الفصل الثاني

وصف الأشخاص الثنائيي اللغة

كنت أجلس في أحد الأيام على أحد المقاهي في الهواء الطلق وسمعتُ ثلاثة أشخاص يتحدثون عن معنى أن تكون ثنائيَّ اللغة. أصغيتُ جيدًا لكنني قاومتُ إغراء مقاطعتهم بشدة، على الرغم من أنهم كانوا يتحدثون عن موضوعي المفضَّل. أصَرَّ أحدهم على أن معنى كون المرء ثنائي اللغة أن يتحدَّث لغتين بطلاقة تامة. وافَقَ شخص آخَر على كلامه وأضاف أن الشخص الثنائي اللغة لا بد له أن ينشأ أيضًا على اللغتين. أما الشخص الثالث فلم يكن متأكدًا مثلهما، وذكر ببساطة أن الشخص الثنائي اللغة يستخدم لغتين بانتظام، ثم قال: «على أية حال، قد يعرف شخصٌ ما لغتين بطلاقة، لكنه لا يستخدم إحداهما على الإطلاق تقريبًا، فهل هذا يجعله ثنائي اللغة؟ وماذا عن شخص لا يعرف لغتين بالمستوى نفسه لكنه يستخدمهما بانتظامٍ؟ أَلَا يمكن وصف هذا الشخص بأنه ثنائي اللغة؟» أخذتُ رشفةً من قهوتي بهدوءٍ وأنا أجلس على الطاولة المجاورة، وقطعتُ وعدًا على نفسي بأن أكتب فصلًا في كتابي القادم عن الثنائية اللغوية حول هذه النقطة.

سنعرض فيما يلي، بالإضافة إلى تناوُل معيارَي الطلاقة والاستخدام، بعضَ العوامل الأخرى التي تساعد في وصف الأشخاص الثنائيي اللغة، مثل: نوعية اللغات التي يستخدمونها، والغرض من استخدامها، وتاريخهم اللغوي، وإتقانهم للمهارات اللغوية المختلفة، والأوضاع اللغوية التي ينتقلون بينها، وما إذا كانوا ثنائيي الثقافة أيضًا أم لا.

(١) الطلاقة أم الاستخدام؟

منذ عدة سنوات سألتُ بعض الطلاب الجامعيين الأحاديي اللغة عمَّا يفهمونه عندما أخبرهم أن شخصًا ما ثنائيُّ اللغة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، فكانت الإجابة الأكثر ورودًا (من ٣٦ في المائة من الطلاب) أن هذا يعني أن هذا الشخص يتحدَّث باللغتين بطلاقة. وعندما طلبتُ منهم تحديد أهمية الطلاقة على مقياسٍ من ١ إلى ٥، بحيث يكون ١ ليست مهمة، و٥ شديدة الأهمية، أعطوا «الطلاقة في اللغتين» متوسطَ تقييمٍ مرتفعًا وصل إلى ٤٫٧.

تنتشر فكرة أن معنى كون المرء ثنائيَّ اللغة أنه يتحدَّث لغتين بطلاقة. أمعنَتْ نانسي هيوستن — الكاتبة الثنائية اللغة ذات الأصل الكندي لكنها عاشت في فرنسا لعدة سنوات — التفكيرَ في ثنائيتها اللغوية والثقافية، وكتبت عن الأمر. وسأذكر آراءها في أجزاء كثيرة من هذا الكتاب. ترى هيوستن أن الأشخاص الثنائيي اللغة الحقيقيين هم الذين يتعلَّمون إتقانَ لغتين منذ مرحلة مبكرة في طفولتهم، والذين يستطيعون التنقُّل ذهابًا وإيابًا بينهما بسلاسة ودون عناء.1 كما أن بعض علماء اللغة طرحوا الطلاقة اللغوية بوصفها السمةَ المميزة للأشخاص الثنائيي اللغة؛ فقد كتب عالِمُ اللغة الأمريكي ليونارد بلومفيلد، على سبيل المثال، يقول إن الثنائية اللغوية هي التحكُّم في لغتين كأنهما لغتان أصليتان.2 وبعد عدة عقود، تشدَّدَ أكثرَ المحاضرُ والمترجِم الشفوي الدبلوماسي كريستوف تيري عندما كتب يقول:
إن الشخص الثنائي اللغة الحقيقي هو مَن يراه أعضاءُ مجموعتين لغويتين مختلفتين، لديهما المستوى الاجتماعي والثقافي نفسه تقريبًا؛ واحدًا منهم.3

وقد أفاد بأن الأشخاص الثنائيي اللغة «الحقيقيين» الذين درسهم، قد تعلَّموا لغاتهم في صباهم (قبل سن الرابعة عشرة)، وتحدَّثوا باللغتين في المنزل، وتنقَّلوا ذهابًا وإيابًا بين مجتمعين لغويين، ودرسوا بلغتَيْهم. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد لديهم لكنة في أيٍّ من اللغتين، ويتقنون جميع المهارات اللغوية في اللغتين، ولا يَدَعون إحدى اللغات تتداخل مع الأخرى عند تحدُّثهم مع أحاديي اللغة.

إن أحد الأهداف الرئيسية لهذا الكتاب هو إظهار أن الغالبية العظمى من الأشخاص الثنائيي اللغة لا يشبهون ببساطة هؤلاء الأشخاصَ النادري الوجود؛ فعلى الرغم من وجود بعض الذين يشبهونهم، مثل المترجمين الشفويين والتحريريين (وسنعود إلى الحديث عنهم في الفصل الثالث عشر)، فإن معظم الأشخاص الثنائيي اللغة لا ينطبق عليهم ببساطة هذا الوصف؛ فربما لم يكتسبوا اللغتين في مرحلة الطفولة، أو لم يتحدثوا بهما في المنزل، أو ربما عاشوا في مجتمعين لغويين مختلفين. لم يدرس كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة بلغتَيْهم، وتوجد لدى كثير منهم لكنةٌ في إحدى اللغتين، وفي كثير من الأحيان تتداخل إحدى اللغتين مع الأخرى. إذا كان يُفترض بنا تطبيق وصف ثنائي اللغة فقط على الذين يتقنون كلًّا من اللغتين كأنهم أحاديو اللغة فيها، فلن يصبح لدينا تصنيفٌ للغالبية العظمى من الذين يستخدمون لغتين أو أكثر بانتظامٍ لكن ليس بطلاقة اللغة الأصلية لهم. فوفقًا لتعريف الطلاقة اللغوية، هم ليسوا ثنائيي اللغة، وليسوا أحاديي اللغة أيضًا؛ لأنهم يقضون حياتهم وهم يستخدمون أكثر من لغة.

أدت وجهة النظر الأحادية اللغة للأشخاص الثنائيي اللغة، التي ما زلنا نجدها لدى عامة الناس (لكن عادةً بمعدل أقل بكثير لدى المختصين في الثنائية اللغوية)، إلى وجود سوء الفهم الشائع التالي:

خرافة: يتمتع الأشخاص الثنائيو اللغة بمعرفة متساوية وممتازة بلغاتهم

يضيف البعض أن الأشخاص الثنائيي اللغة لا بد أن يكونوا قد اكتسبوا لغاتهم في طفولتهم، ويزيد البعض على هذا فكرةَ ضرورةَ ألَّا يكون لديهم لكنة في أيٍّ من اللغتين. هؤلاء هم ثنائيو اللغة «الحقيقيون» و«الخالصون» و«المتوازنون» و«المثاليون»، أما كلُّ الآخَرين (في الواقع، الغالبية العظمى من الذين يستخدمون لغتين أو أكثر في حياتهم اليومية)، فيُنظَر إليهم على أنهم أشخاص ثنائيو اللغة «غير حقيقيين» أو «أقل» في المرتبة من الأشخاص الثنائيي اللغة الحقيقيين. وإحدى تبعات هذا أن المهارات اللغوية لثنائيي اللغة تُقيَّم طوال الوقت تقريبًا من خلال المعايير الخاصة بالأشخاص الأحاديي اللغة. خضعت آثار الثنائية اللغوية لفحص دقيق، ونادرًا ما يقيِّم الأشخاص الثنائيو اللغة كفاءتَهم اللغوية ويرون أنها ملائِمة؛ فهم يميلون إلى تبنِّي وجهة النظر الأحادية اللغة للثنائية اللغوية والتضخيم من حجمها، ومن ثَمَّ ينتقدون ثنائيتَهم اللغوية. فهم يشتكون من عدم قدرتهم على الحديث بإحدى لغاتهم جيدًا، ومن أن لديهم لكنة، وأنهم يخلطون بين لغاتهم، إلى آخِره. ولا يريد كثير منهم أن يُصنَّفوا على أنهم ثنائيو اللغة، حتى إن بعضهم يُخفون معرفتهم باللغة الأضعف من بين لغاتهم.

إن هذا كله أمر مؤسف؛ إذ إنه لا يضع في اعتباره الحقيقة، التي سنناقشها بمزيد من التعمُّق في الفصل التالي، المتمثِّلة في أن معظم الأشخاص الثنائيي اللغة يستخدمون لغاتهم لأغراض مختلفة، وفي مواقف مختلفة، ومع أشخاص مختلفين. فهم ببساطة لا يحتاجون إلى التمتع بطلاقة متساوية في كل لغاتهم؛ فمستوى الطلاقة اللغوية الذي يصلون إليه في إحدى اللغات (خصوصًا في المهارة اللغوية) سيعتمد على احتياجهم لهذه اللغة، وسيكون خاصًّا بمجال معين؛ ولذلك فإن كثيرًا من الأشخاص الثنائيي اللغة بارعون بشدة في إحدى اللغات، وبعضهم لا يعرف القراءة والكتابة بإحدى اللغتين، بينما يعرف آخَرون لغةً دون أن يستخدموها. ربما يتمتع عدد قليل من الأشخاص الثنائيي اللغة بطلاقة متساوية وممتازة في لغتَيْهم، على الرغم من أن أينار هوجن — أحد روَّاد أبحاث الثنائية اللغوية، الذي شرفتُ بمعرفته — لا يعتقد أن هذا ممكن في الحقيقة؛ فقد كتب يقول:
هل يمكن الحفاظ على نقاء أنماط لغتين (أو أكثر) بالكامل، بحيث يصبح الشخصُ الثنائيُّ اللغة بمنزلة شخصين من الأشخاص الأحاديي اللغة، يتحدَّث كلٌّ منهما إحدى اللغتين بإتقانٍ لكنه يفهم أيضًا اللغة الأخرى باقتدار، ويستطيع في إحدى اللغتين إنتاجَ المعنى المُعبَّر عنه في اللغة الأخرى دون الإخلال في أي وقت بأسلوب استخدام أيٍّ من اللغتين؟ ظاهريًّا يميل المرء إلى الرد بالنفي. نظريًّا هذا الأمر ممكن تمامًا مثلما يمكن نظريًّا وجودُ خطٍّ مستقيم تمامًا، أو جمالٍ لا عيبَ فيه، أو نعيمٍ كامل. لكن عمليًّا من الضروري الرضا بأقل من هذا.4
نظرًا لأن اعتبارَ الطلاقة اللغوية معيارًا لتعريف الثنائية اللغوية أمرٌ مثير للجدل، اختار كثير من الباحثين بدلًا منه «استخدام» اللغة، وبالتدريج زاد عدد الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يستخدمونه عند وصف ثنائيتهم اللغوية. اتبع هذا النهج كلٌّ من أوريل فاينريش وويليام ماكي، وهما اثنان من العلماء المهمين الذين أَثْرَوْا مجالَ الثنائية اللغوية في النصف الثاني من القرن الماضي؛ فقد عرَّفا الثنائية اللغوية على أنها الاستخدام المتبادل لِلُغتين (أو أكثر).5 أما تعريفي الخاص، الذي يرى أن الأشخاص الثنائيي اللغة هم الذين يستخدمون لغتين (أو لهجتين) أو أكثر في حياتهم اليومية، فيشبه هذا التعريف كثيرًا ويركِّز على استخدام اللغة.

يزيد عدد الذين يمكن وصفهم بأنهم ثنائيو اللغة كثيرًا عندما نركِّز على استخدام اللغة؛ فمن ناحيةٍ، نجد العامل المهاجر الذي قد يتحدَّث ببعض الصعوبة لغةَ الدولة المضيفة له، والذي لا يستطيع القراءة أو الكتابة بها. ومن ناحية أخرى، نجد المترجِم الشفوي المحترِف الذي يتمتع بطلاقة لغوية تامة في لغتين. وبين هذين الاثنين، نجد العالِمَ الذي يقرأ المقالات ويكتبها بلغة ثانية لكنه نادرًا ما يتحدَّث بها، والزوجَ الأجنبي الذي يتعامل مع أصدقائه بلغته الأولى، وأحدَ أعضاء الأقليات اللغوية الذي يستخدم لغةَ الأقلية في المنزل فقط ولغةَ الأغلبية في كل مجالات الحياة الأخرى، والإنسانَ الأصمَّ الذي يستخدم لغةَ الإشارة مع أصدقائه ولغةً منطوقةً (عادةً في صورتها المكتوبة) مع شخص يسمع، إلى آخِره. على الرغم من التنوُّع الكبير بين هؤلاء الأشخاص، فإنهم يشتركون جميعًا في سمة مشتركة، وهي أنهم يعيشون حياتهم مع استخدام لغتين أو أكثر.

(٢) الطلاقة اللغوية واستخدام اللغة

على الرغم من التركيز المتزايد على استخدام اللغة عند وصف الأشخاص الثنائيي اللغة، فإننا لا نستطيع الاستغناء تمامًا عن فكرة الطلاقة؛ أي اللغات التي يعرفها الأشخاص الثنائيو اللغة ودرجة إجادتهم لها. هذا وقد صنعتُ الشبكةَ الموضَّحة في الشكل ٢-١، بحيث تضع في الاعتبار كلا العاملين.

يُعرَض استخدام اللغة بطول المحور الرأسي للشبكة بتسلسُل (بدايةً من عدم الاستخدام «على الإطلاق»، وحتى الاستخدام «يوميًّا»)، وتوجد الطلاقة بطول المحور الأفقي (بدايةً من الطلاقة «المنخفضة»، وحتى الطلاقة «العالية»). يمكن تحديد مكان لغات الأشخاص الثنائيي اللغة على الشبكة بناءً على المستويات التي وصلوا إليها فيها في كلٍّ من البُعْدين. في المثال الموجود، أستعرِضُ الثنائيةَ اللغوية لدى آنا، وهي طالبة تدرس الكيمياء في سنتها الثانية في إحدى الجامعات الكبرى في وسط غرب الولايات المتحدة؛ فبسبب خلفيتِها (فقد هاجَرَ والداها من جمهورية الدومينيكان)، والسنةِ التي قضَتْها في إيطاليا، واللغاتِ التي درستها في المدرسة، تمتلك أربعَ لغات: الإنجليزية والإسبانية والإيطالية والفرنسية. وهي تتمتع بطلاقةٍ عالية في اللغة الإنجليزية، وطلاقةٍ متوسطة في الإسبانية، وتستخدم اللغتين كلتَيْهما يوميًّا. يُعتبَر مستوى طلاقة آنا في اللغة الإيطالية منخفضًا إلى حدٍّ ما، وتستخدمها من حين لآخَر مع صديقةٍ التقت بها في إيطاليا (تعرف هذه الصديقة ثلاثًا من اللغات التي تتحدَّث بها آنا)، كما أن مستوى طلاقتها في اللغة الفرنسية منخفض، ولا تستخدم هذه اللغةَ أبدًا. (قد يرغب القرَّاءُ المهتمون في ملء الشبكة بلغاتهم الخاصة بناءً على استخدامها ومستويات الطلاقة فيها.)

fig1
شكل ٢-١: وصف الأشخاص الثنائيي اللغة من حيث استخدام اللغة والطلاقة اللغوية. إن اللغات المعروضة في هذا المثال هي: الإنجليزية (اللغة الأولى)، والإسبانية (اللغة الثانية)، والإيطالية (اللغة الثالثة)، والفرنسية (اللغة الرابعة).

يضع التعريف القديم للثنائية اللغوية التركيز على الطلاقة اللغوية العالية (الجزء الأيمن من الشبكة). ونظرًا لأن آنا لديها طلاقة متوسطة في اللغة الإسبانية، فربما لا يمكن اعتبارها ثنائية اللغة وفقًا لوجهة النظر هذه. أما التعريف الحديث للثنائية اللغوية، فيضع التركيز على الاستخدام المنتظم لِلُّغة (الجزء العلوي من الشبكة)؛ فنرى أن آنا تستخدم كلًّا من الإنجليزية والإسبانية بصفة يومية؛ لذا يمكن اعتبارها من الأشخاص الثنائيي اللغة. ويعتمد كون آنا ثلاثية اللغة (في اللغات الإنجليزية والإسبانية والإيطالية) على وضعها فيما يتعلق بتسلسل استخدام اللغة. للوهلة الأولى يمكننا القول إنها ثنائية اللغة في اللغتين الإنجليزية والإسبانية وتعرف قليلًا عن اللغتين الإيطالية والفرنسية، وهذا نمط شائع في عصرنا الحالي؛ فقد يستخدم ثنائيو اللغة لغتين أو أكثر بصفة منتظمة، ويكون لديهم أيضًا قدر من المعرفة بلغة أخرى أو أكثر.

سأتحدث طوال الوقت في هذا الكتاب عن موضوع اللغاتِ التي يعرفها الأشخاص الثنائيو اللغة، حتى إن كان مستوى طلاقتهم فيها منخفضًا للغاية، واللغاتِ التي يستخدمونها؛ وسأفعل هذا عن طريق الإشارة إلى هذه الشبكة.

(٣) تعقيد الأمور قليلًا

يجب وضع الكثير من العوامل الأخرى — بالإضافة إلى البيانات الشخصية التقليدية (السن والجنس والوضع الاجتماعي والاقتصادي والوظيفة وغيرها) — في الاعتبار عند وصف الأشخاص الثنائيي اللغة. سأذكر القليل منها هنا وأتابع تناول بعضها في الفصول التالية.

أولًا: كما أشرنا في الشكل ٢-١، لا بد لنا أن نعرف اللغات التي توجد لدى الأشخاص الثنائيي اللغة معرفة حقيقية بها، وتلك التي يستخدمونها. يعرف كثير منا عدة لغات بدرجات متفاوتة (أربع لغات في حالتي)، لكننا نستخدم عددًا قليلًا منها على نحو منتظم (لغتين في حالتي). كذلك لا بد لنا أن نعرف نوع العلاقة بين اللغات التي يستخدمها الشخص؛ فسيساعدنا هذا على فهم التأثير الذي قد تمارسه لغة ما على اللغات الأخرى (فاللغات التي تكون قريبة بعضها من بعض، على سبيل المثال، يزيد احتمال تأثير بعضها على بعض).

من المهم أيضًا معرفة ما إذا كان بعض اللغات لا يزال الشخص في مرحلة اكتسابها (تخيِّلْ شخصًا لم يمضِ على وجوده في الولايات المتحدة إلا عام واحد، وما زال يحاول تحقيق تقدُّمٍ في تعلُّم اللغة الإنجليزية)، وإذا ما كانت لغات أخرى في مرحلة إعادة الهيكلة؛ بمعنى تعرُّضها للتعديل نتيجة تأثير لغة أقوى منها عليها. ينطبق هذا، على سبيل المثال، على اللغة الهندية لدى الشخص الثنائي اللغة في الهندية والفرنسية الذي يعيش في فرنسا، والذي لا يستخدم الهندية كثيرًا نظرًا لعيشه في الخارج لعشر سنوات.

يمثِّل التاريخُ اللغوي للشخص الثنائي اللغة العامِلَ الثالث الذي يجب علينا وضعه في الاعتبار. فما هي اللغات (والمهارات اللغوية) المكتسبة؟ ومتى تُكتسَب؟ وهل اكتُسِبت اللغات كلها في الوقت نفسه (وهذا أمر من النادر نسبيًّا أن يحدث) أم الواحدة تلو الأخرى؟ على سبيل المثال: يكتسب كثير من الناس إحدى اللغات في المنزل، ثم يكتسبون لغة ثانية عند التحاقهم بالمدرسة. وما هو أسلوب اكتساب هذه اللغات؟ هل تُكتسَب في ظروف عادية أم في ظروف رسمية أكثر (في المدرسة)، أم في مزيج من الاثنتين؟ يمكن أن تؤثر طريقة اكتساب المرء لِلُغةٍ ما على درجة إجادته لها، خاصةً فيما يتعلق بكفاءة استخدامها في القراءة والكتابة. نحتاج أيضًا إلى معرفة نمط استخدام اللغة على مر السنين. إجمالًا، يؤثر العمرُ الذي اكتسب فيه المرء لغةً ما، وطريقةُ اكتسابها، ومقدارُ استخدامه لها على مر السنين؛ على مدى إجادته لها، وطريقة معالجتها، وحتى على طريقة تخزين العقل لها وتعامُله معها. سنعود مرة أخرى إلى هذا الأمر في الفصل الذي يتحدَّث عن اللغات على مدى حياة المرء.

يجب أن نعرف أيضًا مدى كفاءة (طلاقة) الشخص الثنائي اللغة في كل من المهارات الأربع (التحدث والاستماع والقراءة والكتابة) في كل لغة. (لم نذكر حتى الآن إلا معيار الطلاقة العام في كل لغة.) وأفضل طريقة لتوضيح هذا، ولوقت معين، تكون باستخدام أربع شبكات مثل الموضَّحة في الشكل ٢-١، واحدة لكل مهارة، وملء كل منها على أساس استخدام كل مهارة ودرجة إجادتها. يمكن بعد ذلك إجراء اختبارات إجادة دقيقة، بالإضافة إلى استبيانات للتقييم الذاتي.6 ما سيتضح لنا هو أن كثيرًا من الأشخاص الثنائيي اللغة قد لا يعرفون القراءة والكتابة بلغة معينة، على الرغم من أنهم يتحدثون بها ويفهمونها عند الاستماع إليها. بالإضافة إلى ذلك، من النادر أن تكون درجة إجادتهم متساوية لكل اللغات، كما شرحنا من قبلُ، وربما تكون لديهم لكنة في إحدى اللغات، وهو أمر سنعود إلى الحديث عنه في فصل لاحق من هذا الكتاب.

يتعلق أحد العوامل الأخرى التي تميِّز الأشخاص الثنائيي اللغة بوظائف لغاتهم؛ ما اللغات (والمهارات اللغوية) التي يستخدمونها، وفي أي سياق، ولأي غرض، وإلى أي مدى. فعلى سبيل المثال: نحن نعرف أن كثيرًا من الأشخاص الثنائيي اللغة يستخدمون لغة واحدة في مجالات معينة على وجه الخصوص (مثل اللغة المستخدمة في العمل وفي الممارسات الدينية)، بينما يمكن استخدام لغات أخرى في عدة مجالات (مثل استخدام عدة لغات مع الأصدقاء). سنفحص في الفصل التالي تأثير هذا على سيادة إحدى اللغات، بالإضافة إلى تأثيره على سلوكيات مثل الترجمة.

يتطلَّب تقديم وصف كامل للأشخاص الثنائيي اللغة أن نضع في اعتبارنا الوضع اللغوي، المتمثل في تفعيلهم للغاتهم، بناءً على عوامل مثل الموقف والمتحدث والموضوع. في بعض المواقف، مثل الحديث مع أحاديي اللغة، لا تُفعَّل ولا تُستخدَم إلا لغة واحدة؛ على سبيل المثال: عندما أتحدث إلى جمهور فرنسي، فإنني لا أستخدم إلا لغتي الفرنسية وأوقف عمل لغاتي الأخرى بحيث لا تدخل في حديثي. مع ذلك، في مواقف أخرى، مثل الحديث مع شخص آخر ثنائي اللغة يعرف اللغات نفسها التي أعرفها، يمكن تفعيل لغتين أو أكثر، ويمكن أن تظهر في الحوار؛ على سبيل المثال: عندما أتحدث بالفرنسية إلى زوجتي، وهي ثنائية اللغة في الفرنسية والإنجليزية، يمكنني ذِكْر كلمات أو جُمَل باللغة الإنجليزية، وفقًا لاحتياجي إليها؛ إذ أعرف أنها ستفهمني. في هذا الموقف (الذي يُسمَّى الوضع الثنائي اللغة)، يستطيع الأشخاص الثنائيو اللغة ببساطة تفعيلَ لغةٍ أخرى لإدخال كلمة أو عبارة أو جملة منها (عبر آليتين هما التبديل اللغوي والاقتباس)، أو يمكنهم فعليًّا تغيير اللغة التي يتحدثون بها (وهو ما يُطلَق عليه تغيير اللغة الأساسية). وسوف أخصِّص ثلاثة فصول كاملة للحديث عن مثل هذه الظاهرة؛ إذ إنها أساسية في التواصُل الثنائي اللغة.

آخِر عامل يجب وضعه في الاعتبار هو الثنائية الثقافية؛ أيْ ما إذا كان الأشخاص الثنائيو اللغة يتعاملون مع ثقافتين أو أكثر أم يعيشون حياتهم بثقافة واحدة. ليس كل الأشخاص الثنائيي اللغة ثنائيي الثقافة أيضًا؛ على سبيل المثال: إن الشخص المغربي الذي يعرف اللغة العربية المغربية واللغة العربية الحديثة ويستخدمهما، والذي عاش طوال حياته في المغرب؛ ثنائيُّ اللغة لكنه ليس ثنائيَّ الثقافة. ومع ذلك، فإن كثيرًا من الأشخاص الثنائيي اللغة، مثل الجيل الأول من المهاجرين، يكونون ثنائيي الثقافة أيضًا، ويلعب هذا دورًا في ثنائيتهم اللغوية. سنناقش هذا في الفصل العاشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤