أنواع أخرى من الهومو سبقت الإنسان العاقل على طول السلالة المؤدية إلى ظهوره، بدايةً من الإنسان الماهر ومرورًا بالإنسان المنتصب؛ فثمَّة اقتراح بأن الإنسان العامل وإنسان هايدلبيرج أنواع وسيطة، رغم أنه ربما يَثبُت أنهما لم يكونا إلا أشكالًا مختلفة، كانت جميعها لديها القدرة على صنع أشياء معقدة على نحو متزايد بأيديها؛ فحجم أدمغتها، خاصةً الجزء المُرتبط بوظيفة دماغية أعلى (القشرة الدماغية الجديدة)، تزايد تدريجيًّا.

تحدَّد عمر الإنسان العاقل داخل نطاق ١٤٠ ألف سنة. اعتمدت أول دراسة تحاول تحديد مدى قِدمنا على التحليل الجزيئي لمجموعة معينة من الجينات داخل خمس مجموعات مختلفة من البشر الموجودين في عصرنا الحالي؛ من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (المجموعة ١)، ومن الصين وفيتنام ولاوس والفلبين وإندونيسيا وتونجا (المجموعة ٢)، ومن سلالة سكان أستراليا الأصليين (المجموعة ٣)، ومن شمال أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا (المجموعة ٤)، ومن سلالة سكان غينيا الجديدة الأصليين (المجموعة ٥). أظهر التحليل ثلاثة أشياء:٣٥ أولًا: أن كل البشر الحاليِّين، المتمثلين في المجموعات الخمس، مرتبطون ارتباطًا وثيقًا إلى حدٍّ ما. وثانيًا: أن أكبر تفاوت ظهر داخل أيِّ مجموعة كان داخل المجموعة ١؛ مما يُشير إلى أن الأفارقة ظهروا منذ أطول فترة. ثالثًا: من خلال افتراض حدوث معدَّل ثابت من الطفرات في ٢ إلى ٤ قواعد نيوكليوتيدية (بقايا الأدينين والسيتوسين والجوانين والثيامين في الدي إن إيه) من كل ١٠٠ قاعدة كل مليون سنة، فإن نقطة التقاء كل البشر في الماضي يمكن حسابها بحيث تعود إلى نحو ٢٠٠ ألف سنة مضت. لا بدَّ أن نقول إنه منذ إجراء هذا التحليل، منذ أكثر من عَقد، ظهرت بعض الانتقادات له، ويتَّضح خطأ افتراضات معينة فيه. أدت دراسة أخرى حديثة أكثر إلى ظهور الرقم المعدَّل ١٤٠ ألف سنة بوصفه يعبِّر عن الوقت الذي عاش فيه سلفنا المشترك. تجدُر بنا الإشارة إلى أنه حتى هذا الرقم محسوب في المتوسِّط فقط؛ فيُمكننا القول، بنسبة ثِقة مقدارها ٩٥٪ فقط، إن عمر الإنسان العاقل يتراوَح بين ٦٣ ألف و٣٨٣ ألف سنة تقريبًا. ما يتَّفق عليه جميع علماء الأحياء الجزيئية أن النوع الحالي من الهومو لا يصل عمره إلى مليون سنة ولا إلى ٣٠ ألف سنة (تخمين ظهر في أوائل القرن العشرين)، لكنه ظهر في وقتٍ ما بينهما، مع اعتبار ١٤٠ ألف سنة الاستنتاج الأكثر منطقية حاليًّا.
في الواقع لا تقع الجينات التي تقدِّم هذه المعلومات داخل الكروموسومات الثلاثة والعشرين على الإطلاق؛ فهي تقع داخل مجموعة صغيرة مُنفصلة من الجينات تُسمى الدي إن إيه الميتوكوندري.٣٦ ينتقل الدي إن إيه الميتوكوندري من جيلٍ إلى التالي عبر الإناث فقط؛٣٧ ولهذا السبب سُمِّي سلفنا البالغ من العمر ١٤٠ ألف سنة «حواء». ومن الجيد أن نعرف أننا يُمكننا الوصول إلى هذا الرقم نفسه إذا قِسْنا الطفرات في دي إن إيه بعض الكروموسومات الثلاثة والعشرين داخل نواة الخلايا. تكمن المشكلة هنا في أنه نظرًا لخلط جينات الأم والأب في كل جيل، يصعب الحصول على بيانات ذات مغزًى، باستثناء واحد؛ دي إن إيه الكروموسوم Y.٣٨ إذا أمكن فصل الكروموسوم Y من كل الكروموسومات الأخرى، فإنه سيقدِّم سجلًّا واضحًا لنسب الأب، تمامًا مثلما يحدِّد الدي إن إيه الميتوكوندري نسب الأم. أصبح هذا يتحقَّق حاليًّا، وتؤكِّد النتائج العلاقة الوثيقة بين المجموعات السكانية البشرية الحالية وأصلهم المشترك مِن أفارقة جنوب الصحراء الكبرى.
يوجد تضارب واحد فقط؛ فيبدو أن وقت ظهور آدم لأول مرة كان تقريبًا منذ ٥٩ ألف سنة، وليس ١٤٠ ألف سنة. إذا كان هذا صحيحًا، فإنه يعني أن الرجال — المُفترض أنهم من نوع الإنسان العاقل — الذين تزاوَجت معهم حواء وذريتها طوال نحو ٨٠ ألف سنة لم يتركوا ورثةً من الذكور ليُواصلوا استمرار سلالة غير منقطعة حتى العصور الحديثة. وربما نتَج عن تزاوجٍ حدَث مصادفةً منذ ٥٩ ألف سنة ابنٌ انحدر منه كل الرجال في عصرنا الحالي. يُظهر توقيت ظهور آدم (إذا تأكَّدت الأرقام) أن أسلافنا الذكور كانوا لا يَزالون في أفريقيا منذ ٥٩ ألف سنة؛ ومِن ثم فإن هجرتَهم إلى أوراسيا حدثت في وقتٍ أكثر حداثةً مما كان يُعتقد من قبل.٣٩ عندما نضع في اعتبارنا كافة الأدلة الحالية، بناءً على بقايا الهياكل العظمية بالإضافة إلى التحليلات الجزيئية، ربما نستقر على رقم ١٤٠ ألف سنة بوصفه الوقت التقريبي الذي ظهَر فيه الإنسان الحديث. وبالنسبة لموضوع هذا الكتاب، لا يكون عمرنا الدقيق بمثل أهمية وجهة النظر المُتَّفق عليها بوجه عام بأننا جميعًا ننحدر من مجموعة واحدة من الأسلاف، تتكون تقريبًا من ١٠ آلاف فرد، عاشوا في الأصل في أفريقيا.
يكشف تحليل الدي إن إيه الميتوكوندري ودي إن إيه الكروموسوم Y المستخرجَين من عظام عيِّنات مختلفة من إنسان نياندرتال وجود تشابُه طفيفٍ بينه وبين البشر؛ فالإنسان الأوروبيُّ أقرب شبهًا إلى الأفريقي من جنوب الصحراء الكبرى منه إلى إنسان نياندرتال؛ ومن ثم أصبَح من الواضح أن إنسان نياندرتال ليس سلفًا للإنسان الحديث. ويُقال إن نحو ١٤ نوعًا مختلفًا من أشباه البشر (مجموعة تضم جنس الأوسترالوبيثكوس) عاشت على مدار الخمسة ملايين سنة الماضية انقرضَت جميعها عدا نحن. لماذا؟ هل لأنَّ السلالة التي أدَّت إلى ظهور الإنسان العاقل قتَلت الأنواع الأخرى، أم أنها تنافسَت بنجاح أكبر على الطعام والمأوى، أم لأنها تكيَّفت على نحو أفضل مع الظروف المُناخية في هذا الوقت؟ أم أنه مجرد حظ بوجودها في المكان المناسب والوقت المناسب، بينما قُضي على الأنواع الأخرى بفعل اصطدام الكويكبات الصغيرة، كما يَعتقد بعض العلماء؟ نحن لا نعلم حاليًّا؛ فلندع علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الحفريات وعلماء الجيولوجيا وعلماء الفيزياء الفلَكية يبحثون عن الإجابة. أما بالنسبة لنا، فسنَنتقل إلى الجزء الثاني من هذا الكتاب، ونستعرض كيف مكَّن السعيُ الإنسانَ من السيطرة على العالم الذي يعيش فيه.

هوامش

(١) نوع من الظباء، يَعرفه لاعبو سكرابل باسم «جنو».
(٢) نحن نعرف هذا لأنها كانت موسومة.
(٣) يقضي آخرون فصل الشتاء في أماكن مثل مدينة باسيفيك جروف في كاليفورنيا.
(٤) انظر كتاب هيو دينجل «الهجرة: حركة الأحياء في الحياة»، مطبعة جامعة أكسفورد، أكسفورد، ١٩٩٦.
(٥) على عكس كثير من الحيوانات، لم يَعتَدِ البشرُ على استخدام الرائحة أو المَجال المِغناطيسي للاسترشاد به في سعيهم.
(٦) نحن نعرف هذا لأنها كانت موسومة.
(٧) مقال ليزلي سي إيلو ومارك كولارد «أحدث أقدم أسلافنا»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٠: ٥٢٦-٥٢٧، ٢٠٠١.
(٨) عندما تكوَّنت العناصر الموجودة حاليًّا على سطح الأرض، التي يبلغ عددها نحو ٩٠ عنصرًا مختلفًا، من انفجارات نووية بفعل الهيدروجين والهيليوم الموجودَين داخل الشمس منذ ٤ إلى ٥ مليارات سنة، بقي بعضٌ منها، مثل الكربون١٢، كما هي منذ ذلك الحين؛ في حين تكون عناصر أخرى، مثل نسخة من الكربون أثقل وزنًا، تُسمَّى الكربون١٤، غير مستقرة. (يختلف الكربون١٤ عن الكربون١٢ من حيث احتواء نواته على نيوترونَين إضافيَّين؛ فبدلًا من ستة بروتونات وستة نيوترونات، تحتوي نواة ذرته على ستة بروتونات وثمانية نيوترونات. يُشبه الكربون١٤ الكربون١٢ في وجود ستة إلكترونات خارج النواة تُحدث توازنًا مع بروتوناته الستة. ونظرًا لأن الكيمياء — الربط بين الذرات المختلفة — تَعتمد على تفاعُلات بين الإلكترونات، وليس على تركيب النواة، فإن الجزيئات التي تحتوي على الكربون١٤ تتعرَّض للتفاعلات نفسها التي تتعرَّض لها الجزيئات التي تحتوي على الكربون١٢.) تُصدر الذرات غير المستقرَّة إشعاعات باستمرار في شكل جسيمات أو إلكترونات أو أشعة جاما؛ ويُقال عنها إنها مشعَّة. يُصدر الكربون١٤ إلكترونات، ويُمكن قياس هذه الإلكترونات بسهولة باستخدام الأداة المُناسبة.
(٩) استَشهد بها توماس ليندال في تقريره عن كتاب مارتن جونز «البحث عن الجزيئات: علم الآثار والبحث عن الدي إن إيه القديم»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٣: ٣٥٨-٣٥٩، ٢٠٠١.
(١٠) في الوقت الحالي الشمال المِغناطيسي هو نفسه الشمال الجغرافي، أما في الفترة بين ٢٠ ألف و٣٠ ألف سنة مضت كان الأمر معكوسًا (فكانت إبرة البوصلة تُشير إلى الجنوب)، وفي الفترة بين ٣٠ ألفًا و٦٩٠ ألف سنة مضت كان الوضع كما هو الآن، أما في الفترة بين ٦٩٠ ألفًا و٨٩٠ ألف سنة مضت كان معكوسًا؛ وفي الفترة بين ٨٩٠ ألفًا و٩٥٠ ألف سنة مضت كان كما هو الآن، وفي الفترة بين ٩٥٠ ألفًا و١٦١٠ آلاف سنة مضت كان معكوسًا، وهكذا. وعند تكوُّن الحجارة — من الانفجارات البركانية أو عند ترسُّب الغبار — فإنها تتكوَّن وفقًا لاتجاه المجال المِغناطيسي في هذا الوقت، مما يمثِّل «نافذة» على الزمن (بمعنى تحديد الفترة بين ٢٠ ألفًا و٣٠ ألف سنة، أو بين ٦٩٠ ألفًا و٨٩٠ ألف سنة، أو بين ٩٥٠ و١٦١٠ آلاف سنة مضت إذا كان اتجاهها عكس الاتجاه الحالي). انظر أيضًا مقال سارة سيمبسون «متَّجِه جنوبًا؟ اضمحلال المجال المِغناطيسي للأرض ربما يعني انقلابه قريبًا» مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٧ (نوفمبر): ١٢، ٢٠٠٢.
(١١) تُشير نسبة البوتاسيوم٤٠ المشعِّ إلى كَمِّية البوتاسيوم٣٩ المستقر في الصخور التي تحتوي على هذا العنصر إلى عمرها. ولأن البوتاسيوم٤٠ يتحلل فيتحوَّل إلى الأرجون٤٠، الذي يُعتبر غازًا خاملًا، يخرج كله في كلِّ انفجار بركاني؛ ومن ثم فإن التراكم التدريجي لعنصر الأرجون٤٠ في إحدى العيِّنات ومقارنته بكَمِّية البوتاسيوم٣٩ الموجودة فيها يعكس عمره. ولتجنُّب الاضطرار إلى أخذ عينتين لتحليلهما (واحدة من أجل عنصر الأرجون٤٠ الغازي والأخرى من أجل البوتاسيوم٣٩ الصلب)، تُعرَّض عينة واحدة، صغيرة في حجم بلورة واحدة من الحجارة، للإشعاع بفعل النيوترونات، التي تحوِّل البوتاسيوم٣٩ إلى أرجون٣٩، ثم تُسَخَّن العينة وتُحدَّد نسبة الأرجون٣٩ إلى الأرجون٤٠ من الأرجون الصادر.
(١٢) لمزيد من التفاصيل انظر كتاب روجر ليوين «مبادئ تطور الإنسان»، المرجع السابق، ص٨٣ والصفحات التالية لها.
(١٣) لكنه ظلَّ يسير على مفاصل أصابع يديه، مثل الشمبانزي في عصرنا الحالي. انظر مجلة نيتشر، العدد ٤٠٤: ص٣٣٩ و٣٨٢، ٢٠٠٠. تنتمي جمجمة عُثر عليها مؤخرًا في صحراء جوراب في تشاد، وتَحدَّد عمرها من ٦-٧ ملايين سنة مضت، لقرد ربما سار منتصبًا أيضًا. انظر مقال مايكل برونت وآخرين «شبيه جديد للبشر من العصر الميوسيني المتأخر في التشاد، في وسط أفريقيا»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٨: ١٤٥–١٥١، ٢٠٠٢.
(١٤) تُروى قصة مشابهة عن أصل كلمة «كانجارو» بالإنجليزية، التي تعني «ما الذي يشير إليه؟»
(١٥) انظر مقال ميف ليكي وآخرين، مجلة نيتشر، العدد ٤١٠: ٤٣٣–٤٤٠، ٢٠٠١.
(١٦) للاطِّلاع على مناقشة عن «بيئة التغذية»، انظر حايم أوفك المرجع السابق، ص٦٢–٨٣.
(١٧) سواء كُنا نباتيين أو من آكلي اللحوم، فإن ٢٥٪ من المواد الغذائية التي نتناولها تتَّجه إلى المخ.
(١٨) لمعرفة فروق أخرى بين البشر الحاليِّين والشمبانزي، انظر الفصل الأول، ومقال ديفيد سيرانوسكي «كأنه بشري …»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٨: ٩١٠-٩١١، ٢٠٠٢.
(١٩) على حد تعبير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر «اليد هي العقل الخارجي للإنسان.»
(٢٠) علم داروين في خريف عام ١٨٥٥ بشأن فرضية ألفريد والاس في مقاله «عن القانون الذي ينظِّم ظهور الأنواع الجديدة»، ولصدمته من هذا المقال عاد داروين بحماس متجدِّد إلى عمله الإبداعي الذي كان يعمل عليه على مدى ١٨ عامًا مضت. بعد عامَين تلقَّى خطابًا من والاس يُشير فيه إلى الإصدار ويُضيف أنه كان «… بالطبع مجرد تمهيد لمحاولة وضع دليل مفصل، أعددتُ خطة لها، وفي الواقع دونتها …» إرفينج ستون، المرجع السابق، ص٦٢١. كانت هذ الرسالة التي دفعت داروين في النهاية لاستكمال عمله (رغم أن هذا استغرق منه عامين آخرين)، بعنوان مفصَّل أكثر: «في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي، أو بقاء الأعراق المفضلة في أثناء الكفاح من أجل الحياة.» وقد تلقى داروين خطابًا من ألفريد والاس بعد عام من هذا، كان واضحًا فيه أنه وداروين وصَلا إلى استنتاجات مماثِلة.
(٢١) انظر إريك ترينكهاوس وبات شيبمان، المرجع السابق، لمزيد من التفاصيل.
(٢٢) انظر ريتشارد ليكي، المرجع السابق، ص١٣١، لمزيد من التفاصيل التشريحية، لكن لاحظ أنه هو نفسه كان يَعتقِد أن الإنسان المُنتصِب كان قادرًا على الكلام.
(٢٣) يتحدَّد حجم الدماغ من خلال ملء الجمجمة المجوَّفة بالماء وقياس حجمه، يبلغ حجم دماغ الشمبانزي الحالي (وربما أيضًا حجم دماغ السلف المشترك من ٨–٦ ملايين سنة) ٤٥٠ سنتيمترًا مكعَّبًا، وحجم دماغ الأوسترالوبيثكوس أفارينيسيس (منذ ٤–٢٫٥ مليون سنة) من ٤٠٠–٥٠٠ سنتيمتر مكعَّب، ودماغ الإنسان الماهر (منذ ٢٫٣–١٫٦ مليون سنة) من ٥٠٠–٨٠٠ سنتيمتر مكعب، ودماغ الإنسان المنتصب (منذ ١٫٩ مليون سنة إلى ٣٠٠ ألف سنة) من ٧٥٠–١٢٥٠ سنتيمترًا مكعبًا، والإنسان العاقل «القديم» (منذ ٤٠٠ ألف إلى ١٠٠ ألف سنة) من ١١٠٠–١٤٠٠ سنتيمتر مكعَّب، والإنسان العاقل «المبكر» (منذ ١٣٠ ألفًا إلى ٦٠ ألف سنة) من ١٢٠٠–١٧٠٠ سنتيمتر مكعَّب، والإنسان العاقل الكرومانيون (منذ ٤٥ ألفًا إلى ١٢ ألف سنة) من ١٣٠٠–١٦٠٠ سنتيمتر مكعب، والإنسان العاقل الحالي من ألف إلى ألفَي سنتيمتر مكعب (بمتوسط ١٣٥٠ سنتيمترًا مكعَّبًا) [السنتيمتر المكعب = ملِّيلتر]. من ستيفن بينكر، المرجع السابق، ص١٩٨.
(٢٤) لاحظ أن أحبال الإناث الصوتية تكون أرفع وأقصر من أحبال الذكور الصوتية؛ ونتيجةً لهذا تكون الأصوات الصادرة أكثر حدة.
(٢٥) مقال فولفجانج إنار وآخرين «التطور الجزيئي ﻟ FOXP2، جين مرتبط بالكلام واللغة»، مجلة نيتشر، العدد ٤١٨: ٨٦٩–٨٧٢، ٢٠٠٢.
(٢٦) هذا لأنَّ الفرق بين القدرة على الكلام والافتقار إليها كبير للغاية؛ ومن ثم من المحتمل أن يشمل طفرات كثيرة.
(٢٧) أسباراجين بدلًا من الثيرونين في موضع ٣٠٣ على طول سلسلة البروتين، وسيرين بدلًا من الأسباراجين في موضع ٣٢٥. ولأن السيرين يمثِّل موقعًا مفضَّلًا لتفاعلات الفسفرة، مثل المذكورة في الفصل الثالث التي تدخل في نقل الإشارات من نطاق بي إيه إس في البروتينات الذي يستشعر البيئة، فإن عواقب وجود السيرين في موضع ٣٢٥ (المصحوب بغياب الثيرونين من موضع ٣٠٣) ربما تكون وخيمة.
(٢٨) رغم أن التكوين العام للبروتين يحدِّد بالفعل وظيفته، فإن الاختلافات في الأحماض الأمينية على طول سلسلة البروتين لا تُشير بالضرورة إلى تغيُّر الوظيفة؛ وكما ذكرنا في الفصل الثاني، فإن كثيرًا من الطفرات تكون «صامتة»، بمعنى أن التغيُّر في حمض أميني في أحد المواضع لا يؤثِّر في نشاط البروتين. وتظهر حقيقة أن بروتين FOXP2 هو نفسه لدى البشر الأصحَّاء كافة، ولم يتغير منذ أكثر من ١٠٠ ألف سنة، أن كفاءته حساسة للغاية حتى لأبسط تغيير. وأينما تحدُث مثل هذه الطفرات، كما يحدث لدى الأطفال الذين يعانون من اضطرابات في الكلام واللغة، تكون العواقب وخيمةً للغاية، لدرجة أن الجينات المصابة لا تَنتشر داخل التجمعات البشرية، بل تَقتصِر على بضع عائلات فحسب؛ وبالتدريج تَختفي هذه الجينات، مع وفاة الأفراد المصابين دون إنجاب.
(٢٩) ظهَر جدل كبير بين العلماء بشأن إما الشروع في العمل على جينوم الشمبانزي (لأنه أقرب قريب لنا) أو على جينوم قرد المكاك الريسوسي (لأنه نموذج تُجرى عليه الأبحاث عن وظيفة العقل البشري، ولقاحات فيروس العوز المناعي البشري، وما شابه)، وقد انتصَر الشمبانزي على المكاك، مجلة نيتشر، العدد ٤١٨: ٩١٠–٩١٢، ٢٠٠٢.
(٣٠) ربما ينتج عن استخدام أسلوب مشابه للمُستخدم في التعرُّف على جين FOXP2 الحصول على معلومات مثيرة للاهتمام بشأن عقل البشر والشمبانزي؛ فعلى سبيل المثال، يوجد عنصر وراثي قوي في الإصابة بالتوحُّد، كما يبدو مرتبطًا بالقدرات الذهنية القاصرة على البشر (انظر، مثلًا، مقال كريستوفر بادوك «القدرات الذهنية والآلية» في كتاب «الطبيعة البشرية والقيم الاجتماعية: دلالات علم النفس التطوري للسياسة العامة» (المحررين) تشارلز كراوفورد وكاثرين سالمون، لورنس إرلباوم، ماوا، نيوجيرسي، ٢٠٠٣). وعليه، يجب أن يعود رسم خريطة الجينات التي تَكمن وراء حالة التوحُّد بالنفع ليس فقط على الطب النفسي العصبي، وإنما على علم الأنثروبولوجيا أيضًا.
(٣١) يُقصَد بهذا فتاة مهقاء، ويُعرف الجين المسئول عن هذا باسم P أو OCA2. انظر ريتشارد إيه شتورم وآخرين «الجينات الصبغية لدى البشر: الاختلاف سطحي فحسب»، مجلة بايو إيسيز، العدد ٢٠: ٧١٢–٧٢١، ١٩٩٨.
(٣٢) إس إل ويليامز وآخرون «مهارات الفهم لدى القرود ذوي الكفاءة اللغوية والمفتقرة للكفاءة اللغوية»، مجلة اللغة والتواصل، العدد ١٧: ٣٠١–٣١٧، ١٩٩٧.
(٣٣) انظر موقع www.koko.org.
(٣٤) من رواية هيكتور هيو مونرو «توبرموري»، في كتاب «ساكي، رئيس بودلي»، لندن، ١٩٦٣.
(٣٥) مقال آر إل كان وآخرين «الدي إن إيه الميتوكوندري وتطور الإنسان»، مجلة نيتشر، العدد ٣٢٥: ٣١–٣٦، ١٩٨٧.
(٣٦) يُعتبَر الدي إن إيه الميتوكوندري جزءًا من تكوين تحت خلوي يُسمى الميتوكوندريون. توجد الميتكوندريا في كل خلية من خلايانا، عدا خلايا الدم الحمراء (وينطبق الأمر نفسه على كل الحيوانات). تلعب الميتوكوندريا دورًا مهمًّا للغاية؛ فقدر كبير من إجمالي عملية التنفس تحدُث بداخلها (انظر الهامش رقم ١٥ في الفصل الثالث). يتمثَّل هذا في تحويل الطاقة الموجودة داخل الطعام إلى شكل (ثلاثي فوسفات الأدينوسين) بإمكانه تحريك كافة العمليات التي تتطلَّب طاقة داخل أجسامنا، مثل انقباض العضلات (الذي يشمل خفقان القلب وحركة الأمعاء)، وضخ المِلح عبر أغشية إحدى الخلايا إلى أغشية خلية أخرى (الأمر الأساسي في نقل كافة النبضات العصبية)، وتصنيع كافة الجزيئات الداخلية، مثل الدي إن إيه والبروتين والكربوهيدرات والدهون. توجد الجينات المسئولة عن تصنيع ثلاثي فوسفات الأدينوسين إلى حدٍّ كبير داخل الميتوكوندريا.
(٣٧) في أثناء تلقيح البويضة بحيوان منوي، تُترك الميتوكوندريا — ومن ثم الدي إن إيه الميتوكوندري — الخاص بالحيوان المنوي ولا يدخل إلى البويضة؛ ومن ثم تكون ميتوكوندريا البويضة المخصبة حديثًا مأخوذة من الأم فقط، ولا يؤخذ شيء منها من الأب؛ ومن ثم يورث الدي إن إيه الميتوكوندري من فرع الإناث فقط.
(٣٨) علينا تذكُّر أن الكروموسومات توجد في شكل زوج؛ أحدهما يُورث من الأم والآخر من الأب. لدى البشر يكون ٢٢ زوجًا من الكروموسومات متشابهة للغاية، لكن في حالة الزوج الثالث والعشرين، الذي يُسمى كروموسوم الجنس، فإنه يكون متشابهًا لدى الإناث فقط، ويُشار إليه برمز XX، أما الذكور فيكون لديهم كروموسوم X واحد فقط، ويكون الكروموسوم الآخر مختلفًا وأقصر بكثير ويُدعى الكروموسوم Y (انظر شكل ٢-٣).
(٣٩) لكن كما سنرى في الفصل التالي، يبدو أن أحدث توسُّع كبير خارج أفريقيا حدث منذ نحو ١٠٠ ألف سنة، وأتوقَّع أن هذا التوسُّع اشتمل على الإنسان العاقل، وأن بيانات كروموسوم Y المتعلقة بظهور آدم تحتاج إلى مراجعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤