الفصل الثاني

مَن قتل الإبداع وما الأسلحة المستخدَمة؟

تحديد نمط شخصية القاتل: قتلة الإبداع السبعة الفتَّاكون

«طبيعي على نحو مخيف» لكنه قادر على إظهار «قسوة غير عادية»؛ كانت تلك هي الكلمات التي استخدمها الطبيب الشرعي توماس بوند في ثمانينيات القرن التاسع عشر لوصف النمط المرجح لأكثر السفاحين بشاعة في التاريخ. كان «جاك السفاح» مشتبَهًا به في جرائم قتل مروِّعة لخمس مومسات من لندن، قُطعت حلوقهن وشُوهت أجسادهن قبل نزع أحشائهن جزئيًّا. لم تُكتشف هوية القاتل الحقيقية قطُّ؛ فربما لَقِيَ حتفه بعد فترة قصيرة من موجة القتل التي انخرط بها أو ربما يكون قد حُكم عليه بالسجن بسبب جريمة أخرى.

كان النمط المبدئي التي قدمه بوند دقيقًا للغاية على الأرجح. فعندما حلَّل نمط عمليات القتل توصَّل إلى أن القاتل يحتمل أن يكون «إنسانًا متواضعًا في المظهر والسلوك ويتميز بالجرأة والهدوء في مواجهة العنف الذي لا يمكن تخيله … متوسط العمر ويعيش بمفرده ويرتدي معطفًا طويلًا ليخفي الدماء التي تنتج عن جرائمه (إذ كان يرتكب جرائمه في الأماكن العامة)». مع ذلك، لم يتوفَّر لدى الشرطة التي استخدمت تقنيات بدائية جدًّا للتحقيق في ذلك الوقت ما يكفي من المعلومات للعثور على القاتل، ثم أغلقت القضية بعد أربع سنوات. وحيث إن رجال الشرطة لم يقتنعوا بتوصيف بوند، فقد عجزوا عن أن يدركوا أن الشخص الذي يبحثون عنه ربما لم يُعانِ مرضًا عقليًّا أو يُبْدِ اضطرابًا؛ لذلك يغلب الظن أنهم كانوا يبحثون عن النمط الخطأ. وأظهر فيلم وثائقي حديث أعاد دراسة القضية باستخدام أساليب حديثة كيف أن أساليب التنميط يمكنها أن تساهم في هذه الأنواع من تحقيقات جرائم القتل. كما كشف الفيلم أن محددي الأنماط النفسيين في العصر الحديث انتهوا إلى أن جاك السفاح كان إنسانًا عاقلًا وطبيعي المظهر على وجه الحقيقة.1

يمكن أيضًا أن يكون السفاحون الصامتون الذين يستهدفون الإبداع «طبيعيين على نحو مخيف» وعادةً ما يصعب رصدهم بسهولة. ولعل وقت جمع الأدلة واستخدام أحدث أدوات التنميط قد حان حتى نُلقي القبض على الجناة ونَعزلهم ونجرِّدهم من أسلحتهم ونكشف مآويهم. ويعد استخدام «التنميط الجنائي» خُطوةً أولى في التحقيق في جريمة قتل الإبداع للتعرف على القتلة المحتملين المشتَبَه بهم. وتمدُّ هذه العملية المحققين بلمحة عامة عن الأنماط النفسية للشخصيات التي يحتمل تورطها في تلك الجرائم، ومن ثم عن دوافعهم. كذلك يمكن أن يساعد التنميط في تحليل طبيعة الجناية وطريقة ارتكاب الجريمة.

بعد خبرة تزيد عن خمسة وعشرين عامًا من العمل في كل من نظام التعليم وقطاع الأعمال، كشفت تحقيقاتنا حول قتلة الإبداع النقاب عن بضعة أنماط بالغة الوضوح. وسنعرفك الآن على هذه السمات، والشخصيات التي تجسِّدها، ونمنحك الفرصة للنظر فيما إذا كان أولئك القتلة يندسُّون غير مرصودين داخل المجتمع عامة أم يختبئون غير ملحوظين في محل عملك أو في مجال خبرتك العملية. والمشتَبَه بهم الحاليون يمكن التعرف عليهم بسهولة باستخدام هذه الأنواع من الأنماط العامة. فهي تضم طائفة من الشخصيات المريضة التي تجسِّد جميعها صفات مدمرة تعيش داخل الأفراد والأنظمة في المجتمع على جميع مستوياته. وقد يكون من الشائق أن تفكر فيما إن كان هؤلاء المشتَبَه بهم ممن يتسكَّعون في حيِّك السَّكَني.

يمكن أن يوجد المجرمون في كل مكان؛ حتى في المنزل المجاور. لكن قد يصعب التعرف على الإنسان المعتلِّ اجتماعيًّا الذي يمكن أن يكون بارعًا في الاندماج مع الناس على نحو غير ملحوظ. والمعتلُّون اجتماعيًّا، مثل بقيتنا، يقبعون في مكان ما على سلسلة تمتدُّ من المقبول اجتماعيًّا إلى المريض نفسيًّا. وقد تشعر بالصدمة إذا اطلعت على الأعراض المصاحبة لأيٍّ من اضطرابات الشخصيات ورأيت أن كثيرًا من هذه الأعراض ينطبق عليك. والحقيقة أنه قد وُجد أن أكثر من ٣٠٪ من البشر في جميع أنحاء العالم2 أكدوا أنهم يستوفون نسبة من هذه المعايير في مرحلة ما من حياتهم.3 لكن رغم أن هذه التصنيفات يمكن أن تساعدنا في التشخيص والعلاج، وتساعدنا في هذا السياق على فهم الأشياء، فإنها ليست دلالية أو حاسمة في العموم. وليس الغرض من هذا الكتاب هو وصم الأشخاص أو شنقهم دون محاكمة، بل تحديد المبادئ والنظم التي تُديم المناهج السلبية للوصول إلى التفكير الإبداعي وقياس مدى سيادتها — فقط — في حياتك اليومية أو في مؤسستك.
والسيكوباتيون، ويعرفون أيضًا بالمعتلِّين اجتماعيًّا، يشكِّلون قرابة ٤٪ من السكان. قد تبدو هذه النسبة ضئيلة، لكن إذا وُضعت في سياقها، تكون فعليًّا أعلى من نسبة الذين يعانون من اضطرابات فقدان الشهية الشهيرة (حوالي ٣٫٤٣٪) أو بمعدلات الإصابة بسرطان الأمعاء الذي استُهدف كقضية صحية أساسية. وسلوكيات المعتلِّين اجتماعيًّا يمكن أن يكون لها أثر أكبر بكثير على الآخرين. ورغم تصوير الإعلام عادةً للمعتلين اجتماعيًّا على أنهم عنيفون، يظل العديد من المعتلِّين اجتماعيًّا غير العنيفين متوارين بعيدًا عن الأنظار، ويمكن لأثرهم على المجتمع أن يكون فتَّاكًا. وبدلًا من تسميتهم بأنهم أفراد مكتملو الإنسانية، يوصفون بأنهم «قناصون اجتماعيون» تنقصهم «خصلة الروح» ويميلون إلى العمل «كآلات فعالة … ذات برمجة اجتماعية حاذقة»، وقد يكونون بارعين فكريًّا، لكن هناك عادةً عدم توافق بين أقوالهم وأفعالهم.4
في حالة السيكوباتيين، يصاب جزءُ المخ المسئول عن معالجة التعاطف (وهو اللوزة المخية) بالقصور. فهم — حسب التعريف — يعانون من اضطراب في الشخصية يتَّسِم بسلوكيات عدوانية ومعادية للمجتمع إلى جانب افتقار إلى التعاطف أو الإحساس بالندم.5 ويشير ذلك إلى تأثر الإبداع أيضًا حيث إن الإنسان يحتاج إلى التفكير الإبداعي ليضع نفسه محل الآخرين ليرى ما يرونه، ويشعر بما يشعرون به. وغالبًا ما يحقق السيكوباتيون نجاحات كبيرة، وذلك على وجه الدقة لأن افتقارهم إلى الإحساس بالندم أو الذنب يعني قدرتهم على أن يسحقوا من يقف في طريقهم «بلا رحمة».
وما يثير القلق، أنك كلما علوتَ في سُلَّم السلطة، كان السيكوباتيون أكثر انتشارًا. فثمة اختبار، يسمى قائمة هير المعدلة للسيكوباتية، يضم عشرين سمة شخصية أو سلوكية تتأصل في السيكوباتيين.6 من هذه السمات الشعور المتضخم بتقدير الذات، والافتقار إلى الشعور بالندم أو الذنب، والمشكلات السلوكية المبكرة، والبراعة الإجرامية. فهل شهدت أيًّا من هذه الخصال في مؤسستك؟ وهل ربطت بين اضطرابات السلوك وقتلة الإبداع؟ فالسلوك غير الطبيعي المعادي للمجتمع الذي يؤثر في قدرة الآخرين على الإبداع يؤدي في نهاية المطاف إلى قتل الإبداع.
سنوجز الآن المراحل الأربع لعملية القتل، ونقدِّم بعضًا من القتلة السيكوباتيين الأكثر اتصافًا بصفة «الطبيعيين على نحو مخيف» ممن تعرَّفْنا عليهم في الأفراد والمؤسسات. فتشتمل مراحل تدمير الإبداع التي حددناها على:
  • المرحلة الأولى: القمع.

  • المرحلة الثانية: التقييد.

  • المرحلة الثالثة: التدهور.

  • المرحلة الرابعة: التدمير.

كما هو موضح في الجدول ٢-١، هناك سبعة قتلة إبداع محتملون وأسلحة مشتبه بها، اكتشفنا أنها أسهمت في هذه العملية الانتكاسية.
جدول ٢-١: نموذج دورة حياة التفكير الإبداعي – موت التفكير الإبداعي.
موت التفكير الإبداعي: مراحل الانتكاس
عملية القتل سلاح القتل المشتَبَه بهم
المرحلة الأولى القمع
استخدام التحكم والخوف لتقييد التفكير المنفتح
التحكم (طاقم التحكم) الإرغام الساحق البيروقراطية، التنمر، القيادة، القمع
الخوف (عائلة الخوف) الإرهاب المطبق الخوف من الفشل، الخوف من المجازفة، الخوف من المجهول
المرحلة الثانية التقييد
استخدام الضغط والعزل لتقييد الأفكار
الضغط (جماعة الضغط) الإجهاد الخانق الإجهاد المفرط، تعدُّد المهام، التوقعات غير الواقعية
العزل (زمرة العزل) الانحياز الصارم مصادر المعلومات المتحيزة، التجانس، الافتقار إلى التنوع
المرحلة الثالثة التدهور
تثبيط النمو بسبب اللامبالاة
اللامبالاة (عشيرة اللامبالاة) الخمول الفتاك الافتقار إلى التحفيز، الافتقار إلى المبادرة، الافتقار إلى الدافع
المرحلة الرابعة التدمير
ضِيق الأفق والتشاؤم المدمران
ضيق الأفق (عصابة ضيق الأفق) التعصب العنيد الحنكة المقيَّدة، التحيز، التفكير الجماعي
التشاؤم (فوج التشاؤم) السلبية الخبيثة السلبية، اليأس، الافتقار إلى الثقة

ولتقليص دائرة المشتَبَه بهم، سنركز على مجموعات الأنماط التي كشفنا عنها في أبحاثنا وتجاربنا. فبعد أن أجرينا ورش عمل حول الإبداع شملت أكثر من ٢٠ ألف شخص حول العالم — بَيْنَ المديرين التنفيذيين ومديري الشركات إلى أطفال رياض الأطفال، وبين الأغنياء والمتعلمين إلى الفقراء والمحرومين — تمكنَّا من التوصل إلى استنتاجات عامة معينة من اكتشافاتنا. فعلى سبيل المثال، غالبية الناس يُقِرُّون بفائدة التفكير الإبداعي، لكن مع دعمهم له من حيث المبدأ؛ ليست لديهم أدنى فكرة عن طريقة احتضار الإبداع في حياتهم الشخصية. في بداية جلساتنا حول إحياء الإبداع، غالبًا ما نواجه وابلًا من الاحتجاجات القائلة إنه «لن يجدي نفعًا بالنسبة لي أو لمؤسستي» فضلًا عن سلسلة من أسباب ذلك. لكننا وجدنا أن قلة من الناس، أو الكتب المصنفة حول الموضوع، قد توقفت لتفحص في أي قدر من التفصيل سبب أن يكون الأمر على تلك الشاكلة، والطريقة التي مات بها الإبداع حقًّا.

وقد تُصدم بمجرد اكتشاف مدى قرب هجمات أولئك القتلة منك …

(١) المرحلة الأولى: القمع – استخدام التحكم والخوف لتقييد التفكير المنفتح

تتضمن المرحلة الأولى من عملية القتل نمطين أساسيين للقتلة: «طاقم التحكم» الذين يسحقون الفكر المستقل والإرادة الفردية، و«عائلة الخوف»؛ وهم قتلة هادئون في استطاعتهم تقويض الثقة وقهر الفرد.

(١-١) نمط القتل الأول: طاقم التحكم

عادةً ما تكون الحاجة للسلطة هي ما يحرك نمط «التحكم»، ويُعرف طاقمه أيضًا باسم القامعين المتنمِّرين. فالأفراد والأنظمة الذين يتَّسِمون بهذا النمط يَميلون إلى الهيمنة على الآخرين وقمعهم. فهم يُمْلُون على الآخرين نتائج معينة ويوجهونهم نحوها بدلًا من تمكين الاستكشاف والنمو الشخصيين والتشجيع عليهما. ويشعر ضحايا نمط التحكم غالبًا بأنهم مُقَيَّدون أو عالقون في مأزق لا فكاك منه. فالقاتل المتحكم يميل إلى القتل من خلال قمع القدرة على التفكير بحريةٍ واستقلالية، وعادة ما تُسحق إرادة الضحايا. ويمكن أن يعاني هؤلاء القتلة من اضطرابات في الشخصية تَميل إلى أن تكون معادية للمجتمع أو حتى ساديَّة. أما سلاحهم المفضل فهو الإرغام الساحق.

التعذيب المؤسسي: أغلال القرون الوسطى وأنظمة التطفُّل

في العصور الوسطى، كان السجناء المدانون يُقيدون أحيانًا إلى أداة عقاب تسمى الفَلَقة؛ وهي ألواح خشبية متصلة بمفصَّلات توصد في مكانها ويُدخل فيها عنق السجين ويداه للتعذيب. ولمَّا كان الإخزاء والسخرية العلنيان جزءًا أساسيًّا من العقاب، فقد كان ذلك العقاب يقع في مكان عام حيث يُشجع المارة على قذف الضحية قاصرة اليد بالطين والأطعمة العفنة أو حتى بالغائط. وقد يُترك السجين في العراء لأيام؛ فيتعرض لظروف طقس قاسية، ومن ثم شاع أن يلقى هؤلاء المقيدون لأيام متتالية حتفهم بسبب انخفاض درجة حرارة أجسامهم أو الإنهاك من ارتفاع درجة حرارة الجو. وكان الهدف من ذلك سحق روح المرء من خلال إنهاك البدن والإذلال.

قد تظن أن أدوات التعذيب تلك هي شيء من الماضي، إلا أنه في الوقت الحالي لا يزال هناك تسعة وستون مصنعًا معروفًا للأغلال وأصفاد الأرجل ومكبلات الأصابع ويقع معظمها في الولايات المتحدة وأوروبا.7 وتعمل الأصفاد على تقييد الحركة لا إبطالها كليًّا، فتتيح للسجين حرية محدودة يقيِّدها تحكم خارجي. وتوثِّق منظمة العفو الدولية الكَمَّ الهائل من انتهاكات حقوق الإنسان الحالية التي يُستخدم فيها التقييد والتعذيب والإرهاب كوسائل للتحكم.8

ومثل الفَلَقة والأغلال التي صُمِّمت لتقييد الحركة الجسدية، هناك العديد من الأنظمة المؤسساتية التي صُممت — عن عمد أو عن غير عمد — لتثبِّط النمو والتطور العقليين والعاطفيين، فتحطم إرادة الإبداع. وعندما تنشأ أنظمة تقيِّد حرية الفكر، لا يملك الإبداع فرصة للازدهار. ويمكن لذلك أن يحدث على الصعيد المحلي أو الصعيد العالمي عن طريق الديكتاتورية القمعية، اجتماعيًّا ومؤسسيًّا وفرديًّا.

إنَّ أولئك الذين ينطبق عليهم نمط التحكم هم — بلغة فجَّة — سفاحون. فغالبًا ما يكون سلوك الشخصيات في هذا النمط واضحًا، غير أننا غالبًا ما نكون من الخوف بدرجة تمنعنا من مواجهتهم، تاركين إياهم «يفلتون بجريمة القتل». ونحن نعلم أين يتسكَّع هؤلاء السفاحون — إنهم يحيطون بنا من كل حدب — لكننا نخشى الاعتراف بوجودهم. وتمامًا كما تواصل الزوجات المعنَّفات العيش مع أزواجهن المتعسفين بسبب تعلقهن العاطفي بهم، فإننا نُصرُّ على السماح للأنظمة الداعمة للتحكم بالسيطرة على حياتنا لأنها باتت مألوفة لنا. وما دام يتم التساهل مع تلك الأنظمة المُتحكمة، فإنها ستستمر في سحق الإبداع.

عملنا ذات مرة مع مجموعة إدارية في مجال تكنولوجيا المعلومات كانت قد عانت مع هذا القاتل الذي ترسخ في المؤسسة. وقرب انتهاء إحدى ورش عمل التفكير الإبداعي التي نظَّمناها، كان فريق القيادة الرئيسي المكون من ثلاثين فردًا قد تمكَّن من التوصل إلى مئات الأفكار الشائقة؛ ليتطور العديد من هذه الأفكار إلى خطط عمل محددة وعملية. ومع انتصاف الظهيرة، كان الحماس والدافع يملآنِهم حرصًا على العودة إلى أقسامهم محمَّلين بتلك الأفكار الجديدة الرائعة وبتلك الطاقة المتجددة التي يولدها التفكير الإبداعي. بعد ذلك، ظهر المدير العام. كانت هذه الجلسة قد نظمت بناءً على طلب هذا المدير العام، ورغم أنه كان حريصًا نظريًّا على أن يتعلم أعضاء فريقه التفكير الإبداعي، فعلى الصعيد العملي، وعقب رؤيته لنتائج الورشة، اتَّجَهَ دون عمد إلى إخماده. فبعدما رحَّب المدير العام بالمجموعة في بداية اليوم، عاد إلى مكتبه ليستكمل ما سمَّاه «عمله الحقيقي» في إشارة واضحة منه إلى أنه غير منخرط في العملية ولا يهتم بها. وعندما دُعي إلى العودة إلى المحاضرة ليستمع إلى الأفكار الإبداعية لتحسين الأداء التي كان فريقه قد توصل إليها، جلس عاقدًا ذراعيه وساقيه بملامح جدية وأبقى على سلوكه غير المتجاوب الذي كاد يتسم بالسلبية طوال الجلسة، وأظهرت لغة جسده بوضوح أنه لم يكن متقبلًا الأفكار الجديدة أو لم يكن على استعداد للاستمرار في مناقشتها.

لعلَّ المدير العام أدرك أن العديد من الأفكار الجديدة لم تكن قابلة للتنفيذ الفوري، وأن بعضها قد يكون مكلفًا وقد يستغرق تنفيذها الكثير من الوقت. لكنه أغفل غرض عملية توليد الأفكار والبحث عن سبل إبداعية لتحسين عملية تنفيذ الأعمال. كان بإمكانه أن يشجِّع على إنتاج المزيد من الأفكار بدلًا من وَأْدِها، وكان يمكن أن يستخدم هذه الأفكار كنقطة انطلاقة لاستكشاف المزيد. بعد ذلك في الجلسة، اجتهد المدير العام في منع تدفُّق الأفكار الإبداعية بتوجيه نقاش المتابعة نحو نتائج محددة من اختياره بدلًا من أن يفتح المجال إلى حرية التعبير. وكانت النتيجة على المدى الطويل هي عدم تغيير أي شيء في النظام؛ فكان هناك العديد من الموظفين غير الراضين — الذين استقال عدد منهم ومضى بحياته — بينما خسرت الشركة فرصة لمعالجة قضايا أساسية.

القصة السوداء لبنك ليمان براذرز — الذي وصف بأنه محلُّ عمل به رؤساء يعمدون إلى الإرغام والتنمُّر والمراقبة الشديدة — ذائعة الصيت في الوقت الحالي.9 وكما قال ديفيد جولدفارب — الرئيس الدولي للشراكات الاستراتيجية بالبنك — إن النهاية «جاءت سريعًا جدًّا، ولم يكن أحد مستعدًّا لها، فلم يخطر على بال أحد وقتها أننا سننهار، فجلُّ ما كنا نعرفه أن لدينا الكثير من العمل لننجزه.» استخدم الرؤساء الإرغام سلاحًا فتاكًا، ودائمًا ما كانوا يتحكَّمون في موظفيهم، سواء بأسلوب رسمي أو غير رسمي، وأنشئوا ثقافة الخوف حتى لا يجرؤ أحد على التشكيك في النظام. ونتيجة لذلك انهار البنك بالكامل. كانت ثقافة التنمُّر شديدة القوة حتى إنه مع توقُّع البعض للنتيجة مسبقًا، لم يجرؤ أحد على إثارة الأمر. وقد علَّق مصرفي شهير قائلًا: «لقد سحقوا الناس. بنوا قلعةً لنهبهم. إنني لم أقابِل لمرة واحدة في كل تلك السنوات موظفًا في إحدى الشركات الكبيرة في وول ستريت يعاني من أزمة ضمير.»10

ومن خلال استخدام النفوذ والسلطة وإنشاء أنظمة وإبقائها بهدف تكبيل التفكير الحر والأفكار الجديدة، يقتل التحكُّمُ الإبداع ببراعة. هناك حكمة تقول بأنه ليس هناك ما هو أكثر طرافة من النكات التي يلقيها أصحاب النفوذ. فالقوة والسلطة اللتان يمارسهما الأشخاص المتحكِّمون والأنظمة المتحكمة تُخْمِد الفكر المستقلَّ، ويكون هذا شديد التدمير على المدى الطويل. إن الحاجة إلى «السيطرة» قد تنبُع من شعور الفرد بعدم الأمان وبالنقص، فتصبح محاولة لتعويض هذا الخلل في الشخصية، إذن فإن فهم الدوافع التي تشكل هذا النمط قد يُسهِم في إزالة قوتها التدميرية.

قائمة المشتَبَه بهم الرئيسيَّين في طاقم التحكم:
  • الأنظمة القمعية.

  • الأنظمة الخانقة (البيروقراطية).

  • الرؤساء المتنمِّرون.

(أ) المشتَبَه به الأول: الأنظمة القمعية

المافيا ذات الوعيد
صورة المافيا الإيطالية التقليدية — حيث الملابس الداكنة، والهيئة المخيفة ولهجة صقلية الثقيلة، وسمعتهم بارتكاب العنف ضد أي شخص يقف في طريقهم وبالإفلات دون عقاب — ساهمت في سهولة التعرف عليهم اليوم. وليس معروفًا تحديدًا أصل هذه المجموعة الإجرامية التي ظهرت في صقلية في منتصف القرن التاسع عشر خلال الفترة الانتقالية بين نهاية عهد الإقطاع، وضم صقلية إلى سيادة الدولة الإيطالية عام ١٨٦٠. في ظل النظام الإقطاعي، تَمَلَّكَت طبقة النبلاء معظم الأراضي، ولكنهم منذ عام ١٨١٢ شرعوا في بيع أراضيهم أو تأجيرها للمواطنين الأفراد، وفي عام ١٨٦١ ارتفع عدد ملاك الأراضي عشرة أضعاف، من ألفيْ مالك إلى عشرين ألفًا.11 وبدون موارد للشرطة لمتابعة العدد الهائل للنزاعات التي نشأت، انخرط محكمون وحماة مخالفون للقانون، ممن نظموا أنفسهم في نهاية المطاف في «جماعات مسلحة» أو في عشائر، في الأمر. ثم جندت العشائر — التي عرفت فيما بعد بالمافيا — مجرمين وقطَّاع طرق سابقين واعتمدت على العنف لفرض سيطرتها. وسرعان ما انخرطت في السياسة. وفي أوائل عام ١٨٨٩، توصَّل باحث الموروثات الشعبية جوزيبي بيتر إلى جوهر المافيا عندما كتب: «المافيا هي وعي المرء بقيمته الذاتية، وهو المفهوم المبالَغ فيه لقوة الفرد باعتباره الحكم الوحيد لكل نزاع، وكل صراع على مصالح أو أفكار.»

ومثله مثل المافيا، يبذل طاقم التحكم في المؤسسات جهده لنيل السيطرة السياسية والحفاظ عليها حتى ينفِّذ برنامجه الخاص. وهذا النوع من التحكم يسحق الإبداع من خلال الإكراه الذي يَغرِس جذور الخوف.

يحتاج الابتكار في معظم الأحيان إلى أن ينبع من القمة حتى يَضمن بقاءه، أو يستلزم على الأقل بعض الدعم من القمة. وتحتاج الشركات المبتكرة إلى قادة مبتكرين. فأينما فرض القادة السيطرة السلبية والقسرية على فرقهم باستخدام أساليب القيادة الاستبدادية، عانت الثقة الإبداعية. فالقادة الذين يُبدُون شكوكهم دون دراسة الإمكانات الإبداعية للأفكار الوليدة، والذين لا يقرون بالجهود الإبداعية النابعة من الموظفين أو يقبلون بها، لا يثبطون الإبداع فقط بل يُطفِئون جَذْوَته حقيقةً. وخلال مؤتمر عُقِدَ في كارديف عام ٢٠٠٧،12 نُودِيَ إلى حملة وطنية «للدفاع عن الإبداع الأكاديمي» من الهجمة الملحوظة للروتين المستحكم والمديرين المتنمِّرين. وحث المحاضرون فيه المشاركين على «مقاومة شعورهم بالعجز أمام المديرين المفعمين بالحماسة المفرطة وأمام متطلبات عملية المراجعة، ومؤشرات الأداء وأعمال تقييم الأبحاث. ورأوا ضرورة إعداد الموظفين من أجل «إزالة الحواجز» في بيئة العمل واتخاذ مجازفات إبداعية. وأهم من كل ذلك رعاية الأفكار الإبداعية حتى «تجد لها مأوًى»، كما يجب التسامح مع الأفكار السلبية أو الأخطاء في المقابل.»

(ب) المشتَبَه به الثاني: البيروقراطية

قريبة المافيا المهذبة

يمكن وصف البيروقراطية على أنها القريبة المهذبة للمافيا التي ترعرعت في كنف النظام ولا تعرف سواه. إنها لا تتعمد إيذاء الآخرين، لكنها تعمل في إطار عالم متحكم من أنظمة وعمليات خانقة. ومثلها مثل مرضى الوسواس القهري تعاني من «الالتزام الصارم بالقواعد والأعراف الأخلاقية والتنظيم المبالغ فيه» بما في ذلك الانشغال المفرط بالتفاصيل والحقائق الدقيقة. كما تميل إلى اتباع اللوائح بلا هوادة، وإعداد القوائم والجداول الزمنية بلا توقف. فالبيروقراطية لا تعي قدر سيطرتها على العلاقات الشخصية على حساب المرونة وتفتُّح الذهن والكفاءة. وهي تظهر بوضوح في كل مكان في المؤسسات الكبيرة والقوية.

البيروقراطية مثل ذلك الرجل في العمل الذي لا يحبه أحد لكنَّ الجميع يعلم بوجوده. وهذا لا يعني أنها عدوانية أو شريرة، إنما هي حقًّا مملَّة ومتصلِّبة. وعندما ينظر المرء إلى عملها في نهاية الأمر، يرى أنها دسَّت أنفها في كل شيء لكنها لم تنتج أي شيء ذي قيمة على الإطلاق. وتقتل البيروقراطية الإبداع في صمت أحيانًا، فلا يدرك المرء أن الوقت الذي خصصه ليبتكر فيه قد ضاع في ملء الاستمارات. وأحيانًا تكون أكثر وضوحًا؛ حيث إن قواعد الصحة والسلامة المهنية لن تسمح لك بالاستمتاع بيوم عمل دون قيادة السيارة لأنها لن تسمح لك بإيقاف دراجتك في المكتب كي لا تتسبب في إصابة أحد.

وكشف الدكتور جيسون في تقرير الطب الشرعي أن الهياكل الصلبة لا تستوعب الابتكار أو تعدد الزوايا (وهي ببساطة تعني تنوع الأمور أو تعدد أبعادها)، فلا تجد المقترحات الابتكارية مكانًا محددًا تتجه إليه ولهذا لا تجد من يقترحها من الأساس. أما الهياكل السلسة على الجانب الآخر، فتسمح بتعدد الأبعاد وتوفر فرصًا للالتقاء والتعاون. وفي نفس الوقت، قد تؤدي الحرية المفرطة إلى عدم النظام؛ لذلك من المهم أن نعثر على مركز الاتزان الدقيق والمثالي بين المرونة والقوة.

عُرِّفت البيروقراطية على أنها «مكتب يسير بخطًى بطيئة». وبينما تضمن الأنظمة الصارمة في محل العمل الاستقرار، فإن ذلك لا يَعني أنها تشجع على الإبداع بالضرورة. فالشكليات التي تحرِّكها الإرادة السياسية قد تبطئ التفكير الإبداعي في المؤسسة وتقيده.13 ولإنتاج الأفكار المبتكرة، يتعيَّن على المبدعين من المهنيين العمل في أنظمة تقدر التعاون القائم على الحيادية وغير المشروط.14 قبل مائة سنة كان للبيروقراطية مدلول إيجابي؛15 إذ صُممت لتحل محل الممارسات الاستبدادية للسلطة على يد الأنظمة القمعية. لكن لسخرية القدر، سرعان ما تحوَّلت إلى نظام مقيِّد في ذاته. وفي كتاب «إنجاح البيروقراطية»، يصف المؤلف مايكل بالي البيروقراطية بأنها: «الطريقة الوحيدة المتَّبعة لتنسيق أعداد هائلة من الناس للتعامل مع مشكلات ضخمة.» لكنه أيضًا يوضح الحاجة إلى إضفاء المرونة على البيروقراطية عبر معرفة مكان وزمان تغيير القواعد بدلًا من مجرد التقيُّد بها. فيسأل بالي: «لماذا تحمل البيروقراطية هذه السمعة السيئة؟ هل هو شيء في البيروقراطية ذاتها؟ أم هي أشباح أخرى في النظام تساهم في تحويل الكفاءة إلى روتين عبر ملايين التغيرات البطيئة؟» ويؤمن بالي بأن البيروقراطية مثلها مثل أي أداة أخرى تقاس كفاءتها وفقًا للناس الذين يستخدمونها، وإذا كان لدى المستخدمين أجندات محددة مسبقًا فحتمًا ستخرج النتائج متحيزة.16

تصبح الأنظمة قمعية عبر القيادة الاستبدادية، كما أنها تتصلب إذا لم تتجدد وتُحَدَّثْ كل حين. وللأسف دائمًا ما يضع هدف الربح ضغوطًا خارجية على المؤسسة وعلى الأفراد، لكن هذا المطلب عليه أن يكون متوازنًا بعناية مع الحاجة إلى حرية الفكر كي تبدع.

(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: القيادة المتنمرة

التنمر والمحصلة النهائية
المدير المتنمر قريبٌ — ليس بعيد الصلة — لزعيم المافيا الذي يرغب في التحكم. وقد وُجد أن المدير المتنمر لا يجسِّد نمط قيادة مميزًا فحسب، بل يبدو أنه يُظهر كذلك مجموعة متباينة من اضطرابات الشخصية. فعندما أُخضِع مديرون تنفيذيون بريطانيون ومرضى نفسيون مجرمون لاختبارات متطابقة للشخصية، أظهرت النتائج أن ثلاثة من اضطرابات الشخصية كانت أكثر شيوعًا بين المديرين التنفيذيين منها في المجرمين المختلين.17،18 وكان الفارق الرئيسي بين المجرمين والمديرين التنفيذيين — كما انتهت إلى ذلك النتائج — أن المديرين التنفيذيين سيكوباتيون ناجحون،19 بينما المجرمون غير ناجحين! وكانت الاضطرابات التي وجدت النتائج أنها أكثر شيوعًا بين المديرين التنفيذيين هي:
  • اضطراب الشخصية التمثيلية: يشمل الشخصيات ذات الجاذبية السطحية، والمنافقة، والأنانية، والمتلاعبة.

  • اضطراب الشخصية النرجسية: يشمل الشخصيات المهووسة بالعظمة، والشخصيات التي ينصبُّ اهتمامها بنفسها دون مراعاة للآخرين، والشخصيات التي تستغلُّ الآخرين، والشخصيات ذات الحس العالي بالفردية.

  • اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية: يشمل الشخصيات التي تسعى للكمال، والشخصيات التي تُفْرِط في التفاني في العمل، والشخصيات الصلبة، وذات الميول التعنُّتية والديكتاتورية.

وكشفت الاختبارات صفاتٍ أخرى شائعة فيما بين المديرين التنفيذيين «السيكوباتيين الناجحين»، وهي اضطرابات التحكم في الغضب والحس غير السوي في الحقيقة.20 يشعر العديد من المتنمِّرين بعدم الأهلية ويجدون صعوبات في التواصل مع الآخرين، وغالبًا ما تنعكس هذه الصفات بأسلوب غير لائق. ووُجد أيضًا أن النزعات النرجسية تصاحب دوافع التنمر والشعور بالرضا لمشاهدة معاناة الآخرين.21 هل يبدو الأمر مألوفًا لك؟ خلصت الاختبارات إلى أن غلبة هذه الصفات لدى المديرين التنفيذيين فسَّرت سبب عدم قدرة العديد من الرؤساء المتنمرين على تحديد مشكلاتهم في القيادة، وأنه نادرًا ما تكون لديهم الرغبة أو القدرة على تغيير سلوكهم إذا لفت أحد الأشخاص نظرهم إلى تعنُّتهم. كما أنهم لا شعور لديهم على الأرجح بأي ندم أو ذنب.22
وصلت نسبة السيكوباتيين بين المديرين إلى واحد من كل خمسة وعشرين23 كما زادت نسبة الأمراض النفسية بين مديري الشركات (وهو ما يُعرف باسم «الجنون بلا هذيان»)24 أربعة أضعاف نسبتها بين العامة. وباستخدام لغة المجال المالي، فإن تكلفة التنمُّر قد تكلِّف مؤسسة مكونة من ١٠٠٠ عامل قرابة ١,٢ مليون دولار أمريكي، على أساس التكاليف المصاحبة لاستبدال الأفراد المتضررين من التنمر، وهذا المبلغ لا يشمل تكلفة أي نزاعات قضائية قد تنشأ ضد المؤسسة.25 وبانتشار التنمر في الشركات، أصبح الأمر قضية شائعة في وسائل الإعلام.26،27

في الوقت الذي يمثل فيه التحرش الجنسي والازدراء العنصري مرشَّحَين واضحين لقائمة المطلوبين للعدالة، تمكَّن التنمر حتى الآن من أن يُفلِت من الانتباه، ربما لأن له شخصية مخادعة تتخطَّى الحدود عندما لا يكون هناك شخص مهم يتابع. فبمقدوره أن يكون مثل القنَّاص الذي ينقضُّ على ضحاياه عندما لا يكون هناك شخص آخر بالجوار. ويزداد المدير المتنمر قوةً سرًّا، حيثما يكون الأفراد أكثر خوفًا من أن يجهروا بالقول. ومع أن عديدين يشتكون من هذا القاتل، تجرَّأ بضعة أشخاص فقط على مناقشة المشكلات في حضوره.

وكشفت إحدى استطلاعات الرأي المؤثرة حول سياسات المكاتب28 عن زيادة واضحة في نمط «المدير المتطفِّل العدواني». وأوضح قرابة ثلث المشاركين أنهم يرغبون في تغيير وظائفهم لأن مديريهم المتنمرين لا يمنحونهم أي استقلالية في العمل. ورأى ٦٠٪ من المشاركين أن معدلات التنمر في محل العمل تأخذ في الازدياد بصفة عامة، وقال ٧٩٪ إن التنمر قد يتصاعد إلى صراع؛ بينما تعرَّض نحو ٩٪ منهم لإيذاء جسدي فعلي، وعانى قرابة ١٨٪ من المضايقة اللفظية، وشعر بالقهر حوالي ٦٤٪ من المشاركين في الاستطلاع بسبب ثقافة ساعات العمل المطولة القسرية أو بسبب «استبعادهم» أو «تهميشهم» عمدًا. أما الأعراض الأخرى لهذه الثقافة، فهي «أساليب التعامل الفظة» و«النقد الجارح بلا سبب» و«ثقافة إلقاء اللوم على الآخرين» بالإضافة إلى من يحصد ما زرعه زميله من أعمال.
قد ينشئ المديرون المتنمِّرون بيئات عمل:
  • قسرية.

  • رجعية.

  • ذمَّامة.

وهذه البيئات قد تخلق عقلية الصراع من أجل البقاء بالإضافة إلى الثقافات التالية:
  • الخوف.

  • القلق.

  • الغضب.

  • حماية الذات.

  • قلة الحيلة.

في بيئة العمل العدائية، يعمُّ التخريب المهني. فالموظفون الذين يشعرون بأنهم مسلوبو الحيلة، ويشعرون أنهم واقعون تحت ضغط شديد ويفتقرون إلى الدعم للتعامل مع هذا الضغط، غالبًا ما يردون الصفعة بأساليب خفية وتخريبية. وفي مثل هذه البيئة السلبية، لا مجال أو حافز للتفكير الإبداعي. وتقول متخصصة علمِ النفس المهني بيفرلي ستون في مقال في صحيفة الجارديان: «إن إتمام أعمال متأخرة بجودة قليلة، أو التظاهر بالمرض عندما تشتدُّ الحاجة إليك أو التمسك بالروتين حتى لا تُنجز هذه المهام كما ينبغي هي ثلاثة أشكال شائعة للتخريب المهني.»29
يميل المديرون المتنمرون أيضًا إلى خلق بيئات عمل تنافسية وقد تكون مدمرة أيضًا. فحينما تشجع المنافسة بين الموظفين فتشتعل حماستهم بالحوافز الفردية على حساب تنمية ثقافة تعاونية، يُدَمَّر الإبداع التعاوني الذي يزدهر في البيئات المنفتحة التي تتقبَّل الآخرين. وتبرُز «نظرية التنافس» هذه في عدد كبير من المؤسسات اليوم،30 وبالفعل اتَّضح أن أكثر من ثلاثة أرباع المديرين التنفيذيين الذين يسوء مستوى أدائهم يَنْصِبُون شباك الفشل لخلفائهم أو يتعمَّدون اختيار خلفاء ضعاف للحفاظ على سمعتهم.31 كما يستطيع المديرون إخماد الإبداع بفاعلية عندما لا يقرون بالجهود الإبداعية التي يبذلها الموظفون. ويحدث ذلك من خلال عدم تشجيع الأفكار الإبداعية، وكذلك من خلال الحرص على إبداء الامتعاض أو التشكيك في الأفكار دون موازنة معقولة بالدعم والتقييمات الإيجابية.32
وأخيرًا إذا ثبتت صحة كلِّ هذه الأبحاث في نهاية المطاف، يبقى السؤال: «لماذا هذا العدد الكبير من المديرين السيكوباتيين؟» في حاجة ماسة إلى الإجابة. فلا يمكن أن يكون كل البشر سيكوباتيين؛ لذا فالمنطق يحتِّم علينا التفكر في ثلاث إجابات لهذا السؤال:
  • ينجذب السيكوباتيون إلى مناصب السلطة داخل الشركات.

  • يُصمَّم النظام المؤسسي بطريقة تحوِّل الأشخاص العاديين إلى سيكوباتيين أو على الأقل يحفِّز ويطوِّر أسوأ الخصال فيهم.

  • يُؤسَّس النظام على هذا النحو فيسمح بترقية من يطأ رأس زميله (مجازًا ليس حرفيًّا، كما نأمل).

إننا نُؤْمن أن الإجابات الثلاث سليمة، لكن الجرم الأساسي هو الإجابة الثالثة؛ فإذا كنت على استعداد أن تتصرَّف بقسوة وخداع، وتتقن إظهار عكس ذلك، فستتمكن من المضي قدمًا في ثقافات الشركات، وهذا الأمر في غاية الخطورة ومن الصعب جدًّا تغييره.

عند وفاة زعيم المافيا أو تقاعده من منصبه القيادي، غالبًا ما تذهب معه سمعة عشيرته أو «عائلته». فتحظى العشيرة بفرصة أكبر للبقاء إذا كان هناك قادة أقوياء محتملون داخل الصفوف. لكن طاقم التحكم لن يحظى بهذه القبضة المحكمة دون تحالف وثيق مع جماعة أخرى في العائلة من المقربين؛ وهي عائلة الخوف التي تتمكَّن من تولِّي زمام الأمور بسهولة في الوقت الذي يُفقد فيه التحكم …

تقرير المحقق

هل قابلت نمط القمع هذا في حيِّك أو في محلِّ عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:

الأنظمة المؤسَّسِيَّة الخانقة.
الاهتمام بالتفاصيل البيروقراطية بدلًا من النتائج المبنية على القيمة.
القيادة التعسفية بدلًا من الديمقراطية.
نزعة نحو الهيمنة.
الحرية المقيَّدة.

أثره على الضحايا:

انعدام الثقة.
انحدار تقدير الذات.
الاستكانة، أو الميل إلى الاستسلام أو التنازل بسهولة.

(١-٢) نمط القتل الثاني: عائلة الخوف

المشتَبَه بهم الذين ينطبق عليهم هذا النمط قد يبدون بمظهر أليف، لكنهم في واقع الأمر قَتَلَة صامتون وفتَّاكون. وغالبًا ما تنشأ عائلة الخوف وتترعرع في كنف المتحكمين، كما تبقى قريبة إلى جوارهم أغلبَ الوقت، وما يحرِّك عائلة الخوف في المقام الأول هو الحاجة للأمان. وغالبًا ما تتمكَّن عائلة الخوف من ضحاياها باستخدام الذعر حينما يشعر الضحايا بالضغط الشديد فيغرقون تحت وطأة القلق المُفْرِط. ويشعر الضحايا عادة بالذُّعْر لدرجة تمنعهم من المجازفة بالخروج والمبادرة بإنقاذ أنفسهم. ولافتقادهم القدرة على مقاومة القلق، فهم يغرقون فيه بسهولة. ويمكن أن تتضمَّن اضطرابات الشخصية ذات الصلة: الوسواس القهري، والشخصية التجنُّبية، والشخصية الانهزامية، والقلق العام، والرهاب. والسلاح المفضل لعائلة الخوف هو «الإرهاب المُطْبِق».

فرانكلين روزفلت والعراب

أولًا وقبل كل شيء، اسمحوا لي أن أؤكد على إيماني الراسخ بأن الشيء الوحيد الذي يجب أن نخاف منه هو الخوف نفسه؛ ذلك الرعب غير الواضح وغير العقلاني وغير المبرر الذي يشلُّ الجهود اللازمة لتحويل التراجع إلى تقدم.33

الرجل الذي تكلَّم بهذه الكلمات — وهو فرانكلين روزفلت — عرف كيف يمكن للخوف أن يُصيب بالإعاقة. أصيب روزفلت بشلل الأطفال وهو في التاسعة والثلاثين من عمره وفَقَدَ القدرة على استخدام ساقيه، وواصل روزفلت محاولة تحقيق طموحه السياسي بإرادة حديدية. وقد ذكرت زوجته، إلينور: «أعلم أنه انتابه خوف حقيقي في بداية مرضه، لكنه تعلَّم أن يتغلَّب عليه. وبعدها لم أسمعه قط يقول إنه يخاف أي شيء.»

وأثناء ولاية روزفلت كرئيس، كان مسئولًا عن قيادة الولايات المتحدة في مرحلة من أكثر المراحل صعوبة في تاريخها، وهي الفترة التي شهدت الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية. وفي خطاب تنصيبه الأول عام ١٩٣٣، دعا شعبه لمواجهة أكبر مخاوفه. فواجه روزفلت الكوارث الاقتصادية الضخمة والتوقعات السيئة التي تلت، ووحَّد أمته بخطاب ملهم تضمَّن العبارة الخالدة السالفة الذكر، وكلمات تنمُّ عن التحدي ترددت أصداؤها عبر الأجيال. وقد اتخذ روزفلت نهجًا تكتيكيًّا ثابتًا وقت الحرب وطبَّق سياسة خارجية واضحة بصفته زعيم حرب عام ١٩٤١. وبعد انتهاء الحرب، لم يتخلَّ روزفلت عن أَمَلِه القوي بقدرة الأمم المتحدة على الحفاظ على السلام بالتعاون مع حلفاء الحرب السابقين. وإنجازاته تذكِّرنا بأنه «ليس هناك شيء لنخشاه سوى الخوف نفسه.»

الخوف هو عراب عصابة القتلة،34 وهو ما يسيِّر كافة القتلة الآخرين أمامه. فحيثما تربَّص الخوف، فمن المستحيل أن تَمضي قدمًا بثقة، وبدون الثقة لن يكون هناك أي تقدم. والأشخاص الذين يفتقرون إلى الثقة يميلون إلى التمسك بالروتين نفسه واتباع الأساليب نفسها؛ لأن هذا الأمر يجلب عليهم مشاعر الأمن والأمان. فبدلًا من المجازفة والاستعداد للخروج من المنطقة التي تبعث عليهم الشعور بالاطمئنان، يلتزم هؤلاء بكل ما هو آمن، ومن ثم يفوِّتون على أنفسهم فُرَص توسيع مداركهم وتغذية تجاربهم؛ أي فرص أن يصيروا أكثرَ إبداعًا. ويرتبط انعدام الثقة أيضًا بالقلق والخوف من الفشل الذي حتمًا يخمد الإبداع في نهاية المطاف مثله مثل الإجهاد. وبالطبع تتأثَّر مستويات الثقة بالعديد من العوامل المذكورة هنا، بما في ذلك أساليب القيادة الاستبدادية والأنظمة القمعية. إذن، تحتاج معالجة مشكلات عدم الشعور بالأمان أن تسير بالتوازي مع معالجة هذه القضايا الأخرى.
عندما نعيش في خوف مستمر، نكون معرَّضين لخطر الإصابة بالقلق العام وانعدام الشعور بالأمان؛ مما يؤدي بدوره إلى عرقلة الإبداع. حتى الخوف المحسوس (غير الحقيقي) يمكن أن يكون معرقِلًا. فقد اتَّضح — على سبيل المثال — أن صياغة المشكلة بطريقة مختلفة قد يُخَلِّف أثرًا آخر، حتى إذا بقيت الأوضاع والحقائق كما هي.35 فالخوف يقتل الإبداع عبر غمر الأفراد باستمرار تحت الضغط؛ فيُضطرون إلى النضال حتى يتمكنوا من الطفو، وكلما زاد نضالهم أسرع غرقهم. وفي الماء، لا يستغرق الأمر سوى ثلاث دقائق لتغرق بمجرد أن تبدأ باستنشاق الماء بدلًا من الهواء. وبنفس الحال، يُمكِنُنَا الاستسلام للخوف والتسليم لقوته بسرعة كبيرة، وكلما تخبَّطنا وأطلقنا صرخات واهنة أو غير مسموعة للنجدة في أكثر من هيئة، استسلمنا للخوف أسرع ورضخنا للضغوط الخارجية التي سمحتْ للخوف بالتحكم.
إن تزايد الافتقار إلى الشعور بالأمان فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي الحالي يؤدي إلى وجود «قِدْر ضغط مِلْؤُه التوتر» في العديد من محالِّ العمل؛36 لذا، من المهم معالجة هذا النمط من أنماط القتل بصراحة وبصورة مباشرة.
قائمة المشتَبَه بهم في عائلة الخوف:
  • الخوف من الفشل.

  • الخوف من المجازفة.

  • الخوف من المجهول.

(أ) المشتَبَه به الأول: الخوف من الفشل

ارتكاب الخطأ ذي المليون دولار

إنه الطاغية الغاشم الذي يخيف أكثر الناس بسالة، وهذا المجرم المعروف يترعرع على الخوف من تجربة الأفكار الجديدة والخوف من احتمالية الفشل. ويقول دكتور جيسون إن الأفراد المبدعين عليهم أن يتَّسِموا بالمرونة، إذا واجههم الرفض، والاكتفاء الذاتي وتقوية الذات. والسِّيَر الذاتية لكبار الفنانين وكبار العلماء تبدأ تقريبًا دائمًا بفترة طويلة من عدم الاعتراف بهم. وهذا عامل مهمٌّ يستبعد كثيرًا من الناس من أن يكونوا مبدعين إنتاجيًّا. فالتغلب على الشعور بعدم الأمان حيال الإبداع هو لأصحاب القلوب الجريئة.

النجاح مصدر دعم عظيم، لكنه تجربة تعلُّم رديئة. فأنا أفضِّل اقتحام رأس الرياضي الذي فشل وعاد مرة ثانية عن ذلك الذي تُوِّج بالنجاح.

إدوارد دي بونو37
ألهمت الصدفة العديد من الاختراعات (منتجات شركة ثري إم سكوتشجارد38 مثال شهير على ذلك) أو جاءت هذه الاختراعات نتيجة للأشخاص الذين يستخدمون الفشل كفرصة للتعلم؛ أي الأشخاص الذين لا يخشون الفشل وكانوا على استعداد للنهوض مرة أخرى والمحاولة مرارًا وتكرارًا. انظر في أمثلة الفشل وتصحيح الأهداف التالية:
  • إذا انحرفت سفينة عن مسارها فهي لا «تفشل» ببساطة؛ إذ يدرك الربان أنه بحاجة إلى تصحيحٍ لإعادة السفينة إلى مسارها. إذن فلغة المؤسسة حول «الفشل» أمر في غاية الأهمية للإبداع.

  • مصرف إيج، ومقره في المملكة المتحدة، خاطَرَ بالفشل حينما حاول أن يكون مُفْرِطَ الابتكار. تأسَّس مصرف إيج عام ١٩٩٦ — وكان تابعًا فيما سبق لمصرف برودنشال بانكينج العام المحدود — كأول مصرف في العالم يعتمد على الإنترنت بنسبة مائة في المائة. ويتخصص مصرف إيج في الادخار وبطاقات الائتمان والقروض لكنه أيضًا يقدِّم الرهن العقاري وبرامج التأمين، وكانت تدار حساباته عبر الإنترنت أو عبر مركز الاتصال فقط. وفي عام ٢٠٠٧، باع برودنشال مصرف إيج لمجموعة سيتي جروب مقابل ٥٧٥ مليون جنيه استرليني.39

قد يكون الفشل في الواقع محمودًا في شركة مثل ثري إم. فهناك وقعت قصة ربما تكون مشكوكًا في صحتها؛ إذ عندما ارتكب موظف خطأً فادحًا كلَّف الشركة مليون دولار، سُئل رئيسه إذا كان سيطرده، فأجاب: «أطرده؟ لقد اكتسبنا للتوِّ تجربة تعلُّم قيمتها مليون دولار!» لن يكون جميع المديرين متسامحين هكذا؛ إلا أن المؤسسات التي تأخذ الإبداع على محمل الجد قد تكون كذلك، في حالة إذا كانت النوايا والمناهج إيجابية.

ونظريًّا، من المهم إدراك قيمة «الفشل المبكر والمتكرر» في عملية اختبار المنتَج وتنقيحه. فالاعتراف بالفشل هو عنصر مهم من عملية الشفافية لرؤية الأخطاء وتصحيحها عند حدوثها. لكن يقال لنا الآن إن هناك أنواعًا معينة فقط من الفشل يمكن تحمُّلها. دعونا لا نُغفل أنه يجب علينا ضمان أن إخفاقاتنا لن تؤثر سلبًا على الآخرين أو على خط سير الأعمال، كلما أمكن الأمر، وعلينا أن نتحلَّى بالأمانة عند التعامل مع العواقب المحتملة للسماح بوقوع الفشل. ويقول المصمم جيمر هانت: «أيُّ شخص مرَّ بتجربة فشل قصمت ظهره، يعلم كم هي قبيحة ومؤلمة ومدمِّرة جسديًّا، فهي تطاردك على فراشك عندما لا تقدر على النوم في منتصف الليل وتهدِّد العلاقات الراسخة القيِّمة. فقد يتجنبك عملاؤك، ويفقد من يدعمونك الثقة فيك، وبعدها تبدأ مرحلة مطولة وأحيانًا مهلكة من الشك في قدراتك.»40
إنَّ إنتاج النماذج الأولية من الأعمال هي طريقة يمكن أن يكون الفشل خلالها مثمرًا. فهذه العملية تسمح باختبار المناهج الجديدة وتجربتها دون التعرُّض لمخاطر وآثار فشل كبير وغير مقيَّد. فالوقوع في إخفاقات صغيرة بسرعة قد يؤدِّي إلى التطور الإيجابي من خلال ضمان وجود سلسلة من التحسينات الإضافية. أما بالنسبة للمساهمين، فتقبُّلهم للتصميمات قد يتطلَّب قبول الفشل الذريع كنتيجة طبيعية للنجاح الساحق. فحتى بعد الوقوع في فشل كبير، يكون التعافي نتيجة رائعة للمجازفة المبدئية.41

ولاستيعاب أهمية تقبُّل الفشل، انظر إلى مُنْتَجَيْنِ من منتجات شركة أبل نسيناهما منذ فترة طويلة، وكذلك الدور الذي لعباه في تاريخ الابتكار. فلم تتمكَّن شركة أبل من الاحتفاء بالنجاح المبهر لجهاز الكمبيوتر الشخصي ماكنتوش إلا بعد الفشل الذريع لجهاز أبل، ليزا، الذي سبق ماكنتوش. وعلى الأرجح يتساءل الكثير منكم ما هذا الليزا؛ إنه المُنْتَج الذي تلاشى في غياهب النسيان، إذ كان باهظ الثمن وبطيئًا؛ مما أعطى شركة أبل درسًا لن تنساه. كما كان لأبل فشل منسيٌّ آخر في المساعد الرقمي الشخصي نيوتن، وهو أول منصات الأجهزة اللوحية، لكن هذا الفشل أعقبه جهاز آي باد. إذن هل كانت التكلفة مجدية؟ بالطبع كانت كذلك!

وركزت حملة دعائية جديدة لشركة أبل على حقيقة أن الأشخاص المبدعين البواسل على استعداد للمجازفة بالفشل. فشعار أبل هو «الفشل بذكاء»؛ إذ وُلد الماكنتوش من حطام الليزا، وتلا الآي فون ذو الشعبية الكبيرة إخفاق الهاتف الموسيقي الأول لأبل الذي أُنتِج بالتعاون مع شركة موتورولا. وفي المرتين تعلمت أبل من أخطائها وكررت المحاولة. فتقوم أجهزتها الحديثة على التكنولوجيا التي طوَّرتها شركة نيكست، وهي شركة أسسها ستيف جوبز في ثمانينيات القرن العشرين وباءت بالفشل، فحازت ملكيتَها أبل بعد ذلك. والدرس الأشمل الذي نتعلَّمه من ذلك هو ألا نشجُب الفشل بل نتعلَّم منه.

يقول المضارب المحترف وعالم الرياضيات نسيم طالب إن دُورَ النشر غالبًا ما تُصْدِرُ كُتبًا تحقِّق مبيعات ضعيفة وتُخسرهم الأموال قبل الانفراجة الكبيرة التالية لهم. وتبقى دور النشر في عملها في إنتاج الكتب مهما كانت النتائج، إلا أنَّها تسعى إلى العثور على سلسلة روايات توايلايت أو هاري بوتر القادمة لنشرها. فتسعى إلى إصدار كتاب يحقِّق مبيعات قياسية، وعندها تصبح كل الخسائر السابقة لها منسية أو قليلة الأهمية.42
يحدد عالم الاقتصاد تيم هارفورد موضوعات جوهرية تقوم على الإخفاقات الآمنة، وهي ما يسميها ﺑ «مبادئ بالشينسكي»؛ أولًا: ابحثْ عن أفكار جديدة وجرب أمورًا جديدة؛ ثانيًا: عند تجربة أمر جديد، جرِّبه وفقًا لمعيار يتقبَّل الفشل؛ وثالثًا: اسعَ وراء التقييم وتعلَّم من الأخطاء على مدى الطريق.43
إنَّ الفشل المقنَّع قد يكون خطيرًا أيضًا. ورغم أن كثيرًا من الناس ينبهرون بمهارة الرابحين الكبار في الأسواق المالية وموهبتهم الواضحتين، فالواقع هو أن أغنى المتعاملين في سوق الأسهم في وول ستريت هم أكثر الناس عُرضةً للفشل في أي وقت نتيجة لسلوكياتهم المجازِفة «الإبداعية» الخطرة.44 وعندما يفشل هؤلاء أو كما يقال «عندما يسقطون» يحلُّ محلهم بسرعة متعاملون شغوفون جدد؛ مما يخفي حقيقة أنه وقع إخفاق كبير، وأن «النجم» السابق قد «أفل» الآن. فهذا التركيز على أصحاب الإنجازات الكبيرة وهُمْ في قمة نجاحهم وليس خلال حياتهم المهنية بأسرها يشوِّه بصيرتنا نحو الذين ينبغي أن نتطلَّع إليهم ونَقِيس أنفسنا بهم. ولإزالة عنصر الخوف من الفشل، علينا أن نتعرَّف عليه ونتعامل معه.

(ب) المشتَبَه به الثاني: الخوف من المجازفة

الثائرون على المعتقدات التقليدية في مقابل المصابين بالرهاب
إنَّ القدرة الصبيانية على المُجازفة والمخاطرة بوقوع الفشل، دون خوف قد تؤدِّي إلى الابتكار الناجح. ويتطلَّب الابتكار خرق طرق التفكير والتصرف المعتادة؛ إذ إن المبدعين ثوَّارٌ على التقاليد؛ فهم أناس يَكسِرون القواعد. كلنا نبدأ ثوارًا في طفولتنا المبكرة، فنفعل ما يحلو لنا ونَخْرِق «القواعد» دون أن نشعر، إلى أن يفسِّر أحدهم القواعد لنا ويُرَبِّينا تربية مجتمعية على السلوك المقبول.45 وفي مقطع الفيديو المدرسي بعنوان Hands Up، أو «ارفع يديك»، الخاص بنا، لاحظ المعلم أنطوني لينون أن «الأطفال لا خوف لديهم؛ هم فقط يستفزُّونك، غير قلقين بما قد يحدث بعد ذلك.»46
قد تتخيَّل أن القواعد هي جزء من اللعبة في مجال العمل، وأنه يجب أن تتقبَّلها على حالها، إلا أن عالم النفس ورائد الأعمال روجر شانك يتحدى هذا المفهوم، معللًا ذلك بأن الرغبة في المجازفة والفشل أمر أساسي للابتكار. ورغم أن أغلب المؤسسات الكبيرة تُحْجِم عن المخاطر — أي كما يقول إن «وول ستريت تكره المجازفة» — فالمؤسسات التي تسمح بالابتكار والفشل هي أكثرها تقدمًا.47

وعلى أرض الواقع في الأعمال الاقتصادية، يخشى العديد من الناس خسارة وظائفهم، ومن ثَمَّ لا يجازفون إلا قليلًا. وفي بعض الأحيان يخشى الناس من تقديم أفكار إبداعية في المواقف الجماعية أو يخشون عرضها على آخرين في المؤسسة خوفًا من أن تُقابل بالرفض أو الازدراء. لكنَّ بناء الثقة الكافية للخروج والمجازفة هو الفيصل بين النجاح والفشل على المدى الطويل.

(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: الخوف من المجهول

الخوف المجرد

في البداية، كانت وحوشنا ومخاوفنا تأتي في الليل، حين لم نكن نعلم ما يقبع في الظلام وراء أراضي بيتنا. وفي الوقت الذي كانت فيه الغابة لا تزال لغزًا، كانت مخاوفنا تقبع في أعماق الغابة، وما إن فهمنا الأرض حتى انتقلت إلى المحيطات، والآن بعد أن ركبنا البحار انتقلت وحوشنا ومخاوفنا منها إلى الفضاء الخارجي وما هو خارق للطبيعة.

لطالما خَشِينا ما جَهِلْناه. وطبعًا أنت لا تعرف ما تجهله، وقد يتجنب العديد من الناس المجازفة إذا تصوروا أنها قد تأتي بنتيجة سلبية. ولقد استحضرت الأحوال الاقتصادية الحالية مخاوف غير اعتيادية وغالبًا غير معقولة داخل الفرد، مما كان له عظيم الأثر على ظروف محل العمل وثقافته. تقول جين كلارك، وهي مديرة شركة استشارات علم النفس المهني؛ نيكولسن ماكبرايد: «مستوى العدائية الحالي في العمل يعكس الخوف المجرد من المستقبل، ويعكس اعتقاد العاملين بأنه مهما أكدت الشركات أنه لن يكون هناك المزيد من تسريح العمال، فإن الفأس ستستمر في الاجتزاز.» فكلارك تؤمن أن قسوة بيئة العمل اليوم تتناقض صراحةً مع رؤية الشركة المعرب عنها بوضوح والتي تطالب بوضع حقوق الموظفين والعمل الجماعي في قلب فلسفة أعمالها.48

منذ عام ١٩٤٠ بدأت صحة روزفلت في التدهور. وبحلول عام ١٩٤٤، عندما بلغ الثانية والستين من العمر، انتكست صحته انتكاسًا حادًّا، وكشفت التحاليل أن إجهادات جسده بسبب طريقة تعامله مع الشلل الذي أصيب به، وإجهاد العمل، وسنوات التدخين قد قضت عليه تمامًا. وفي عصر يوم ١٢ أبريل عام ١٩٤٥، قال روزفلت لكبير خدمه: «أشعر بألم مريع في مؤخرة رأسي.» قبل أن ينهار على كرسيه فاقدًا الوعي. ومات بعدها بفترة وجيزة بسبب سكتة دماغية؛ أي نزيف حادٍّ في المخ. فالرجل الذي لم يُظْهِرْ أيَّ خوف خلال فترة قيادته الطويلة، والذي تحمَّل بشجاعة بالغة الحملَ الإضافي لعجزه، هزمه الضغط أخيرًا، وهو القاتل التالي في قائمة المشتَبَه بهم.

لا تخف من اللصوص أو القتلة؛ فهم أخطار خارجية، أخطار تافهة. ينبغي أن نخشى من أنفسنا … المخاطر الكبيرة توجد بداخلنا، لماذا نقلق مما يهدد رءوسنا وجيوبنا؟

فلنفكِّر أولًا فيما يهدد أرواحنا.

فيكتور هوجو

تقرير المحقق

هل قابلت نمط الخوف هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:

قمع الثقة في تجربة أشياء جديدة.
عدم القدرة على المجازفات.

أثره على الضحايا:

الذعر: عدم القدرة على التفكير في الخيارات بوضوح وبإبداع.
الشلل: عدم القدرة على اتخاذ أيِّ تصرف.
النزعة إلى الهروب من التحديات.

(٢) المرحلة الثانية: التقييد – استخدام الضغط والعزل لتقييد الأفكار

المرحلة الثانية من عملية القتل تقيِّد التفكير وتتضمَّن «جماعة الضغط»، وهم القتلة الذين يُدخِلون التوتر والإجهاد غير المبرَّرين إلى بيئة العمل، و«زمرة العزل»، وهم القتلة الذين يعزلون ضحيتهم ويحاصرونها.

(٢-١) نمط القتل الثالث: جماعة الضغط

أولئك الذين يجسدون هذا النمط يحركهم بناء التوقعات غير الواقعية والضغط على ضحاياهم إلى أقصى حد. ومع الوتيرة المتسارعة للحياة والزيادة الكبيرة في سرعة الاتصالات، يظهر نمط الضغط في كل مكان في المجتمع. ويقضي هذا القاتل الجذاب على ضحاياه عبر وضع قبضته الخانقة على أعناق التوقعات، سواء الواقعية أو المتخيَّلة. وأُولَى الإشارات الدالة على أن القاتل ينتمي لهذا النمط في العمل هي الشعور بالإجهاد، وهو ما كشف عنه نطاق واسع من الأعراض الجسدية والنفسية التي قد تَكُون قاتلة. إن قبضته المتينة على ضحاياه غالبًا ما تُصيبهم بالهلع وتشلُّ حركتهم، وتستنفد طاقتهم، وتسلب منهم الوقت لإنقاذ أنفسهم باستراتيجيات إبداعية، فيختنقون في نهاية المطاف. والاضطرابات الشخصية المرتبطة بهم هي: التمثيلية والشخصية الحدية والمُدمنة. وسلاحهم المفضل هو «الإجهاد الخانق».

انتحار نجم الروك والموت اختناقًا

مات مايكل هاتشينس — المغني الرئيسي الجذاب لفريق إن-إكسيس الذي لاقى نجاحًا عالميًّا — ميتة جديرة بأن تُذكر في الصحف الصفراء، تمامًا كما عاش حياة مثيرة. ففي عام ١٩٩٧، عُثِرَ على مغنِّي الروك الشهواني ذي السبعة والثلاثين عامًا معلَّقًا بمشنقة صنعها بيديه في فندق ريتز كارلتون في سيدني. وترددت الشائعات وقتها أنه كان يحاول منع دخول الأكسجين إلى دماغه عمدًا لغرض الاستثارة الجنسية؛ وهو سلوك يُعرَف طبيًّا باسم الاختناق الجنسي الذاتي. فعندما ينقبض الشريانان الرئيسيَّان على جانبي الرقبة (الشريانان السباتيان)، ينتج عن ذلك انخفاض في كمية الأكسجين التي تصل إلى المخ؛ مما يحفز حالة من الصفاء شبيهة بالهلوسة تسمى نقص التأكسج. ويُقال إن هذه «الهجمة» من الهلوسة — بالإضافة إلى نسبة الدوبامين المرتفعة التي ينتجها الإرجاز الجنسي — شديدة الإمتاع؛ ولذا تسبب إدمانها، ولا يختلف تأثيرها عن تأثير بعض المخدِّرات القوية.

إذا كانت الإشاعات صحيحة، وإذا كان مايكل هاتشينس بالفعل رحل عن هذا العالم ساعيًا وراء رغبة نهمة للمتعة الجنسية، إذن لم يكن هو الأول، وللأسف لن يكون الأخير الذي يخطو ذلك الدرب. فهي غريزة يبدو أننا نتشارك فيها مع الحيوانات الأخرى. وفي واحدة من التجارب الشهيرة، وُصِّلت فئران بأسلاك كي تتلقَّى إرجازًا كل مرة تضغط فيها على رافعة،49،50 فالفئران التي اكتشفت المتعة التي قد تجلبها الرافعة أدمنت الحصول على مكافأة الدوبامين، فبدأت تهمل رعاية احتياجاتها الفسيولوجية وماتت من هذه التجربة في نهاية الأمر. صاح أحد المشاركين في إحدى ورش عملنا ذات مرة عند سماعه لهذه القصة قائلًا: «نعم، لكنها طريقة رائعة للرحيل!» هذا يجسِّد الطبيعة الإدمانية للضغط وعلاقات الحب أو الكره الشديدة التي تربطنا به،51،52 وتستطيع الضغوط أيضًا السيطرة على من يستمتع باندفاع الأدرينالين الذي يسببه الضغط، ويدمن الكثير من الناس «الإثارة» التي يجلبها.

إنَّ الموت خنقًا طريقة درامية للموت، كما تظهره الكثير من المسلسلات التليفزيونية والأفلام. فتلهث الضحية سعيًا وراء الهواء بينما ينحبس الدم عن المخ وترتفع معدلات ثاني أكسيد الكربون إلى معدلات سُمِّية. وبالمثل، عندما تؤدِّي الالتزامات والتوقعات إلى ضغط عارم، تنحبس طاقتنا الإبداعية، وتُعرقَل وظائف المخ الطبيعية. وهذا النوع من المجرمين لا يقتل إلا إذا كان قريبًا من الضحية، ولا يترك أيَّ آثار مرئية.

يشهد الناس الضغط اليوم بعدة طرق مختلفة. فوتيرة الحياة المتسارعة أدَّت إلى زيادة المتطلبات في العمل، وصار المتوقع من الأفراد هو قضاء ساعات عمل أطول مع زيادة التزاماتهم الشخصية. والنتيجة هي أننا جميعًا نَجْرِي بسرعة أكبر فقط لأجل البقاء في الرقعة نفسها، مكافحين من أجل الوفاء بهذه الالتزامات. فالمزيد من مواعيد تسليم الأعمال، والكميات الهائلة من سبل التواصل التي يجب التعامل معها خلال البريد الإلكتروني والفيسبوك والهاتف المحمول وتويتر، وقوائم المهام التي تزداد بنودًا ويتعيَّن النظر فيها، والتوقعات الخيالية للأبناء من الآباء، وتدخُّل الآباء في شئون أولادهم، كلها أنشطة لا مَفَرَّ من أدائها وهي أيضًا تعرِّف «سباق الفئران» الذي علينا جميعًا أن نتكيَّف ونتعامل معه.

تؤدي متطلبات الإنتاج المتزايدة من الموظفين إلى أزمة في مستويات الرضا الوظيفي. ففي دراسة أُجريت عام ٢٠١٠، كشف ٣٦٪ من أرباب العمل أن عبء الأعمال لديهم قد زاد عن العام السابق، وأفاد ٤٠٪ من الموظفين عن تحمُّلِهم حجم أعمال أكبر خلال الفترة نفسها.53 وأظهر استطلاع للرأي أُجري في نفس الوقت تقريبًا أن نسبة الأمريكيين السعداء بعملهم لا تزيد عن ٤٥٪، وهي أقل نسبة رضًا وظيفي في مدة هذه الدراسة البالغة اثنين وعشرين عامًا،54 كما يمكن افتراض أن نسبة الرضا الوظيفي المنخفضة ترجع جزئيًّا إلى الكساد الاقتصادي في حد ذاته، إلا أنها كانت في ازدياد على مدى السنوات العشرين الماضية.

الضغط هو ذلك القاتل الذي ما إن يُسمح له بالدخول حتى يبقى عبئًا دائمًا، مثله كمثل انغرازك في فيلم رعب لا يمكنك فيه الهربُ من إحساس مروِّع بوقوع كارثة. قد يبدو في البداية كصحبة طيبة، إذ يمكن أن يبدو قضاء الوقت في ظل وجود الضغط أمرًا ممتعًا يبعث على النشاط. ولكن لن تمضي فترة طويلة حتى يبدأ في فرض سيطرته وإحكام قبضته. وقد يبدو الضغط غير ضارٍّ لهذه الدرجة إذ يمتلك ذلك الحضور المألوف كما لو كان صديقًا قديمًا يطرق بابك بين الحين والآخر لتبادل الحديث. وأظهرت الأبحاث أننا كلما اعتدنا على أمر ما، بدأنا في رؤية ملامحه جذابةً، لكن في حالة الضغط يصير الأمر أكثر خطورة. وقبل أن تدرك الأمر، يكون الضغط قد استقرَّ في بيتك مثل الحماة غير المرغوب فيها، ويزداد هيمنةً فلا يُبْقِي مجالًا إلَّا للقليل في حياتك. وعندما يفرض الضغط سيطرته الكاملة، لا يكون هناك ببساطة أي متسع (أو وقت في اليوم) للإبداع. ربما تمنحك الإجازة ارتياحًا مؤقتًا، لكن يبقى الضغط في انتظارك، مُرحبًا بك في البيت في اللحظة التي تعود فيها إلى روتينك المعتاد.

تحت الضغط، تكون الاستجابة الغريزية للجسم هي إما «القتال أو الفرار أو التجمد في موضعك»، فمن الممكن أن يؤدي الإفراز الدائم للأدرينالين إلى مشكلات في التعامل مع الغضب والانفعال، أو ما يسمى بردِّ فعل القتال. والفرار يقدم حلًّا مؤقتًا ليس أكثر، وفي نهاية المطاف، سيلاحقك الضغط ويواجهك من حيث لا تتوقع؛ ولذا تحتاج معظم الضغوط إلى التعامل معها بدلًا من الفرار منها. ومن الواضح أنك إذا تجمدت في موضعك، فإنك ستكون في خطر كبير، وستقع ضحية للضغوط أسرع مما كنت تتوقَّع.

عندما يقع المخ تحت وطأة الإجهاد، تُحفز الاستجابة الوجدانية الأولية المسماة ﺑ «تعطُّل الإحساس» كآلية للتكيُّف، فتنقلك بسرعة نحو ما يسمى ﺑ «المنطقة الحمراء».55 نادرًا ما يكون الأشخاص في هذه الحالة على دراية بتأثيرات الانفعالات السلبية، ونادرًا ما يستطيعون السيطرة عليها، كما يصاحبها القلق والخوف والغضب، والضيق والإحساس بالذنب أو أيهما. وحينما تنطلق مشاعر «المنطقة الحمراء»، يكون لها غالبًا تأثير سلبي على العلاقات الشخصية وعلاقات العمل؛ مما يؤدي إلى انقطاع حالة الاسترخاء وتفتُّح الذهن اللازمة للتفكير الإبداعي. ولذا نحن في حاجة إلى أن نتعلَّم كيفية التحكم في استجابات المخ هذه بكفاءة أكبر حتى يتسنَّى لنا الوصول إلى القشرة الجبهية الأمامية بسهولة وضمان بقائنا في منطقة التفكير الحرة المنفتحة المسماة «المنطقة الزرقاء».
قائمة المشتَبَه بهم في جماعة الضغط الذين سنتحدث عنهم هنا:
  • الإجهاد المفرط.

  • تعدد المهام وإدمان التكنولوجيا.

  • زيادة التوقعات.

(أ) المشتَبَه به الأول: الإجهاد المفرط

شخصية عابثة جذابة

الإجهاد أشبه بشخصية بارزة في المجتمع تتميز بعبثها وجاذبيتها؛ فهو قاتل نشط جدًّا لكن كونه قاتلًا أمر لا يعرفه الجميع، فهو يعمل بكفاءة عبر نهج خفي وساحر. وغالبًا ما يتسكَّع حول الآخرين في جماعة الضغط، ويتواصل معهم حتى يقتلهم أينما واتته الفرصة لذلك. وأغلب الناس يستمتعون بقضاء الوقت معه لكنهم عندما يُدرِكون أنه يستنفد طاقتهم من أجل إمتاعه يكون بالفعل قد سلبهم حياتهم. ووجوده المستمر يحفز مجموعة كبيرة من الأعراض الجسدية والشعورية. وتبدأ هذه الأعراض بمشكلات تبدو ظاهريًّا تافهة مثل فقدان القدرة على النوم، والصداع واضطرابات المعدة وآلام المفاصل، ولكنها تؤدِّي في نهاية الأمر إلى أمراض سرطانية وسكتات دماغية وأمراض القلب فضلًا عن الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والاضطراب الثنائيِّ القطب والإدمان والعُصاب والذهان. يمكن للإجهاد أن يقتل بطرق مختلفة.

إذا كان لنا أن نشبه الإجهاد بمصطلحات الطب النفسي، فقد نساويه باضطراب الشخصية التمثيلية. فوفقًا لتعريف الجمعية الأمريكية للطب النفسي، يتَّسِم اضطراب الشخصية التمثيلية بنمط من «المبالغة في الانفعال والسعي لجذب الانتباه، بما في ذلك الحاجة الملحَّة للاستحسان والسلوك المغوي غير اللائق. فهؤلاء الأفراد الذين يعانون هذا الاضطراب يمتازون بالحيوية والمبالغة في ردود الفعل والنشاط والحماسة والعبث. أما السمات المتصلة بالشخصية فتشمل السلوك الأناني والانغماس في الذات والتَّوق المستمر لجذب التقدير، والسلوك المتلاعب المستمر لإشباع احتياجاتهم الفردية.» فالأشخاص المصابون بهذا الاضطراب غالبًا ما تكون لديهم مهارات اجتماعية بارعة ويمتلكون القدرة على التعامل اجتماعيًّا ومهنيًّا على مستويات عالية، لكنهم يَمِيلون إلى استخدام هذه المهارات للتلاعب بالآخرين وكي يصبحوا محطَّ الأنظار.

بات شائعًا الآن أن يبدأ الناس حديثهم بسؤالك عن مدى انشغالك، ويكون الرد الشائع والمقبول هو أن تشيح بعينيك ثم تشير إلى كم الإجهاد المُفْرِط الذي تَقَعُ تحته في الوقت الحالي (هذا هو الرد نفسه في كل مرة تُسأل فيها). وغالبًا ما يرتدي المديرون التنفيذيون الذين يتفاخرون بكونهم أسرى الإجهاد شارةَ الضغط كوسام شرف على صدورهم، فهم يشعرون أنهم في أفضل حال حين يعبرون عن انشغالهم الدائم ووقوعهم تحت الضغط.

إذن لماذا وكيف يقتل الإجهاد الإبداع؟ في الحقيقة تستطيع الضغوط الحديثة العصف بالمخ؛ مما يستنفد الطاقة والموارد المتاحة — لولاه — من أجل التفكير الإبداعي. يجب أن يُعالَج التفكير الإبداعي من خلال الفص الجبهي الانعكاسي الأكثر تعقيدًا في المخ، وعندما نكون تحت ضغط أو في حالة من القلق، وعندما نشعر بعدم الأمان أو عدم سماع الآخرين لصوتنا، توجه الموارد المُخِّيَّة إلى التعامل مع الاحتياجات الفورية لوظائف البقاء الأولية للجذع الأساسي في المخ. ووفقًا لعلماء الأعصاب فإن الإجهاد المستمر أو الزائد قد يدمِّر خلايا المخ وهيكله ووظائفه مما يُسفر عن أعراض جانبية مثل اعتلالات في الذاكرة والاكتئاب. كما يعمل الإجهاد على منع استبدال الخلايا في الحصين؛ وهي واحدة من المناطق القليلة في المخ التي تستطيع تكوين خلايا جديدة على مدار حياة الفرد. وكلتا الظاهرتين تؤثِّران على خلايا التواصل والذاكرة بالمخ.

وفقًا لتدرج ماسلو الهرمي للاحتياجات، لا يمكننا تنفيذ المهام ذات المستويات العالية من التفكير مثل الإبداع إلا إذا لُبِّيَت احتياجاتنا الأساسية. وفي تدرُّجه الهرمي، يجب تلبية احتياجات «تقدير الذات» قبل تلبية احتياجات «تحقيق الذات». وحيثما وجد التقدير وجد الإجهاد، وفي ثقافتنا احتياجات التقدير تعتمد في الغالب على العمل والمال، والعديد من الأشخاص (بمجرد تلبية احتياجاتهم الأساسية، وبغض النظر عن المكان الذي بدءوا منه أو وصلوا إليه) يكافحون أشدَّ الكفاح من أجل اكتساب التقدير خلال تسلق السُّلَّم الوظيفي وجني المزيد من الأموال. على الرغم من ذلك، فالإبداع لا يسكن إلا في تحقيق الذات. والطبيعة المتناقضة لهذا النوع من الضغط تعني أن الإجهاد يجعلك تدور في فلك احتياجات التقدير. ويُحرَز تحقيق الذات عندما تتمكن من تجاهل كافة إلهاءات الضغط والإجهاد المزعجة وذلك للتركيز على القيم التي تقدرها ثم وضع هذه القيم موضع التطبيق في حياتك. بعبارة أخرى، يقصد بتحقيق الذات «خلق» حياتك الخاصة بنشاط.56
قد يؤدي الإجهاد المزمن إلى تغيرات هيكلية في المخ. فالإفراز المستمر لهرمونات للستيرويدات القشرية قد يغيِّر الأعصاب والمشابك العصبية في الحصين والقشرة الجبهية الأمامية،57 وقد ينتج عن هذا ضعف في ذاكرة العمل والذاكرة المكانية، وقد يؤدي إلى عَدائِيَّة زائدة. كما يمكن أن يؤدِّي أيضًا إلى عجز في الجسم المخطَّط، وهو ما يؤدي إلى انحراف استراتيجيات صناعة القرار وتقليل المرونة؛ وهي متطلب هام للتفكير الإبداعي.58 وتحت الإجهاد يعود المخ إلى أنماط أكثر تحفُّظية من التفكير ووظائف اعتيادية أكثر جمودًا للذاكرة، على حساب ذاكرة «إدراكية» أكثر مرونة.59
لقد أصبح الإجهاد مشكلة سائدة ومكلفة في محل العمل اليوم، ووفقًا لإحصائيات أمريكية جديدة:
  • يصاب ثلث العمال بمستويات عالية من الإجهاد في وظائفهم.

  • ينظر ربع الموظفين إلى وظائفهم على أنها مسبِّب الإجهاد الأول في حياتهم.60
  • يؤمن ثلاثة أرباع الموظفين بأن العمال يعانون من الإجهاد المهني أكثر من الجيل السابق.61
كما تُظهر الأدلة في الولايات المتحدة أن التكاليف المتعلقة بالإجهاد تكبِّد الشركات نفقات ضخمة؛62 إذ كانت تكاليف الرعاية الصحية للعمال المصابين بمستويات مرتفعة من الإجهاد أكثر ﺑ ٥٠٪ ممن أقروا مستويات أقل من الإجهاد أثناء العمل. والذين عانوا من الاكتئاب إلى جانب الإجهاد تكلَّفوا رعاية صحية بنسبة ١٥٠٪ أكثَرَ من غيرهم، بزيادة سنوية أكثر من ١٧٠٠ دولار أمريكي للفرد. ويرتبط الإجهاد بصورة وثيقة بالإنهاك الوظيفي،63 وبالمثل فقد تَمَّ تحديد الإجهاد على أنه هو السبب الرئيسي لترك العاملين للشركات.64

إنَّ الإجهاد في العمل يمثِّل قاتلًا بارزًا في اليابان حتى إنهم اخترعوا كلمة لوصفه وهي «كاروشي» ومعناها الحرفي هو «الموت من فرط العمل»، وتشمل جميع القتلة في العمل الذين يأتون بغتةً مثل النوبات القلبية والجلطات. والكاروشي سبب معروف للموت في اليابان وقد ورد في تصنيف منفصل في إحصائيات الدولة. وفي اللعبة الشهيرة متعددة المنصات المسماة كاروشي أيضًا، يواجه اللاعبون الموت كلما انتقلوا من مستوًى إلى آخر!

يتوقَّع نموذج التحكم بالمطالب أن أكثر تأثيرات الضغط النفسي ضررًا بالصحة تظهر عندما تكون متطلبات الوظيفة كبيرة لكن القدرة على اتخاذ القرارات ضعيفة. ويرتبط المستوى العالي من التحكم الوظيفي بزيادة الرضا الوظيفي وانخفاض معدلات الاكتئاب. وقد تؤدِّي المطالب الكبيرة دون التحكم الكافي إلى قلق متزايد،65 ويقوم نموذج اختلال التوازن بين المجهود والمكافأة على نتائج الأبحاث التي تقول إنَّ الضيق النفسي والتأثيرات الصحية الضارة تحدث في الوقت الذي يُلاحظ فيه اختلال التوازن بين الجهود المبذولة والمكافآت الوظيفية.66

على الرغم من جميع تلك المخاطر، يمكن أن يكون الإجهاد بنَّاءً إذا أُدِير بطريقة سليمة. فيمكن ﻟ «الإجهاد الحسن» أن يحفز الدافع والتنفيذ. ففي بعض الأحيان يعمل الناس بأقصى طاقاتهم حتى مواعيد التسليم؛ فبعض الكُتَّاب على سبيل المثال يضعون لأنفسهم أهدافًا محددة مثل إنتاج عدد محدد من الكلمات يوميًّا أو المحافظة على تركيزهم المنضبط لعدد ساعات محدد. وقد يحسِّن الطلاب التركيز حينما يُدركون أنهم يستعدون للاختبارات. لكنَّ هناك خيطًا رفيعًا بين الإجهاد البناء وهو ما يتحمله الجسم لفترات قصيرة من الوقت فقط، والإجهاد الهدام وهو غالبًا حالة مطولة لا يستطيع الجسم أن يتعامل معها على المدى الطويل.

(ب) المشتَبَه به الثاني: تعدد المهام وإدمان التكنولوجيا

الإدمان وتعدد القنوات

إنَّ مراقبة الآباء لطريقة دراسة المراهقين قد تجلب لهم التوتر هذه الأيام؛ إذ إننا قديمًا كنَّا نسعى للدراسة في مكان هادئ، إلا أن الأبناء الآن يتعرَّضون باستمرار لوابل من فرص التواصل المتعددة عبر الأجهزة الإلكترونية التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى والتي لا يمكنهم إطفاؤها بكل ما تحمل الكلمة من معنًى. فمثلًا حينما كانت زوي في عامها الأخير في المدرسة وتذاكر استعدادًا للامتحانات النهائية، غالبًا ما كانت تجلس أمام التلفاز وكتاب الدراسة في يدها والموسيقى في أذنيها وهاتفها الذكي يرن في جيبها لينبِّهها بأمر يخصُّ أصدقاءها في الوسائط الاجتماعية والذي لا بد من الرد عليه فورًا. بالنسبة لنا، هذا المستوى من المدخلات قد يُربِكنا، لكن يبدو أن الشباب اليوم يتطوَّرُون بسرعة للتعامل مع مصادر المعلومات المتعددة في نفس الوقت.

إنَّ التكنولوجيا الحديثة توفر علينا الوقت بلا شك، إلا أنها قد تسبِّب ضغوطًا إضافية؛ حيث إن أنشطة العمل والأنشطة الترفيهية تدور حول متطلبات التواصل التكنولوجي الغامرة. وبالطبع يمكننا إتقان تعدد المهام، إلا أننا كثيرًا ما نصير دون وعي عبيدًا لها في نهاية المطاف. ومع تزايد سرعة تكنولوجيا الاتصالات، تُتوقع زيادة سرعة الاستجابة مما يصرفنا عن فرص التفكير الإبداعي.

بعض الناس يرتاحون لهذه التكنولوجيا بل يشعرون أنهم مسيطرون، لكن الكثير يشعرون أنهم مغلوبون على أمرهم وغير قادرين على السيطرة. والبعض يعاني من «إدمان المعلومات»، وهو مصطلح جديد يُستَخدَم لوصف إدمان البريد الإلكتروني أو الرسائل القصيرة.67 ولا يُعَدُّ إدمان البريد الإلكتروني أو الرسائل خطرًا على الصحة العقلية وحسب، بل يمكن أن يضعف مستويات الذكاء أكثر من ضِعْفَيْ أثر إدمان الماريجوانا!68 ويشرح عالم النفس دان إريالي احتمالية إدمان البريد الإلكتروني، فيقول: «إن أمعنت التفكير فيه، تجدْ أن البريد الإلكتروني يشبه المقامرة، أغلبه رسائل مهملة، ومثله مثل سحب ذراع ماكينات القمار والخسارة، ولكننا بين الفينة والأخرى قد تصلنا رسالة نريدها، ربما بها أخبار طيبة عن وظيفة، أو القليل من القيل والقال، أو رسالة من شخص لم نسمع أخباره منذ وقت طويل، أو معلومة مهمة. فنكون في قمة السعادة لتلقينا البريد الإلكتروني (المال) غير المتوقع الذي أدمنا قراءته آملين في المزيد.»69
كل يوم، يفتح الموظف النموذجي صندوق الوارد لبريده الإلكتروني خمسين مرة ويستخدم الرسائل الفورية سبعًا وسبعين مرة.70 ومثل فئران تجارب علم النفس السلوكي لبي إف سكينر، فإن جداول الإثابة المتغيرة (بالإضافة إلى الخوف من عدم الرد بسرعة كافية وفقًا للتوقعات) تدفعنا للإدمان. وفي دراسة استقصائية، أشار أكثر من نصف المشاركين الذين بلغ عددهم ١١٠٠ فرد، إلى أنهم دائمًا يستجيبون للبريد الإلكتروني «فورًا» أو في أسرع وقت ممكن، كما أضاف ٢١٪ منهم أنهم قد يقاطعون اجتماعًا للرد عليه؛ وأشار ٦٢٪ إلى أنهم يقرءون رسائل العمل في المنزل أو الإجازة؛ وقال ١٠٪ إنهم لا يمانعون في إرسال الرسائل القصيرة حين ممارستهم للجنس! وكما هو الحال مع الأشكال الأخرى من الاعتمادية، فإن المخَّ يغيِّر صِلاته العصبية أو يتشكَّل بطريقة مختلفة مع ارتفاع الدوبامين بسبب إدمان التكنولوجيا.71
إن قَطْعَ مهمة بسبب أي نوع من المقاطعة أو الإلهاء له من الضرر على الأداء الذكي ما يساوي عدم النوم لليلة بأكملها.72 إن ما يهدره الموظف العادي هو ٢,١ ساعة يوميًّا من وقت الإنتاج بقفزه من مهمة إلى أخرى. فالمخ يحتاج إلى التركيز حتى يتمكَّن من الإنتاج، وإذا فقد القدرة على التركيز فقد يأخذ خمسًا وعشرين دقيقة للعودة مرة أخرى إلى القدرة الكاملة على الإنتاج. وأظهرت إحدى التجارب حول قراءة بعض المشاركين لنصوص دون أيِّ إلهاء، أن ٩٢٪ تمكَّنُوا من إعطاء إجابات سليمة عن أسئلة تتعلَّق بمعلومات في النص، لكن عندما طلب منهم الاستماع إلى شيء مع قراءة النص، لم يتمكَّن من الإجابة على تلك الأسئلة بصورة سليمة سوى ٣١٪.73 فأدمغتنا ليست مصمَّمة ببساطة للتعامل مع مصادر متعددة من المدخَلات. وكي تُعالَج المعلومات نحتاج إلى التركيز، ومن الصعب على المخِّ أن يستوعب الكثير من المعلومات إذا طُلب منه توقفه ثم إعادة ضبطه ثم التركيز على رسالة جديدة باستمرار. فكل مرة نُنهي مهمة ونبدأ أخرى جديدة، نفقد بيانات من المهمة الأولى كما نخسر معلومات من الثانية. وقد تكررت هذه النتائج في تجاربَ مماثلةٍ أكثرَ من مرة.
وكل معلومة إضافية تدخل إلى أدمغتنا تنقص من تركيزنا، وكل شكل إضافي من أشكال المخرجات التي نحاول التركيز عليها يقلل من تركيزنا الكلي. فالإفراط في المدخلات والمخرجات يؤدي إلى جودة عمل متدنية وعقلية غير إنتاجية «تضيع الوقت».74 المشكلة هي أن المخَّ البشري يشبه في عمله تقنية خيوط المعالجة الفائقة أكثر من تقنية الخيوط المتعددة. فنحن نستوعب سياقات متعددة، لكن رغم أن المخَّ يقدر على التنقل بين «القنوات» بسرعة، فإنه لا يقدر على معالجة أكثر من قناة واحدة بكفاءة في اللحظة الواحدة. فالطاقة اللازمة للانتقال بين سياقين ليست بالقليلة.
تخيَّل مدى الإحباط الذي يقع فيه مجال الدعاية بسبب أننا لا يمكننا استيعاب كافة كتل المعلومات التي نُتخَم بها أينما ذهبنا! فعلى مدار ٢٤ ساعة، يتلقَّى الشاب العادي ستًّا وعشرين ساعة من المحتوى، وبالطبع لا يُمكِنه معالجته كله. وفي محاولة لتضمين الرسائل في ظل هذا الازدحام، تعلَّم العاملون بمجال الدعاية تقليص عدد الكلمات واختزال الرسائل والتأكد من تضمين كافة المدخلات بالتوازي؛ أي فعليًّا «النزول بمستوى» المعلومات التي نمرِّرها للجيل القادم بتبسيطها. وكلما حاول المعلنون التنافس لجذب انتباه الأطفال، أصبحت الحملة على أطفالنا المتعبين من فرط الانتباه أكثرَ ضراوة. وقد بدأت عقولهم بالفعل تتكيَّف مع «ظاهرة تعدد القنوات»، لكنها أتت غالبًا على حساب فترات الانتباه لديهم وعلى حساب صحتهم العقلية والوجدانية، وطبعًا على حساب قدرتهم على الإبداع. وبدون مساحة للعقل للتنفس، أو مجال لتدفق ونمو الأفكار الإبداعية، فإن أي تصرفات إبداعية شُجاعة تُقتلع بسرعة وتُترك للموت.75

(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: ارتفاع سقف التوقعات

الصراع الكارثي الناتج عن تعدد الأدوار

أصبح ضيق الوقت المزمن مُعضِلة كبيرة في المجتمعات السريعة الخُطى. فجميعنا يشتكي من عدم كفاية عدد ساعات اليوم الواحد. ولكن إذا كان اليوم أطول، فمن المحتمل أن نملأ الوقت المتاح بكافة الأنشطة «العاجلة» التي إما فُرضت علينا وإما أعددناها بأنفسنا.

ومن أكبر مصادر الضغط في الحياة العصرية الصراعُ بين الأدوار. فكلنا نلعب عددًا من الأدوار المختلفة في حياتنا، وكلما زادت التوقعات في كلٍّ من هذه الأدوار، ازداد حجم الضغط الإجمالي الذي نتعرَّض له. وتتنافس مختلف الأدوار الشخصية والمهنية للحصول على وقتنا واسترعاء انتباهنا. ففي البيت دائمًا ما نتصارع مع الأدوار والمسئوليات الأسرية والاجتماعية، بينما أننا في وظائفنا أيضًا نحتاج إلى أن نتنقل بين الأدوار الرسمية وغير الرسمية التي تنافس بعضها بعضًا. وتظهر أكبر مشكلاتنا عندما لا تتحدد أدوارنا في العمل بوضوح، فتكون التوقعات والحدود غير واضحة. وهذا قد يؤدي إلى ارتباك الأدوار والإحباط؛ مما ينتج عنه السخط الوظيفي وزيادة الضغط.

ويعرَّف الصراع بين الأدوار على أنه «عدم التوافق بين التوقعات المنتظرة من الأدوار المختلفة.»76 فمعظم استطلاعات الرأي تقيس الصراع بين الأدوار في ضوء الضغوط الناتجة عن الوقت77 أو التضارب بين ساعات العمل والأدوار الأخرى.78 وقد وُجدت علاقة واضحة بين الصراع بين الأدوار والضغوط والصراعات الأُسرية، وذلك جنبًا إلى جنب مع الصعوبات المعرفية الزائدة. وبطبيعة الحال هذا يُعيق التفكير الإبداعي، الذي يعتمد على خلو الجو من الإجهاد والصراع.
وعادةً ما يقضي الصراع بين الأدوار على شعور الفرد بالتواصل الشخصي والاندماج النفسي مع الوظيفة؛ مما يؤثر على المواظبة على الحضور إلى العمل وحركة دوران العمالة، وكلا الأمرين يكلِّف المؤسسة الكثير.79 فكلما حدَّدنا أدوارنا بوضوح، ودمجناها بطرق مفهومة و/أو بسطناها، قلَّ الضغط والإجهاد اللذين نتعرض لهما وازدادت المساحة التي نُعطيها لأنفسنا لننمو بإبداع.
المكالمة الهاتفية قبل الأخيرة التي أجراها مايكل هاتشينس كانت رسالة صوتية تركها لمديرة أعماله مارثا تروب وكانت كما يلي: «مارثا، معك مايكل، لقد سئمت ونلت كفايتي (لفظ سباب).» وعندما أعادت تروب الاتصال لم يرد أحد. وكانت مكالمته الأخيرة لصديقته السابقة التي أمضى معها سنين طويلة، وفي هذه المكالمة بدا شديد الاضطراب، وبعدها بفترة ليست بطويلة عثرت خادمة الفندق على جثته.80 وهكذا في النهاية، فإن أسلوب حياة نجم الروك المغرق في اللذات ربما يكون قد قضى على ضحية غافلة أخرى. فحينما نفشل في التعامل مع الكروب التي تنهال علينا، يصبح الضغط ساحقًا. إننا بدون دراية نفتح الأبواب للذئاب، وما كان سابقًا شديد المتعة يتحوَّل فجأة إلى أمر شديد الألم. وهكذا يُخمد الإبداع. لكنَّ هناك قتلة آخرين قد يكونون أكثر مكرًا وخفاءً، ولكنهم على نفس المستوى من التهديد.

تقرير المحقق

هل قابلت نمط الضغط هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:

العمل كرهًا لتحقيق توقعات غير واقعية.
خلق إجهاد غير منطقي.

أثره على الضحايا:

الارتباك.
الإحباط.
صعوبة في إدارة الوقت وتحديد الأولويات.

(٢-٢) نمط القتل الرابع: زمرة العزل

يُعرف من ينطبق عليهم هذا النمط أيضًا باسم القتلة العازلين، وهم يستخدمون مزيجًا فتاكًا من التفرقة والتجانس حتى يجبروا الضحية على الامتثال لتحيزاتهم. فهم يضعون ضحاياهم في حَجْرٍ، بعيدًا عن الأفكار والمعلومات المختلفة، ويمنعون عنهم الآراء المتنوعة ومن ثم الحصول على أي أدوات محتملة قد تُنقِذ حياتهم. فلا يمتلك الضحايا إلا خيارات محدودة دون درايتهم بذلك؛ إذ يتعرَّضون للتجريح والضرب حتى يخضعوا، ثم يموتون بسبب الإصابات المتراكمة التي تشمل الضربات الخفية الموجهة إلى قدرتهم على التفكير بشكل مختلف وباستقلالية. ولأن القتلة الذين ينطبق عليهم هذا النمط يشكِّلون زُمَرًا حتى داخل المجتمعات ذات الطبيعة المتنوعة ظاهريًّا، فإنهم يفلتون من جرائمهم في وضح النهار. وهذا النوع من القتلة يميل إلى النرجسية، وسلاحه المفضل هو «الانحياز الصارم».

الحبس الانفرادي وحب الذات الخبيث

في بعض البلدان، الحبس الانفرادي هو أكثر العقوبات المغلَّظة التي يمكن فرضها بالقانون على السجناء الذين لا يُطبق عليهم حكم الإعدام. يمكن أن يكون لهذا الحبس آثار بدنية ونفسية حادة، ويعتبره العديد من نشطاء حقوق الإنسان نوعًا من التعذيب. ومع مرور الوقت، يمكن أن تنتج القيود المفروضة على المدخلات، والحرمان الحسي، تغيرات على المدى الطويل في فسيولوجيا المخ وتتسبب في بعض الأمراض النفسية مثل الاكتئاب.81
يُعتبر العزل أحد قَتَلَة الإبداع، فيُقصِي الأفراد داخل المؤسسات، رغم أن الكثير من الناس يختارون تبنِّي تلك القيود بإرادتهم. وكما أن وضع السجناء في الحبس الانفرادي يحدُّ من تجاربهم ويقلِّص قدراتهم العقلية، يقيِّد العزل خبرات الضحايا ويقوِّض قدراتهم على المدى الطويل. ويجوز تشبيه النمط السيكوباتي لهذا القاتل بالنمط السيكوباتي للشخص النرجسي. وباعتماد القاتل على آراء الآخرين بطريقة مبالغ فيها، وشعوره القوي بامتلاكه حقوقًا عن الآخرين، وبطبيعته المتلاعبة والاستغلالية، وبأوهام عظمته الشخصية مقابل إنجازاته الفعلية، يصبح العزل قاتلًا منغمسًا في ذاته. ويقول سام فاكنن مؤلف كتاب «حب الذات الخبيث»: «حب الذات يساعد على البقاء؛ فهو شرط أساسي»، ويستطرد شارحًا أنه عندما ينبُع هذا الحب من مصادر خارجية فقط، يتحول هذا النوع من الاهتمام بالذات إلى شيء خبيث؛ أي إنه يقتل باستخدام العاطفة.82

وهذا الهوس بالنفس وبالمصالح التي تتعلَّق مباشرةً بالذات يحد الطاقات الإبداعية ويُعيق النموَّ الإبداعي. فالعزل قاتل خبيث، لا يشعر ضحاياه بأن خياراتهم محدودة، ولا أنهم قد تحوَّلوا إلى شخصيات متحيِّزة خلال العملية. ويتسم العزل أيضًا بالإغواء فيبدو جذَّابًا إلا أنه يُخفي أسراره الخبيثة.

انظر إلى جاذبية منطقة نورذرن بيتشيز في سيدني التي سكنَّاها على فترات متباعدة لسنين طويلة. بها أجمل شواطئ العالم، حيث تمتدُّ لمسافة ٣٠ كيلومترًا من مدينة مانلي وحتى بالم بيتش، وهي قريبة من المدينة إلا أنها تبعُد عن صَخَبها بمليون ميل. والشريط الساحلي يمتدُّ بمحاذاة برزخ ضيِّق بين المحيط وبين خليج بيت ووتر، وتضيق مساحته كلما ابتعدت عن المدينة. وأول المنطقة رسميًّا هو جسر سبيت بريدج الذي يفصل بين نورذرن بيتشيز وضواحي الأثرياء بموسمان، وآخرها هو منتجع بالم بيتش لأصحاب المليارات. وتعيش بالمنطقة مجموعات اقتصادية واجتماعية متنوعة، ومع ذلك تبقى المنطقة ذات ثقافة موحدة، وقد قيل إنَّ معلمي المدارس المصابين بالإحباط وصفوها بأنها «شبه جزيرة معزولة». فأهالي هذه البلدة من المحافظين سياسيًّا، ومحدودو الأفق بشدة. وهم يحمون حياتهم البسيطة أشد حماية ويشعرون بالسعادة بعدم وجود شبكة مواصلات عامة؛ مما يُبقي أفواج السياح بعيدة عنهم. هناك عدد قليل جدًّا من الفنادق وساحة تخييم واحدة. لقد احتضنت منطقة بوندي متنوعة السمات من صميم قلبها المسلسل التليفزيوني الشهير «إنقاذ بوندي»، لكن عندما حضر ممثلو المسلسل الأمريكي الناجح «باي ووتش» وطاقمه إلى شاطئ أفالون في نورذرن بيتشيز، أعيدوا فورًا إلى ديارهم؛ كاد الأهالي يفتكون بديفيد هاسلهوف وأصدقائه؛ إذ أرادوا ألا يكون لهم نصيب من الاهتمام العالمي بالمسلسل.83

عندما كانت ابنتنا زوي طفلة، عاشت وسافرت معنا إلى دول أخرى قبل أن ننتقل مرة أخرى للعيش في منطقة نورذرن بيتشيز، حينما كانت في أواخر سنوات مراهقتها. وعندما التحقت بمدرسة محلية في عمر الرابعة عشرة، علم الطلاب بأنها انتقلت لتوِّها من مدرسة في إندونيسيا. وتعجَّب أحدهم قائلًا: «لكنني كنت أظن أن أطفال إندونيسيا ذَوُو بشرة سمراء وشعر أسود!» (زوي بيضاء البشرة وشقراء!) وذعرت زوي حينما اكتشفت أن بعض زملائها في الدراسة ليست لديهم أدنى فكرة من هو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما، وقالوا إنهم لا يكترثون إذ إنهم يرون بأن تلك معلومات لم تكن ذات أهمية. وفي اختبارات الجغرافيا، يرتكب الطلاب أخطاءً فادحة مثل عدم التفريق بين الهند وأفريقيا على الخريطة وتسمية جامايكا واحدة من القارات السبع.

أظهرت الأبحاث أن الأشخاص الذين سافروا وعاشوا خارج البلاد أكثر إبداعًا من أولئك الذين لم يعيشوا في الخارج، وذلك عبر عدد من المعايير المختلفة، بما فيها معايير التبصُّر وتداعي الأفكار وتوليدها. وهذه النتيجة المذهلة تكشف عن أهمية التعرُّض لمجموعة كبيرة من المعلومات والأفكار على مدى حياتنا. فإذا لم نَلْتَقِ بأفكار متنوعة وأناس مختلفين في حياتنا، فسنبقى في حصانة من الحاجة للتفكير بإبداع. وكلما تقدَّمت بنا السن، نستمر في عزل أنفسنا عن الأفكار الجديدة. ولكي نشعر بالأمان، نتجمَّع حول أناس يشبهوننا فكريًّا، وهو ما يزيد من عزلتنا عن التجارب الجديدة.84
وعلى مرِّ التاريخ، زاد تطور المدن من تنوع الأفكار الإنسانية وانتشارها زيادةً كبيرة، وهو ما خَلَقَ ميزة تطورية هامة. فتُقَدِّم المدن وفرةً كبيرة من فرص التعلم والثقافة، وتبذل الثروات لدعمها، ولكنَّ لهذا النمو جانبًا سلبيًّا. ففي المجتمعات الرأسمالية حيث يزدهر الابتكار، تحتاج الاقتصادات لأن تحافظ على نموها باستمرار، ﻓ «النمو اللامتناهي» هو نمو إيجابي بطرق عدة، ورغم أن النمو السيني في علم الأحياء تبطؤ خطاه في نهاية المطاف حتى يتوقف، فإنه في الاقتصادات الرأسمالية لا يتوقف النمو وإلا مات النظام؛ مما يعني أن الانهيار الاقتصادي النهائي أمر حتمي كما حدده جيفري ويست.85 ومن الناحية الحسابية، هذا الضرب من النمو اللامتناهي يستنفد كافة الموارد ويؤدِّي إلى الانهيار (مبدأ «تفرُّد الوقت المحدد»). في الماضي، كنَّا نتجنَّب هذا الانهيار من خلال الابتكار المتواصل، الذي مكَّنَنَا من «إعادة ضبط الساعة». ومع كل اكتشاف أو اختراع جديد مهم مثل اكتشاف البنسلين أو اختراع الكمبيوتر، وجدنا طريقة لإعادة إنتاج النموذج الثقافي والاقتصادي الأوَّلي، ومن ثَم استطعنا أن «نتغلَّب على النظام»؛ مما ضمن إبقاء عملية الابتكار على قيد الحياة.

التغلب على العزل، إذن، سيتضمَّن استراتيجيات نمو حذرة تضمن تفتح الذهن والوصول إلى أفكار جديدة، لتمكين الابتكار المستمر، وأيضًا من أجل مواصلة مساءلة النظام وإعادة إنتاجه وإلا دمر الابتكار في نهاية المطاف.

قائمة عناصر «زمرة العزل» الذين سنركِّز عليهم هنا:
  • مصادر المعلومات المتحيزة (مثل وسائل الإعلام).

  • ملازمة الأشخاص المتشابهين فكريًّا (التجانس).

  • الافتقار إلى التنوع.

(أ) المشتَبَه به الأول: مصادر المعلومات المتحيزة

تليفزيون الواقع واضطراب قصور الانتباه
قررنا ذات مرة الإشارة إلى مسلسل من تليفزيون الواقع كدراسة حالة في حلقة دراسية قدَّمناها دارت حول التفكير الإبداعي (كمثال على التفكير غير الإبداعي). فتصفَّحنا الإنترنت لكي نرى إذا كان بمقدورنا الحصول على مقطع فيديو قصير لاستخدامه، فاكتشفنا أن شخصًا ما قد حمَّل نسخة مدتها ثلاث دقائق من حلقة مدتها ٢٤ دقيقة. وضحكنا من فرط الذهول إذ كيف يمكنك اختزال محتوى ٢٤ دقيقة إلى ثلاث دقائق والإبقاء على حبكة الرواية كما هي!86 بل إن البرامج الإخبارية أصبحت خفيفة وأكثر إثارة حتى تسترعي انتباهنا وتمتعنا بدلًا من مجرد مدِّنا بالمعلومات كما كان هدفها النبيل أساسًا. ويجسِّد تويتر معضلة توليد وإعادة إنتاج المعلومات الفورية السريعة بطريقة قد تُصيبنا بالصَّرَع في نهاية المطاف؛ إذ ننتقل من المشاهير إلى الأزمات ثم نعود مرة أخرى. وغالبًا ما تخاطب وسائل الإعلام أقلَّ المستويات الثقافية لكسب دولارات الإعلانات، والنتيجة هي تزويدنا بكمٍّ محدد جدًّا من المعلومات وعزلنا عزلًا تامًّا عما يدور فعليًّا حولنا في العالم.87
بالنظر إلى الوضع الحالي لوسائل الإعلام، فلا عجب أن تَجِدَ الباحثة في جامعة تكساس بأوستن، إليزابيث فاندرووتر، أن الإبداع لدى الأطفال ينخفض بنسبة ١٠٪ لكل ساعة يقضونها أمام التلفاز.88 وهذا التأثير ضخم جدًّا؛ إذ إن هذا يَعنِي أن الطفل العادي الذي يشاهد التلفاز لمدة ثلاث ساعات يوميًّا، تتدنَّى نسبة الإبداع لديه بمقدار ٣٠٪. لكن ماذا عن الأطفال الذين يشاهدون التلفاز لأكثر من عشر ساعات يوميًّا؟ تتخيَّل التأثير التدميري للتكنولوجيا الحديثة على البالغين، إذ إن اهتمامات العمل والأنشطة الترفيهية تدور حول متطلبات الحضور الطاغي والمستمر للتكنولوجيا. وبالطبع يُمكِنُنَا السيطرة عليها، إلا أننا ننتهي عبيدًا لها في نهاية المطاف دون إدراكنا. ومع تحسُّن تكنولوجيا الاتصالات، نتوقَّع سرعة في الاستجابة مما يشوِّش على فرص التفكير الإبداعي.
تتحالف وسائل الإعلام تحالفًا وثيقًا بتعدد المهام وغيرها من المتآمرين بجماعة الضغط. وباتحادهم معًا، يمكنهم أن يُضفوا على ضحاياهم شعورًا بأنهم في أكثر لحظات حياتهم انشغالًا. وبالرغم من ذلك، لم يَمْضِ على الإنسان قط وقت شعر فيه بالخمول الشديد وعدم الحركة مثل هذه الأيام. وكما قال البروفيسور بول أوبراين، من مركز السمنة في جامعة موناش: «إن التكنولوجيات الحديثة مكَّنتنا من الانغماس في غريزتنا الإنسانية التي تميل إلى الكسل وتسويف الأعمال بإنتاج أعمال أخرى.»89 وكما لو كانت تلك الشخصيات تعاني من اضطراب قصور الانتباه، فإنها تنتقل من عمل شيء معين إلى آخر بسرعة البرق، ومعًا تُشتِّت انتباه ضحاياها، لتتأكد من عدم وجود أي وقت للإبداع. وفي حين أن جماعة الضغط عادةً ما تكون جذابة، ويكون الضيوف المدعوون وطاقم التحكم سفاحين واضحين، فإن العصابة الإعلامية غالبًا ما تتلاعب بمكر عن عمد. ووفقًا للسلوكيات الذهانية، فإن وسائل الإعلام التي نتعرض إليها أغلب الوقت تتسم بالنرجسية (إذ تُظهِر نمطًا سائدًا من عظمة الذات، واحتياجًا إلى نيل الإعجاب والافتقار إلى التعاطف، وتحتوي على سلوكيات سائدة من السعي لاسترعاء الانتباه والإغواء غير اللائق والسلوكيات السطحية أو المُبالغ فيها). ووسائل الإعلام كثيرة المطالب ولديها شَرَه لا يشبع بالزهيد ويحتاج إلى تغذيته باستمرار. وعبر وسائل الخداع البصري (البوتوكس، والفرشاة الهوائية، إلى جانب مهارات التعديل البارعة، والتصوير)، تستطيع وسائل الإعلام خلق صورة من الواقع تقوم على الكمال الاصطناعي التام. وغالبًا ما ينمي ذلك فينا الشعور بالنقص والتدني وعدم القدرة على تلبية التوقعات غير الواقعية.
ولا تبقى وسائل الإعلام على قيد الحياة إلا خلال محركها، ألا وهو الإعلان؛ إذ ينفق المعلنون جميعًا على التلفاز سنويًّا قرابة سبعين مليار دولارٍ أمريكي سنويًّا في الولايات المتحدة. وفي الفيلم الهدام «أكثر الأفلام مبيعًا»،90 يُتيح المخرج مورجان سبيرلوك الفرصة لثلاثة وعشرين من الرعاة لأنْ ينشروا أفكارهم دون خجل في الفيلم. وعبر إنتاج فيلم كامل عن قوة الإعلان، وهو ممول بأكمله من الإعلان، أخرج مورجان هذه العلاقة الفاسدة المترابطة إلى النور بذكاء. وقد أوضح سبيرلوك أن الإعلان قد أصبح واسع الانتشار بشدة في الأفلام وفي الحياة عمومًا، حتى إن الناس عادةً ما يُغفلونه. وأشار رالف نادر المناصر لحقوق المستهلك إلى أن هناك «إعلانات الآن في دورات المياه العامة، وعلى أرضية المتاجر وفي المصاعد، حتى على حوائط المدارس وعلى جانبيْ حافلات المدارس.»91 والبرنامج الوثائقي «أسرار الماركات التجارية الكبرى» الذي أنتجته محطة بي بي سي، ويقدمه أليكس رايلي، يسلط الضوء على إغراءات العلامات التجارية الكبرى. فيصف رايلي الازدحام الفوضوي التي تسبَّب به افتتاح متجر جديد لشركة أبل ويقول: «كان المشهد الذي رأيته في الافتتاح أشبه باجتماع لصلاة بروتستانتية، ليس مجرد فرصة لشراء هاتف أو كمبيوتر محمول!» وذكر رايلي بالفعل أن علماء الأعصاب توصَّلوا إلى أن الماركات التجارية الكبرى قد استولت على منطقة في المخ كانت مخصصة سابقًا للدين.92،93
إنَّ اختبار تذوق كوكاكولا وبيبسي الذي أجري في السبعينيات من القرن الماضي ويعرف الآن بسمعته السيئة هو دراسة حالة مثيرة للاهتمام للطريقة التي تتخذها العلامات التجارية الكبرى لتقليص مساحة تفكيرنا. يذكر العديد من الناس القصة الأصلية، وفيها أجرت شركة بيبسي اختبارات تذوُّق في جميع أرجاء أمريكا لمنتجها ومنتج كوكاكولا — دون أن يعرف المحكَّم أيهما يتذوق — وأقنعت جيلًا بأسره أن طعم بيبسي أفضل من كوكاكولا. حاولت كوكاكولا أن تقلِّد تركيبة منافستها الناجحة، لكنها فشلت فشلًا ذريعًا. ولا يعرف الكثير من الناس القصة اللاحقة بهذه الرواية. ففي عام ٢٠٠٣، وضع عالم الأعصاب ريد مونتاجيو تجربة في محاولة لقياس «تأثير العلامة التجارية» لكوكاكولا. ولتنفيذ هذا الأمر، أعاد التجربة الأصلية مع اختلاف طفيف: في هذه المرة أوضح أيًّا من العينات كوكاكولا وأيها بيبسي. وللدهشة، قال تقريبًا كافة المشاركين إنهم يفضلون الكوكاكولا، وأظهرت الفحوصات التي أجريت على مخاخهم نشاطًا كبيرًا في منطقة القشرة الجبهية الأمامية، وهي المسئولة عن القوى الإدراكية رفيعة المستوى. لقد اقتنع المشاركون بماركة الكوكاكولا أيما اقتناع حتى إنها غيَّرت أنماط مخاخهم وخلقت «حبًّا» أعمى لعلامة المنتج التجارية.94

والتحدي الأكبر الذي نواجهه الآن هو تحديد أين نضع أكثر الموارد قيمة، وهو انتباهنا؛ ومن ثم «عاطفتنا». فحينما تكون مصادر معلوماتنا محدودة من حيث المضمون لكنها كبيرة كمًّا، لا يمكن للعقل أن يتكيف معها ببساطة. والشيء الجيد في وسائل الإعلام هو أننا — إلى حدٍّ ما — يمكننا أن نطفئها أو أن نختار برامج إيجابية تفتح عقولنا أمام أفكار ومعلومات جديدة وتحفز التفكير الإبداعي. وما دمنا نتحكم في جودة ما نتعرض له وكمه، وما دمنا نتخذ نظرة تشككية إيجابية في الدوافع الكامنة وراء آراء وسائل الإعلام، يمكن للإعلام أن يفتح نافذة إيجابية على العالم وأن يكون حليفًا وليس قاتلًا.

(ب) المشتَبَه به الثاني: ملازمة الأشخاص المتشابهين فكريًّا

رتابة المستوى المتوسط
القادة الذين يتعمَّدون إحاطة أنفسهم بالأشخاص المشابهين لهم فكريًّا، يخلقون بيئة بها تنوع ضئيل في الأفكار. وإذا كان أعضاء المجموعة الواحدة شديدي الشبه، فسيصعب عليهم مواصلة التعلم؛ لأنه لا يأتي أي من أعضاء الفريق بمعلومات جديدة على الطاولة.95
فالفِرَق التي تتكوَّن من أنواع مختلفة من الناس (الفرق المتنوعة) هي أكثرهم إبداعًا. وفي كتاب «تأثير ميديتشي» يصف فرانس جوهانسون كيف اكتشف أن الإبداع ينشأ على الأرجح عند نقطة الالتقاء بين مختلف الثقافات والأنظمة والخلفيات حين يكون التنوع في ذروته. في إحدى التجارب، قام الباحثون بدراسة مجموعتين: مجموعة متجانسة (مجموعة ذات أساليب متشابهة سلوكيًّا وفكريًّا وتعليميًّا) ومجموعة غير متجانسة (مختلطة من حيث أساليب السلوك والتفكير والتعليم) وأعطوهما مشكلة لحلها. المجموعة المتجانسة حلت المشكلة في وقت أسرع من المجموعة غير المتجانسة، لكن النتائج كانت دائمًا في مستوًى متوسط. أما المجموعة غير المتجانسة فكريًّا، فاتخذت وقتًا أطول لإيجاد حل لكنها أتت بنتيجة ممتازة. كانت هناك خلافات أكثر في هذه المجموعة، لكن المهم هو قدرتها على إدارة وتوجيه هذه الخلافات بكفاءة. فعندما تُناقِش الفرق غير المتجانسة فكرةً ما، عادةً ما يبتعدون عن الحدود القصوى ويقتربون نحو مركز المجموعة ومتوسطها، فيأتون بنتيجة أكثر توازنًا. فالتنوع في الرأي هو الضمانة الفضلى الوحيدة للمجموعة لجني مكاسب من المناقشة وجهًا لوجه. وغياب النقاش وآراء الأقلية يشكل خطرًا على الفريق.96
تصل المجموعات لأقصى درجات الذكاء إذا تحقَّق التوازن بين المعلومات التي يتشارك فيها الجميع والمعلومات التي يعرفها كل عضو من أعضاء المجموعة بمفرده. وما يحافظ على وعي المجموعة هو تضافر كل أجزاء هذه المعلومات المستقلة. فالمجموعات غير المتجانسة التي يمكنها إدارة تنوعها تمتلك فرصة أفضل لحل المشكلات من المجموعات أو الأفراد المتجانسين. فحينما تجتمع الفرق بشكل سليم، تكتسب القدرة على الخروج بحلول فعالة وقوية. وتركز الاستراتيجية الجيدة للفرق على:
  • المدركات الحسية للفريق (الطريقة التي يشعر بها الفريق).

  • عمليات الفريق (طريقة تفكير الفريق).

  • إجراءات الفريق (الطريقة التي يتصرَّف بها الفريق).

عندما عينت شركة إتش بي بيتر كارولتشيك لكي يؤسس لمشروع برمجة جديد، قال إنَّ أول مبدأ سيطبِّقه هو اكتساب تصورات متعددة من خبرات مهنية متنوعة؛ أي تسخير قوة إبداع الفريق. وبمجرد حصول الأفراد على الفرصة لتطوير قدراتهم الإبداعية، على الفِرَق أن تكون مهيأة لعملية الابتكار الإبداعي، ثم تنفيذها في المؤسسة. وستظل دائمًا الأفكار والاحتمالات الإبداعية قيد التحسين على يد الفريق، بشرط أن تكون الهياكل والاستراتيجيات في مكانها السليم لدعم عمليات الفريق.

فحيثما وُجد اتصال ملائم بين الإبداع الفردي وعمليات الفريق، يسهل الانتقال من مفاهيم فردية بسيطة إلى حلول معقدة. وتستفيد العمليات الإبداعية بشكل هائل من المدخلات المتمثلة في نطاق التصورات والأفكار. يستطيع المرء أن يبني بوتقة للأفكار الإبداعية من مساهمات مختلف الأشخاص، ومن خلال دمج تصوراتهم المختلفة بكفاءة؛ إذ يستغل إبداع الفرق مواهب الأفراد الإبداعية ويدمجها لتقديم نتيجة مذهلة. ليس كل البشر مبدعين، من حيث قدرتهم على خلق شيء من لا شيء أو تصميم وتشكيل تصورات جديدة غير اعتيادية عن طريق الفن، لكن الجميع يستطيع المساهمة في العملية الإبداعية من خلال استخدام نقاط القوة لديهم. ويشكل الناس ائتلافًا عند اتحادهم لإيجاد حل لمشكلة ما، فيأتي كل عضو بأفكاره وطاقاته الخاصة الفريدة.

(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: الافتقار إلى التنوع

الميل نحو التشابه والرؤية الضيقة
الافتقار إلى التنوع على مستوى القيادة في المؤسسات يمكنه أيضًا أن يؤدي إلى مشكلات.97 ويبدو أن النطاق المحدود لأساليب التفكير هو الجاني الرئيس. إذ يجنح القادة إلى اختيار ذوي العقول المشابهة لهم ودعمهم وترقيتهم، إلا أنه بمرور الوقت تصبح المؤسسة بمعزل عن مختلف أساليب التفكير وعن الأفكار التي من المرجَّح أن تؤدي إلى الابتكار. وكما أوضح المدون الرائد تشوك فراي الذي تدور كتاباته حول الابتكار: «بدون تنوع أنماط التفكير ووجهات النظر لدى قادة الشركات، من المحتمل ألا تتعرف الشركة على الموظفين المبدعين، ومن المحتمل ألا تتبنَّى الصراع المستوطن في قطع العلاقات وإقامتها، ومن المحتمل أن تفتقر إلى نطاق الرؤية المطلوبة للاستفادة القصوى مما يستطيع الإبداع تحفيزه … والقيادة في الشركات هي أقل المجموعات تنوعًا في العادة بصورة طبيعية … ونزعة الكثير من فرق القيادة نحو التشابه دون شعورها بذلك يضع الشركة أمام أخطار الرؤية الضيقة في الوقت الذي لا تستطيع تحملها، وهي في القمة.»98
هناك أدلة دامغة من قوانين القياس العالمية على أن تعدد الأبعاد يؤدي إلى الابتكار. وهذا ينطبق على المدن والبلدان والفترات الزمنية، فالشركات تنتقل حتمًا من تعدد الأبعاد إلى انعدام الأبعاد لأنها مضطرة إلى ذلك؛ مما يؤدي في النهاية إلى موتها.99

كلما طالت فترة عملك في الشركة، زاد خطر انفصالك عن الحياة الواقعية (فيما يخص الكيفية التي يفكر بها العملاء ويشعرون ويتصرفون) وزادت احتمالية تبنِّيك للتفكير الجماعي. فعندما يعتقد عدد كبير من الناس اعتقادًا جماعيًّا بأنهم خبراء، يضيق نطاق الاحتمالات وتتقلَّص القدرة الإبداعية على حل المشكلات. وفي مواقف العمل، هذا الأمر يمكن أن يعني أيضًا أن هناك ضغوطًا لأنْ نتوافق مع الآخرين، وأنه من الممكن أن يغير أحدهم رأيه، ليس موافقةً، بل لأنه يرى أن التوافق مع قرار المجموعة أسهل من مخالفتها. وتتبنى كثير من المؤسسات المختلفة ثقافة مشابهة من الاعتماد على القادة؛ مما يعيق حركة التنمية نهائيًّا.

وقد وصف مصرفي من مصرف ليمان براذرز تأثير العزل الذي ساد الأيام الأخيرة من عمر الشركة، وقال: «قبيل هذه الأزمة، شعرنا أننا بمعزل عن واقع السوق كله. وكانت تجربة أشبه بخروج الروح من الجسد؛ حيث جلسنا نشاهد الناس تجيء وتروح؛ ويتحدثون عما سيحدث بعد ذلك، وعن عدد الذين سيفقدون وظائفهم. لقد أطعمنا الوحش حتى انفجر.»100 وهكذا يتسبب الافتقار إلى الانفتاح على الأفكار والمعلومات الجديدة في الانهيار الداخلي في نهاية المطاف.

قد يكون تبني التنوع أمرًا مخيفًا، بل ربما حتى يعتبر طريقًا محفوفًا بالمخاطر. وعلى النقيض من ذلك، فإن عدم قبول التنوع يؤدي إلى الانهيار. ويقضي جزء من نظرية جيفري ويست بأن المدن تحتاج لأن تتقبل التنوع بصورة أكبر من المعتاد، بل وتدعم حتى الأشخاص المجانين ولهذا السبب تستمر في النمو. وخلافًا للمؤسسات التي لا يمكنها أن تتقبل إلا من ينصاعون ويمتثلون للأوامر ويتسنى لها بكل سهولة تسريح من تعتبرهم مجانين؛ تتسبب المدن في إحداث التقبل. وقد صوَّر ويست ذلك بقوله: «إذا ذهبت إلى جنرال موتورز أو إلى الخطوط الجوية الأمريكية، فلن ترى أناسًا مجانين، فالمجانين يُفصلون من العمل.»

من الممكن أن ينتج عن الحرمان الحسي سواء المطول أو القسري — مثل ما يُرى في الحبس الانفرادي — شعور بالقلق الشديد والهلوسة والأفكار الشاذة والاكتئاب. إنه وسيلة فعالة للتعذيب، إلا أن الفترات القصيرة من الحرمان الحسي توصف بأنها شكل من أشكال التحرر من الضغط يبعث على الاسترخاء، كما أنها تُفضي إلى التأمل. وتُستخدم أحواض الطفو أو العزل في بعض الأحيان كوسيلة لتخفيف حدة التوتر وخفض ضغط الدم وزيادة تدفُّقه. فبعد مرحلة أولية من الشعور بالقلق والتململ والحكة الاضطرارية (ويُشار إلى هذا الشعور أيضًا في بعض الأحيان أثناء المراحل الأولى لعملية التأمل)، عادةً ما ينتقل الشخص داخل حوض الطفو بصورة نموذجية من الموجات المخية ألفا وبيتا إلى موجات ثيتا. ويحدث وقوع هذه الموجات في العادة بين فترات النوم والاستيقاظ، ويمكنها أن تحفز حالة من الحلم الإبداعي. ومن الممكن أيضًا استخدام أحواض العزل هذه لتوليد مشاهد تصويرية مركزة وخلق التفكير الإبداعي. ولهذا من المهم استغلال هذه الفرص بغرض الخلوة الشخصية بمعناها الإيجابي، مع ضمان ألا تعزل الإنسان أو تعود بنتائج عكسية عليه، وألا تصبح حالة عقلية دائمة.

تقرير المحقق

هل قابلت نمط العزل هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:

الانعزال عن نطاق واسع من الآراء والأفكار.
النزعة إلى تجاهل الآراء والأفكار المخالفة أو محاربتها.
تشكيل الزُّمَر.

أثره على الضحايا:

ضيق الأفق.
الميل إلى التحيز الضار والتعصب الأعمى أو التمييز في المعاملة.

(٣) المرحلة الثالثة: التدهور – تثبيط النمو بسبب اللامبالاة

تشير المرحلة الثالثة من عملية القتل إلى تأثير «القمع» و«التقييد» على الفرد وتسلِّط الضوء على «عشيرة اللامبالاة»، وهم الأفراد المتبلِّدون الذين ينتهي بهم المطاف وهم يعذِّبون الآخرين للتعويض عن انفصالهم عن العالم وعدم اكتراثهم.

(٣-١) نمط القتل الخامس: عشيرة اللامبالاة

القتلة الذين ينطبق عليهم نمط «اللامبالاة» يفتقرون إلى الحافز والدافع. وغالبًا ما يقع هؤلاء الأشرار أنفسهم ضحايا للأنظمة التي أماتت إرادتهم لتحقق النجاح. فدون حافز أو دافع لإحراز التقدم وتحقيق الإنجازات، وبوجود الرغبة في رؤية الآخرين يعانون نفس الألم، غالبًا ما يُعيق هؤلاء القتلة الخطرون النمو بصورة ملحوظة. فيتخلصون من القامات ويقوِّضون جميع الجهود المبذولة في سبيل التنمية. وغالبًا ما يُلاحَظ هذا النمط في التهكم الجارح والسخرية اللاذعة؛ فيشعر هؤلاء القتلة بالازدراء نحو من يساعدون على إنقاذ الأرواح أو من يعززون التقدم، فيوغرون طعناتهم لتخترق قلوب ضحاياهم وأعضائهم الحيوية اللازمة لبقائهم. وتموت الضحية إما على الفور أو تنزف ببطء حتى تفارقها الروح إذ تفرغ منها إرادتها للحياة. وأنماط اللامبالاة تتَّسِم في الغالب بالفصام، وسلاحها المفضل هو «الخمول الفتاك».

إنتاج الذهب من البول

في عام ١٦٧٥، أقنع ألماني يسمى هينينج براند نفسه بإمكانية إنتاج الذهب من بول الإنسان بعد تقطيره. وكان هينينج في كل ليلة يجمع بوله في دلو حتى خزَّن خمسين دلوًا ممتلئة ببوله في قبوه على مدى أشهر. وبعد فترة من الزمن، بدأت المادة تتوهَّج وفور تعرضها للهواء الطلق اشتعلت فيها النيران، وقد عُرفت هذه المادة فيما بعد بالفوسفور. وفي النهاية، يُستخدم الفوسفور لأغراض متعددة ابتداءً من السماد والمواد المتفجرة وانتهاءً بمعجون الأسنان والمنظفات. ومنذ اكتشاف فوائد الفوسفور، جُمع وخُزن بول الجنود في دِلَاء (يُنتج كل ١١٠٠ لتر من البول حواليْ ٦٠ جرامًا من الفوسفور)، وبعدها تطورت عمليات إنتاج الفوسفور إلى أشكال أكثر كفاءة.

هل كان هينينج مبدعًا أم محظوظًا أم مجنونًا أم ذكيًّا أم واهمًا أم كل ما سبق؟ هل يتحتم علينا أن نأتي بفكرة جنونية مثل تحويل بولنا إلى ذهب حتى يتسنى لنا اختراع شيء جدير بالاهتمام؛ حتى نكون مبدعين؟ هذه القصة توضح لنا الدور الذي يلعبه الحظ والإصرار في خلق الإبداع. كما أنها تثير تساؤلًا: هل يولَد العباقرة المبدعون أم يُصنعون؟ والإجابة البسيطة هي أن التنمية الإبداعية تتطلَّب قدرًا صغيرًا من الاثنين معًا، فهي تتطلب شرارة إبداعية أو على الأقل رغبة في التعلم وممارسة الأساليب الإبداعية، لكنها أيضًا تتطلب عادةً الكثير من المثابرة العنيدة من أجل التوصل إلى نجاح إبداعي حقيقي.

وكشف تأمُّل مالكوم جلادويل101 للعبقرية الإبداعية عن مدى أهمية هذين العنصرين، فيقول: «هل تدرك أننا لم نكن لنسمع أبدًا عن شركة فيرجن للتسجيلات أو عن ريتشارد برانسون لولا المقطع الموسيقي الناجح «الأجراس الأنبوبية»، أو إذا قرر أحد مديري البنك الذي تعامل معه ذات صباح ألا يمدد من فترة السماح لائتمانه، أو لو قرر برانسون ألا يستجدي لمد الفترة؟ إن لم يخترع توماس إديسون المصباح الكهربائي، فهل كان سيخترعه شخص آخر؟ إن لم يظل ستيف جوبز في شركة أبل، هل كنا سنحصل على الآي فون الشبيه بسكين الجيب السويسرية متعددة الوظائف، أو مفهوم متجر التطبيقات الذي أحدث ثورة في الهواتف المحمولة ومجال الموسيقى كذلك؟»

اللامبالاة تقتل الإبداع عبر إخماد أي شرارة إبداعية أولية ربما كانت متوهجة، أو عبر تثبيط الإرادة نحو المثابرة إن واتت الفرصة شرارة الإبداع تلك أن تشتعل. فالابتكار الحقيقي يتطلب فترة طويلة من التفكير الإبداعي الُمكرس ولذا يمكن للقتلة اللامبالين قتله بسهولة. فهم ينفذون عملهم إما بقطف ضحاياهم في مجدهم وإما بتوجيه الطعنات إليهم بلا هوادة، فيستنفدون ما لديهم من التحفيز الإبداعي. أما من يقدر على التغلب على هذه العشيرة، فيستمر في إشعال إرادته وحماسه لمواصلة التحلِّي بالإبداع على الرغم من التحديات المتواصلة.

والقتلة الذين يطعنون ضحاياهم أو يجلدونهم عادة ما يخططون مسبقًا لفعلتهم بأسلوب محدد الأهداف، وهذا يميز من ينطبق عليهم نمط «اللامبالاة». فما يظهر من افتقار للدافع أو الاهتمام أو العاطفة قد يتحول إلى «طعنة من الخلف» أو «تصرف جارح للمشاعر» متعمد. وعشيرة اللامبالاة التي تتسم بالتهكم والسخرية، يمكنها إلحاق ضرر جسيم بالمؤسسة التي لا تدعم ثقافة شَغُوفًا بالالتزام.

ويمكن قياس تأثير اللامبالاة على أي مؤسسة من خلال مستويات مشاركة الموظفين في العمل، ويمكن قياس هذه المشاركة من خلال:
  • مدى التزام الموظفين بشيء ما أو بعلاقة مع أفراد في المؤسسة.

  • مدى كدحهم في العمل.

  • مدة بقائهم في المكان نتيجة لهذا الالتزام.

تُعرف مشاركة الموظف على أنها عامل أساسي في نجاح الفرد والفريق داخل المؤسسة. فهي تتعلق مباشرةً بالروح المعنوية والإنتاجية، وفي النهاية تؤثِّر في نجاح العمل التجاري. وأوضحت دراسة أجريت على ٥٠ ألف موظف حول العالم102 مدى أهمية مشاركة الموظفين في العمل. إذ وجدت أن المؤسسات التي تقل بها نسبة مشاركة الموظفين هي أكثر المؤسسات عرضة لخسارة المواهب ولضعف الأداء. وإلى جانب كون عدم مشاركة الموظفين مُخلَّة بالنظام، فإنها يمكنها أيضًا أن تصبح هدَّامًة جدًّا. وقد وُجد كذلك أنه رغم أن غالبية الموظفين في الشركات ليسوا على درجة عالية من الالتزام وليسوا منعدمي الالتزام أيضًا بدرجة كبيرة، فإن وجود أكثر من موظف واحد مقابل عشرة موظفين منعدمي الالتزام تمامًا (بمعنى أنهم شديدو الاعتراض على شيء ما أو شخص ما داخل المؤسسة) من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على الآخرين، كما يمكن أن يؤثِّر على ثقافة المؤسسة بأكملها. فلندرس هذه الحقائق الدامغة: ١١٪ من القوى العاملة مشاركون بصورة كبيرة في العمل، و٧٦٪ ليسوا مشاركين كليةً ولا منفصلين كليةً، و١٣٪ منفصلون كليةً.
أما بالنسبة للموظفين ذوي المشاركة المرتفعة في العمل، فيتميزون بأداء أفضل بنسبة ٢٠٪ وتقلُّ نسبة احتمالية مغادرتهم الشركة إلى حوالي ٨٧٪. ومما لا شك فيه أن اللامبالاة في محل العمل التي تنشأ عندما تقل نسبة المشاركة تكلِّف المؤسسات تكلفة باهظة. وأظهرت دراسة استقصائية بريطانية103 أن بعض الموظَّفِين يتصفحون الإنترنت لما يزيد عن ثلاث ساعات يوميًّا،104 كما أوضح محللون آخرون أن ٤٠٪ من العاملين يعانون من التراجع الكبير في قدرتهم على الإنتاج في فترات بعد الظهر.105

ليس هناك علاقة مباشرة وُجدت بين مجموعات معينة داخل المؤسسة ومستويات المشاركة. فلا النوع، ولا مدة العمل بالشركة، ولا الوظيفة — على سبيل المثال — تتنبَّأ بمشاركة الموظفين فيما يبدو على الإطلاق. وفي الحقيقة، لم يتبين أيٌّ من أفضل خمسة وعشرين حافزًا لمشاركة الموظفين — تم تحديدها في الاستطلاع — من المحتمل أن يؤثر على مستويات مشاركة الموظفين. لكن يبدو أن ثقافة الشركة واستراتيجياتها وسياساتها لها تأثير قوي. فالاختلافات الجوهرية في مشاركة الموظفين في مختلف الشركات تعكس مدى أهمية هذا البعد. فإذا شعر الموظفون داخل المؤسسة بارتباطهم بخطة رئيسية إيجابية، يَظهر الالتزام فيما يبدو. فعدم امتلاك رؤية إيجابية وعدم القدرة على الارتباط بهذه الرؤية — أو ما هو أفضل من ذلك؛ أي تبني هذه الرؤية — يؤديان إلى السقوط في الهاوية.

إنَّ اللامبالاة تسبب جراحًا قاتلة في المؤسسة، فقد يتحوَّل النقص الواضح في الدافع والاهتمام والحماسة إلى ما هو أسوأ. فالمؤسسة التي تعاني من اللامبالاة ستعم بها ثقافة مدمرة تتصف بالخداع والتنمر، كما أن الجروح التي تسببت بها هذه الأسلحة لا تلتئم بسهولة. وكلما زاد عمق الجرح، نتج ضرر داخلي دائم لن تُصلحه أي جراحة. كما تصبح المؤسسة عرضة للعدوى التي تنتشر بسهولة.

ومنذ بداية الخليقة وحتى العصور الوسطى، ساد الظن أن الجروح الجسدية تشير إلى قلب دامٍ أو روح مجروحة. والجروح التي تسببها اللامبالاة تستهدف إيذاء الناس نفسيًّا، لكنها لسخرية القدر غالبًا ما تكشف النقاب عن الجروح النفسية العميقة للقتلة اللامبالين أنفسهم.

قائمة المشتَبَه بهم في عشيرة اللامبالاة الذين سنتحدث عنهم هنا:
  • الافتقار إلى التحفيز.

  • الافتقار إلى المبادرة.

  • الافتقار إلى الدافع.

(أ) المشتَبَه به الأول: الافتقار إلى التحفيز

أسرار النجاح الساحق
في كتاب السير كين روبنسون «العنصر» الذي يدور حول الإبداع، أجرى المؤلف مقابلات مع عدد من المبدعين في مسعًى للوقوف على سر نجاحهم. فقد يظن البعض خطأً — مما يرونه من العدد الكبير من النجوم المشهورين — أنه لا بدَّ لك أن تكون متسربًا من التعليم لتكون مبدعًا.106 أما روبنسون فيرى أنه على كل واحد منا أن يبحث عن «عنصره» (أو كما يسميه شيكسنتميهاي107 في أطروحته الأقدم والأكثر اعتمادًا على المنهج العلمي: إيجاد «تدفقنا»). وتظهر أهمية التقاء الموهبة الطبيعية بالشغف الذاتي في الأبحاث — وكلاهما مكونان أساسيان لرحلة البحث عن العنصر أو التدفق — لكن لا يمكن تجاهل «الحظ» أيضًا باعتباره عاملًا رئيسيًّا من عوامل النجاح. إذن فالفيصل الرئيسي هو وجود الدافع أو عدمه.
وفي مسعاك للوصول إلى أفضل طريق لتصبح ناجحًا بإبداع ولتبتكر بحكمة، لا بدَّ أن تسلط تركيزك على العملية أكثر من النتيجة؛ إذ قد تكون النتائج متحيزة. فعلى سبيل المثال لا يصف أغلب رجال الأعمال قرارًا ما ﺑ «الأحمق» إذا أدرَّ الأموال، حتى إن أتى القرار ﺑ «ضربة حظ». لكن عادة ما تصلنا قصص الناجحين الذين اكتشفوا شيئًا عظيمًا مشوَّهةً.108 فليس ممكنًا أن تقيِّم بنجاح دربًا معيَّنًا سلكه إنسان في حياته بمعزل عن الآخرين؛ دون أن تضع نُصب عينيك أولئك الذين خطت خطاهم الدرب نفسه. إذن أين نجد أنفسنا عند محاولتنا تحديد سمات العباقرة المُبدعين؟ دائمًا ما تبدو الأشياء أكثر وضوحًا بعد وقوعها، فيخيم شبح تحيُّز الإدراك المتأخر على العديد من دراسات الحالات. لذا، من الخطير أن تتطلع إلى إنسان أتى بفكرة إبداعية وتعكس هندسة تجربته كلها بعملية بسيطة خطوة بخطوة من النهاية إلى البداية.
لقد كُشف أمر بعض الذين كان نجاحهم مبنيًّا على قرارات بها مجازفات جنونية إبَّان الأزمة المالية العالمية وأزمة الائتمان في عاميْ ٢٠٠٨ و٢٠٠٩. فبعد الأزمة اعترف بعض المصرفيين أنهم لم تكن لديهم أدنى فكرة عما كانوا يفعلونه ولا كيف باتوا ناجحين، إنما الأمر هو استمرار الناس في طلب النصح منهم فاستمروا هم في تقديمه. ويمعن المصرفي بوول ستريت مايكل لويس النظر في الأزمة بعد انهيار إمبراطوريته (في ضوء إدراكه المتأخر) وصرح قائلًا: «إلى يومنا هذا يبقى لغزًا لي استعداد البنوك الاستثمارية بوول ستريت لدفع مئات الآلاف من الدولارات إليَّ من أجل تقديم استشارات استثمارية للبالغين. لقد كنت في الرابعة والعشرين من عمري، بلا أي خبرة أو اهتمام بتخمين أي الأسهم أو السندات تصعد أو أيها تهبط. فالمهمة الأساسية لوول ستريت هي تخصيص رأس المال؛ أي تقرير من ينبغي أن يحصل عليه ومن ينبغي ألا يحصل عليه. وصدقوني، لم تكن لديَّ أدنى فكرة.»109
ليس بالحظ وحده ينجح الفرد في تنمية الأفكار الإبداعية واتخاذ القرارات الإبداعية، لكنَّ المدخلات الصغيرة التي تُلاحَق بثبات على مر الوقت تؤدي إلى نتائج وأحداث متفاوتة. وقد يستفيد الأحمق الوفير الحظ من الفوز باليانصيب مرة واحدة (أو بسبب دورة تصاعدية في سوق الأسهم) لكن دعه يحاول أن يعيد الكَرَّة مرارًا في جميع الظروف. فقليلو الحظ الذين لا يكفُّون عن المحاولة مستخدمين المبادئ الآتي ذكرها، قد يستفيدون على الأرجح من قسط من الحظ على المدى البعيد. وفي واقع حياتنا، يميل كل فرد منا في آخر الأمر إلى نزعتنا الأصيلة نحو التفاؤل (وهو ما يُبقِينا مثابرين) أو التشاؤم (وهو ما يدفعنا للاستسلام). إننا نحتاج إلى إمعان النظر في العملية التي تخلق نجاحًا طويل الأمد بدلًا من أحداث جوهرية قصيرة الأجل تلفت انتباه الإعلام.110 فمعظم رواد الأعمال الذين حققوا نجاحات ساحقة على مدًى طويل يميلون إلى الحيطة؛ إذ يتخذون مجازفات صغيرة وفي الوقت نفسه يبقون قدمهم على أرض صلبة، لكن هذا النهج المُتواضع لا يجد مكانًا للمنافسة في الإعلام مع آل برانسون المبهرين الذين تسللوا إلى حياتنا في مناطيد الهواء الحمراء محاطين بالفتيات الجذابات وشعارات السعادة. فقد سوَّق برانسون إبداعه تجاريًّا (وهذا بالفعل إبداع ذكي!) ولكنه ليس القاعدة بل هو من شواذِّها. وقد يشكِّل برانسون ورواد الأعمال أمثاله إلهامًا لنا، لكننا نادرًا ما نسمع عمَّن كانوا أقل «حظًّا». فإذا كان النجاح الإبداعي يقوم على مزيج من الموهبة والحظ، فإن ما هو بحاجة ليكون مبدعًا هو التحفيز، وما يمنع الناس من التحلي بالنجاح الإبداعي و«الحظ» هو الافتقار للتحفيز والدافع.

إذن، كيف لنا أن «نلاحق بثبات» الفرصَ لنخلق حظنا الخاص؟

(ب) المشتَبَه به الثاني: الافتقار إلى المبادرة

ما بعد ضربة الحظ

إذا كانت لديك الشرارة الإبداعية الأولية لاستكشاف فكرة جديدة، فإن الخطوة التالية التي تضمن أنك لا تنتظر ببساطة أن يكون النجاح حليفك من خلال «الحظ» هي أن تنتهز فرص النجاح بفاعلية. وهذا هو الملتقى التالي في الرحلة حيث يُحتمل أن تقتل فيه اللامبالاة الإبداع.

الحظ يواتي الذهن المستعد.

لويس باستور

غالبًا ما يلعب الحظ دورًا في إشهار نجاحك وإكسابه الاعتراف والتقدير أو غير ذلك، إلا أن الأمر ليس كذلك بالضرورة في عملية التفكير الإبداعي نفسها. فحتى تأتي بفكرة إبداعية أو حل إبداعي بحق، فإنك تحتاج إلى «انطلاقة إبداعية» إيجابية؛ أي الانطلاق من لحظة الاكتشاف «وجدتها!» التي لا تواتي المرء إلا بالمثابرة المنضبطة خلال عمليات المحاولة والخطأ المتأنية. نعم، من الممكن أن يُلهِمنا أناس مبدعون وافرو الحظ، لكن علينا أن نَعِيَ أنه ليس لكافة المبدعين ضربات حظ. ويمكننا البدء في استخلاص العوامل التي يمكننا أن نستخدمها لتوفير الظروف المناسبة لانطلاقتنا الإبداعية الخاصة، فقط عن طريق إمعان النظر في «العمليات» التي تكمن وراء أعمال الناجحين المبدعين. وعلى الرغم من أنه لا أحد يستطيع أن يضمن النجاح عبر اتباع خطوات معينة، فإننا نعلم بالفعل أنك بالطبع لن تنجح إن لم تحاول. وكما يقول المثل «ستفوتك كل الفرص التي لم تنتهزها.» وهذا هو الفيصل الرئيسي بين من يمارس التفكير الإبداعي بنجاح ومن لا يفعل. وبمعنى آخر، إن الذين نجحوا في تحقيق الانطلاقات الإبداعية «المحظوظة» يتميَّزون دائمًا بإصرار عنيد يخلق فرصًا للنجاح.

لقد وُجد أن الأشخاص «المحظوظين» يتقبَّلون الاحتمالات إلى حد بعيد، وتؤكد الأبحاث المُجْرَاة عن العقلية الإبداعية هذا الأمر. فدون العقلية المتفائلة، يسهل التعرض لأَسْرِ الخوف والاستسلام قبل التوصل إلى الحل. بيد أن هذا النوع من التفاؤل ليس مجرد ضربة حظ. فيقول عالم النفس ريتشارد وايزمان: «أغلب الناس لا يتقبلون ما يوجد حولهم.»111 فلتفتح الباب أمام التجارب الجديدة. فمن ناحية، يعْلَق عاثرو الحظ في الروتين (البيروقراطية)، وإذا لمحت أعينهم شيئًا جديدًا، عزفوا عن نيل نصيب منه (الخوف). أما سعداء الحظ — من ناحية أخرى — فدائمًا ما يَتُوقون للجديد. فهم على أُهْبَة الاستعداد لخوض المخاطر، كما أنهم على قدر من الاسترخاء يمكِّنهم في المقام الأول من ملاحظة الفرص. لكن لا يسعك القول بشكل عام إنه متى أتاك حدْس ما، فهو حدْس سليم وعليك الانسياق وراءه. لكنك قد تَضِلُّ في بحر المعرفة الزاخر الذي أضَفْت إلى مياهه عبر سنين، إن عجزت عن إدراك هذه الفرص وتقييمها كما ينبغي.
مفهوم «محاباة الباقين رغم الصعاب»112 (حمْل المشاهير الناجحين على الأكتاف وتجاهل من فشل) يقدم لنا منظورًا مشوَّهًا للحقائق. فلأنَّ عقولنا مصممة لرصد الأنماط، فإننا نميل للبحث عن القواسم المُشتركة بين «قصص النجاح الإبداعية» آملين أن تمدَّنا بتركيبة سحرية سرية. لكن واقع الحال هو أننا غالبًا ما نحاول الكشف عن الأنماط في مواضع تنعدم فيها الأنماط، وقد تكون التركيبة السرية هي الإصرار المتفائل. فتزيد احتمالية نجاح الناس لأنه ببساطة كلما زاد عدد الذين يسعون وراء انطلاقة إبداعية أو نجاح ابتكاري، زادت أرجحية وقوع واحد منهم على الأقل حليفًا للحظ. فإن لم يخترع توماس إديسون المصباح الكهربائي أو لم يبتكر بيل جيتس منتَج البرمجيات المستخدم في جميع أنحاء العالم، فلنا أن نوقن أن شخصًا آخر كان سيأتي بحل لتلك المشكلات في مرحلة ما. نحن بحاجة إلى استخلاص المبادئ الإبداعية بدلًا من حمل الأفراد على الأكتاف.

(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: الافتقار إلى الدافع

هزيمة السرطان

النقطة الثالثة في العملية الإبداعية التي يمكن أن يتعرض فيها التفكير الإبداعي لهجوم شرس هي المرحلة التي يحين فيها دفع الأفكار قيد التطوير نحو تطبيقات محددة ومتابعتها حتى إتمامها.

لدينا صديق تتجسَّد فيه العقلية الإيجابية والعمل الجاد الضروري للانطلاقة الإبداعية؛ وهو محامٍ نشطٌ وناجحٌ اتَّجه للعمل مدربًا على المستوى الأوليمبي بعدما خاض صراعًا مضنيًا مع السرطان الفتَّاك. هذا الصديق هو جون هارفي الذي يعي جيدًا معنى المثابرة عند مواجهة التحديات. كان أندرو وجون يمارسان رياضة ركوب الأمواج معًا على مدى عدة سنوات قبل أن يدرك أندرو القدرات الحقيقية لهذا الرجل الهادئ. فبعد أن عرفنا ما واجهه جون وما وصل إليه، قرَّرْنا أن ندعوه للحوار مع بعض عملائنا من الشركات عن رحلته الشخصية. وأول مجموعة التقى بها جون كانت حزمة من سماسرة البورصة المتشكِّكين والمُنْهَكين، ذوي القصور في الانتباه. وقد كان التحدي أمامه هو إلهامهم وتحفيزهم حتى تنشأ لديهم عقليات متفائلة. وحتى يسترعي جون انتباههم، جلس على مقعد في مقدمة الغرفة وأوصل نفسه بجهاز لمراقبة ضربات القلب، وعُرض الرسم البياني لضربات القلب على شاشة. واندهشت المجموعة عندما تمكن جون في دقائق من رفع معدل ضربات قلبه من المعدل الطبيعي في حالة السكون؛ من حوالي ٧٠ ضربة في الدقيقة إلى أكثر من ١٦٠ ضربة في الدقيقة، وبعد دقائق قليلة خفضه إلى ما يقل عن ٥٠ ضربة في الدقيقة. والآن انتبه الجمهور، آملين أنهم لو أنصتوا بانتباه لعلهم يتعلمون السر وراء تحكم جون. وصاح بعضهم بعد ذلك إعجابًا قائلين: «يا للعجب! ليتني كنت مثلك.» وكان ذلك رد فعل تقليديًّا لقصص جون وعروضه المبهرة (ولا يزال لديه العديد من العروض المبهرة في جَعْبته)، ولكننا ما إنْ نسمع ردة الفعل هذه حتى نقول لأنفسنا «لو أنهم يعون ما مر به ليصل لتلك المرحلة.»

لم يكن لدى جون خيار آخر إلا محاولة هزيمة السرطان الذي هدد بالقضاء عليه، فأخضع جون عقله وجسده لأبحاث شديدة التنظيم لإيجاد طرق لمواجهة الأورام التي استوطنت جسده لمدة عشرين عامًا. وعلى مدى كل تلك السنوات، أدهش الأطباء والمتخصصين بمرونة عقله وقدرته على الاستمرار في الكفاح والبقاء. تعلَّم جون تخليق الكورتيزون الطبيعي في جسده والتحكم في مستويات حمض اللاكتيك أثناء ممارسته للرياضة. وتعلم أيضًا استهداف السرطان بعقله، وتقليص حجمه خلال تدريبات التصور الإبداعي فحسب. وخلال هذه الفترة، وصل جون للنهائيات في بطولات عالمية للتجديف في الأماكن المغلقة (أمام أبطال أوليمبيين سابقين)، كما أحرز العديد من الأرقام القياسية الأسترالية في رياضة التجديف. ومنذ ذلك الحين وهو يعمل مدربًا لأبطال العالم من الرياضيين والمشاهير وحتى رئيس الوزراء الفريد.

بنهاية هذه المحاضرة التحفيزية الأولى، أطلق سماسرة البورصة على جون لقب «المحظوظ»، وفي الحقيقة كان جون واحدًا من سعداء الحظ الذين تغلَّبوا على هذه المحن، ولكن روتينه اليومي شديدُ الانضباط والتركيز. ولا يدرك معظم من يعرفه مدى العمل الشاق الذي يؤديه ليُبْقِيَ السرطان بمنأًى عنه. فيخطِّط جون ليومه وأسبوعه وشهره بعناية بالغة، كما يخطِّط لأهداف على المدى القصير تؤدي إلى رؤًى بعيدة المدى. ويمارس تدريباته لما يقارب ثماني ساعات يوميًّا، كما «يدرِّب» عقله لستِّ ساعات إضافية في المتوسط. في مرحلة ما، اشتدت آلام سرطان العظام في كَتِف جون فلم يَقْدِرْ على التجديف على آلته، لذا بدلًا من ذلك، أمضى ساعات في تخيُّل عملية التجديف، واستجاب بدنه — بما فيه نبضه — كما لو كان يجدِّف فعلًا. ورغم عجزه عن التدريب على آلته، تابع جون مسيرته حتى حصل على لقب البطولة للعام التالي، وذلك بالتصور الإيجابي وحده. إذن فليس الحظ هو ما أبقى جون مركِّزًا على أهدافه وعلى قيد الحياة في نهاية الأمر، بل العمل الجاد ووضوح الرؤية.

كانت المحصلة النهائية الرئيسية التي توصَّل إليها جلادويل خلال أبحاثه هي أن العبقري الناجح هو مزيج قوي من ظروف — كان الحظ حليفها — وعمل جاد؛ وليس مجرد وراثة جينية.113 وبتحليل جلادويل لتواريخ ميلاد الأطفال في الفِرَق الرياضية، توصل إلى أن الأطفال المولودين في تواريخ مقاربة لآخر يوم في ميعاد التقديم في المدارس — ومن ثَمَّ هم الأكبر سنًّا في صفهم — يحظون بفرصة أكبر للنجاح من أقرانهم الأصغر سنًّا الذين هم في الغالب أقل حجمًا وأضعف جسدًا. وإذ إن الأطفال الأكبر سنًّا من أقرانهم ينضجون جسديًّا بشكل أسرع، فإنهم يتمُّ اختيارهم على الأرجح في الفِرق الرياضية؛ الأمر الذي يشكِّل ثقتهم بأنفسهم ويحفزهم؛ مما يحسن من أدائهم. ويشير جلادويل إلى أنه من الأفضل لك أن تكون الأكبر سنًّا في صف من الصغار على أن تكون الأصغر سنًّا في صفٍّ من الكبار. وهناك بالتأكيد دائمًا عنصر الحظ الذي لا يمكن التحكم فيه بالضرورة.
عندما صدر ألبوم فرقة بينك فلويد «الجانب المظلم من القمر» في مارس ١٩٧٣، حقَّق أكبر نسبة مبيعات على الإطلاق (٤٥ مليون نسخة، كما بقي لمدة ٧٤١ أسبوعًا على قوائم أفضل المبيعات)، وبهذا الإصدار ظن الكثيرون أن الفرقة حققت نجاحًا دوليًّا بين ليلة وضحاها. أما حقيقة الأمر كما يرويها أعضاء الفرقة في فيلم وثائقي فهي أن نجاحهم أتى من آلاف الساعات التي انتهت بتسجيل الألبوم، فقالوا: «لقد تطلَّب الأمر عشر سنوات من الإعداد.»114 وفي أواخر حياة مايكل جاكسون، كان معروفًا للعالم بما يحدث له خارج المسرح وليس ما يقدمه على خشبة المسرح. لكن فيلم «هذا هو» — وهو تكريم لجاكسون مبني على مشاهد صورت من التمرينات قبل حفله الأخير — أظهر التجهيزات المكثفة وساعات التدريب العديدة التي انعكست في عروضه المميزة بالمرونة والبراعة. ومن الواضح أن حجم العمل كان كبيرًا في إعداد العبقرية الإبداعية التي تميِّز عروض جاكسون المبهرة والمنتَج الرائج تسويقيًّا. إضافةً إلى ذلك، تُظهر السيرة الذاتية لبرانسون الفترات التي حالفه فيها الحظ في حياته، والتي ساعدته في تمهيد الطريق لنجاحه في ريادة الأعمال. إلا أنها تبيِّن كذلك الدافع الكبير والجهد الهائل الذي بُذل لتحقيق هذا النجاح. فلقد ساعدته إرادته القوية وإصراره على النجاح على العودة من الفشل وتخطِّي الصعاب والعقبات لتحقيق أهدافه المرجوة.

ماذا عن بيل جيتس؟ هل مرَّ كذلك بفترة كان الحظ فيها حليفه؟ هل كان ببساطة في المكان المناسب في الوقت المناسب؟ لقد وُلد، بالتأكيد، في الوقت الذي بدأت فيه الفرص المناسبة له في الظهور. فتمكن على غير العادة من استخدام أجهزة كمبيوتر أكثر تطورًا من أجهزة الأجيال السابقة أو حتى تلك التي حلم بها معظم أقرانه. وقد تصادف أن كان لوالدته من العلاقات ما ساعده في قيادة شركته الوليدة نحو بداية موفقة على غير العادة. لكنه كان على استعداد أيضًا للتدريب لساعات طويلة لإتقان المهارات المطلوبة (وكان غالبًا ما يعمل أثناء الليل لأن أجهزة الكمبيوتر كانت متوافرة أكثر حينها). ولو تغيرت الظروف تغيرًا بسيطًا، ما كنا لنقرأ عن بيل جيتس الآن، لكن عن شخص آخر حقَّق ما حققه جيتس. وأيًّا كان ذلك الشخص، فإنه كان على الأرجح سيقضي مثل بيل جيتس آلاف الساعات من سنوات مراهقته في تعلُّم الأكواد وتطوير المهارات.

ومما لا شك فيه أن هينينج براند كان إنسانًا متفائلًا. لقد آمن أنه يستطيع صنع شيء استثنائي من «لا شيء»؛ أي إنتاج الثروة (الذهب) من الفضلات (بول الإنسان). وفي هذا الشأن كان مخطئًا أشدَّ الخطأ. ففي الغالب فاحت الروائح الكريهة في منزله (من الصعب تخيل ما هو أسوأ من الرائحة النتنة لبول الإنسان «المحفوظ» والتي تنبعث من القبو!). إلا أن دافعه لاتباع غرائزه وإصراره الشديد المتمركز فقط حول التمسك بالتجربة يعني أنه توصل مصادفةً إلى شيء غير متوقع تمامًا في النهاية، إلا أنه مفيد بشكل لا يصدق؛ ألا وهو الفوسفور. هل كان لشخص آخر أن يكتشف الفوسفور على مر الزمن؟ من المرجح جدًّا. لذا نكرر أن الاكتشاف في حد ذاته ليس الدرس الأساسي هنا، بل العملية هي الأمر المهم. ويمكننا أن نرى التَّفاني الخالص والالتزام الذي يتطلَّبه الأمر للوصول إلى أفكار وحلول إبداعية جديدة، ويمكننا أن نتعلم أيضًا أن مَنْ حاول نجح.

لذا بدلًا من السماح للعداء بأن يتراكم داخلنا ثم نوجِّه هذه العداوة للخارج، فإن أفضل طريقة للتغلب على اللامبالاة هي تحويل هذه الطاقة إلى إرادة نحو المثابرة. ومثل هينينج براند قد لا تجد الذهب، ولكنك ستندهش بما سيُنتجه الالتزام والدافع والإصرار العنيد. فتحويل الماء إلى نبيذ، والبول إلى فوسفور؛ أي التحول من العادي إلى الاستثنائي، لا يحتاج دائمًا إلى إيمان بالقوى الخارقة، أو ثقة تامة في أساليب الخداع البصري؛ إنما يتعلق الأمر بتحفيزك، وأخذك لزمام المبادرة لبدء رحلة البحث، وامتلاكك التركيز والإصرار والالتزام لتحقيق ما تريد.

تقرير المحقق

هل قابلت نمط اللامبالاة هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:

نزعة للاستسلام بسهولة (الافتقار إلى المثابرة).
السخرية والتهكم.
التخلص من القامات.

أثره على الضحايا:

الانفصال عن الآخرين.
الافتقار إلى الاهتمام بالنمو.

(٤) المرحلة الرابعة: التدمير – ضيق الأفق الهدَّام والتشاؤم

المرحلة النهائية من مراحل عملية القتل الانتكاسية قد تؤدي كذلك إلى ضرر يتعذَّر تداركه. وتشمل هذه المرحلة «عصابة ضيق الأفق» الذين باتوا متعصِّبين ضد الآراء والأفكار الأخرى ومن ثَمَّ يستهدفون الضحايا البريئة بلا رحمة. وتشمل أيضًا المرحلة «فوج التشاؤم» الذين تخلوا عن آمالهم فبدءوا بتسميم الآخرين بسلبيتهم الخبيثة.

(٤-١) نمط القتل السادس: عصابة ضيق الأفق

باستخدام نهج عنيد وتعسفي غالبًا، يضمن القتلة الذين ينطبق عليهم نمط ضيق الأفق بقاء ضحاياهم الحمقى محبوسين داخل أنماط سلوكياتهم المألوفة والقياسية. والضحايا هم من يسببون هذا لأنفسهم بصورة غير متعمدة بسبب طرقهم المألوفة في التفكير والتصرف. ومن ينطبق عليه نمط عصابة ضيق الأفق — الذي هو وثيق الصلة بنمط العزل — يكُنْ لديه في العادة نطاق محدود من المدخلات بينما تُعرض عليه أفكار وأساليب تفكير مختلفة. ونتيجة لذلك، يميل هو وأقرانه إلى أن يكونوا من أصحاب العقليات الجامدة والمنهج الضيق الأفق، ويَفرضون هذا التصلب على ضحاياهم. فيقتنع ضحاياهم بالنظر في اتجاه واحد فقط، ولا يدركون أن قبضة ضيق الأفق تستحكم بشدةٍ وصرامة عليهم، كما أنهم لا يشعرون بأنهم يموتون ببطء. وعندما يكتشفون ذلك، يكون أوان الفرار قد فات. وتُظهِر عصابة ضيق الأفق عادةً علامات «اضطراب الشخصية التجنبية»، وسلاحهم المفضل هو «التعصُّب العنيد».

معارك الفورمولا وان وتضييق نطاق القنوات

قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، سيطر البلدان الأوروبيان الصناعيان الكبيران — ألمانيا وإيطاليا — على سباقات الفورمولا وان للسيارات. وفي معظم السنوات، كان التنافس على البطولة العالمية يدور بين مرسيدس-بنز ومازيراتي وفيراري، وكان معروفًا حينها أن كل ما يتطلَّبه الفوز بالسباقات هو صناعة سيارات أقوى ومحركات أكبر. وكانت قوة الحصان هي مقياس قيمة السيارة. ومع ذلك، بحلول الستينيات من القرن الماضي، ظهر جيل جديد من فرق السباق في بريطانيا. وبدون دعم من أي مصنع أو أي دولة، جمعوا المال والأدوات والقوى العاملة لصناعة السيارات في جراجات بسيطة بالضواحي. وصممت بحدس وإبداع، وجرى اختبارها بشكل أساسي على المضامير أثناء السباقات. وعندما ظهرت في سباق أقيم في عطلة نهاية الأسبوع، استهزأت بها فرق السباقات العريقة، حيث أطلق عليها إنزو فيراري — مؤسس هذه الماركة الإيطالية البارعة — لقب «سيارات الورش» مستهزئًا بافتقارها إلى التاريخ وقلة مواردها. لكنْ حدث شيء مذهل بعدها: فازت بالسباقات! واستمرت في الفوز. وطوال الستينيات والسبعينيات، فازت سيارات الورش بالسباقات كل عام تقريبًا في بطولة العالم.115
بم تميزت سيارات الورش؟ لقد مثَّلت منهجًا منفتحًا للابتكار. فبالاستغناء عن الموارد والأفكار الجامدة الخاصة بمنافسيهم، قرَّر القائمون على إنتاجها أن يتخذوا مسارًا مختلفًا. فبدءوا بصفحة جديدة وجربوا أفكارًا جديدة وارتجلوا بمرح ودون خوف من الفشل.116 كانت البداية هي نقل محرك السيارة من المقدمة إلى المؤخرة. وهذا سهَّل التعامل مع السيارة، وزاد من سرعتها على المضمار ومن القدرة على توقُّع حركتها عند زوايا المضمار. كما استخدموا موادَّ جديدة لصناعة سيارات أخف وزنًا وأكثر قوة وصلابة. وشكَّل المحرك جزءًا من قوة السيارة بعد أن كان مجرد أداة مربوطة في هيكلها. على الجانب الآخر، تمسكت الفرق العريقة — المحصنة بأساليبها والمؤمنة بتاريخها — بافتراضاتها عن أسرع سبيل حول المضمار؛ وهو المزيد من القوة. وفي الوقت نفسه، واصلت سيارات الورش الفوز بالسباقات.

غالبًا ما يكون ضيق الأفق غير ظاهر لذوي البصيرة المحدودة. فكلما قلَّ الوقت الذي تقضيه في النظر حولك، قلَّ إدراكك للخيارات المتاحة أمامك، وعلقت أفكارك وسلوكياتك في ثغرة واحدة من اختيارك. وقبل أن تدرك ما يحدث ذلك، سرعان ما تجد أن عينيك قد تحجَّرتا نصب اتجاه واحد فقط، ولن تقدر على رؤية الاحتمالات البديلة. فيحبس ضيق الأفق الإبداع ويحطمه عبر تقييد القدرات ووجهات النظر.

ومن الممكن أن تؤدي وجهات النظر المحدودة وعدم مرونة المنهج المتخذ في الحياة إلى سلوك سيكوباتي، وكما أوضحنا، أصبح هذا السلوك شائعًا جدًّا في المؤسسات في يومنا هذا.117 وغالبًا ما يتم الخلط بين السلوك السيكوباتي والموهبة في مؤسسات اليوم، كما يقول مؤلفا كتاب «ثعابين في بذلات». وكما ستجد عناصر السيكوباتية في السلوكيات التحكمية مثل التنمر (كما ناقشناه في قسم النمط الأول للقتل)، ستجدها أيضًا في ضيق الأفق. وغالبًا ما يبدي الأشخاص الذين يعانون اضطرابات في الشخصية آفاقًا محدودة وهذا يميز نوعًا معينًا من الموظفين المهنيين. لكن هذا الأمر يتحول إلى مصدر قلق حقيقي عندما يهدد بموت الإبداع. ويؤدي ضيق الأفق إلى التفكير التقاربي بينما تتطلب العملية الإبداعية الكاملة تفكيرًا تباعديًّا قبل اختيار نقطة الارتكاز.

ولتوضيح كيف يمكن للعقل أن يُحاصَر بهذا الشكل، حاوِلْ أن تتخيل منضدةً عليها عدد من الكُرات الصغيرة الموضوعة عشوائيًّا. والآن تخيل أنك ملزم بترتيب هذه الكُرات في صفين منظمين. وبدلًا من الترتيب الفعلي لكل كرة خلف الأخرى، تخيل في ذهنك قناتين على المنضدة، ومن ثَمَّ عندما تلقي الكرات على المنضدة، فإنها تسقط تلقائيًّا في القناة الخاصة بها بسلاسة وتشكل صفين منظمين. عد إلى مخيلتك ثانية وتصور أن هذه القنوات قد تشكلت من أثر السقوط المستمر للكرات. وبهذه الطريقة، تصبح هذه القنوات بكفاءة نظامًا «ذاتي التنظيم». وقد يكون هذا الأمر ميزة لعملية التنظيم إلا أنه قد يتحول إلى عيب بالنسبة للتفكير الإبداعي البشري.

هناك العديد من الأنظمة الذاتية التنظيم التي تحدث بشكل طبيعي. فالجداول المائية، والأنهار، والأودية على سبيل المثال تتحول إلى أنظمة ذاتية التنظيم نتيجة للعوامل الجيولوجية وأنماط هطول الأمطار. والأمطار المستقبلية ستتوجه تلقائيًّا إلى هذه المناطق المنحوتة طبيعيًّا في الأراضي. ومن الغريب أن عقولنا أيضًا تؤسس هذه الأنظمة ذاتية التنظيم. فمع نمو عقولنا على مرِّ الوقت، تجنح إلى بناء «مناطق استجماع للمعلومات» مما يشجع عقولنا على دفع جميع الأفكار نحو قنوات أو طرق تفكير نظامية. ويُظهِر المسح المخي بالأشعة كيف يمكن أن تتطور بعض المسارات العصبية دون غيرها، حيث تشكل «طرقًا سريعة» لتمر بها المعلومات بسرعة وسهولة، أو «ممرات في الأدغال» تتفتَّح مع مرور الوقت وتصبح أسهل في سَلْكِها. وبصورة متزايدة، يتطلَّب الأمر بذل الكثير من الجهد لإجبار الأفكار المستقبلية على الخروج عن هذه الطرق السريعة البالية من كثرة الاستعمال، والتفكير بطرق جديدة. وتنقل شبكة الخلايا العصبية بالمخ الأفكار باستخدام النبضات الكهربية، وكلما زاد انطلاق هذه النبضات، زاد نمو هذه الممرات العصبية، ومن ثَمَّ فإنها غالبًا ما تصبح أكثر سمكًا وأثقل وزنًا من الوصلات العصبية التي لا تنطلق كثيرًا.

أتى إدوارد دي بونو بفكرة التنظيم الذاتي للعقل لأول مرة بعد إجراء الأبحاث على أجهزة الجسم ذاتية التنظيم، مثل القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي والغدد.118 ومن هناك، كان التطور الطبيعي هو البحث في الشبكات العصبية في المخ. وقد استنتج من هذه الأبحاث أن المخَّ بارع في تشكيل الأنماط، ولأن الأنماط غالبًا ما تكون غير متماثلة، فإنه باستطاعة المخ تطوير التفكير الجانبي.

وأنماط الفكر البشري تميل إلى الدخول في هذه القنوات المعيارية، أو تحديد طرق التفكير، إذا لم تواجَه بتحديات بانتظام. ويسعى المخ لتنظيم أفكاره — وعادةً ما يكون ذلك استجابةً للمعلومات الواردة — في حالات مستقرة مؤقتًا تأتي بعضها وراء بعض لتشكِّل تسلسلًا. وعندما يتكرر التسلسل أو النمط، يتحوَّل إلى نمط للتفكير أو عقلية توجه الأفكار المستقبلية بطريقة أكثر سهولة في نفس المسار، ومن ثَمَّ يتحول إلى طريقة معيارية للنظر في الوضع أو المشكلة.

إنَّ المنهج السادس المتَّبَع للتنمية الإبداعية الفردية يؤكد على الحاجة إلى استكشاف جميع السبل والمسارات الممكنة، حتى لو بدت غير عقلانية في أول الأمر. على الأرجح، إن أكثر التعبيرات شيوعًا حول الإبداع هو «التفكير خارج الصندوق»، لكن ما الذي يعنيه ذلك حقًّا؟ في أحيان كثيرة، عند بحثنا عن حلول، نعْلَق في نهاية المطاف «داخل الصندوق»، وهو ما يعني أننا ندخل إلى المكان الذي نُخَزِّن فيه كل الأفكار التي تنسجم مع نظامنا الحالي عند ورودها، وبعدها نوصد الغطاء عليه لضمان عدم خروج أي شيء منه أو ورود أي جديد إليه. ومن المثير للدهشة أن هذه هي طريقة عمل «السحر». فمعظم ألعاب السحر تعتمد على قدرة الساحر على إبقاء تفكير الجمهور داخل الصندوق؛ أي الإبقاء على تفكيرهم في خطوط متوقعة وبأساليب متوقَّعَة. وحتى تتمكن من الابتكار حقًّا، عليك أن تتخطَّى حدود هذا النظام ذي التفكير المعياري حتى «تنطلق خارج الصندوق» وحتى تتبع مسارات مختلفة وجديدة. وعند اتصالك مرة أخرى بالقضايا التي بدت لنا سابقًا بلا حلول كثيرة، فستندهش من النتائج التي يمكنك أن تكتشفها بنفسك.

والهدف من كل ذلك هو وجود نظامٍ تُنشئ المعلومات الواردة خلاله سلسلةً من الأنشطة. وبمرور الوقت تتحول هذه السلسلة إلى مسارات أو أنماط مفضلة عن غيرها. وتعد هذه الأنماط مفيدة — فور إنشائها — لأنها تسمح لنا بإدراك الأمور بسلاسة، والتنبؤ بالخطوة التالية بسهولة. وبما أن الإدراك هو الأساس للعمل اليومي، وبما أن القدرة على التنبؤ هي أساس للذكاء، إذن فمن الواضح أن الأنماط آلية جوهرية للبقاء تمكِّننا من مواجهة تحديات الحياة. وبمجرد إنشاء الأنماط، يمكننا بعدها تحليل المواقف الجديدة وفهمها بسهولة بناءً على الخبرات السابقة.

لكنْ تبقى مشكلة نظام الأنماط البسيط هي الحاجة إلى عدد ضخم من الأنماط للتعامل مع كافة أنواع المواقف. فيجب أن يخضع أي موقف جديد — لا يؤدي مباشرة إلى نمط موجود — إلى التحليل وإعادة الهيكلة من جديد. لكنَّ المخ يعالج هذه المشكلة بطريقة بسيطة جدًّا. فمثلها مثل الأنهار، تمتلك الأنماط مناطق استجماع كبيرة؛ مما يعني أن أي نشاط داخل منطقة الاستجماع سيقود الطريق نحو النمط المُنشأ. وترى أجهزة الكمبيوتر أن هذا النوع من تمييز الأنماط صعب للغاية بسبب مرونته الشديدة، لكنَّ المخ لديه القدرة على التمييز فورًا وتلقائيًّا. وعلينا أن نفهم كيف يمكن أن تشتمل العملية في نهاية الأمر على نطاق واسع من المواقف، إن كنا نرى مناطق الاستجماع أشبه بالأقماع. فهذا يعني أننا متى نظرنا إلى العالم، فسنكون على استعداد لرؤيته وفقًا للأنماط القائمة لدينا، ولهذا يُعَدُّ حس الإدراك قويًّا جدًّا ومفيدًا جدًّا. لكن لهذا السبب أيضًا لا تؤدي عملية تحليل المعلومات على الأرجح إلى أفكار جديدة.

ولأن المخ لا يرى إلا ما هو على استعداد لرؤيته (الأنماط القائمة)، فعندما نعمل على تحليل البيانات، نميل إلى انتقاء الأفكار التي هي في مخزوننا بالفعل. وتمامًا مثلما يسيطر السحرة عمدًا على محور انتباهنا، فإنه عندما تُستغل «رؤيتنا الضيقة» بتسخير تركيزنا على أمر واحد فقط، تكبح عقولنا كل ما هو حولنا دون هذا الأمر.119 فنحن نتوقع تنفيذ الأمور بطريقة معينة. بينما يتطلب التفكير الإبداعي منا أن نتعلم فتح مسارات جديدة لتفكيرنا؛ فاستكشاف مسارات مختلفة يعني، إذن، أن تكون على دراية بأنماط أو أساليب مألوفة للتعامل مع الأمور، دون أن تكون مقيدًا بها.

ذاكرتنا أيضًا تميل إلى ضيق الأفق، إذا نظرنا إلى الطريقة التي تعيد بها بناء الخبرات التي تشمل عناصر دقيقة وغير دقيقة. وكما هو الحال في حلقات التغذية الراجعة، نسمح لضيق الأفق بتولِّي زمام الأمور، ونعزِّز صورة من ذاكرتنا وخبراتنا تتفق مع أنماط الفكر الحالية.

قائمة المشتَبَه بهم من عصابة ضيق الأفق الذين يستحكمون بقبضتهم الشريرة:
  • الحنكة المقيَّدة.

  • التحيز.

  • التفكير الجماعي.

(أ) المشتَبَه به الأول: الحنكة المقيَّدة

زن والخبير المتعجرف

اكتسبت قصة الطالب المنتمي لطائفة الزن البوذية شعبيتها من العديد من أفلام هوليوود؛ إذ يزور هذا الطالب معلِّمه ساعيًا وراء الحكمة، وكما جرت العادة، قدَّم المعلم الشاي للطالب، لكن عندما وصل مستوى الشاي حافة الكوب، استمر المعلم في صبه. فصاح الطالب المتحير: «لقد امتلأ كوب الشاي عن آخره ولن يتحمل المزيد.»

فتوقف المعلم ونظر إلى الطالب، وقال: «أنت مثل الكوب؛ ممتلئ عن آخرك بآرائك وأفكارك الخاصة. فكيف يمكنك أن تتعلم دون أن تفرغ كوبك أولًا؟»120
يستعرض فيلم «أفاتار» هذه الفكرة بطريقة مختلفة:121 يتَّسم شعب نافي الخرافي — الذي غزاه الجنس البشري — بتواضع نشأ لديهم عبر الصلة الروحانية مع عالمهم الطبيعي. وعند مقابلة الشخصية البشرية الرئيسية جيك سولي، الذي أُرسل إلى شعب نافي في هيئة الأفاتار ليتفاوض معهم على التنقيب عن المعادن في أراضيهم، قال النافي تاساهيك (الصالح أو المعلم الروحي) لسولي: «إنه من الصعب ملء كوب ممتلئ بالفعل.» إن انعدام القدرة على تقبل الأفكار الجديدة، والاستماع والتعلم، هو ما يمثل أسوأ صفات الجنس البشري في الفيلم. وفي النهاية لا يتمكن سولي من تعلم الأفكار والمهارات الجديدة والنجاح في مجال جديد تمامًا، إلا بعد «إفراغ كوبه». فنحن ننظر إلى الجهل دائمًا على أنه علامة على الضعف أو الغباء، وهذا أمر مؤسف؛ لأنه يشجع على التظاهر بالمعرفة مما يبعدنا عن التعلم الحقيقي. وتسمي طائفة الزن هذا الأمر بالعقل «الخبير»؛ وهو الإطار الذهني الذي ينشأ عندما نشعر بأننا على دراية بكل شيء. فنحن نتمسَّك بأفكارنا ونغلق الباب أمام تعلم الجديد. ولإحياء الإبداع من الضروري أن نستخلص أسلوب التفكير الذي يعيد الأفكار مرة أخرى إلى الحياة. فإحياء التفكير الإبداعي في نهاية المطاف يتضمن تواضع المبتدئين.
إنَّ الاعتقاد بأن الخبرة في مجالٍ ما تعادل الحنكة، ومن ثَمَّ تعادل قدرًا أكبر من الكفاءة، قد وقع موقع التفنيد في عدد من دراسات الحالة.122 وأجرت إحدى هذه الدراسات على سبيل المثال مقارنة بين معالجين نفسيين من حملة المؤهلات العليا وسنوات طويلة من الخبرة، ومعالجين نفسيين مبتدئين دون أي خبرة سوى ثلاثة أشهر من التدريب المحدود. وأظهرت نتائج الدراسة فروقًا ضئيلة جدًّا بين المجموعتين في قدرتهم على تقييم المرضى ومعالجتهم بدقة. فالأطباء في الواقع تقل قدرتهم على تشخيص الأمراض الغريبة بعد فترة معينة من تلقيهم التدريب؛ لأنهم نادرًا ما يقابلونها. وفي إحدى دراسات الحالة الشائقة الأخرى، تم التنسيق لمسابقة تذوق نبيذ في باريس في عام ١٩٧٦ سُميت ﺑ «حكم باريس» وشملت تذوقًا لأنواع من النبيذ القادمة من فرنسا وكاليفورنيا دون معرفة أيهما يتذوق المحكَّم. ولقي «خبراء» النبيذ صعوبة في التمييز بين نبيذ كاليفورنيا وفرنسا الذي قُدم لهم، وأعطوا النبيذ الأمريكي أعلى الدرجات. وخلص الباحثون في الدراسة إلى أن الحكام ذوي الباع الكبير بالنبيذ، لا يُعدُّون أكثر خبرة في تمييز النبيذ من شاربي النبيذ العاديين. والأدهى هو تأكيدهم لهذه النتيجة خلال الاختبارات المعملية التي أجروها.123
المنظور الضيق لدى العديد من الخبراء يجعل من الصعب عليهم تقبل الأفكار الإبداعية الجديدة؛ إذ يحيا عقل الخبراء ما بين الماضي والمستقبل، بينما يحيا عقل المبتدئين في الحاضر. وإذ يشعر الخبير أنه قد مرت عليه كل هذه الأمور من قبل؛ يرى المبتدئ كل هذه التفاصيل كما لو كان يراها للمرة الأولى.124 ولا يقبل عقل الخبراء فكرة الاحتمالات المختلفة؛ لأنه قد فقد براءته الإبداعية.125 فيتحوَّل إلى عقل المتشائمين الواقعيين. أمَّا المبتدئون، فهُم على النقيض من ذلك على استعداد للتعلم المستمر. كما أن المبتدئين يتقبلون المحاولة والفشل والبدء من جديد. إذن فعقل المبتدئ المبدع هو بالضرورة عقل متفائل دومًا.
وتُظهِر الأبحاث أن مجموعات الخبراء قد ينتهي بهم الأمر وهم يتشاركون الوهم بأنهم معصومون من الخطأ، والميل إلى دحض الحجج المضادة باستخدام المنطق.126 ويجوز أيضًا ألا يكون الخبراء بارعين في تقييم قراراتهم، وعادةً ما يبالغون في تقدير أرجحية أنهم على صواب. وقد خلصت دراسة حديثة أجريت على سماسرة أسواق صرف العملات الأجنبية إلى أنهم يبالغون في تقدير دقة توقعات سعر الصرف بنسبة ٧٠٪ في الغالب. ومن ثَمَّ فإن الأشياء التي تتأثر ﺑ «أوهام العصمة من الخطأ» لدى الخبراء تشمل ضيق الأفق والافتقار إلى الحكم الرشيد والميل إلى التفكير الجماعي.127
تتجه العديد من المؤسسات اليوم إلى الابتعاد عن «الخبراء» ذوي الخبرة الواسعة بصفتهم الأمناء الوحيدين للمعرفة. وفي اجتماع للمديرين التنفيذيين في إحدى شركات السيارات الكبرى في العالم، على سبيل المثال، سُئل خمسة وثلاثون مديرًا تنفيذيًّا عن آخر مرة اشتروا فيها سيارة. كانت الفكرة هي جمع معلومات بشأن ما يتطلع إليه المشترون، ليس فقط من قطاعات السوق المستهدفة وإنما من متخذي القرارات النافذة حول تصميم السيارات وبنيتها والتسويق لها وتوزيعها. لكن تبيَّن أن هؤلاء الناس لم يشتروا السيارات الخاصة بهم منذ سنوات؛ فبعد أن توفرت لديهم سيارات الشركة منذ زمن طويل، لا يتذكر أحد منهم شعور اختيار سيارة. وفي المقابل، كان الموظفون الأصغر سنًّا الذين لم يحصلوا على سيارات الشركة، يتمتعون بنظرة ثاقبة للواقع، وكانوا قادرين على تقديم مساهمات ذات شأن في الأبحاث.128

وخلال البحث في الطرق المختلفة لجمع المعلومات، وضعت هذه الشركة يدها على مشكلة لم تبدُ لأحد مسبقًا؛ مما أبرز رؤًى نافذة جديدة. وهناك أسباب عديدة لأرجحية أن يكون الأشخاص الأكثر ابتكارًا في أي مؤسسة هم عادةً أحدث الملتحقين بها. فيميل الشباب لامتلاك أكبر قدر من الطاقة والثقة. ولكونهم «غرباء» فإن لديهم قدرًا أقل من الاحترام للتقاليد والأنظمة المتبعة. كما أن افتقارهم إلى الخبرة يعد ميزة إيجابية لأنهم لا يتقيدون بتقاليد الشركة أو بأي أفكار مسبقة، بينما يظن الموظفون الأقدم أنهم على علم بأن كل ما يُطرح قد وُضع حيزَ التجريب قبل ذلك (وأيضًا قد فشل).

إنَّ المعلومات أصبحت شديدة التعقيد؛ فلا يمكن للخبير الواحد أن يعرف كل شيء. لذا على القادة الاستفادة من المعرفة الجمعية للفريق الذي يقودونه. وأظهرت الأبحاث أن الخبراء قد يتَّسِمون بنطاق معرفي «ضيق للغاية»؛ إذ يرفضون البدائل الإبداعية أو وجهات النظر الجديدة نحو القضايا.

في عقل المبتدئ العديد من الاحتمالات، لكن ليس في عقل الخبير سوى القليل.

شونريو سوزوكي

(ب) المشتَبَه به الثاني: التحيز

التصورات المسبقة المسمَّمة
عندما تفكر في الإبداع، هل تفكر في «القيء» و«السم» و«العذاب»؟ خلُص مشروع بحثي مثير للاهتمام إلى أن الأشخاص رغم أنهم يُبدون رغبتهم في الإبداع، فإنهم عادةً ما يقرنون الأفكار الإبداعية لاشعوريًّا بتلك المفاهيم السلبية جدًّا. وقد تكون المفاجأة أننا نحن البشرَ شكلنا انحيازًا فطريًّا ضد الأفكار الإبداعية لاشعوريًّا على الأرجح؛ إذ ترفض المؤسسات على كافة المستويات عمومًا الأفكار الإبداعية، بما في ذلك المؤسسات الأكاديمية والعلمية. وفي مؤسسات التعليم كذلك، يشدد المعلمون على أهمية الإبداع، إلا أنهم يعطِّلونه لاشعوريًّا. حتى المؤسسات التي تدافع باستماتة عن أهمية الأفكار الإبداعية القصوى، تُرفض فيها تلك الأفكار غالبًا. وحقيقةً، إنَّ لهذا التحيز الفطري ضد الإبداع آثارًا كارثية على القدرة على تمييز الأفكار الإبداعية! ويوصي الباحثون — في مواجهة هذا التحيز الواضح — بأن يحوِّل أصحاب التفكير الإبداعي تركيزهم من «توليد المزيد من الأفكار الإبداعية إلى اكتشاف سبل لمساعدة المؤسسات المبتكرة على التعرف على الإبداع وقبوله.»129

تشتقُّ كلمة تحيُّز بالإنجليزية من كلمة لاتينية تعني الحكم المسبق. من ثم فإن التحيز هو الميل إلى إصدار أحكام مسبقة بدلًا من الانتظار والحكم على الموقف بناءً على جوانبه. لكن للأسف، نظرًا لأن العديد من المحفزات المعتادة التي تُنشط التحيُّز باتت متأصِّلة في أنماط تفكيرنا مع الوقت، فإنه من الصعب التخلص من قوتها ونفوذها. فهذا المطارد يرافقنا منذ صغرنا، لذلك لا نشعر بسهولة بأنه مجرم. فلقد وُلدنا وترعرعنا في ثقافة معينة، ومن ثَمَّ نقع ضحايا لقيوده التي تحد من قدرتنا على التفكير بإبداع وتقبل الأفكار الجديدة، حتى لو انصبَّ تفكيرنا على التفكير الإبداعي نفسه.

أثبت الدكتور جيسون في أبحاثه مؤخرًا أن هناك منطقة في أدمغتنا تسمى الفص الصدغي الأمامي ويبدو أنها مهمة للإبقاء على وجود الروابط التحيزية. ففي إحدى التجارب، عندما عُطِّل عمل هذه المنطقة فعليًّا عن طريق تحفيز المخ، وُجد أن احتمالية ربط «العرب» ﺑ «الإرهاب» كانت أقلَّ لدى المشاركين في الاختبار.

يُبقِيك التحيُّز سجينًا «داخل الصندوق» بمحض إرادتك. ولن تمتلك الفرصة لإلقاء نظرة على «العالم الكبير الرحب» والاتجاه نحو حرية التفكير الإبداعي إلا عندما تتعرف على حدود هذا الصندوق؛ أي أبعاده وخصائصه.130

(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: التفكير الجماعي

وَهْم العصمة من الخطأ

كما أسلفنا في قسم «العزل»، العديد من القادة يعمدون إلى أن يحيطوا أنفسهم بأناس مشابهين لهم فكريًّا، ومن ثَمَّ يشكِّلون بيئات بها تنوع ضئيل في الأفكار. تواجه المجموعات ذات الأعضاء شديدي التشابه أو «واسعي المعرفة» صعوبة في مواصلة التعلم؛ لأن أيًّا من أعضاء الفريق لا يأتي بمعلومات جديدة على الطاولة؛ إلا قليلًا. وكلما طالت فترة عملك في المؤسسة، زاد خطر انفصالك عن «الحياة الواقعية» (فيما يخص كيف يفكر العملاء ويشعرون ويتصرفون) وزادت احتمالية تبنِّيك للتفكير الجماعي. فعندما يعتقد عدد كبير من الناس اعتقادًا جماعيًّا بأنهم خبراء، يَضِيق نطاق الاحتمالات الإبداعية وتتقلَّص القدرة الإبداعية على حل المشكلات. وتحت الضغوط من أجل التوافق مع الآخرين، من الممكن أن يغيِّر الأفراد آراءهم؛ ليس لقبولهم الأمر، بل لأن التوافق مع المجموعة أسهل من مخالفتها. وثقافة الاعتماد على القادة يُعِيق أيضًا حركة التنمية.

توضِّح إخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية — مثل غزو خليج الخنازير المشئوم وعدم التنبُّؤ بهجوم اليابان على بيرل هاربُر — كيف يقع صُنَّاع القرار بسهولة في فخ التفكير الجماعي عندما يتشابهون في طريقة التفكير ونظرتهم للعالم. فكلما تقاربت مجموعات الخبراء التي تضم مفكرين ذوي عقليات متشابهة، زاد انعزالها عن الأفكار والآراء الأخرى، وضعُف حكمها نتيجة لذلك بصورة متزايدة. وباقتناعهم بأن وجهات نظرهم الضيقة هي الرأي الأفضل أو الأوحد، يبدأ تأثير «وهم العصمة من الخطأ» ويتوقفون عن البحث عن أفكار وخطط بديلة.131 فلقد وضعت مجموعة صغيرة من وكالة المخابرات المركزية والبنتاجون والبيت الأبيض استراتيجية غزو خليج الخنازير، ولم تشرع في طلب المشورة الخارجية أو وضعها في الحسبان؛ إلا قليلًا. وحتى لم يدرس الذين خططوا للعملية المعلومات الأساسية المهمة؛ مثل شعبية كاسترو وقوة القوى الثورية في كوبا في ذلك الوقت (١٩٦١)، فضلًا عن الإمدادات اللوجستية للاستيلاء على الجزيرة الجبلية بعدد ١٢٠٠ جندي فحسب. وكان هؤلاء هم الذين سيقيِّمون نجاح العملية!

مَن يتبع الجماعة فلن يصل إلى ما هو أبعد من الجماعة، ومَن يسِرْ بمفرده فسيجد نفسه — على الأرجح — في أماكن لم يَطَأْهَا سواه.

ألبرت أينشتاين

في عالم سباق السيارات الفورمولا وان، تمسَّكت الفرق العريقة بما تعرفه وواصلت التطور بمحاذاة المسار نفسه الذي لما يفارقها قط؛ فصنعت سيارات أكبر، في حين صنَّعت سيارات الورش سيارات أخف وزنًا. ركزت الفرق العريقة على قوة الحصان، بينما ركزت سيارات الورش على قوة العقل. وبسبب اقتناع الفرق العريقة بأنها ستهزم الفرق الناشئة في نهاية الأمر، فقد وثقت في آراء الخبراء وفي منهجياتهم المجرَّبة والسليمة. لكن في النهاية، فاز الابتكار غير المحدود على الحنكة ضيقة الأفق.

تقرير المحقق

هل قابلت نمطَ ضِيق الأفق هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:

تقييد التفكير.
تقييد القدرة على النظر إلى ما وراء «المعتاد».
الإبقاء على التفكير المحافظ.

أثره على الضحايا:

الاقتناع بأنهم على حق وأن الآخرين مخطئون.
الميل للشك في المختلفين معهم أو نقدهم.

(٤-٢) نمط القتل السابع: فوج التشاؤم

النوع الذي يندرج تحت هذا النمط، وهو قاتل خفي آخر، يرتكب جريمة التدمير ببراعة عبر حالة ذهنية سامة تسبِّب اعتلالًا بالأعصاب. وهذه العملية الموهِنة للعزيمة تنشر الأمراض الخبيثة وتلحق العجز بضحاياها. فيبدأ المصابون بهذا الداء بالتواصل مع الآخرين بطرق سلبية، وفي نهاية المطاف يهدمون محاولاتهم ومحاولات الآخرين للبقاء الإيجابي. ويقتل التشاؤم باستخدام خنق الأفكار والآراء الجديدة الإيجابية. ويتَّسِم المتشائمون على الأرجح بالشخصية الانهزامية والتلذذ بتعذيب الذات، والسلاح المفضل لأولئك المعذِّبين المنحرفين هو «السلبية الخبيثة».

الحرب الكيميائية والنظر من ثقب التشاؤم

طُرحت الأسلحة الكيميائية كوسيلة من وسائل الحرب على نطاق واسع لأول مرة في الحرب العالمية الأولى. إذ أطلق الألمان غاز الكلور — وهو منتج ثانويٌّ في صناعة الأصباغ — ضد الحلفاء في الجبهة الغربية في مطلع عام ١٩١٥. وتسبب الغاز الرمادي المائل للخضرة المنبعث في قتل الجنود اختناقًا عندما كان بتركيزات قوية للغاية. تحوَّل غاز الكلور إلى حمض الهيدروكلوريك عندما تحلل في الماء الموجود في رئتي الضحية، وهذا دمَّر أنسجة الرئتين. كما كان غاز الكلور أيضًا سلاحًا نفسيًّا قويًّا؛ فمتى رأت القوات سحابات الغاز الرمادي المائل للخضرة المميزة فزعوا ووقعت الرهبة في نفوسهم.

ورغم إدانة بريطانيا للتسلح بالغاز باعتباره انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، فسرعان ما أقرَّت بحتمية استخدام السلاح نفسه إن كانت تريد البقاء، ولكن عندما استخدمته لأول مرة في سبتمبر ١٩١٥ ارتدَّ أثره على جنودها بكل ما تعنيه الكلمة. فلأن هذا النوع من الأسلحة اعتمد اعتمادًا شديدًا على حالة الرياح المناسبة، فإن التغير غير المتوقع في حركة الرياح كان يعني عدم وصول الغاز إلى العدو، بل أسوأ من ذلك وهو إمكانية هبوبه مرة أخرى على صفوفهم. وهذا هو ما جرى في هذه الحادثة. وما ضاعف الكارثة كان إرسال مفاتيح تحويل خاطئة مع بعض العبوات، فأصيبت العبوات غير المفتوحة بالقذائف الألمانية مما أدى إلى انتشار المزيد من الغاز بين الصفوف البريطانية. وبالرغم من ارتداء الجنود القائمين بإطلاق الغاز أقنعةً للوقاية منها، فإنَّ الحرارة غَشَتْ فتحات النظر الصغيرة في الأقنعة، ففتح العديد من الجنود أقنعتهم ليتمكنوا من الرؤية واستنشاق الهواء النقي، فتمكَّن منهم الغاز.

وبعدها، طوَّر علماء الكيمياء الفرنسيون سلاحًا كيميائيًّا جديدًا وهو غاز الفوسجين، الذي تميَّز بأنه عديم اللون، وعديم الرائحة نسبيًّا، فلم يكن يمكن اكتشافه بسهولة. وحل غاز الخردل بدوره محل الفوسجين في عام ١٩١٧ وقد خلف حروقًا كيميائية مروعة في ضحاياه وأصاب العديد منهم بالعمى وتسبب في ضيق التنفس والتقيؤ مما أدى إلى الموت الحتمي. وهذا الغاز الأصفر كان أثقل من الهواء فاستقر على الأرض ودام مفعوله لقرابة الأشهر في الضربة الواحدة، وفقًا للأحوال الجوية. وأصبح غاز الخردل أكثر الأسلحة الكيميائية انتشارًا والأسوأ سمعة في الحرب العالمية الأولى.132

الوفاة جراء الغاز عادةً ما تكون بطيئة ومؤلمة. والتشاؤم مثله مثل الغاز، يتسبب في البداية في حالة من السخط والتهيُّج، وفي النهاية يسبب ألمًا عاطفيًّا ونفسيًّا، ويعرِّض الإبداع إلى موت بطيء ومؤلم. وباستخدام سلاح السلبية الخبيث، يكون التشاؤم قاتلًا عصبيًّا ومَرَضيًّا يصد الناس عنه في النهاية. وكذلك قد يأتي بسهولة بنتائج عكسية على من يستخدمونه فيثير قلقهم ومن ثم يصبحون ضحاياه غير المقصودين. وسلبية التشاؤم هي سلاح خطير لا يمكن التغلب عليه بسهولة، إذ لا يسهل دائمًا التحكم في الظروف التي يوجه فيها هذا السلاح ضرباته. وعلى عكس بعض القتلة الأكثر دهاءً، تُعد دوافع التشاؤم وأثره واضحة للعِيان. ولا أحد يستمتع بالبقاء مع المتشائمين؛ فصحبتهم ليست لطيفة. ويمكنك دائمًا توقُّع تصرفاتهم، لكنهم يفرضون إرادتهم بلا كلل، ولذا يسهُل انجرافك إلى الكآبة السلبية التي يبثونها.

يُعرَف التشاؤم والتفاؤل الآن كخصال محددة تميِّز الأفراد وتحدد نظرتهم إلى الحياة. وفي إحدى الدراسات،133 قسَّم الباحثون الأطفال إلى متفائلين (متحكمين في أنفسهم) ومتشائمين (قليلي الحيلة). وبعدها أعطوهم سلسلة من الاختبارات: أولًا مهام مستحيلة، ثم مهام ممكنة. وقبل فشلهم لم تكن هناك فروق في الأداء، ولكن ظهرت الفروق التالية بعد وقوع الفشل بالنسبة للمتشائمين؛ إذ انخفضت مهارات حل المشكلات من مستوى المرحلة الدراسية الرابعة إلى مستوى المرحلة الدراسية الأولى، فبدءوا يكرهون ما يخوَّل إليهم من مهامَّ. وبعد إعطائهم جميعًا مهمة ليس بالمستحيل إتمامها، تغاضى الأطفال قليلو الحيلة عن النجاح الذي حققوه من قبل وتوقفوا عن المحاولة وحسب. أما المتفائلون، فحافظوا على مستوى المرحلة الدراسية الرابعة، واستمروا في التركيز وأظهروا ثقة كافية للاستمرار في المحاولة. وقد أوضح هذا البحث أن الأطفال أو البالغين الذين يؤمنون بأنهم قليلو الحيلة يتوقفون عن المحاولة ويهبط أداؤهم. فعندما يتوقف الناس عن المحاولة، لا يتطلعون إلى أفكار وطرق جديدة لحل المشكلات؛ فيكفُّون عن الإبداع. ولأن غير المبدعين من الناس يلتزمون بالروتين، فإنهم لا يرغبون في المشاركة فيما هو جديد عند رؤيته. وبهذه الطريقة يشلُّ التشاؤم الإبداع.
يرى بعض الأطباء النفسيين اليوم أن «التشاؤم الدفاعي» يعتبر آلية تكيف بنَّاءة لأنه يضمن وجود منظور واقعي للأمور. فبإمكان الأشخاص الذين لديهم نظرة تشاؤمية فطرية أن يجدوا سبلًا للعمل «في أسوأ السيناريوهات المتوقعة» والتوافق مع متطلبات الحياة الحديثة. إن الانغماس في أفكار سلبية مثل هذه قد يساعد بالفعل العديد من الناس في بذل أفضل ما لديهم وذلك بكونهم على استعداد لما هو أسوأ.134 ولكن التشاؤم المفرط ليس صحيًّا على الإطلاق (أيضًا التفاؤل غير الواقعي خطير). ويشبه المصابون بالتشاؤم الدفاعيِّ المصابين بالاكتئاب الخفيف إذ إنهم يُبدُون توقعات سلبية ومستويات عالية من القلق. وكذلك يقع المفرِطون في التشاؤم بسهولة أكبر في الاكتئاب، إلا أن العكس يسري أيضًا؛ إذ قد يتسبب الاكتئاب في زيادة النظرة التشاؤمية لدى الفرد.135
وبالنسبة للتفكير الإبداعي، يشجِّع التفاؤل على تقبل المزيد من الاحتمالات،136 وبالرغم من الاعتقاد القديم بأن التشاؤم والاكتئاب يعزِّزان الفكر الإبداعي، فالعكس هو الصحيح في حقيقة الأمر.137 إذ أدرك الباحثون منذ زمن أن المشاعر السلبية تُضفي على الأشخاص نوعًا من الرؤية الضيقة أو تحجب انتباههم، وأن الأشخاص يصلون لأعلى مستويات الإبداع عندما يشعرون بالتفاؤل والسعادة. إذ تسمح حالة التفاؤل للأشخاص بتقبل المعلومات بجميع أنواعها. وكما يقول العالم النفسي آدم أندرسون — وهو أحد المشاركين في دراسة بجامعة تورونتو — إنه «عندما تكون في حالة مزاجية طيبة، قد تتعمق في أشياء كنت دائمًا ما تتجاهلها»، وهكذا «بدلًا من النظر من ثقب صغير، تحصل على منظر طبيعيٍّ فسيح أو إطلالة بانورامية على العالم.»138
يَميل المتشائمون لإبداء مستوًى متدنٍّ من الثقة، وعدم الاهتمام بالأنشطة، وعدم وجود الدافع القوي أو الطموح للخروج من نظرتهم الضيقة وتحقيق الإنجازات، ومن ثم من غير المرجح أن يبدعوا بنشاط. وقال نيتشه: «إنَّ التشاؤم يؤدي إلى الاستسلام.»139 ومن ناحية أخرى، ينزع المتفائلون إلى النجاح في الحياة. فرجال المبيعات المتفائلون يتفوقون على أقرانهم المتشائمين بنسبة ٣٧ بالمائة. وفي الحقيقة، يمكن رؤية فوائد التفاؤل في مختلف مجالات العمل والمهام الوظيفية. فعلى سبيل المثال، الأطباء ذوو الحالة الذهنية الإيجابية تكون دقة تشخيصاتهم أعلى بنسبة ٥٠٪ من الأطباء السلبيين.140
قائمة المشتَبَه بهم في فوج التشاؤم الذين سنتحدث عنهم الآن:
  • السلبية (مثل اللغة والعواطف السلبية).

  • اليأس.

  • الافتقار إلى الثقة.

(أ) المشتَبَه به الأول: السلبية

الانهزامية الغادرة

اللغة التشاؤمية قد تدمر الإبداع خلال تقييد التفكير. ومن خلال إعادة صياغة الكلام، من الممكن تغيير محور التركيز ليتفتح المجال للمزيد من الاحتمالات. خذ بعين الاعتبار بعض الأمثلة من خدمة العملاء. فبدلًا من قولك: «لا يمكننا فعل هذا.» يمكنك قول: «هذه قد تكون مشكلة، لكن يمكننا أن نقوم بهذا بدلًا من …» وبدلًا من قول: «لا يمكننا البدء قبل أن نأتي بالمعلومات التي نحتاج إليها منك.» يمكنك أن تقول: «الرجاء إعطاؤنا المعلومات التي نحتاج إليها منك كي نبدأ.»

انظر كيف تمكنت شركة شل للبترول من استغلال مشكلات اللغة السلبية في إحدى إعلاناتها:
… إن أزمة الطاقة الحقيقية تكمن في القصور الذاتي الذي يصيب كل بني جنسنا إلا قليلًا حينما نواجه مشكلات تبدو عويصة، وفي ميل الأغلبية لقول «لا» و«مطلقًا» و«لا أقدر» والاستسلام بسهولة. ومن دواعي سرورنا أن المبدعين القائمين على حل المشكلات في شل لا يقبلون بكلمة «لا» إجابة …141
وفيما يلي بعض الأمثلة الشهيرة عن أساليب الشخصية الانهزامية التي يفكر بها الناس في أحداث حياتهم ويفسرونها بها:
  • التفكير ذو الحدين: رؤية الأحداث من منظورين نقيضين، بطريقة «إما كل شيء أو لا شيء» (على سبيل المثال تصور الأحداث إما رائعة أو مروعة، دون اعتراف بالمساحات الرمادية بينهما).

  • الشخصنة المفرطة: الاستنتاج تلقائيًّا أن سلوك الآخر أو مزاجه هو رد فعل مباشر لك (مثال: هي بحالة مزاجية سيئة، إذن لا بدَّ أنني فعلت أمرًا خاطئًا).

  • التعميم الزائد: النظر إلى حدث ما بأن له أثرًا أكبر في جوانب عدة في حياتك أكثر مما يحتمله حقيقةً.

  • العجز المكتسب هو رد الفعل بالاستسلام، وتجاهل الإيجابي منها.

  • الاستنتاج العاطفي: استنتاج أن ما تشعر به لا بد أن يكون الحقيقة (مثال: إن كنت تشعر بأنك غبي، فحتمًا أنت غبي).

للتغلُّب على التشاؤم، من المهم أن تتعرف على جميع هذه الميول وتتعامل معها. ويمكن مواجهة السلبية بطرق، منها:
  • التفكير المحدد.

  • تجنب الشخصنة والتعميم غير الضروريين.

  • الفلترة الإيجابية.

  • الاستنتاج المنطقي.

(ب) المشتَبَه به الثاني: اليأس

العجز المكتسب

العجز المكتسب هو رد الفعل بالاستسلام، واستجابة بالانسحاب تنبع من الإيمان بأنه مهما كان ما تقوم به فإنه لن يُجدي. إن الطريقة التي عادةً ما تفسر بها لنفسك سبب وقوع الأحداث — أي أسلوبك الشخصي في التفسير — تحدد مدى العجز الذي وصلت إليه. فمن المهم عند الابتكار أن تثابر وأن تدفع الفشل لتأتي بحلول مبتكرة. وأهم من ذلك هو ما تفكر فيه حين تفشل. إن استخدام قوة التفكير غير السلبي — أي تغيير الأمور المدمرة التي تحدِّث نفسك بها عند مرورك بانتكاسة من تلك التي تناوبها الحياة بيننا جميعًا — هو المهارة الرئيسية للتفاؤل. فجملة «دائمًا ما أحاول لكنني أحيانًا أفشل.» أفضل كثيرًا من «دائمًا ما أفشل لكنني أحيانًا أحاول.»

تزيد احتمالية إصابة المتشائمين بالاكتئاب بنسبة تصل إلى ثمانية أضعاف عند وقوع أحداث سيئة؛142 فأداؤهم في الدراسة وفي الرياضة وأغلب الوظائف أكثر سوءًا مما تُظهره مواهبهم. تسوء صحتهم البدنية وتقصر أعمارهم؛ وتكون علاقاتهم أكثر اضطرابًا. فهم يميلون للوم أنفسهم عندما تسوء الأمور، ويصبحون أكثر عزوفًا عن المحاولة من جديد مع كل تجربة سلبية. فيبدءون في النظر إلى الأحداث الإيجابية في حياتهم باعتبارها «حظوظًا» ليس لها علاقة بهم ويتوقعون ما هو أسوأ. ومن ناحية أخرى، فإن فوائد التفاؤل والحالة الذهنية الإيجابية هائلة؛ فالمتفائلون يتمتَّعون بحياة صحية أفضل وعلاقات أقوى، وهم أكثر إنتاجًا، ويتعرَّضون لإجهاد أقل. وهذا لأن المتفائلين يَمِيلون إلى خوض المزيد من المخاطر وإلقاء اللوم على ظروف خارجية إذا فشلوا، ويحافظون على عقلية «المحاولة من جديد»؛ مما يجعلهم أقرب إلى النجاح في المستقبل، وأقل ضِيقًا بالفشل بوجه عام. وبهذه الطريقة، يصنع كل من المتفائلين والمتشائمين مصيرهم بأيديهم.

وبحسب التعريف المعجمي، فإن الأمل يعني «التطلع للأمام برغبة وثقة حكيمة». وبدون أمل — كما يُستدل من المعنى — لن تكون هناك رغبة ولا ثقة؛ مما يعني صعوبة الأخذ بزمام المبادرة والمثابرة خلال عملية الإبداع.

الاحتمال هو جوهر التفكير الإدراكي والتفكير الإبداعي والتفكير التصميمي والتفكير الاستكشافي.

إدوارد دي بونو

(ﺟ) المشتَبَه به الثالث: الافتقار إلى الثقة

بُغض الجنس البشري والعدمية
وفقًا لما جاء عن بعض الباحثين المسلمين، قد يؤدِّي التشاؤم إلى الارتياب الهدَّام في الآخرين،143 وهذا قد يحدُّ من التفكير في الاحتمالات ويقلل مستويات تفتح الذهن المطلوب للعملية الإبداعية. ويقول هؤلاء الباحثون إنَّ مشكلات الارتياب الناجم عن التشاؤم قد:
  • تدمر جذور التناغم بين الناس.

  • تؤدي إلى الانسحاب.

  • تؤثر على المنطق والقدرة على الحكم على الآخرين بإنصاف.

  • تنقل العدوى والإصابة بها.

فعند تعميم هذا النوع من الارتياب التشاؤمي، يُسمى وقتئذٍ ببُغض الجنس البشري؛ وهو بغض أو ازدراء أو كراهية الناس بشكل عام. ووفقًا لأفلاطون، ينبع بغض الجنس البشري من التوقعات المحبَطة باستمرار أو التفاؤل الساذج المبالغ فيه. وتارةً أخرى نؤكد، عندما تُغلِق الباب في وجه الناس وأمام الفرص، فأنت تغلقه في وجه مدخلات إيجابية محتملة للتفكير الإبداعي.

غالبًا ما يكون لدى السيكوباتيين والقتلة السفاحين ميولٌ لبغض البشر. وكان القاتل الأمريكي السفاح كارل بانزرام أكبر مثال على ذلك.144 حيث كشف بانزرام — الذي اعترف بارتكاب اثنتين وعشرين جريمة قتل وانتهاك عرض أكثر من ألف ذكر — عن نظرته العدمية في كلماته الأخيرة الشهيرة، وبصق في وجه منفذ حكم الإعدام عند إحكام حبل المشنقة حول رقبته قائلًا: «أتمنى لو كانت للبشرية جمعاء رقبة واحدة حتى أخنقها!»145 ومن حسن الحظ أن عددًا قليلًا من المؤسسات تتعرض لهذا المستوى من البغض للجنس البشري، لكن علينا جميعًا أن ننتبه كي لا نسمح بنمو الارتياب.

انصرفت الولايات المتحدة عن الحرب البيولوجية وعن أول استخدام للأسلحة الكيميائية في ٢٥ نوفمبر ١٩٦٩. والقرار الذي صدر آنذاك لا يزال ساريًا حتى اليوم. ومنذ ذلك الحين، يتم التخلص من الأسلحة الكيميائية بإغراق حمولات السفن من الأسلحة، ومؤخرًا يتم حرقها في المناطق الجبلية. وقد دُمر الآن معظم مخزون الأسلحة الكيميائية.

ربما يكون من الممكن الحد من طرق التفكير التشاؤمية واللغة التشاؤمية أو التخلص منها بنفس الطريقة. ولربما الأكثر أهمية هو أننا يمكننا تعلم «إغراق» أو «حرق» اللغة والأفعال التي تُديم المشكلة، أو من الأفضل العمل على «تحييد» هذه العقلية متى كان ممكنًا. وبعدها يمكن أن نضمن أن يتوفَّر للتفكير الإيجابي الظروف المواتية التي يحتاجها للبقاء على قيد الحياة.

تقرير المحقق

هل قابلت نمط التشاؤم هذا في حيِّك أو في محل عملك؟ خصائص هذا النمط تشمل:

خلق عقلية سلبية مسممة.
إخماد الأفكار والآراء الجديدة.
غرس شعور باليأس.
خلق الارتياب.

أثره على الضحايا:

العجز مكتسب.
العزلة.
غياب الإرادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤