الفصل الثاني

عناصر التفكير النقدي

بعد أن تعرَّفنا على الأصول التي أنتجَت مفهوم التفكير النقدي، حان الوقت كي ندرسَ العناصر التي ينبغي معرفتها والتحلي بها؛ كي يُصبح الإنسان مفكرًا نقديًّا.

عند الاطلاع على المؤلَّفات البحثية عن التفكير النقديِّ أو حتى بعمليةِ بحثٍ بسيطة على مُحرك البحث جوجل، ستظهر مجموعةٌ من التسلسلات الهرمية والتصنيفات والمخطَّطات التي تصفُ المعارفَ والمهارات والسِّمات الشخصية التي ينبغي أن يتحلى بها المفكرُ النقدي، وتوضح ذلك كلَّه. لكن حتى في داخل هذه الأوصافِ التي تتداخلُ وتتنافس في بعض الأحيان، توجد مجموعةٌ من العناصر التي تبدو متَّسقةً بما يكفي للاتفاق على أنها من عناصر التفكير النقدي.

سيتناول هذا الفصلُ العناصر المتفَق عليها، مثل التفكير المنظَّم أو المنطق، والمهارات اللُّغوية والمجادلة، مع تقديم بعض المهارات والسمات الأخرى؛ مثل الابتكار والسمات الشخصية، التي يرى عددٌ كبير من الباحثين والمعلمين أنها ضروريةٌ من أجل التفكير النقدي.

(١) التفكير المنظَّم

لقد فضَّلتُ استخدام لفظة «التفكير المنظَّم» على لفظة «المنطق» لتوضيح وجودِ عدة طرق مختلفة لتنظيم التفكير، وأن تدريبَ النفس على التفكير بطريقة منظمة أهمُّ للتفكير النقديِّ من الطريقة التي نختارها. بالرغم من ذلك، فإنَّ المفكر النقديَّ يَدين للمنطق بالكثير؛ إذ إن نُسُق التفكير المنظَّم التاليةَ كلَّها مبنيةٌ على أساس منطقي من أجل الوصول إلى الغايات ذاتها:
  • التعبير عما نُفكر فيه نحن أو الآخَرون، أو نحاول إيصاله بوضوح.

  • التصريح بالأسباب الدافعة لما نؤمن به أو نريد الآخَرين أن يؤمنوا به.

  • القدرة على تحديدِ ما إذا كان المعتقَد له مُسوِّغات أم لا.

(٢) تعريفات وفروق

قبل تقديم نُسق منطقية محدَّدة، يجب مُراعاة أن تلك النُّسق عادةً ما تندرج تحت فئتَين كبيرتين. الفئة الأولى هي المنطق «الصوري»، تُركز هذه الفئةُ على بِنْية الحجج، ويُقدم العديدُ من ضروب المنطق الصوري تمثيلاتٍ رمزيةً قوية للعبارات والأفكار التي ثبَتَت فائدتُها الكبيرة (ولْتسَلْ أي عالم منطق أو مبرمج كمبيوتر عن ذلك). أما الفئة الثانية وهي «المنطق غير الصوري» فتُعنى ببِنْية الحجج ومعاني الكلمات داخل تلك البِنَى من أجل تطبيق المبادئ المنطقية على التواصل اليومي.

على الرغم من أن المنطق الصوري، بما في ذلك العديد من النُّسق التي ابتُكرت على مدار القرنين الماضيَين، يُوفر طرقًا جديدة للبحث في المشكلات المعاصرة والقديمة،1 فإن تدريس التفكير النقدي يُركِّز بدرجةٍ أكبرَ على المنطق غير الصوري، ويتَّضح ذلك في اسم الجمعية الأمريكية لمعلِّمي التفكير النقدي: «جمعية المنطق غير الصوري والتفكير النقدي».2
يستخدم كلٌّ من المنطق الصوري وغير الصوري مجموعةً من المصطلحات المشتركة، ومنها ما يلي:
  • الحجَّة: مجموعة من الجُمل التي تُقدِّم برهانًا يدعم الاستنتاج.
  • المقدمة المنطقية: إحدى جُمل البرهان الواردة في الحُجة.
  • الاستنتاج: ادِّعاء في الحُجة بأن المجادِل يطلب قَبول صحة حُجته إذا كانت المقدمات صحيحة.
  • الاستدلال: خطوات التفكير المنطقي التي تؤدي من المقدمات إلى الاستنتاج.
  • الصيغة المنطقية: البنية المجرَّدة للحجة، ويمكن التعبير عنها رمزيًّا بصورة مستقلة عن الكلمات التي تتألَّف منها الحجَّة.
  • الصلاحية: صفة الحجَّة التي «تأتي في صيغةٍ يستحيل معها أن يكون الاستنتاجُ خاطئًا على الرغم من صحة المقدِّمات.»3
  • الوجاهة: صفة الحُجَّة التي تتَّسم بصحة المقدمات وصلاحية الصيغة المنطقية.

مع استخدام هذه التعريفات، يجب الانتباهُ إلى فرْقٍ آخر؛ وهو الفرق بين المنطق «الاستنباطي» والمنطق «الاستقرائي». تتَّسم الحجج الاستنباطية بأنها «قائمةٌ بذاتها»؛ أي إنَّ كلَّ ما يلزم لتحديدِ إذا ما كان الاستنتاجُ صحيحًا أم لا، يوجد بالفعل في المقدمات والصيغة التي تتَّخذها الحُجة. ويشير مصطلح «الصلاحية» إلى الحُجة الاستنباطية التي تستلزم من الفرد قَبولَ صحة الاستنتاج إذا قَبِل بصحة المقدمات. وعلى المنوال نفسِه، تُطلَق صفة الوجاهة على الحجَّة الاستنباطية الصالحة ذات المقدمات الصحيحة بالفعل.

أما في الحجج الاستقرائية، فإنَّ قَبول صحة المقدمات قد يدعم احتماليةَ صحة الاستنتاج لكنه لا يضمن حتمية صحته. وعلى النقيض من طبيعة «الكل أو لا شيء» التي تتَّسم بها الحجج الاستنباطية، فإما أن تكون صالحةً أو غيرَ صالحة، يمكن تقييم الحجج الاستقرائية بدرجاتٍ من القوة أو الضعف. قد يعتمد هذا التقييمُ على احتمالية صحة الاستنتاج، وعلى إمكانية قَبول مقدِّمات الحجَّة وترابطها وكفايتها.4

إنَّ حقيقةَ أنَّ الحجج الاستقرائية غيرُ صالحة جوهريًّا (بسبب الاحتمالية الدائمة في العثور على مثالٍ مضاد يدفع المرء إلى قَبول صحة المقدمات مع رفض الاستنتاج في الوقت ذاتِه)، قد تُصوِّر لك أن المنطق الاستنباطيَّ أفضلُ من المنطق الاستقرائي. لكنَّ العديد من الحجج التي نتعرضُ لها في الحياة اليومية، إن لم يكن معظمها، استقرائيةٌ لا استنباطية. فالجِدالات التي تدور بشأنِ ما ينبغي فعلُه في المستقبل على سبيل المثال، كتغيير أحد قوانين الضرائب أو شراء غسَّالة أطباق من علامةٍ تِجارية معيَّنة دون غيرها، تتضمَّن في الغالبية العظمى من الأحيان مقدماتٍ أو استنتاجًا يصف شيئًا لم يحدث بعد، فيَحول ذلك دون إثباتِ صحة هذه المقدمات أو الاستنتاج إلا بعد اتخاذ القرار الناتج عن تلك الحجَّة.

حتى العلوم وهي أحدُ أنجح تطبيقات التفكير المنطقي في تاريخ البشرية، تعتمد في الأساس على المنطق الاستقرائي. فالحجَّة المتمثلة في أنَّ الشمس ستشرق غدًا على سبيل المثال، يقوم على الرجحان لا اليقين؛ بناءً على أنَّ الشمس قد أشرقَت كلَّ يوم على مدار التاريخ. وبالمثل، عندما كان شيرلوك هولمز «يستنتج» هذا الاستنتاجَ أو ذاك من الأدلة المتاحة، فإنه غالبًا ما كان يستخدم المنطقَ الاستقرائي لتحديد التفسير الأرجح لما يرصده.

ومع مراعاة هذه التعريفات والفروق، لنطَّلع على طرق التفكير المنطقي وأمثلته ولنبدأ بالنُّسق التي ابتكرَها أرسطو.

(٣) قياسات أرسطو المنطقية

كما ورَد في الفصل السابق، كان أرسطو هو مَن ابتكر أولَ نسق منطقي يُستخدَم على نطاق واسع، وأصبح هذا النسق أساسَ تدريس المادة الدراسية قرونًا.

وقد تَمثَّل حجَرُ الأساس لنسقه في «القياس المنطقي»، وهي حُجة تتألف من ثلاث جُمل (ثلاث فقط) وهي: «المقدِّمتان» (الأشياء التي تطلب من المستمع أن يقبل بصحَّتها)، وجملة «الاستنتاج» (وهي الجملة التي تقولها ويجب على المستمع أن يُصدِّق صحَّتها إذا قبِل بصحة المقدمتين).

في القياس المنطقي، يجب كتابة كلٍّ من المقدمات والاستنتاج بإحدى الطرق التالية:
  • كل س هو ص (عبارة «كلية موجبة»).

  • لا يوجد س هو ص (عبارة «كلية سالبة»).

  • بعض س هو ص (عبارة «جزئية موجبة»).

  • بعض س ليس ص (عبارة «جزئية سالبة»).

وفيما يلي مثالٌ بسيط:
  • المقدمة المنطقية الأولى: كل [الكلاب] «حيوانات».
  • المقدمة المنطقية الثانية: كل (الكولي) [كلاب].
  • الاستنتاج: إذن، كل (الكولي) «حيوانات».

يُلاحَظ في تلك الجُمل أنها مكتوبةٌ بصيغة معينة تتكوَّن من مقدمة منطقية أساسية (الجملة الأولى)، ومقدمة منطقية ثانوية (الجملة الثانية)، والاستنتاج (الجملة الأخيرة). تتضمَّن المقدمة المنطقية الأساسية «الحد الأكبر» (المكتوب بين علامتَي التنصيص)، الذي يرِدُ في إحدى المقدمتين المنطقيتين ويُصبح المُسنَدَ في الاستنتاج. وتتضمن المقدمة المنطقية الثانوية «الحد الأصغر» (المكتوب بين قوسين هلاليَّين) الذي يرِدُ في إحدى المقدمتين ويصبح المُسندَ إليه في الاستنتاج، بينما يرِدُ «الحد الأوسط» (المكتوب بين قوسين مربَّعين) في المقدمتين لكنه لا يرِدُ في الاستنتاج.

في هذا المثال، كُتبت المقدمتان والاستنتاج بعباراتٍ كلية موجبة (أي بصيغة «كل س هو ص»). ووَفقًا للنظام الأرسطي، فإنَّ أي حجة مكتوبة بالصيغة المناسبة وبالتنظيم الصحيح للحدود الأكبر والأصغر والأوسط؛ حيث تتألف كلُّها من عبارات كلية موجبة (يسمَّى بقياس التوكيد العام “AAA”)، هي حجة «صالحة» مما يعني أن قَبول صحَّة المقدمات يقتضي قبول صحة الاستنتاج.

يمكنك اختبار ذلك بنفسك من خلال طرح السؤال: هل توجد أيُّ طريقة لقَبول صحة المقدمتين: («كل الكلاب حيوانات»، و«كل الكولي كلاب»)، مع رفض الاستنتاج بأن «كل الكولي حيوانات»، عن طريق التوصُّل إلى مثالٍ مضاد يقضي بقَبول المقدمتين ورفض الاستنتاج؟ إذا لم توجد طريقةٌ مثلما هي الحال في هذا المثال، فإن المنطق الداعم لهذا القياس المنطقي محكَم.

مثلما تبيَّن، يوجد ٢٥٦ توليفةً مختلفة من فئات العبارات: الكلية الموجبة والكلية السالبة والجزئية الموجبة والجزئية السالبة، يمكن تضمينُها في قياسٍ منطقي مكوَّن من ثلاث عبارات ومكتوب بصيغة سليمة، لكنَّ أربعة وعشرين قياسًا منها فقط هي التي تُعطي استنتاجات صالحة. وهذا يعني أنَّ قياسنا المنطقيَّ الذي يتضمَّن كلاب الكولي والمبني بصيغة التوكيد العام، ليس هو القياسَ الوحيد الصالح، بل إنَّ أي قياس منطقي تُبنى فيه الحدودُ الأكبر والأصغر والأوسط ببِنْية التوكيد العام، هو قياسٌ صالح أيضًا. وإذا كانت مقدمات تلك الحجج صحيحةً بالفعل، فستكون الحججُ سليمة.

يوفِّر التفكير المنطقي القياسي طريقةً آلية للتمييز بين الحجج الصالحة وغير الصالحة. والحق أنَّ طلاب المنطق ظلُّوا على مدار قرون طويلة يدرُسون أنواع الأغاني والقصائد كافةً، وغيرَها من حِيَل تقوية الذاكرة لحفظ أنواع القياسات المنطقية التي تؤدي إلى الصلاحية. أدَّى هذا إلى جعْل التحليل المنطقي عمليةً تتمثَّل في ترجمة الحجَّة المنطوقة أو المكتوبة إلى قياس منطقي مكوَّن من ثلاث عبارات سليمةِ البِنية، ثم تحديد إن كانت تلك البِنية ملائمةً لواحدة من الحالات الصالحة الأربع والعشرين أم لا.

على الرغم من أن نظام أرسطو كان إنجازًا فكريًّا كبيرًا، فقد قدَّمت التطورات اللاحقة مثل منطق القضايا، صيَغًا منطقيةً أخرى يمكن استخدامها للتعبير عن الحجج الصالحة التي لا يستوعبها القياسُ الأرسطي المنطقي، مثل الصيغ التي تتضمَّن أكثرَ من مقدمتين.5

(٤) صيغٌ منطقية أخرى

هناك صيغتان منطقيتان صالحتان يتكرَّر ظهورهما في الحجج المنطقية، وهما «طريقة التأكيد» و«طريقة الإنكار».

تتخذ طريقة التأكيد الصيغةَ العامة التالية:
  • المقدمة المنطقية الأولى: إذا تحقَّق س، فسيتحقَّق ص.
  • المقدمة المنطقية الثانية: تحقَّق س.
  • الاستنتاج: إذن، تحقَّق ص.

في هذه الحالة، تضع المقدمة الأولى حالةً شرطية عامة مع المقدمة الثانية التي تقول بتحقُّق هذا الشرطِ أو عدمِ تحقُّقه.

وفيما يلي مثالٌ واقعي على حجة بصياغة طريقة التأكيد:
  • المقدمة الأولى: إذا هطلت الأمطار، فستُلغى مباراة الكرة.
  • المقدمة الثانية: هطلت الأمطار.
  • الاستنتاج: إذن، ستُلغى مباراة الكرة.
فيما يلي حجةٌ أشهَرُ (على الأقل بين مُعلِّمي المنطق)، وتلك الحجَّة يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر بعد الميلاد على أقرب تقدير:
  • المقدمة المنطقية الأولى: كل البشر فانون.
  • المقدمة المنطقية الثانية: سقراط من البشر.
  • الاستنتاج: إذن، سقراط فانٍ.
وإذا كتبنا الحجَّة بصيغة التأكيد، فستُصبح بالشكل التالي:
  • المقدمة المنطقية الأولى: إذا كان سقراط إنسانًا، فسيكون فانيًا.
  • المقدمة المنطقية الثانية: سقراط إنسان.
  • الاستنتاج: إذن، سقراط فانٍ.

وهذا مثالٌ آخرُ على الحُجج الاستنباطية الصالحة، التي يستلزم القَبولُ بصحة مقدماتها القبولَ بصحة الاستنتاج. ومثلما هي الحال مع كلِّ الحجج الصالحة، إذا كانت مقدماتُ الحجَّة صالحة، فستكون الحجَّةُ سليمة.

ومن الأمثلة الأخرى على الصِّيَغ المنطقية الصالحة، طريقة الإنكار، وتتخذ البِنية الرمزية التالية:
  • المقدمة المنطقية الأولى: إذا تحقَّق س، فسيتحقَّق ص.
  • المقدمة المنطقية الثانية: لم يتحقَّق ص.
  • الاستنتاج: إذن، لم يتحقَّق س.
وفيما يلي مثالٌ واقعي على حجةٍ بطريقة الإنكار:
  • المقدمة المنطقية الأولى: لو كانت إريكا خريجةً جامعية، لحصَلَت على دبلومة.
  • المقدمة المنطقية الثانية: إريكا لم تحصل على دبلومة.
  • الاستنتاج: إذن، إريكا ليست خريجةً جامعية.
كما هو الحال مع أمثلة طريقة التأكيد، فإن هذه الحجَّة المَصوغة بطريقة الإنكار صالحة. ويمكن تفنيدها بالسؤال مثلًا عما إذا كان الحصول على الدبلومة ضروريًّا للتثبُّت مما إذا كان الشخص تخرَّج في الجامعة أو لا (أو ربما توضيح أنَّ عدم حصول إريكا على الدبلومة لا ينفي أنها تخرَّجَت في الجامعة). لكنَّ هذا التفنيد يُعالج حقيقةَ إحدى المقدمتين (المقدمة المنطقية الأولى)، وليس الاستدلال الذي يربط بين المقدمتين والاستنتاج. إذا استطعنا توضيحَ أنَّ الحصول على الدبلومة ليس من شروط إثبات التخرج في الجامعة؛ فهذا سيُبين أن الحجَّة غيرُ سليمة (لأنَّ إحدى المقدمتين خاطئة)، وإن كانت لا تزال صالحة.6

(٥) أمثلة من الحياة الواقعية

هذه الأمثلة البسيطة التي سبق ذكرها هي النوع الذي قد تجده في كتب المنطق والتفكير النقدي. لكنَّ المنطق جزءٌ لا يتجزأ من التفكير النقدي بشأن العالم؛ لأنَّ جميع عمليات التواصل اليومية يمكن أن تُقسَّم إلى مقدمات واستنتاج، بطريقةٍ تتلاءم مع صيغةٍ أو أكثر من الصيغ المنطقية. على سبيل المثال، لنفترض أنك تحضر حفل عشاء وقال أحد الحضور العبارة التالية:

المنظمات المتعددةُ الجنسيات خطيرة! وينبغي لأيِّ بلد يحترم نفسه التوقفُ عن تمويلها على الفور. تلك المنظمات تفوح منها رائحةُ الفساد وهي مَضْيعة كبيرة لأموال الضرائب التي يدفعها الشعب، ثم إنها تُهدد حق البلد في تقرير مصيره.

بقليلٍ من التعديل، يمكن تحويل هذا الحوار إلى القياس المنطقي التالي:
  • المقدمة المنطقية الأولى: كل البلدان المحترمة كِياناتٌ ينبغي ألا تُموِّل المنظمات الفاسدةَ التي تُهدر أموال الضرائب التي يدفعها الشعب، وتُهدِّد حقَّ البلد في تقرير مصيره.
  • المقدمة المنطقية الثانية: كل المنظمات المتعددةِ الجنسيات فاسدةٌ وتُهدر أموال الضرائب التي يدفعها الشعب، وتهدِّد حقَّ البلد في تقرير مصيره.
  • الاستنتاج: كل الدول المحترمة كياناتٌ ينبغي ألا تُمول المنظمات المتعددة الجنسيات.
ويمكن صياغة الحجَّة أيضًا بطريقة التأكيد على النحو التالي:
  • المقدمة المنطقية الأولى: إذا كانت إحدى المنظمات فاسدةً وتُهدر أموال الضرائب وتهدِّد حقَّ البلد في تقرير مصيره، فينبغي لكل البلدان المحترمة ألا تُمولها.
  • المقدمة المنطقية الثانية: المنظمات المتعددةُ الجنسيات فاسدةٌ وتهدر أموال الشعب وتهدِّد حقَّ البلد في تقرير مصيره.
  • الاستنتاج: لا ينبغي للبلدان المحترمة أن تموِّل المنظمات المتعددةَ الجنسيات.

لاحِظ أن صيغتَي الحجَّة تَئولان إلى حُجتَين صالحتين؛ إذ يقتضي قَبولُ صحة المقدمات المنطقية قبولَ صحة الاستنتاج. وعلى الرغم من ذلك، فمن السهل تفنيدُ إحدى المقدمتين المنطقيتين في الصيغتين كلتيهما، وهي تلك التي تنطوي على أن كلَّ المنظمات المتعددةِ الجنسيات فاسدة وتُهدر أموال الشعب وتُهدِّد حق البلد في تقرير مصيره، وذلك من خلال ذكر مثالٍ واحد لمنظمةٍ متعددة الجنسيات ولا تتَّسمُ بواحدةٍ من السمات الثلاثِ السلبية المذكورة. ومن ثَم، فإنَّ الحجَّة التي طُرحت في حفل العشاء التي تُدين المنظمات المتعددة الجنسيات حجةٌ صالحة، لكنها غيرُ سليمة.

إنَّ تحويل الحجج اليومية إلى صيغٍ منظَّمة يوضح طريقة التفكير التي تدعم تلك الحجج، مما يُتيح الفرصة لتقييم إذا ما كانت الحجَّة تُقدِّم أدلة كافية لتصديق الاستنتاج أو لا. وكما رأينا في التحليل الذي يوضِّح عدم وجاهة الحجَّة التي طُرحت في حفل العشاء بسبب عدم صحةِ إحدى المقدمتين المنطقيتين، فإن الكلمات التي تتألَّف منها الحجَّةُ تُقدم، هي أيضًا، معلوماتٍ لتحليل رصانة الحجَّة.

إنَّ طُرق المنطق غيرِ الصوري التي تتيح كتابة مقدمات الحجَّة واستنتاجها بلغة الحياة الواقعية، توفِّر المرونة في الاستخدام اليومي لمبادئ المنطق، مما يجعل للمنطق غيرِ الصوري دورًا بالغَ الأهمية في تدريس التفكير النقدي. على سبيل المثال، لنقل إن أحدًا ردَّ على الحجَّة الأصلية آنفة الذكر، بما يلي:

هذا هُراء! أعمل لصالح منظمة متعددة الجنسيات، وكل دولار نحصل عليه من الحكومات يُنفَق في مساعدة الناس؛ لذا فالمنظمة ليست بالفاسدة أبدًا. وأموال التبرعات التي تُوجَّه إلى منظمات مثل منظمتنا، تنشر الخير على مستوى العالم. لذا فالمنظمات المتعددة الجنسيات تُفيد البلدان التي تُمولها ولا تضرها.

يمكن تحويل تلك العبارات إلى الحجَّة المنظمة التالية.
  • المقدمة المنطقية الأولى: المنظمة المتعددة الجنسيات التي أعمل لصالحها تُنفق كلَّ دولار في مساعدة الناس.
  • المقدمة المنطقية الثانية: المنظمات التي تنفق كل أموالها في مساعدة الناس ليست فاسدة.
  • المقدمة المنطقية الثالثة: الأموال التي تمنحها البلدان للمنظمة المتعددة الجنسيات التي أعمل لصالحها تعود بالنفع على البلدان المانحة.
  • المقدمة المنطقية الرابعة: العمل مع منظمةٍ تعود بالنفع على البلدان المانحة، سيفيد تلك البلدان.
  • الاستنتاج: منحُ الأموال إلى المنظمات المتعددة الجنسيات يفيد البلدان التي تموِّلها ولا تضرها.

في هذه الحالة، تتضمَّن الحجَّة أربعَ مقدمات واستنتاجًا، وجميعها مكتوبٌ بلغة سهلة الفهم. ومع ذلك، فكما هو الحال مع القياس المنطقي، يمكن اختبار صلاحية تلك الحجَّة الأقلِّ تقييدًا بطرح السؤال التالي: «إذا قبلتُ بصحة كل مقدمة، فهل يستلزم ذلك قَبولَ صحة الاستنتاج؟» في هذه الحالة، يسهل الوصول إلى طريقةٍ لقبول المقدمات ونبذِ الاستنتاج؛ فيمكن القول على سبيل المثال، إنه حتى إذا كانت المقدمات صحيحةً بشأن منظمة واحدة من المنظمات المتعددة الجنسيات، فهذا لا يعني أن كل تلك المنظمات على القدْر نفسِه من النزاهة.

ويمكن حلُّ تلك الإشكالية وجعلُ الحجَّةِ صالحة، بإضافة مقدمةٍ واحدة تنطوي عليها الحجَّة الأصلية بالفعل، لكنها ليست مذكورةً صراحة:
  • المقدمة المنطقية الأولى: المنظمة المتعددة الجنسيات التي أعمل لصالحها تُنفق كل دولار في مساعدة الناس.
  • المقدمة المنطقية الثانية: المنظمات التي تنفق كل أموالها في مساعدة الناس ليست فاسدة.
  • المقدمة المنطقية الثالثة: الأموال التي تمنحها البلدان للمنظمة المتعددة الجنسيات التي أعمل لصالحها تعود بالنفع على البلدان المانحة.
  • المقدمة المنطقية الرابعة: العمل مع منظمةٍ تعود بالنفع على البلدان المانحة يفيد تلك البلدان.
  • المقدمة المنطقية الخامسة [مقدمة خفيَّة]: «كل المنظمات المتعددة الجنسيات مثل المنظمة التي أعمل لصالحها.»
  • الاستنتاج: منْحُ الأموال إلى المنظمات المتعددة الجنسيات يفيد البلدان التي تُمولها ولا يضرها.

يُطلِق أرسطو على المقدمات الخفيَّة اسم «القياسات المضمرة»، ويُعَد الكشف عن تلك المقدمات غيرِ المذكورة من أكثر الخطوات المفيدة في تحليل الحجَّة؛ إذ غالبًا ما تُذكر النقطة الأهم في الحجَّة ضمنيًّا لا صراحة. فعلى سبيل المثال، تعتمد الحجج بشأنِ إذا ما كان الإجهاض عمليةً جراحية أو قتلًا، على مقدمةٍ منطقية لا تُذكر في معظم الأحيان، وهي بشَرية الجنين من عدمها.

وبالعودة إلى مثالنا وإضافةِ المقدمة المنطقية الخفيَّة، تُصبح الحجَّة صالحةً وتقتضي قَبول صحة الاستنتاج في حالة قَبول صحة جميع المقدمات المنطقية. وبالرغم من ذلك، فلكي تكون الحجَّة سليمة، لا بد أن تكون جميع المقدمات المنطقية في تلك الحجَّة الصالحة صحيحةً «بالفعل»، أو يقبَل الشخص المتزن بوجاهتها على الأقل.

ففي حجة الرد السابقةِ الذكر، التي تؤيد المنظمات المتعددةَ الجنسيات، قد يصعب تفنيد المقدمات المنطقية التي تتضمَّن تجاربَ شخصية لصاحب الحجَّة من دون بحثٍ متعمِّق. ومع ذلك، فمن السهل تفنيدُ المقدمة المنطقية المضافة حديثًا — وهي المقدمة المنطقية الخامسة الخفية في الأساس — وذلك بتوضيح مثالٍ واحد على منظمة متعددة الجنسيات فاسدة. وبهذا، يسهل رفضُ المقدمة المنطقية الجديدة، وحتى إذا كانت مقدمةٌ واحدة هي التي تبيَّن خطؤها في الحجَّة الاستنباطية، فستُصبح الحجَّة بكاملها غيرَ سليمة، وإن كانت صالحة (ومن ثم تصبح غير مفيدة).

ويمكن استخدام هذه الطريقة في بناء الحجج الاستقرائية وتقييمها، وهي حُجج لا تقتضي، كما ذكرنا سابقًا، قَبولَ صحة الاستنتاج بسبب قَبول صحة المقدمات. فعَلى سبيل المثال، إذا استمر النقاش عن المنظمات المتعددة الجنسيات، وقال أحدُهم:

يحظى تمويل المنظمات المتعددةِ الجنسيات بشعبية كبيرة بين الناس، ولا يبدو أن الغالبية في الهيئة التشريعية ضده. ولأن الحكومة ظلَّت تَزيد من إنفاقها على المنظمات المتعددة الجنسيات منذ تَولِّيها، ولأن ميزانية هذا العام تتضمَّن زيادةً أخرى، أرى أن إنفاق الحكومة على هذه المنظمات سيزيد بدرجةٍ أكبر من العام الماضي.

ستتحوَّل العبارة إلى الحجَّة التالية، المكوَّنةِ من أربع مقدمات منطقية:
  • المقدمة المنطقية الأولى: ظلت الحكومة تَزيد من إنفاقها على المنظمات المتعددة الجنسيات كلَّ عام منذ توليها.
  • المقدمة المنطقية الثانية: تتضمَّن ميزانيةُ هذا العام زيادةً في الإنفاق على المنظمات المتعددة الجنسيات.
  • المقدمة المنطقية الثالثة: لا توجد أغلبيةٌ في الهيئة التشريعية تُعارض زيادةَ الإنفاق على المنظمات المتعددة الجنسيات.
  • المقدمة المنطقية الرابعة: يحظى الإنفاق على المنظمات المتعددة الجنسيات بدعمٍ بين جموع الناس.
  • الاستنتاج: يزيد إنفاق الحكومة على المنظمات المتعددة الجنسيات هذا العامَ بدرجة أكبر من العام الماضي.

في هذه الحالة، قد يجد المرء طريقةً لقَبول صحة المقدمات المنطقية مع رفض الاستنتاج على الرغم من ذلك. فيمكننا أن نجد مثالًا مناقضًا يتمثل في سيناريو تتمكَّن فيه إحدى الأقليات من عرقلة تشريع زيادة الإنفاق على المنظمات المتعددة الجنسيات، على الرغم من دعم الأغلبية وعامة الناس لها. وبذلك تصبح الحجَّة غيرَ صالحة، ولكن لأن هذه الحجَّة استقرائيةٌ وليست استنباطية، فإننا نبحث عمَّا إذا كان الاستنتاج محتملَ الصحة أوْ لا في حال كانت المقدمات المنطقية صحيحة. ولأن الأرجح هو صحة الاستنتاج إذا كانت المقدمات المنطقية صحيحة، فإنه يمكن وصفُ الاستدلال الذي يؤدي من المقدمات المنطقية إلى الاستنتاج بأنه استدلالٌ قوي على الرغم من أنَّ الحجَّة برُمَّتها ستضعف إن تبين عدمُ صحة مقدمةٍ منطقية أو أكثر.

(٦) المغالطات

غالبًا ما «تُدحض» الحجج السيئةُ الصياغة أو توضَّح أخطاؤها بالطُّرق ذاتِها. ويطلَق على هذه الأخطاء التي يتكرر ورودُها في الحجج اسم «المغالطات»، ويُخصِّص العديد من الدورات التدريبية التي تناقش التفكير النقدي مقدارًا كبيرًا من الوقت والاهتمام لتعليم الطلاب كيفيةَ استخراج الأفكار المغلوطة في النقاشات اليومية.

وتَنتج بعض المغالطات عن بِنْية الحجَّة. فعلى سبيل المثال، قدَّم وودي ألن في فيلمه «الحب والموت» المحاكي لرواية «الحرب والسلام»، تنويعة على حُجة سقراط السابقة تتمثل فيما يلي:
  • المقدمة المنطقية الأولى: كل البشر فانون.
  • المقدمة المنطقية الثانية: سقراط من البشر.
  • الاستنتاج: إذن، كل البشر سقراط.
هذا المثال خطأ لأن بِنْية الحُجة غيرُ صحيحة. في الحُجة الجيدة الصياغة، سيُنظَّم كلٌّ من الحد الأكبر (المكتوب بين علامتَي تنصيص) والحد الأصغر (المكتوب بين قوسَين هلاليين) والحد الأوسط (المكتوب بين قوسين مربَّعين) بالشكل التالي:
  • المقدمة المنطقية الأولى: كل [البشر] «فانون».
  • المقدمة المنطقية الثانية: (سقراط) من [البشر].
  • الاستنتاج: إذن، (سقراط) «فانٍ».

يُلاحَظ أنَّ نسخة وودي ألن تُورِد الحدَّ الأوسط (البشر) في كلٍّ من المقدمتين والاستنتاج. وهذه تُسمى «مغالطة الوسط غير المستغرَق»، وتُعاب الحجج التي تتَّخذ تلك الصيغة (أي تصبح غيرَ صالحة)؛ للأسباب البِنيويَّة ذاتِها.

وتوجد مغالطة أخرى تُسمى «إنكار المقدِّمات»، وهي صيغةٌ منطقية غير صالحة، تتَّخذ البِنية التالية:
  • المقدمة المنطقية الأولى: إذا تحقَّق س، فسيتحقَّق ص.
  • المقدمة المنطقية الثانية: لم يتحقَّق س.
  • الاستنتاج: إذن، لم يتحقَّق ص.
إذا التزَمْنا بنسخة طريقة التأكيد من حُجة سقراط، وهي نسخةٌ غير صالحة تتسم بمغالطة «إنكار المقدِّمات»، فستتَّخذ الصيغة التالية:
  • المقدمة المنطقية الأولى: إذا كان سقراط من البشر، فسيكون فانيًا.
  • المقدمة المنطقية الثانية: سقراط ليس من البشر.
  • الاستنتاج: إذن، سقراط ليس فانيًا.

في تلك الحالة، يسهل الوصول إلى مثالٍ مضاد يُثبت أن سقراط ليس من البشر، لكنه لا يزال فانيًا. على سبيل المثال، قد يكون سقراط اسمَ سمكة زينة يُربيها شخصٌ ما، ومن ثم تصبح المقدمة المنطقية الثانية صحيحة، لكنها لن تؤديَ إلى صحة الاستنتاج.

توجد مغالطة مماثلة تسمَّى «إثبات التالي»، قائمةٌ على الصيغة غير الصالحة التالية:
  • المقدمة المنطقية الأولى: إذا تحقَّق س، فسيتحقَّق ص.
  • المقدمة المنطقية الثانية: تحقَّق ص.
  • الاستنتاج: إذن، تحقَّق س.
فيما يلي مثال على حجة تُجسد تلك المغالطة:
  • المقدمة المنطقية الأولى: إذا قامر تورانس بكل أمواله، فسيصبح مفلسًا.
  • المقدمة المنطقية الثانية: تورانس مفلس.
  • الاستنتاج: إذن، قامر تورانس بكل أمواله.

كما هو الحال في غير ذلك من الحجج غير الصالحة، فمن الواضح أن الاستنتاج لا يُستمَد من المقدمات؛ ذلك أنه توجد عدة طرق تفسِّر إفلاس تورانس من دون المقامرة بكل أمواله. ومعنى هذا أنه يوجد العديد من الأمثلة المضادَّة المحتملة، التي تتَّسم بخطأ الاستنتاج بالرغم من صحة المقدمات.

وتُسمى المغالطات التي تنبع من العيوب البِنيوية، كالثلاثة التي قرأتَها للتو، ﺑ «المغالطات الصورية». إذا تذكَّرت الفرق بين المنطق الصوري وغير الصوري، فربما تعرف أنَّ «المغالطات غير الصورية» هي المشكلات التي تنتج عن مضمون الحجَّة لا بِنيتها. فالادِّعاء مثلًا بأنَّ كل البيزنطيِّين مجرمون لأن جيثرو البيزنطيَّ قد اعتُقِل للتو بتهمة السطو المسلَّح، يُجسِّد «مغالطة التركيب»، التي تتمثَّل في تعيين صفةٍ في أحد أفراد المجموعة على المجموعة بكاملها بالخطأ. ومن المغالطات غير الصورية أيضًا، «مغالطة التداعي»، ويُشار إليها بوجهٍ عام باسم «الذنب بالتداعي»، وتتمثَّل هذه المغالطة على سبيل المثال، حينما تتَّهِم امرأةٌ جارتَها بأنها مخرِّبة لأن ساعيَ البريد الآتيَ إلى زوجة أخي جارتِها ضُبط وهو يلقي حجارةً على نافذة متجر.

وعلى الرغم من أن المثالَين الأخيرين يبدوان تافهَين، فإن التفكير المغلوط بعيدٌ كل البعد عن أن يكون حميدًا. فادِّعاءات التعصب التي تُدين أعراقًا بأكملها بسبب سلوك بضعة أفراد، أو طرد شخصيات عامة من مناصبها بسبب سلوك أحد المتابعين على «تويتر» (أو حتى متابعي المتابعين) من أمثلة الضرر التي تُلحقها طرقُ التفكير المعيبة بالعالم.

وبسبب التعقيد اللُّغوي وتنوُّع التفاعلات التي تُستخدَم فيها اللغة بين البشر، تأتي المغالطات غيرُ الصورية في أشكالٍ متعددة. فقد تحتكمُ مثلًا إلى شيء غير التفكير المنطقي مثل الخوف، ويظهر ذلك في مغالطة (الاحتكام إلى القوة) أو الشهرة، مثل مغالطة (الاحتكام إلى الجماهير). وقد تستند الحججُ المغلوطة إلى استخلاص استنتاجاتٍ من معلومات ضئيلة للغاية (التعميم المتعجِّل)، أو بتقديم خيار مزيَّف مثل مغالطة «القسمة الثنائية الزائفة» التي تتَّضح في المثال: «إما أن تُمرِّر ميزانيتي أو سيتضوَّر الملايين جوعًا».

«إن التفكير المغلوط بعيدٌ كلَّ البعد عن أن يكون حميدًا.»

إضافةً إلى ذلك، يوجد عددٌ من المغالطات التي تحاول تشتيتَ القارئ أو المستمع عن تفاصيل الحجَّة؛ عن طريق مهاجمة صاحب الحجَّة (وتُسمى بمغالطة «الشَّخصَنة»)، أو بتقديم نسخةٍ مُبالغ في تبسيطها أو مشوَّهة من حُجة الخَصم، ومهاجمة تلك المحاكاة الساخرة بدلًا من الحجَّة ذاتها (وتلك هي مغالطة «رجل القش»). وتوضح بعضُ هذه الأخطاء في المنطق غير الصوري، صعوباتٍ في تحديد الحجج المغلوطة بالفعل. ففي بعض الحالات مثلًا، تُجسِّد مهاجمةُ صاحب الحجَّة مغالطةَ «الشخصنة»، لكنَّ مهاجمة شخص الخَصم قد تكون مبرَّرةً في حالات أخرى (إذا سبَقَت إدانته بارتكاب شهادة الزور على سبيل المثال، أو أن يكون له باعٌ في الكذب).

تضمُّ قائمة المغالطات المذكورة في الكتب ومواقع الويب (بما فيها المغالطات المدرَجة في قسم المصادر الإضافية) مئاتِ المغالطات، والغالبية العظمى منها يندرج ضمن المغالطات غير الصورية وليس الصورية. ويشير هذا إلى وجود أخطاءٍ كثيرة تتعلَّق بمحتوى الحجَّة كما هو الحال مع بِنْيتها. ولهذا، فمن المفيد جدًّا في دراسة التفكير النقدي، أن نتناول المبادئ المستمَدَّة من المنطق بنوعَيه: الصوري وغير الصوري.

(٧) الاستنتاج بالرسومات

لا تقتصر أدواتُ تحديد جودة الحجج على الكلمات. فيمكن على سبيل المثال، استخدام «مخططات فِن» الشبيهة بالمخططات التي يتعلمها تلاميذ المدرسة الابتدائية عند دراسة المجموعات، من أجل توضيح العبارات في شكل حجة، مثل ٢-١.
fig2
شكل ٢-١
تلك العلاقات لتوضيح حججٍ كاملة، كمثال سقراط الموضح في ٢-٢.
fig3
شكل ٢-٢

في هذه الحالة، تُوضَّح استحالة أن يكون سقراط من البشر لكنه ليس فانيًا، بطريقةٍ بصَرية من خلال إدراج سقراط الممثَّل بالحرف «س» ضمن مجموعة البشر المندرجة بكاملها داخل مجموعة الفانين.

وبالطريقة نفسِها أيضًا، يمكن توضيح مثال الحجَّة المذكورة في حفل العشاء كما يظهر في ٢-٣.
fig4
شكل ٢-٣
fig5
شكل ٢-٤

في هذه الحالة، لا يوجد تداخُل بين مجموعة الأشياء التي تتسم بالفساد وتُهدر الأموال وتهدِّد حقَّ البلد في تقرير مصيره، وبين مجموعة الأشياء التي ينبغي أن تُنفق عليها البلدانُ المحترمة كي تدعَمها. ولأنَّ المنظمات المتعددة الجنسيات تقع بالكامل داخل المجموعة الأولى (على الأقل في حُجَّتنا هذه التي نُقر بأنها غيرُ سليمة)، فما من طريقة تُتيح تقاطع المجموعة الفرعية الممثلة في الأشياء التي تتسم بالفساد وتهدر الأموال وتهدِّد البلد (المنظمات المتعددة الجنسيات)، مع مجموعة الأشياء التي ينبغي أن تنفق عليها البلدان المحترمة كي تدعَمها. وهذا يوفِّر توضيحًا بيانيًّا أننا نتعامل مع حجة صالحة.

ومن الطرق الأخرى المشهورة لتمثيل الحجج بصريًّا، طريقةٌ ابتكرها الفيلسوف البريطاني ستيفن تولمين. بدلًا من البدء بمقدمات تؤدي إلى استنتاجات، تبدأ «مخططات تولمين» «بالأسباب» التي تؤدي إلى «ادعاء» كما هو موضح في ٢-٤.
fig6
شكل ٢-٥
fig7
شكل ٢-٦
يوضِّح السهم الصادر من مربع الأسباب إلى مربع الادعاء أن الأسباب لا بد أن تؤديَ إلى دليلٍ أو توفِّرَه كي تدعمَ الادعاء. وإذا استخدمنا طريقة تولمين لتوضيح الحجَّة المطروحة في حفل العشاء، فستأتي على النحو الوارد في ٢-٥.
في مخططات تولمين، يجب تبرير العلاقة بين الأسباب والادعاء باستخدام عنصر آخرَ يسمَّى «الضمان». استمرارًا مع المثال، يوضَّح شكل الحجَّة مضافًا إليها الضمان في ٢-٦.

للوهلة الأولى، قد يبدو أنَّ هذا النوع من المخططات يضيف الكثيرَ إلى الطرق السابقة في تقسيم الحجَّة المنطقية إذا رأيتَ أنَّ الأسباب ليست سوى بديلٍ «للمقدمة المنطقية»، وأن الادعاء بديلُ الاستنتاج، وأن الضمان يوفِّر التبرير الذي يربط بينهما. لكنك تلاحظ أن هذا الشكل من التخطيط البياني للحجة يقتضي التعبير الصريح عن الاستدلال المنطقي بين المقدمة المنطقية والاستنتاج (أو الأسباب والادعاء)، في شكل الضمان، وهذا الرابط لا يُذكر دائمًا بوضوح في الحجَّة التي لا يُعبَّر عنها إلا بالكلمات.

فور التصريح بهذا الرابط المنطقي، يمكن اتخاذه بمثابة نقطة أخرى للتحليل أو الهجوم، من خلال إنشاء فرع جديد للحجة؛ حيث يؤدي الضمان الأصلي دورًا مزدوجًا؛ إذ يؤدي مهمةَ الضمان في فرعٍ من الحجَّة، ومهمةَ الادعاء في فرع جديد، مثلما يرِد في ٢-٧.
fig8
شكل ٢-٧

إنَّ هذه القدرة على إنشاء الفروع لإدراج أبعادٍ متعددة من التفكير المنطقي من المزايا الأخرى لتخطيط الحجج بيانيًّا؛ لأن القيام بذلك يُتيح فهْم أنواع التبادلات الديناميكية التي تحدث في المناظرات الواقعية التي قد تسلك اتجاهات متعددة.

يوجد أسلوبٌ آخر لتخطيط الحجج بيانيًّا، وهو أسهلُ في الفَهم من طريقة تولمين (مما يجعلها معروفةً بين أوساط صغار المتعلمين) وهي «خريطة الحجَّة» الموضحة فيما يلي لتمثيل تفنيد الحجَّة الواردة في مثال حفل العشاء، كما يظهر في ٢-٨.
fig9
شكل ٢-٨

في تلك الخريطة، نجد أنَّ الاستنتاج الذي يقع في القمة (ويُسمى أيضًا «الادعاء الأساسي»)، مما يوضح أنَّ الادعاء الذي تقتضي منك الحُجةُ قَبولَه إذا قبِلت بصحة المقدمات المنطقية لا يأتي في نهاية الحجَّة على الدوام، مدعومٌ بخطَّين من الاستدلال. وعلى الجانب الأيسر، تعمل المقدمتان المنطقيتان الأولى والثانية معًا (وتسمَّى «مقدمات مشاركة»)، لتقديم سبب واحد يدعم الادعاءَ الأساسي، وينطبق الأمر نفسُه على المقدمتين الأُخريَين الموضَّحين على جهة اليسار. وعلى غرار مخططات تولمين، توفِّر خرائطُ الحجج وسيلةً لتمثيل الحجج المعقدة التي تتفرع أفقيًّا ورأسيًّا. وعلى خلاف طريقة تولمين الأعقد، يسمح هذا الأسلوبُ بتحليل الحجج من خلال طرح السؤال البسيط ذاتِه الخاصِّ بكل جزء من الحجَّة: هل تُقدم عباراتُ المربع السفلي أسبابًا لتصديق ما يظهر في المربع العلوي؟

تُقدم هذه الأمثلة لمحةً سريعة عن مجموعة كبيرة من البدائل التي تدعم التفكير المنظَّم، وقد أوردتُ المزيد من المعلومات عن هذه النُّسق المنطقية وغيرِها في قسم «المصادر الإضافية» من هذا الكتاب. كثيرةٌ هي الأدوات والطرق التي يمكن استخدامها لفهم الحجج وتحليلها، وإذا كنت مهتمًّا بتدريس التفكير النقدي أو تعلُّمه، فما من خيار صحيح وخيار خاطئ بشأن النسق الذي تستخدمه أو تبتكرُه. فالخيار الوحيد غير المطروح هو عدم تنظيم الأفكار.

(٨) المهارات اللغوية

نظرًا إلى أنَّ البشر ليسوا بآلاتٍ تتواصل بالكامل عبر جُمَل ذات بِنْية صورية، فلا بد أن يتحلى المفكِّر النقدي بمهارةِ ترجمة لغة البشر العادية إلى مقدماتٍ منطقية واستنتاج، تتألف منها الحجَّةُ المنظَّمة لتُستخدم هذه الجمل أساسًا للتحليل المنطقي.

(٩) الترجمة

لقد تناولنا بالفعل أمثلةً على الترجمة، مثل نقاش حفل العشاء الذي اختصرنا فيه الحوارَ اليومي إلى مجموعةٍ من المقدمات المنطقية التي تؤدي إلى استنتاج، وذلك عن طريق استبعاد الكلمات غير المرتبطة بالموضوع، وتحويل اللغة الغامضة المصاحِبة للمحادَثات العادية بين البشر إلى جملٍ واضحة تتَّفق مع التنسيق المنظَّم الذي يمكن أن تُطبَّق عليه القواعد المنطقية.

ونظرًا إلى أنَّ قواعد المنطق تُصبح طبيعةً مكتسَبة في كثير من الأحيان عند استيعابها تمامًا، فإن جزءًا كبيرًا من العمل الذي ينطوي عليه التفكير النقدي، يتمثل في ترجمة عمليات التواصل اليومية بين البشر، مثل المقالات الافتتاحية والإعلانات والمناقشات الإقناعية، إلى لغةٍ واضحة ومنظَّمة. ومثل أي عملية ترجمة أخرى، فإنَّ صبَّ عمليات التواصل المعقَّدة في قالب منطقي من ضروب الفن؛ مما يجعل القدرة على القيام بهذا النوع من الترجمة إحدى مهارات التفكير النقدي التي تتطلب قدرًا كبيرًا من الممارسة.

لا تستطيع الآلات تنفيذ مهمة الترجمة هذه حتى الآن، مثلما أنها لا تستطيع ترجمة الروايات الروسية إلى اليابانية بدقة مائة بالمائة. لكن حتى إذا تعذَّر إجراء الترجمة المنطقية باستخدام الخوارزميات، توجد بعض المبادئ التي ينبغي للمفكر النقديِّ اتباعُها في تنفيذ عمليات الترجمة تلك.

«يتمثل جزء كبير من العمل الذي ينطوي عليه التفكير النقدي، في ترجمة عمليات التواصل اليومية بين البشر.»

  • الحفاظ على دِقة الترجمة: قد تتسلل الأخطاء إلى عملية الترجمة بعدة طرق. وتتمثَّل إحدى هذه الطرق في الخطأ المتعمَّد (أي تعمُّد الخطأ في قراءة كلماتِ الآخَر أو التضليل في عرض أفكاره الخاصة)، وهذه الطريقة لا تجتاز اختبارَ مبدأ الإحسان الذي سأتناوله بعد قليل. وبالرغم من ذلك، فحتى الأخطاء غيرُ المتعمَّدة التي تحدث نتيجةَ الجهل يمكن أن تؤديَ إلى إساءة فَهْم الحجَّة. على سبيل المثال، إذا فسَّر أحدهم «المنظمات المتعددة الجنسيات» المذكورةَ في الحجج التي ضرَبنا بها الأمثلةَ على أنها «الشركات المتعددة الجنسيات الهادفة إلى الربح»، فقد يؤدي ذلك إلى إساءة فهْم الحجج التي تتحدث على الأرجح عن المنظَّمات غير الحكومية ذات الجنسيات المتعددة والمنظمات الخيرية؛ مثل الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية.
  • الإيجاز في الترجمة: لا تتطلب جميعُ الترجمات المنطقية الاختزالَ في عدد الكلمات. وقد سبق أن تناوَلْنا مثالًا استلزم إضافةَ كلمات في صورة مقدمة منطقية خفية (قياس مضمَر) كي تكون الحجَّةُ منطقية.

    ونظرًا إلى أهمية وضوح الكلمات التي نستخدمها، ينبغي أن تكون البساطة التي تُراعي الدقةَ هي الهدفَ دومًا. وتتمثل إحدى طرق تبسيط الحُجج في استبعاد العبارات غير الضرورية من الحجَّة (مثل «هذا هُراء!» إذ إنها تُعبر عن عاطفةٍ ولا تضيف معنًى جوهريًّا)، إضافةً إلى اختيار أقلِّ عدد من الكلمات للتعبير بدقةٍ عن النقاط التي تردُ أصلًا في حديث مسهَب يحتمل أن يكون غامضًا.

    ينطوي الإيجازُ أيضًا على محاولة التعبير عن الحجَّة بأقلِّ عدد ممكن من المقدمات المنطقية. وبناءً على ما تعرفه الآن عن اختبارات الصلاحية والوجاهة، لعلك تفهم السبب والمغزى من ميزة الإيجاز. فمقدمةٌ واحدة سيئةُ الصياغة، هي كل ما يلزم لإثبات عدم وجاهة حجة استنباطيةٍ ما، أو إضعاف حجة استقرائية؛ لذا فإنَّ قلة عدد المقدمات يُقلل من احتمالية فشل واحدةٍ أو أكثر من المقدمات.

    وعلى هامش الحديث عن البساطة، أودُّ الإشارة إلى مبدأ فلسفي ذي صلة يُسمى «الاستدلال إلى أفضل تفسير». يُستخدم هذا المبدأ عند التعامل مع الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها بشكلٍ قاطع، مثل السؤال عن وجود الإله من عدمه، أو عمَّا إذا كنا جميعًا شخصياتٍ في روايةٍ ما كتبَها كائنٌ فضائي يعيش في كونٍ بديل.7 لا يمكن حل هذه المسائل بالطرق التجريبية (من خلال الإدراك الحسي أو إجراء التجارب)، لكننا نستطيع الجدال بشأن إجابات مختلفة على نوعية تلك الأسئلة، واختيار الخيارات التي نجدها أكثرَ ترجيحًا من غيرها.

    بوجه عام، فإنَّ الاستدلال إلى أفضل تفسير يُفضل التفسيرات الأبسط على التفسيرات المعقَّدة. على سبيل المثال، يقتضي قَبولُ نظرية الروائي الفضائي المذكورة سابقًا، الإيمانَ بوجود كونَين. وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ عدم قَبولها يقتضي الإيمانَ بوجود كونٍ واحد (الكون الذي ندركه)؛ مما يجعله هو الخيارَ المفضَّل حتى مع غياب الأدلة. لقد أثار هذا النهجُ في الاستدلال إلى أفضلِ تفسير بين الفلاسفة جدالاتٍ وسجالاتٍ على مدار أكثرَ من قرن من الزمان بشأنِ ما يمكن معرفتُه وطبيعة الاعتقاد. وبالرغم من ذلك، ففي سياق تنمية التفكير النقدي، تصبح الرسالة أبسطَ وهي: التبسيط قدْر الإمكان من دون التضحية بالدقة.

  • تبنِّي مبدأ الإحسان في الترجمات: يضرب الفيلسوف نايجل ووربرتون المثالَ التاليَ على ما يسميه الفلاسفة «مبدأ الإحسان»:
    في مناظرةٍ عن رفاهية الحيوان، قد يذكر المتحدثُ ضرورةَ أن تتساوى كلُّ الحيوانات في الحقوق. ويردُّ أحدهم على كلام المتحدث قائلًا إن هذا الكلام سخيف؛ لأنه لا معنَى له؛ فلا معنَى مثلًا لإعطاء الزرافة الحقَّ في التصويت وامتلاكِ العقارات؛ لأنها لن تفهم أيًّا من المصطلحَين. أما نهج الإحسان الذي يمكن تطبيقه في هذا المثال، فهو تأويل الادِّعاء: «المساواة بين كل الحيوانات في الحقوق» على أنه إيجازٌ للادعاء: «المساواة بين كل الحيوانات في حق الحماية «من الضرر»»، ثم معالجة هذه النقطة في النقاش.8

    من حيث الظاهر، قد يبدو مبدأُ الإحسان نسخةً بديلة للدعوة إلى الدقة، لكنه أشملُ من أمانة الترجمة؛ إذ يستلزم التفاعل مع النسخة الأقوى للحجة بدلًا من تعمُّد إضعافها بعدم الإحسان في ترجمتها.

    ولمعرفة عواقب غياب مبدأ الإحسان من الحوار المتمدِّن بين الناس، لا يحتاج المرء إلا إلى الاطلاع على المعارك التي تندلعُ باستمرار في أقسام التعليقات في المواقع الإخبارية أو مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يختصم المتحاوِرون بشأن أخطاءٍ نحْوية أو إملائية، أو يُحاجُّون بمحاكاةٍ ساخرة لمواقف خُصومهم. وبالرغم من ذلك، فإنَّ فوائد اتباع مبدأ الإحسان أشملُ كثيرًا من المساعدة في عملية الترجمة.

    وأُولى هذه الفوائد أنَّ معالجةَ أقوى نسخةٍ ممكنة من حُجة الخصم، والعدول عن الثرثرة بشأن خطأٍ غير جوهري أو البحث عن طريقة للمجادلة بشأن صيغةٍ أضعف، يُتيح للمرء أن يُقوِّي خلايا عقله مثلَما أنَّ الرياضيين يستفيدون بدرجةٍ أكبر عندما يتنافسون مع خصومٍ أقوى منهم لا أضعف. وفي حالات عديدة، توجد بعض الأخطاء في الحجج القوية وبعض نقاط الضعف، لكنَّ الانخراط في نقاط القوة أولًا يُسهِّل معالجةَ الأفكار بمزيدٍ من القوة والأمانة، وهذا على خلاف المشاجرات الفوضوية المليئةِ بالمغالطات التي تُرى في «المجادلات» على شبكة الإنترنت كما ذكرتُ من قبل.

    «لا يقتصر تطبيق مبدأ الإحسان على أمانة الترجمة؛ إذ يستلزم التفاعلَ مع النسخة الأقوى للحجة بدلًا من تعمُّد إضعافها بعدم الإحسان في ترجمتها.»

    إنَّ تطبيق مبدأ الإحسان في عملية الترجمة يقتضي منك التصرفَ كما لو أنك ستعرض ترجمتك المنطقية لحجةِ شخصٍ ما، إلى هذا الشخص نفسِه، ثم تسأله إن كنتَ قد نقلتَ ما يحاول قوله بصدقٍ وأمانة أم لا، وذلك قبل الاستمرار لمناقشة الموضوع. إنَّ هذه العملية تستلزم «التقمُّص الفكري»، وهي القدرة على الدخول إلى عقل شخصٍ آخر لمعرفةِ ما يؤمن به وسبب إيمانه به. بالإضافة إلى تيسير إجراء المناقشات بمزيدٍ من الأمانة، يتضح أيضًا أنَّ التقمُّص الفكري أداةٌ قوية لتحييد التحيُّز التأكيدي، وهو ميل عقل الإنسان إلى قَبول الأفكار التي تتوافق بالفعل مع ما يؤمن به، ونبذ الأفكار التي تتعارض معه، وهذا عيبٌ في التفكير المنطقي يُعرِّض الإنسان إلى إساءة الفهم والتلاعب.

(١٠) التواصل الإقناعي

على خلفية الحديث عن التلاعب، توجد مجموعةٌ أخرى من المهارات اللغوية المتعلقة بالتفكير النقدي تتضمن التواصل الإقناعي المعروف تاريخيًّا باسم «البلاغة».

لعلك تتذكر أنَّ البلاغة من الموضوعات التي نظَّمها أرسطو ونسَّقها في كتابه عن هذا الموضوع، حيث أشار إلى وجود طرقٍ في عمليات التواصل الكتابية أو الشفهية تؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في الجمهور بغضِّ النظر عن الموضوع محلِّ الحديث. ومن هذه الأساليب البلاغية، السجعُ الابتدائي (وهو تكرار الحرف الأول في كلمات متتالية مثلما فعلت سابقًا حين وصفت «المشاجرات الفوضوية المليئة بالمغالطات fallacy-filled free-for-alls»)، أو السجع في مجمله، وهي أدوات تحرِّك القارئَ والمستمع، سواءٌ استُخدمت هذه الأساليب في القصائد أو الأغاني أو الخُطب السياسية.
وبخلاف تلك الأساليب الأدبية المعروفة، فهناك عددٌ من الأساليب البلاغية التي تفيد للغاية في جعل الخِطاب مقنعًا. ومن تلك الأساليب «التَّكرار التوكيدي»، وهو التكرار المتعمَّد لكلمات من أجل التأثير. على سبيل المثال، حينما ناشدَت المرشحةُ الرئاسية هيلاري كلينتون الشعبَ في خُطبتها قائلة: «مؤيدِيَّ، أبطالي … أخواتي!» كان لِتَكرار «ياء الملكية» هذا تأثيرٌ قوي ومقنع في النسخة الشفاهية، وإنْ بدا غريبًا في القراءة. ويمكن استخدام العبارةِ السابقة ذاتِها أيضًا لتوضيح أسلوبٍ بلاغي آخَر وهو «التثليث»، الذي يتمثل في ترصيعِ جزءٍ من الخطبة بمجموعة من ثلاث كلمات أو عبارات؛ إذ إن لهذه المجموعات الثلاثية تأثيرًا كبيرًا عند إلقاء الخُطب. ومن الأمثلة الأخرى أيضًا على تلك الأساليب البلاغية، أسلوبُ «المقابلة العكسية» وتَعني تعمُّد تغيير ترتيب الكلمات في العبارة أو الجملة، ولعلَّ أفضل ما يُجسدها هو تلك الجملة الافتتاحية المؤثِّرة والخالدة لجون إف كينيدي حين قال: Ask not what your country can do for you, ask what you can do for your country. وهي تعني بالعربية «لا تسأل عمَّا يمكن أن يفعله من أجلك البلدُ، بل اسأل عما يمكن أن تفعله أنت للبلد.»

توجد أيضًا أساليبُ بلاغية أخرى لصياغة الخُطب أو غيرِها من أنواع الحديث، ومن تلك الأساليب البدءُ بعبارات افتتاحية بسيطة ممتعة (وتُسمى «الديباجة»)، ومنها أيضًا الوصول بالخُطبة إلى ذروةٍ حماسية (تُسمى «الخاتمة»). إنَّ جميع الخطابات الرئاسية التي رأيتُها قد استخدمَت هذه الأساليبَ على الأرجح، ويمكن تتبُّع تاريخها إلى القدماء أمثال أرسطو والخطيب الروماني شيشرون؛ مما يدلُّ على أن البلاغة قويةٌ للغاية، وهي أيضًا لا يحدُّها زمان.

ويُعد الدور الذي ينبغي أن تؤديَه البلاغة في التفكير النقدي موضعًا للجدال، وربما يعود سبب ذلك إلى أنَّ معظم معلِّمي التفكير النقدي من الفلاسفة الكبار، أو على الأقل من المتمرِّسين في علم الفلسفة، والعداء بين مدرسة الفلسفة ومدرسة البلاغة قديمٌ يمتدُّ حتى العصر الذهبي في أثينا.

وحينما عرَّف سقراط الفلاسفةَ بأنهم «محبُّو الحكمة»، كان من بين أهدافه أن يُميزهم عن فئةٍ أخرى تُسمى السُّفسطائيِّين. كان السفسطائيُّون مُعلِّمين رحَّالة يُدرِّسون للأثرياء والطموحين خدعًا لفظيةً تَزيد من فاعلية الحديث؛ أي تجعله مقنِعًا بدرجةٍ أكبر. وفي أثينا الديمقراطية، كان مِفتاح السلطة يَكمن في تحريك الجماهير؛ مثل هيئات المحلَّفين ومجلس الحكم. ولهذا السبب، أصبحَت مساعدةُ الناس على إتقان التعامل مع الحشود عملًا مربحًا. لكن رغبة السفسطائيِّين في مساعدة الآخرين على تعلُّم إظهار الحجج الضعيفة بمظهر القوة قد وضعَهم في مرمى نيرانِ الفلاسفة الذين كانوا يسعَون إلى الحقيقة الصادقة لا مظهرها فحَسْب.9

على الرغم من مرور ألفين وخمسمائة عام من الجدال بين أهل الفلسفة وأهل البلاغة، فإنَّ فَهْم دور البلاغة في التواصل الإنساني يمكن أن يدعمَ دراسة التفكير النقدي. فالكثير من العبارات الإضافية التي قد يَلزم استبعادها من الحجج النثرية لتصفيتها إلى مقدماتٍ منطقية واستنتاجاتٍ تخلو من الغموض، هي على الأرجح من الأساليب البلاغية المخصَّصة للإقناع، لكنها لا تُقدم معلومات بالضرورة (مثل العبارة المذكورة سابقًا «هذا هراء!»). ولهذا؛ فإنَّ فهْم اللغة الإقناعية مفيدٌ في تحديدِ ما يمكن تضمينُه في الحجَّة المنطقية وما يمكن استبعاده.

علاوةً على ذلك، إذا كانت البلاغة تُستخدم لإظهار الحجَّة الضعيفة بمظهر القوة، فإن فهْم الأساليب البلاغية يُزوِّد المفكر النقديَّ «برؤية ثاقبة» من أجل تبديد الغموض اللفظي وتحديدِ ما يَكمُن فيها من استدلالٍ فقير أو مقدماتٍ زائفة.

وأخيرًا، إذا كان للبلاغة أن تُظهِر حجةً ضعيفة بمظهرٍ أكثرَ إقناعًا، فتخيَّل ما يمكن أن تفعلَه لحجةٍ قوية. حتى إذا كانت المقدمات صحيحة والاستدلالات المنطقية التي تؤدي إلى الاستنتاج رصينة، فلا يزال المرء بحاجةٍ إلى جذب انتباه الناس إلى ما يقوله. إنَّ استخدام أساليب الإقناع التي لا تزال تُحرك الجماهيرَ منذ قرونٍ مع الحجج الصالحة السليمة القوية (التي ينبغي أن تكون أخلاقيةً فاضلة)، لا يجعلها مقنعةً فحسب، بل يصعب دحضُها للغاية أيضًا.

«إنَّ استخدام أساليب الإقناع التي لا تزال تحرِّك الجماهير منذ قرونٍ مع الحجج الصالحة السليمة القوية (التي ينبغي أن تكون أخلاقيةً فاضلة)، لا يجعلها مقنعةً فحَسْب، بل يصعب دحضُها للغاية أيضًا.»

(١١) الحِجاج

ثَمة مغالطةٌ لم أذكرها في الأجزاء السابقة هي «الاشتراك اللفظي»، وتنبع من اللبس (المتعمَّد أو العرَضي) الذي ينتج عن وجود العديد من الكلمات التي تتَّخذ أكثر من معنًى واحد. ومن هذه الكلمات التي تتخذ معانيَ عدةً، كلمة تكرَّرت كثيرًا في هذا الفصل، وهي «الحجَّة».

من ناحيةٍ ما، يمكن تعريف الحجَّة على أنها مجموعةُ جمل تتضمَّن أدلةً (في شكل مقدمات منطقية)، واستنتاجًا واستدلالاتٍ منطقيةً تربط بين المقدمات المنطقية والاستنتاج. وبِناءً على هذا التعريف، يعتبر قياس أرسطو المنطقي — في مُجمله — حجةً واحدة، وينطبق الأمر نفسُه على الحجَّة المطروحة في حفل العشاء التي تناولَها الكتاب بصياغات مختلفة.

وبالرغم من ذلك، يمكن تعريف الحجَّة بمعنًى أشمل؛ إذ وصَفَها أحد الباحثين بأنها تشمل «التعبير عن الأفكار والخواطر والمشاعر والافتراضات، وجمع تلك الأفكار والمفاهيم بعضها مع بعضٍ في تسلسلاتٍ منطقية وشبهِ منطقية، مدعومًا (في العادة وعلى وجه الإفادة) بالأدلة، إضافةً إلى تحديد موقف الدارس من حيث المعارفُ الحاليَّة».10 وبناءً على هذا التعريف، فإن «حجة» معقَّدةً بين مؤيدي مواقف سياسية مختلفة قد تتضمَّن العديد من «الحجج» المنطقية المرتبطة بعضها ببعض، يُدْلي بها كلُّ طرَفٍ مشاركٍ في الجدال.

وبِناءً على مدى شمول تعريف المصطلح، يمكن القول بأن التفكير النقدي يدور برُمَّته حولَ توليد الحجج وتحليلِها، وغالبًا ما تُركز العديدُ من دورات التفكير النقدي التدريبية في مناهجها على الحِجَاج. وبالرغم من ذلك، نظرًا إلى توسيع نطاق تعريف التفكير النقدي بحيث أصبح يشمل مجموعةً من العناصر غير المعرفية، ومنها السمات الشخصية مثل حبِّ الاستطلاع والانفتاح الذهني، فالأفضلُ أن ننظر إلى الحِجَاج باعتباره عنصرًا حيويًّا في التفكير النقدي، لكنه غيرُ مرادف له.

يوجد العديد من التعريفات لمصطلح الحجَّة في المعاجم «غير المتخصصة»، ومن أقرب هذه التعريفات صلةً إلى مشروع التفكير النقدي: «سلسلةٌ مترابطة من الأسباب أو الجُمل أو الحقائق، التي تهدف إلى دعم وجهةِ نظرٍ ما أو إثباتِها»،11 ومن هذه التعريفات أيضًا: «شكلٌ من التعبيرات البلاغية التي تهدف إلى الإقناع».12 تُبين هذه التعريفات الهدفَ الأساسي من الحِجاج في التفكير النقدي، وهو تبرير المرء إيمانَه بشيءٍ ما لنفسه، أو تبريرُ الإيمان بشيءٍ ما للآخرين؛ كي يعتنقوا فكرةً ما أو يُغيِّروا آراءهم.
وتتناقض هذه التعريفات مع مفهومٍ شائع آخرَ لمصطلح «الحجَّة»، وهو «احتدامُ الشِّجار أو عدم الاتفاق».13 هذا هو التعريف الذي يميل إلى السلبية، ويتبادرُ إلى الذهن عندما يفكِّر الناس في الحجج للوهلة الأولى؛ فيربطون الكلمة بالسجالات المحتدمةِ بين أفراد العائلة أو الخصوم السياسية أو مُرتادي الحانات.
إنَّ وجود اللغة المحتدمة لا يعني بالضرورة أنَّ الحِجاج لا يجري وفقًا لتعريفنا للتفكير النقدي. فقد تتضمَّن الطرقُ المستخدَمة كي يغيرَ الناسُ آراءهم شيئًا من الدراما أو البلاغة المشحونة بالعاطفة. بالرغم من ذلك، ينبغي تحري الدقة عند التمييز بين الحقيقي من الحجج، وإن كانت صاخبة، وبين الحجج التي تنتمي إلى نشاطٍ من نوع آخَر هو الشجار.14 وفي الشجار، يُقدَّم الفوز ونَيلُ المراد على إقناع الآخر بتغيير معتقَداته.

يُعَد استخدام الإرغام الجسدي علامةً على أنَّ ما يجري شجارٌ لا حِجاج. فاستخدام العنف لكي يفعلَ الآخرون ما يُطلَب منهم لا يستلزم من أحدٍ تغييرَ رأيه، بل كلَّ ما عليه هو تغييرُ سلوكه فحَسْب؛ تجنُّبًا للأذى. وثَمة طرقٌ أخرى أيضًا لتحقيق الهدف من دون إقناعٍ صادق، ومنها ابتزاز الشخص (بما في ذلك الابتزاز المعنوي)، أو حتى رفع مستوى العاطفة في المواجهة بدرجةٍ عالية؛ فيُضطرُّ الأشخاص إلى فعلِ أيِّ شيء؛ هربًا من موقف غير مريح، بغضِّ النظر عما يعتقده.

ولمَّا كان الهدف من التفكير النقدي إيجادَ أسبابٍ تدعمُ المعتقدات، فإن الأنشطة على غِرار الشجار، التي لا تُقدِّم سوى أسبابٍ لتجنُّب أذًى جسدي أو نفسي، لا تندرج ضمنَ تعريف الحِجاج الذي يستخدمه المفكِّرون التأمُّليون. وبالرغم من أنَّ مناشدة العاطفة ليست محظورةً على المفكر النقدي عند الحِجاج بشأن قضية، ينبغي قياسُ أفعال الإقناع المدروسة وتركيزها على جعل الآخرين يرغبون في تصديقِ ما نخبرهم به.

وتوجد أشكال أخرى من التواصل لا تنطوي على الحِجاج أو الشجار. فالنشرات الرياضية المقدَّمة في الصحف على سبيل المثال، تعرِض مجموعةً من الحقائق، لا أسبابًا تدفع إلى تصديق شيءٍ ما، فهي تندرج بذلك في فئة «التفسير» وليس الحجَّة. ويصبح الفرقُ بين الحجَّة والتفسير غامضًا في بعض الأحيان. على سبيل المثال، تُقدِّم النشرة الجوية حقائقَ بشكل عام، لكن هذه الحقائق يمكن أن تُستخدم لدعم تنبُّؤات، وفي هذه الحالة تصبح تلك الحقائق بمثابة مقدمات في حجة تضم تنبؤًا أو أكثر يكون بمثابة استنتاج في الحجَّة. وقد لخَّص أحدُ الفلاسفة هذا الفرقَ في قوله: «يهدف الشرحُ إلى زيادة فهْم المستمع، أما الجدال فيهدف إلى تحسين إمكانيةِ قَبول إحدى وجهات النظر.»15

(١٢) الخلفية المعرفية

بالرغم من أنَّ العديد من التدريبات المهمة في المنطق قائمٌ على الصور التجريدية (كالمتغيرات في عبارة مثل: «إذا تحقَّق س، فسيتحقَّق ص»، ويمكن أن تشير س وص في مثل هذه العبارات إلى أشياءَ مختلفة)؛ فعادةً ما يُطبَّق التفكير النقدي على أحد الموضوعات بسبب تركيزه على التفكير المنطقي غير الصوري. ولهذا، فإنَّ الإلمامَ بالمعرفة عن هذا الموضوعِ الوثيقِ الصلة، عنصرٌ بالغ الأهمية في تدريبات التفكير النقدي.

ويُلخص أستاذ علم النفس المعرفي بجامعة فيرجينيا دانيل تي ويلينجهام، مدى ارتباط التفكير المنطقي بالمحتوى الذي يُطبَّق عليه، من خلال الأمثلة التالية:
لقد لاحظ المعلِّمون منذ أمدٍ بعيد أنَّ الحضورَ في المدرسة وحتى النجاح الأكاديمي لا يضمَنان أنَّ الطالب سيتخرَّج متسلحًا بسِمات التفكير الفعال في كل المواقف. وثمَّة نزعة غريبة تجاه ارتباط بالتفكير الدقيق ببعض الأمثلة أو أنواع معينة من المسائل. ونتيجةً لذلك، قد يتعلَّم الطالب تقديرَ قيمة الحل لمسألة رياضية قبل البدء في العمليات الحسابية باعتبارها طريقةً للتحقُّق من دقة إجابته، لكن في مختبر الكيمياء، يحسُب ذلك الطالبُ نفسُه مكوِّناتِ مركَّبٍ ما من دون ملاحظة أن مجموع تقديراته يصل إلى أكثر من ١٠٠ بالمائة. وقد يتعلم الطالبُ التأنِّيَ في مناقشة أسباب الثورة الأمريكية من وجهتَي النظر البريطانية والأمريكية، لكنه لا يفكِّر حتى في أن يتساءل بشأن منظور ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. فلماذا يتمكَّن الطلابُ من التفكير النقدي في موقفٍ ما، ولا يتمكنون من ذلك في موقفٍ آخر؟ تتلخَّص الإجابة عن هذا فيما يلي: ترتبط عمليات التفكير ارتباطًا كبيرًا بالموضوع محلِّ التفكير.16

عند النظر من خلال عدسة البِنَى المنطقيةِ التي تناولها الكتاب، يمكن رؤية الحقائق باعتبارها عاملًا يَصوغ المقدماتِ المنطقيةَ لحجةٍ ما، أو يوفِّر معلوماتٍ بشأن هذه المقدمات؛ دعمًا للاستنتاج. ومثلما أنَّ صياغة المقدمات المنطقية تحتاج إلى فهم الموضوع، فإن تحليل تلك المقدمات لتحديد الأخطاء أو نقاط الضعف يتطلَّب معرفةً بمحتواها.

(١٣) فجوة المعلومات

في الفصل التالي، سنتناول دورَ الخلفية المعرفية في المناقشات المتعلقة بأماكن تدريس مهارات التفكير النقدي وكيفية تدريسها. لكن قبل معالجة هذه المسألة، علينا دراسة سؤال يتخلَّل نقاشاتِ الخلفية المعرفية في عصر الإنترنت: ماذا يعني الوصول إلى المعلومات في عصرٍ لا يبعُد فيه كمٌّ هائل من تلك المعلومات عن كثيرٍ من الناس سوى بضع لمسات على الهاتف أو نقرات بالفأرة؟

يُعَدُّ تفاوتُ الموارد التكنولوجية بين الأغنياء والفقراء، وحتى على مستوى البلدان الغنية والفقيرة، أحدَ عناصر هذه الفجوة الجديدة في المعلومات، التي هي في حقيقتها فجوةٌ في الوصول إلى المعلومات. وقد يتضمَّن هذا التفاوتُ أجهزةً مثل الكمبيوتر والهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة. لكن فيما يتعلق بالوصول إلى المعلومات، فلن تفيد هذه الأجهزة ما لم تتصل بالإنترنت، ومن ثم تظهر فجوةٌ تكنولوجية أخرى بالغةُ الأهمية ينبغي سدُّها، وهي توفير خدمات الاتصال بالإنترنت بسرعات عالية وخالية من قيود الحكومة.

ومن دون الحدِّ من مسائل التفاوت الآنفةِ الذكر، فحتى «أثرياء» التكنولوجيا يواجهون مشكلةً صعبة؛ وهي: كيفية التنقُّل في عالم البيانات الدائم التوسُّع (الكثير من تلك البيانات صحيح وقيِّم، لكن أكثرها زائفٌ وبعيد عن الموضوع)؛ وذلك من أجل الوصول إلى المعلومات الصحيحة، وتقييم جودتها، واستخدامها استخدامًا ملائمًا.

(١٤) الدراية المعلوماتية

نأتي إلى مهارةٍ حديثة أخرى، وهي عنصرٌ تتزايد أهميته في التفكير النقدي، ألا وهي الدراية المعلوماتية. ظهر المجال في سبعينيَّات القرن العشرين، وشهدت تلك الحِقبةُ نفسُها ظهورَ مجالٍ مماثل وهو الدراية الإعلامية لمساعدة الطلاب وعامةِ الناس في التعرف على كيفية تقييم المحتوى الذي تُقدمه وسائل الإعلام التقليدية، مثل الصحف والراديو والتلفزيون. وخارج نطاقَ هذه الوسائل الإعلامية ذات الانتشار الواسع، كان المصدرُ الأساسي للمعلومات خارج المنزل هو المكتباتِ العامةَ أو الأكاديمية، مما يُفسر سببَ ظهور مجال الدراية المعلوماتية من مجال علوم المكتبات.

ظلَّت المكتبة على مدار التاريخ هي المكانَ الذي يضم مصادرَ المعلوماتِ الثمينةَ والصعبةَ المنال، مثل مجموعات الكتب والنشرات الدورية والمجلات، وكانت تلك المصادر تُجمَع وتُتاح لفئاتٍ معينة؛ مثل طلاب الجامعات أو الجمهور عمومًا. وحتى مع توفُّر وسائل الإعلام الجديدة مثل الميكروفيلم وقواعد البيانات على الأقراص المدمجة الصلبة ومصادر المعلومات عبر الإنترنت، ظلَّت المكتبة هي المكانَ الذي يضم هذه المصادرَ القيِّمة والثمينة، ويستطيع كلُّ مَن يحمل بطاقةَ المكتبة الاطلاعَ عليها.

ولما استمر أمناءُ المكتبات في دعم مصادر المعلومات التي يزيد تعقيدُها وتطورها التقني، فقد أعادوا تشكيلَ مهنتهم، وتحوَّلوا من جمع الكتب والمخطوطات وحفظِها إلى اختصاصيِّين في المعلومات. والحق أنَّ مجال الدراية المعلوماتية الذي أنشَئوه، يوفِّر إطارًا للتعامل مع المعلومات التي نحتاج إليها جميعًا اليوم؛ إذ توسَّعَت هذه المصادر توسعًا كبيرًا، ودخلَت إلى الفصول الدراسية والمنازل وأماكن العمل عبر أجهزة الكمبيوتر والأجهزة المحمولة الموجودة في كل مكان.

وعلى مستوًى أعلى، تتمثل الدرايةُ المعلوماتية في «القدرة على تحديد المعلومات اللازمة، وفهم طريقة تنظيم تلك المعلومات، وتحديد أفضلِ مصادر المعلومات، وإيجاد تلك المصادر وتقييمها تقييمًا نقديًّا، ومشاركة تلك المعلومات. إنها معرفة طرقِ البحثِ الشائعةِ الاستخدام».17 وسوف نجد أنَّ مَن يتمتعون ﺑ «الدراية المعلوماتية»، يفهم الخطوات التالية ويطبقها:
  • إيجاد المعلومات: تتضمَّن تلك الخطوة استراتيجياتٍ للبحث عن أفضل المصادر باستخدامِ أساليبَ متنوعة، لا تقتصر على عمليات البحث البسيطة على شبكة الإنترنت.
  • تقييم المعلومات: تتضمَّن تلك الخطوة تطبيقَ مجموعةٍ من الاختبارات لتحليل جودةِ المعلومات، من حيث دقتُها، وصلتُها بالموضوع، وملاءمتُها للعصر، وغيرُها من العوامل.
  • تنظيم المعلومات: تنطوي هذه الخطوة على تنظيم مجموعات المعلومات في ترتيبٍ يتيح تحديدَ أنماط المعلومات، ويَزيد من فائدتها لمهمةٍ محددة (مثل كتابة الأبحاث).
  • تجميع المعلومات: تتمثَّل هذه الخطوة في توظيف المعلومات التي جُمِعَت، وتقييمها وتنظيمها؛ بُغْيةَ إنجاز مهماتٍ مثل الإجابة عن الأسئلة، أو إنشاء «منتجات للعمل» مثل الأبحاث التي ذكَرناها سابقًا.
  • توصيل المعلومات: تتضمَّن تلك الخطوة مشاركةَ ما ابتُكِر، مثل إجابات الأسئلة أو الأبحاث، مع الآخَرين حيث يمكن لتلك المعلومات أن تصبح جزءًا من نظام المعلومات الذي يتصفَّحُه مَن يتمتعون بمهارات الدراية المعلوماتية.

يوفِّر مجال الدراية المعلوماتية إطارًا للتعامل مع المعلومات التي نحتاج إليها جميعًا اليوم؛ إذ توسَّعت هذه المصادر توسعًا كبيرًا، ودخلت إلى الفصول الدراسية والمنازل وأماكن العمل عبر أجهزة الكمبيوتر والأجهزة المحمولة الموجودة في كل مكان.

وإذا اطَّلعتَ على قسم «المصادر الإضافية» الذي صار الآن مألوفًا، فسيساعدك ذلك في معرفةِ المزيد من الجوانب العملية لكلِّ خطوة من هذه الخطوات، وعن الدراية المعلوماتية بوجهٍ عام.

وما ينبغي تذكُّره هو أنه سواءٌ أكانت الخلفيةُ المعرفية مستمَدَّةً من الكتب المطبوعة أم من المصادر الرقمية، وسواءٌ أكانت نابعةً من سنوات في دراسةِ موضوعٍ ما أم من عمليات البحث السريعة عبر الإنترنت التي تُناسب أغراضًا بعينها؛ فإنَّ الأمر بشأن التفكيرِ النقديِّ أننا لا نستطيع تطبيقَ التفكير النقدي على موضوعٍ ما، إذا لم نكن على علمٍ بما نتحدث عنه.

(١٥) الابتكار

إذا كان التفكير النقدي لا يرتبط إلا بالحقائق والمنطق، فقد يبدو الابتكارُ في محلِّه إذا اعتُبر من مهارات التفكير النقدي الأساسية. وبالرغم من ذلك، فمثلما تناولنا النسخة الأحدث من تصنيف بلوم في الفصل السابق، صار الابتكار (وصيغته الفعلية: «ابتكر») على رأس الهرم؛ أي إنه يمثِّل أسمى مهارات التفكير العليا. والأرجح أنَّ كل مَن ناضل حتى تمكَّن من بناء برهانٍ منطقي أنيق أو اشتقاق كيميائي، سيُجادل دفاعًا عن أهمية دور الخيال والأنشطة والسمات الإبداعية في هذه الجهود العقلية.

وإضافةً إلى ذلك، يُعَد انتشارُ استخدام الابتكار في عملية التفكير النقدي، منطقيًّا في سياق منهج حلِّ المشكلات الذي ذكَره جون ديوي في كتابه «كيف نفكر». ويتمثل هذا المنهج في اقتراحِ فرضيةٍ واختبارِها، ورفضِها إذا لم تجتَزْ هذه الاختبارات، أو قَبولِها إن نجحَت فيها.

وبالرغم من أنَّ هذه العملية التي ذكَرها ديوي منهجيةٌ بالتأكيد، وهي عملية مستلهَمة من العلوم لكنها تقبلُ التطبيق على كل المشروعات التي تتطلب التفكير التأمُّلي، فإنها تنطوي على عنصرٍ إبداعي أيضًا. فكيف عساها أن تُنتج الفرضياتُ المزمَعُ اختبارُها وتجرِبتُها إلا أن يتمتعَ الشخص بالقدرة على تخيُّل الاحتمالات التي ربما لم تُقترَح من قبلُ أو تُختبَر؟

فبالرغم من كل شيء، لا يستمدُّ العلماءُ أفكارهم من الحقائق أو الملاحظات فحسب. وإنما يبحثون أيضًا عن أنماط، أو يبتكرون تجارِبَ قد تؤدي إلى ظهور أنماطٍ وملاحظات جديدة. وكأيِّ شكل من أشكال الفنون، فإن البحث عن أنماطٍ قد لا تكون واضحةً أو تطوير شيءٍ جديد، سواءٌ أكان ذلك لوحة فنية أم تجربةً علمية، فهو في جوهره عملٌ إبداعي.

وفي العقود الأخيرة، أدى الدورُ الذي لعبه التصميمُ في نجاح المنتجات المشهورة مثل «آيفون» من شركة «أبل»، إلى تشجيع الاهتمام بالعمليات القائمة على التصميم في مجالاتٍ متنوعة مثل الأعمال التِّجارية والتعليم، وظهر مصطلحُ «التفكير التصميمي» ليكون بمثابة مصطلحٍ شامل للمناهج التَّكرارية القائمة على التجارِب والآخذة في التوسُّع الخاصة بتكوين المعرفة واكتشافها و«صُنعها».18 علاوةً على ذلك، فقد أدَّت محاولاتُ تضمين الآداب، ومنها الفنون العمَلية مثل التصميم، فيما كان يُعتقد من قبلُ أنها مناهجُ عِلمية ورياضية فقط هي التي حوَّلَت الاختصار STEM (الذي يشير إلى العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات)، إلى الاختصار STEAM (إذ أُضيف الحرف A إشارةً إلى الآداب).19
ومن الطرق التي يمكن استخدامها لدراسة دور الإبداع في التفكير النقدي أنه مصدرٌ لمادة جديدة تقبل تطبيقَ التفكير المنطقي المنظَّم (الذي توفِّره أدواتُ التفكير النقدي الأخرى التي تناولَها الكتاب)، وهي في تلك الحالة مادةٌ قد لا توجد مبدئيًّا إلا في التخيُّل. فمثلما كتَب ديوي منذ ما يَزيد على قرن في كتاب «كيف نفكر»:
«تنطوي القصصُ التخيلية التي يرويها الأطفالُ على جميع درجات الاتِّساق بين أجزاء القصة؛ حيث إن بعضها مفكَّك وبعضها محكَم. عند ربط تلك الأجزاء ببعضها، فإنها تُحفِّز التفكير التأمُّلي؛ وعادةً ما تحدث بالطبع في عقولٍ تتمتَّع بقدرات التفكير المنطقي. غالبًا ما ينتج الأطفالُ هذه القصصَ التخيلية قبل أن يكتسبوا القدرةَ على التفكير المتماسك، وهي تُمهد له الطريق. وبهذا المعنى، تكون الفكرة صورةً عقلية لشيءٍ ليس موجودًا في الحقيقة، والتفكير هو توالي تلك الصور.»20

(١٦) السمات الشخصية

لقد تحدَّثتُ قبل ذلك عن السمات الشخصية التي ينبغي أن يتحلى بها المفكرُ النقدي؛ مثل حبِّ الاستطلاع والتقمُّص الفكري والإبداع، التي قد يبدو أنها تليقُ بوصفٍ للشخصية أكثرَ مما تليق بمنهجٍ دراسي أو مجموعةٍ من المعايير الأكاديمية. وتتعلق هذه المصطلحاتُ «بالسِّمات» البشرية، وتُسمى أيضًا بالصفات أو الخصال السلوكية، وهي تصفُ ما ينبغي أن يتحلى به المفكرُ النقدي عند تطبيق المعرفة والمهارات المرتبطة بالتفكير المنطقي المنضبط على مواقف الحياة الواقعية.

ومع انتشار دورات التفكير النقدي لا سيما في التعليم العالي بدءًا من ثمانينيَّات القرن العشرين، حدَّد المعلمون المعْنيُّون بتدريس هذه الدورات التدريبية وكذلك الباحثون في مجال التفكير النقدي مجموعةً كبيرة من السمات المطلوبة للتفكير الفعال والتأملي، وكذلك الاستعداد لتطبيق تلك القدرة عمليًّا، لا سيما في المواقف التي قد لا يكون التفكير العميق هو الخيارَ الوحيدَ فيها لدى الشخص، أو استجابتَه التلقائية الأولى.

تأسَّست «مؤسسة التفكير النقدي» غيرُ الهادفة للربح في كاليفورنيا بالولايات المتحدة في ثمانينيَّات القرن العشرين، وكانت قوةً رئيسية في تقديم الدعم لتدريس التفكير النقدي في الولايات المتحدة.21 وتضمنت أعمالُ المؤسسة وضْعَ أُطرٍ تُحدِّد صفات المفكر النقدي، ومنها مجموعة «السمات الفكرية القيمة» المماثلة للعديد من القوائم الأخرى التي تضم السمات الشخصية التي يجب على المفكر النقدي التحلِّي بها.22 وتتضمَّن القائمة التي وضعَتْها المؤسسة السمات التالية:
  • التواضع الفكري: إدراك الشخص حدودَ معرفته والأخطاءَ المحتملة في تفكيره.
  • الشجاعة الفكرية: قدرةُ الشخص على المحاجَّة دفاعًا عن معتقداته بثقة، وعدمُ السلبية في القَبول بصحةِ ما يُقال له حتى مع وجود الضغط الاجتماعي.
  • التقمُّص الفكري: الاستعداد لأن يتخيَّل الشخص نفسَه متبنيًا التوجُّهَ العقلي للآخرين، كي يفهمَ مواقفهم على نحوٍ أفضل.
  • الاستقلال الفكري: قدرة الشخص على التفكير لنفسِه، مع التحكُّم في تفكيره المنطقي أيضًا.
  • النزاهة الفكرية: الأمانة في التفكير والجدال بحيث يُلزِم الشخصُ نفسَه والآخرين بالمعايير الفكرية الصارمة ذاتِها، وأن يكون على استعداد للاعتراف عند الخطأ.
  • المثابرة الفكرية: الاستعداد لبذل الجهد الفكريِّ الشاقِّ للتغلب على العقَبات؛ من أجل الإجابة عن الأسئلة، أو الحِجَاج دفاعًا عن مواقفه.
  • الثقة في المنطق: الإيمان بأن الأفضل للجميع بمرور الوقت، هو الالتزام بالتفكير المنطقي؛ باعتباره وسيلةً لاكتسابِ المعرفة وإيجادِ حلول المشكلات.
  • الإنصاف في التفكير: الاجتهاد لتحرِّي حُسن النية في معاملة جميع وجهات النظر بإنصاف، بغضِّ النظر عن المعتقدات الشخصية، أو الاستجابة العاطفية تجاه القضايا المطروحة للنقاش، أو أعراف المجتمع (مثل ضغط الأقران للموافقة على وجهة نظر واحدة).
ستُلاحظ أنَّ مجموعة السمات السابقة تضمُّ العديد من الجوانب البشرية غير الجانب العقلي، ومنها الجوانب العاطفيَّة والأخلاقية والاجتماعية في تكويننا. وبذلك، يمكننا استخدامُ هذه السمات — جملةً أو تفصيلًا — لتعريف المفكِّر النقدي. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام التواضع الفكري (الذي يطلب من الشخص احترامَ حدوده)، والشجاعة الفكرية (التي تطلب من الشخص الدفاع عن معتقداته عند وجودِ ما يُسوِّغها من المبررات) بمثابة قُطبَين، وبينهما يوجد توازنُ السمات الذي يُحدد الاستقامة الفكرية.23

ولهذه السمات أبعادٌ أخلاقية أيضًا. فالتقمُّص الفكري والإنصاف في المنتصف على سبيل المثال من التنويعات الفكرية القائمة على مبدأ «عاملِ الناسَ كما تحبُّ أن يعاملوك»، وهو الفحوى الذي ورَد أيضًا في «القاعدة الذهبية» لخلقِ المبادَلة، ويرتبط بجميع التقاليد الدينية والأخلاقية. وبالمثل، تفترض النزاهةُ الفكرية — مثل غيرها من أشكال النزاهة — وجودَ مجموعة من الثوابت الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم خيارات الجميع على قدَم المساواة.

يمكننا استخدام هذه السمات — جملةً أو تفصيلًا — لتعريف المفكر النقدي.

وتُعَد قائمة السمات الفكرية التي وضعتها المؤسسة، واحدةً من القوائم العديدة التي وضعَها المعلمون والباحثون لتحديد جميع السمات التي ينبغي للمفكر النقدي التحلِّي بها. وعلى مدار العقود، ظهرَت بالفعل مجموعاتٌ كثيرة مختلفة من الخِصال الفكرية؛ حتى إنها احتاجت إلى جهدٍ إضافي لمحاولة جمعِها في مجموعةٍ شاملة تضم صفاتٍ تتخذ أسماءً مختلفة مثل «حب البحث» و«حب الاستطلاع»، أو كلمات وعبارات قد تُمثل جوانبَ مختلفةً للمفهوم ذاتِه؛ مثل «احترام وجهات النظر البديلة» و«الانفتاح الذهني».24

وكما سيردُ في الفصل التالي، توجد نقاشاتٌ كثيرة بشأن كيفية توظيف دراسة التفكير النقدي في أنظمة التعليم الحاليَّة في المراحل الابتدائية والثانوية وما بعد الثانوية. وبالرغم من ذلك، فحتى إذا كان النظر إلى التفكير النقدي باعتباره أولويةً تعليمية يُعطي لموضوعاتٍ مثل المنطق والحِجاج مكانةً جديدة بارزة في المنظومة التعليمية، فإنَّ مكانة «التربية الأخلاقية» المرتبطة بتدريس الخصال الفكرية ليست واضحةً في تلك المنظومة، وليس واضحًا أيضًا كيف يمكن أن تُدمَج فيها، ولا إن كانت ستندرجُ ضمن تلك المنظومة أم لا.

(١٧) واحدٌ من كثير

بالرغم من أنَّ الكتاب لا يهدف إلى اختيار مفضَّلات من بين مختلفِ قوائم الخصال أو التعريفات المتنافسة للتفكير النقدي، فحريٌّ أن نُشير إلى إجماعٍ مهم يشاركه جميعُ مَن يعملون في المجال تقريبًا، وهو أنَّ التفكير النقدي يتكوَّن من ثلاثة أجزاء مترابطة:
  • المعرفة: تشمل معرفة عناصر التفكير النقدي مثل المنطق واللغة والحِجاج.
  • المهارات: القدرة على استخدام عناصر التفكير النقدي عمليًّا في المواقف الواقعية.
  • السمات: الخصال الشخصية اللازمة لتقديم التفكير المنطقي على غيره من طرق التعلُّم واتخاذ القرارات، والاستعداد لاستخدام أدوات التفكير النقدي، والالتزام بمراعاة الأمانة والأخلاق عند استخدام قدرات التفكير النقدي.

ينطوي هذا التعريف وغيرُه من تعريفات التفكير النقدي وشروحه على توقُّع أنَّ المفكر النقديَّ يعي ما يدورُ في رأسه. ومن ثَمَّ يصبح «إدراك الإدراك»، أي وعي الإنسان بعمليات التفكير التي تجري في ذهنه وفَهْمها، مهارةً أخرى ينبغي أن يكتسبها المفكرُ النقدي، وكذلك فإنَّ استعداد الشخص لتأمُّل أفكاره سمةٌ أخرى ينبغي أن توجد في شخصية المفكر النقدي.

وعلى الرغم من وضوح دور المهارات الأساسية مثل المنطق في تحسين التفكير المنطقي، فإنه يمكن للسمات غيرِ المعرفية مثل الانفتاح الذهنيِّ والتقمُّص الفكري أن تُؤدي دورًا بالغَ الأهمية وضروريًّا للتفكير على نحوٍ جيد.

ولفهم السبب، علينا دراسة الرُّؤى المستمَدة من علم النفس، والمذكورة في الفصل الأخير، وهي تتضمَّن فكرةً يعرفها الجميع من خبراتهم في الحياة؛ وهي أن عقل الإنسان ينقسم إلى أجزاء متخاصمة، تتضمَّن التفكيرَ والعاطفةَ والغريزة. إضافةً إلى ذلك، يتفاعل الأفراد وهم يمتلكون تلك العقولَ المنقسمة، مع أفراد آخرين باعتبارهم جزءًا من نظام اجتماعي ما. ومما يُعقِّد الأمور أكثرَ أننا حتى حين نُحاول إعمال العقل لاتخاذ خيارات مدروسة غيرِ مدفوعة بالعاطفة ولا الضغط الاجتماعي، يتضح أنَّ التفكير البشريَّ مَعيب، ومن ثَم فهو عُرضة للوقوع في الخطأ والتلاعب الناتج عن التحيُّزات التي ربما تكون متأصلةً في عقولنا.

وعلى الرغم من أنَّ البعض يقولون إنَّ طبيعة العقل تجعل من الصعب على الناس أن يتصرَّفوا بعقلانية إن لم يكن من المستحيل، فإن سمة الثقة في المنطق تمنحنا النزعة للبحث عن أسباب المعتقَدات العقلانية والتفكير فيها بدلًا من تصديقِ ما يُقال لنا فحسب أو الوقوع فريسةً لأخطاء التفكير، وجميعُنا عُرضة لها. وبالمثل، تُوفر السمات الأخرى طرقًا قويةً لضبط العواطف والغريزة والتحيُّزات التي قد تَحيد بتفكيرنا عن مَساره الصحيح.

إنَّ الانفتاح الذهني على سبيل المثال يعني الاستعدادَ لتقبُّل الأفكار، حتى التي لا نتفق معها. فقد تؤدي العاطفةُ إلى انزعاجٍ داخلي حين نُضطرُّ إلى التفكير في وجهات نظر معارضة (أو حتى عند الاستماع إليها)، بينما يسهِّل الانحيازُ التأكيدي من قَبول الأدلة والحجج التي تدعم وجهةَ نظرنا وتُقدمها على الأدلة المعارضة. لكن من خلال التحلِّي بعقلٍ متفتِّح، نصبح مستعدِّين لتعلم المزيد عن الآراء التي لا نقبل بها حاليًّا.

ينبغي أن تُوازن سمة الانفتاح الذهني بين القدرة على تمييز الحجج غير المنطقية ونبذِها، مثل النظريات العِرقية الغريبة أو اقتراح وجود الآلات الأبدية الحركة، وبين عدم النظر إلى كل حجة لا نتفق معها على أنها مكافئةٌ لنظرية مؤامرة. إنَّ استيعاب سِمة الانفتاح الذهني جيدًا يمكن أن يؤدي بالإنسان إلى تغيير آرائه بشأن شيءٍ كان يظن أنه مؤمنٌ به، أو يُزوده بالرُّؤى اللازمة لإقناع الآخرين بتغيير آرائهم. وقد يؤدي تحلِّي الطرَفَين المشاركَين في جدالٍ ما بالانفتاح الذهني، سواءٌ أكانوا أفرادًا أم مجموعاتٍ أو حتى في سياق المجتمع ككلٍّ، إلى انبثاق إجاباتٍ وأفكار جديدة لم يكن يعرفها أحدٌ من قبل المشاركة في عمليةٍ تداولية مدفوعةٍ بما يرتبط بالتفكير النقدي من معرفة ومهارات وخصال.

انطلاقًا من هذه الرؤية التي تتسم بالتفاؤل، يمكن للتفكير النقدي تقديمُ حلول للعديد من المشكلات التي نواجهها، بدايةً من السياسات القائمة على القبَليَّة والعواطف السلبية وحتى الكوارث البيئية أو الاقتصادية التي تنتج عن طرقِ التفكير غير العقلانية بشأنها، أو تتفاقمُ بسبب ذلك. وبالرغم من ذلك، فقبل تناول الفوائد التي قد يجلبها التفكيرُ النقدي للأفراد أو العالم، ينبغي مناقشة التحديات التي تقف في طريقِ جعلِ قدرات التفكير النقدي محورًا في قطاع التعليم، إن لم يكن في المجتمع ككل. وهذا هو الموضوع الذي سنعالجه في الفصل التالي الذي يُناقش طرقَ تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤