الفصل السادس

كيف يمكن إنقاذ الإبداع؟

نمط المُسْعِف: استراتيجيات التفكير الإبداعي السبع

كنا في رحلة استكشافية بتمويل حكومي إلى منطقة برية مع مجموعة من طلاب المدارس «المعرضين للخطر»، وكان الغرض من هذه الرحلة — كما كنا نأمل — هو مساعدة هؤلاء على إعادة حياتهم مرة أخرى إلى المسار الصحيح. وكان أكثرهم اضطرابًا هم الذين خَرَقُوا القانون من قبل؛ أما الآخرون فقد فَقَدَتْ عائلاتهم الأمل فيهم. وكانت هذه الرحلة مهمة إنقاذ بالنسبة لكثير من هؤلاء الصبية؛ فهي المحطة الأخيرة على طريق طويل يؤدِّي إلى دمار شبه مؤكَّد. وشملت الرحلة الاستكشافية اصطحابهم إلى البرية، بعيدًا عن جميع التأثيرات السلبية المعتادة، وتعريفهم بعواقب سلوكياتهم. كانت رحلة صعبة، فقد انتهى الأمر بالصبية بالاضطرار إلى التخييم على جانب منحدر عندما لم تفلح مهاراتهم الملاحية. واضطروا إلى أكل طعام بارد لعقوا مُعَلَّباته لَعْقًا من شدة الجوع — بعد أن أهدروا حصصًا كبيرة من الطعام في معاركهم حوله — كما تبللت عيدان الكبريت خلال المعركة؛ مما اضطرهم غالبًا إلى نصب الخيام في الظلام، والمعاناة من الأرض القاسية، والتعامل مع الحياة البرية غير المألوفة.

وكان التحدي الأكبر والأخير في الرحلة هو الهبوط بالحبال مسافة كبيرة بلغت ٤٠٠ متر على منحدر ضخم. لم يكن هناك سوى طريق واحد للخروج من البرية وقد تضمَّن هبوط الجرف، إلا أن هذا الجرف والنزول بانحدار شديد إلى أرض الوادي البعيد في الأسفل كانا كفيلين بإثارة الرعب لدى أكثر المستكشفين إقدامًا. وفي الليلة التي سبقت اليوم الذي كان سيقدم فيه الطلاب على نزول هذا المنحدر الشديد، أخذنا عشرة منهم إلى الجانب الآخر من الوادي حتى يشاهدوا التحدي الذي سيُواجهونه في اليوم التالي. وبعد أن غربت الشمس فوق الجبل، ملقية بظلال كثيفة على الوادي، تأمَّلنا في رهبة ما كان بالفعل أكبرَ هبوط بالحبال في أستراليا على جبل ماونت بانكس. وخيَّم الصمت على الطلاب عندما كانوا يتأمَّلون الهبوط من على الجرف. وعلى الرغم من أننا كنا نُعِدُّ لهذا التحدي الأخير طوال العام، كانت وجوه جميع الطلاب بمن فيهم من هم أكثرهم عنفًا شاحبةً من هَوْلِ مشهد المنحدر الحاد.

وكان جاك الشرس ذو الشعر الأحمر هو أول من سأل عما كان يدور في رأس الجميع قائلًا: «(لَفْظُ سِبَابٍ‎) كيف سننزل هذا الجرف (لَفْظُ سِبَابٍ‎) …؟ ليس لدينا حتى حبل طوله ٤٠٠ متر، أليس كذلك؟» فأجابه روبرت موافقًا: «نعم، لا يمكننا أن نحمل حبلًا طوله ٤٠٠ متر، سيكون ثقيلًا للغاية.» فرد دنيس قائلًا: «ما الخيار الآخر المتاح أمامنا؟» مضيفًا «هذا هو السبيل الوحيد للخروج.»

وعندما حلَّ المساء في الوادي، انخفضت المعنويات وسيطر خوف مُمِيت على أفراد المجموعة بأكملها، وكأن الشلل أصابهم من فَرْطِ خوفهم. وانحنى معظم الطلاب جالسين على حافة المنحدر يُصارعون الخوف من المجهول، في محاولة منهم لتصوُّر ما سيقومون به وما سيكون شعورهم بعد ١٢ ساعة.

كانت الطريقةَ الوحيدةَ لإنزال الصبية أسفل الجبل عبر خطوات صغيرة يسهل قطعها. وكان روبرت محقًّا، فلم يكن لدينا حبل طوله ٤٠٠ متر، ولكن ما لم يكن يَعرفُهُ الطلاب ذلك الوقت هو أننا لم نكن بحاجة إليه حقيقةً. كان من بين اللوازم التي أحضرناها حبلان طول كُلٍّ منهما ٥٠ مترًا يمكننا استخدامهما في النزول؛ أي إننا سننزل المنحدر على مراحل. فما كانت رؤيته مستحيلةً من مسافة بعيدة هو أن سطح المنحدر كان به بالفعل عدة مستويات من الحواف التي يمكن استخدامها كنقاط منفصلة عند النزول. ونَجَحَ هؤلاء الطلاب بالفعل قبل ذلك في النزول بالحبال عدة مرات لمسافة ٥٥ مترًا؛ لذا كان الأمر كله متعلقًا بمساعدتهم في استيعاب أنهم بحاجة لمواجهة التحدي تدريجيًّا، على مراحل يمكن التحكم بها. فالطلاب اعتقدوا — عندما نظروا للجبل بالكامل — أن المهمة مستحيلة، ولكن عندما قسِّمت المهمة بدءوا يؤمنون أن بإمكانهم تنفيذَها.

في صباح اليوم التالي، هبط جميع الطلاب من على هذا المنحدر الشديد. وكانت المجموعة الأولى قليلة العدد وافرة الحظ، فالضباب لم يكن قد انْقَشَعَ حينها؛ لذا نزلوا أثناء انتشار الغَيْمِ دون أن يُواجههم مشهد حجم الانحدار. ولكن عندما انقشع الغيم وظهر المنحدر بالكامل، استلزم الأمر منا المزيد من التدريبات لإعداد الطلاب نفسيًّا. وأخيرًا، استطعنا رفع معنويَّاتهم لأقصى درجة. وبعد ثماني ساعات (وسبعة منحدرات)، وصل الجميع إلى أرض الوادي بدون وقوع أي حوادث.

ما إنْ توصَّلُوا إلى أنهم يُمكنهم تقسيم المشكلة إلى مراحل، تَمَكَّنَّا من مساعدتهم على معرفة كيفية تطبيق هذا المبدأ على نواحٍ أخرى من حياتهم، بما في ذلك التعامل مع المشكلات التي تواجههم في المدرسة. وفجأة اختفى الخوف المميت من الأمور التي تبدو مستحيلة، وفُتح أمامهم عالم جديد من الاحتمالات. وتغيَّر العديد من هؤلاء الطلاب جذريًّا في تلك اللحظة، بعد أن اكتشفوا ثقة جديدة في أنفسهم نابعة من أنهم قادرون على مواجهة التحديات التي تعترض طريقهم أيًّا كانت. فقد رأوا العالم من منظور جديد.

فمهما كان شعور الأشخاص الذين يواجهون تحديًا إبداعيًّا، ومهما كان قدر الضرر الذي تسبَّب فيه قتلة الإبداع بالفعل، فإنه من الممكن تحقيق الأمور التي تبدو بعيدة المنال، وإنقاذ التفكير الإبداعي. ويرى بعض الأفراد والمؤسسات أنه من الصعب البدء في العملية، والبعض الآخر يبدءون بحماس لكن سرعان ما يشعرون بالإحباط بعد ذلك، أو يتعثَّرون في مكان ما على الطريق. وكلما ازداد حدوث ذلك، قَلَّ تفاؤلهم ومثابرتهم. وقد وجدنا أنه من الأفضل تقسيم المشكلة إلى مراحل لتسهيل عملية الانتقال من حال لآخر، مع تزويد الأشخاص بخطوات واضحة وتدريجية. وحتى مع هذه التسهيلات، يَنْفَدُ صبر الناس ويحاولون تَخَطِّي خطوات هامة، ونتيجة لذلك يُخْفِقُونَ في الوصول إلى الحل الذي كانوا يأملون في التوصل إليه.

عندما تخرُج عن «المضمار» — أو تقفز من على جبل! — قد لا يكون أمامك مسار واضح تسلكه. وبِغَضِّ النظر عن التضاريس الصعبة، يمكنك أن تكون على أُهبة الاستعداد لمواجهة أيِّ شيء باتخاذ كل خطوة في حينها، خلال المهارات والمعَدَّات الملائمة والتخطيط المناسب. والعملية التي سنشرككم فيها في الأقسام التالية ستُساعدكم في استكشاف مسارات نحو التنمية الإبداعية بأسلوب يُسفِر عن نتائج عملية ومفيدة محددة. ولقد قسمنا العملية إلى سبع استراتيجيات بحيث يمكنك تناول استراتيجية واحدة في كل مرة بكل ثقة.

يبدأ الإبداع مع الفرد، إلا أن الأفراد عادة لا يُفسحون المجال أمام إبداعهم للنمو. فضغوط الوقت، ومواعيد التسليم، والبيئة التي لا توفِّر الدعم، والخوف من الفشل، والبيروقراطية، كلها يمكن أن تؤدي إلى شَلِّ الإبداع. لكن أكثر ما يهدده هو قلة التدريب. ولأنك تُسَيْطِرُ على حياتك، يمكنك تنمية الإبداع بمهارة. فمتى كانت آخر مرة خصصت فيها بالفعل وقتًا لمحاولة القيام بشيء إبداعي؟

وما إن ينشأ لدى الأفراد التزام بالتنمية الإبداعية، يمكن أن يأتي بعد ذلك التغيير المؤسَّسِي. والأشخاص الذين لا يظنون أنهم بحاجة إلى أن يتحلَّوْا بالإبداع يَخنقون الإبداع في فريق؛ مما يسمح للمؤسسة بالعمل ولكن بعدم كفاءة. كما أن الافتقار إلى الكفاءة الإبداعية الفردية يعيق تحقيق مطالب العملاء؛ مما يدفعهم إلى الذهاب إلى مكان آخر. فالعملاء والزبائن (الداخليون والخارجيون) سيبتكرون بمساعدة مؤسستك أو بدونها؛ لذا عليك أن تسعى وراء فرص التنمية الإبداعية مسبقًا لتبقى في الطليعة.

وتشمل تنمية الإبداع تَبَنِّي أسلوب جديد في التفكير. وهناك العديد من الطرق المختلفة التي يمكنك من خلالها ممارسة هذا الأسلوب وتحرير قدراتك الإبداعية. وإذ إن هناك أربع مراحل من الانتكاس في موت التفكير الإبداعي، فهناك أيضًا أربع مراحل أخرى من الإحياء موازية لها، وقد أقررنا بضرورتها في عملية الإنقاذ، وهي:
  • المرحلة الأولى: التحرر.

  • المرحلة الثانية: المبادرة.

  • المرحلة الثالثة: التحفيز.

  • المرحلة الرابعة: التحول.

وهناك إذن سبع استراتيجيات نُوصِي بها للمساعدة في عملية الإنقاذ (كما هو موضح في الجدول ٦-١).
جدول ٦-١: نموذج دورة حياة التفكير الإبداعي — إحياء الإبداع.
إنقاذ التفكير الإبداعي: مراحل الإحياء
عملية الإنقاذ استراتيجية الإنقاذ
المرحلة الأولى التحرر
الحرية والشجاعة للتقدم للأمام والتفكير بحرية
الحرية (١) غرس الفضول
الشجاعة (٢) تقبل الغموض
المرحلة الثانية المبادرة
الاستقلالية والانفتاح العقلي للتخلص من الضغوط وتحقيق النمو
الاستقلالية (٣) إطلاق العنان للخيال
تفتح الذهن (٤) استخدام شِقَّي المخ
المرحلة الثالثة التحفيز
الشغف لإحداث تحوُّل
الشغف (٥) إعادة صياغة المفاهيم الشائعة
المرحلة الرابعة التحول
المرونة والإيجابية لإجراء تغييرات حقيقية
المرونة (٦) استكشاف مسارات مختلفة
الإيجابية (٧) تَبَنِّي التفاؤل

(١) المرحلة الأولى: التحرر – الحرية والشجاعة للتقدم للأمام والتفكير بحرية

توفِّر المرحلة الأولى من عملية الإنقاذ مِنَصَّةً للنمو الإبداعي المحتمل؛ فهي تقر بالحاجة إلى «الحرية» التي تفتح المجال أمام التفكير استعدادًا لقبول احتمالات جديدة، والحاجة إلى «الشجاعة» التي هي منصة الانطلاق لاتخاذ خطوات رحلة جريئة.

(١-١) نمط المنقذ الأول: الحرية

هذه الوسيلة الرائدة للاستكشاف تخلق حالة ذهنية يمكن الشعور من خلالها بالأمن والأمان ويمكن استكشاف الأفكار دون قيود. فالحرية تشجع على القيادة المتواضعة وخلق بيئات عمل يسهل الوصول إليها. فهي حالة لا تُقَيِّدُهَا أفكار أو مفاهيم مسبقة، ولها القدرة على إطلاق العنان للتحديات وفتح المجال للاحتمالات. وباعتبار الحرية وسيلة إنقاذ، فإنها على استعداد لمواجهة أي تَحَدٍّ في أي وقت. والحرية تَتَّسِمُ بسعة الحيلة البالغة وتتمتَّع باكتفاء ذاتي شديد؛ لأنها تجد مسارات جديدة دائمًا وتسافر مخترقة كل الحدود بدلًا من قطع الطريق البالي من كثرة الاستعمال. فهي دائمًا تريد معرفة ماذا هناك عند المنحنى التالي، وماذا على الجبل التالي، وماذا بعد الموعد النهائي التالي لتسليم الأعمال، وماذا في الأفق الجديد. واستراتيجية الإنقاذ التي تفضِّلها هذه الوسيلة الرائدة هي «غرس الفضول». والحرية تساعدك على الإفلات من المشتَبَه بهم في جريمة القتل ممن ينتمون إلى طاقم التحكم؛ إذ يكون سلاحهم الرئيسي هو «الإرغام الساحق».

تأمَّلْ جيسون كيلر، الذي يختلف عن الرؤساء التنفيذين التقليديين. فبدلًا من أن يستمتع بالمزايا التي توفرها له مكانته أو يتباهى بسلطته، يعمل جاهدًا لينشر التواضع والبساطة. وبدلًا من أن يحصل على مكتب زاوية فاخر يطل على أجمل المناظر في العمل، فإنه يجلس في الخارج مع الجميع على مكتب مصنوع جزئيًّا من الصناديق الفارغة. ويهتم كيلر اهتمامًا شخصيًّا بجميع موظَّفيه الجدد، فيدعوهم لتناول الغداء حتى يتعرف عليهم أكثر ويعرف منهم الأمور التي يرغبون في رؤيتها تتحقَّق في المؤسسة.

ويصف الكاتب والمعلم جريجوري فرينستاين هذا النهج الجديد الثوري تجاه الهيكل المؤسسي الذي يدعم الابتكار، ويوضح الأفكار التي أدخلتها هذه الشركة وشركات أخرى مثلها. فهو يوضح كيف لكيلر — وهو الرئيس التنفيذي لموقع هولو1 أكبر المواقع التي تقدِّم البث الحي لمقاطع الفيديو والذي يجني الملايين من الدولارات — أن يتخذ خطوات غير تقليدية في الإدارة. ومع أن منصبه يعطي له حق التمتع بمزايا النجاح، فإنه يرى مبدأً هامًّا للغاية على المحكِّ هنا. فهو يؤمن «بأنك لن تجذب أفضل بَنَّائِي النجاح في العالم وتُبْقِي عليهم في بيئة قيادة وسيطرة.» ويوضح أندرو ماسون — الرئيس التنفيذي لشركة إنترنت أخرى لاقت نجاحًا مماثلًا وهي جروبون — هذا المفهوم ويقول: «نحن نفترض أن الناس طيبون في الأساس وأنهم أشخاص بالغون مسئولون. وتعكس سياساتنا هذا الإيمان.» وتركِّز معظم المؤسسات على وضع قواعد ولوائح للتعامل مع الموظفين صَعْبِي المراس، ولكن ماسون يقول: «إن جزاء إنشاء بيئة عمل تَسُودُهَا البيروقراطية والروتين — حيث يسود افتراض أن نسبة اﻟ ٩٠٪ المتبقية من الأشخاص سيئون بالمثل — هو وضع قواعد من شأنها تشجيع الناس على الوصول إلى حدود تلك القواعد … ولأن الشركة لا تُظْهِر لهم الاحترام والاستقلالية اللازمين لإنجاز الأعمال بالطريقة التي يدركون أنها ستُنجز بها، فإنهم يعامِلون الشركة بقلة الاحترام ذاتها.» ويوضح فرينستاين أن ما يحدث في تلك الشركات التي تدعم الإبداع يشمل:
  • إطلاع وكلاء المبيعات على بيانات سير العملية المالية الحقيقية؛ حتى يتمكنوا من صياغة استراتيجيات المبيعات الخاصة بهم بدلًا من أن تُحدد لهم الأهداف من الخارج.

  • عمل الموظفين وجلوسهم معًا على مكاتب مفتوح بعضُها على بعض دون حواجز، بحيث يكون ثلاثة أو أربعة موظفين جالسين على المكتب الواحد؛ وهي طريقة لا تستلزم الحاجة إلى إشراف إداري مباشر وتشجِّع على المناقشة المستمرة والتبادل الحر للمعلومات.

وليس من الغرابة إذن أن تحصل شركتا هولو وجروبون مؤخرًا على جوائز بسبب التزامهما الاستثنائي بالتمكين في محل العمل. (ورواد هذا الأسلوب من القيادة التمكينية التي تضمن الحرية في المؤسسة هما الحركة النقابية في القرن العشرين والكيبوتس في إسرائيل. وأدخل ريكاردو سندر مفهوم تحديد الموظفين لرواتبهم وتصويتهم على اختيار المديرين الجدد منذ ثلاثين عامًا تقريبًا.)

ينبغي ألا تنطوي إقامة الحرية في المؤسسة على مجرد إجراء إعادة هيكلة سطحية؛ بل هي تحتاج إلى أن تُبنى من الأساسات. ويمكن تأسيس هذه الحرية التي تدعم التعاون عبر إنشاء هياكل إدارية أكثر وضوحًا تُشْعِر الجميع بقدرتهم على الابتكار، ووضع نماذج للقيادة المتواضعة، وتصميم بيئاتِ عملٍ يَسْهُلُ التعامل معها تُتِيح الفرصة للموظفين للاتصال والتعاون. وعندما يتحقَّق هذا الأمر، سنشاهد مزيدًا من الرؤساء التنفيذيين يختلطون مع أولئك الذين يحدثون الفارق في المؤسسة في نهاية المطاف.

وكما أسلفنا، فإن الأطفال (والحيوانات) الذين لا يمارسون «اللعب الحر» في الصغر يصيرون كبارًا يعانون القلق وعدم التكيف مع المجتمع.2 فاللعب الحر قناة أساسية لتحويل موارد المخ بعيدًا عن التعامل مع وظائف البقاء الأساسية حتى يمكنهم التوصل إلى التفكير الإبداعي. وإذا لم يُمارَس التفكير الإبداعي بانتظام، فسيتعذر تأسيس مسارات قوية في المخ كما ستذبل حقيقةً القدرة على التفكير الإبداعي. ويبقى الأفراد الذين تمتعوا بحرية اللعب منذ سن صغيرة على استعداد أفضل لتنمية الثقة الإبداعية اللازمة للازدهار في الحياة بعد ذلك.

تُتيح الحرية للجميع فرصًا للتمتع بالتمكين والازدهار بدلًا من أن تسمح للإدارة الاستبدادية على شاكلة المافيا بأن تتولى القيادة. وينال القائد المرشد الذي ييسر العملية الإنتاجية — ويستطيع أن يحفِّز الخبرات والثقة والإبداع في الآخرين ويبرزها — تقديرًا بالغًا، على عكس المدير المتنمِّر المتحكم وسلاحه المختار هو «الإرغام».

(أ) استراتيجية الإنقاذ الأولى: غرس الفضول

العمل المهم والصعب لا يتعلَّق أبدًا بإيجاد الإجابات الصحيحة، بل بإيجاد السؤال المناسب.

بيتر دراكر3

تعتبر صالة الركاب بمطار دينباسار الدولي في بالي عملًا معماريًّا استثنائيًّا، ونحن للأسف لا نستخدم كلمة «استثنائي» هنا بصورة إيجابية. يقع المطار في الطرف الشمالي من خليج جيمباران، بعيدًا نوعًا ما عن مطاعم الأكلات البحرية المفعمة بالدخان، ويمتدُّ المدرج بين بحيرتين زرقاوين صافيتين تحدُّهما شواطئ رملية بيضاء. ويفصل سياج سلكي صغير بين الأمواج المتكسرة الشهيرة في منطقة كوتا السياحية الجذابة، وخليج جيمباران الهادئ في الجانب الآخر. وأغلب السُّيَّاح الوافدين إلى بالي والبالغ عددهم ٢٫٧٥ مليون سائح يمرون عبر هذا المطار مرتين، إما وهم يتطلَّعون لقضاء إجازتهم على الشواطئ الاستوائية أو يتذكَّرون بولعٍ ذكرياتهم وتجاربهم. ويتمتَّع هذا المكان بواجهة بحرية جميلة. فسطح المطار (إذا تمكنت من الوصول إليه) يقدم منظرًا بزاوية ٣٦٠ درجة لآفاق شواطئ الجزيرة المذهلة. ولكن هناك مشكلة كبيرة واحدة، وهي الطوابير الطويلة والانتظار اللانهائي (إذ يصل إلى ثلاث ساعات) حيث يظلُّ المسافرون محتجَزين في قاعة مملة ذات أضواء ساطعة بها متاجر تبيع بضائع باهظة الثمن، وتقريبًا دون أي فرصة للاستمتاع بأجمل ما يميِّز المكان. وباستثناء بضع نوافذ صغيرة تطل على مدرج المطار، بدلًا من إطلالها على المشهد الكامل على جانبيه، فإن المطار مُحاط بالكامل بالأسوار. من الواضح أن المهندس المعماري أخفق في طرح الأسئلة التي من شأنها أن تُتيح التوصُّل إلى حلول إبداعية بخصوص كيفية الاستفادة من هذا الموقع المتميز.

ويقول المهندس المعماري السابق لويد إروين إنه عندما يصمم المهندسون المعماريون المباني، فإنهم من الضروري أن يذهبوا أولًا إلى الموقع لطرح الأسئلة التي تفتح الباب للاحتمالات الإبداعية. وينبغي أن تشمل هذه الأسئلة ما يلي:
  • ما الشيء المميز في هذا الموقع؟

  • ما الشيء الذي يحتاج إليه هذا الموقع بشدة؟

  • ما الاستجابة التي يتطلَّبها مني/من المبنى؟

من المستبعد أن يكون المهندسون المعماريون الذين صمموا مطار دينباسار قد طرحوا هذه الأسئلة عندما صمموا هذا المبنى.

ولقد ربح المهندس المعماري الذي صمم دار أوبرا سيدني الشهيرة جائزة مسابقة دولية أطلقت عام ١٩٥٥ لأنه أجاب عن هذه الأسئلة بالكامل تقريبًا. فبالنسبة ليون أوتسون، كان موقع دار الأوبرا يصرح بالأمرين التاليين اللذين أنتجا الإبداع الثوري:
  • الأشرعة: فموقع الواجهة البحرية، والطقس الرائع، وشعبية الإبحار في الميناء، كلها عوامل أوحت بهذا الرمز.

  • المسقط الخامس: نظرًا لكون الموقع في واجهة المدينة، فإن أوتسون كان على دراية بأن المبنى سيُشاهد من أعلى (من ناطحات السحاب) بقدر ما سيُشاهد من الجانب؛ ولذلك استخدم مصطلح «المسقط الخامس» لوصف مشهد السطح، والذي كان من الضروري أن يكون جميلًا مثله مثل المساقط الأربعة الأخرى.

وأدت الإجابات عن الأسئلة المتعلقة بالتصميم والموقع والغرض إلى التوصل إلى حل الأشرعة الشهيرة، ومبنًى مميز من العبقرية الإبداعية.

ويتَّسم المخ بالإبداع والفضول بالفطرة، ولا تأتي الخيالات بثمارها إلا عندما يسد المخ الفجوات من أجل «خلق» الواقع. ويرجع الأمر إلينا في إطلاق هذه القدرة، وأفضل طريقة للقيام بذلك تكون بتعلم طرح الأسئلة. فالعقل المتسائل يحفز الفضول، والفضول يعزز الرغبة في التوصل إلى اكتشافات جديدة. ولا يمكن إثارة العملية الإبداعية إلا بواسطة الرغبة الشرهة في التنقيب والاستكشاف؛ أي الفضول الحر والبريء. غير أن هذه الخطوة الأولى في عملية التنمية الإبداعية كثيرًا ما يعوقها عدم القدرة على تخطي الافتراضات والممارسات الراسخة.

قضى جيفري ويست (الذي تطرَّقنا إليه سابقًا حول كتابه عن الابتكار في المدن) معظم حياته المهنية في دراسة فيزياء الطاقة العالية، مصطدمًا بمفاهيم مثل الكوارك والمادة المظلمة ونظرية الأوتار. وبدأ يهتمُّ بتطبيق المبادئ الفيزيائية على العلوم البيولوجية والاجتماعية منذ حوالي خمسة عشر عامًا، وتمكَّن من إدخال بعض المفاهيم الجديدة الرائعة من خلال طرح أسئلة هامة مثل: لماذا يعيش البشر نحو مائة عام؟ لماذا لا يعيشون ألف عام، أو عشرة أعوام أو مليون عام؟ من أين أتى هذا الرقم؟ ما هي آلية الشيخوخة؟4 إنَّ طرح مثل هذه الأسئلة فتح المجال أمام مجموعة كاملة من الاحتمالات الجديدة. وتُعد هذه الخطوة الأولى من غرس الفضول خطوةً ضرورية لأننا عادةً لا نرى العالم الذي نعيش فيه كما هو بل كما نراه. فنحن نرى الحقيقة وفقًا لمجموعة من:
  • الافتراضات.

  • الاعتقادات.

  • الخبرات.

  • التحيزات.

تشكل هذه الأمور صورة العالم لدينا، فتُلوِّن ما نراه أو تشوِّهه. وتميل المؤسسات (والمجتمعات) إلى امتلاك نظرة جماعية للعالم تتبناها الغالبية العظمى من أعضائها. والإبداع هو النظر فيما وراء هذه الصورة للعالم، وأولى الأدوات الإبداعية البارزة هي طرح الأسئلة الموجهة. ووفقًا لمقولة جورج برنارد شو الشهيرة، هناك فرق كبير بين رؤية الأشياء كما هي والسؤال عن السبب ﺑ «لماذا؟» وتصور الأشياء على غير هيئتها والسؤال ﺑ «ماذا لو؟» ويمكن العثور على حلول جديدة وإبداعية كليَّةً خلال التركيز على كيفية زعزعة الأنماط المألوفة أو النظم الحالية.5

فهم قوة الفضول

إنَّ طرح أسئلة مناسبة كفاءة مكتسبة تعتمد على التحفيز والدراية والخبرة.6 ونحن بحاجة إلى تعلم طرح الأسئلة — حتى «الغبية» — التي تأتي من الرغبة في البحث عن الحلول الممكنة وليس التوقعات. وإذا كان الإبداع ينشأ مع السؤال، فإن فن طرح أسئلة «غبية» من الممكن أن يؤدي إلى الإبداع المعزز. وللأسف، عندما ننتقل من مرحلة الطفولة إلى البلوغ، فإننا نتوقف عن طرح الأسئلة ونبدأ في الرغبة في توفير الإجابات.

والتصرف بناءً على الافتراضات يضر بعملية التوصل إلى حلول إبداعية للمشكلات. ويوفر مجال الطيران مثالًا جديرًا بالاهتمام عن كيفية حدوث ذلك. ففي ٢٤ أغسطس ٢٠٠١، واجهت إحدى الرحلات بشركة طيران إير ترانسات صعوبات في طريقها من تورونتو إلى لشبونة على الطائرة إيرباص إيه ٣٣٠ التي مرَّ على استخدامها عام واحد. أشار ضوء تحذيري إلى أن الطائرة تفقد الوقود بوتيرة سريعة، وافترض الرُّبان — الذي كان يعرف أن الطائرة جديدة — أن هذا مجرد خلل في الكمبيوتر. وفي وقت لاحق في الرحلة، أشار ضوء تحذيري آخر إلى عدم توازن الوقود بين خزاني الوقود، ففتح الرُّبان صمام التغذية التبادلية ليحول الوقود من الخزان الممتلئ إلى الخزان الفارغ، ولكن الخزان الفارغ كان به ثقب فكان الوقود يتسرب ببساطة إلى الهواء. وفجأة نفد الوقود من الطائرة. لكن لحسن الحظ، فإن الطائرة كانت قد حولت مسارها جنوبًا بسبب الازدحام فوق أمريكا الشمالية، ومن ثم كانت على مسافة بسيطة من جزر الأزور حيث وجَّه الرُّبان الطائرة للهبوط الاضطراري الآمن دون محركات. فلو كان الرُّبان أكثر فضولًا بشأن الأضواء التحذيرية — بدلًا من وضع افتراضات — وأتاح لنفسه المجال أمام احتمالات أخرى، لكان من الممكن تجنب حادث كان من المحتمل أن يصبح كارثيًّا.

ولقد أقرت دراسات استقصائية ضمت ما يربو عن ٣٠٠٠ مدير تنفيذي و٥٠٠ فرد آخرين حول ما عُرف فيما بعد ﺑ «الحمض النووي للمبتكر» بأنَّ طرح الأسئلة إحدى «مهارات الاكتشاف» الخمس الرئيسية التي تفصل المبتكرين الحقيقيين عن الآخرين.7،8
يُمكِّن الإبداع الناس مما يلي:
  • دراسة بدائل مختلفة: يصف بيير أوميديار (من موقع إيباي) كيف أنه يدفع الناس في الاجتماعات إلى تبرير مواقفهم عبر طرح أسئلة ملتوية ولعب دور محامي الشيطان. فالإجبار على تخيل بدائل مختلفة يمكن أن يؤدي إلى أفكار مبتكرة بالفعل.9
  • تقييد التفكير وإفساح المجال للتخيل: تفرض الأسئلة المهمة قيودًا على تفكيرنا بطريقة فعالة، والأمر الغريب هو أن هذه القيود يمكن أن تحث على التوصل إلى أفكار لامعة غير تقليدية. وأحد مبادئ جوجل الأساسية أن «الإبداع يحب القيود». ويشمل ذلك استخدام سيناريوهات «ماذا لو؟» فيقضي العديد من الناس الكثير من الوقت في محاولة لفهم كيفية تحسين أداء العملية الحالية؛ ويُعد المبتكرون أكثر الأشخاص ميلًا لطرح الافتراضات التي تكمُن وراء العملية.

إطلاق العنان للقدرة على إثارة الفضول عبر طرح الأسئلة

الأسئلة تضعنا في حالة ذهنية من الاستعداد للتعلم عبر إثارة الفضول. فعند طرحك سؤالًا، أنت تضع هدفًا أمام عقلك. وطرح الأسئلة وسيلة قوية للاستفادة مما تتمتع به من مواهب إبداعية. فالأسئلة تفتح المجال للاحتمالات، وإذا ما استُخدمت جيدًا فمن الممكن أيضًا أن توفر التركيز والتوجيه للتوصل إلى حلول إبداعية للمشكلات. وتجبر الأسئلة المفتوحة — التي ليس لها إجابات محددة — الأشخاص على التفكير خارج نطاق المعتقدات والافتراضات الراسخة لديهم. وتتمثَّل المشكلة الشائعة في أن الأشخاص يريدون أن يقفزوا مباشرةً إلى الإجابات دون دراسةِ ما يبحثون عنه بالفعل. فالأمر يبدو تقريبًا وكأنهم يخشون طرح السؤال في حالة عدم معرفتهم الإجابة بالفعل؛ لذا لا يطرحون السؤال. والشيء الهام الذي ينبغي تذكُّره هنا هو أن الخطوة الأولى تتمثَّل ببساطة في طرح السؤال؛ فأنت لا تريد جميع الإجابات، حتى الآن. وطرح أسئلة مثل «لماذا؟» و«لِمَ لا؟» و«ماذا لو؟» من الممكن أن تدفعنا للتفكير خارج القيود الحالية وفتح عالم مليء بإمكانيات تحقيق الأهداف.

عندما تُواجهك المرة المقبلة مشكلة تتطلَّب حلًّا، اسأل أولًا من؟ وما؟ وكيف؟ ولماذا؟ ولم لا؟ وماذا لو؟ لعلَّ مُصمِّمي صالة الركاب بمطار دينباسار توصَّلوا إلى التصميم من ناحية عملية بحتة، كمركز لتجهيز المسافرين للصعود على متن الطائرة ونزولهم من عليها. ولم يحثهم أحد على طرح أسئلة أبعد من ذلك.

عند إعادة لوحة رامبرانت الشهيرة «دورية الليل» إلى متحف ريكز بأمستردام، أجرى أمناء المتحف تجربة بسيطة ولكنها مميزة. فقد طلبوا من الزائرين طرح أسئلة حول اللوحة، ثم أعدوا إجابات لهذه الأسئلة ووضعوا الأسئلة والإجابات على الحائط خارج الغرفة التي كانت تُعرض بها اللوحة. واكتشفوا أن متوسط الفترة الزمنية التي يقضيها الزائرون في مشاهدة اللوحة قد زاد من ست دقائق إلى ثلاثين دقيقة.10 وأفاد الناس بأن الأسئلة شجعتهم على مشاهدة اللوحة لمدة أطول، والنظر عن كثب وتذكُّر المزيد. ويمكن أن تُسفر الأسئلة عن نتائج مشوقة خلال:
  • تزويد العقل بشيء يهدف إليه.

  • وضع العقل في حالة «الاستعداد للتعلم».

  • مساعدة العقل على التركيز.

وعلى الرغم من خضوع مطار بالي إلى عدة تجديدات وتوسعات واسعة النطاق، فإنه لا يزال يتجاهل المشهد الذي يُطِلُّ عليه. وربما لتسهيل عملية الانتظار، ينبغي إتاحة الفرصة للسياح لكتابة بضعة أسئلة وإرسالها إلى المهندسين المعماريين الذي صمموا المطار الحائز على نقطتين ونصف من خمس!11

التدرب على أسلوب طرح الأسئلة

لا تقرر ببساطة أنه لا يمكننا أن نصبح أكثر إبداعًا. اسعَ جاهدًا لتحدي الافتراضات، واطْرَح الأسئلة التي ستفتح المجال للاحتمالات مثل:
  • من الذي يتأثَّر بعدم وجود الإبداع؟

  • من المسئول عن إدخال الإبداع في المؤسسة؟

  • ما الفارق الذي يمكن أن يُشَكِّله الإبداع في محل العمل؟

  • ماذا لو كان بإمكاننا تشجيع الجميع في المؤسسة ليكونوا جزءًا من عملية تطوير الإبداع؟

  • ماذا يمكننا أن نفعل لتغيير الوضع الراهن وجلب أفكار جديدة؟

  • لماذا ندرس خيارات مختلفة؟

  • كيف يمكن للأفكار والأساليب الجديدة أن تساعدني/تساعد فريقي؟

  • كيف يمكننا اتخاذ الإجراءات؟

التطبيق العملي لغرس الفضول

عندما تواجهك المرة القادمة مشكلة تتطلب حلًّا اسأل من؟ وماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟ … على سبيل المثال:
  • من الذي يتأثَّر بالمشكلة؟ من الذي يمكنه التصرف؟

  • ما هي المشكلات؟ ما الذي يمكن فعله لحلها؟

  • لماذا ندرس خيارات مختلفة؟

  • كيف يمكن أن تشكل الإجراءات فَرْقًا؟ كيف يُمكن اتخاذ الإجراء؟

انظر مدى إبداعك عند التوصُّل للحلول!

ملخص استراتيجية الإنقاذ

  • أنشئْ بيئة تشجِّع على حرية التفكير.

  • شكِّل عقلية تتقبَّل الاستكشاف.

  • اطرح أسئلة دون توقع نتائج أو حلول معينة.

(١-٢) نمط المنقذ الثاني: الشجاعة

تستعيد الشجاعة — التي تتسم بالهدوء والثبات — الثقة بالنفس. وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقة، فتساعد في التعامل مع الخوف، وتعمل على تحييد ردود الفعل المتمثِّلة في القتال أو الفرار أو التجمد في موضعك في حالة الخوف. وتخلق وسيلة الإنقاذ هذه بيئة لغوية إيجابية تسمح بتدفُّق الأفكار الإبداعية، كما تخلق حالة شعورية إيجابية تشجِّع على طرح أسئلة جريئة. وتثير الشجاعة خيارات واحتمالات جديدة دون الاهتمام بحصر الأفكار والخيارات في فئتي «الأبيض» و«الأسود»، بل إنها تقبل العديد من الظلال الرمادية. واستراتيجية الإنقاذ المفضلة للشجاعة هي تقبُّل الغموض. فهي تتولى مهام الإنقاذ من القتلة على شاكلة الخوف، كالخوف من الفشل والخوف من المجازفة والخوف من المجهول، وسلاحهم المفضل هو «الإرهاب المطبق».

هل سبق لك أن تساءلت لماذا يرغب الناس في الحصول على وشم؟ الاعتقاد السائد هو أن الوشم كان في الأصل وسيلة الرجال لإظهار قدرتهم على مواجهة الخوف. وهذه القدرة كانت تمنحهم ميزة تطورية؛ إذ تفضل السيدات القادرات على الإنجاب الرجال الذين يتمتَّعون بالقوة والجرأة الكافية لحمايتهن. لكنَّ دقَّ الوشم على الجسم باستخدام حجر أو صَدَفة كان بالتأكيد مهمة مؤلمة وخطيرة. فهذه العملية دليل على تحمل الألم وعلى الصحة البدنية؛ لذا كان الموشومون يُظهِرون بالوشم بسالتهم وقوتهم.

يُلاحظ وجود دلالات شبيهة على الشجاعة والحيوية في مملكة الحيوان أيضًا. ففي أنواع كثيرة، تشكل الحيوانات البالغة دائرة دفاعية لحماية صغارها من الحيوانات المفترسة الأقوى منها. فالغزلان عادةً تقفز في الهواء عند الهروب من الأسود. وعلى الطاووس أن يبسط ذيله بالغ الضخامة لكي يُثِير إعجاب من يرغب في التزاوج معها.12

وبدلًا من هذه التعبيرات الاستعراضية، فإن الشجاعة التي تساعد في إنقاذ التفكير الإبداعي هي الثقة الثابتة بالنفس التي تتحدى الخوف وتحيِّده. انظر مرة ثانية إلى أنواع الخوف التي تهدد الإبداع والتي ناقشناها سابقًا، وهي الخوف من المجهول والخوف من المجازفة والخوف من الفشل. فمواجهة النوع الأول يتطلَّب بناء الثقة بالنفس. والنوعان الأخيران هما مفهومان تمامًا في العديد من الحالات. وتأمَّل على سبيل المثال المؤسسات المصرفية حيث يكلِّف القرار الخاطئ المصرف في إحدى المجازفات مبالغ طائلة، ويكلِّف الشخص المعني وظيفته! والثقة بالنفس لا تكفي وحدها في هذه الحالة؛ فيتطلَّب الأمر الجمع بين الثقة بالنفس والانتباه الحَذِر.

لقد عملنا مع بعض البنوك السويسرية شديدة المقاومة للتغيير على مر السنين، وكُنَّا نجد عادةً في ورش عملنا معهم أن التفكير الإبداعي هو أحد آخر المواضيع التي يرغبون في سماعها منا. ويأتي في مقدمة تفكيرهم تحمُّل مسئولية أموال الآخرين، وهو ما يتطلَّب اتباع نهجٍ مقاوِم للتغيير. لقد كانت هناك دروس قاسية مستخلَصة من الأزمة المالية العالمية، وكان الخوف من المجازفة والخوف من الفشل من بين هذه الدروس. ويعتقد الرئيس التنفيذي المحلي لإحدى شركات التأمين التي عملنا معها أن شركات التأمين عليها أن تكون حذرة تمامًا عند الحديث عن التحلي بالإبداع. فيقول: «شركتنا قائمة منذ ما يزيد عن مائة عام بسبب مقاومتها التغيير، وإيجاد الأنظمة الناجحة والتقيد بها.» لذا عليك التقدم بحذر عند إدخال التفكير الإبداعي إلى شركة تعتمد على الموثوقية المقاوِمة للتغيير. فالمجازفة بالفشل في هذا السياق أمرٌ مؤثر للغاية.

يرى تيم هارفورد أن الوسيلة لضمان ألا يكون الفشل كارثيًّا عند تجربة شيء جديد هي أن يتم تطبيق هذا الشيء على نطاق ما يمكن أن يُحتمل فيه الفشل دون أن يقضي على الأخضر واليابس.13 تعلم من أخطائك، كما يمكنك مراقبة العملية من خلال طلب الحصول على تقارير تغذية راجعة بصورة دائمة. ويرى هارفورد كذلك أن الفشل في معظم الحالات غالبًا ما يكون ثمنًا يُستحَق دفعه. فنحن لا نتوقَّع أن تفوز جميع تذاكر اليانصيب، لكن علينا شراء تذكرة إذا كنا نرغب في فرصة للفوز. ولا تعدُّ وظيفة قسم الأبحاث والتطوير في الشركات مجرد إعادة توزيع للموارد، مثل اليانصيب، فيمكنه أن يدخل تحسينات من شأنها نقل الجميع إلى وضع أفضل على المدى الطويل؛ لذا فهو مجال يستحقُّ المخاطرة. ووفقًا للإحصائيات، تميل الاحتمالات إلى النجاح النهائي، إذ إن حالات كثيرة من الفشل البسيط غالبًا ما تؤدي إلى تحقيق بضعة نجاحات لا بأس بها.14 ففي حالة المدير العام لشركة تكنولوجيا المعلومات الذي رفض الإقرار بقيمة الأفكار الجديدة، فإنه لم يدرك أنه على الرغم من أن معظم الأفكار تُعد عرضة للفشل إذا ما تم تنفيذها فعليًّا، فإن نجاح فكرة أو فكرتين من هذه الأفكار سيجعل من هذا الجهد أمرًا يستحق العناء. وفي هذه الحالة، لم يكن هذا المدير العام مستعدًّا لأن يتلمس طريقه قدمًا بطريقة بناءة، ومن ثَمَّ أخمد إبداع فريقه في العملية.

كما ستتعثَّر العديد من الأفكار والمشروعات إذا كان هناك خوف من الغموض، عندما يدفع الخوف من المجهول إلى مقاومة الأفكار التي لا تتناسب مع التوقعات المعتادة. لذا من الضروري تنمية تفتح الذهن والثقة لكي ينمو الإبداع.

يذكر الأفراد أن هناك ثلاثَ سمات رئيسية في بيئات المدارس والعمل المثالية:15
  • المعلمون/القادة يحترمونني.

  • المعلمون/القادة ودودون، ويمكن تبادل الحديث معهم، ولديهم استعداد للاستماع إليَّ.

  • المعلمون/القادة يشجِّعونني ويساعدونني على تحقيق النجاح.

ولقد أظهرت دراسات استطلاع أجرتها مؤسسة جالوب أن أفضل القادة يخلقون بيئة يشعر فيها الناس أن بإمكانهم بناء الثقة وإقامة علاقات قوية مع الآخرين. فمثل هذه البيئة تُتِيح للأفراد الفرصة للمجازفة مع التعلم، وكذا الفرصة للتطور في بيئة آمنة تتقبَّلهم. فالأفراد الذين يجدون من يستمع إليهم ويقبلهم تنمو لديهم المرونة، بدلًا من أن يقف الخوف عائقًا أمامهم، ومن ثَمَّ يكونون مستعدين لتحمل المزيد من المخاطر. كما يكون لدى هؤلاء الأفراد القدرة على تقبل الغموض بدلًا من الخوف من التناقض الظاهر.

لقد تشجع روزفلت على قيادة دولته في الحرب العالمية على الرغم من الإعاقة الكبيرة التي كان يعاني منها. فقد أصرَّ على أنه «ليس هناك ما نخشاه سوى الخوف نفسه.» ويمكننا أن نستلهم من هذا النموذج الذي ينمُّ عن ثقة هادئة أنه يمكننا بالتأكيد مواجهة المخاوف التي تكبح إبداعنا والسماح لها بالازدهار.

(أ) استراتيجية الإنقاذ الثانية: تَقَبُّلُ الغموض

في نهاية اليوم الأول، كان منظمو المؤتمر الذي كنا نساعد في إقامته مستائين للغاية. فقد تجاوز المحاضرون الرئيسيون لهذا اليوم أدوار غيرهم في الحديث في وقت التبديل دون أي إشارة لذلك، فكان منهم من يصعد إلى المنصة بمجرد أن ينزل الآخر. ومن المؤكد أنهم لم يحصلوا على ما يكفي من الوقت لمناقشة وجهات نظرهم التي كانوا يرغبون في عرضها وتنسيق الأساليب الخاصة بهم. ونتيجة لذلك، كان المتحدث الثاني يهدم كل شيء قاله المتحدث الأول دون أن يدرك ذلك. ومن ثَمَّ كان هناك تناقض بصورة كاملة بين المتحدثين الرئيسيين في ذلك اليوم، ورأى المنظمون أن هذا شوه من صورتهم. ولكن اتضح بعد ذلك أن هذه التناقضات الظاهرة كان لها فائدة إيجابية. فبدلًا من أن يكون الجمهور مجرد «أوعية فارغة» تنتظر من يملؤها بأفكاره، اضطروا الآن إلى التفكير في النهجين المتعارضين بأنفسهم والتوصل إلى استنتاجاتهم الخاصة. تخيَّل أن تُضطرَّ يومًا — لا قدر الله — إلى التفكير فعليًّا باستقلالية في محاضرة بأحد المؤتمرات!

إنَّ التشجيع على تنوع الآراء والأفكار حتى وإن كانت متعارضة من شأنه أن يُثْرِي العملية الإبداعية. فتلقيننا آراءً وأفكارًا متجانسة لا يُفيد كثيرًا مستوانا الإبداعي. والاستماع للمحاضرات وحضور الحلقات الدراسية يجعل العديد من الأشخاص (ضحايا الأنظمة التعليمية السيئة) مجرد «بنوك» للمعلومات المفيدة التي تكون جاهزة للسحب فيما بعد إذا كانت تُجْدِي نفعًا. ولكن من الصعب أن نصبح مبدعين دون أن يكون هناك سبب لذلك؛ أي لا يمكننا أن نكون مبدعين دون أن ندرك حاجتنا إلى البحث عن حلول جديدة أو العثور على إجابات جديدة.

يرى باولو فريري أن الواقع عملية مؤقتة دائمة التغير، تقوم في جوهرها على الحوار والتفكير النقدي.16 فالواقع ليس ثابتًا أو منفصلَ الحلقات أو سهلَ التنبؤ به، حتى إن جعلته بعض الأنظمة التعليمية يبدو كذلك. وقد كانت رسالة فريري الرئيسية للمعلمين هي أن يحذروا من التشجيع على تكديس المعلومات — كما لو كانت أموالًا في البنوك — والذي ينتقي فيه المتعلِّمون السلبيُّون، ويحددون مسبقًا، المعارفَ التي تُودَع في عقولهم. وقد لاحظ فريري أيضًا خطورة كبت إبداع الأفراد بما أسماه «ثقافة الصمت» التي تجعل الأفراد يفقدون وسائل الاستجابة النقدية للأفكار التي تُفرض عليهم بسبب الثقافة السائدة. ويرى أيضًا أن الاستجابة المناقضة أو المعاكسة التي تقاوم الغموض تقع في صميم حرية التعبير والفكر الحر. فعلى سبيل المثال، أظهرت الأبحاث أنه في مجالس الإدارة الأكثر نجاحًا (المجالس التي تقبل «الأزواج المتناقضة التي يسببها الغموض»)، «يكون الحوار النقدي البنَّاء هو أفضل مؤشر على فاعلية المجلس.»17
وتُشير الأبحاث إلى أن البالغين الذين لديهم قدرة عالية على الإبداع يَنْشَئُون عادةً في كَنَف أسر تجسِّد التناقض؛ «فالآباء يُشَجِّعُون أبناءهم على التفرُّد، وفي الوقت ذاته يوفِّرُون لهم الاستقرار. وفي الوقت الذي يلبون فيه احتياجات أطفالهم بشكل كبير، يضعون أمامهم التحديات من أجل تنمية مهاراتهم، وهو الأمر الذي يُكْسِبُهُمْ نوعًا من القدرة على التكيف: ففي حالات القلق، قد يساعد وجود قواعد واضحة في الحد من الفوضى، ولكن عندما يشعر الأطفال بالملل، فإنهم قد يبحثون عن التغيير أيضًا. وهذه المساحة بين القلق والملل هي المساحة التي يزدهر فيها الإبداع.»18

فهم قوة الغموض

يؤكِّد النهج الثاني للتنمية الإبداعية للأفراد على الحاجة إلى تقبُّل الغموض والتعامل معه، بدلًا من رؤية الأمور باللونين الأبيض والأسود فقط وغلق الباب أمام كافة الاحتمالات عند عدم وجود أي خيارات واضحة فيما يبدو. ومن الجدير بالذكر أن قبول أوجه الغموض يُعد من مفاتيح القيادة الناجحة في مجال الابتكار وأحد أسس التفكير الإبداعي. وقد يرتبط الغموض بعدم اليقين بشأن معنى أو استخدام ما، أو برؤية أمور لا تكون واضحة دائمًا أو لا تكون موجودة من الأصل؛ الأمر الذي يؤدي بعد ذلك إلى خلق أفكار إبداعية. يحبِّذ الناس دائمًا أن يكونوا على يقين من الأمور؛ نظرًا لما يحققه لهم من أمان، ولكن تقبُّل الغموض يدور بالكامل حول تبنِّي عدم اليقين.

يرى جيم كولينز أنه يتعيَّن علينا تبنِّي مفهوم «عبقرية الجمع بين المتناقضات»؛19 فعلينا أن نكون قادرين على تبنِّي أمور تبدو متناقضة في عدد من الجوانب في نفس الوقت. وهذا يتطلَّب تَحَلِّينَا بعقل متفتح ونقي، وقدر كبير من الشجاعة لمواجهة الخوف الذي يَقْتُلُ المرونة.
لا يخاف القادة المبدعون الموتَ؛ فهم يستخدمون الشجاعة لتعلُّم كيفية الاستفادة منه. ونماذج القيادة الجديدة ليست نماذج ثابتة بل هي متغيرة، فالقائد الجديد يتميَّز بالمرونة والقدرة على التكيف بسهولة مع الاحتياجات والمتطلبات السريعة التغير. وقد تقف اللغة عائقًا أمام القادة؛ مما يجعلهم يفقدون القدرة على التعامل مع المشكلات الهامة وحلِّها بإبداع. ويَكْمُنُ سر التغلُّب على ذلك في تعلُّم تبني الغموض، بيد أن العديد من القادة يجدون صعوبة في هذا الأمر؛ فهم يعتقدون أنهم ينبغي لهم أن يقودوا الموظفين باتخاذ قرارات قوية وحاسمة لا لبس فيها، ولكنهم لا يدركون أنه من الضروري دراسة كافة الخيارات المتاحة بعناية قبل اتخاذ قرارات سديدة. وهذا الأمر يتطلَّب تفكيرًا جانبيًّا إبداعيًّا خارجَ نطاق قواعد اللغة الحالية. ويرى بيتر سينج20 أن فرق الإدارة تَمِيل إلى مواجهة الحقائق المعقدة والمتغيرة بلغة تتناسب مع المشكلات البسيطة، كما يرى بأنه قد حان الوقت للتفكير والعمل بإبداعٍ أكبرَ حالُنا في ذلك حالُ القادة. فالتفكير الإبداعي لن يتأتَّى لنا إلا عندما نتعلَّم كيف نفكِّر خارج نطاق المعطيات المحدَّدة لنا، وذلك عند وجود بيئة لغوية تفسح المجال أمام تدفق الأفكار الإبداعية.

إطلاق العنان للقدرة على مواجهة الغموض

قلَّمَا تكون الأفكار الإبداعية سديدة من المرة الأولى. في حقيقة الأمر، فرصة المبتكرين للبدء بالاستراتيجية المُلائِمة لا تتجاوز نسبة ١٠٪. وما يصنع الفارق في المؤسسات الإبداعية هو أنها تبدأ على أيِّ حال، حتى إن كان ذلك قبل وضع كافة العناصر في أماكنها الصحيحة. ففي مجال الأعمال من الأفضل أن «تتلمَّس طريقك قُدُمًا» بإبداع على ألا تتحرك على الإطلاق. فإذا كنا نرغب في العمل بإبداع، فهذا يعني غالبًا أن الحلول الكاملة لن تكون متاحة. فمثلًا: بينما انتظر الكثيرون حتى يتأكدوا من جدوى خطواتهم المستقبلية، مضت شركة جوجل قدمًا في اختبار استراتيجيتها وإعادة النظر فيها ثلاث مرات قبل أن تتوصل إلى الاستراتيجية الناجحة التي تحرِّك أعمالها اليوم. فالمُضِيُّ قُدُمًا في تنفيذ الأفكار الإبداعية قبل التيقُّن تمامًا من جدواها يعني أنه سيكون من المهم مواجهة الغموض والتعامل معه على طول الطريق.

ونحن بحاجة إلى التشجيع على التفكير الثنائي، فمعظم القادة الناجحين مفكرون تكامليون؛ بمعنى أن بإمكانهم التفكير في فكرتين متعارضتين في وقت واحد والتوصل إلى فكرة جديدة تتضمَّن عناصر من كلتا الفكرتين ولكنها أفضل من الاثنتين. وهذا هو ما يُسمى بعملية التحليل والتوليف (بدلًا من الاستراتيجية الفائقة أو التنفيذ بدون أخطاء). فهذه العملية تعزِّز العلاقات المتعددة الأبعاد غير الخطية، كما أنها تساعد على تسوية التوتر بين الأفكار المتعارضة من خلال التوصل إلى بدائل جديدة.21

ولذا ابتسمنا عندما أبلَغَنَا منظِّم المؤتمر أن وجود محاضرينِ رئيسيينِ يختلفان حول نفس الموضوع هو أسوأ شيء مرَّ به طوال مسيرته المهنية في تنظيم الفاعليات. فقد أعجبنا في حقيقة الأمر أن يكون لدى المتحدثَيْنِ الشجاعة للتعبير عن أفكارهما المتعارضة؛ الأمر الذي أعطى الجمهور الفرصة للتفكير بشأن هذه الأفكار بأنفسهم. فلنُدخل الغموض في ساحة العمل!

التدرب على أسلوب التفكير الغامض

حتى يتسنَّى لنا استخدام الغموض كأداة إبداعية، يجب أن نسمح بوجود أمرين متناقضين في عدد من الأبعاد المختلفة في نفس الوقت، وأن نتعلَّم كيفية التوليف بين الأمور التي تبدو أضدادًا غير متوافقة. فبدلًا من اختيار «أ» أو «ب»، علينا أن نفكِّر في كيفية الجمع بين «أ» و«ب»؛ مثل:
  • الهدف المعنوي والربح المادي.

  • الاستمرارية والتغيير.

  • الحرية والمسئولية.

  • القوة والحساسية.

  • العقل والعضلات.

  • الدافع واللامبالاة.

  • الاتساق والصراع الإدراكي.

  • الثقة والريبة.

  • الاستقلالية والمشاركة.

  • البعد والقرب.

  • الإبداع والانتقاد.

جرب هذا التمرين: تأمل أنك تقود سيارتك في ليلة عاصفة ثم تمر بمحطة للحافلات وترى في هذه المحطة ثلاثة أشخاص ينتظرون الحافلة:
  • سيدة عجوز تبدو على وشك الموت.

  • صديق قديم أنقذ حياتك يومًا ما.

  • المرأة المثالية التي تحلم بها (أو الرجل المثالي؛ في حالة أن يكون القائم بالتدريب سيدة).

فأي من هؤلاء الثلاثة ستعرض عليه الركوب في السيارة، مع العلم بأنه لا يمكنك إلا أن تُقِلَّ سوى شخص واحد؟ يمكنك أن تُقلَّ السيدة العجوز لأنها أقربهم للموت، ومن ثم تكون واثقًا أنك ستنقذ حياتها، أو تُقلَّ صديقك القديم لأنك مدين له، وهذه هي الفرصة الأمثل لرد الجميل له. لكن في أي من الحالتين، قد لا تتاح لك الفرصة مرة أخرى للعثور على فتاة/فتى أحلامك …

التطبيق العملي لتقبل الغموض

فكِّر في مشكلتين ليس لهما — فيما يبدو — سوى حل واحد من بين حَلَّيْن، وتوصَّل إلى طرق إبداعية يمكنك من خلالها الجمع بين الاحتمالين المتاحين. هذه المعضلة الأخلاقية التي ذكرناها للتو قد استُخدمت بالفعل من قبل كجزء من استمارة التقدم لعمل. ولم يجد المرشح الناجح الذي تمَّ تعيينه (من إجمالي ٢٠٠ مرشح) أيَّ صعوبة في الوصول إلى الحل التالي: «سأعطي مفاتيح السيارة لصديقي القديم ليُقلَّ السيدة العجوز معه إلى المستشفى. وسأبقى أنا وأنتظر الحافلة مع الفتاة التي أحلم بها.» فهذه الإجابة تظهر مدى إمكانية الوصول إلى حلول إبداعية عند تقبُّل الغموض وعدم غلق باب الاحتمالات.

ملخص استراتيجية الإنقاذ

  • تحلَّ بالشجاعة لمواجهة الخوف من الفشل المحتمل وعدم اليقين.

  • تعلَّم كيفية تقبُّل وتبنِّي الأفكار التي تبدو متعارضة لفتح المجال أمام احتمالات جديدة.

(٢) المرحلة الثانية: المبادرة – الاستقلالية وتفتح الذهن للتخلص من الضغوط وتحقيق النمو

المرحلة الثانية من عملية الإنقاذ تتضمَّن التحرر من الضغوط والتوقعات، وتفتُّح الذهن لتحقيق النمو. وتشتمل على الاستقلالية التي تحرر العقل فيترقَّب الاحتمالات العديدة، والانفتاح العقلي الذي يضمن وضع وجهات النظر المختلفة في الاعتبار.

(٢-١) نمط المنقذ الثالث: الاستقلالية

توفر وسيلة الإنقاذ التخيلية هذه وجهةَ نظرٍ موضوعية حول أي موقف. فالاستقلالية توفر الفرصة للتفكير الهادئ غير الانفعالي حول الأفكار والأفعال. والاستقلالية تتمتَّع بإرادة حرة تمكِّنها من تقبُّل أي عدد من الاحتمالات دون قيود أو أحكام، فضلًا عن أنها تسلِّط الضوء على من لديه اليد العليا من خلال قدرتها على استبعاد العديد من القتلة الذين يسببون قدرًا كبيرًا من الضغط. واستراتيجية الإنقاذ المفضلة للاستقلالية هي إطلاق العنان للخيال. فهي تتولى مهمة الإنقاذ من القتلة المنتمين إلى جماعة الضغط، حيث الإجهاد المفرط وتعدد المهام والتوقعات، والذين يختارون الإجهاد الخانق سلاحًا لهم.

وأحد الاختبارات الأساسية للشجاعة هو الشجاعة اللازمة عند مواجهة الضغط. ففي هذه المواقف، من الضروري أن تتذكَّر أنك تتمتع بحرية الاختيار وأن تستدعي الاستقلالية لتساعدك في مثل هذه المواقف. فمهما شعرنا أننا مستضعفون أو محاصرون بالضغط، تكون حقيقةً لدينا الوسائل التي تمكننا من أن نقرر بأن هذا يكفي. لذا يجب نتحدَّى هذه الشهية النهمة للإجهاد في حياتنا المعاصرة والتصدِّي لها وجهًا لوجه. وتمكِّن الاستقلالية الأفراد من التعرف على القيود الخانقة التي تتسبب في كبحهم، فضلًا عن تمكينهم من إيجاد سبل للتحرر من هذه القيود. كما أنها توفر رؤية موضوعية للوضع وتمنح الفرصة للتفكير الهادئ بشأن الأفكار والأفعال.

والخطوة الأولى التي تحتاج الاستقلالية لاتخاذها هي الابتعاد عن «الانشغال» الدائم، وأخذ «فترة راحة». ففترة الراحة تساعد على توفير منظور مختلف؛ ومن ثم يمكنك تحديد الأولويات بمزيد من السهولة، وتقييم التوقعات لتمييز الواقعية من غير الواقعية. كما أنها ستوفر لك فترة راحة بدنية وذهنية وشعورية يكون جسدك في أمسِّ الحاجة لها، وهذا يساعد على إرساء الأسس للتعلُّم والابتكار. ومن المكاسب غير المتوقَّعَة التي نحقِّقها من أخذ فترة راحة أنها تشمل كذلك قدرًا من الغموض؛ فيمكن أن تأخذ فترة راحة وتتوصل إلى حلول مبتكرة. ويحدث ذلك لأننا عندما نأخذ استراحة من موقف ما، فإن عقولنا تظلُّ تعمل على حل المشكلات من خلال المعالجة غير الواعية. فأيُّ شخص يترك العمل وما زالت توجد مشكلة مُلِحَّة لم يتم حلها بعد، تمرُّ به أثناء الليل لحظة إدراك مفاجئ للحل، رغم أنه لم يعدْ يفكر في المشكلة. ويحدث هذا نتيجة للمعالجة غير الواعية.

الأكثر تشويقًا أن الأشخاص الذين يتمتَّعون بقدرة عالية على الإبداع يبدو أنهم قادرون على استخدام المعالجة غير الواعية للأفكار المبتكرة أكثر من غيرهم، وهذا ما يميزهم ويفاضلهم عن نظرائهم. وقد توصل الدكتور جيسون إلى أنه بعد حصول الأشخاص على فترة راحة فإنهم يتمكنون من الوصول إلى حلول مختلفة أكثر مما يمكنهم الوصول إليها عند العمل بشكل مستمر على مشكلة ما. كما توصَّل في تجربة أخرى في هذا الصدد إلى أن الأشخاص الذين يتمتَّعون بقدرة عالية على الإبداع يوظفون وقت المعالجة غير الواعية بشكل أكثر فاعلية من غيرهم. وإذا ما فكرنا لدقيقة في هذا الأمر، فسيتَّضِح أنه رغم أننا لا نُدرك بوعي سوى قدر محدود من الأشياء في أي وقت، فإننا يمكننا القيام بعدة أمور تلقائيًّا؛ فعلى سبيل المثال، يمكنك قيادة السيارة وإجراء محادثة مع أحد الركاب في نفس الوقت. إذن عندما تركِّز فعليًّا على أي مشكلة في العمل، ماذا يحدث لأجزاء المخ التي تقوم بترميز الانفعالات والتفكير المجرد والصور المرئية؛ على سبيل المثال؟ توضِّح الأشعة التي تَمَّ إجراؤها على المخ أن هذه الأجزاء لا تزال نشطة وفي كثير من النواحي تفعل ما تفعله دائمًا، وببساطة لا يمكنها الوصول إلى إدراكك الواعي. وخلاصة القول هنا أن هذه الأجزاء يمكن استدعاؤها لابتكار طرق تفكير مختلفة بشأن أي موقف من أجل التوصل إلى حلول مبتكرة.

قاست التجارب التي استخدمت فحوصات موجات المخ نشاطًا عصبيًّا جديدًا، عندما تعرَّض أحد الجرذان لموقف جديد. وقد أظهرت هذه التجارب أنه عند إعطاء الجرذ فترة راحة بعد تعرضه لهذا الموقف، لوحظ أن الخلايا العصبية الجديدة تحفزت عبر المخ من الحُصين، وهو نقطة الوصول إلى الذاكرة في المخ. وهذا يضع أساسًا واضحًا للتعلُّم، وعلى الجانب الآخر، إذا لم تحصل على فترة راحة، فسيحدث ضرر في الخلايا العصبية، وسيؤدي هذا الضرر الممتدُّ إلى الحد بشكل كبير من قدرتك على التفكير على نحو إبداعي والتعلم خلال هذه العملية. تخيَّل مدى الضرر الذي من الممكن أن يلحق بأدمغتنا إذا استمررنا في إثارة عقولنا من خلال المحفزات المتزامنة والمستمرة، كما هو الحال عند تعدُّد المهام بوعي. فبدلًا من أن نأخذ فترة راحة، نميل إلى «المُضِيِّ قُدُمًا» في الأعمال التي نحتاج إلى القيام بها بلا هوادة أو كلل دون أن نَأْبَهَ بما نحن عليه من إرهاق ومدى إجهاد أدمغتنا المسكينة. وربما نمنح أنفسنا في النهاية بعض الوقت للراحة أو نحظى بلحظات قليلة هادئة في اليوم (عند الجلوس في محطة الحافلات أو عند سيرنا إلى العمل على سبيل المثال)، ولكنْ بدلًا من أن نقضي هذه الأوقات الهادئة في الاستمتاع بهذه اللحظات والسماح لعقولنا بالتجول والتأمل بصورة بناءة، نستمر في ملئها بأنشطة مجهدة للعقل، مثل كتابة الرسائل النصية أو إرسال التغريدات أو البحث على الإنترنت أو ممارسة بعض الألعاب. وإذا قمنا بذلك فإننا ببساطة لا نعطي عقولنا المساحة التي تحتاجها لتكون إبداعية. وثمة عدد من الباحثين بصدد البدء الآن في إجراء بعض الدراسات لمعرفة مدى تأثير الاستخدام المستمر للتكنولوجيا على الإبداع والخيال لدى الأجيال القادمة.

تعمل شركة برايت هاوس — المختصة باستشارات الابتكار — جاهدةً على توفير فرص التفكير المستقل لموظفيها ومن ثَمَّ تفتح الذهن على الإبداع.22 فبالإضافة إلى الإجازة السنوية الاعتيادية التي يحصل عليها موظفو الشركة وقدرها خمسة أسابيع، فإنهم يحصلون أيضًا على خمسة أيام إضافية (تُسمى «أيامك الخاصة») لتخصيصها للتفكير الحر. وعلى نفس الشاكلة، تسمح شركة مادوك دوجلاس لاستشارات التسويق وتطوير المنتجات لموظفيها بالحصول على ما يصل إلى ٢٠٠ ساعة في العام لمتابعة مشاريعهم الشخصية.23

ربما لا تزال تتعرَّض لضغوط في عملك أو حياتك، وفي الواقع كما ذكرنا آنفًا، الكثير يتحلَّون بالإبداع أكثر تحت الضغط، وربما يُجدي ذلك نفعًا لك، ولكن من الضروري أن تشعر بأنك مسيطر على الوضع. ومن الضروري أيضًا أن تشعر بأن تعرضك لهذا الضغط هو أمر من اختيارك ولم يُفرض عليك من الخارج، ويعتبر ذلك هو السبب الكامن وراء أهمية الاستقلالية في التعامل مع تهديدات الضغط المحتملة. ويتاح أمام كل شخص قدر معين من الاختيار، وذلك في إطار قيوده وتوقعاته المعتادة، فعلى سبيل المثال، هل تظل مستيقظًا لوقت متأخر من الليل لإنجاز مشروع ما لأنك طُلب منك القيام بذلك، أم لأنك لم تنظم وقتك جيدًا بحيث تتمكن من إنهائه في ساعات العمل العادية؟ هل تُلْقِي باللوم على شخص أو شيء آخر بخصوص ما تشعر به من إجهاد، أم تعمل على تطوير آليات التكيف لديك بشكل أفضل؟

ولتقليل الضغط، من المهم ضمان وجود مُتَّسَعٍ من الوقت عندما لا يكون هناك مواعيد تسليم أو توقعات أو التزامات. ويمكن مواجهة العوامل المسببة للضغط دون الشعور بالإجهاد من خلال إدارة الأفكار والممارسة اليومية لأساليب الاسترخاء. ففي نهاية الأمر، يتمكَّن مروِّضو الأسود من الحفاظ على هدوئهم عند التعامل مع الأسود! فبتقليل الضغط يمكنك تشجيع الاستقلالية وتحفيز التفكير الحر غير المقيد وإطلاق العنان للخيال. وهذا الأمر ينطبق على المؤسسات والأفراد في الوقت ذاته؛ فالمؤسسة التي عادةً ما تكون مجهدة وخاضعة للضغوط ومتأخرة عن مواعيدها، من المؤكد أنْ يكون لديها قيود كبيرة للغاية تَعُوق قدرتها على المُضِيِّ قدمًا بإبداع.

(أ) استراتيجية الإنقاذ الثالثة: إطلاق العنان لخيالك

هل تتذكَّر حينما كان السفر يوفر فرصة لصفاء الذهن؟ عندما استغللت هذا الوقت لتحلم بالمستقبل أو التخطيط لحدث مميز أو لحل بعض المشكلات التي تدور في خَلَدِك أو — كما هو مفترض — في الاسترخاء والراحة؟ ففي حين أن وقت السفر عادةً ما يكون غير منظم وغير مركز، مما يتيح فرصًا للتفكير الحر، فإنه يُستخدم الآن في معظم الأحيان في إنجاز التزامات شخصية وعملية. فكم مرة رأيت فيها أشخاصًا يرسلون رسائل نصية في وسائل المواصلات العامة أو يتصلون فيها بأصدقائهم لإجراء ترتيبات اجتماعية أو يستخدمون فيها أجهزة الآي فون أو البلاك بيري لإجراء عمليات بحث على شبكة الإنترنت أو إرسال رسائل إلكترونية أو إجراء مكالمات للعمل؟ وكم من مرة رأيت فيها أشخاصًا على متن الطائرات يستخدمون أجهزة اللاب توب الخاصة بهم في إعداد عروض باور بوينت أو في تدوين خطط الأعمال؟ وكم من مرة فعلت ذلك؟ مما لا شك فيه أن هذا استغلال جيد للوقت «المهدَر» أثناء التوقُّف عن النشاط، ولكن من الممكن أن يأتي ذلك على حساب إطلاق العنان لخيالك.

في هذه الأيام، معظم أوقات الناس منظمة بدقة شديدة بحيث لا يتوفر لديهم سوى قدر ضئيل للغاية من الوقت «للتفكير الحر»، ذلك النوع من التفكير الذي يشجِّع على الأفكار الإبداعية. فوقت «التفكير الحر» يسمح للعقل بالترحال إلى بيئات جديدة ومصادفة أفكار جديدة (مستفيدًا من مختلف جوانب المخ عندما لا يكون العقل مركزًا على شيء محدد). وقد نما لدينا اعتقاد خاطئ بأنه كلما قضينا مزيدًا من الوقت في التركيز على أنشطة العمل، زادت إنتاجيتنا، ولكن في بعض الأحيان لا تتحرر عقولنا بالفعل لتصبح مبدعة إلا عندما نتوقَّف ونسترخي. فطبقًا لما قاله دي بونو،24 علينا كل يوم خلق «فرص هادفة» تُمَكِّنُنَا من السماح لعقولنا بالتأمل، ولا بدَّ أن يكون هذا الأمر جزءًا من روتيننا اليومي. ولنتأمل استراتيجية جوجل الشهيرة التي تمنح كل موظف من الموظفين يومًا في الأسبوع يجرب فيه أدواتٍ أو أفكارًا جديدة.

لا يعمل الخيال إلا في مساحة التفكير التباعدي في عقولنا. فنحن نعلم بديهيًّا أن فترة التوقف عن النشاط تحفِّزُ حِسَّ الابتكار لدينا؛ فعندما نقترح على أحدهم أن يأخذ بعض الوقت للتفكير في أمر ما ليتمكن من الوصول إلى حل، فإننا نسمح بذلك لتفكيره التباعدي بالعمل ونُفْسِح مجالًا لخياله حتى يتنفَّس. ويعمل هذا على زيادة المساحة الكلية المتاحة في عقولنا لتلقِّي أفكار جديدة.

فهم قوة الخيال

متى تراودك أفضل الأفكار وأكثرها إبداعًا؟ الأجوبة الشائعة على هذا السؤال هي عند الاستحمام أو عند الاستيقاظ من النوم أو عند الخلود إلى النوم، والسبب هو أن عقلك في هذه الأوقات يكون في أكثر لحظات التفكير تباعدًا وأقلها تركيزًا.25

ما الصفات المشتركة بين الأشخاص التالين؟

  • مانفريد أيجن، الحائز جائزة نوبل في الكيمياء (١٩٦٧).

  • دونالد كامبل، الحاصل على جائزة المساهمة العلمية من جمعية علم النفس الأمريكية (١٩٧٠).

  • فريمان دايسون، الحاصل على ميدالية ماكس بلانك (١٩٦٩): الديناميكا الكهربائية الكمومية.

  • كيكولي، كيميائي القرن التاسع عشر: التركيب الجزيئي للبنزين.

  • أرشميدس: نظرية الوزن في المياه.

الإجابة: لم يكن أيٌّ من هؤلاء الأشخاص يعمل باجتهاد على «اكتشافه» عند توصله إليه.26 ويُعد التفكير التباعدي أحد المفاتيح الرئيسية للإبداع، ويُعرف هذا التفكير بأنه القدرة على السماح للعقل بالترحال ليذهب إلى أماكن لم يذهب إليها من قبل، ليحلم. عندما تسمح لعقلك بالتأمُّل، فأنت بذلك تستخدم أقوى أداة إبداعية تتمتع بها وهي الخيال. ويقول ألبرت أينشتاين: «الخيال هو عرض مسبق للأشياء الجذابة المقبلة في حياة المرء.»
تذكر أن ٩٨ بالمائة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاث إلى خمس سنوات يسجلون أعلى مستوى في التفكير التباعدي، بينما يسجل ٢ بالمائة فحسب من البالغين مستويات مماثلة.27 فعادةً ما نفقد القدرة على التفكير التباعدي مع التعليم والتثقيف النظاميين، لكن هذا لا يمنع أن التفكير التباعدي يلعب دورًا رئيسيًّا في مساعدتنا على حل المشكلات بإبداع.

إطلاق العنان لأساليب الخيال

يمكن تنمية الخيال عن طريق تجربة تمارين مخصصة لتوسيع نطاق التفكير ليتمكَّن عقلك من استكشاف نطاق من الاحتمالات.

يُستخدم اختبار بقع الحبر لرورشاخ منذ قرابة ٩٠ عامًا في مساعدة الأشخاص على استكشاف ما يُعتقد أنه أفكار وتفسيرات مختلفة والكشف عن رغباتهم ودوافعهم غير الواعية. وليس بالضرورة أن تؤدي الأفكار الخيالية إلى تحقيق نجاحات هائلة؛ فقد يكون الإبداع التدريجي على نفس الدرجة من الإنتاجية بل وأكثر نجاحًا في كثير من الأحيان.

عمل الخرائط الذهنية28 هو تمرين على إيجاد صلات وتوليد أفكار من أجل حل المشكلات. جربْ هذا التمرين البسيط الخاص لنرَى إلى أين سيقودك: اكتب الكلمة الرئيسية «السعادة» في منتصف ورقة، وارسم خطوطًا تخرج من هذه الكلمة، ثم اكتبْ أفكارك عمَّا يَعنِيه هذا المفهوم بالنسبة لك. تابع هذه العملية حتى تصل إلى أكبر عدد ممكن من المفاهيم المختلفة المنبثقة من المفهوم المحوري.

والآن دعنا نطبقه على مجال الأعمال: اكتب السؤال المحوري أو المسألة الغامضة المراد حلها (مثل: «كيف يمكن بيع منتج ممتاز بدون خصم؟») ثم ارسم خريطة ذهنية لحل هذه المسألة (مثل دراسة تعبئة المنتج، وتغيير عادات العملاء، وتغيير المنتج والخدمة والإنتاج). وفكر بشأن مكان بيع المنتج وكيفية بيعه والأشخاص الذين سيُباع إليهم (على سبيل المثال في المدن فقط). هل هناك أي جوانب غامضة يمكن وضع خريطة ذهنية لها؟

التدرب على أساليب الخيال

  • حاول رؤية الأشكال في السحاب.

  • فكر في ١٠١ استخدامٍ لكرة البلياردو.

  • توصَّلْ إلى تفسيرات مختلفة للكلمات الموجودة في القاموس.

  • توصَّلْ إلى تفسيرات مضحكة جديدة لأسئلة الأطفال المعتادة (مثل «من أين تأتي الجنيات؟» و«ما الذي يجعل الطائرة تطير؟» و«لماذا يحدث رعد وبرق أثناء العواصف؟»)

  • ارسم شكلًا متناظرًا بوضع دهان في وسط الصفحة ثم اثْنِ الورقة من المنتصف، كما هو الحال في اختبار رورشاخ، وحاول الوصول إلى خمسة تفسيرات مختلفة على الأقل لما يمكن أن يكون عليه الشكل.

التطبيق العملي لإطلاق العنان للخيال

عندما يكون لديك مشكلة أو مسألة ما تتطلَّب حلًّا، اسأل نفسك أسئلة «ماذا لو؟» واستخدم خيالك في التوصل إلى أفكار جامحة ومجنونة. في بعض الأحيان يمكن الوصول إلى أفضل الحلول خلال أبعد الأفكار احتمالًا، إذ تنفتح مدارك عقلك على نطاق جديد من الاحتمالات.

ملخص استراتيجية الإنقاذ

  • قاوم الضغوط.

  • أدرك أنك تتمتَّع بالقدرة على استمرار التحكم في تأثيرات الظروف الخارجية.

  • أعدَّ منصة لإطلاق العنان لخيالك.

(٢-٢) نمط المنقذ الرابع: تفتح الذهن

يطلق هذا المبادِر، المستقبِل للأفكار، العنانَ للتفكير الإبداعي؛ فتفتح الذهن يمكِّن المرء من إدراك أفكار متنوعة وأغلبها متعارض بعضه مع بعض. ويرى تفتح الذهن قيمة ما في جميع الأشخاص، كما يدرس جميع الخيارات والأفكار. وبعض أكثر الأفكار عمقًا التي يقبلها تفتح الذهن لا تنبع من «الخبراء»، رغم أنهم ينبغي الاستماع إليهم أيضًا. ويخلق تفتح الذهن فرصًا هائلة عبر عدم التقيد بأنماط التفكير المفضلة والتطرق إلى كافة المناهج الممكنة. إن استراتيجية الإنقاذ المفضلة التي يتبعها تفتح الذهن هي استخدام شِقَّي المخ. فهو ينقذنا من القتلة المنتمين إلى زمرة العزل، مثل وسائل الإعلام المتحيزة، والتجانس والافتقار إلى التنوع، وسلاحهم المفضل هو «الانحياز الصارم».

إن تقييد تعرُّضك لمصادر المعلومات يصبح مشكلة بالتأكيد عندما يتعلَّق الأمر بالابتكار، وقد يؤدِّي إلى عزل غير صحي. ورغم أننا قد سبق أن تعرفنا على وسائل الإعلام كمشتَبَه به واضح في جريمة قتل التفكير الإبداعي، فعلينا أن نطبق استراتيجية التفكير الإبداعي الثانية هنا؛ علينا أن نكون على استعداد لتقبل الغموض. فالإعلام في حد ذاته ليس إيجابيًّا ولا سلبيًّا بطبيعته. فبناءً على كيفية استخدام وسائل الإعلام، يمكنها أن تكون أحد قتلة الإبداع أو أحد منعشيه. وحالها حال النار التي من الممكن أن تسهم بإيجابية في حياتنا حين السيطرة عليها، لكن في حالة عدم السيطرة عليها يمكنها أن تكون شديدة التدمير، فوسائل الإعلام لديها القدرة على كل من إلحاق الضرر وتقديم المساعدة.

بالتأكيد لا تستخفُّ جميع البرامج التليفزيونية بعقولنا، فهناك بعض البرامج التي تتطلَّب من المُشَاهد محاولة فهم موضوعات غامضة ذات خيوط متعددة من شأنها أن تشجِّع على تنمية الإبداع.29 (وتعدد الخيوط هو مصطلح يُستخدم في علوم الكمبيوتر للإشارة إلى قدرة أجهزة الكمبيوتر على معالجة العديد من مصادر الإدخال في آن واحد، وينبغي عدم الخلط بينه وبين تعدُّد المهام الذي عادةً ما يُخْمِد الإبداع.) فبعض الحبكات المعقدة للمسلسلات التليفزيونية القصيرة الناجحة — التي غالبًا ما يشارك فيها العديد من الشخصيات في قصص مختلفة ويواجهون مشكلات مختلفة — قد تصعب فيها عملية تجميع أجزاء القصة. فمسلسلات مثل «٢٤» و«الأبطال» و«الهامشية» أخذتنا عبر مناطق زمنية وعوالم موازية مختلفة؛ ففي إحدى حلقات مسلسل «الأبطال» على سبيل المثال تَمَّ تناوُل قصة أكثر من عشرين شخصية رئيسية من ثلاث مناطق زمنية؛ مما يتطلب توسيعًا فعليًّا للنطاق الإبداعي لفهم القصة بالكامل، فضلًا عن إيجاد الحلول! ورغم أن الكوميديا التليفزيونية التقليدية كانت تعتمد عادةً على جملة تستغرق ثلاثين ثانية تمهد للجملة المثيرة للضحك، فإن النكات في مسلسلات مثل «آل سيمبسون» تعمل على عدد من المستويات المختلفة، فتتضمَّن تفاصيل دقيقة جديدة للفكاهة لا تظهر إلا بعد مشاهدتها بضع مرات.
وثمة اختلاف بين البرامج الذكية والبرامج التي تجبر المشاهد على أن يكون ذكيًّا. فعندما لا يتحقَّق النشاط الفكري إلا داخل الشاشة، لا تكون هناك حاجة لأنْ يتحلَّى المُشاهِد بالإبداع. فمشاهدة البرامج الذكية لا تحرِّك العقل مثلما لا تحرِّك البدن مشاهدة كرة القدم على شاشة التليفزيون، ما لم تستجبْ لها وتتصرَّف بناءً عليها. لكن عندما يُجبَر المشاهد على ملء التفاصيل واستدعاء قوة العقل الإدراكية المُلحَّة، ستكون هناك فرصة أمام التفكير الإبداعي للازدهار.30
عندما تلعب الشطرنج أو المونوبولي (بنك الحظ)، فليس هناك أي غموض في القواعد أو مستويات التقدم من المبتدئين حتى الخبراء. وحقيقةً، في أغلب الألعاب إذا كانت القواعد غامضة فسيكون هناك خلل فتَّاك في اللعبة. ومع ذلك، ففي العديد من ألعاب الفيديو نادرًا ما تكون قواعد اللعبة محددة مسبقًا، ولا تتَّضِح إلا عند التعمق في اللعب. ويظن الكثير من الناس أن ألعاب الفيديو لا تفيد إلا في تنمية القدرة على التآزر بين حركة اليدين والعينين، لكن مفتاح النجاح الأخير في ألعاب الفيديو يكمُن في حل شفرات قواعدها واستكشاف الفيزياء المعقدة لأحد العوالم، مثلما يفعل أي عالِم. ومن الضروري تطبيق الأساليب العلمية عند تقييم المخاطر المحتملة وتمييز الأنماط والتفكير التشاركي والتحليل. كما تستخدم برامج تليفزيون الواقع أداة هامة في ألعاب الفيديو وهي مرة أخرى عدم تحديد القواعد. وخلال فحص قواعد النظام للوقوف على نقاط الضعف والفرص، يُشجع المشاهِد على التفكير في خيارات مختلفة للوصول إلى نتائج محتملة مختلفة. فيُمرَّن العقل عند حل الألغاز أو كشف الأنماط أو فك خيوط نظام سردي معقد.31

وبعيدًا عن وسائل الإعلام، هناك عدد كبير من الفرص الأخرى للانفتاح على التفكير الإبداعي. ومن المهم معرفة كيفية استخدام جميع مناطق المخ للتحرر من طريقة التفكير أحادية المسار التي يفرضها علينا العزل، والانفتاح على فرص غير تلك التي يميل العقل إليها بطبيعته.

من المعروف منذ فترة أن لكل شِقٍّ من شِقَّيْ مخ الإنسان أدوارًا مهيمنة مختلفة. ووفقًا «لنظرية المخ المشطور»،32 التي اشتهرت بدايةً منذ ما يزيد عن خمسة وثلاثين عامًا، فإن شِقَّي المخ يؤديان وظيفتين مختلفتين تمامًا. فبينما يسيطر شق المخ الأيسر على الكلام واللغة، ومن ثم يركز أيضًا على المهام المنطقية والمفصلة، يتحمَّل شِقُّ المخ الأيمن مسئولية المهام البصرية والحركية. وقد اكتشف الباحثون هذا الاختصاص في الوظائف عندما بتروا الجسم الثفني (وهو حبل سميك من الأعصاب يربط بين شِقَّي المخ المختلفين) للمرضى الذين كانوا يسعون للارتياح من الصرع. وقد أصبح هذا المفهوم أكثر شيوعًا في الآونة الأخيرة لدرجة تصنيف الأشخاص إلى مفكرين «يساري المخ» ومفكرين «يميني المخ» استنادًا إلى شق المخ الذي يُعتقد أنه هو المهيمن.

ومع ذلك، لم يحدد علم الأعصاب بشكل قاطع الوظائف التي يختصُّ بها شِقُّ المخ الأيسر والأيمن. فالمخ عضو شمولي ومعقَّد للغاية بحيث يصعُب اختزاله إلى مثل هذا المبدأ المفرط في التبسيط. وكي نجعل المفهوم واضحًا وعمليًّا، سنشير إلى المخ على أنه ثنائي الوظيفة فحسب؛ فالتعمُّق أكثر من هذا سيعقِّد المناقشة، وهو ما لا يخدم غرضنا. ولتبسيط هذه المسألة إذن، ينظر بعض الناس إلى المشكلات من ناحية عملية وواقعية بحتة، متجاهلين الخيال والعاطفة، بينما ينظر البعض الآخر إليها من منظورٍ أكثرَ خيالًا وتأملًا قائمٍ على المشاعر، رافضين المنطق. (وتختص مناطق مختلفة من المخ بالعواطف، ولكنها غائرة، وليست في الجانب الأيمن على وجه التحديد.) وللتعامل مع هذه المشكلة بشكل مبسَّط، أشرنا إلى هذا الأمر ﺑ «هيمنة شق المخ الأيسر» و«هيمنة شق المخ الأيمن»، على الرغم من أن هذه الفكرة قد عفا عليها الزمن قليلًا.

ومن المثير للاهتمام أن الحيوانات ليس لديها الاختصاص نفسه في شقَّيِ المخ، إلا أنه تَمَّ التوصُّل إلى أنها تتمتع بالقدرات نفسها بنسب متساوية تقريبًا في كلا جانبي المخ. (فالدلافين لا تنام أبدًا لقدرتها على إراحة أحد جانبي المخ بينما تستخدم الجانب الآخر، وهكذا تعمل على التبديل بين جانبي المخ!) ولقد أظهر هذا في بداية الأمر أن الهيمنة الجانبية في مخ الإنسان نمو تطوري، إلا أن الأبحاث التي أُجْرِيَتْ في الآونة الأخيرة أثبتت أن الهيمنة الجانبية هي إحدى وسائل المخ لإيجاد مساحة أكبر للنمو. وهو الأمر الذي اتضح بالحقيقة التي تفيد بأنك عندما تعتمد في بعض الوظائف على أحد جانبي المخ وتسمح للجانب الآخر باكتساب تخصص جديد، فإنك بذلك تُفعِّل القدرة على استخدام المزيد من الوظائف.33

وهذه الوظائف ليست محددة المكان بصرامة، بمعنى أنك لا تستطيع التمتع إلا بقدرة واحدة أو أخرى وحسب. إذ يتصل شِقَّا المخ أحدهما بالآخر بعدة جسور عصبية تُعرف باسم الصوار (أكبر هذه الجسور هو الجسم الثفني). وهذا الجسر جنبًا إلى جنب مع جسور عصبية أصغر حجمًا يمكِّننا من توليف المعلومات المستخلصة من كلا المصدرين؛ ومن ثم لسنا يَمِينِي المخ أو يَسَارِي المخ تمامًا. وكلما تعلَّمنا استخدام هذه الجسور، زادت مرونة عقولنا وزادت قدرتها على التعامل مع نطاق واسع من المهام.

تبيَّنَ أيضًا أنه نظرًا لما يتمتَّع به المخ من مرونة كبيرة، رغم احتمالية وجود هيمنة أولية، فإنه يمكن استمرار استخدام كل شق من شِقَّي المخ لتعلُّم مهارات الشقِّ الآخر. فعلى سبيل المثال، تبيَّن أن الشخص الذي أُصيب بسكتة دماغية أثَّرَتْ على شق مخه الأيسر ففقد القدرة على التحدث إثر ذلك، يتعلَّم التحدث مرة أخرى حال خضوعه لتدريب خاص.34

ويستطيع المبدعون إلى حد ما إتقان الإدراك الواعي. فيُمكنهم اتخاذ خيارات واعية بشأن العملية العقلية التي يستخدمونها، وتدريب أنفسهم على توجيه المشكلة لدراستها بأحد جزأي المخ أو بهما معًا، والوصول إلى حلول منطقية وبديهية نتيجة لذلك. ويتعلَّق استخدام شقَّي المخ أولًا بمعرفة نوع الهيمنة الفطرية لديك ومعرفة كيفية التبديل بين شقَّي المخ ومتى يكون ذلك. كما يتعلَّق أيضًا بمعرفة عدد مرات التبديل بين الجانبين مقارنة بالشخص العادي. والانحسار — دون وعي — في أحد شِقَّي المخ دون الآخر لفترات طويلة للغاية قد يكون أحد أعراض الاضطراب ثنائي القطب.

ولكن بإمكان الكثير من الناس التحكُّم في معدل التبديل. فعلماء الرياضيات على سبيل المثال عليهم أن يعتمدوا على أحد جانبي المخ لفترة أطول وأن يحافظوا على تركيزهم، ومن ثَمَّ يقلُّ معدل التبديل لديهم، بينما يتعلَّم الفنانون والموسيقيون والراقصون التبديل بينهما بسرعة أكبر.35 ويستطيع الرهبان البوذيون الحفاظ على معدل تبديل بطيء للغاية وذلك من خلال التأمُّل، كما أنهم يتعمَّدُون الاعتماد على الجانب الأيسر من المخ لفترات زمنية طويلة.36 ويرى عالم الأعصاب جاك بيتيجرو أن سرعة التبديل بين شقَّي المخ قد تحدِّد الأشياء التي سنتقنها في الحياة. وحسبما تكون قد لاحظت بالفعل، فإن هذه المهارة يستلزم اكتسابها قدرًا كبيرًا من الممارسة، شأنها في ذلك شأن معظم المهارات الجديرة بالاهتمام، ولكن على الرغم من ذلك بإمكاننا التدريب على التحكم في التبديل.
والترياق النهائي للتخفيف من التأثير المحتمل للعزل القاتل هو ضمان التنوع داخل المجموعات. فمن المرجح للمجموعة المتنوِّعة المكونة من أفراد مستقلين أن تتمكَّن من اتِّخاذ أنواع معينة من القرارات والتوقعات أفضل من الأفراد أو حتى الخبراء. كما يضمن التنوع عدم انسياق المجموعات نحو التطرف، بل يجعلهم قادرين على استيعاب جميع وجهات النظر والتوصل إلى استنتاج متوازن. ويرى جيمس سوروويكي أن «غياب النقاش وعدم أخذ آراء الأقلية يمثِّل خطورة على الفريق»، ويرى كذلك أن «التنوع في الرأي هو خير ضمان لحصاد المجموعة فوائد المناقشة المباشرة.»37
وكما أشرنا في الفصل الثاني، عندما همَّ بيتر كارولتشيك بتأسيس مشروع برمجة جديد في شركة إتش بي، فإنه بدأ بالحصول على وجهات نظر متعددة لضمان الاطلاع على خبرات مختلفة. وقد ثبت أن القادة الذين يتمتَّعون بالقدرة على اختيار فرق متنوعة هم الذين يحصلون على أكثر المجموعات إبداعًا في أي بيئة علمية.38 ورغم أن الكثير من الأشخاص لا يزالون يسعون إلى تكوين فرق متشابهة فكريًّا ومتجانسة، فإنه من المهم إيجاد هياكل تدعم تكوين فرق متنوعة وغير متجانسة تسمح بتنوع نطاق الأفراد والأفكار.

(أ) استراتيجية الإنقاذ الرابعة: استخدام شقَّي المخ

تدرك أن أطفالك قد كبروا عندما يتوقَّفون عن سؤالك من أين أتوا ويرفضون أن يخبروك إلى أين هم ذاهبون!

بي جيه أورورك

وجود مراهق في الأسرة أمر له خصوصيته. فيبدو أن هناك مرحلة في الحياة يمهر الأولاد فيها في إخفاء الحقيقة (أو على الأقل مماطلة الحقيقة) بإبداع وبراعة. ومن بين الحيل المشتركة بينهم هو أن يقولوا إنهم يَبِيتون لدى أحد أصدقائهم، بينما هم في الواقع يعيثون فسادًا في مكان آخر. وبينما يفترض كلا الوالدين أن الآخر يتولى مراقبة الأبناء، يتمكن الأبناء أنفسهم من التسلل من المراقبة دون أن يكتشفهم أحد. وعند سؤال المراهقين «ما الذي فعلته الليلة الماضية؟» فليس أمامهم سوى إجابتين: (١) أن يقولوا الحقيقة، أو (٢) أن يكذبوا. وعند إجابتهم بالحقيقة، هم بذلك يستخدمون الجانب الأكثر واقعية في عقولهم، مستدعين بذلك الأحداث الحقيقية المسجلة في عقولهم. أما عندما يكذبون، فهم حقيقةً يَسردون قصصًا. فيختلقون أحداثًا لم تقع (أو يغيِّرون الحقائق)، وهو ما يستلزم قدرًا كبيرًا من التركيز والتخيُّل. وقد وُجد أن رواية القصص واستدعاء الحقائق يَستخدمان أجزاءً مختلفة من المخ، وهذا الأمر يوفِّر مفتاحًا للغز كيف يمكننا البدء لإحياء التفكير الإبداعي.

وثمة سِرٌّ مفيد للأبوين؛ وهو أنه بإمكاننا الآن اكتشاف متى يروي المراهقون قصصًا من نسج خيالهم (أو فَلْنَكُنْ أكثر صراحة، متى يكذبون). تسبب المسلسل التليفزيوني «اكذب عليَّ» في شهرة الأبحاث التي أجراها عالم النفس بول إيكمن بشأن لغة الجسد. فالافتراض الرئيسي هو أنه عندما يكذب الشخص فإنه يستخدم الجانب الأيمن من مخه (الخيال) ومن ثم تدور عيناه لأعلى ثم إلى اليسار لاستخدام الجزء ذي الصلة من المخ. ولحسن الحظ، فإن التحقق بعناية من عيني المراهق الذي يُحتمل كذبه في صباح اليوم التالي لليلة التي قضاها بالخارج من شأنه أن يساعد على معرفة ما إذا كان لم ينم و/أو ما إذا كان قد تناول مواد ضارة، ومن ثم فإن هذا التمرين مفيد على أي حال.

يذكِّرنا بحث الدكتور جيسون أيضًا بأنه بإمكاننا الاستفادة من العمليات العفوية عن طريق إعطاء المخ وقتًا «للتفكير تحت مستوى الوعي»، ومن ثَمَّ يتمكَّن من الوصول إلى حلول شعورية ومعرفية قد تكون غير متوفرة سابقًا للإدراك الواعي. وهذا يمكِّننا من الاستفادة الكاملة من قدرات المخ وتعلُّم التفكير الإبداعي والتدريب عليه.39

فهم قوة استخدام شِقَّي المخ

إنَّ استخدام شقَّي المخ يعمل على تحقيق التكامل الفعال بين هذه الوظائف التالية التي تبدو متعارضة:
  • الوظائف التي يهيمن عليها شق المخ الأيسر: الوظائف المنطقية، والتسلسلية، والتحليلية، والمنهجية، وتلك التي تركِّز على التفاصيل.

  • الوظائف التي يهيمن عليها شق المخ الأيمن: الوظائف الشمولية، والتركيبية، والفنية، والشعورية، وتلك التي تركز على الصورة الكاملة.

رغم أن معظمنا يولد وبه القدرة على استخدام شقَّي المخ، ورغم أن تطورنا الطبيعي يشجع هذه العملية، فإنَّ ما نمر به من تجارب في الحياة قد يضيق الخناق على هذه القدرة. فكلما زاد استخدامنا لجزء واحد من المخ في حل المشكلات، زادت ميولنا تجاه استخدام هذه المنطقة مرة أخرى. بيد أننا بإمكاننا استعادة التوازن خلال تعمُّد تمرين الأجزاء غير المهيمنة في المخ.

يُستخدم مصطلح «البناء الجدلي»40 لوصف كيفية تعلُّم الاستفادة من وجهات النظر الكثيرة الموجودة في أذهاننا بالفعل. وينطوي هذا المفهوم على فكرة فريدة من نوعها وهي أنه بداخل رأس كلٍّ منا مجلس إدارة متنوع الأعضاء، ولكن لا يُمكِننا عقد اجتماع مثمر لأعضاء هذا المجلس إلا إذا تعلَّمنا كيفية الاستماع إلى كل وجهة نظر ودمجها في عملية صنع القرار.
لقد أوضحنا أنه لكي تكون مبدعًا فأنت بحاجة إلى أن تكون قادرًا على تحقيق التوازن بين وظائف شِقِّ المخ الأيسر ووظائف شِقِّ المخ الأيمن، كي تكون محصلة التفكير الإبداعي الذي يستخدم بنجاح جانبي المخ ويؤلف بينهما أكثرَ عمقًا وثراءً؛ فتصير العملية:
  • ليست مجرد وظيفة وإنما تصميم.

  • ليست مجرد جدال وإنما قصة.

  • ليست مجرد تركيز وإنما تواؤم.

  • ليست مجرد منطق وإنما مشاركة.

  • ليست مجرد جدية وإنما مرح.

  • ليست مجرد تكديس للعناصر وإنما معنًى.41

إطلاق العنان لاستخدام شِقَّي المخ

ارفع يدك اليمنى. هل كنت تعلم أن شِقَّ المخ الأيسر هو ما يتحكَّم في هذه الوظيفة؟ والآن انقر بقدمك اليسرى. هذه الوظيفة يتحكَّم بها شِقُّ المخ الأيمن. سيحاول الأشخاص الذين يستخدمون في الغالب شق دماغهم الأيسر تحليل هذه المعلومات، وسيحللون التفاصيل متسائلين: «هل هذا الأمر حقيقي؟ هل هو قابل للتطبيق؟ كيف يمكننا إثبات أو قياس حدوث ذلك؟» وعلى الجانب الآخر، ونظرًا لأن شق المخ الأيمن يعالج المعلومات «بشكل شمولي؛ كصورة كاملة»، فإن الأشخاص الذين يستخدمون في الغالب شق المخ الأيمن لن يجدوا صعوبة في قبول المنهج التخيلي.

علينا أن نتعلَّم قبول جميع المناهج واستخدامها كي نتمكَّن من إدراك أن العالم ليس مجموعة من الافتراضات المنطقية فحسب وإنما أيضًا أنماط من الخبرة. ونحن جميعًا لدينا ميول طبيعية وتفضيلات؛ على سبيل المثال اليد التي نستخدمها في فعل الأشياء: فكلما زاد استخدامنا لهذه اليد، ازداد شعورنا بالراحة عند استخدامها، ولكن العكس أيضًا صحيح؛ فكلما قلَّ استخدامنا لهذه اليد، قلَّ شعورنا بالراحة عند استخدامها. وإذا طُلب منك التقاط شيء ما بيد واحدة، فأيَّ يد ستكون؟ بينما ننمو، يحدث لدينا تآزر عضلي معيَّن وتفضيلات معينة. وينطبق الشيء نفسه على الأساليب التي نفكِّر بها، لكن كي نكون مبدعين حقًّا، علينا الخروج من هذه الأنماط والانفتاح على أساليب تفكير جديدة.

في حلقاتنا الدراسية، عندما نطلب من الأشخاص وضع خرائط ذهنية لتوضيح مشكلة ما، يُثِير دهشتنا أن استجاباتهم تميل في أغلب الأحيان بشدة نحو شِقٍّ واحد من المخ، الذي يكون عادةً نهج شق المخ الأيسر. وعندما نوضِّح لهم أهمية تفتح الذهن للبحث عن حلول في كلا الجانبين، تظهر مجموعة جديدة شاملة من الأفكار.

لذا قبل أن تضع ولدك المراهق في فراشه في المرة المقبلة قبل ليلة نوم هانئة (آملًا عدم تسلله لاحقًا)، اطلب منه أن ينظِّف أسنانه بيده التي لا يستخدمها؛ إذا أردت أن تنمِّي مهاراته في استخدام شِقَّي المخ.

التدرُّب على استخدام شقَّي المخ

يمكننا خلق التنوع في التفكير خلال بحث المشكلة من زوايا مختلفة (البناء الجدلي). حاول استخدام الأسلوب التالي الخاص بتشكيل مجلس المستشارين الذهني الخاص بك للتشاور معهم عند مواجهة مشكلة ما أو التخطيط للتوصل إلى شيء جديد:42
  • افترض أن حلولك الأولى ليست صحيحة تمامًا أو غير مكتملة.

  • فَكِّرْ في بعض الأسباب التي تجعلها كذلك (ما هي الافتراضات والاعتبارات التي قد تكون خاطئة؟)

  • ماذا تعني هذه الافتراضات الجديدة؟

  • استنادًا إلى هذا المنظور الجديد، ضع مجموعة ثانية بديلة من الحلول.

التخطيط الذهني يسعى لاستخدام كامل المخ لحل مشكلة أو فهم مسألة ما. فبدلًا من الأساليب المعتادة التي تُجْبِرُ العقل على التفكير بطريقة منطقية، التخطيط الذهني يحثُّ على إيجاد مزيد من الحلول الإبداعية عبر «التعاون» مع بنية المخ وفسيولوجيته خلال التفكير بنماذج شعاعية — وهي تُشْبِهُ كثيرًا نَمَطَ الأفكار إذ تَتَحَرَّكُ عبر الأعصاب في المخ — وتحفيز شقَّي المخ بتساوٍ.

وللتمرين، استخدِمْ أقلام الألوان وارسم رموزًا وأيقونات ومفردات بصرية لخرائطك الذهنية. إن وضع القوائم يُعدُّ إحدى المهام المنوط بها شِقُّ المخ الأيسر؛ بينما استخدام الألوان والمرئيات والنماذج الشعاعية من مهام شِقِّ المخ الأيمن.

  • اكتبْ مشكلة متعلقة بالعمل ترغب في التعامل معها، وضَعْ قائمة بالحلول المحتملة من الخريطة الذهنية. حَدِّد الحلول المعتمدة على شق المخ الأيسر والحلول المعتمدة على شق المخ الأيمن. فإذا كان يُهَيْمِن عليك أحد جانبي المخ بشكل كبير، فعليك أن تُحاول إيجاد حلول باستخدام الجانب الآخر من المخ.

  • سَجِّلْ إحدى المهام التي كُلفت بإنجازها مؤخرًا في العمل، ودوِّن كيف تعاملت مع هذه المهمة لتحديد التوجه الطبيعي لديك. والآن ادرس كيفية استخدام الجانب الآخر من المخ بشكل أكبر من خلال استخدام المهارات المرتبطة به.

  • سَجِّلْ سؤالًا يحتاج إلى إجابة من المشكلات التي حددتها:

    • قُمْ بإعداد قائمة على الجانب الأيسر حول كيفية التعامل مع المهمة منطقيًّا.

    • قم بإعداد قائمة على الجانب الأيمن تسرد فيها بعض الاستجابات الخيالية والأكثر شعورية.

وعلى سبيل الإحماء، تدرَّب على أن ترسم صورة متناظرة بيديك اليسرى واليمنى في نفس الوقت، ثم ارسم صورة جانبية للوجه بيدك المهيمنة، ثم ارسم صورة معكوسة لهذا الوجه باليد الأخرى.

لتحسين أداء شِقِّ المُخِّ الأيسر، جَرِّب الآتي:
  • الألغاز الرياضية.

  • تمارين تعريف الكلمات.

  • المربعات السحرية.

ولتحسين أداء شِقِّ المخ الأيمن، جَرِّب الآتي:
  • الكتابة الإبداعية.

  • ألغاز الحروف والكلمات.

  • ألعاب الوعي المكاني.

التطبيق العملي لاستخدام شقَّي المخ

على الجزء العلوي من ورقة، دَوِّن مهمة تريد إكمالها. وقَسِّم الصفحة إلى عمودين، ثم دوِّن كيفية التعامل مع المهمة من منظور منطقي معتمد على «شق المخ الأيسر» في العمود الأيسر، ودوِّن في العمود الأيمن كيفية التعامل مع المهمة من منظور أوسع خيالًا معتمدٍ على «شق المخ الأيمن» وعلى المشاعر.

ملخص استراتيجية الإنقاذ

  • كن متفتح الذهن وتقبَّل الآراء والأفكار المختلفة.

  • احرص على أن تتقبل وجهات النظر المنطقية التي تبدو متعارضة والوجهات الأخرى القائمة على المشاعر بصورة أكبر.

(٣) المرحلة الثالثة: التحفيز – الشغف لإحداث تَحَوُّل

المرحلة الثالثة من مراحل عملية الإنقاذ المتجددة تُعالج اللامبالاة وتضمن وجود الإلهام من أجل النموِّ المتواصل. وتركِّز هذه المرحلة على الشَّغَف الذي لا يرضى بطرق التفكير التحفُّظية أو النمطية، لكنه يستمرُّ في تَخَطِّي الحدود لاكتشاف أفكار ومفاهيم جديدة تتولَّد من التزام أعمقَ.

(٣-١) نمط المنقذ الخامس: الشغف

هذا المحفِّز المتحمِّس يدرك أهمية الجهد الذي يبذله الحب. فالشغف يدرك أن أكثر الناس نجاحًا عادةً ليسوا من هم أكثرهم موهبة وإنما هم الذين يحضُّهم فضولهم الفطري. وهو لا يرضى بتقبُّل الأمور على هيئتها أو التكيف معها، ولكنه بدلًا من ذلك على استعداد لهدم ما هو قديم من أجل إفساح المجال أمام تكوين روابط إبداعية جديدة. فقوَّته الشفائية وتحفيزه الجوهري يساعدان على استعادة الثقة بالنفس والقدرات ويدفعان المرء نحو تحقيق نتائج مميزة. واستراتيجية الإنعاش التي يفضِّلها الشغف هي إعادة صياغة المفاهيم الشائعة. فهو يوفِّر ملاذًا من قتلة اللامبالاة، كالافتقار إلى التحفيز، والافتقار إلى المبادرة، والافتقار إلى الدافع؛ إذ يكون سلاحهم المفضل هو «الخمول الفتَّاك».

وفي فيكي هاورث مثال على الإبداع الذي يتأتَّى من الشغف المركز. فهي امرأة في مهمة؛ بعد أن أسَّست شركة علاقات عامة ناجحة مع زوجها مايك، لديها الآن الفرصة والاستقلال المادي لتكريس وقتها وطاقتها من أجل إحداث فارق في حياة الآخرين. فهي تستغلُّ ما لديها من خبرات في زيادة التوعية بقضايا الفقر في العالم، ولها في ذلك استراتيجية موجهة. وتُعد فيكي من أنصار «تحدي ميتشا»،43 الذي أرسى قواعد مراحل معينة للمساعدة في ضمان استمرار مساءلة السياسيين عن العمل من أجل تحقيق «الأهداف الإنمائية للألفية» الخاصة بالأمم المتحدة. وهي عبارة عن ثمانية أهداف إنمائية دولية اتفق على تحقيقها كل اﻟ ١٩٣ دولة من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة و٢٣ منظمة دولية على الأقل بحلول عام ٢٠١٥. وفي إطار هذه الأهداف، تعهَّدت الحكومات بالحد من الفقر بطرق معيَّنة، مثل الحدِّ من معدَّل وفيات الأطفال، والقضاء على الفقر المدقع، ومحاربة الأمراض الوبائية العالمية مثل الإيدز، وإرساء شراكات عالمية من أجل التنمية. فهذا المشروع طموح وموجَّه نحو هدف معيَّن وعملي، ويمكن أن يُحْدِث فارقًا بالفعل.

والأمر اللافت للانتباه عند لقائك بفيكي هو ما تتمتع به من مرح وحماس نحو المهمة التي بين يديها، فضلًا عن مدى مثابَرَتها على مواصلة جهودها حتى إنجاز هذه المهمة. وفي غمرة إصرارها على عدم الاستسلام وعلى أن تكون «صوت من لا صوت له»، فإنها تشعر بالفخر بعد أن سمَّاها عضو الحكومة الاتحادية المحلية ﺑ «اللحوح الأعلى صوتًا» بالنيابة عن الفقراء. وتحرص فيكي على السفر إلى كانبرا للضَّغط على السياسيين مستخدمة في ذلك تعبيرات بارعة ذكية بشأن التزام المجتمع بالأهداف الإنمائية للألفية. وقد شاركت فيكي مسبقًا — إلى جانب فريق إبداعي من مجتمعها المسيحي والذي لا يقل أعضاؤه حماسةً عنها — في مشروعات مثل عرض صور أكبر من الحجم الطبيعي للسياسيين، مدون عليها ملاحظات من الأطفال تحثُّهم على الاستمرار في دعم الأهداف الإنمائية للألفية. وسعيًا من فيكي لتناول الأزمة العالمية لتوليد النساء على يد قابلات (حيث يسقط المولود على رأسه فور الولادة)، قدمت هدية من نوع خاص لوزير الشئون الخارجية؛ إذ أهدته سترةً مزينة ببطاقات «أمل» مكتوبًا عليها «آمالنا معلقة عليك.» كما نجحت في إقناع بعض السياسيين بالجلوس على مرحاض ضخم في حديقة البرلمان للفت الانتباه إلى مشكلات الصرف الصحي العالمية. وقد أمضت بعض الوقت إلى جانب مايك وأسرتها على أرض الواقع في البلاد التي تدعمها. وتعمل فيكي من خلال الكنيسة التابعة لها مع مؤسسة كومباشن أستراليا، التي تلتزم هي الأخرى بمتابعة الأهداف الإنمائية للألفية. ومن أبرز أنشطتهم الخاصة بجمع التبرعات: مسيرة لجمع التبرعات تجمَع ما يصل إلى ٥٠ ألف دولار في المرة الواحدة من رعاية مجرد عدد قليل من السائرين. وتواجه هذه المسيرة المشاركين بالتحديات التي تواجه البلدان النامية؛ فعلى سبيل المثال يُطلب من المشاركين حمل دِلَاء من المياه أثناء السير مسافة تعادل المسافة التي يحتاج إلى قطعها أناس عدة في العالم ليصلوا إلى مياه الشرب.

حينما تتحلَّى بالشَّغَف، سيكون لديك هدف ودافع هائلان في أغلب الأحوال، وستصبح مبدعًا للغاية. ستحظى بالرغبة في المثابرة والتقدم. وعندما تُوَاتِيكَ هذه الرغبة في فعل شيء ما، فإنك لن تَدَّخِرَ وقتًا ولا جهدًا لإنجازه. فلن تتقبَّل الأمور على حالها بهذه البساطة، بل ستبذل جهدك لتتناولها من منظور مختلف. إن تغيير العالم يتطلَّب الشغف، وتغيير مساحة صغيرة في حياتك يتطلَّب هذا النوع من الشغف والالتزام أيضًا.

تَوَصَّلَ بنجامين بلوم — أستاذ العلوم التربوية بجامعة شيكاجو — إلى أن كافة أصحاب الإنجازات الكبيرة الذين أجرى عليهم دراسته البحثية، وجدوا الإلهام على يد معلِّمِين شديدي الشَّغَف، ونالوا الدعم من والدين مُخْلِصَيْنِ. وقد نما لديهم جميعًا مستوًى رفيع من الحُنْكَة التي تَوَلَّدت من الشغف المفرط الذي يُفْضِي إلى الالتزام، وليس من التمتع بأي مهارة أو موهبة فطرية تُذْكَرُ. والأبحاث التالية لهذه الدراسة — والتي بُنيت على أعمال بلوم الرائدة كما هي مجمَّعة في «دليل كامبريدج للحنكة وأداء الخبراء» — أظهرت أن أصحاب الإنجازات الكبيرة يحققون العظمة بأيديهم، ولا يولدون عظماءَ. وهذا مثال يوضِّح كيف للشغف أن ينشئ الظروف المناسبة لنمو الإبداع لدى الآخرين.

وسلطت تيريسا آمابيلي — الأستاذة بجامعة هارفرد — الضوء على التحفيز في أبحاثها عن التفكير الإبداعي الناجح؛ لأن «الرغبة في عمل شيء لأنك تجده مرضيًا للغاية وصعبًا من منظور شخصي تُلْهِم أسمى مراتب الإبداع، سواء في الفنون أو العلوم أو الأعمال»، حسبما تعتقد.44
وقد أحصى مالكوم جلادويل — الكاتب الذي حاول إضفاء الصفة البشرية على الاقتصاد وزيادة شعبيته على مدار الأعوام القليلة الماضية — بمهارة فائقة عدد الساعات التي يحتاج إليها الفرد حتى يصبح «خبيرًا» في مجال بعينه؛ وهو ١٠ آلاف ساعة، ما يعادل قرابة ١٠ سنوات في أغلب الحالات.45 ورغم أن هذا القدر من الوقت مَهُول، سرد جلادويل الأمثلة تباعًا ليبرهن كيف أن هذا هو الحال دائمًا مع أصحاب الإنجازات الكبيرة.
لذا فمن يمكنه أن يكرِّس كل تلك الساعات إذا لم يكن يتحلى بالشغف؟ رغم كل هذا التدريب، لا يزال هناك فرق شاسع بين أولئك الذين يُصبِحون «خبراء فنيين» في مجال ما والآخرين الذين تخطَّوْا ما حققه غيرهم قبلهم. ويوضِّح جلادويل أن موتسارت ألَّف أول أعماله الرائدة المبتكرة بأكملها بعد أن تجاوز سن الأربعين؛ بعد أن قضى ١٠ آلاف ساعة من التدريب على تأليف المقطوعات الموسيقية (ها هو الرقم السحري). إن شغف موتسارت لم يمكِّنه من إنتاج مقطوعات موسيقية ناجحة فنيًّا فحسب، بل مكَّنه أيضًا من توظيف إبداعه لتأليف مقطوعات موسيقية تجذب الآخرين وتبثُّ فيهم الإلهام. لكن حذارِ من أن تُسيء فهم غرضنا هنا. نحن لا نقترح عليك أن تقضي ١٠ آلاف ساعة في التدريب حتى تصبح مبدعًا، ولكن مقصدنا هو أن الشغف يمهِّد سبيل الإبداع. فكافة أصحاب الإنجازات الكبيرة كانوا بالفعل يتحلَّوْنَ بالشغف الذي شَحَنَ طاقاتهم الإبداعية اللاحقة لأقصى حد.46

فكِّرْ في الأشخاص الذين ألهموا غيرهم من خلال شغفهم والتزامهم: ألكسندر فليمنج لم يكن أول طبيب يلاحظ التعفُّن الذي يتكون على المُستنبت المكشوف أثناء دراسته للبكتيريا القاتلة. وأي طبيب آخر أقلُّ موهبةً منه كان سيتجاهل ما بدت له مصادفةً لا مغزَى لها، لكنَّ فليمنج أبدى اهتمامه بتلك الظاهرة وتساءل عما إذا كانت تلك العملية لها مغزًى علمي بداخلها، وبعد مزيد من الأبحاث اكتشف فليمنج البنسيلين الذي أنقذ فيما بعد أرواح الملايين.

والمؤسسات التي ظنَّت أن الحوافز المالية البسيطة قد تحفِّز الإبداع أو تُثِير الشغف باءت بخيبة الأمل. ففي دراسة أُجريت في الولايات المتحدة، قُدمت حوافز متوسطة القيمة للحثِّ على أداء أفضل في المهام الإبداعية؛ وفي تجربة مشابهة في الهند قُدمت حوافز هائلة (تصل إلى رواتب عدة أشهر). ولكن تبيَّن أن الأداء الإبداعي كان أقل بالفعل في ظل الحوافز المالية المتزايدة. إذن ما الذي يحفِّز الأشخاص ليكونوا مبدعين؟ تبدو الاستقلالية أحد ثلاثة عوامل رئيسية في هذا الشأن، فهي تحفِّز الشغف والكبرياء لدى الفرد.47
مثل اكتشاف هينينج للفوسفور، إذا لم تأخذ زمام المبادرة و«تواصل تقدمك» في العملية الإبداعية، فإنك لن تصل إلى أي مكان أبدًا. وبالمثل، إذا لم يكن لديك الدافع والمثابرة للمضي قدمًا بالعملية الإبداعية إلى نتيجة عملية، فلن تحرز الكثير في واقع الأمر. إنَّ الدافع الداخلي ضروري هنا؛ فإذا لم يكن لديك تحفيز داخلي، فإن شغفك الإبداعي لن يدوم طويلًا. عندما سئل آرثر شاولو — الحائز جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٨١ — عن رأيه فيما يشكل الفارق بين العلماء بارعي الإبداع والعلماء الأقل إبداعًا، أجاب بأن «عنصر العمل الشاق حبًّا في العمل يمثِّل نقطة محورية. فأكثر العلماء نجاحًا ليسوا الأكثر موهبة في أغلب الأحيان، بل أولئك الذين يدفعهم الفضول؛ فهم يصرون على معرفة الإجابة.»48

(أ) استراتيجية الإنقاذ الخامسة: إعادة صياغة المفاهيم الشائعة

بينما كانت سونيا — زوجة فيليب كان — تعاني آلام المخاض عام ١٩٩٧، انتابته الحيرة حول كيفية إرسال صور إلى أصدقائه بتلك المناسبة بسرعة ويسر. فلم يَرْضَ بالحل المعتاد المتمثِّل في أن يلتقط الصور ويحملها على الكمبيوتر ثم يرسلها عبر البريد الإلكتروني؛ إذ كان لديه الحافز لإيجاد حلٍّ أفضلَ من ذلك. وبينما كان يفكِّر في لحظتها، صمَّمَ برنامجًا على الكمبيوتر المحمول وأوصل كاميرته الرقمية بهاتفه (بعد أن زوَّده أصدقاؤه بالمستلزمات الإلكترونية اللازمة) ثم أرسل لهم الصور على الفور. ربما اتخذت عملية الوضع وقتًا طويلًا، أو ربما كان فيليب سريع التفكير والتصرف! لا نعلم يقينًا قدر الوقت الذي استغرقه مخاض سونيا وشاركها فيه زوجها وجدانيًّا، لكن فكرة الهاتف المزود بكاميرا التي اخترعها كان لها أثر كبير في العالم أجمع. فاستطاع كان أن يُحْرِزَ نجاحًا مبهرًا بعد إعادة تقييم الفصل المتعارف عليه بين الجهازين الإلكترونيين المختلفين ودمجهما بأسلوب ابتكاري. فقد دفعه تحفيزه الداخلي وشغفه نحو الاختراع. واليوم يمكنك أن ترى الناس في كل مكان يُخرجون هواتفهم المزودة بكاميرات لالتقاط صور عفوية ويحملونها على الفور على فيسبوك أو يرسلونها لأصدقائهم.

على مرِّ الزمن، تقيَّد الناس بالمعتقدات والقدرات السائدة، لكنَّ التحلي بالإبداع ينطوي على تعطيل تلك المعتقدات وتخيُّل ما يحتمل وقوعه أيضًا. فعن طريق إعادة صياغة المفاهيم الشائعة، يكون بإمكانك أن تأتي بشيء جديد وإبداعي. وهذا يمنحنا القوة للبدء في صياغة أفكار جديدة وتحويلها إلى حلول عملية، ولكنها تتطلَّب حقيقةً عملية هدم أولًا!

إنَّ عملية إعادة صياغة المفاهيم الشائعة غالبًا ما تشمل فرضية هدامة؛ وهو منهج غير منطقي عن عمد يمكنه تغيير أساليب التفكير الراسخة وتوجيهها لاتجاه مختلف تمامًا. ووفقًا للوك ويليامز49 هناك ثلاث خطوات بسيطة يجب اتباعها:
  • تحديد الوضع.

  • البحث عن الأفكار المبتذلة.

  • تحريف تلك الأفكار المبتذلة.

إن الفرضية الهدامة صُممت لتحريك مجريات الأمور بعضَ الشيء ولدعم التغيير المتسارع، وهي بذلك تشبه «التوازن المتقطع» حيث يعترض تغيير مفاجئ عملية التطور البطيئة المملة. ويقول ويليامز على سبيل المثال إنك بدلًا من أن تأتي بتنبؤ عقلاني مثل «إذا شحنت البطارية، فلسوف يعمل الهاتف»، تأتي باستفزاز غير منطقي مثل «ماذا إن لم يحتج الهاتف المحمول إلى بطارية على الإطلاق؟»

العمل الإبداعي هو فعل هدم في المقام الأول.

بابلو بيكاسو

فهم قوة إعادة صياغة المفاهيم الشائعة

من السهولة بمكان أن تتعلَّق أكثرَ مما ينبغي بالمفاهيم والروابط الشائعة، لكن من المهم أيضًا أن تنظر إلى ما وراء الحدود المتفق عليها حتى تخلق احتمالات جديدة. وهذا يدفعك إلى أن تسأل: «إذا لم تكن (هذه المشكلة) حصارًا يقيِّدنا، فماذا إذن سيكون الحل؟» من المهم أن تبدأ بما هو مطلوب وليس ما هو ممكن.

ولتحقيق نتائج مذهلة، قد تحتاج إلى تفكيك المفاهيم المألوفة وتشكيل روابط جديدة تمامًا. فنحن حينما نسأل أنفسنا: «ما الذي أدَّى إلى وقوع ذلك؟» فنحن لا نبحث الموقف نفسه وإنما نبحث عن الأسباب أو العوامل الأساسية — أي اللبنات — خلف كل موقف. فالإبداع عملية فصل ووصل متواصلة؛ فالأفكار الإبداعية غالبًا ما تأتي من توصيل فكرتين تبدوان غير متصلتين إحداهما بالأخرى. والإبداع هو العثور على الرابط الخفي بين موقفين يبدوان غير متعلقين أحدهما بالآخر. على سبيل المثال، يستطيع التفكير بالجانب الأيمن من المخ تشكيل الروابط — وليس مجرد تحليلها — من أجل اكتشاف العلاقات بين المجالات غير المتناسقة، كما يَسْتَبِين أنماطًا أكبر، ويتعدَّى الحدود حتى يرى الصورة الكاملة.

إنَّ إعادة صياغة المفاهيم الشائعة تنطوي أيضًا على إيجاد العلاقات. وتكشف أبحاث معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن العديد من الألغاز الهندسية تمكَّن من حلها غير المهندسين.50 والسبب في ذلك هو أن المنظور أحيانًا ما يكون أهمَّ من مستوى الذكاء. فالقدرة على إحداث قفزات كبيرة في الفكر أمر ضروري. والأشخاص الذين يتعدَّوْنَ الحدود يرفضون التقييدات التي تفرضها مناهج «إما هذا أو ذاك» ويقبلون الغموض. وهؤلاء الأفراد ينظرون إلى الحياة من منظور واسع (على عكس المنظور الضيق الأفق).
يعتمد جزء كبير من فهم الذات على البحث عن استعارات شخصية ملائمة حتى تُعِينَنَا على فهم حياتنا. وهذه الاستعارات هي الجسور التي تساعدنا على رؤية الفجوات والروابط بين العلاقات. ولقد تبيَّن أن هناك قدرة إدراكية وحيدة هي التي تفرِّق بين النجوم الفنانين وتميِّزُهم بعضهم عن بعض، ألا وهي إمكانية التعرف على الأنماط ورؤية «الصورة الكاملة».51 فرؤية الصورة الكاملة تمكِّن القادة من تحديد التوجُّهات من قدر وافر من المعلومات.

إطلاق العنان للقدرة على إعادة صياغة المفاهيم الشائعة

العديد من الاختراعات الحديثة أتى بها أشخاص عقدوا صلات غير محتملة بين شيئين أو فكرتين لم تكونا قد ارتبطتا بأيِّ شكل من الأشكال من قبل على الأرجح. وتقدِّم شركتا كومباك وديل مثالًا على ذلك. فبعدما لاحظتا أن شركات أخرى ليست من مجالهما مثل كوداك وسوني تقتحم أراضيهما، حينها تبيَّن لشركتيْ تكنولوجيا المعلومات أنه لم يعد في إمكانهما أن يتوقَّفا عند حدود بيع الصناديق السوداء (أي أجهزة الكمبيوتر). فقد كانتا تبيعان سلعة. ولذلك بدأتا بالدعاية على أنهما تَبِيعان «حلول أعمال» خلال أجهزة الكمبيوتر. وقد عرضت كلٌّ منهما مزيجًا من أجهزة الكمبيوتر والكاميرات والأجهزة الإلكترونية الأخرى.

وإليكم المزيد من الأمثلة على روابط جديدة ناجحة:
  • ورق ملاحظات بوست إت من شركة ثري إم واللاصقات الصفراء: الورق اللاصق (صمغ + ورق).

  • التزلُّج على الماء بواسطة الريح والتزلج الشراعي على الماء (لوح التزلج + الريح).

  • الكرسي المتحرك (كرسي + عجل).

  • المساعد الرقمي الشخصي/الهاتف/الكاميرا … إلخ (مفكرة + هاتف + كاميرا).

قد يُفِيدُكَ التدرُّب عبر أخذ بعض العناصر الفردية التي لا يتصل بعضُها ببعض والتي جُمعت من مجالات أخرى وإيجاد طرق لربطها بعضِها ببعض. طلبت جريدة واشنطن بوست52 من المتنافسين في مسابقة أجرتها استخراجَ أيِّ كلمة من المعجم وتغييرها سواء بإضافة حرف واحد أو إزالته أو تغييره، وتقديم تعريف جديد لها. جرِّبها بنفسك. تضمنت المشاركات الفائزة الآتي:
  • نشوة استرداد الضرائب (اسم): البهجة باسترجاع قيمة الضريبة، والتي تستمر إلى أن تدرك أنها كانت أموالك منذ البداية.

  • بوزون (اسم): هي المادة التي تحيط بالأشخاص الأغبياء وتحجب عنهم اختراق الأفكار النيرة لهم.

  • نضوب مالي (اسم): القيام بشراء منزل مما يصيب المشتري بالعجز المالي لفترة غير محددة.

إن إعادة صياغة المفاهيم الشائعة ينبغي أن تتعدى مجرد حل لغز كلمات ذكيٍّ أو ربط فكرتين إحداهما بالأخرى عن طريق إضافة المضاف إلى المضاف إليه. فعلى أحسن تقدير، تعني الإضافة عملية ضرب بين كلمتين وليس جمعهما. وحتى تكون عملية الإضافة فعالة، فإنها تتطلَّب ربط الأفكار الرئيسية بعضها ببعض بأسلوب تنتج عنه قيمة إضافية، بمعنى أن يكون حجم القيمة الناتجة أكبر من مجموع الأجزاء الفردية معًا.53
والمخترعون أصحاب البصيرة استطاعوا أن يمدُّوا أبصارهم خلف حدود ما يمكن رؤيته وصولًا إلى احتمالات جديدة. وإليكم مثالًا على ذلك. على مَرِّ السنين، كانت هناك الكثير من حوادث القطارات المروِّعة حول العالم. وكشفت مراجعة المفوضية الأوروبية أن سبب الوفيات الرئيسي في التصادم الذي وقع في تقاطع خطَّي القطار كان ظاهرة تسمى «الامتطاء»، حيث تعتلي عربة قطار عربةً أخرى وتدهَس الناس تحتها. وقد حاول المهندسون على مدى عقود أن يجدوا حلًّا لهذه المشكلة ببناء عربات أقوى من سابقتها، لكن البروفيسور سميث قدَّم حلًّا من نوع آخر عام ١٩٩٤. فعندما رأى زجاجة مياه شرب بلاستيكية مهشمة، لاحظ بين أضلعها أجزاءً ضعيفة مضمنة تبدد الطاقة. ومن هذه الفكرة اللامعة، نشأ علم التصادم الجديد، حيث صممت عربات القطارات لتحتوي على نطاقات في المؤخرة قابلة للسحق لا يشغلها أحد تبدد طاقة التصادم وتنقذ أرواح الكثيرين.54

فدون القدرة على تناول الأفكار القديمة من منظور حديث، لن يكون التقدُّم ممكِنًا.

التدرب على أساليب إعادة صياغة المفاهيم الشائعة

ربما تستغرِب من النتيجة التي قد تكتشفها حينما تعقد روابط جديدة بين قضايا يبدو أن لها حلولًا محدودة. فالتمسُّك بأساليب التفكير التقليدية والمقبولة بصورة شائعة سوف يؤدِّي إلى نتائج عادية في أغلب الأحوال. ولكنك قد تحتاج لتفكيك المفاهيم المألوفة وتكوين روابط جديدة كليةً من أجل التوصل إلى نتائج مذهلة.

إنَّ الأفكار الإبداعية تُعِيدُ صياغة الواقع بشكله المعروف لنا. وتتكوَّن الأفكار الإبداعية من مزيج زاهٍ من الخبرات تمامًا كالحلم، حيث تتدخَّل عناصر مختلفة من الأفكار والخبرات اليومية من الذاكرة ثم تندمج في اللاوعي في صورة أشكال جديدة. فلكيْ تكون مبدعًا، أنت بحاجة إلى أن تتعلَّم كيف تحلم بوعي! وإليك بعض التمارين التي تساعدك على التدرُّب:

تمرين ١

اختر قضية من قضايا العمل التي لم يُتَوَصَّلْ فيها بَعْدُ إلى أفضل النتائج. حاول تفكيك القضية لتتبيَّن العناصر المختلفة التي تشملها. ابحث عن أمثلة ذات صلة من مشروعات ناجحة مختلفة، وأعدْ صياغة أسلوب جديد قائم على تكوين روابط جديدة. حاول أن تَصِلَ بين الجوانب غير المترابطة في خرائط ذهنية حتى تتمكَّن من عقد روابط وخلق احتمالات جديدة.

تمرين ٢

بدأت اختراعات كثيرة بروابط تبدو غير متوافقة (على سبيل المثال الذي ذكرناه سابقًا: كرسي متحرك = عجل + كرسي، والتزلج على الماء بواسطة الريح = الريح + لوح التزلج). اجمع ثمانية أشياء تستخدم في الحياة اليومية مثل (النظارة الشمسية، الآلة الحاسبة، الهاتف الجوال، الورق)، ضعها في حقيبة. استخرج عنصرين من الحقيبة وابتكر اختراعًا جديدًا يستخدمهما معًا.

تمرين ٣

دوِّن حلمًا راودك مؤخرًا. وتعرَّف على العناصر المختلفة، ثم فَكِّرْ كيف تشكل الحلم.

التطبيق العملي لإعادة صياغة المفاهيم الشائعة

فكِّر في مشروع لا تتحقَّق فيه النتائج المثالية:
  • حاول أن تُجَزِّئ القضايا وأن تحدِّد كافة العناصر المختلفة التي تشتمل عليها.

  • ضع فرضية هدامة تزعزع طرق التفكير الراسخة.

  • أَوْجِدْ نماذج إيجابية ذات صلة من مشروعات مختلفة ناجحة.

  • أَعِدْ صياغة منهج جديد يرتكز على عقد روابط جديدة.

تذكَّرْ أن المفتاح لإعادة صياغة المفاهيم الشائعة هو أن حجم القيمة الناتجة ينبغي أن يكون أكبر من مجموع الأجزاء معًا.

ملخص استراتيجية الإنقاذ

  • ركِّز على إتاحة المشاركة (والتخلص من اللامبالاة).

  • اعْثُرْ على أساليب للتواصُل مع الشغف الفردي.

  • شجِّع الناس على إبداع أساليب تفكير جديدة بدلًا من التمسُّك بالعادات المحافِظة القديمة.

(٤) المرحلة الرابعة: التحول – المرونة والإيجابية لإجراء تغييرات حقيقية

تضمن المرحلة الأخيرة من عملية الإنقاذ تغيُّرًا طويل الأمد، وتُتِيحُ أملًا حقيقيًّا للمستقبل. كما تشتمل على المرونة في تناول الأفكار والتحديات الجديدة كُلَّمَا طرأت، والإيجابية؛ وهي القدرة على استدامة التنمية عبر التفاؤل.

(٤-١) نمط المُنْقِذ السادس: المرونة

هذا المستكشف غير المتمسِّك بما هو تقليدي لا يتقيَّد بما يظن أنه من المفترض أن يحدث. فلدى المرونة طواعية فطرية تضمن قدرتها على إيجاد أساليب مبتكرة وجديدة لأداء الأعمال. فالمرونة توسِّع حدودك العقلية وتَضْمَنُ أنَّ ذهنك مُهَيَّأٌ لاستكشاف خيارات متعددة، بدلًا من التقيُّد بحدود التجارب المتعارف عليها. إن المغامر المقدام هذا المتجسد في المرونة ينفذ عملية تؤدي إلى تغيير حقيقي ومن ثم إلى التحول في نهاية المطاف. واستراتيجية الإنعاش المفضلة لديها هي استكشاف مسارات مختلفة. وتتولى المرونة مهمة الإنقاذ من القتلة ضَيِّقِي الأفق مثل الحُنكة والتحيُّز والتفكير الجماعي؛ الذين يتخذون من «التعصُّب العنيد» سلاحًا مُفَضَّلًا. والمرونة سمة رئيسية لدى الأطفال لكنهم لا يَلْبَثُون أن يفقدوها مع تقدُّمِهم في العمر.

ابتكرت فتاة لا يتجاوز عمرها اثنيْ عشر عامًا فكرة مذهلة في مسابقة أُجْرِيَت مؤخرًا. لقد تصوَّرت الفتاة «بحث الصور في جوجل»؛ وفيه يمكن للمستخدمين رسم ما يبحثون عنه بدلًا من مجرد كتابته بالكلمات. ولم تلبثْ شركة جوجل بعد ذلك أن أعلنت عن تطويرها تقنية تحمل نفس المفهوم. كما تَخَيَّلَ طفل لا يتجاوز عمره سبع سنوات دُمًى في صورة إنسان آلي تلعب معه، ولكن لا تزال تلك الفكرة هي الأخرى في مراحلها الأولية.55
هذان مجرد نموذجين من الإجابات المذهلة التي طرحها الأطفال ردًّا على السؤال الذي وُجِّه إليهم؛ وهو «ما الشيء الذي تَوَدُّ لجهاز الكمبيوتر أو الإنترنت أن يقوم به إذ لا يقدر على القيام به الآن؟»56 لقد تصوَّرُوا أفكارًا لا تزال قيد التطوير أو كان قد ابتكرها البالغون بالفعل، وهو الأمر الذي يُظْهِر البصيرة النافذة لدى الأطفال. والسبب في أن الأطفال يمتلكون تلك المهارة الفائقة في ابتكار أفكار متقدمة هو أنهم يمتلكون مرونة بالغة في أساليب التفكير لديهم ومنظورًا حديثًا وبراءةً خلابةً ليس للتوقعات وحدود الإدراك عليها من سبيل. إن الأطفال لديهم القدرة على التفكير التباعدي الذي يُغايِر ضيق الأفق الذي يَكْبَحُ جِماح التفكير الإبداعي لدى البالغين. ولكننا غالبًا ما نفترض أن الخبراء وحدهم هم الذين يُبْدِعُون أفكارًا جديدة بعد فترة مديدة من التدريب والتعلُّم.

لقد جرت العادة على أن يكافئ النظام التعليمي والمجتمع بشكل عام الخبراء واسعي المعرفة ويُبَجِّلُوهم. والأشخاص الذين يتمكَّنون من التغلُّب على تلك الأنظمة بنجاح يرزقون بنتائج ودرجات اختبارات متميزة، ويرتقون لمناصب عليا، ويتقاضون رواتب وفق خبراتهم ومعرفتهم. لكن اليوم أصبح ظاهرًا للعيان أنه لا يمكن للشخص الواحد أن يكون الخبير الوحيد في ظل توافر قدر أكبر من المعلومات على نطاق واسع، إذن سيتحتم على نماذج التعلم والقيادة أن تتغير. وقادة اليوم ليسوا بحاجة إلى أكبر قدر من المعلومات بل عليهم أن يتمتعوا بالقدرة على اكتشاف أكثر الأفكار ذكاءً وتشجيعها. إن محور اهتمام الخبراء التقليديين ضَيِّق الأفق؛ مما يعني أن بإمكانهم تأسيس قدر كبير من المعرفة حول موضوع أو مجال بعينه، ولكن هذا هو ما يقتل الإبداع. ولذا فإن قائد المستقبل في أمسِّ الحاجة إلى أن يكون مفكرًا واسع المعرفة ومنفتحًا على أساليب تفكير جديدة وفكر حديث.

للخبرة ميزاتها الكثيرة إلا أن لها نقطة سلبية وحيدة وهي فقدان البراءة. والبراءة الإبداعية تأتي إلى الأشخاص الذين لا يعرفون كيف يجب تأدية الشيء. فأولئك لديهم القدرة على إيجاد طريقة مبتكرة لتنفيذه. كما أن امتلاكك لقدر وافر من المعرفة يَعْنِي أنك مُقَيَّدٌ بالمفاهيم والإرشادات الراسخة بالفعل في مجال عمل بعينه، وهذا ما يجعل من الابتكار أمرًا مستحيلًا.

إدوارد دي بونو57

إن العقل البريء المتفتِّح — الذي لديه استعداد ليكون عُرضة للانتقاد ويتكَبَّد المخاطر، الذي يفكر ويشعر كما يفعل الأطفال، الذي لا سبيل للضغط عليه وترتيب أفكاره — هو العقل الوحيد الذي يُمْكِنُه أن يكون مبدعًا بحق. ويُطْلِق دي بونو على تلك العقلية والسلوك المُتَفَتِّحَيْنِ مصطلح «البراءة الإبداعية».

ويُنظر الآن لفكرة البراءة الإبداعية على أنها ذات أهمية بالغة، حتى إن بعض المؤسسات تُتِيح للأطفال أن يشتركوا بفاعلية في عملية توليد الأفكار، فعلى سبيل المثال:
  • شركة تويوتا شَكَّلَتْ ذات مرة «مجلس إدارة» مكونًا من الأطفال كي يقدموا استشارات للشركة حول تطوير منتجاتها.

  • اتخذت هاسبرو خُطوة مماثلة في مجال الدُّمَى.

  • أما مركز أبحاث بالو ألتو — التابع لشركة زيروكس — فقد طلب من بعض طلاب المدارس ذات مرة حضور مجموعة من جلسات العصف الذهني حول مستقبل التكنولوجيا.58

ربما تعتمد التنمية المعرفية على الحفاظ على جموع السُّذَّج والجُهَّال.

جيمس جيه مارش59
على الرغم من أنه قد ساد معتقد يقضي بأن الخبرة المتراكمة مطلوبة للتميز في مجال بعينه، وقد يكون ذلك صحيحًا في بعض العلوم (مثل الأحياء والتاريخ وكتابة الرواية)، فإن لتلك القاعدة بعض الشواذ. إذ أوضح عالم النفس بجامعة كاليفورنيا بديفيز — دين سيمونتون60 — أن علماء الفيزياء يقومون على الأرجح بأهم وأول اكتشافاتهم بينما لا يزالون في أواخر العشرينيات من عمرهم. كما يذكر أيضًا مجالًا آخر يصل لأَوْجِهِ حتى قبل بلوغ هذه السن؛ وهو الشعر. كما يعتقد أن أولئك الأشخاص يستفيدون — ولو جزئيًّا — من استعدادهم لتبني الإبداع وعنصر المفاجأة. ولأنهم لم «يتثقفوا» أو يُثقلَوا بالمعارف الموروثة، يكون لديهم استعداد أكبر للتمرد على الوضع الراهن. ويقول سيمونتون إنه مع قضاء المبدعين عدة سنوات في الدراسة الأكاديمية، يبدءون تكرار أنفسهم على الرغم من ذلك.61
انظر — على سبيل المثال — إلى جيمس واطسون الذي شارك في كتابة أحد أهم الأبحاث العلمية على مدار التاريخ (حول تركيبة الحمض النووي) عام ١٩٥٣ بينما كان في سن الخامسة والعشرين اليافعة، وإسحاق نيوتن الذي بدأ اختراع علم التفاضل والتكامل في الثالثة والعشرين، وألبرت أينشتاين الذي نشر العديد من أهمِّ أبحاثه العلمية في سن السادسة والعشرين، وفيرنر هايزنبرج الذي اخترع مفهوم ميكانيكا الكمِّ بينما كان في أواسط العشرينيات من عمره. وأرشميدس وماري كوري وجاليليو وروبرت أوبنهايمر نماذج قليلة إضافية للشباب الذين حقَّقُوا الإنجازات وأحدثوا إسهامات علمية هامة وهم في العشرينيات من عمرهم.62
قد لا يَتِمُّ التوصُّل إلى أحدث الأفكار الجديدة على نحو ملائم هذه الآونة في ظل إجراء تخفيضات على المنح الرئيسية التي تُقَدَّمُ للعلماء الشباب. وفي هذا الشأن، ظهر اتجاه يُثِيرُ القلق في الولايات المتحدة، إذ بينما قدم معهد الصحة القومي معظم المنح للعلماء الشباب عام ٢٠٠٨، تُقدَّم اليوم منحٌ للباحثين الذين تبلغ أعمارهم سبعين عامًا أكبر من تلك التي تُقدم للباحثين الذين لم يبلغوا عامهم الثلاثين! وقد فسَّر البعض ذلك بأنه توجه محافظ آخذ في الزيادة، وخوف من المجازفة في المؤسسات. وأي رسم بياني للإبداع على مدى عمر الفرد سيتخذ منحنًى على شكل حرف U معكوس. وما يُثِير المخاوف الآن هو أنه حينما ينال أغلب الأشخاص الفرصة للحصول على التمويل والتقدير الذي يستحقونه، سيكونون قد تجاوزوا على الأرجح ذروتهم الإبداعية.

(أ) استراتيجية الإنقاذ السادسة: استكشاف مسارات مختلفة

واجه فندق إنتركونتيننتال في بالي مشكلة كبيرة. كان قد وعد نزلاءه الأثرياء بقضاء عطلة بلا ضغوط عصبية تبعث على الاسترخاء، يعمل على تنسيقها فريقه المهني الكفء. لكن أولى انطباعات النزلاء عن العطلة تتكون غالبًا في مطار دينباسار الممل حتى قبل أن يصلوا إلى الفندق. فإجراءات الجمارك والهجرة التي تفتقر إلى الكفاءة كانت تُضْفِي على النزلاء إرهاقًا فوق إرهاق السفر الطويل، وكان العديد من الأشخاص يبدءون إجازتهم منزعجين وغير راضين.

بعد متابعة الفندق إجراءات الوصول المعقدة وملاحظة تأثيرها على النزلاء المميزين، أدخل عددًا من الإجراءات لتقليل الدورة الزمنية الواضحة ولإعطاء النزيل انطباعًا بحسن الضيافة. في بادئ الأمر، كان تقليل عدد الخطوات التي كان على النزلاء اتباعها أمرًا مستحيلًا، إلا أن العقول المبدعة وجدت حلًّا. فوفَّر الفندق للنزلاء استراحة فاخرة بالمطار للحجز بالفندق؛ وهذه الاستراحة لدى الوصول كانت تَعْنِي أن يسترخي النزلاء على أرائك مريحة وتُقدم لهم مشروبات باردة ومناشف دافئة، في حين كان طاقم الفندق يكمل إجراءات الجمارك والهجرة، وهكذا وفروا على النزلاء عناء الاصطفاف في طوابير طويلة لعدة ساعات. وبعدها كان يوفِّر الفندق خدمة الحجز للنزلاء المميزين، حيث كان مكتب الاستقبال يُنْهِي عملية الحجز الرسمية في المطار لضمان عدم وقوع المزيد من التأخير عند وصول النزلاء إلى الفندق. ونتيجة لتلك الإجراءات، أصبح العديد من النزلاء على استعداد لدفع المزيد من النقود في سبيل الراحة والأمن المتوفرين لهم. إن الأمر لم يتغيَّر من منظور إجراءات الهجرة والجمارك، وإنما كل ما هنالك هو أن النزلاء لمسوا تخفيضًا ملموسًا في عدد العقبات المشتملة عليها هذه الإجراءات (من اثنتيْ عشرة خطوة إلى ثلاث خطوات فحسب). وبذلك نجح فندق إنتركونتيننتال في بالي في إيجاد طريقة لخلق تجربة ضيافة خاصة للنزلاء، وجني دخلٍ عالٍ — عبر «استكشاف مسارات مختلفة» والبحث عن احتمالات جديدة — في الوقت الذي كانت فيه الفنادق الأخرى تخفِّض أسعارها (نظرًا للأزمة الاقتصادية التي اجتاحت آسيا). عندما يفكر أغلب الناس في تحسين الأداء، تتملَّكهم السعادة إذا تمكَّنوا من التخلص من خطوة واحدة من خطوات عملية معقدة أو إجراء تحسينات ذات نسبة مئوية بسيطة، لكن في هذه الحالة أُجري تغيير جذري وأتى بنتائج خيالية.

من الضروري أن تكون قادرًا على إيجاد سبل أكثر كفاءة لقضايا العمل. ومثال على ذلك تحسين الدورة الزمنية الكلية لإجراءات العملاء. تتألف الدورة الزمنية الكلية من مجموع جميع أوقات كل عملية تحدث على حدة بين طلب العميل الخارجي للمنتج أو الخدمة، وتوصيل المنتج أو الخدمة ومدى إتاحته للعميل. وأما الدورة الزمنية للعمليات، فهي مجموع الخطوات المتوالية المتَّبَعة في إنجاز كل عملية. بعض الخطوات تقع بالتوازي بعضها مع بعض، لذا فالخطوة التي تستغرق وقتًا أطول هي فقط التي تضاف إلى الزمن الكلي. كما أن وقت الفراغ أو الانتظار يدخل ضمن حساب مجموع الدورة الزمنية الكلية.

إن أكبر عائق أمام تحقيق ابتكار فعَّال هو أوقات التطور البطيئة.63 إن متطلبات المستهلك السريعة التغير، والعهد بالأعمال إلى جهات في دول أخرى، والبرمجيات المفتوحة المصدر، تجعل وتيرة سير عمل السوق سريعة للغاية. ومع ذلك، فالشركات غالبًا لا تستطيع تنظيم نفسها لتسرع من وتيرة حركتها، كما يقول جورج ستوك جونيور — نائب رئيس شركة بي سي جي المخضرم الذي درس المنافسة التي تعتمد على عنصر الزمن لمدة خمسة وعشرين عامًا. وتتطلَّب الدورات الزمنية السريعة خوض المجازفة حتى في ظل عدم ضمان وجود المقابل المادي الضخم. ويقول ستوك: «تكاد بعض المؤسسات تُصَابُ بالشلل بسبب فكرة [أنها] لا تَسْتَطِيع فعلَ شيء إلا إذا أحدثت تحولًا مهولًا.» ويضيف أن السرعة تتطلَّب التنسيق من المركز، فيقول: «إن المبتكرين السريعين ينظمون مركز الشركة للحثِّ على النمو؛ إنهم لا ينتظرونه حتى يأتيهم عن طريق وحدات العمل.»

إن إعادة تصميم العملية لَهِيَ مثال عظيم يبيِّن كيف يمكن أن يُفْسِح استكشاف المسارات المختلفة المجال أمام مناهج أكثر إبداعًا.

فهم القدرة على استكشاف مسارات مختلفة

ذكرنا سابقًا أن أدمغتنا تنشئ شبكات عصبية في عمر باكر، فننجرف سريعًا وراء أنماط تفكير تعتمد على خبراتنا التي نكتسبها باستمرار، وبسهولة شديدة نُنَفِّذُ كل شيء بروتين صارم. يُعد تطوير الأنظمة كَسُبُل فَهْم وتنظيم للمعلومات على نحو فعَّال أمرًا ضروريًّا، ولكن تلك الأنظمة يمكن أن تصبح في نهاية المطاف مقيدة وخانقة لعملية التنمية الإبداعية. لذا فإزالة تلك المسارات المحددة عن عمد، واستكشاف سبل جديدة يمكن أن يكون الانطلاقة نحو التوصل إلى أساليب إبداعية جديدة لفعل الأشياء ولتناول القضايا الصعبة.

في مسابقة تقليدية للإبداع صُممت خصوصًا لاختبار التفكير التباعدي والتقاربي، طُلب من طلاب جامعيين أن يفكروا في كافة الأسباب التي قد تعترض سبيل تخرجهم في الجامعة. ثم أعطوا تعليمات بأن يتخيَّروا أحد هذه الأسباب ويبتكروا للمشكلة أكبر قدر من الحلول. واستطاع عدد كبير من الطلاب سريعًا ذكر كافة الأشياء المتخيلة التي يمكن أن تجعل الأمور تَحِيد عن نصابها الصحيح، بينما كان العديد من الطلبة غير قادرين على إظهار المرونة لإيجاد حلول إبداعية. وقد أوضح الاختبار أن أولئك الذين عجزوا عن إيجاد حلول ممكنة للتعامل مع أزماتهم كانوا الأكثر عرضة للقنوط واليأس.64

من المُهِمِّ أن تتعرف على أسلوبك النموذجي لحل المشكلات وتُفَكِّرَ في وسائل بديلة لا تفكر بها عادةً لتحل تلك المشكلات، سواء كنت تتعامل مع مشكلات شخصية أو قضايا تتعلَّق بالعمل. ويمكنك القيام بذلك إذا سلكتَ طرقًا غير اعتيادية ربما لم تكتشفها من قبل. قد تكون هذه العملية مُرْهِقة، وقد تَعْنِي التخلِّي عن بعض العادات القديمة، ولكنها قد تكون تجربة إيجابية ومنقذة في الوقت ذاته.

وَلْنبدأ بتمرين بسيط يُطلب فيه من المشاركين أن يَصِلوا بين أربع نقاط (تقع على رءوس المربع) بثلاثة خطوط مستقيمة. عليهم أن يبدءوا وينتهوا من النقطة ذاتها دون أن يرفعوا أقلامهم ودون أن يعودوا إلى الخلف. واجه العديد منهم صعوبة في تنفيذ تلك المهمة؛ لأن نجاحها يتطلَّب امتداد الخطوط المستقيمة الثلاثة خارج حدود المربع (الصندوق). وحينما يرى عقلك صندوقًا (أو كما في هذه الحالة أربع نقاط تَتَّخِذُ شكل الصندوق)، يميل إلى أن يبقى داخل الصندوق. ويتطلب الأمر بذل جهد من نوع خاص كي تفكر خارج الصندوق، أو خارج النظام. وكل نظام يعد حدًّا لمجرد أنه نظام. وينبغي على العقل المبدع أن يبحث أولًا عن حلول خارج النظام ثم عن سُبُل جديدة. والخروج عن حدود النظام (بمعنى أن تغير نظامك المرجعي) أكثر ابتكارًا من البقاء بداخله.

وحين طُلب من المشاركين أن يَصِلُوا النقاط الأربع بخطين مستقيمين متوازيين، قال أغلبهم إن ذلك مستحيل. لكن هذا مستحيل حقًّا بالنسبة للأشخاص الذين ينحصر تفكيرهم بنمط تفكير هندسي بعينه. فعندما ننظر إلى الحياة، نعتقد أن لها سطحًا مستويًا ثنائيَّ الأبعاد، حيث يبقى الخطان (البعدان) المتوازيان متوازيين إلى الأبد. ولكن إذا رُسمت هذه النقاط على سطح الأرض وسارت الخطوط المتوازية طوليًّا، فستلتقي بالفعل عند القطبين. إن إيماننا بأن الخطوط المتوازية لا تتقاطع أبدًا نابع من دروس الهندسة التي تلقَّيناها في المدرسة. لكن هندسة إقليدس، التي تُعْنَى بدراسة الأسطح المستوية، ليست إلا نوعًا واحدًا من أنواع الهندسة. فأي هندسة دون هندسة إقليدس تعتمد على دراسة المساحات المنحنية. فخطوط الطول (الخطوط العمودية) تتقاطع مع خط الاستواء (وهو خط أفقي) عند ٩٠ درجة. وقال إقليدس إن الخطين يكونان متوازيين إذا تقاطع معهما خط مقابل لهما عند ٩٠ درجة. إذن، خارج صندوق هندسة إقليدس، يمكن للخطين المتوازيين أن يتوازيا ويتقاطعا؛ هناك غموض يجب أن تتقبَّله حتى تصبح مبدعًا.

والآن سؤال للمبدعين حقًّا: هل يمكن وصل النقاط الأربع بخطٍّ مستقيم واحد؟ يمكن وصلها بجرة قلم واحدة، إذا استخدمت فرشاة رسام ذات عرض كافٍ.

إطلاق العنان لمسارات مختلفة

من أجل توضيح فكرة أن القنوات المعيارية يمكن أن تقيِّد التفكير وشرح كيفية البدء في التغلُّب على هذه القيود، نحوِّل تمرين65 إدوارد دي بونو إلى شرح متحرك. وفي هذه النسخة من التمرين، تَتَسَاقَطُ الحروف من أعلى الشاشة لأسفلها واحدًا تلو الآخر: كان A أول حرف، ثم أتبعه T لتتكون الكلمة AT، ثم جاء دور الحرف R بعد ذلك وأضيف إلى سابقيه لتتكوَّن الكلمة RAT (بمعنى فأر). وعندما سقط الحرف E — ها قد بدأت تفهم اللعبة — وإذا أضفت الحرف E إلى نهاية الكلمة الأخيرة، فستصبح الكلمة الجديدة هي RATE (بمعنى معدل). ثم كان الظهور التالي للحرف G الذي عندما أُضيف تكوَّنت الكلمة الجديدة GRATE (بمعنى حاجز ذي قضبان). حتى الآن، كانت المعلومات الجديدة تُضاف بسهولة إلى الهيكل القائم، ولكن الحرف التالي سيؤدِّي إلى اضطراب النظام؛ لأنه لا يقع في القناة المعتادة. الحرف التالي هو T، ويبدو أنه ما من طريقة سهلة لإضافته … لذا فإننا بحاجة إلى إجراء تعديل على ترتيب الحروف. فأصبحت الكلمة الجديدة التي نتجت عن تلك الحروف هي TARGET (بمعنى هدف) التي لم تكن لتتكوَّن إذا لم تكن مستعدًّا لتغيير نظام الحروف وإعادة ترتيبها من الصفر.

يتبيَّن لنا من هذا المثال البسيط مدى تأثير التسلسل الزمني المرتبط بإيصال المعلومة في بناء الهياكل. إن الهياكل تَكُون بحاجة إلى تغيير نظامها أو إعادة بنائها حتى تتكوَّن مفاهيم وأفكار جديدة بأسلوب مختلف، وهذه العملية تُعَدُّ تعريفًا نافعًا للإبداع. فلن تتقدم بدون الإبداع في مثل هذا النوع من الأنظمة، ونحن بحاجة إلى التفكير الإبداعي من أجل التحرر من الهياكل المؤقَّتَة التي أقامها تسلسل خبرات معين. والإبداع ليس مجرد وسيلة لتحسين الأوضاع؛ فدون الإبداع لن نستطيع أن نحقِّق الاستفادة الكاملة من المعلومات والخبرات المتاحة لدينا بالفعل. إنها حبيسة في الهياكل القديمة، كما أننا في أغلب الأوقات نتخيَّر أول السبل المتاحة أو أسرعها مع أنها لا تكون الأفضل دائمًا. وإذا تناولنا المشكلات من منظور إبداعي، فلسوف يكون في مقدورنا العثور على طرق فعالة للتقدم.

إن استكشاف مسارات مختلفة يمكن أن يُحَسِّنَ المحصلة النهائية والخبرة الكلية بنسبة تصل إلى ٣٠٠٪. انظر إلى دراسات الحالات الآتية:
  • دشَّنَت شركة بروكتر آند جامبل (بي آند جي) برنامج «تزامن البيانات العالمية» في الصين حصريًّا، ودعت أكبر تجار البيع بالتجزئة مثل كارفور للانضمام إلى برنامج يهدف إلى ربط تجار البيع بالتجزئة بشركة بي آند جي عن طريق أدوات عالية التقنية. ومكَّن البرنامج تجار البيع بالتجزئة من الحصول على معلومات حول المخزون والمنتجات في الوقت المناسب، إلى جانب معرفة أحدث اتجاهات المبيعات. لقد مكنت العملية الجديدة بي آند جي من زيادة إتاحة منتجاتها على أرفف المتاجر، وخُفِّضَ المخزون بنسبة تصل إلى ٣٠٪؛ مما يعني تحسين الكفاءة والفاعلية والربح في نهاية المطاف66 (انظر إلى دراسة الحالة وخطة الإنقاذ المفصلة في الفصل التاسع).
  • عندما أجرى المديرون التنفيذيون بشركة طيران ساوث ويست إيرلاينز مقارنات معيارية لزمن الرحلة لديهم — من بدايتها إلى نهايتها — مع الزمن الذي تستغرقه شركات الطيران الأخرى، اكتشفوا أنهم كانوا أَحَدَ الروَّاد بالفعل. ولذا فقد اجتازوا مجال الخطوط الجوية في بحثهم عن أفضل الخبراء في هذا المجال حول العالم، ووجدوا ضالتهم بالفعل في سباق الفورمولا وان. واستطاعت ساوث ويست إيرلاينز أن تُخَفِّض زمن تزويد الوقود الإضافي من أربعين دقيقة إلى اثنتي عشرة دقيقة من خلال تَبَنِّي العمليات المتبعة في مواقف تجمُّع سيارات السباق للتزود بالوقود.67،68
  • أفاد قدوم المدير الجديد، سيرجيو ماركيوني بأفكاره المبتكرة شركة فيات؛ فأضحت قادرة على أن تختزل الوقت الذي تستغرقه في إيصال منتجاتها إلى السوق من أربع سنوات إلى ثمانية عشر شهرًا. وعندما تولى سيرجيو الإدارة نقل عنه قوله: «عندما كنت تتجول في المصنع، كان بإمكانك أن ترى الهدر. لم تكن المشكلة في الفوضى فحسب، وإنما في الطريقة التي يتحرك ويعمل بها الناس.»69
  • أظهرت الأبحاث التي أُجريت عن المتاجر أن عملية تغيير أماكن الموظفين المسئولين عن تسجيل المشتريات وحساب الزبائن استطاع أن يخفِّض عدد ساعات العمل بمعدل ١٢٥٠٠ ساعة سنويًّا؛ الأمر الذي يَعْنِي خفض الأجور بمعدل ٢٫٥ مليون دولار سنويًّا لدى المتاجر التي تبنَّت تلك الاستراتيجية.70
  • خاضت متاجر ألدي ساحة المتاجر سريعًا كمنافس قابل للاستمرارية في ذلك المجال المعقود بإحكام، والصعود في مقابل العملاقين وولورثز وكولز، وذلك بحفاظها على انخفاض أسعارها كثيرًا عنهما، وتوفيرها خدمة أسرع بكثير لدى تسجيل المشتريات وحساب الزبائن. وقد فعلت متاجر ألدي ذلك من خلال تنفيذ العملية البسيطة التالية:71

    • منتجات أقل = مخزون أقل + تنسيق + حجم متجر أصغر.

    • علامة تجارية = باركود متعدد خاص = تسجيل مشتريات أسرع لدى الخروج.

    • تسجيل مشتريات أسرع = فريق عمل أقل + زبائن راضون.

بينما يضيِّع الكثير من الناس أوقاتهم في محاولة فهم كيفية تحسين أداء العمليات القائمة، غالبًا ما يتحدى المبتكرون الافتراضات التي تكمن خلف العمليات.72

لا شيء يتفوَّق على مثال البنك الذي واجه طوابير مرعبة تصل مدة الوقوف فيها إلى خمس ساعات. لقد دعانا البنك لتقديم يَدِ العون في إعادة تصميم عملياته، وقد استخدمنا تمرين «استكشاف مسارات مختلفة» لنرى كيف يمكنه التعامل مع تلك المشكلة. لقد اكتشف المسئولون خلال تطبيق العملية أن الأشخاص الذين لم يكن لديهم حساب في ذلك البنك كانوا يُقبِلون عليه لصرف شيكات بقيمة خمسة دولارات حتى يهربوا من حرارة الجو بالخارج التي تصل إلى ٤٥ درجة، ويتمتعوا بجو مُكَيَّف لطيف! تَوَصَّلَ البنك إلى حل وهو وقوف موظف عند الباب الأمامي حتى يسأل الوافدين عن غرضهم من البنك. أما الذين قصدوا البنك من أجل صرف الشيكات، فقد تم توجيههم إلى فرع آخر، والذين قصدوه لفتح حساب أو لإجراء معاملات بنكية أخرى — وهم يمثلون السوق المستهدفة للبنك — فقد سمح لهم بالدخول.

ترغب شركات عديدة في مضاعفة عائداتها، وبضيق أفقها تفترض أن ذلك يَعْنِي مضاعفة ربحها من حيث النمو. ولكن هل هناك وسائل لزيادة النمو بطرق أخرى بديلة عن مجرد توليد مزيد من المبيعات؟ لقد استطاع فندق إنتركونتيننتال في بالي ودراسات حالة أخرى نوقشت هنا تغييرَ العملية دون اللجوء في الغالب إلى تغيير الأنظمة وفَقْدِ السيطرة عليها (مُحْدِثين بذلك طفرة إبداعية). وبالإدراك المتأخِّر للأمور، وُجد أن تلك الطفرات الإبداعية — رغم أنها لا تبدو دائمًا شديدة الروعة — أفادت الشركات المعنية إفادة عظيمة في سوق العمل. فحينما يصل الراكب إلى المطار، يستحيل أن تهبط الطائرة على باب حجرة النزيل مباشرة وأن تُختصر كافة الروتينات البيروقراطية. ولكن بالتفكير بأسلوب ذكي وماهر، من الممكن تغيير فكرة النزيل وخبرته عن المكان. والآن، بفضل أولئك الذين أعادوا تشكيل المفاهيم الشائعة واستكشفوا مسارات جديدة، نحن لا نبذل أيَّ جهد في حجز الفنادق عبر الإنترنت أو فتح باب حجرتنا باستخدام الهواتف الذكية؛ مما جعل التجربة بأكملها أسرع وأسهل وأرخص!

التدرُّب على أسلوب استكشاف المسارات المختلفة

بإمكانك أن تتدرب مستخدمًا هذا الأسلوب عن طريق استكشاف حلول لإحدى الموضوعات التي حددتها في القسم السابق. انظر إلى الخريطة الذهنية التي وضعتها في آخر خطوة، وحَدِّدِ الطرق التي استخدمت بكثرة في سبيل حلها، مثل مواطن الاكتظاظ المروري ومضاعفة العمالة. وانظر أيضًا إذا كان في إمكانك إيجاد سبل بديلة أكثر فاعلية تمكِّنك من التوصُّل إلى الحلول في أقرب وقت. وإذا ظللت كما كنت، تنشئ طرقًا بالية على طول الخط السابق نفسه، فلربما تحتاج إلى استكشاف احتمالات مختلفة وقَطْع سبل مختلفة.

وحتى تتبع سبلًا مختلفة وتجد حلولًا أبسط وأوفر وأعلى كفاءة أثناء تطبيق عملية إعادة التصميم، فأنت بحاجة إلى:
  • تخطيط العملية.

  • تحديد المسئول عن كل خطوة.

  • تحديد قائمة بالجوانب التي يمكن أن تتعثَّر فيها الأمور.

  • ابتكار أساليب للتقليل من مواضع الخطر تلك.

  • تقليل الأخطاء عن طريق تقليل عدد الخطوات.

وتذكَّرْ أن كل خطوة هي فرصة جديدة للوقوع في الخطأ. وللتدريب، ابدأ بنشاط يومي تقوم به بانتظام، وحاول أن تقوم به بأسلوب مختلف تمامًا:
  • اسلك طريقًا مختلفًا أثناء ذهابك للعمل، وانظر ماذا ستلاحظ أثناء سيرك في الطريق.

  • حاول طهي أكلة جديدة تمامًا، أو أضف مكونات مختلفة إلى وصفتك المفضلة.

  • غيِّر روتينك المعتاد «للاستعداد في الصباح».

التطبيق العملي لاستكشاف مسارات مختلفة

فكِّر في مشكلة تتطلب حلًّا. حدد الحل المعتاد، ثم فَكِّرْ في السبيل الذي قد يسلكه غيرك؛ مَن هم في مثل موقفك. ابتكر عدة أساليب مختلفة ممكنة يمكن أن تحل بها المشكلة.

ملخص استراتيجية الإنقاذ

  • تقبَّل فكرة أنه يمكن أن يكون هناك أكثر من سبيل لتناول المواقف.

  • استخدم أسلوب التفكير التباعدي الذي ينتج عن البراءة الإبداعية.

  • استعدَّ لاستكشاف خيارات مختلفة واسلك سبلًا مغايرة لتحسين مستوى الكفاءة والفاعلية.

(٤-٢) نمط المنقذ السابع: الإيجابية

هذا الانتهازي المتفائل — الذي تجسِّده الإيجابية — يمثل كلًّا من الاتجاه والمنهج المطلوبين من أجل البقاء والازدهار في خِضَمِّ التحديات. فعن طريق تحديد السبب الرئيسي لاتخاذ الإجراءات والحافز المتواصل، تَدْعَمُ الإيجابية عملية التحول وتُبْقِي عليها. ومن منظور الفكر التفاؤلي واستراتيجيات اللغة، لا تُعدُّ الإيجابية الحقة مجرد حالة ذهنية، وإنما هي اعتقاد راسخ أو نظام للقيم يجعل الإجراءات تُرَكِّز على الهدف المَرْجُوِّ. وبذلك تُناقض الإيجابية السلبية التي قد تعقب الفشل، وتضمن استمرار النجاح على المدى البعيد. واستراتيجية الإحياء المفضلة لدى الإيجابية هي تَبَنِّي التفاؤل، وهي تتولَّى مهمة الإنقاذ من المشتَبَه بهم في جريمة القتل من فوج التشاؤم أمثال السلبية واليأس والافتقار إلى الثقة، وسلاحهم المختار هو «السلبية الخبيثة».

وطريقة عمل الإيجابية تُلاحَظ في طريقة تعامل الأطفال الصغار مع الرياضة. فحينما يتعلَّم الأطفال لُعْبَة التنس، يمكن أن يُخطِئوا إصابة الكرات الموجهة، فيتغاضون عن الأمر بسرعة ويحاولون مرات عديدة تصل إلى مرة واحدة كل عشر ثوانٍ، بما يعادل ٣٦٠ محاولة في الساعة! إن الفوز في رياضة التنس والجولف وألعاب الكرة الأخرى لا يتحقق بمجرد تسديدة موفَّقة، وإنما من خلال القدرة على إدارة الأخطاء بفاعلية. فالأبطال هم الذين يتعافَوْن سريعًا بعد الفشل.

يتسبَّب الفشل في تَغَلْغُل الشعور لدى الفرد بقلة الحيلة على الأقل مؤقتًا؛ فهو يشبه اللكمة المُوجِعة في المعدة. وألمُه عادةً ما يشعر به المرء بِحِدَّةٍ ثم يَخْتَفِي من جديد، ولكنه يستمر لدى البعض. ولهؤلاء، يسبب الألم الإعاقة على المدى الطويل وقد يزرع في أنفسهم الضغينة أو الشعور المترسِّخ بقلة الحيلة. وأولئك الذين لا يستطيعون استعادة عافيتهم بسلاسة عقب الفشل يجدون صعوبة في الإبقاء على حماستهم لما يقومون به. والفرق الجوهري في التعافي يكمن في الطريقة التي يُفسَّر بها الفشل؛ فالأشخاص الذين يتعافون بصعوبة يفكرون قائلين: «هذا خطئي [أو مشكلتي]، وسوف تستمرُّ مدى الحياة، وسوف تهدم كل ما أفعله.» وأما أولئك الذين يتعافون بسهولة فيقولون: «كانت تلك مجرد ظروف مَرَرْتُ بها، والشعور بالفشل سوف يَمُرُّ مُرور الكرام، فهناك الكثير في تلك الحياة ينبغي أن أكون إيجابيًّا تجاهه.»

حينما يَعْصِف التشاؤم، تتداعى القدرة على التفكير بإيجابية وبحيادية في المواقف. فتحت تأثير هجمات الغاز في الحرب العالمة الأولى، يشتد جوع المخ لغاز إنقاذ الحياة؛ الأكسجين، فيصيب الضحية بعجز عن التفكير بوضوح. وكذلك يُستنزف العقل عندما يفتقر إلى التفاؤل؛ شريان الحياة. والإيجابية — من ناحية أخرى — سبب عظيم يبعث على الحياة، حيث تُزَوِّد صاحبها بالأكسجين اللازم للتنفس في أي موقف. هذه ليست مجرد وجهة نظر إيجابية فارغة تتجاهل حقيقة الموقف. وفي واقع الأمر، اكتشف الباحثون أن الشخص إذا ما رسم صورة وردية لما يتوقع أن يحققه، بينما يكون تحقيقه أمرًا صعب المنال، فإن ذلك سوف يُصيب فرص النجاح في مقتل.73 إن الإيجابية لا تَعْنِي السعادة الدائمة بالمثل، ولكنها ضرب من الأكسجين الذي يُطَهِّرُ العقل من الضبابية، ويجلب له وضوح الرؤية والهدف.
ولقد اكتُشف أن المتفائلين هم الأعلى إنتاجًا في كافة مجالات حياتهم والأكثر صحةً والأطول عمرًا. فحينما يغمر الأفرادَ شعور بالتفاؤل، فإنهم يعملون بتركيز أكبر ويُحَقِّقُونَ المزيد من الطموحات ويُشَجِّعُونَ مَنْ حولهم وتتراءى لهم المشكلات على هيئة فرص، كما يشعرون بأن الصراع أَخَفُّ وطأة، وكذلك هم الأكثر حماسةً في بيئة العمل.74 فكلٌّ من المتفائل والمتشائم عرضة لمشكلات الحياة، بيد أن المتفائل هو الذي يَصْمُد أمام كل الظروف على نحو أفضل. ولكن تذكَّر أن الموضوع ليس متعلقًا فقط بالقدرة على التفكير الإيجابي، وإنما يتعلَّق بمدى تجاوبنا مع الأحداث وخاصة الفشل. ويمكن أن يصبح أسلوب تجاوبنا مع الأحداث المعاكسة سلوكًا اعتياديًّا وذا توابع في مجالات حياتنا المختلفة، وردود الفعل تلك يمكن أن تَعني الفارق بين الاستسلام أو التصميم على تحقيق الأهداف.
إن الكلمات التي نتخيَّرها لوصف حدث ما يمكن أن يكون لها تأثير على مدركاتنا وعلى سلوكنا بالتبعية. فعندما نعبِّر عما نراه لفظيًّا، فإن لغتنا تتفاعل مع خبرتنا المباشرة، فتنشأ حقيقتنا من هذا التفاعل.75 كما أن أهم حوار نُجريه كل يوم يكون مع أنفسنا؛ إذ إن الحوار النفسي يشكِّل صورتنا الذاتية، وهي المسئولة عن نجاحنا أو على النقيض انهيارنا الذاتي. وإذا انعدمت الصورة الذاتية الإيجابية، فإن «خطى الفرد سوف تتثاقل»، أما الفريق فسيفعل المطلوب منه على نحو «يفي بالغرض» وحسب. بينما في ظل وجود صورة ذاتية إيجابية، سيصبح من الممكن اكتشاف عالم جديد بالكامل. إن عملية الحوار النفسي اللاشعوري أو التفاؤل المكتسب يمكن أن يُستخدم كوسيلة مساعدة قوية للتعلم، وأداة علاجية في مواجهة الاضطرابات، ومن ثم تتبدد المخاوف ومشاعر الرهبة، ويُعاد إحياء الإبداع.

يُعيد التفاؤل الحياة لعملية التفكير الإبداعي، مع ضمان الحفاظ على كافة الأفكار والبدايات النيرة ويَمنعها من أن تخبو سريعًا، إلى جانب ضمان وجود قدر كافٍ من الأكسجين اللازم للحياة حتى تزداد الشعلة ويوقد اللهب.

(أ) استراتيجية الإنقاذ السابعة: تَبَنِّي التفاؤل

تخيل جول فيرن غوَّاصة نووية في روايته «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» عام ١٨٧٠، غير أنها لم تكن مجرد فكرة مستقبلية غامضة. فقد كان طول البدن الأسطواني للغواصة نوتيلوس يبلغ سبعين مترًا، بينما يبلغ عرضه ثمانية أمتار. أما البدن المزدوج، فكان مدبب النهايات تمامًا مثل السيجار. ورفَّاص الغواصة ذو الأربع شفرات بلغ قطره ستة أمتار بزاوية تَبَاعُد تبلغ سبعة أمتار ونصف المتر. وكان هناك دفة عادية مثبتة في مؤخرة الغواصة، وطائرتا غوص على جانبي مركز الطفو. وعندما كانت نوتيلوس تطفو على السطح، يظل ٩٠٪ منها تحت سطح البحر، ولذا كانت منصتها تعلو عن مستوى الماء بثمانية أمتار. لقد أظهر فيرن بصيرة لافتة للنظر بشأن الكيفية التي يمكن أن تتقدم بها العلوم والتكنولوجيا. لقد تنبَّأ فيرن أيضًا بعناصر المشكلات البيئية القادمة في ذلك الحين، وانتقد ضمنيًّا استغلال الشعوب المستعمرة من خلال شخصية الكابتن نيمو. فكان يؤمن بما «يُمكن» فعله في المستقبل بدلًا من أن ينصبَّ تركيزه على ما «لا يمكن» فعله حاليًّا. وبالمثل يركِّز التفاؤل دائمًا على ما يمكن حدوثه مستقبلًا وليس على القيود الحالية أو الإخفاقات الغابرة. قال ألبرت أينشتاين ذات مرة: «الخيال هو عرض مسبق للأشياء الجذَّابة المقبلة في حياة المرء.» إذا تعلمنا كيف نوسع أفقنا، فإننا لن نرى الاحتمالات الجديدة فحسب بل سنُحِيلُها حقيقةً أيضًا.

إننا نأمل الآن أن تدرك أن الأشخاص الذين يستطيعون حل مشكلات الطوابير أمام البنوك والمطارات — والتي تستغرق ساعات طويلة — أو أولئك الذين يمكنهم وصل النقاط الأربع في مربع بخط واحد مستقيم، يتشاركون في خصلة خاصة تهيمن عليهم. أمَّا أولئك الذين يقولون: «لا نستطيع فعل ذلك» فيُنْهون التحدي عند هذه النقطة؛ لأنهم يكونون قد انسحبوا بذلك من اللعبة. فعجزهم المكتسب يؤكِّد أنهم لن يتقدموا نحو حل أفضل. وأما الذين يعتقدون أن بإمكانهم إيجاد حلول فَهُم أولئك الذين يَجِدُونها في الغالب.

فَهْم التفاؤل

يوضح إعلان بترول شِل (انظر الفصل الثاني) الاستراتيجية النهائية الشاملة المتبعة في عملية التفكير الإبداعي (وهي في واقع الأمر تَوَجُّهٌ ضروري أكثر منه استراتيجية)؛ إذ توضح أهمية الاعتقاد؛ أهميةَ أن تظل متفائلًا في ضوء التحديات الواضحة.

وتعيد آخر قطعة في الأُحْجِيَة إلى أذهاننا الحاجة إلى استمرارية المثابرة؛ الحاجة إلى أن تتفهَّم الأخطاء والإخفاقات على أنها عراقيل مؤقتة. فالمتفائلون يتعاملون مع العراقيل على أنها تجارب يتعلَّمون منها، ثم لا يلبثون أن يتعافوا منها ويحاولوا من جديد بعزم متجدد. كما أن المتفائل ينظر إلى الموقف السيئ على أنه تحدٍّ، ولذا يحاول أكثر. إن تبنِّي التفاؤل هو الأسلوب الوحيد الذي سيُمَكِّنُنَا من أن نقَدِّر قيمة المحاولة والخطأ على مدار العملية الإبداعية، وأن يظل لدينا الحافز الكافي لمتابعة عملية التقدم الإبداعي حتى نحصد نتاجها. بينما يميل المتشائمون إلى الاعتقاد بأن الأحداث السيئة ستدوم طويلًا، وأنها ستهدم كل شيء يقومون بإنجازه، وأنهم هم أنفسهم السبب في وقوعها. كما أن التشاؤم يمكن أن يحيل العراقيل إلى كوارث، بيد أن هناك التشاؤم المعتدل الذي له نفعه إن وظفه صاحبه بحكمة، ولكنه إذا ما عصف بعقولنا بغير سيطرة عليه، فقد يُصِيبُنَا بالشلل. أما التفاؤل على الجانب الآخر فيمدُّنا بالقوة.76

إطلاق العنان للقدرة على التفاؤل

يتحقَّق النجاح بتأكيد القدرة على الإنجاز، وكما يقول إدوارد دي بونو: «نحن بحاجة ليس فقط إلى أن نضع في اعتبارنا قياس حتمية قدرتنا على فعل الأشياء، بل أيضًا إلى قياس احتماليتها.»77 فبإمكاننا تَبَنِّي القدرة على التفاؤل وتوظيفها في حياتنا عن طريق تحديد ما يمكن أن نتعلَّمه من الإخفاقات، ومعرفة أهمية الإبقاء على موقفنا التفاؤلي أثناء الإخفاقات.
ماذا عسانا أن نتعلَّم من الفشل؟ جَرِّبِ التمارين الآتية لكي تكتشف بعض الحلول:
  • خُذْ حلًّا يبدو مستحيلًا من خريطة عقلك، وابحث عن كيفية تحقيقه، واتَّبِعْ مسارًا واحدًا على خريطة العقل وانظر إلى الطريقة التي يمكن بها حل المشكلة.

يمكن أن نحصل على الإلهام من أولئك الذين قَبِلُوا التحدي كي نواظب على التفاؤل ونظل متفائلين. ما مدى صعوبة تركك للأمر برمته؟ ما الذي يجعلك تتراجع ولماذا؟ فَكِّرْ في أولئك الرياضيين المعاقين الذين صمدوا من أجل التغلُّب على التحديات البدنية سعيًا وراء تحقيق أهدافهم. أي نوع من الإلهام ذلك الذي يُمكنك الحصول عليه من قصصهم؟ هناك العديد من القصص ودراسات الحالة لأشخاص تَخَيَّلُوا المستقبل لتحقيق طفرة إبداعية أو صلة بارعة، ثم ثابروا فأصبحوا مشهورين. انظر أَنَّى لك أن تبدأ لتخلق احتمالاتك.

التدرُّب على تَبَنِّي التفاؤل

  • جَرِّبِ التأكيدات الإيجابية بدلًا من الانتقادات الجارحة.

  • تَدَرَّبْ على ترديد «ليس بعد» بدلًا من «لا» أو «لا أستطيع».

  • اتخذ لنفسك هواية أو مارس رياضة جديدة، ولا تستسلم حتى تصبح بارعًا فيها.

  • دوِّن ملاحظات عن الأشياء الإيجابية التي تحدث كل يوم، ولْتَتَّخِذْ لنفسك بضع دقائق للتأمل واكتب ما اكتسبته من خبرات كل ليلة.

التطبيق العملي لَتَبَنِّي التفاؤل

  • اكتب عبارة تُعَبِّر فيها عن إحساسك تجاه مشكلة تعاني في العثور على حل لها في العمل أو المنزل.

  • والآن أَعِدْ صياغة هذه العبارة بأسلوب يجعلها إيجابية (قابلة للتحقيق، قابلة للإدارة، قابلة للحل).

ملخص استراتيجية الإنقاذ

  • صُغْ نموذجًا للحوار الإيجابي مع النفس واللغة الإيجابية والتزم به.

  • تَدَرَّبْ على التفكير الإيجابي التفاؤلي لتشكيل سلوكيات مرنة وتعزيز التفاؤل.

  • أعد صياغة (أو غيِّر) اللغة والخبرات المقيدة لتحصل على مخرجات إيجابية.

ما إن تنمِّ تلك المهارات كلها، فستكتشف أنه بإمكانك المجازفة وإنقاذ التفكير الإبداعي، خطوة تلو الأخرى. وسرعان ما ستكتشف أنه يمكن إحياء الإبداع في كافة أرجاء المؤسسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤