فيما بعد

هذا الاستكشاف للإعداد والانتحال الأدبي لجأ في نقاط كثيرة لأشكال فنية مصاحبة، مثل السينما والموسيقى، وللمجال العلمي، وخاصة لنظريات الوراثة الجينية والإعداد البيئي، التي بدأت مع جورج ماندل، وتشارلز داروين في القرن التاسع عشر ووصلت طلائعها إلى القرن الحادي والعشرين بمناظرات مُستمِرَّة عن الدنا والتعديل الوراثي (تودج Tudge، ٢٠٠٢م). يَتحدَّث العلم المعاصر عن التآلف synthesis الحديث بين نظريات ماندل في الوراثة، ومفاهيم داروين عن الاختلاف والتنوع في الداروينية الجديدة وكان لهذا التآلف في الأفكار نتائج حقيقية في مجال البيولوجيا النووية وأبحاث الدنا.١ بينما نعترف بأن هذا الكتاب عن عمليات الإعداد والانتحال في الأدب لا يمكن إلا أن يعرض إلا هذا التفكير المُعقَّد على مستوى المجاز والإيحاء، بصرف النظر عن أن تآلف ماندل وداروين، إلا أنه يقدم طريقة مفيدة للتفكير في الاتحاد السعيد بين التأثير والإبداع، بين التقاليد والموهبة الفردية، وتأثير الآباء على الذرية، في الأدب المنتحِل، وربما في الأدب كله. تأمل داروين في سيرته الذاتية «عمليات الإعداد الجميلة اللانهائية التي نلتقي بها يوميًّا» (عن بير Beer، ١٩٨٣م، ٣٩). لا يمكن إلا أن نأمل أن تكون الصورة الجمالية المرسومة هنا بالقدر نفسه من الجمال والثراء والإمكانية.
هذه «خلاصة» في «فيما بعد Afterward»، كما فضلت أن أسميها، برغم أنها تعي بعمق أن مناقشتها لا يمكن أن تسير باتجاه غاية أو خلاصة، لكنها فقط تلميح واضح باتجاه الاحتمالات المستقبلية وعمليات الإعداد المستمرة. باختيار تعبير «فيما بعد» أدرك كم من عمليات انتحال وضعت نفسها في علاقة مع أعمال سابقة بهذا المفهوم الخاص بالمجيء «بعد» شيء آخر أو خلفه أو في ظله أو في أعقابه. نشر جون جروس حديثًا أنثولوجيا لانتحال أعمال شكسبير بعنوان «بعد شكسبير After Shakespeare» (٢٠٠٠م)؛ عملية النقل إلى الإنجليزية والتحديث التي قام بها باتريك ماربر للتراجيديا الطبيعية المؤثرة «مس جولي Miss Julie» التي كتبها سترندبرج في ١٨٨٨م، ووقع عليها الاختيار في ١٩٤٥م في أعقاب الانتصار الساحق لحزب العمال في أعقاب الحرب، وكان عنوانها «بعد مس جولي» (١٩٩٦م)؛ المسرحية الحديثة لبولي تيل لفرقة مسرح التجربة المشتركة عن حياة الروائية جان رايس، ملمحة إلى عملها الانتحالي المبشر رواية «بحر سرجاسو الواسع» ومراجعتها لرواية «جين إير» في عنوانها، «بعد مسز روشستر After Mrs. Rochester» (٢٠٠٣م).٢ وقامت تيل نفسها من قبل بإعداد «جين إير» للمسرح. قد يبدو أن كلمة «بعد» تصادق على فكرة التأجيل belatedness، الفكرة الأثيرة فيما بعد الحداثة. يمكن أن تكون «بعد» نعتًا زمنيًّا صرفًا؛ يأتي العمل التالي في تاريخ صدوره بالتتابع الزمني بعد بالضرورة. لكن «بعد» يمكن أن تعني أيضًا شيئًا تلميحيًّا أو مرجعيًّا كما في الأمثلة السابقة لجروس وماربر وتيل: تقليدًا لعمل، بأسلوب عمل، تلميحًا إلى عمل. لكن ألا يمكننا أيضًا أن نعزف على الكلمة أكثر ونقترح أن نذهب «بعد» شيء لنطارده أو نصطاده؟ دافع الكثير من عمليات الانتحال التي تَمَّت دراستها هنا أن نذهب «بعد» أعمال تراثية مُعيَّنة ونتساءل عن أساسها في السياقات الثقافية البطريريكية أو الإمبريالية، عملية مهمة عن التساؤل، وعن التقليد أيضًا في صيغه وتلميحاته. إن القوى النظرية والأيديولوجية التي يمكن رؤيتها وهي تُؤثِّر في الكثير من النصوص التي نركز عليها لا يمكن التقليل من قيمتها في هذا الشأن. ما بعد الكولونيالية، وما بعد الأنثوية ودراسات النوع، ونظرية الشذوذ، وما بعد الحداثة أثَّرت كلها تأثيرات مهمة على هذه النصوص، غالبًا بشكل مساوٍ للنصوص أو الأحداث التراثية التي تشير إليها صراحة وأحيانًا بشكل أكبر.
إلا أن كل الأعمال الإبداعية في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين قد تأتي بالضرورة في وصف ما بعد الحداثة، «فيما بعد» لأنه لا شيء جديد، لا شيء أصلي، سواء كان في مجال الفن أو الموسيقى أو السينما أو الأدب، يمكن أن يأتي. نأتي مُتأخِّرين جدًّا بحيث لا يمكن أن نفعل شيئًا فريدًا. تصبح «بعد» في هذا السياق دالًّا لقيمة مختزلة أو تافهة: «ذلك أفضل كتاب في الموضوع بعد كتابي». أولئك الذين يُهاجِمون الخصائص المرجعية لموسيقى الهيب هوب أو المَزج الرقمي digital sampling، يُخفون أغنية الحسرة في جداول موسيقية شعبية، أو ينتقدون عمليات التَّناص المتأصلة في الأدب على أساس أنها تخنق الفردية، يجدون أنها تُفسِّر ما بعد الحداثة. أولئك الذين هاجموا رواية «النُّظم الأخيرة» لجراهام سويفت، مُوحِين بأنها لا تستحق جوائز أدبية؛ لأنها كانت تلميحية بطبيعتها؛ لأنها جاءت «بعد فوكنر»، وفي الحقيقة «بعد تشوسر»، و«بعد بويل وبريسبرجر» كما يوضح الفصل الثاني، كانوا يعربون عن آراء مُماثِلة.
إلا أن «بعد» لا تعني بالضرورة متأخرًا belated بمعنى سلبي صرف. يمكن أن يعني المجيء «بعد» وجود زوايا جديدة وطُرق جديدة في شيء، آراء جديدة عن المألوف، وتُحدِّد هذه الزوايا، والطُّرق، والآراء الجديدة احتمالات الرواية تمامًا. وهكذا نكون في حاجة إلى العثور على طريقة لمناقشة الإعداد والانتحال سوف تسجل التأثير؛ لكنها لن تفترض أنه خانق، لن ترى الاحتمالية وصفة يتحكم فيها ما يأتي قبل، تتحكم فيها الوراثة الأدبية والجينية. لفن الإعداد والانتحال تأثير قوي وأثر جوهري في حد ذاته. حديثًا كانت العمليات نفسها ومآزق فن الإعداد بمثابة المادة الخام لإنتاج فني مُبتَكر. السيناريو الميتاقصصي والميتاسينمائي metacinematic لتشارلي كوفمان عن «الإعداد» (إخراج سبايك جونز، ٢٠٠٢م) يتصارع صراحة، وبسخرية كئيبة، مع فشله المتكرر ككاتب سيناريو في إعداد فيلم بطريقة مُرْضية لعمل غير قصصي شهير لسوزان أورلين «اللص الأرجواني The Orchid Thief».٣ تستكشف حبكة كوفمان بنشاط قضايا التوليد والتعديل والتخيل، وهي قضايا تُشكِّل جزءًا حتميًّا من عملية الإعداد. لا يمكن إنجاز أي انتحال بدون التأثير على النص الذي ألهم الإعداد وتعديله بطريقة ما. من المؤثر جدًّا في الحقيقة أن بعض عمليات الانتحال أصبحت في كثير من الأحيان تعرِّف الآن خبراتنا أو مواجهاتنا مع أعمالها الفنية السابقة. تُقدَّم هذه الملاحظة غالبًا فيما يتعلق برواية جان رايس «بحر سرجاسو الواسع». يتناول قليل من القُرَّاء المُعاصِرين «جين إير» بدون وعي بانتحال رايس، أو على الأقل انتحال مهم وأنثوي وبعد كولونيالي وبعد حداثي، للشخصية المهمشة، شخصية «المجنونة في العلية». كما يلاحظ ورتون Worton، واستيل Still: «كل تقليد أدبي مكمل يسعى ليتمم الأصل ويكمله ويكون أحيانًا بالنسبة للقراء التالين بمثابة ذريعة pretext «للأصل» (١٩٩٠م، ٧). «المكمِّل» هنا مرة أخرى يقوم بوظيفته بالمعنى شبه الدريدي عن البديل الحقيقي أو الإحلال مكان الأصل (دريدا، ١٩٧٦م، ١٤١–١٥٧). تنقية الكثير من عمليات الانتحال التي درسناها هنا وتوسطها في أعمال الإعداد الأخرى برهان آخَر على شبكة التَّناص التي تُقاوِم مرة أخرى البنى الخطية السهلة للفهم المباشر «للتأثير» الذي يبدو أنه يفترض قيمة أكبر فيما يأتي أولًا.
يحد الفهم المحدود أو الضيق «لتأخير» أدب الإعداد من قدرة الانتحال على أن يكون قوة نَصِّيَّة في حد ذاته. ثمة مُقارَبة أكثر إيجابية يشير إليها هيليس ميلر في دراسته للنسخ المُتعدِّدة لأسطورة بيجماليون. يؤكد ميلر، معترفًا «بالتأخير المستمر» لهذه النسخ رغم ذلك، أنها «إيجابية ومثمرة وافتتاحية … إنها تدخل العالم الثقافي والتاريخي لتغيِّره وتجعله يسير إلى الأمام» (١٩٩٠م، ٢٤٣). ثمة مثال قوي على هذه الحركة الإيجابية إلى الأمام، البُعد الديناميكي للإعداد الذي تم الجدال بشأنه طوال هذه الدراسة، مجموعة الروايات الحديثة لفيليب بولمان للقراء الصغار، «مواده المعتمة His Dark Materials».٤ تعترف هذه الثلاثية بدينها للقصيدة الملحمية التي كتبها جون ميلتون في القرن السابع عشر «الفردوس المفقود» في عنوانها، وهو اقتباس مباشر من سرد ميلتون. تدين القصص العلمانية لبولمان عن العوالم الموازية، العفاريت، والغبار أيضًا، بالكثير لقارئ ميلتون والمُعلِّق عليه في القرن الثامن عشر، وليم بليك، الذي أعلن في مجموعته الشعرية «زواج الجنة والجحيم The Marriage of Heaven and Hell» أن ميلتون كان بدون أن يدري من حزب الشيطان (سكويرز Squires، ٢٠٠٢م). إلا أن البعض رغم ذلك يودون أن ينسبوا لأي من بليك أو بولمان حالة التأخير أو الوصف السلبي بالاشتقاق، لكن من الواضح أن الاثنين يأتيان، بتصميم وروية، «بعد ميلتون» في كتاباتهما.
عمل آخَر أتى حديثًا «بعد ميلتون»، لكنه يحدث العديد من تأثيرات التصفية الخاصة به، المتتالية الشعرية الرائعة لجيفري هِلْ «مشاهد من كاموس Scenes from Comus».٥ إنها، ظاهريًّا، تأمل معاصر في القناع المؤقت الذي قدمه ميلتون سنة ١٦٣٤م لتنصيب إريل برجوتر Earl of Bridgewater رئيس لوردات مجلس مارشيز («لم أمزق القصة» (٢٠٠٥م، ٢١)، يؤكد هِلْ)، القصيدة أيضًا تأمُّل عميق في التقنع، والموسيقى، وسرعة الزوال، والشيخوخة: «ليكن لا شيء هناك حيث وقف/ سراب لُدْلوه الخاطف» (٦٢).٦ القصيدة مُهدَاة للمؤلِّف الموسيقي هوج وود في عيد ميلاده السبعين، وتركز، في عنوانها وإهدائها، على السيمفونية التلميحية لوود، «مشاهد من كاموس»، وقد قدمت أول مرة سنة ١٩٦٥م، وترتكز أيضًا على قناع ميلتون. مرة أخرى تثبت عملية الإعداد أنها متعددة الطبقات وجمعية بلا نهاية في إيماءاتها وتأثيراتها، نسخة، نقترح بجرأة، من إحساس لويس ماك نيس في قصيدته «جليد Snow» بأن «سُكْر الأشياء صار مختلفًا» (١٩٦٦م، ٣٠).٧
نحتاج إذن إلى أن نعيد للأجناس الفنية الفرعية أو ممارسات الإعداد والانتحال فهمًا احتفاليًّا حقيقيًّا لقدرتها على الإبداع والتعليق والنقد. وقد حدَّدْنا في هذه الدراسة الوجه الممتع لمعرفة علاقات التَّناص بين عمليات الانتحال ومصادرها. بينما لا يمكن اختزال الأدب الإنجليزي إلى صيغة شبه بوليسية من فك الشفرات والتَّعرُّف على التلميحات، إلا أنه يزدهر على مُمارَسات القراءة «جنبًا إلى جنب»، والمقارنة والتضاد، وعلى تعريف المتناصات والنظائر، وهي أساسية في الدراسات التي تَمَّت هنا. لا يحتاج الإعداد والانتحال فيما يتعلق بهذا الشأن إلى الخروج من الظلال. إنهما ليسا مُجرَّد مُمارَسات وعمليات مُتأخِّرة؛ إنهما إبداعيان ومُؤثِّران في حد ذاتهما. ويعترفان بشيء أساسي بشأن الأدب: إن دافعه تأجيج الأفكار والاستجابات والقراءات المرتبطة به. بالعودة إلى اقتباس من دريدا استخدمناه سابقًا، «ربما تكون الرغبة في الكتابة رغبة في إطلاق الأشياء التي تأتي خلفك في كثير من الأشكال بقدر المستطاع» (١٩٨٥م، ١٥٧-١٥٨). يبدو أن دريدا هنا يستجيب لملاحظات قدَّمها داروين عن عالَم الطبيعة قبل قرن: «لكن البيئة ليست جامدة أو ثابتة: إنها رحم من الاحتمالات، نتيجة التفاعلات المتعددة بين الكائنات ومادتها» (عن بير، ١٩٨٣م، ٢٣).٨ يمكن أن نضيف أن الإعداد والانتحال مكملان، متممان، يأتيان بعد دريدا وداروين إذا جاز التعبير، في تفاعلات مُتعدِّدة ورحم من الاحتمالات. إنهما، بلا نهاية وبصورة مذهلة، عن رؤية أشياء تأتي بعدنا في كثير من الأشكال بقدر المستطاع.
١  الداروينية الجديدة neo-Darwinism: مصطلح يستخدم حاليًّا لوصف التآلف النشوئي الحديث لنظرية النشوء الدارويني بالانتخاب الطبيعي مع نظرية الوراثة الماندلية.
٢  جون جروس Gross (١٩٣٥م–…)، ناقد إنجليزي. باتريك ماربر Marber: (١٩٦٤م–…)، كاتب مسرحي إنجليزي ومخرج وممثل. سترندبرج Strindberg (١٨٤٩–١٩١٢م)، روائي وكاتب مسرحي سويدي. بولي تيل Teale: كاتبة ومخرجة مسرحية بريطانية.
٣  تشارلي كوفمان Kaufman (١٩٥٨م–…)، كاتب سيناريو أمريكي ومُنتِج ومُخْرج. سبايك جونز Jonze (١٩٦٩م–…)، مُنتِج ومخرج أمريكي. سوزان أورلين Orlean (١٩٥٥م–…)، صحفية أمريكية.
٤  فيليب بولمان Pullman (١٩٤٦م–…)، كاتب إنجليزي.
٥  جيفري هِلْ Hill (١٩٣٢م–…)، شاعر إنجليزي وأستاذ متفرغ في الأدب الإنجليزي.
٦  مارشيز Marches: الحدود بين إنجلترا واسكتلندا. لُدْلوه Ludlow: بلدة على الحدود بين إنجلترا وويلز.
٧  هوج وود Wood (١٩٣٢م–…)، مؤلف موسيقى بريطاني. لويس ماك نيس MacNeice (١٩٠٧–١٩٦٣م)، شاعر وكاتب مسرحي أيرلندي.
٨  جامدة: الكلمة المستخدمة في الأصل هي monolithic وتعني نُصبًا تذكاريًّا أو ظاهرة طبيعية تتكون من صخرة واحدة كبيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤