الفصل الرابع

الأجنحة

كان الصباح التالي غزير المطر لدرجة تجعل الخروج فيه صعبًا للغاية ولا تجعلك تفكر في إزعاج عفريت الرمال الحسَّاس جدًّا تجاه الماء لدرجة أنه لا يزال — رغم انقضاء آلاف السنين — يشعر بالألم منذ حادثة الماء الذي بلَّل شاربه الأيسر ذات مرة. كان يومًا طويلًا، وبعد الظهر، قرَّر جميع الأطفال فجأةً كتابة رسائل إلى والدتهم. كان روبرت هو سيئ الحظ الذي قلب وعاء الحبر — الذي كان عميقًا وممتلئًا على غير المعتاد — مباشرة على ذلك الجزء من مكتب أنثيا التي كانت تتظاهر منذ فترةٍ طويلة بأن بعض الصمغ والورق المقوَّى المطلي بالحبر الهندي كان عبارةً عن درجٍ سري. لم يكن خطأ روبرت بالضبط، بل لم يكن سوى سوء حظه أنه تصادف أن رفع الحبر عبر المنضدة في اللحظة التي كانت فيها أنثيا قد فتحَت درجها، وأن تلك اللحظة بالذات هي اللحظة التي اختارها الحَمَل ليضع نفسه تحت الطاولة ويكسر طائره الصيَّاح. كان هناك سلكٌ حادٌّ وطويل بداخل الطائر، وبالطبع لم يتأخر الحَمَل عن وضعه أمام قدم روبرت في الحال، وهكذا دون قصد أي أحد، أضحى الدرج السري ممتلئًا بالحبر، الذي سال في ذات اللحظة على رسالة أنثيا نصف المكتملة، حتى صار خطابها لأمها كما يلي:

أمي الغالية، أرجو أن تكوني على ما يرام، وأرجو أن تكون صحة جدتي قد تحسنَت. منذ بضعة أيام، كنا …

ثم غمر فيضٌ من الحبر بقية الصفحة، وفي أسفل الصفحة كانت هناك هذه الكلمات بالقلم الرصاص:

لم أكن أنا من سكب الحبر، لقد استغرقتُ وقتًا طويلًا في محاولة تنظيفي له؛ لذا فلن أقول المزيد حيث حان الوقت لإرسال الرسالة بالبريد. من ابنتكِ المحبة أنثيا.

لم يكن روبرت قد بدأ رسالته بعدُ؛ فقد كان يرسم سفينة على ورقة النشَّاف محاولًا التفكير فيما يقول. وبالطبع بعد أن سكب الحبر، اضطُر إلى مساعدة أنثيا في تنظيف مكتبها، ووعد بصنع درجٍ سري آخر لها، أفضل من الذي أفسده الحبر، فقالت: «حسنًا، اصنعه الآن.» لذا فقد حان وقت إرسال الرسائل بالبريد ولم يكن قد كتب رسالته. كما لم يكن قد صنع الدرج السري أيضًا.

أما سيريل فقد كتب — بسرعةٍ كبيرة — رسالةً طويلة، ثم ذهب لنصب مصيدةٍ لبزاقة الحديقة، التي قرأ عنها في كتاب «دليل تنسيق حديقة المنزل»، وعندما حان وقت إرسال الرسائل لم يعثر على رسالته، كما لم يعثر عليها بعد ذلك، ربما قد تكون البزاقات قد التهمتها.

لم يُرسَل سوى خطاب جين. أرادت أن تخبر والدتها بكل شيء عن عفريت الرمال. في الواقع، أراد جميعهم ذلك، لكن جين قضت وقتًا طويلًا في التفكير في تهجئة الكلمة حتى لم يعُد هناك وقت لأن تحكي القصة كما ينبغي، ومن غير المجدي أن تحكيَ القصة ما لم تحكِها كما ينبغي؛ لذلك كان عليها أن تكتفيَ بهذا:

أمي العزيزة الغالية

كلنا على ما يُرام بقدْرِ ما نستطيع، كما قلتِ لنا. ورغم أن الحَمَل الصغير مصاب بنزلة برد، تقول مارثا إنه أمرٌ بسيط. كل ما هنالك أنه سكب حوض الأسماك الذهبية على نفسه صباح أمس. وعندما وصلنا إلى الحفرة الرملية في اليوم الآخر، ذهبنا عبر الطريق الآمن حول الحفرة حيث تذهب العربات، ووجدنا …

مرَّت نصف ساعة قبل أن تتأكَّد جين من عدم قدرتهم على تهجِّي كلمة «سامياد». كما لم يجدوها في القاموس أيضًا، رغم بحثهم؛ عند ذلك أنهت جين رسالتها بسرعة.

وجدنا شيئًا غريبًا، لكن الوقت قد حان لإرسال الرسالة؛ لذا فلن أقول المزيد.

ابنتك الصغيرة
جين

ملحوظة: لو أمكن لأمنيتك أن تتحقَّق، فماذا كنتِ ستتَمنَّين؟

ثم سُمع ساعي البريد وهو ينفخ بوقه، فهرُع روبرت في المطر لإيقاف عربته وإعطائه الرسالة؛ هذا ما حدث، على الرغم من أن جميع الأطفال كانوا يقصدون إخبار والدتهم عن عفريت الرمال، لكنها بطريقة أو بأخرى لم تعلم أبدًا. كانت هناك أسبابٌ أخرى لئلا تعلم أبدًا، ولكن هذه الأسباب ستأتي لاحقًا.

في اليوم التالي، جاء العم ريتشارد وأخذهم جميعًا إلى ميدستون في عربة ذات أربع عجلات؛ جميعهم باستثناء الحَمَل. كان العم ريتشارد أفضل ما يكون من الأعمام؛ فقد اشترى لهم الألعاب في ميدستون، وأخذهم إلى المتجر وسمح لهم باختيار ما يريدون بالضبط، دون أي قيود على السعر، ولا ذلك الهراء حول الأشياء التي يجب أن تكون مفيدة؛ فمن تمام الحكمة السماح للأطفال باختيار ما يحبونه تحديدًا؛ لأنهم حمقى وقليلو الخبرة للغاية، وأحيانًا سيختارون شيئًا مفيدًا حقًّا دون قصد. حدث ذلك لروبرت، الذي اختار، في اللحظة الأخيرة، وبسرعةٍ كبيرة، صندوقًا به صورٌ لثيران مجنَّحة برءوس رجال ورجالٍ مجنَّحين برءوس نسور. لقد ظن أنه سيكون هناك حيوانات في الداخل، كما هو مرسومٌ على الصندوق، ولكن عندما وصل إلى المنزل اتضح أنه لغز يشبه لغز جريدة يوم الأحد حول مدينة نينوى القديمة! اختار الآخرون لُعبهم بسرعة، وكانوا سعداء باللعب بها في أوقات فراغهم. كان لدى سيريل لُعبةٌ عبارة عن قاطرةٍ بخارية، أما الفتاتان، فكان لديهما دميتان، بالإضافة إلى مجموعة أواني شاي من الصيني عليها زهرة أذن الفأر البرية. أما الصبيَّان فكانا يلعبان لُعبة القوس والسهام.

ثم اصطحبَهم العم ريتشارد في رحلةٍ في نهر ميدواي الجميل على متن أحد القوارب، وبعد ذلك تناولوا الشاي في محلٍّ جميل لصنع الحلويات، وعندما وصلوا إلى المنزل، كان قد فات الأوان بحيث أصبح من غير الممكن أن يتمنَّوْا أي أمنياتٍ في ذلك اليوم.

لم يخبر الأولاد العم ريتشارد بأي شيء عن عفريت الرمال. لا أعرف السبب. كما أنهم لا يعرفون السبب. لكنني أعتقد أنه يمكنك التخمين.

كان اليوم الذي تلا الزيارة الرائعة لعم ريتشارد، يومًا حارًّا للغاية بالفعل. قال الأشخاص الذين يُعلنون عن حالة الطقس في الصحف كل صباح إن ذلك اليوم كان أشد أيام الصيف حرارة. لقد قرروا أن الطقس «أشد حرارةً وممطر بعض الشيء»، وكان أشد حرارة بالتأكيد. في الواقع، كان الطقس مشغولًا للغاية بأن يكون أشدَّ حرارةً حتى إنه لم يكن لديه وقتٌ ليهتمَّ بمسألة سقوط المطر؛ لذا لم يكن هناك مطر.

هل سبق لك أن استيقظتَ في الساعة الخامسة في صباح يومٍ صيفيٍّ رائعٍ؟ إنه شعور رائعٌ جدًّا. أشعة الشمس وردية وصفراء، وقد غطَّى الندى الألماسي جميع الأعشاب والأشجار. وجميع الظلال قد سلكَت الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي تسلكه في المساء، وهو أمرٌ مثير للاهتمام للغاية ويجعلك تشعر كما لو كنتَ في عالمٍ آخر جديد.

استيقظت أنثيا في الساعة الخامسة، لقد أيقظت نفسها، ويجب أن أقول لكم كيف يمكن فعل ذلك، حتى لو جعلكم ذلك تنتظرون استكمال القصة.

تنام على السرير ليلًا، وتستلقي بشكلٍ مسطَّح على ظهرك الصغير مع بسط ذراعَيك على امتداد جانبيك، ثم تقول: «يجب أن أستيقظ في الخامسة.» (أو السادسة أو السابعة أو الثامنة أو التاسعة أو أي وقت تريده)، وبينما تقول ذلك تضغط ذقنك لأسفل على صدرك ثم تخبط مؤخرة رأسك بالوسادة. وتفعل ذلك بعدد الساعات التي تود القيام فيها (مسألةٌ حسابية سهلة للغاية). بالطبع يعتمد كل شيء على صدق رغبتك في الاستيقاظ في الساعة الخامسة (أو السادسة أو السابعة أو الثامنة أو التاسعة)؛ أما إذا كنت لا تريد ذلك بصدق، فلا جدوى من فعل ذلك، ولكن إذا كنت ترغب بصدق في ذلك، فلتجرِّب وتتأكد من ذلك بنفسك. بالطبع في هذا الأمر — كما هي الحال في تعلُّم اللغة اللاتينية مثلًا أو الانزلاق إلى سلوكٍ سيئ — مع الممارسة يأتي الإتقان. وكانت أنثيا تتقن هذا الأمر تمامًا.

في اللحظة التي فتحت فيها عينَيها، سمعت الساعة ذات اللونَين الأسود والذهبي التي في حجرة الطعام السفلية وهي تدق معلنةً تمام الحادية عشرة، فعلِمَت أنه متبقٍّ ثلاث دقائق حتى تكون الساعة الخامسة. كانت الساعة ذات اللونَين الأسود والذهبي تشير إلى الوقت الخاطئ دومًا، لكن الأمر يُصبح لا بأس به عندما تعلم الوقت المقصود بالفعل. كان الأمر أشبه بشخصٍ يتحدَّث لغةً أجنبية، فإذا كنت تعرف هذه اللغة، فمن السهل أن تفهمها مثلما تفهم اللغة الإنجليزية تمامًا. وكانت أنثيا تعرف ما تشير إليه الساعة. كانت تشعر بالنعاس الشديد، لكنها قفزَت من السرير ووضَعَت وجهها ويدَيها في حوضٍ من الماء البارد. وهذا له تأثير السحر إذ يحدُّ من رغبتك في العودة إلى السرير مرةً أخرى، ثم ارتدت ثيابها وطوَتْ ثوب النوم. وهي لم تطوِه دون اكتراث، بل طوَتْه من عند الأكمام وثنتْه من المنتصف حتى صار كل نصفٍ منطبقًا على الآخر،‎ وهذا يُظهر لك قدْر التربية الحسنة التي نعِمَت بها هذه الفتاة الصغيرة.

ثم أخذَت حذاءها في يدها وتسلَّلت بهدوءٍ أسفل الدرج، وفتحَت نافذة غرفة الطعام وتسلَّقَتْها إلى الخارج. لقد كان من السهل الخروج من الباب بالقدْر نفسه، لكن تسلُّق النافذة كان أكثرَ رومانسية، كما كان يقلِّل من احتمالات أن تراها مارثا.

قالت لنفسها: «سأستيقظ دائمًا في الساعة الخامسة، لقد كان ذلك رائعًا للغاية أكثر من أي شيءٍ آخر.»

كان قلبها يدقُّ بسرعةٍ كبيرة؛ لأنها كانت تُنفِّذ خطةً خاصةً بها. لم تكن متأكدةً من أنها كانت خطةً جيدة، لكنها كانت متأكدةً تمامًا من أنه لن يكون من الأفضل أن تخبرَ الآخرين عنها. كان لديها شعور أنها — بصرف النظر عن كونها على صوابٍ أو خطأ — تفضِّل أن تمضيَ في الأمر بمفردها. ارتدَت حذاءَها تحت الشرفة الحديدية، على البلاط المتلألئ باللونَين الأحمر والأصفر، ثم ركضَت مباشرة باتجاه الحفرة الرملية، واستطاعَت العثور على مكان عفريت الرمال، فحفرتْه؛ كان عفريت الرمال غاضبًا جدًّا.

قال وهو ينفش فراءه كما ينفش الحمام ريشه في وقت عيد الميلاد: «إنه لأمرٌ سيئ للغاية، فالطقس قارس البرودة، ونحن في منتصف الليل.»

قالت أنثيا بلطفٍ وقد خلعت مئزرها الأبيض وغطَّت به عفريت الرمال: «أنا آسفة للغاية.» وغطَّتْه كله ما عدا رأسه وأذنَيه المضطربتَين وعينَيه اللتينِ كانتا تُشبهان عينَي الحلزون.

قال عفريت الرمال: «شكرًا لكِ، هكذا أفضل، ما هي أمنية هذا الصباح؟»

قالت: «لا أعرف، هذا كل ما في الأمر. أتعلم أننا كنا منحوسين للغاية، حتى الآن؟ كنتُ أرغب في التحدُّث معك حول هذا الموضوع، ولكن هل تمانع ألا تحقِّق أي أمنية لي إلى أن نفرغ من تناوُل طعام الإفطار؟ من الصعب للغاية التحدُّثُ إلى شخصٍ فاجأك بأمنياتٍ لا تريدها حقًّا!»

«ينبغي عليكِ ألَّا تتمنَّي أشياء لا ترغبين فيها بصدق، في الماضي كان الناس يعرفون ما إذا كانوا يرغبون حقًّا في تناول الميجاثيريم أو الإكتيوسوروس على الغداء.»

قالت أنثيا: «سأحاول ألَّا أفعل، لكنني أتمنى …»

قال عفريت الرمال بنبرةٍ تحذيرية وقد بدأ في الانتفاخ: «احذري!»

«أوه، هذه ليست أمنيةً سحرية — إنني فقط — سأكون سعيدةً جدًّا إذا لم تُضخِّم نفسك حتى تكاد تنفجر لتمنحني أي شيءٍ الآن. انتظر حتى يأتي الآخرون.»

قال مسايرًا لها، لكنه كان يرتجف: «حسنًا، حسنًا.»

سألت أنثيا بلطف: «هل تريد أن تأتيَ وتجلسَ في حِجري؟ سوف تشعر بمزيدٍ من الدفء، ويمكن أن أقلب تنُّورة الفستان المحيط بك لتغطيك. وسأكون حذرةً جدًّا.»

لم تتوقَّع أنثيا على الإطلاق أنه سيفعل، ولكنه فعل ذلك.

قال: «شكرًا لكِ، يا لكِ من مراعيةٍ لحقوق الآخرين ومشاعرهم بحق!» تسلَّق ذراعَيها ثم انكمش على نفسه مستدفئًا، فأحاطَته بذراعَيها برفقٍ بالغ، ثم قال: «والآن ماذا؟»

قالت أنثيا: «حسنًا، كل شيء تمنَّيناه أصبح سيئًا كريهًا في نهاية المطاف، وأتمنَّى أن تنصحنا أنت؛ فأنت كبير السن، ولا بد أنك حكيمٌ للغاية.»

قال عفريت الرمال: «لطالما كنتُ كريمًا منذ طفولتي، ولقد قضيتُ كل ساعات يقظتي في العطاء، ولكن الشيء الوحيد الذي لن أُعطيه لأحد؛ هو النصيحة.»

استمرَّت أنثيا في الكلام قائلة: «أتعرف، إنه لشيءٌ رائع، ومذهل، وإنها لفرصةٌ مجيدة، وهو أمرٌ بالغ العطف والطيبة منك أن تُحقِّق لنا كلَّ ما نتمنَّاه، ولكنه من المؤسف أن تضيع كلها لأننا ساذجون جدًّا لدرجة ألَّا نعلم ما يجب أن نتمناه.»

كانت أنثيا تقصد قولها ذلك — ولم تكن تريد أن تقوله أمام الآخرين؛ فأن تقول إنك ساذج شيءٌ، وأن تقول إن الآخرين سُذَّج شيءٌ آخر تمامًا.

قال عفريت الرمال وهو يغالب النعاس: «أيتها الطفلة، كل ما يمكنني نُصحُكم به هو أن تفكِّروا قبل أن تتحدَّثوا …»

«ولكنني ظننتُ أنك لن تسدي نصيحة أبدًا.»

قال: «هذه لا تُحتسبح فأنتم لن تأخذوا بها أبدًا، كما أنها ليست جديدة، بل مكررة في جميع كراسات الخط.»

«ولكن، هل لك أن تخبرني ما إذا كانت الأجنحة أمنيةً سخيفة؟»

قال: «أجنحة؟ كان يجب أن أفكِّر أنكم قد تفعلون ما هو أسوأ. فقط، احرصوا على ألَّا تطيروا عاليًا عند غروب الشمس؛ فقد كان صبيٌّ صغير يُدعى نينيفيت سمعت عنه ذات مرة. كان أحد أبناء الملك سنحاريب، وقد أهداه أحد الرحالة عفريت رمال. واعتاد أن يبقيه في صندوق من الرمال على شرفة القصر. لقد كانت إهانةً مُروِّعة لواحد من بني جنسنا بالطبع؛ لكن الصبي كان ابن الملك الآشوري. وذات يومٍ تمنَّى الجناحين وحصل عليهما، لكنه نسي أنهما يتحولان إلى حجر عند غروب الشمس، وعندما تحولا سقط مرتطمًا بأحد الأسود المجنَّحة في أعلى مدرج السلالم العظيم لوالده؛ وبسبب أجنحته الحجرية وأجنحة الأسود الحجرية … حسنًا، إنها ليست بالقصة الجميلة، لكنني أعتقد أن الصبي قد أستمتع كثيرًا حتى حان وقت سقوطه.»

قالت أنثيا: «أخبرني، لماذا لا تتحول أمنياتنا إلى أحجار الآن؟ لماذا تختفي فحسب؟»

قال عفريت الرمال بالفرنسية: «كل زمان وله أحكامه.»

سألته أنثيا: «هل هذه لغة نينيفيت؟ الذي لم يتعلم في مدرسته أي لغةٍ أجنبية سوى الفرنسية؟»

أردف عفريت الرمال: «ما أقصده هو أنه في الأيام الخوالي كان الناس يتمنَّوْن الحصول على هدايا يوميةٍ ماديةٍ جيدة — الماموث والزواحف المجنَّحة وغيرها — ويمكن تحويل تلك الأشياء إلى حجر بسهولةٍ كبيرة، لكن الناس يرغبون في مثل تلك الأشياء الخيالية الفائقة هذه الأيام، فكيف تحولين الجمال الفائق إلى حجارة، أو تحولين أمنية أن يحبك الجميع إلى حجارة؟ لا يمكن فعل ذلك. ولن يكون مجديًا أبدًا أن يكون لديك قاعدتان متعارضتان؛ لذا فهي تختفي ببساطة. ولو أمكن للجمال الفائق أن يتحول إلى حجارة، فسيستمر فترةً طويلة جدًّا، كما تعلمين؛ أطول بكثيرٍ مما تعتقدين. انظري فقط إلى التماثيل اليونانية. سيكون الأمر مشابهًا لذلك جدًّا، وداعًا. أشعر بنعاسٍ شديد.»

قفز عفريت الرمال من حِجرها وجعل يحفر على نحوٍ هستيري ثم اختفى في الرمال.

كانت أنثيا متأخرةً عن موعد تناوُل الإفطار. وكان روبرت هو من سكب بهدوء ملعقةً من العسل الأسود على كنزة الحَمَل، بحيث تطلَّب الأمر نقله وغسله جيدًا بعد الإفطار مباشرة. وكان فعله ذلك بالطبع سيئًا للغاية. ومع ذلك فقد كان جيدًا لسببين؛ لقد أسعد الحَمَل، الذي أحب أن يكون لزجًا تمامًا، وشغل انتباه مارثا بالحَمَل حتى يتمكَّن الآخرون من التسلُّل إلى الحفرة الرملية دون أن يصطحبوا الحَمَل معهم.

وقد فعلوا. وفي الطريق قالت أنثيا التي كانت تلهث من الركض أثناء التسلُّل وهي تلفظ أنفاسها بصعوبة:

«أريد أن أقترحَ عليكم تناوُبَ الأُمنيات فيما بيننا، ولكن بشرط ألَّا يتمنَّى أحدُنا أمنيةً إلا إذا اعتقد الآخرون أنها أمنيةٌ جيدة. هل توافقون؟»

سأل روبرت بحذر: «ولمن ستكون الأُمنية الأولى؟»

قالت أنثيا عَلَى نحوٍ تبريري: «ستكون لي أنا، إن لم تمانعوا، وقد فكرتُ فيها، وهي أن يصير لدينا أجنحة.»

ساد الصمت. والتمس الآخرون خطأً أو تلعثمًا فيما قالت، لكن ذلك كان صعبًا؛ لأن كلمة «الأجنحة» حرَّكت نوعًا من الإثارة المبهجة في صدرِ كلٍّ منهم.

قال سيريل بتكرُّم: «ليس بالسيئ جدًّا.» وأضاف روبرت: «حقًّا، أيتها النمِرة، أنتِ لستِ حمقاء أبدًا كما يبدو عليكِ.»

قالت جين: «أعتقد أن التجربة ستكون رائعة. الأمر أشبه بحلمٍ متألقٍ جميلٍ نُحلِّق فيه بخيالنا.» وجدوا عفريت الرمال بسهولة. قالت أنثيا:

«أتمنى أن يكون لدينا جميعًا أجنحةٌ جميلةٌ لنطير بها.»

نفخ عفريت الرمال نفسه، وفي اللحظة التالية انتاب كلَّ طفل شعورٌ جميلٌ ومثير؛ فقد أحسُّوا بشيء ليس بالثقيل جدًّا ولا الخفيف جدًّا على أكتافهم. أمالَ عفريت الرمال رأسَه على أحد جانبَيه وأخذ ينظر بعينَيه الحلزونيتَين إلى كل واحدٍ منهم.

قال عفريت الرمال على نحوٍ حالم: «ليس سيئًا للغاية، ولكن حقًّا يا روبرت، أنت لستَ ذلك الملاك الذي تبدو عليه.» كاد وجه روبرت يحمَرُّ خجلًا.

كانت الأجنحة كبيرةً جدًّا، وأكثر جمالًا مما تتخيَّل فقد كانت ناعمةً وسلسة، وكانت كلُّ ريشةٍ موضوعةً في مكانها بدقَّة. كان الريش يحمل ألوانًا جميلة، متغيرة وممزوجة، أشبه بألوان الطيف، أو الزجاج قزحي اللون، أو الزبد الجميل الذي يطفو في بعض الأحيان على سطح الماء الذي لا يصلح للشرب على الإطلاق.

قالت جين وهي تقف بتلهُّفٍ على قدمٍ ثم تقف على الأخرى: «أوه، ولكن هل يمكنُنا الطيران؟»

قال سيريل: «احترسي! أنتِ تطئين على جناحي.»

سألت أنثيا باهتمام: «هل هي مؤلمة؟» لكن لم يُجبها أحدٌ؛ لأن روبرت كان قد بسط جناحَيه وقفز، وهو الآن يرتفع ببطءٍ في الهواء. لقد بدا أخرقَ للغاية في بدلتِه ذات البنطال القصير — وقد تدلَّى حذاؤه على وجه الخصوص بلا حول ولا قوة، وبدا الحذاء أكبر بكثيرٍ مما كان عليه عندما كان على الأرض، لكن الآخرين لم يُظهروا أيَّ اهتمامٍ بالهيئة التي بدا عليها أو بدَوا هم عليها؛ فحينذاك، بسطوا جميعًا أجنحتهم وحلَّقوا في الهواء. بالطبع، جميعكم يعرف كيف يكون شعور المرء عندما يطير؛ لأن كل شخصٍ قد حَلَم بأنه يطير، وخُيِّل لكم أنه من السهل جدًّا فِعله، غير أنه لا يمكنكم أبدًا أن تتذكَّروا كيف فعلتم ذلك؛ وكقاعدة، عليك أن تفعل ذلك من دون أجنحة، في أحلامك، وهو شيءٌ بارع واستثنائي، لكن ليس من السهل للغاية تذكُّرُ القاعدة التي تُتَّبع في هذا الأمر. الآن ارتفع الأطفال الأربعة وهم يرفرفون عن الأرض، ولا يمكنك تخيُّل الشعور الجميل بالهواء الذي يداعب وجوههم. كانت أجنحتهم عريضةً للغاية عند بسطها، وكان يتعيَّن على كلِّ منهم أن يبقى على مسافةٍ كبيرة من بعضهم بعضًا حتى يتفادى أيٍّ منهم الدخول في مجال طيران الآخر، لكنَّ أشياءَ بسيطة مثل هذه يمكن تعلُّمها بسهولة.

كل الكلمات التي يحتويها قاموس اللغة الإنجليزية، والمعجم اليوناني كذلك، أجدها عاجزة تمامًا عن وصف شعور المرء حال طيرانه؛ لذا فلن أحاول وصف ذلك الشعور لكم، ولكن كل ما يمكنني قولُه هو أن النظر من الأعلى على الحقول والغابات، بدلًا من النظر إليها وأنت في الأسفل، يبدو كالنظر إلى خريطةٍ حيةٍ جميلة، بدلًا من النظر إلى الألوان السخيفة على الورق؛ فأنت ترى الغابات المشرقة والحقول الخضراء المتحركة واحدًا تلو الآخر، وكما قال سيريل — ولا أدري من أين جاءتْه فكرة هذا التعبير الغريب: «إن ذلك يمنحك تجربةً من نوعٍ خاص!» لقد كانت أروع أمنية تمنَّاها الأولاد، وأشبهَ ما تكون بحقيقةٍ عن كونها سحرًا. لقد رفرفوا وطاروا وأبحروا على أجنحتهم ذات ألوان الطيف الرائعة، بين الأرض الخضراء والسماء الزرقاء، ثم حلَّقوا فوق روتشستر ثم انحرفوا باتجاه ميدستون، وفي التوِّ بدءوا جميعًا يشعرون بالجوع الشديد. من الغريب أن هذا حدث عندما كان الطيران منخفضًا تمامًا؛ حيث كانوا يعبُرون بستانًا تألَّقت فيه بعض بشائر ثمار البرقوق حمراءَ وناضجة.

أوقفوا الأجنحة. لا أستطيع أن أشرح لك كيف حدث ذلك، لكن الأمر يشبه دَعسكَ الماء عندما تسبح، والصقور يفعلون ذلك على نحوٍ جيد للغاية.

قال سيريل — رغم أن أحدًا لم يقل شيئًا: «نعم، يمكنني القول إن السرقة تظل سرقة حتى لو كانت لديكم أجنحة.»

قالت جين بانفعال: «هل تعتقد ذلك؟ فلو كان لك جناحان فأنت طائر، ولا يمانع أحدٌ أن تخالفَ الطيور قواعد السلوك، أو على الأقل قد يمانعون لكن الطيور تفعل ذلك دومًا، ولا يوبِّخهم أحد، ولا يُودعون في السجن.»

لم يكن من السهل الهبوط على إحدى أشجار البرقوق كما تظن؛ لأن الأجنحة ذات ألوان الطيف كانت كبيرة جدًّا؛ لكن بطريقة ما تمكَّنوا من فعل ذلك، وكان البرقوق بالتأكيد حلو المذاق وغضًّا.

لحسن الحظ، كانوا قد أخذوا من ثمار البرقوق الجيد كفايتهم قبل أن يرَوْا رجلًا بدينًا، كان، على ما بدا لهم، صاحب أشجار البرقوق، وقد أتى على عجلٍ عَبْر بوابة البستان ومعه عصًا غليظة، فحرَّروا جميعًا أجنحتهم من الفروع المحمَّلة بالبرقوق وبدءوا في الطيران.

توقَّف الرجل فجأة، فاغرًا فاه؛ فعندما رأى أغصان أشجاره تتحرَّك وتنتفض بقوةٍ قال لنفسه: «اللئام الصغار عادوا من جديد!» وكان قد خرج لتوِّه؛ لأن صبية القرية قد علَّموه في المواسم الماضية أن البرقوق يحتاج إلى الاعتناء به، لكن عندما رأى أن الأجنحة ذات ألوان الطيف ترفرف من شجرة البرقوق، أحس أنه قد جُن جُنونه لا محالة، ولم يرُق له هذا الشعور على الإطلاق. وعندما نظرت أنثيا إلى الأسفل ورأت فمه ينفتح ببطءٍ، ويبقى كذلك، بينما يُمتقَع وجهه، نادَتْ عليه قائلةً:

«لا تخف.» وبحثَت بسرعةٍ في جيبها عن العملة المعدنية المثقوبة التي قيمتها ثلاثة بنسات، والتي كانت تنوي تعليقها في شريط حول عنقها، طلبًا للحظ. حامت حول مالك البرقوق السيئ الحظ، وقالت: «لقد تناولنا بعض البرقوق؛ وظننَّا أن ذلك لا يُعد سرقة، لكنني الآن لست متأكدة؛ لذلك هاك بعض المال ثمنًا لما أخذناه.»

هبطَت نحو مُزارع البرقوق المصاب بالرعب، وألقت العملة المعدنية في جيب سترته، وبقليلٍ من الخفقان بجناحَيها، انضمَّت إلى الآخرين من جديد.

هوى المُزارع جالسًا على الحشائش فجأة وبقوة.

قال: «حسنًا، هل أصابني الجنون؟! أعتقد أن هذا ما يدعونه بالأوهام، ولكن هناك عملة البنسات الثلاثة.» وأخرجها من جيبه وعَضَّ عليها، وقال: «إنها حقيقية بما فيه الكفاية، حسنًا بَدءًا من اليوم سأكون إنسانًا أفضل، إن ما حدث هو من الأمور التي تدفع المرء إلى التعقُّل والحكمة على مدار حياته؛ تلك هي حقيقة الأمر، لكنني سعيدٌ بأن الأمر لم يتجاوز الأجنحة، رغم أنني كنت أفضِّل لو أنني رأيت طيورًا غريبة المنظر — على نحو لا يحدث أو يستحيل حدوثه — حتى ولو تظاهرت بأنها تتحدث عن أني أرى أشياء لا أعرف ماذا تكون.»

نهض ببطء متثاقلًا، ثم دخل بيته، وكان لطيفًا جدًّا ذاك اليوم مع زوجته حتى شعَرت بسعادةٍ غامرة، وقالت لنفسها: «يا إلهي! ما الذي أصاب هذا الرجل!» ثم تجمَّلت ووضعَت أنشوطةً جميلة زرقاء اللون حول ياقتها، وبدت في غاية الجمال حتى إنه صار أكثر لطفًا معها من أي وقتٍ مضى. لعل الأطفال المجنَّحين قد فعلوا شيئًا جيدًا في ذلك اليوم. وإذا كان الحال كذلك، فلم يكن سوى شيءٍ واحد؛ فليس هناك من شيءٍ يجلب لك المتاعب مثل الأجنحة، لكن من ناحيةٍ أخرى، ليس هناك من شيء يخرجك من المتاعب مثل الأجنحة.

كان هذا هو ما حدث معهم عندما قفز ناحيتهم ذلك الكلب الشرس لمَّا طوَوا أجنحتهم قليلًا وحلَّقوا على ارتفاعٍ منخفض وتقدَّموا نحو باب مزرعة لطلب كِسرة من الخبز وشيءٍ من الجبن، فعلى الرغم من أكلهم البرقوق، سرعان ما أحسُّوا بالجوع من جديد.

ليس هناك من شكٍّ الآن في أنه لو كان الأطفال الأربعة عاديين بلا أجنحة؛ فإن هذا الكلب الأسود الشرس كان سيعضُّ روبرت من ساقه ذات الجوارب البنية؛ إذ كان هو الأقرب إلى الكلب، ولكن عند أول زمجرةٍ رفرفَت الأجنحة، وتُرك الكلب يشد سلسلته بشدة، ويشبُّ على ساقيه الخلفيتَين كما لو كان يُحاول الطيران هو أيضًا.

لقد جرَّبوا العديد من المزارع الأخرى، ولكن حتى في تلك المناطق التي لم تكن فيها كلاب، لم يكن بوسع الناس أن يفعلوا أي شيءٍ سوى الصراخ بسبب فزعهم. وفي النهاية عندما كانت الساعة الرابعة تقريبًا، وكانت أجنحتهم تزداد تيبُّسًا وتعبًا، حطُّوا على برج كنيسة وعقدوا اجتماعًا طارئًا.

قال روبرت بقرارٍ يائس: «لا يمكنُنا الطيران إلى المنزل دون غَداء أو شاي.»

قال سيريل: «ولن يعطينا أحدٌ غداءً، ولا عَشاء، ناهيك عن الشاي.»

قالت أنثيا: «ربما يفعل القسُّ هنا ذلك؛ فلا بد أنه يعلم كل شيء عن الملائكة …»

قالت جين: «بوسع أي شخص أن يرى أننا لسنا ملائكة. انظري إلى حذاء روبرت الطويل وإلى ربطة عنقه ذات النسيج المنقوش كالسناجب.»

قال سيريل بحزم: «حسنًا، إذا كانت الدولة التي أنت فيها لن تُزوِّدك بالمؤن، فلك أن تأخذها عنوة. أقصد في الحروب. أنا متأكد من أنك يجوز أن تفعل ذلك. وحتى في القصص الأخرى، لا يسمح أخٌ صالح لإخوته الصغار بالتضوُّر جوعًا وهم وسط وفرة من الطعام.»

كرَّر روبرت بشراهة: «وفرة؟» بينما نظر الآخرون باستغراب حول الأسلاك العارية لبرج الكنيسة، وتذمَّروا قائلين: «وسط ماذا؟»

قال سيريل بطريقةٍ مثيرة: «نعم، تُوجد نافذةٌ لموضع حفظ اللحوم على جانب منزل رجل الدين، ورأيت في الداخل أشياءَ للأكل؛ كريم كراميل ودجاجًا ولحم لسانٍ بارد وفطائر ومربى. إنها نافذة كبيرة في الحقيقة ولكن مع الأجنحة …»

قالت جين: «يا لذكائك!»

قال سيريل بتواضُع: «هذا شيءٌ عادي تمامًا؛ فأي شخصٍ وُلد ليكون قائدًا — كنابليون أو الدوق مارلبورو — كان سيرى الأمر مثلما رأيته تمامًا.»

قالت أنثيا: «هذا خطأٌ كبير على ما يبدو.»

قال سيريل: «هذا هُراء، أتذكُرون ما الذي قاله السير فيليب سيدني عندما رفض الجندي أن يشرب الماء بدلًا منه؟» إذن، حاجتي أكبر من حاجته.‎

قالت أنثيا محاولة إقناعهم وعيناها مغرورقتان بالدموع: «حسنًا، سوف نجمع أموالنا ونتركها ثمنًا للأشياء التي سنأخذها، أليس كذلك؟» فقد كانت تشعر بالجوع الشديد والذنب العظيم في الوقت نفسه.

جاء الردُّ بحذر: «البعض منها.»

أخرج الجميع الآن ما في جيوبهم على السطح الرصاصي من البرج؛ حيث حفَر الزوار على مدار المائة والخمسين عامًا الماضية الأحرف الأولى من أسماءِ أحبتهم بالسكاكين الحادَّة على السطح الرصاصي الليِّن. كان كلُّ ما لديهم خمسةَ شلنات وسبعةَ بنسات ونصف البنس، وحتى أنثيا المنصفة اعترفَت بأن ذلك المبلغ كان مبالغًا فيه بالنسبة إلى أربعة أشخاص. وقال روبرت إنه يعتقد أن ثمانية عشر بنسًا كافية.

وفي النهاية، اتفَقوا على أن يُسلموا إليه شلنَين وستة بنسات.

وهكذا كتبَت أنثيا على ظهرِ ورقةِ تقرير مدرستها عن أدائها في الفصل الدراسي الماضي — والذي تصادَف وجوده في جيبها، وقد مزقَت منه اسمها واسم مدرستها — هذه الرسالة:

عزيزي القَس الموقَّر

نحن جائعون حقًّا بسبب اضطرارنا للطيران طوال اليوم، ونعتقد أن الأمر لا يُعد سرقةً عندما يصل لأن توشك أن تتضور جوعًا حتى الموت. خشينا أن نطلب منك خوفًا من أن ترفض؛ لأنك بالطبع تعرف الكثير عن الملائكة، لكنك لن تعتقد أننا ملائكة. سوف نأخذ فقط الأساسيات لكي نعيش، وليس البودنج أو الفطيرة، لنُثبت لك أن تضوُّرنا جوعًا وليس جشعنا هو ما دفعَنا لنتخذ من مكان حفظ طعامك ملاذًا ومنقذًا لنا، لكننا لسنا قطَّاع طريق ولا نمتهن ذلك.

قال الجميع باتفاق: «اختصريها.» فأضافت أنثيا في عجالة:

إن نوايانا نبيلةٌ تمامًا، وها هما شلنان وستة بنسات لتعلم أننا صادقون وممتنون، شكرًا لحسن ضيافتك لنا.

تحياتنا نحن الأربعة.

كان الشلنان البنسات والستة مرفقةً في هذه الرسالة، وشعر جميع الأطفال أنه عندما يقرؤُها رجل الدين، فسيفهم كل شيء، وكذلك سيفعل أيَّ شخصٍ لم يرَ الأجنحة.

قال سيريل: «بالطبع، هناك الآن بعض المخاطر؛ ومن الأفضل أن نطير مباشرةً إلى الجانب الآخر من البرج ثم نحلِّق على ارتفاعٍ منخفض قاطعِين فناء الكنيسة ومارِّين من بين الشُّجَيرات. لا يبدو أن هناك أيَّ أحد، لكن من يدري، تطل النافذة على الشجيرات، وهي محفوفة بأوراق الشجر، وكأنها قصة في حكايةٍ ما، سأدخل وأحصل على الأشياء، ويمكن لروبرت وأنثيا أخذُهما مني عَبْر النافذة. وجين يمكنها أن تراقب — فعيناها حادَّتان — ولتُصدر صفيرًا إذا رأت أي شخص. اسكت، يا روبرت! يمكنها التصفير جيدًا بما يكفي لإعلامنا، على أي حال. يجب ألَّا تكون الصافرة جيدةً للغاية، اجعليها طبيعيةً وأشبه بصوت طائر، والآن، فلننطلق!»

لا أستطيع أن أزعم أن السرقة فعلٌ صائب. لا يمكنني إلا أن أقول إنه في هذه الحالة لم يكن الأمر يبدو سرقةً بالنسبة إلى الجياع الأربعة، بل بدا وكأنه في إطار معاملةٍ تجارية عادلة ومعقولة. لم يسبق لهم أن علموا أنهم لا يمكنهم شراء لسانٍ شبه مقطَّع ودجاجة ونصف، ورغيفٍ من الخبز، وقنينة من ماء الصودا في المتاجر مقابل شلنَين وستة بنسات. كانت هذه ضروريات الحياة التي أخرجها سيريل عَبْر نافذة حجرة حفظ الطعام عندما قاد الآخرين إلى تلك البقعة المُبهِجة دون أن يلاحظه أحد ودون أي تأخير أو مغامرة. لقد شعر أن الامتناع عن أخذ المربى وفطيرة التفاح المُحلَّاة والكعك وقشور السكر المُحلَّاة المخلوطة كان عملًا بطوليًّا حقًّا وأنا أتفق معه. كان فخورًا أيضًا بعدم أخذ الكريم كراميل وأعتقد أنه كان مخطئًا؛ لأنه لو كان قد أخذها، لكانت هناك صعوبة في إعادة الطبق؛ لا يحق لأحد، مهما كان يتضور جوعًا، سرقة أطباق الفطائر الصينية ذات الزهور الوردية الصغيرة. كان أمر قنينة ماء الصودا مختلفًا؛ فلم يتمكنوا من الاستغناء عما يشربونه، وبما أن اسم الصانع كان مكتوبًا عليها، فقد شعروا بالثقة من أنها ستُرَد إليه أينما تركوها. وإذا كان لديهم الوقت فسيعيدونها إليه بأنفسهم. بدا أن الرجل يعيش في روتشستر، وهو ما لن يكون بعيدًا عن المنزل.

حملوا كل شيء إلى أعلى البرج، ووضعوه على ورقة من ورق المطبخ التي وجدها سيريل على الرف العلوي في الغرفة. وبينما كان يفردها، قالت أنثيا: «لا أعتقد أن هذه من ضروريات الحياة.»

قال: «بل هي كذلك. يجب أن نضع الأشياء في مكانٍ ما لتقطيعها؛ وسمعَت والدنا يقول ذات يوم إن الناس أُصيبوا بأمراضٍ من الجراثيم الموجودة في مياه الأمطار. ولا بد أن يكون هناك الآن الكثير من مياه الأمطار في هذا المكان، وعندما تجِف، ستتحرك الجراثيم، وتختبئ في كل شيء، وسوف نموت جميعًا من الحُمَّى القرمزية.»

«وما هي تلك الجراثيم؟»

قال سيريل، بحسٍّ علمي: «الأشياء الصغيرة التي تَرينَها بالمجهر، إنها تُصيبكِ بكل الأمراض التي يمكن أن تُفكِّري فيها! أنا متأكد من أن الورقة كانت ضرورية، مثلها مثل الخبز واللحم والماء. ماذا إذن الآن؟! أوه، عيناي، أنا جائع!»

لا أرغب في وصف الحفلة الخلوية على قمة البرج. يمكنك أن تتخيَّل جيدًا كيف يكون تقطيع دجاجة ولسان بسكين له شفرةٌ واحدة فقط والذي كُسر في منتصف عملية التقطيع، ولكن قُضي الأمر. يصعب تناوُل الطعام بأصابعك كما أنه يجعلها دهنية، وسرعان ما تبدو الأطباق الورقية مُبقعة للغاية وبشعة المنظر، لكنْ هناك شيءٌ واحد لا يمكنك تخيُّله، وهو كيف يتفاعل ماء الصودا عندما تُحاول أن تشربه مباشرة من قنينته، خاصةً إذا كانت ممتلئة تمامًا. ولكن إذا لم يساعدك الخيال، فستفعل التجربة، ويمكنك بسهولة تجربتها بنفسك إذا استطعت أن تجعل أحد البالغين يعطيك قنينة الصودا. وإذا كنت ترغب في الحصول على تجربةٍ شاملة حقًّا، فضع الأنبوب في فمك واضغط على المقبض فجأة وبقوة. من الأفضل لك أن تفعل ذلك عندما تكون وحدك، كما يُفضَّل إجراء هذه التجربة خارج المنزل.

ومع ذلك فأنت تتناوله على كل حال، اللسان والدجاج والخبز الطازج طعامٌ لذيذ جدًّا، ولا يمانع أحدٌ أن يُرش قليلًا بماء الصودا في يوم شديد الحرارة؛ لذا فقد استمتع الجميع بالغَداء حقًّا، وأكلوا قدْر الإمكان لأنهم: أولًا، كانوا جائعين للغاية؛ وثانيًا — كما قلت — فإن اللسان والدجاج والخبز الطازج كانت وجبةً طيبة المذاق.

الآن، أعتقد أنك قد تكون لاحظتَ أنه إذا توجَّب عليك الانتظار لتناوُل الغَداء لوقتٍ أطول مما ينبغي، ثم تناولتَ من الغداء أكثر بكثيرٍ من المعتاد، وجلست تحت أشعة الشمس الحامية على قمة برج الكنيسة — أو حتى في أي مكانٍ آخر — فسرعان ما ستشعر بالنعاس على نحوٍ غير مسبوق. كان كلٌّ من أنثيا وجين وسيريل وروبرت يُشبِهونك في ذلك من جوانبَ عدة، وعندما أكلوا بقدْر ما في وسعهم، وشربوا كل ما لديهم، أصبحوا يشعرون بالنعاس على نحوٍ غير مسبوق وبسرعة، خاصة أنثيا؛ لأنها كانت قد استيقظَت مبكرًا جدًّا.

توقَّفوا عن الكلام ومالوا إلى الوراء واحدًا تلو الآخر، وقبل انقضاء ربع ساعة على تناوُل الغداء، كانوا يَحدَودِبون ويلتفون على أنفسهم تحت أجنحتهم الدافئة الناعمة الكبيرة وسرعان ما غلبهم النعاس. كانت الشمس تغيب ببطء في جهة الغرب (يجب أن أقول في جهة الغرب؛ لأنه من المعتاد في الكتب أن أقول ذلك؛ خشية أن يظن الأشخاص البلداء أنها تغيب في جهة الشرق. وفي الحقيقة، إنها لا تغيب في الغرب بالضبط أيضًا، ولكن تغيب قريبًا منه) أُكرِّر أن الشمس كانت تغيب ببطء في جهة الغرب، وكان الأطفال ينامون في دفء وسعادة لأن الأجنحة أكثر راحة من لحاف النوم ذي زغب الطيور. تمدَّد ظل برج الكنيسة عَبْر فِنائها، وعَبْر مقر القس، وعَبْر الحقل الممتد أمامها؛ حتى لم تعُد هناك أيُّ ظلال، وغربت الشمس، واختفت الأجنحة. كان الأطفال لا يزالون يغطُّون في نومهم، ولكن لم يدُم ذلك طويلًا؛ فالشفق رغم جماله الآسر، فإنه يجلب البرودة. وأنت تعرف، مهما بلغ شعورك بالنعاس، فإنك سرعان ما تستيقظ إذا كان أخوك أو أختك قد استيقظ أولًا وسحب غطاءك منك. ارتجف الأطفال الأربعة بغير الأجنحة واستيقظوا. كانوا هناك على قمة برج الكنيسة في عَتْمة الغَسَق، في صحبة النجوم الزرقاء التي تبزغ الواحدة تلو الأخرى ثم تبزغ بالعشرات والعشرينات فوق رءوسهم على بعد أميال من المنزل، ومعهم ثلاثة شلنات وثلاثون بنسًا ونصف في جيوبهم. كانوا يخشَوْن من تصرُّفهم المشكوك فيه الذي قد يُسألون عنه لو عثر عليهم أحدٌ ومعهم قنينة ماء الصودا.

نظروا بعضهم إلى بعض، وكان سيريل أول من تكلم، وهو يلتقط قنينة الصودا فقال:

«من الأفضل أن ننزل ونتخلَّص من هذا الشيء البغيض، والمكان يبدو مظلمًا بما فيه الكفاية بما يمكننا من وضعها على عتبة باب القس، عليَّ أن أفكِّر سريعًا، هيَّا.»

كان هناك برجٌ صغيرٌ في ركن البرج، وكان لذلك البرج الصغير باب، لاحظوا ذلك الباب عندما كانوا يأكلون، لكن لم يستكشفوه، كما كنت ستفعل لو كنت مكانهم؛ لأنك بالطبع عندما يكون لديك جناحان، فيمكنك بهما استكشاف السماء، فإنَّ الأبواب لن تستحق في نظرك استكشافها.

لكنهم اتجهوا إليه الآن.

قال سيريل: «هذا بالطبع الباب المؤدي إلى أسفل.»

كان كذلك بالفعل، ولكنه كان مغلقًا من الداخل.

وكان الظلام يخيِّم شيئًا فشيئًا، وهم على بُعد أميال عن المنزل، ومعهم قنينة ماء الصودا.

لن أُخبركم بما إذا كان أحدهم قد بكى، ولن أخبركم كذلك بعددِ مَن بكى منهم ومن منهم قد بكى؛ فمن الأفضل أن تُعملوا عقولكم في التفكير فيما كنتم ستفعلونه لو كنتم في مكانهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤