الفصل الرابع

الدولة الأموية

من سنة ٤١–١٣٢ﻫ/٦٦١–٧٥٠م

(١) خلافة معاوية بن أبي سفيان (من سنة ٤١–٦٠ﻫ/٦٦١–٦٨١م)

هكذا كانت نهاية دولة الخلفاء الراشدين، وبداية دولة خلفاء بني أمية، وأولهم معاوية بن أبي سفيان، وكانت الخلافة على عهد الخلفاء الراشدين انتخابية، وقصبتها المدينة؛ فجعلها معاوية وراثية، وجعل قصبتها دمشق؛ فانحصرت أعقابه، وشرع في تولية العمال على الأمصار، وكانت مصر من أهم تلك الأمصار؛ فعهد بأمرها لعمرو بن العاص؛ لما عرف من علو همته، وحسن سياسته، وجعلها له طعمة بعد عطاء جندها والنفقة في مصلحتها.

فعقد عمرو لشريك بن سمي لغزو البربر في شمالي أفريقيا فغزاهم وصالحهم، ثم انتقضوا؛ فبعث إليهم عقبة بن نافع فغزاهم حتى هزمهم، وعقد لعقبة أيضًا على غزو هوارة، وعقد لشريك على غزو لبدة؛ فغزواهما في سنة ٤٣ﻫ، ولما قفلا كان عمرو شديد الدنف يتقلب على فراش الموت، فتوفي ليلة الفطر من السنة المذكورة، وكان قصير القامة يخضب بالسواد، وكان من أفراد الدهر دهاءً وحزمًا وفصاحةً إلا أنه كان يتلجلج بكلامه.

ولما علم معاوية بوفاة عمرو تكدر كدرًا عظيمًا جدًّا؛ لأنه لم يعد يعلم لمن يعهد بولاية مصر بعده، وبعد التردد لم ير بدًّا من تلوية أحد أهله، فأرسل إليها عتبة بن أبي سفيان أخاه في ذي القعدة من سنة ٤٣ فسار إليها، وبعد أن أقام أشهرًا عرض له سفر إلى أخيه معاوية بدمشق، فاستخلف عبد الله بن قيس بن الحارث، وكان في شدة وعسف، فكره المصريون ولايته، وامتنعوا منها، فبلغ ذلك عتبة فاضطر إلى الرجوع إلى مصر، ولما جاءها صعد منبر الخطابة، فقال: «يا أهل مصر، قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم، وقد وليكم من إذا قال فعل، فإن أبيتم درأكم بيده، فإن أبيتم درأكم بسيفه، ثم رجى في الأخير ما أدرك في الأول. إن البيعة شائعة، لنا عليكم السمع ولكم علينا العدل، وأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه.» فناداه المصريون من جنبات المسجد: «سمعًا سمعًا» فناداهم: «عدلًا عدلًا» ونزل وعقد عتبة لعلقمة بن يزيد على الإسكندرية في اثني عشر ألفًا تكون لها رابطة.

وتوفي عتبة في الفسطاط في ذي الحجة سنة ٤٤ﻫ وكانت مدة ولايته سنة كاملة؛ فأقام معاوية عوضًا عنه عقبة بن عامر بن عبس الجهيني، وجعل له صلاتها وخراجها، وكان عقبة قارئًا فقيهًا مفرضًا شاعرًا، له الهجرة والصحبة والسابقة، إلا أنه لم يكن من السياسة وحسن التدبير على ما يرضي معاوية، فولى مكانه مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري، وكان من سراة المدينة، وأمره أن يكتم ذلك لبينما يخرج عقبة من مصر بحيلة.

ففي ١٩ ربيع الأول سنة ٤٥ﻫ أنفذ معاوية أمره إلى عقبة أن يسير إلى رودس بحرًا، فقدم مسلمة ورافق عقبة إلى الإسكندرية وهو لا يعلم بإمارته، فلما توجه سائرًا استوى مسلمة على سرير إمارته، فبلغ ذلك عقبة، فقال: «أخلعًا وغربة» وكانت مدة ولايته ثلاثة أشهر، وقيل سنتين وثلاثة أشهر.

وأخذ مسلمة في إجراء الأحكام وجمع الصلات والخراج، وانتظمت غزواته في البر والبحر، فأنفذ إلى الغرب جيوشًا، وشاد مدينة القيروان، وأقام حولها حصونًا ومعاقل، وجعل فيها حامية، وفي سنة ٥٣ﻫ في إمارته نزلت الروم البرلس، وقُتل يومئذ وردان مولى عمرو بن العاص في جمع من المسلمين، وأمر مسلمة بابتناء منارات المساجد، وهو أول من أحدث المنائر بالمساجد والجوامع، وفي سنة ٦٠ﻫ سافر مسلمة بن مخلد إلى الإسكندرية، واستخلف على مصر عابس بن سعيد، وفي هذه السنة توفي معاوية في دمشق في غرة رجب، وسنه ثمانٍ وسبعون سنة، ومدة خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام.

(٢) خلافة يزيد بن معاوية (من سنة ٦٠–٦٤ﻫ/٦٨١–٦٨٤م)

وفي يوم وفاة معاوية بويع ابنه يزيد، فأقر مسلمة بن مخلد على مصر، فكتب إليه بأخذ البيعة؛ فبايعه الجند إلا عبد الله بن عمرو بن العاص، فهددوه بالحريق فبايع، ولم يكن يزيد أهلًا للخلافة، ولولا قانون الوراثة الذي سنه أبوه ما بلغ عمره هذا المنصب؛ لأنه كان متبعًا هوى نفسه متغاضيًا عن واجباته. فحرك ذلك الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير على إقامة الحجة عليه، وكانا في المدينة، فبعث يزيد إلى حاكمها أن يقبض عليهما؛ ففرا منها، وسار الحسين إلى العراق؛ لأن أكثر شيعة أبيه هناك، وقد التف عليه حزب كبير من أهل الكوفة وغيرها، فأرسل يزيد إلى عبيد الله بن زياد عامله هناك بدفعه؛ فبعث إليه جندًا قتلوه أفظع قتلة، وأتوا برأسه إلى يزيد.

لكنه لم يكد يبلغ مناه بقتل الحسين حتى قام عبد الله بن الزبير في مكة فشدد عليه النكير وهو يطلب الخلافة لنفسه.

وكانت مصر في أثناء ذلك ساكنة آمنة، وفي ٢٥ رجب سنة ٦٢ﻫ توفي أميرها مسلمة بن مخلد بعد أن تولاها خمس عشرة سنة، وأربعة أشهر، فولي الخليفة مكانه سعيد بن يزيد الأزدي من أهل فلسطين، فدخل مصر في مستهل رمضان سنة ٦٢ﻫ فتلقاه عمر بن قحزم الخولاني، وقد شق عليه تولية من هو من غير بلاده عليه، فقال: «يغفر الله لأمير المؤمنين، أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك؛ يولي علينا أحدهم.» ثم جعل أهل مصر يعرضون عنه ويعارضونه في أحكامه، ولكنه كان حازمًا لم يثنه ذلك عن إقامة الحد، واتباع العدل؛ فسادت الراحة، واستتب النظام إلى آخر أيامه.

وما زالت الأحزاب في مكة والمدينة يشددون النكير على يزيد إلى أن جمعوا على خلعه رغم كثرة دعاة الأمويين، وأخرجوا من كان منهم في المدينة؛ فأنفذ يزيد ١٢ ألفًا من رجاله عليهم مسلمة بن عقبة المرسي لمحاصرة المدينة، وأمرهم أن لا يكفوا عنها إلا إذا أذعنت، فإذا مضت ثلاثة أيام ولم تفعل فليحرقوها، وهكذا حصل؛ فإنها أصبحت غنيمة للنار بعد الإفاضة في النهب والقتل والأسر، وكان ذلك في سنة ٦٣ﻫ.

وفي سنة ٦٣ﻫ بويع عبد الله بن الزبير على الخلافة في مكة بإجماع من كان فيها من أهلها، والمهاجرين إليها من المدينة والحجاز؛ فأرسل يزيد الحصين بن النمير إلى مكة فحاصرها، وقاتل أهلها، ورماها بالمنجنيق؛ فأحرق الكعبة. كل ذلك وابن الزبير فيها يدافع بالشيء الممكن إلى أن جاءه الخبر بوفاة يزيد؛ فقطع قول كل خطيب، وكانت وفاته في حوارين من أعمال حمص، في ٤ ربيع أول سنة ٦٤ﻫ بعد أن تولى الخلافة ثلاث سنين وتسعة أشهر إلا بضعة أيام، وسنه ٣٩ سنة.

(٣) خلافة معاوية بن يزيد ثم عبد الله بن الزبير ثم مروان بن الحكم (من سنة ٦٤–٦٥ﻫ/٦٨٤–٦٨٤م)

وفي يوم وفاة يزيد بويع ابنه معاوية وسنه عشرون سنة، ويدعوه بعضهم: معاوية الثاني؛ تمييزًا له من معاوية بن أبي سفيان جده، وبعد ٤٥ يومًا من مبايعته توفي ولا ولد له.

وفي ٩ رجب من تلك السنة هتف أهل الحجاز بمبايعة عبد الله بن الزبير بالإجماع، ويقال إن معاوية بن يزيد تنازل له عن الخلافة من يوم بايعوه؛ لما رأى من كثرة أحزابه، وعجزه عن مناهضته، فزهد في الدنيا مع صغر سنه، وطلب أن يكتب على قبره: «الدنيا غرور.»

وكان عبد الله بن الزبير رجلًا مؤدبًا فطنًا، جمع بين شرف النسب وعلو الهمة والإقدام، حضر عدة وقائع وهو شاب، ولما افتتح عمرو بن العاص مصر كان عبد الله وأبوه الزبير وأخوه محمد من جيشه، ولما كُتبت معاهدة الصلح بين عمرو والأقباط وضع هؤلاء الثلاثة أختامهم عليها شهودًا، ولما أرسل الخليفة عثمان بن عفان عبد الله بن سعد أمير مصر في جيش عظيم لافتتاح سواحل الغرب كان عبد الله بن الزبير معه، ومن أخلاقه: أنه كان مثابرًا في أعماله، ثابتًا في مقاصده، فلم ينفك منذ اختلاس معاوية بن أبي سفيان الخلافة من الخلفاء الراشدين وهو في سعي دائم عليه، ثم على ابنه يزيد، ثم على ابن ابنه معاوية الثاني؛ حتى ظفر بمرامه، ولما جاء الخبر بوفاة يزيد كان في مكة محاطًا بجيش من اليزيديين؛ فلما علموا بالخبر عادوا على أعقابهم إلى الشام، فاستولى عبد الله على المدينة والحجاز واليمن، وبايعه من فيها، ثم شرع في ترميم الكعبة فهدمها حتى ألحقها بالأرض، وكانت قد مالت حيطانها من حجارة المنجنيق، وجعل الحجر الأسود عندها، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، وضرب عليها السور، وأدخل فيها الحجر.

أما مصر فكان عليها سعيد الأزدي — كما مر — وكان عبد الله بن الزبير على بينة من أمر مصر وأهميتها؛ فأنفذ إليها عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم، وأوصاه أن يدعو الناس إلى مبايعته، غير أن سعيدًا الأزدي كان لا يزال متشيعًا للأمويين، فلم يقبل على دعوة عبد الله من المصريين إلا بعضهم.

ولم ترسخ قدم عبد الله بن الزبير في الخلافة إلا بعد وفاة معاوية بن يزيد؛ إذ رأى الكوفة والبصرة والموصل والعراق وقسمًا من مصر يدعو باسمه، فلم يعد في خشية من شيء؛ فصرح بخلافته. ثم هم بإخضاع مصر فعقد على إمارتها لعبد الرحمن بن عتبة الذي كان أرسله إليها وكيلًا؛ فوصلها في شعبان سنة ٦٤ﻫ، وأخرج من كان فيها من دعاة الأمويين، وفيهم سعد الأزدي؛ فبايعه الناس، وفي قلوب بعضهم غلٌّ.

أما أهل الشام: فلما علموا بوفاة معاوية بن يزيد بايعوا مروان بن الحكم من بني أمية، فعظم ذلك على عبد الله بن الزبير، وقام لنصرته الضحاك بن قيس في جيش من رجاله، فساروا إلى قرب دمشق، فاتصل خبرهم بمروان، فسار من الجابية لملاقاتهم؛ فالتقى الجيشان في مرج راهط، فحصلت بينهما وقائع كبيرة شفت عن انقلاب جيش عبد الله.

وكان مروان قد أنفذ ابنه عبد العزيز في جيش من أهل الشام لفتح مصر، أما بعد ظفره بجيش ابن الزبير في مرج راهط؛ فاشتدت عزيمته، وحمل بكل جيشه على مصر. فلما علم أميرها عبد الرحمن بن عتبة بذلك أخذ في الدفاع، فحفر حول الفسطاط خندقًا عميقًا لا يزال أثره باقيًا في القرافة، فنزل مروان قرب المطرية، ومعه عمرو بن سعد؛ فخرج عبد الرحمن إليه، واقتتلا شديدًا مدة يومين، ولم يظفر أحدهما بالآخر، وبينما كان الجيشان في شغل بين هجوم ودفاع سار عمرو بن سعد في نخبة من رجال مروان قاصدًا الفسطاط فدخلها، فلما علم عبد الرحمن بذلك لم يرَ بُدًّا من المصالحة فتصالحا، ودخل مروان مصر في ١٠ جمادى الأولى سنة ٦٥ﻫ، فكانت مدة إمارة ابن جحدم تسعة أشهر، وفي هذا اليوم توفي عبد الله بن عمرو بن العاص فاتح مصر، فلم يستطع القوم الخروج بجنازته إلى المدافن لشغب الجند على مروان، فدفنوه في بيته قرب جامع عمرو. أما مروان فلم يكن واثقًا بالمصريين وإخلاصهم، وخاف أن يستغيبوه ويعقدوا لعبد الله بن الزبير؛ فولى عليهم ابنه عبد العزيز.

وفي الحال وضع مروان يده على جميع خزائن مصر وأبطل العطاوات، فبايعه جميع الناس إلا جماعة من قبيلة المغافر، قالوا: لا نخلع بيعة ابن الزبير؛ فقطع أعناقهم وعنق ابن همام رئيس قبيلة لخم، وكان من قتلة عثمان بن عفان؛ فخافت الناس، وأجمعوا على مبايعته.

فأقام مروان في مصر شهرين، ثم عهد بمهامها إلى ابنه عبد العزيز، وهمَّ بالرحيل، فقال له ابنه: «يا أمير المؤمنين، كيف المقام في بلدة ليس بها أحد من بني أبي؟» قال له مروان: «يا بني، عُمَّهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقًا تصفُ لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره يكن لك عينًا على غيره وينقدْ قومه إليك، وقد جعلت معك أخاك بشرًا مؤنسًا، وجعلت لك موسى بن نصير وزيرًا ومشيرًا، وما عليك — يا بني — أن تكون أميرًا بأقصى الأرض. أليس ذلك أحسن من إغلاق بابك، وخمولك في منزلك؟»

ثم أوصاه عند خروجه من مصر إلى الشام قائلًا: «أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأوصيك أن لا تجعل لداعي الله عليك سبيلًا، فإن المؤذن يدعو إلى فريضة افترضها الله؛ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، وأوصيك أن لا تعد الناس موعدًا إلا أنفذته لهم ولو حملته على الأسنة، وأوصيك أن لا تعجل في شيء من الحكم حتى تستشير؛ فإن الله لو أغنى أحدًا عن ذلك لأغنى نبيه محمدًا عن ذلك بالوحي الذي يأتيه. قال الله عز وجل: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» وخرج مروان من مصر لهلال رجب سنة ٥٥ﻫ والحرب لا تزال سجالًا بين دعاة مروان ودعاة عبد الله بن الزبير.

(٤) خلافة عبد الملك بن مروان (من سنة ٦٥–٨٦ﻫ/٦٨٤–٧٠٥م)

وفي غرة رمضان من تلك السنة توفي مروان، وله من العمر ٦٣ سنة؛ فبويع ابنه عبد الملك، فأقر أخاه عبد العزيز على مصر، وأخذ في متابعة مشروع أبيه؛ فأنفذ الأجناد إلى جهات العراق والبصرة والجزيرة سعيًا في تعميم خلافته، وفي آخر الأمر أرسل إليه الحجاج بن يوسف؛ فحاصر عبد الله بن الزبير في مكة مدة سبعة أشهر، وفي نهاية سنة ٧١ﻫ قتل عبد الله بن الزبير؛ فخلا الجو لعبد الملك، وكانت وفاته فصلًا نهائيًّا لذلك الخصام بعد أن استمر عشر سنين متوالية، ومملكة الإسلام تتنازعها خلافتان؛ الواحدة في دمشق، والأخرى في مكة.

وفي سنة ٦٩ﻫ أمر عبد العزيز بن مروان ببناء قنطرة الخليج الكبير في طرف الفسطاط بالحمراء القصوى، وبنى مقياسًا للنيل في حلوان، وهو أول مقياسٍ بناه المسلمون في مصر، ويقول بعضهم: إن عمرو بن العاص بنى مقياسًا قبل ذلك، ولا دليل على صحة هذا القول.

وفي سنة ٧٠ﻫ وقع الطاعون في مصر؛ فخرج عبد العزيز منها، ونزل حلوان؛ فاتخذها دارًا، وجعل فيها الأعوان، وبنى فيها الدور والمساجد، وعمرها أحسن عمارة، وغرس نخلها وكَرْمها.

وفي سنة ٧٧ هدم جامع الفسطاط كله وزاد فيه، وفي أيام عبد الملك ضُربت الدنانير المنقوشة؛ الفضية، والذهبية.

وفي آخر أيام هذا الخليفة تم بناء القصر الجميل المدعو الدار المذهبة في شارع سوق الحمام.

وكانت طائفة الكهنة الأقباط معفاة من الضرائب والعوائد، فضرب على الشخص الواحد منهم دينارًا، وعلى البطاركة ثلاثة آلاف دينار سنوية.

وسنة ٨٦ﻫ توفي عبد العزيز بن مروان في الفسطاط في ١٣ جمادى الأولى بعد أن حكم فيها عشرين سنة وعشرة أشهر و١٣ يومًا، وكان جوادًا حليمًا حازمًا بشوشًا، فتولى بعده عبد الله بن عبد الملك بن مروان من قبل أبيه على صلاتها وسنه ٢٩ سنة، وطلب إليه أبوه أن يقتفي آثار عمه عبد العزيز بالفطنة والدراية.

(٥) خلافة الوليد بن عبد الملك (من ٨٦–٩٦ﻫ/٧٠٥–٧١٤م)

وفي هذه السنة توفي عبد الملك بن مروان، وبويع ابنه الوليد بن عبد الملك الملقب بأبي العباس، فأقرَّ أخاه عبد الله على مصر، وفي أيام الأمير عبد الله جُعلت الكتابة في دواوين مصر باللغة العربية، وكانت لا تزال إلى ذلك الحين بالقبطية، يتولى أمرها أنتناش، فعزله، وولى مكانه ابن يربوع الفزاري من أهل حمص، وغلت الأسعار في إمارته فتشاءم الناس به، وقالوا: إنه كان يقبل الرشوة، ثم وفد على أخيه في صفر سنة ٨٨ﻫ واستخلف عبد الرحمن بن عمر بن قحزم الخولاني، وأهل مصر في شدة عظيمة، وضيق عيش مخيف.

أما الوليد بن عبد الملك: فقد حكم في الإسلام حكمًا حقًّا، ووسع نطاق المملكة الإسلامية، وحارب حروبًا كثيرة عاد منها ظافرًا. منها الحروب الهائلة مع أمراء تركستان والفرس والهند وملك القسطنطينية، وقد فتح طوانة من بلاد الروم، والأندلس، وسمرقند كل هذه الفتوحات والغزوات وغيرها كانت على يد هذا الخليفة الباسل.

وفي ١٣ ربيع أول سنة ٩٠ﻫ أقيم على مصر قُرَّة بن شريك من أهل قنسرين بدلًا من عبد الله بن عبد الملك، وأحيا قرة بن شريك بركة الحبش وغرس فيها القصب، فقيل لها: إصطبل قرة وإصطبل القماش.

وقد تشكى القبط من جوره، فهم يقولون: إنه كان يحتقر اعتقاداتهم، ويدخل أحيانًا إلى كنائسهم ومعه رجال من حاشيته ويوقفهم عن صلاتهم.

وفي سنة ٩٣ﻫ أعاد قرة بن شريك — بأمر الوليد بن عبد الملك — بناء جامع عمرو، وفي سنة ٩٦ﻫ توفي قرة في الفسطاط؛ فأقيم مقامه عبد الملك بن رفاعة بن خالد، وكان قرة سيئ التدبير خبيثًا ظالمًا غشومًا فاسقًا، وبعد ثلاثة أشهر من إمارته توفي الخليفة الوليد في دمشق في ١٥ جمادى الثانية، بعد أن حكم ٩ سنين ونصف، وسنه ٤٨ سنة، وقد بنى مقياسًا للنيل في جزيرة الروضة، يُقال: إن النيل جرفه، وقال آخرون: إن المأمون أمر بهدمه، وهذه صورة النقود التي ضربت في أيام الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة ٩٣ﻫ.

fig026
شكل ٤-١: نقود الوليد بن عبد الملك.

(٦) خلافة سليمان بن عبد الملك (من سنة ٩٦–٩٩ﻫ/٧١٤–٧١٧م)

وبعد وفاة الوليد بويع أخوه سليمان بن عبد الملك الملقب بأبي أيوب، فسار على خطوات أخيه في توسيع نطاق مملكته؛ ففي أول سنة من خلافته فتح طبرستان وجورجيا، وأرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك فحاصر القسطنطينية حصارًا شديدًا.

وعند أول خلافته أقرَّ عبد الملك بن رفاعة على مصر، وجعل على خراجها أسامة بن يزيد المشهور بالظلم، ولقبه بعامل الخراج، وقد اتفق جمهور المؤرخين من مسلمين وأقباط على استبداد هذا الرجل وعسفه، ومما جعلهم يزيدون تظلمًا منه: أنه لم يكتف بإعلان الرهبان باستمرار الضريبة عليهم على حين أنهم كانوا ينتظرون رفعها عنهم، لكنه أمر أن يلبس كل منهم في كل سنة خاتمًا من حديد في إصبعه عليه اسمه، يأخذه من جابي الخراج إشارة إلى خلو طرفه، ومن يخالف ذلك تقطع يده، فإذا أصر على المخالفة يقتل؛ فكانت العساكر تطوف الأديرة والمعابد في هذا السبيل، فكم قتلوا من نفس زكية، وربما كانوا يرون قتلها واجبًا، وكان أسامة مع ذلك يظهر رغبة شديدة في إصلاح شئون البلاد، وزيادة محصولاتها؛ فكان من وقت إلى آخر يتفقد الأرض وريها، وينتبه خصوصًا لمقاييس النيل التي يعرف منها مقدار المحصولات. فعلم سنة ٩٦ﻫ بسقوط مقياس حلوان، فأعلم الخليفة بذلك؛ فأمر بإغفاله، وإقامة مقياس آخر في جنوبي الجزيرة بين الفسطاط والجيزة، وهو المكان المعروف بالروضة.

ومن ضرائب أسامة ضريبة فادحة مقدارها عشرة دنانير، تطلب من المار في النيل صاعدًا أو نازلًا، ولا يمر إلا من كان في يده جواز مؤذن له بذلك بعد أداء المبلغ المفروض، ومما يحكى أن أرملة سافرت في النيل مع ابن لها بعد دفع المفرض، ونيل تذكرة المرور بكل مشقة؛ نظرًا لضيق ذات يدها، فحدث وهي في أثناء المسير أن ابنها هذا تطاول إلى النيل مستقيًا فاختطفه تمساح وابتلعه وثيابه، والناس ينظرون، وكانت تذكرة المرور في جيبه، ولما وصلت المكان المقصود اعترضها صاحب التذاكر، وأبى إلا أن تبرز تذكرتها، فأخبرته ما كان من أمر ضياع ابنها على مشهد من الناس؛ فأغلق أذنيه عن صراخها، ولم يفرج عنها حتى باعت ما في يديها، ودفعت الفلس الأخير.

fig027
شكل ٤-٢: صورة رسالة عربية على البابيروس في أيام بني أمية.

كل هذه الإجراءات وغيرها جعلت المصريين في قنوط فثاروا على أسامة يطلبون الانتقام، وبينما هم في ذلك جاءهم النبأ بوفاة الخليفة سليمان بن عبد الملك؛ فسكن جأشهم على أمل أن ينالوا ما يريدون ممن يخلفه، وكانت وفاته في ٢١ صفر سنة ٩٩ﻫ وهو يبني مدينة الرملة في فلسطين بعد أن حكم سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام وسنه ٤٥ سنة، فبويع ابن عمه عمر بن عبد العزيز الملقب بأبي حفص؛ لأنه لم يكن من إخوته وولده من يصلح للخلافة.

(٧) خلافة عمر بن عبد العزيز (من ٩٩–١٠١ﻫ/٧١٧–٧٢٠م)

وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز محبًّا للعدالة، فرفع إليه المصريون شكواهم على أسامة؛ فأمر بعزله، وتولية أيوب بن شرحبيل، وكان هذا ورعًا منزهًا مستقيمًا عادلًا؛ فزاد في الإعطائيات، وعطل الحانات؛ فأنسى المصريين ما كان من استبداد أسامة وغلاظته، ثم بعث إليه الخليفة بالقبض على أسامة، وتكبيله بالحديد، وتسمير يديه ورجليه بأطواق من الخشب، وإرساله إليه؛ ففعل، فمات أسامة في الطريق.

وكان على الجيش في مصر حيان بن شريح، فبلغ عمر بن عبد العزيز أنه يطالب المسلمين بالجزية؛ فعظم عليه ذلك، وكتب إليه: «أرى يا حيان، أن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، فإن الله تعالى قال: فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ

فأجابه حيان: «أما بعد، فإن الإسلام قد أضرَّ بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينار تممت بها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل.» فكتب إليه عمر: «أما بعد، فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر، وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطًا؛ فضع الجزية عمن أسلم قبح الله رأيك، فإن الله بعث محمدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يده.»

وفي ٢٥ رجب سنة ١٠١ﻫ توفي الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد أن حكم سنتين وخمسة أشهر و١٤ يومًا، فرجعت الخلافة لأبناء عبد الملك حسب اشتراط سليمان قبل موته؛ فبويع يزيد بن عبد الملك.

(٨) خلافة يزيد بن عبد الملك (من ١٠١–١٠٥ﻫ/٧٢٠–٧٢٤م)

فأقر يزيد أيوب بن شرحبيل على مصر، ثم أنفذ إليه أن يسلم الحكم لبشر بن صفوان الكلبي، وبعد يسير أمره أن يتوجه إلى إفريقية، وأقام مكانه حنظلة بن صفوان، وفي أيامه أمر الخليفة بتكسير ما بقي من التماثيل والأصنام في مصر؛ فكسَّر معظمها، وفي سنة ١٠٤ﻫ عزل حنظلة، وتولى الإمارة محمد بن عبد الملك أخو الخليفة.

وفي ٢٥ شعبان سنة ١٠٥ﻫ توفي الخليفة يزيد بن عبد الملك في حران؛ فبويع أخوه هشام، ولم يرَ المصريون في مدة خلافة يزيد يوم نعيم.

(٩) خلافة هشام بن عبد الملك (من ١٠٥–١٢٥ﻫ/٧٢٤–٧٤٣م)

فلما بويع هشام أمر بصرف محمد بن عبد الملك عن مصر، وأقام عليها الحر بن يوسف، وفي إمارته كان أول انتفاض القبط سنة ١٠٧ﻫ ثم وفد إلى الخليفة، واستعفى من الإمارة في سنة ١٠٨ﻫ فولى مكانه حفص بن الوليد، وفي سنة ١٠٩ﻫ استبدل حفص بعبد الملك بن رفاعة، وفي تلك السنة توفي ابن رفاعة؛ فتولى مكانه بأمر أمير المؤمنين أخوه الوليد بن رفاعة.

وفي ولايته نقلت قبيلة قيس إلى مصر، ولم يكن فيها أحد منهم؛ فأنزلوا في الحوف الشرقي (الشرقية) وفي أيامه خرج وهيب اليحصبي شاردًا في سنة ١١٧ﻫ من أجل أن الوليد أذن للنصارى في ابتناء كنيسة يومنا بالحمراء.

وفي هذه السنة توفيت السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وتوفي الوليد في الفسطاط وهو والٍ أول جمادى الآخرة سنة ١١٧ﻫ بعد أن حكم تسع سنين. فتولى مكانه عبد الرحمن بن خالد الفهمي، وبعد سنة توفي عبد الرحمن، وخلفه حنظلة بن صفوان؛ فحكم في مصر هذه المرة ست سنوات، وكان عاتيًا غشومًا رغم رغبة الخليفة إليه أن يعامل الناس بالرفق والمعروف، ولم يكتف بالضرائب المفروضة على الإنسان، ففرضها على الحيوانات، وكان يختم الوصايا المعطاة منه بختم عليه صورة أسد، وكان يقطع يد كل من لم يكن ناقلًا هذا الرسم من المسيحيين.

فكاتب المصريون الخليفة بشأن ذلك؛ فأنفذ إليه في سنة ١٢٤ﻫ يعزله عن مصر، ويأمره أن يتوجه إلى أفريقية؛ ففعل، فولى مكانه حفص بن الوليد الحضرمي، وهذه هي المرة الثانية لإمارته.

وفي ٦ ربيع الآخر سنة ١٢٥ﻫ توفي الخليفة هشام بن عبد الملك وسنه ٥٦ سنة، ومدة حكمه ١٩ سنة و٧ أشهر و١١ يومًا، ومن أعماله التي تستحق الذكر: أنه تغلب على الروم.

وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك سنة ١٠٧ﻫ كما ترى في شكل ٤-٣.
fig8
شكل ٤-٣: نقود الخليفة هشام.

(١٠) خلافة الوليد بن يزيد (من ١٢٥–١٢٦ﻫ/٧٤٣–٧٤٤م)

ولما توفي هشام بويع الوليد بن يزيد الملقب بأبي العباس وأمر بصرف حفص عن مصر مع ما عرف به من النزاهة والاستقامة وثقة الأهالي فيه، وأقام عوضًا عنه عيسى بن أبي عطاء على الخراج فقط، ولم يكن عيسى من السياسة على شيء؛ فأثار بسوء تصرفه خواطر المصريين ثانية، والخليفة لم يكن أحسن سياسة منه؛ لأنه جمع جميع الصفات التي تحط من قدر الملوك، فأثار عليه رعاياه ولا سيما أهل الشام، فشقوا عصا الطاعة، وطلبوا أن يُبدَّل بيزيد بن الوليد بن عبد الملك، وطلبوا من هذا إذا كان يقبل ذلك، فأجاب بالإيجاب، وجعل لمن يأتيه برأس الوليد بن يزيد مائة ألف دينار، ثم قتل الوليد وسنه ٤٢ سنة، ولم يحكم إلا سنة واحدة وشهرين و٢٠ يومًا.

(١١) خلافة يزيد بن الوليد ثم إبراهيم بن الوليد (من ١٢٦–١٢٧ﻫ أو من ٧٤٤–٧٤٥م)

فبويع يزيد بن الوليد الملقب بأبي خالد في ١٨ جمادى الآخرة من سنة ١٢٦ﻫ إلا أن تلك المبايعة لم تكن كافية لتسكين خواطر الناس؛ لأن الثورة كانت قد امتدت إلى أطراف العالم الإسلامي حتى هددت المملكة بالسقوط. فإن أهل حمص لم يبايعوا يزيد، بل قاموا يطالبون بدم الوليد، وسليمان بن هشام نجا من سجنه في عمان، وجمع إليه أجنادًا، وسار إلى دمشق يطالب بحقوق الخلافة، وأهل فلسطين ثاروا على أميرهم وقتلوه، ومروان بن محمد الحمار جرد من أرمينيا مطالبًا بدم الوليد، وكان جيشه غفيرًا؛ فلما بلغ حران خافه يزيد فكاتبه وعاهده على أن يخلي له ما بين النهرين وأرمينيا وأذربيجان حقنًا لدماء العباد، وبعد ذلك بيسير توفي يزيد بالطاعون وسنه ٤٠ سنة ولم يحكم إلا خمسة أشهر وعشرة أيام.

وفي يوم وفاة يزيد بويع إبراهيم بن الوليد أخوه من أبيه، ولم تكن تلك المبايعة مفرحة له؛ لأنه جاء الخلافة وهي في معظم الاضطراب. فلما علم مروان بن محمد بوفاة يزيد نكث المعاهدة، وجرد جيشًا من ٨٠ ألف مقاتل إلى قنسرين ينكر المبايعة على إبراهيم، فبعث إبراهيم مائة ألف مقاتل تحت قيادة سليمان بن هشام لملاقاته في حمص، وكان مروان ينتحل سببًا يسوغ له الهجوم على دمشق؛ فادعى أنه جاء لإنقاذ الحَكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد من سجن دمشق.

وقبل مباشرة الحرب كتب مروان إلى سليمان بن هشام في حمص يسأله إذا كان يوافقه على خلع الخليفة إبراهيم وتولية أحد أبناء الخليفة السابق؛ فأبى، فحاربه مدة ففر سليمان ورجاله إلى دمشق. فلما دخلها تعاقد مع الخليفة إبراهيم، وجعلا أيديهما على الخزائن، ثم أخرجا ابني الوليد من السجن وقطعا عنقيهما؛ لأنهما منشأ تلك المتاعب لعلهما يتخلصان من المقاومين، فجاء الأمر بالعكس؛ إذ عظمت دعوى مروان فادعى أن الخليفة الذي يقتل أبناء أخيه بغير الحق لا يصلح للخلافة، وطلب خلعه، وما زال حتى دخل دمشق في الشهر الثاني من سنة ١٢٧ﻫ ووضع يده على الأحكام، ودعا إلى مبايعته؛ فبايعه الجميع، حتى الخليفة إبراهيم؛ لأنه اشترى حياته بهذه المبايعة، وكانت مدة خلافة إبراهيم ٦٩ يومًا، وعاش بعد الخلع ست سنوات.

(١٢) خلافة مروان بن محمد (من ١٢٧–١٣٢ﻫ/٧٤٤–٧٥٠م)

وكان لمروان بن محمد ثلاثة ألقاب؛ الأول: أبو عبد الملك، لُقب به يوم ولادة ابنه البكر، والثاني: الجادي نسبة إلى عمه جاد بن درهم، والثالث: الحمار، وكان مشهورًا به أكثر مما بغيره، وأصل تلقيبه به: أنه كان ثابتًا في الحروب؛ فلقبوه بحمار الوحش، ثم أهملت الكلمة الثانية فتنوسيت، وبقيت الأولى وحدها.

فلما تمت له المبايعة سنة ١٢٧ﻫ أبدل حفص بن الوليد أمير مصر بحسان بن عتاهية النجيبي، فشق ذلك على المصريين؛ فوثبوا عليه، وقالوا: لا نرضى إلا بحفض، وركب جماعة منهم إلى المسجد ودعوا إلى خلع مروان، وحبسوا حسان في داره، وقالوا: اخرج عنا فإنك لا تقيم معنا ببلد، فأخرجوه بعد ١٧ يومًا من توليته، وأخرجوا معه عيسى بن أبي عطاء صاحب الخراج؛ فولى مروان على مصر الحفص بن الوليد، وهي المرة الثالثة لولايته عليها، وفي سنة ١٢٨ﻫ صرفه مروان، وولى مكانه الحوثرة بن سهل بن عجلان، والمصريون غير راضين بذلك، فسار إليها في آلاف بأول المحرم، وقد اجتمع الجند على منعه، فأبى عليهم حفص، فخافوا حوثرة، وسألوه الأمان؛ فأمنهم، ونزل في ظاهر الفسطاط.

وبعد سنة ونصف (في ٢٤ رجب سنة ١٣١) عزل حوثرة، وولى مكانه المغيرة بن عبيد الله الفزاري، وبعد يسير توفي المغيرة، وولي مكانه عبد الملك بن موسى، وكان واليًا على الخراج فلما تولى الإمارة أمر باتخاذ المنابر في الكور، ولم تكن قبله وكان ولاة الكور يخطبون على العصي إلى جانب القبلة.

والمغيرة آخر من تولى مصر من قبل الدولة الأموية؛ لأنها كانت على شفا السقوط، وقد انتشر الفساد في أنحاء المملكة الإسلامية؛ فثارت حمص على مروان، وكانت أول من جاهر بدعوته — كما علمت — فسامها الرضوخ فأبت، ومثل ذلك فعلت دمشق وكانت أول من دعا إلى بيعته، وبويع سليمان بن هشام على البصرة، ثم تقدم بجيشه إلى قنسرين؛ فحاربه مروان، وقتل من رجاله ثلاثين ألفًا؛ فانهزم سليمان إلى حمص، وحاصر فيها، فجهز إليهم مروان وحاصره هناك.

وكثر منازعو مروان على الخلافة، وفي مقدمتهم أبو العباس الهاشمي أول خلفاء الدولة العباسية، وكان قد بايعهُ الفرس في أقصى الشرق (خراسان) بمساعدة أبي مسلم الخراساني، وكان قد أرسله إليها داعيًا وهو لم يبلغ التاسعة عشرة من العمر، لكنه أظهر همة ودراية لا تتفقان إلا بالرجال العظام؛ فتملك قلوب الناس، وجمع كلمتهم إليه، وحارب جيوش مروان في خراسان فظفر بها، فتقدم إلى العراق حتى أتى الكوفة فافتتحها، وخطب فيها لأبي العباس. أما مروان فلم يظفر بحمص، وسار إلى الموصل فاضطهده أهلها فقنط من الفوز؛ فعاد على أعقابه إلى سوريا، فرآها مجمعة على عصيانه، فلم ير له ملجأ إلا مصر؛ لأنها كانت لا تزال إلى ذلك الحين على بيعته.

أما أبو العباس فلما استتب له الأمر في الكوفة جعل على البلاد التي صارت تحت حكمه ولاة اختارهم من ذويه، ثم بايعه أهل الشام ومن والاهم، وهكذا كانت نشأة الدولة العباسية التي أقيمت على أنقاض الدولة الأموية.

ثم رأى أبو العباس — تثبيتًا لقدمه في الخلافة — أن يقتل كل من بقي من أبناء الدولة الأموية ودعاتها ولو بايعوه، فأمر بالقبض عليهم، وهم ثمانون نفسًا بين نساء ورجال وأولاد، فأمر بذبحهم معًا بغير شفقة؛ فلُقب من ذلك الحين بالسفاح، ولم ينجُ من هذه المذبحة إلا شاب يقال له: عبد الرحمن حفيد الخليفة هشام فرَّ إلى الأندلس (إسبانيا) وأسس فيها دولة أخرى أموية.

أما مروان فجاء مصر على أن يستبقيها له؛ فأرسل عبد الله عم أبي العباس أخاه صالح بن علي يقتفي أثره، وأمره أن يقبض عليه بأي وسيلة كانت، فسار صالح في جيش عظيم، ومعه أبو عون عبد الملك بن يزيد، ونزل على جبل يشكر حيث جامع ابن طولون اليوم، وكان قسمًا من الفسطاط في أول عهدها، ثم صار خرابًا. فأمر أبو عون أصحابه بالبناء فيه؛ فابتنوا وقاموا فيه معسكرهم، ودعوه بالعسكر، واتصل بناؤه ببناء الفسطاط، وبُنيت فيه بعد ذلك دار الإمارة، وجامع عرف بجامع العسكر، ثم عرف بجامع ساحل الغلة، وصار هناك مدينة ذات أسواق ودور عظيمة، وصار أمراء مصر ينزلون فيه من بعد أبي عون إلى أن بنى أحمد بن طولون القطائع، وأقام فيها قصره.

ثم أخذ صالح بن علي في مطاردة مروان، فأدركه في قرية بوصير من الجيزة، وقتله في ٢٧ جمادى الآخرة سنة ١٣٢ﻫ وسنه سبعون سنة، وقال آخرون ٥٩، ونقل رأسه إلى أبي العباس السفاح، وكانت مدة خلافة مروان خمس سنوات وشهرًا واحدًا، وهو آخر خليفة من الدولة الأموية بالشام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤