الفصل الثالث

المدرسة الفارسية التترية

تحدثنا في الفصل السابق عن مدرسة بغداد وقلنا إنها عربية فارسية تأثرت بالتصوير عند مسيحيي الشرق وبالفن الساساني، ونعرض الآن للمدرسة الفارسية التترية، وهي أولى المدارس الثلاث التي امتازت بها العصور الثلاثة الكبرى في تاريخ إيران من القرن السابع حتى الثاني عشر (الثالث عشر حتى القرن الثامن عشر الميلادي): عصر المغول وعصر تيمور وخلفائه وعصر الأسرة الصفوية.

ونحن نعلم أن المغول غزوا إيران وبلاد الجزيرة في أوائل القرن السابع الهجري (الثالث عشر)، وتوجوا حروبهم الطويلة وفتوحاتهم الكبيرة بالاستيلاء على بغداد سنة ٦٥٦ﻫ/١٢٥٨م، فأصبحت مقر أسرتهم في الشتاء كما كانت تبريز مقرها في الصيف. وشيد المغول في العراق العجمي مدينة سموها سلطانية عند خط تقسيم المياه بين نهري زنجان وأبهر، وكانت هذه المدن الثلاث أهم المراكز لصناعة التصوير في عصر المغول.

ومن أهم مميزات هذا العصر في الفنون بأنواعها أثر واضح لتعاليم الشرق الأقصى وتقاليده، وليس خفيًّا أنه منذ القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) كانت هناك علاقات تجارية بين الصين والإمبراطورية الإسلامية، وكانت الطرق الفنية الصينية يكثر تقليدها في البلاد العربية، حيث كانت تصرب الأمثال بمهارة الصينيين وتفوقهم في الصناعات والفنون.

وليس غريبًا أيضًا أن يصحب غزو التتر للإمبراطورية الإسلامية ازدياد العناصر الصينية في التصوير الفارسي، فقد كانت العلاقات متينة منذ القدم بين بلاد ابن السماء وبين وطن المغول في تركستان، وعندما فتح هؤلاء إيران في القرن السابع (الثالث عشر) كان مواطنوهم قد استولوا على مقاليد الحكم في الصين، فأصبحت إيران جزءًا من إمبراطورية مغولية كبيرة امتدت إلى الطرف الأقصى من آسيا.

وعوامل الاتصال السياسية لم تكن قوية وما لبثت أن زالت، ولكن التجارة والروابط الأدبية كانت أدوم أثرًا، وقد صحب المغول في ملكهم الجديد تراجم وعمال وصناع وفنانون من أهل الصين، فأصبح أثر الشرق الأقصى مباشرًا.

وليس أثر الصين في التصوير الفارسي قاصرًا على ما افترضه الإيرانيون من الصناعة الصينية، ولكنه فوق ذلك كان باعثًا على عرفان هؤلاء بما يمكن الوصول إليه من التقدم في هذه الصناعة، فالواقع أن الصور المصغرة الفارسية كانت بعد سقوط بغداد سنة ٦٥٦ﻫ/١٢٥٨م أعرق في الفارسية مما كانت عليه قبل هذا التاريخ.

على أن الصور التي تنسب إلى هذه المدرسة الفارسية التترية ليست كثيرة العدد؛ لأن عصر المغول ٦٥٦–٧٣٥ﻫ/١٢٥٨–١٣٣٥م كان مملوءًا بالحروب والفتوح، بيد أنه في أوائل القرن الثامن (الرابع عشر) تظهر المخطوطات التاريخية مزينة بصور المواقع الحربية ومجالس الشراب ومناظر الصيد.

ومما لا ينبغي نسيانه أن فتح المغول لم يكن قاضيًا على مدرسة بغداد، بدليل ما نراه من الصور التي تظهر فيها صناعة هذه المدرسة ممزوجة ببعض التقاليد الصينية التي اكتسبها التصوير الفارسي في ذلك العصر، وقد تظهر الصناعتان جنبًا إلى جنب، وقد توجد في مخطوط واحد صور صناعتها بغدادية وأخرى فارسية تترية.

وفي مكتبة مورجان بنيويورك مخطوط عن منافع الحيوان لابن بختيشوع مترجم إلى الفارسية وبه أربع وتسعون صورة، وقد عمل هذا المخطوط بأمر الأمير المغولي غازان خان ٦٩٥–٧٠٤ﻫ/١٢٩٥–١٣٠٤م وتم بين سنتي ٦٩٥–٧٠٠ﻫ/١٢٩٥–١٣٠٠م. وبعض صوره إما منقولة عن نماذج صينية وإما رقمها فنانون صينيون. وأكثر ما يظهر ذلك في تصوير الحيوانات والزهور والنباتات؛١ فقد تعلم المسلمون من الشرق الأقصى تقليد الطبيعة والدقة في رسم الأشياء على ما هي عليه؛ فالنباتات التي يرسمونها حين يتأثرون بالفن الصيني لا تكون تقليدية يصعب تمييزها، بل يزيد القرب بينها وبين الطبيعة، وتميل الأشجار كأن الريح تداعبها.٢

على أن صناعة التصوير لم تلق في عصر المغول بوجه عام تلك العناية التي كانت تلقاها في بلاط العباسيين، أو التي لقيتها بعد ذلك في بلاط التيموريين والصفويين؛ ولسنا نقصد بذلك أن هناك إعراضًا عن هذه الصناعة أو إهمالًا لها، ولكن نلاحظ آثار العجلة التي نراها في صناعة أكثر الصور الفارسية التترية؛ فالحروب الكثيرة التي امتاز بها هذا العصر لم تكن لتجعل الأمراء وكبار رجال الدولة يطمعون في عمل دقيق يستغرق الوقت الطويل. فصور هذه المدرسة والحالة هذه يعجب بها مؤرخو الفن الإسلامي لقوتها ولغرابتها أكثر من إعجابهم بدقة في صناعتها أو عناية في تصويرها.

وقد بنى الوزير الكبير والمؤرخ المشهور رشيد الدين ٦٤٥–٧١٨ﻫ/١٢٤٧–١٣١٨م ضاحية لتبريز، سماها باسمه واستخدم فيها خطاطين وفنانين لتدوين تآليفه التاريخية والفلسفية ولتصويرها.٣
ومن أهم ما وصل إلينا من الصور التي تنسب إلى المدرسة الفارسية التترية مخطوط من كتاب جامع التواريخ للوزير رشيد الدين نفسه، يرجع عهده إلى سنة ٧١٤ﻫ/١٣١٤م، ومنه جزء محفوظ الآن في الجمعية الآسيوية الملكية بلندن، والجزء الآخر في مكتبة جامعة أدنبرا. وصور هذا المخطوط كالصور التي نراها في سائر مخطوطات جامع التواريخ لرشيد الدين، تمثل حوادث من الإنجيل ومن حياة بوذا ومن السيرة النبوية ومن تاريخ الصين والإمبراطورية الإسلامية. والظاهرة التي تميز هذه الصور هي الأثر الصيني الواضح في رسم المناظر الطبيعية، وفي السحنة المغولية التي تظهر في رسم أكثر الأشخاص؛ ولهذا المخطوط أهمية كبيرة؛ إذ إننا نرى في كثير من صوره العوامل الأجنبية التي أخذها الفن الفارسي عن الشرق الأقصى، والتي لم يكن قد هضمها بعد.٤ وتمثل إحدى صور هذا المخطوط سيدنا عليًّا وسيدنا حمزة — رضي الله عنهما — راكبين في طريقهما إلى مفاوضة المشركين؛ ولا تزال تقاليد مدرسة بغداد غالبة في هذه الصورة، فأشخاصها سحنهم عربية، وخيولهم ضامرة تختلف كثيرًا عن الخيول المغولية.٥ والواقع أن هذه الصور ميدان تجتمع فيه تقاليد الشرق الأقصى بتقاليد مدرسة بغداد والفنون التي أثرت فيها.

وفى المكتبة الأهلية بباريس مخطوط آخر من جامع التواريخ لرشيد الدين، أكبر الظن أنه صنع في تبريز بين عامي ٧١٠–٧١٥ﻫ/١٣١٠–١٣١٥م. ومن صوره صورة تمثل المغول وعلى رأسهم هولاكو يحاصرون بغداد، وأخرى تمثل المستعصم آخر خلفاء العباسيين يعبر نهر الدجلة ليلقى هولاكو بعد سقوط بغداد سنة ٦٥٦ﻫ/١٢٥٨م، وثالثة تمثل جنكيز خان بين زوجاته ورجال بلاطه وأمامه ابناه قد ركعا يقدمان واجب الطاعة والاحترام، ويظهر في صور هذا المخطوط الأثر الصيني في محاكاة الطبيعة، وفي رسم الحيوانات الخرافية الصينية، وفي شكل السحب الذي نقله الفرس عن الصين بشكله التقليدي الوضعي، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة مشاهدة السحب ورسم منظرها الحقيقي.

ومما يشبه في الصناعة مخطوطات جامع التواريخ لرشيد الدين نسخة من الشاهنامة يرجع عهدها إلى النصف الأول من القرن الثامن (القرن الرابع عشر)، كان يملكها قديمًا المسيو ديموت Demotte، ثم تفرقت أوراقها بين اللوفر والمجموعات الأثرية في أوروبا وأمريكا؛ وصور هذه الشاهنامة كبيرة الحجم، ولعلها أقدم ما يعرف من تصوير لهذا الكتاب؛ وأما ميزتها فوجود العوامل الفارسية والصينية والمغولية فيها جنبًا إلى جنب.٦
وفي اللوفر بباريس ثلاث من هذه الصور، تمثل الأولى الجيش الإيراني يطارد ملك كابل على رأس جيشه المهزوم، ويقود الإيرانيين فرامرز بن رستم وعلى رأسه خوذة من الذهب، وفي يده حربة يرفعها ليطعن بها ملك كابل الذي يفر أمامه.٧ والصورة الثانية تمثل الإسكندر جالسًا على عرشه ويحيط به رجال بلاطه، وحول رأسه هالة لا تدل على قدسيته كما تدل أكاليل النور حول رءوس القديسين في الفنون المسيحية؛٨ فإن هذه الأكاليل استعملت في الفن الإِسلامي لإِظهار أهمية الأشخاص وعظمتهم فحسب.٩
والصورة الثالثة تمثل الإسكندر وقد وقف أمام شجرة يحدث الطيور، وخلفه خادم أمسك بعنان حصان وبغل.١٠ ونحن نرى في هذه الصور ما أخذه الفرس عن الصين من تمثيل للسحب وما يرتديه الأشخاص من خوذات مغولية.
وفى المكتبة الأهلية بباريس مخطوط من تاريخ المغول لعلاء الدين الجويني، كتب في سنة ٦٨٩ﻫ/١٢٩٠م، وفيه صورة واحدة تمثل هذا المؤلف يقدم نسخة من كتابه إلى السلطان أرغون.١١
وهناك أيضًا عدة مخطوطات من تاريخ الطبري، ونسخة من شاهنامة كان يمتلكها الأستاذ شولتز Schulz، وفيها كلها صور لا تختلف صناعتها كثيرًا عما تحدثنا عنه في هذا الفصل.

وقصارى القول أن المغول رغم ما عرفوا به من غرام بالتدمير والتخريب قد عرفوا كيف يقدرون الصناع ورجال الفن، ولا غرابة أن نقرأ في المصادر التاريخية كيف كانوا يخربون المدن فلا يبقون من أهلها إلا على الفنانين، وأرباب الصناعات التي تأثرت بها جميع الفنون الإسلامية، ولا سيَّما صناعة التصوير وصناعة الخزف في سلطان أباد.

اللوحة رقم ٦

شكل ٩: الإسكندر على عرشه (المدرسة الفارسية التترية. أوائل القرن الثامن الهجري. صحيفة من شاهنامة باللوفر).

اللوحة رقم ٧

شكل ١٠: فرامرز يطارد ملك كابل (المدرسة الفارسية التترية. أوائل القرن الثامن الهجري. صحيفة من شاهنامة باللوفر).

اللوحة رقم ٨

fig8
شكل ١١: السلطان غازان ومعه نساؤه (أوائل القرن الثامن الهجري).
fig8
شكل ١٢: السلطان أوجتاي ومعه أولاده (أوائل القرن الثامن الهجري. من مخطوط لتاريخ رشيد الدين بالمكتبة الأهلية بباريس. عن ساكسيان).

اللوحة رقم ٩

شكل ١٣: «من كليلة ودمنة» فوق: كلب يترك فريسته ليأخذ صورتها في الماء. تحت: أسد يفترس ثورًا (بمكتبة يلدز بإسطنبول، القرن الثامن الهجري. عن ساكسيان).
على أن المصادر التاريخية تحدثنا بأن أول ما عرفته فارس من صناع بلاد الصين كان في عصر السامانيين، حين أمر الملك نصر بن أحمد الشاعر الفارسي رودكي أن يكتب ترجمة فارسية شعرية لكليلة ودمنة، ثم أتى بمصورين صينيين زيَّنوها بالرسوم التوضيحية، ولكن ذلك كان حادثًا فريدًا، ولم يظهر تأثير الشرق الأقصى واضحًا جليًّا في الصور الفارسية إلا في عصر المغول.١٢
١  راجع … Dimand: A Handbook ص٢٠-٢١.
٢  في المراجع الآتية إشارات كثيرة إلى تأثير الشرق الأقصى في الفنون الإسلامية: G. Wiet L’Exposition Persane de 1931 ص٤ وE. kühnel; Islamische Kleinkunst ص٤٦، ٥٤، ١٣٧ وE. Kühnel: Die islamische Kunst (Springer) ص٤٢٩، ٤٥٠، ٤٥١، ٤٥٥، ٤٧١، ٤٩٤ وDimand: Handbook ص٢٢، ١١٥، ١٣٨، ٢١٠، ٢١٣، ٢١٤، ٢٤٠، ٢٤٢، ٢٧٨ وThe Legacy of Islam (edited by Arnold & Guillaume) ص١٣٥-١٣٦ وM. Pézard: La céramique archaїque de l’Islam ص٦١ وB. Laufer: Chinese Muhammedan Bronzes في مجلة Ars Islamica ج١ ص١٣٣ وما بعدها وBingon Wilkinson & Gray: Persain Miniature Painting ص١١، ١٣، ٢٢، ٣١، ٣٣، ٣٦–٤٠، ١٠٧، ١٥٦ وقد أشار الأستاذ جاستون فييت G. Wiet في ترجمته لكتاب البلدان لليعقوبي إلى النص الذي نشره الأستاذ بليو P. Pelliot والذي يدل على أن مؤلفًا صينيًا عاش قبل سنة ٧٦٢ ميلادية ذكر أن صناعات النسج والنقش والتصوير والتحف الذهبية والفضية علَّمها صناع صينيون إلى الصناع المسلمين في مدينة الكوفة قارن. p. Pelliot: Artisans chinois, Toung Pao, XXVI, p.110-111.
٣  راجع Introduction à l’Histoire des Mongols des Fadl Allah Rashid Ed-Din Par E. Blochet وT Arnold: Painting in Islam ص٧٤-٧٥.
٤  راجع Binyon, Wilkinson & Gray: Persian Miniature Painting ص٣٤، ٣٦، ٤٤–٤٦ (واللوحات من ١٨ إلى ٢٣).
٥  انظر اللوحة ٢٤ من … kühnel: Miniaturmalerei.
٦  راجع Migeon: Manuel ج١ ص١٣٩، وانظر اللوحة ٨ شكلي ١١ و١٢.
٧  انظر اللوحة ٧ شكل ١٠.
٨  انظر اللوحة ٦ شكل ٩.
٩  راجع Kuhnel: Islamische Kleinkunst ص٤.
١٠  راجع Stchoukine: Les Miniatures Persanes ص٣٥-٣٦.
١١  راجع Blochet: Les écoles de Peinture en perse في عدد يوليو وأغسطس سنة ١٩٠٥ Revue archéologique ص١٢٥ وMigeon: Manuel ج١ ص١٣٩.
١٢  راجع Arnold: Painting in Islam ص٦٥-٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤