تمهيد

منذ أن نُشِر كتابي «التطور: ما تخبرنا به الحفريات وأهميته» (كولومبيا يونيفرستي برس، ٢٠٠۷؛ الطبعة الثانية، ٢٠۱۷)؛ توصَّل مجالا علمِ الأحياء التطوري وعلم الحفريات إلى العديد من الاكتشافات الجديدة. وفي الوقت نفسه، تجمَّع الكثير من الأدلة على التطور وتراكم منذ عام ۱۸٥۹، حين نُشِر كتاب تشارلز داروين الثوري «أصل الأنواع». وقد ناقشتُ بعض هذه الأدلة في كتابي الأول عن التطور، لكن الكثير منها جديد أو لم يُذكَر في ذلك الكتاب إلا بإيجاز.

وبدلًا من أن يقتصر تركيزي على السجل الأحفوري، مع تخصيص الكثير من الوقت لتصحيح الأكاذيب والخرافات التي يردِّدها منكرو التطور؛ ارتأيت أنه سيكون من المفيد والمثير للاهتمام التركيزُ على مسارات مفردة من الأدلة أدَّت إلى اكتشاف التطور، وعلى الرؤى الثاقبة التي قدَّمتها لنا هذه الأدلة عن آليات الحياة. لقد أوضح كتاب «ماذا بحق الجحيم! التطور: نظرية عن تصميم غير مفهوم»، الصادر عام ٢٠۱٤ لمارا جرونباوم، وكتب أخرى؛ أنَّ الحياة مليئة بالأمور الغريبة والمضحكة والقبيحة التي لا يكون لها أي معنًى في كونٍ إلهي التصميم، مما يوضح مدى ما قد تكون عليه الطبيعة من خَرَق وإهدار. غير أنه في الأساس كتاب مليء بالصور والتعليقات القصيرة والدعابات الساخرة. وسوف أعمد في كتابي هذا إلى توضيح المسألة نفسها لكن بأسلوب أكثر جدية، مستكشفًا هذا الموضوع، ومتعمِّقًا في معناه.

إضافةً إلى ذلك، فإني أستمتع بالكتابة على نسق الكتب الثلاثة السابقة في هذه السلسلة؛ «قصة الحياة في ٢٥ حفرية» (٢٠۱٥)، و«قصة الأرض في ٢٥ صخرة» (٢٠۱۸)، و«قصة الديناصورات في ٢٥ اكتشافًا» (٢٠۱۹)، وكلٌّ منها صادر عن كولومبيا يونيفرستي برس. وعلى غرار المؤلَّفات السابقة، يمثِّل كل فصلٍ من فصول هذا الكتاب مقالةً صغيرةً قائمة بذاتها تصف فكرة معينة، وغالبًا ما تُذكَر في السياق التاريخي لكيفية التفكير في هذا الموضوع. وعلى غرار الكتب السابقة أيضًا، فإن المادة العلمية غالبًا ما تُذكَر في سياق قصص الأشخاص الذين قاموا بالاكتشافات، وأهمية الاكتشاف في سياق العلم.

ينقسم هذا الكتاب إلى خمسة أجزاء. يصف الجزء الأول، الذي يحمل عنوان «في البداية: كل شيءٍ يتطور، والأرض سحيقة القِدَم»، كيفيةَ حدوث التطور في جميع أنحاء الكون الذي يبلغ عمره مليارات السنين (الفصلين ۱ و٢). ويناقش الجزء الثاني الاتجاهات الرئيسية والأصلية التي استخدمها داروين لتشكيل أدلته على التطور، والاكتشافات ذات الصلة بالتطور التي ظهرت منذ زمن داروين (الفصول ۳–۹). ويتناول الجزء الثالث بعنوان «تحولات كبرى في تاريخ الحياة»، الأدلةَ البارزة من السجل الأحفوري، والتي توضح كيف أنَّ مجموعات رئيسية معينة من الكائنات الحية قد تطورت من شيء مختلف تمامًا، أو ما يُعرَف بالتطور الكبروي (الفصول ۱٠–۱٦). ويصف الجزء الرابع، الذي يحمل العنوان «العيون والجينات»، الأدلةَ الضخمة التي تأتينا من مجالَي علم الجينات وعلم الأحياء الجزيئي (الفصول ۱۷–۱۹)، ويتناول أيضًا اللغز الشهير لكيفية تطور بنية معقدة مثل العين (الفصل ٢٠). أما الجزء الخامس «البشر والتطور»، فيوضح بالتفصيل الأدلة الداعمة لفكرة أن البشر قِرَدة قد تطورت، شأنهم في ذلك شأن أي كائن حي آخر (الفصول ٢۱–٢٤)، كما يوضح أي الاتجاهات قد يتخذها التطور في المستقبل، وأي الاتجاهات قد لا يتخذها على الإطلاق (الفصل ٢٥).

وكما فعل داروين في عام ۱۸٥۹، فإني آمل أن أقنعك، أيها القارئ، بحقيقة التطور من خلال ترسيخ القضية بذكر الحقائق غير الاعتيادية عن الطبيعة واحدةً تِلو الأخرى. فكلٌّ منها دليل واضح على التطور، وأنا آمل أن تقتنع بعجائب التطور من خلال الأدلة وقيمتها الهائلة فحسب. والحق أنَّ هذا يتناقض مع كتابي الأول عن التطور، والذي كان أكاديميًّا وفلسفيًّا بدرجة أكبر، وتناول بشكل مباشر نظرية الخلق وقضايا أشمل عن التطور.

فلتتفضلْ أيها القارئ ولْتستعدَّ لاستكشاف الجوانب العجيبة والغريبة للطبيعة، والتي توضِّح أنَّ لها تاريخًا، وأنها تطورت وتغيرت عبر الزمن. ومثلما كتب العالم العظيم ثيودوسيوس دوبجانسكي في مقال له عام ۱۹۷۳، مكرِّرًا هذه الكلمات: «لا معنى لعلم الأحياء إلا في ضوء التطور.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤