الفصل الثاني عشر

توابع النظام الشمسي

ذوات الأذناب

كلُّ ما في السماء غريب عجيب مدهش لكن تكرار ظهوره يومًا بعد يوم يُزيل غرابته وإلا فأيُّ شيءٍ من كل حوادث الكون أغرب وأعجب من أن تظهر كل صباح كرة نارية في الأفق الشرقي يخطف نورها الأبصار فتمحو آية الليل وتسير الهوينا ساعة بعد ساعة لا جاذب لها ولا دافع إلى أنْ تختفي مساءً في الأفق الغربي فيرخي الليل سدولهُ ثم تطلع في الصباح التالي والذي بعده يومًا بعد يوم وسنة بعد أخرى لا تني ولا تتعب، وقِسْ على ذلك طلوع القمر وتغيُّر وجوهه وطلوع النجوم وغروبها، كلُّ هذا من غرائب الطبيعة ويبقى غريبًا ولو عُرِفت أسبابه وكيفياته لكن تكرار حدوثه يومًا بعد يوم يجعل الناس يرونه غير مبهوتين ولا مُكترثين، وغاية ما يلتفتون إليه كون النهار ابتدأ بطلوع الشمس وانتهى بغروبها وكونها كانت ظاهرة شديدة الحرِّ أو تغطِّيها السحب وتحجب جانبًا من نورها وحرارتها، وكون الهلال هلَّ فابتدأ الشهر القمري ثم تكامَلَ فصار بدرًا إلى غير ذلك من الأمور العادية.

لكن إذا حدث حادث نادر الوقوع أو ظهر شيء غير عادي فهناك الخوف والقلق كما إذا كُسِفت الشمس أو خُسِفَ القمر، ولعلَّ الكُهَّان كانوا يهولون بالكسوف والخسوف تعزيزًا لنسبتهم إلى الآلهة لكن الكلدان منهم حسبوا لهما شأنًا دينيًّا فانتبهوا لأوقاتهما بالضبط حتى عرفوا مواقيتهما فكان ذلك بدء علم الفلك.

وظهور ذوات الأذناب أغرب من حدوث الكسوف والخسوف، ولكن الناس لم يُوجسوا منه شرًّا في أول أمرهم على ما يظهر لأن تواريخهم خالية ممَّا يدل على ذلك، وأول مَنْ ذكر ذوات الأذناب من فلاسفة اليونان ديموقريطس الذي نشأ في القرن الخامس قبل المسيح، وقال إنها تنتج من اقتران سيَّارين معًا؛ فأنكر أرسطو عليه ذلك وقال إنَّها ليست من السيَّارات في شيء ولا هي حادثة من اقتران سيَّار بنجم آخر وارتأى أنها من المتصعدات الأرضية، ثم ذكرها سنيكا الحكيم الروماني الذي نشأ في النصف الأول من القرن الأول المسيحي وتكلَّم عليها كلام علم وحكمة، وواضح من كلامه وكلام الذين سبقوه أن أهالي أوروبا لم يكونوا يتشاءمون منها،١ ولم تَذْكُر أمة من الأمم القديمة ذوات الأذناب في تاريخها إلا الأمة الصينية فإنها ذكرت أوقات ظهورها واختفائها وذكرت أيضًا مواقعها في السماء ولكنها لم تُشِرْ إلى التشاؤم منها.
fig40
شكل ١٢-١: صور ذوات الأذناب من كتب قديمة.
والمرجَّح الآن أن هذا التشاؤم ابتدأ في فلسطين؛ إذ حسب اليهود أنها سيف النقمة يستلُّهُ ملاك من قِبَل الله لينتقم من الأشرار كما ترى في الشكل ١٢-١، ثم زاد هذا الوهم رويدًا رويدًا إلى أن بلغ أقصاه في القرون الوسطى ولذلك قال أبو تمام في بائيته المشهورة:
وخوَّفوا الناس من دهياءَ مظلمة
لمَّا بدا الكوكب الغربي ذو الذَّنَبِ

وقال ابن الأثير في حوادث سنة ٢٢٢ هجرية/٨٣٧ مسيحية: «وفي هذه السنة ظهر عن يسار القبلة كوكب فبقي يُرَى نحوًا من أربعين ليلة ولهُ شبه الذَّنَب وكان طويلًا جدًّا فهال الناس ذاك وعظم عليهم.» وخاف أهالي أوروبا من ظهور هذا المذنَّب أكثر مما خاف أهالي آسيا فإنَّ لويس الأول ملك فرنسا ابن شارلمان جزع منه جزعًا شديدًا واستدعى منجِّميه وطلب منهم أن يخبروه عما ينبئُ بهِ، وقال رئيس منجميه في هذا الصدد ما ترجمته:

«ظهر في السماء نجم يتبعهُ الشؤم دائمًا ولمَّا بلغ الإمبراطور خبرهُ قلق أشدَّ القلق ولم يهدأ له روع حتى جمع بعض العلماء وأنا معهم، ولمَّا دخلت سألني بلهفة قائلًا: ما معنى هذا النجم؟ وبماذا يُنبئ؟ فقلت له: أمهِلْني ريثما أرقبه وأستدلُّ على معناه ووعدتُّه بأن آتيه بالجواب من الغد فأدرك أن ذلك محاولة مني لكي أتبصَّر ولا أقول له شيئًا يُغيظهُ، وقال لي: اصعد على سطح القصر الآن وعُدْ حالًا وأخبرني بما رأيت فإنِّي لم أرَ هذا النجم البارحة وأنت لم تدلَّني عليهِ وأنا أعلم أنه مذنَّب فأخبرني عمَّا يُنذِر بهِ، ثم قال وهنا أمر آخر أراك تخفيه عني وهو أنَّ هذا النجم يدلُّ على موت ملك وقيام آخر، فلمَّا رأى المنجمون الحاضرون حكمة الملك الفائقة لم يسعهم إلَّا أن يعترفوا أنَّ النجم المشار إليه نذير من الله يُنذِر باقتراب أيام السوء لكثرة معاصي الناس فبادر الملك إلى إصلاح سيرته وبناء الكنائس وإنشاء الديورة في كلِّ ممالكه تسكينًا لغضب الله.»

ولا تخلو سنة من حرب أو وباء أو كارثة من الكوارث تحلُّ في مكان من المعمورة، فإذا رَسَخَ في الأذهان أنَّ لذوات الأذناب علاقة بالرزايا أو بغضب الله على الناس لكثرة شرورهم سَهُلَ عليهم تأييد هذا الزعم، ومذنَّب هلي الذي ظهر منذ ثلاث عشرة سنة من المذنبات الدورية؛ لأنه يظهر كل نحو ٧٦ سنة وقد بحثنا عما اتَّفق حدوثه في بعض السنوات الماضية التي ظهر فيها فرأينا أنه لمَّا ظهر سنة ١٠٦٦ اتَّفق أن ظهوره كان فتح وليم الظافر إنكلترا فعلَّق الإنكليز به ما حلَّ بهم من المحن وقالوا إنَّ رأسه كان كالبدر وذَنَبه كذَنَبِ التنين أو كالسيف المسلول.

وذكر ابن الأثير ظهوره حينئذٍ (أي سنة ٤٥٨ هجرية الموافقة لسنة ١٠٦٦ مسيحية) فقال: «وفي العاشر من جمادى الأولى ظهر كوكب كبير له ذؤابة طويلة بناحية المشرق عرضها نحو ثلاثة أذرع وهي ممتدَّة إلى وسط السماء وبقي إلى السابع والعشرين من الشهر وغاب ثم ظهر أيضًا آخر الشهر المذكور عند غروب الشمس كوكب قد استدار نورُهُ عليهِ كالقمر فارتاع الناس وانزعجوا ولمَّا أظلم الليل صار له ذَنَب نحو الجنوب وبقي نحو عشرة أيام.»

وواضح من ذلك أن المذنَّب كان قريبًا من الشمس فكان يظهر قبلها في الأفق الشرقي فلمَّا دنا منها كثيرًا صار يظهر معها ويغيب معها فلا يُرَى، ولمَّا أبعد عنها إلى الجهة الأخرى صار يغيب بعدها فيُرَى بعد الغروب وكان ذلك بين مارس وأبريل، والظاهر أنه تراكمت السحب حينئذٍ فتعذَّرت رؤيتهُ.

وكان لظهوره سنة ١٤٥٦ مسيحية الموافقة لسنة ٨٦٠ هجرية شأن كبير شرقًا وغربًا؛ لأن ظهوره كان بُعَيد فتح القسطنطينية وإيغال السلطان محمد الفاتح في أوروبا، وقد ذكره ابن إياس في حوادث سنة ٨٦٠ فقال: «وفي أثناء هذا الشهر (جمادى الأولى) ظهر في السماء نجم بذَنَبٍ طويل جدًّا وكان يظهر من جهة الشرق ودام يطلع نحوًا من شهرين، وكان من نوادر الكواكب فتُكُلِّم فيما يدلُّ عليه من الأمر وزاد الكلام بسببه ثم اختفى وأقام مدة طويلة نحوًا من ثلاث سنين حتى وقع بمصر الطاعون والحريق.» واستطرد إلى ذِكْرِ بعض الحوادث الكبار التي يقال إنها حدثت وقتما ظهر هذا النجم، أما كتَّاب الغرب فقالوا إنهُ ظهر في ٢٩ مايو (جمادى الأخرى)، وسار في السماء نحو القمر، وكان ذَنَبُه شبيهًا بالسيف العثماني، وكَتَبَ المؤرِّخ بلاتينا حينئذٍ في كتابه الذي طُبِعَ في البندقية سنة ١٤٧٩ يقول: ظهر نجم ناري شعري أيامًا، فقال أهل الحساب أنه سيتلو ظهوره وباء وقحط ومصائب شديدة، فأمر البابا كالكستوس بالابتهالات لدفع غضب الله.

وقد رأينا للأستاذ دولتل مقالة في هذا الموضوع نشرها في جزء يناير من مجلة العلم العام سنة ١٩١٠، ونشر فيها صور هذا المذنَّب كما ظهر سنة ١٦١٢؛ أي في زمن هلي وسنة ١٧٥٩، وسنة ١٨٣٥ كما ترى في الشكل ١٢-٤(١) و١٢-٤(٢) و١٢-٤(٣)، ورسم رسمًا خياليًّا لحركة هذا المذنَّب حول الشمس ودنوِّه منها في نقطتين من مدارها كما ترى في الشكل ١٢-٤(٤)، وفيه يظهر اتِّجاه ذنبه إلى الجهة المقابلة للشمس كأن في الشمس قوة دافعة تدفعه عنها، ورسم أيضًا صورة فلكه كله كما ترى في الشكل ١٢-٤(٥) فنقلنا هذه الصور عنه، والدائرة ذات الأشعة في الشكل ١٢-٤(٥) كناية عن الشمس، والدائرة الصغيرة التي حولها هي فلك الأرض أو دائرة الأرض حول الشمس، والدائرة التي بعدها فلك المريخ وبعدها فلك المشتري، ثم فلك زُحَل فأورانوس فنبتون، والشكل الإهليلجي فلك مذنَّب هلي ويظهر منه أنَّ هذا المذنَّب يدنو من الشمس حتى يكاد يقع عليها ثم يبعد عنها ويتجاوز أبعد السيَّارات عنها ويقضي ٧٦ سنة حتى يُتِمَّ دورته في فلكه مع أنَّ زُحَل يُتِم دورته في فَلَكِه في نحو ٢٩ سنة ونصف سنة وأورانوس في ٨٤ سنة ونبتون في نحو ١٤٥ سنة.
fig41
شكل ١٢-٢
fig42
شكل ١٢-٣
fig43
شكل ١٢-٤
fig44
شكل ١٢-٥: مذنب دانيال الذي ظهر سنة ١٩٠٧ منقولة عن صورة فوتوغرافية وكانت آلة التصوير تتحرك مع المذنَّب فبقيت صورته على حالها ولكن النجوم الثوابت ظهر فيها خطوطًا بيضاء بسبب حركة الآلة وهي ترى من خلال المذنَّب.

وكلُّ المذنَّبات الكبيرة التي ظهرت في عصرنا من سنة ١٨٥٨ إلى الآن كان لها وقْعٌ شديدٌ في نفوس العامة وبعض الخاصة فأوجسوا منها شرًّا، ولا سيَّما مذنَّب هلي حينما ظهر سنة ١٩٠٩ فقد قال البعض إنه سيصدم الأرض في سيره فخاف العامة منه خوفًا شديدًا.

هذا ولنذكر الآن أخص ما عُرِفَ من أمر ذوات الأذناب فنقول إنها أجسام كبيرة الحجم قليلة المادة تقترب إلى الشمس إمَّا من مكان قصي أبعد من أبعد السيَّارات، أو من مكان قريب داخل فلك المشتري كما ترى في الشكل ١٢-٢ فقد رسمت فيه الشمس في المركز وأفلاك السيَّارات حولها، وفلك مذنَّب أنكي وهو داخل فلك المشتري وفلك مذنب بيالا وهو داخل فلك زُحَل، وفلك مذنَّب هلي وطرفه الأبعد خارج فلك نبتون ومذنَّب سنة ١٨٨٢ وطرفه الأبعد بعيدًا جدًّا؛ ولذلك فذوات الأذناب تتمِّم سيرها في أفلاكها في أوقات مختلفة حسب ضيق الفلك وسعته، وأقصرها فلك مذنَّب أنكي فإنه يقطعه في ثلاث سنوات وثُلث سنة، وأبعدها لا حدَّ له على ما يظهر، حتى لقد يقضي المذنَّب ألوفًا من السنين قبلما يتمِّم دورته فيه كالمذنَّب الذي ظهر سنة ١٨١١ فإن مدة سيره في فلكه تزيد على ثلاثة آلاف سنة.

وقد رُصِدَ من المذنَّبات حتى الآن أكثر من أربعمائة مذنَّب وكلها تابع للنظام الشمسي، ولا يُرى مذنَّب منها دوامًا بل في الوقت الذي يدنو فيه من الشمس.

ويمكن تحديد المذنَّب بأنه جسم مُنير مؤلَّف من رأس ونواة في قلب الرأس وذؤابة أو ذَنَب ممتد من الرأس، ورءوس ذوات الأذناب بعضها صغير يُرَى كالنجم وبعضها كبير يرى كالقمر، وكلها كبيرة جدًّا، ولكنها تُرَى كذلك لبُعْدِها الشاسع وقد يكون الرأس خاليًا من النواة وقد لا يكون له ذنب طويل بل غشاوة متَّصلة به.

ومتى دنا المذنَّب من الشمس صغُرَ رأسه وظهر له ذَنَبٌ يطول رويدًا رويدًا باقترابه منها، ويتَّجه هذا الذنب دائمًا إلى الجهة الأخرى من الشمس حتى إذا رُسِمَ خطٌّ مستقيم من الشمس إلى رأس المذنَّب كان الذنب في امتداد هذا الخط كأن الشمس تدفعه عنها فيستظل بظل الرأس أو كأنه هو ظل للرأس؛ ولذلك فهو ذيل له يجرُّه وراءه وهو دانٍ من الشمس، ويدفعه أمامه وهو مبتعد عنها ثم يقصر الذنب بابتعاد المذنَّب عن الشمس كما ترى في الشكل ١٢-٣.
ومادة المذنَّب لطيفة جدًّا لا تحجب رؤية النجوم الصغيرة التي وراءها كما ترى في الشكل ١٢-٥ ولو حجبها ألطف الضباب ويصدق هذا على المذنَّب كله ما عدا نواته، ومع ذلك فقد يزيد لمعان المذنَّب كله حتى يرى نهارًا ويبلغ من لطف مادَّته أنها تكون ألطف من الهواء على سطح الأرض ألف مرة.

ومما تمتاز به المذنَّبات أنَّ أفلاكها ليست ثابتة كأفلاك السيَّارات بل تتغيَّر من وقت إلى آخر؛ أي إنَّ المذنَّب يغيِّر سيره حسب موقعه في الفلك وجذب السيَّارات له.

ورءوس المذنَّبات تصغر رويدًا إلى أن تصير أصغر من أن تحتفظ باستقلالها فتتمزَّق أو تجذبها الشمس أو السيَّارات، وأمَّا الذنب فإنه متغير؛ أي إنَّ ما نراه اليوم ليس هو ما رأيناه أمس بل ما رأيناه أمس انتشر في الفضاء وأتى غيره بدلًا منه.

وتُقسَّم المذنَّبات بنوع عام إلى طائفتين الواحدة تسير في جهة واحدة وأحدها يتبع الآخر، ومن هذا القبيل المذنَّبات التي ظهرت سنة ١٦٦٨ و١٨٤٣ و١٨٨٠ و١٨٨٢ و١٨٨٧، والمظنون أنها أجزاء مذنب واحد؛ ولهذا تسير في فلك واحد.

والطائفة الثانية: المذنَّبات التي يُظَنُّ أنَّ السيَّارات جذبتها من الفضاء فدارت حول الشمس في أفلاك ضيِّقة وتسمَّى المذنَّبات المأسورة ومن هذه عدد كبير أَسَرَه المشتري يبلغ ثلاثين مذنبًا، والظاهر أن زُحَل أسر مذنَّبين وأورانوس ثلاثة ونبتون ستة، أمَّا السيَّارات القريبة من الشمس فإن أسرت شيئًا من المذنَّبات فالشمس تخطفه منها.

والمذنبات التي ثبت أن لها أفلاكًا إهليلجية وهي دورية وتقطع أفلاكها في أزمنة محدودة بلغ عددها ١٨ مذنبًا أقصرها مدة مذنب أنكي كما تقدَّم، ومن حين كُشف وحُسب فلكه إلى الآن دار ٣٣ مرة بانتظام. وأطولها مدة مذنب هلي فإنه يقطع فلكه الآن في ٧٥ سنة وتسعة أعشار السنة.

وأشهر المذنَّبات التي رُئيت في النصف الأخير من القرن الماضي مذنَّب سنة ١٨٥٨ ومذنَّب سنة ١٨٦١ ومذنَّب سنة ١٨٨٢ ولا نزال نتذكَّر مذنَّب سنة ١٨٦١ وامتداده في السماء في ليلة ظلماء والعجائز في لبنان يضرَعْنَ إلى الله ليكفَّ غضبه عن عباده خائفات أن تتكرَّر مذابح سنة ١٨٦٠، أما مذنَّب سنة ١٨٨٢ فكنا نرقُبُهُ في جبل لبنان قُبيل الفجر فنرى نواته عند الأفق الشرقي، ورأس ذنبه يعلو فوقه عشرين درجة أو ثلاثين ببهاء يفوق وصف الواصفين.

fig45
شكل ١٢-٦: مذنب هلي كما صور في ٤ مايو سنة ١٩١٠.
أما مذنَّبات هذا القرن فأعظمها وأشهرها مذنَّب هلي الذي ظهر في ميعاده تمامًا سنة ١٩٠٩ ورآه أكثر قرَّاء المقتطف، فإنه عظم وطال جدًّا وقد وصفناه وصوَّرناه باليد في مقتطف يونيو سنة ١٩١٠، وصوَّره مرصد يركس بأمريكا صورة فوتوغرافية نقلناها في الشكل ١٢-٦.

والمرجَّح أن نواة المذنَّب مؤلَّفة من أجسام نيزكية صغيرة جدًّا تسير معًا في دورانها حول الشمس، فإذا دنت منها اشتدَّ حمُّوها بحرارة الشمس وخرجت منها غازات تدفعها أشعة الشمس بما فيها من قوة الدفع فتظهر وراء النوة مثل ذَنَبٍ لها وتنير بنور الشمس الواقع عليها، ويؤيد ذلك كون النواة تصغر رويدًا رويدًا حتى تصير أصغر من أن تحفظ استقلالها فتجذبها الشمس إليها أو تجذبها السيَّارات أو تتمزَّق، ولا يبقى المذنَّب مذنَّبًا هذا هو الرأي الشائع، وقد ارتأى بعضهم أن أذناب المذنَّبات تتولَّد من كهربائية تتكهرب بها دقائق المادة المنتشرة في الفضاء فتُنير وتظهر كأذناب من نور وراء المذنَّبات، وزعم البعض أن أذناب المذنَّبات ظواهر بصرية لا غير؛ أي إنَّ نور الشمس يخترق رأس المذنَّب ويظهر وراءه كذنب من النور، ولكن ثبت بالبحث بالسبكتروسكوب في مذنَّب هلي أنَّ في ذَنَبِه أكسيد الكربون، فإمَّا أن يكون صادرًا من الرأس وتنيره الكهربائية أو نور الشمس، وإما أن يكون من أكسيد الكربون المنتشر في الفضاء، ومَنْ شاء أن يعرف أكثر عن ذوات الأذناب فعليه بمطالعة المقالات الكثيرة المنشورة في المقتطف عنها ولا سيما المقالة المنشورة في الجزء الأول من المجلد الخامس والثلاثين.

الشهب والنيازك والرُّجُم

الشهاب ما يُرَى في الليل كأنه كوكب انقضَّ من ناحية في السماء واختفى في ناحية أخرى، والنيازك شُهُب كبيرة تنقض كالشهب ولكنها تنفجر ويُسْمَع لانفجارها صوت شديد ثم تختفي، والرجُم شهب أو نيازك تصل إلى الأرض كحجارة معدنية ولمَّا كانت الشهب شبيهة بالكواكب في الظاهر زعم العامة أنها كواكب تنقضُّ من السماء ومَنْ يرقب السماء في ليلة صافية لا تمرُّ به ساعة إلا ويرى فيها بعض هذه الشهب وقد يكثر انقضاضها في بعض الليالي وبعض السنين حتى يُخيَّل للرائي أنَّ النجوم كلها تساقطت من السماء كما حدث في السابعة والعشرين من نوفمبر سنة ١٨٨٥ وهاك خلاصة ما كتبناه عنها حينئذٍ في مقتطف ديسمبر تلك السنة وهو:

انقضَّت الشهب ليلة السبت في ٢٧ نوفمبر انقضاضًا عظيمًا حتى خُيِّلَ للناظر أنها قد ضربت سرادقها في القبَّة الزرقاء فهلعت قلوب السُّذَّج وكثرت مخاوفهم، فمن قائل إن الساعة جاءت ومن قائل إنها علامات الحروب ومن قارعة صدرها ومستغفرة عن ذنبها، ولا عجب فهول ذلك المشهد لا يُزيله إلا العلم، وهذه الشهب ليست نجومًا كسائر النجوم ولكنها أجسام صغيرة دائرة حول الشمس، فإذا دنت الأرض منها اجتذبتها فسقطت إليها، واحتكَّت بالهواء وهي ساقطة حتى تحمي جدًّا فتشتعل من الحمو وتظهر كالكواكب المنيرة، فإن كانت صغيرة جدًّا اشتعلت كلها وتبدَّدت تبدُّد الدخان أو البخار قبل وصولها إلى الأرض، وإن كانت كبيرة فقد يصل بعضها إلى سطح الأرض وتُعْرَف حينئذٍ بالنيازك والرجُم.

ثم أسهبنا في تعليل انقضاض الكثير منها في بعض السنين كالشهب التي تنقض في شهر نوفمبر فهذه تكثر مرة كل ٣٣ سنة ورُبع سنة كما حدث سنة ١٧٩٩ و١٨٣٢ و١٨٦٦، وقد علَّلوا ذلك بأنها تدور في منطقة عظيمة جدًّا حول الشمس، وجانب من هذه المنطقة طوله نحو مليون ميل مزدحم بالحجارة النيزكية وهذه المنطقة تدور حول الشمس دورة كاملة كل ٣٣ سنة، فتلتقي الأرض بالجانب الذي تكثر فيه هذه الحجارة مرة كل ثلاث وثلاثين سنة فتجذب الكثير منها، أمَّا الشُّهُب التي انقضَّت في نوفمبر سنة ١٨٨٥ فمن بقايا مذنَّب بيالا فإن هذا المذنَّب كشفه القبطان بيالا النمسوي سنة ١٨٢٦ وحسب أنه يدور حول الشمس دورة في ٦ سنوات وسبعة أشهر فسمِّي باسمه، ولو كان من المذنَّبات القديمة، ولمَّا ظهر سنة ١٨٤٥ انفصل قطعتين تباعدتا حتى صار البُعْد بينهما ١٥٧٢٤٠ ميلًا، ولمَّا ظهر سنة ١٨٥٢ كان البعد بينهما قد صار ١٢٥٠٠٠٠ ميل، ولمَّا حان ظهورها سنة ١٨٧٢ انقضَّت الشهب انقضاضًا عظيمًا من المكان الذي كان ينتظر ظهوره فيه، فترجَّح منها ذلك أنَّ جانبًا منه تمزَّق أو تفرَّقت دقائقه فسهل جذبها، واحترقت من احتكاكها في جوِّ الأرض؛ لأنها تسير إليها بسرعة فائقة تبلغ أحيانًا ٤٤ ميلًا في الثانية من الزمان، ويظهر أنها آتية من كوكبة المرأة المُسلسلة، والشهب التي تنقضُّ في نوفمبر كل ثلاث وثلاثين سنة أصلها من مذنَّب تمبل ويظهر كأنها آتية من جهة في كوكبة الأسد ولذلك تُسمى بالشهب الأسدية.

وخلاصة المقال إن الشهب والنيازك والرجُم أجسام صغيرة مركَّبة من عناصر مثل العناصر الأرضية، وهي في الأصل مجتمعة في حلقات أو أقواس تدور حول الشمس في أفلاك واسعة كما تدور الأرض والسيَّارات حولها فإذا قربت من الأرض جذبت الأرض كثيرًا منها، فإذا كان المجذوب صغير الحجم لطيف المادَّة احترق في أعالي الجو وتبدَّد مثل الدخان والبخار، وربما ترك وراءه ذيلًا لامعًا يبقى مدة ثم يختفي وهذا هو الشهاب، وإذا كان كبير الحجم كثيف المادة نزل يخد الهواء، ثم تمزَّق إربًا وأسمع صوتًا وهو النيزك المنفجر، وإذا كان أكبر حجمًا وأكثف مادة نزل يشقُّ الهواء ووصل إلى الأرض وهو الرجم.

وتجد في الجزء السادس من المجلَّد التاسع فصلًا مُسْهَبًا جدًّا عن الشهب والنيازك والرجم.

١  ولكن العالم كمبل w. w. Campbell قال في جمعية سان فرنسسكو الفلكية إن هوميروس أشار إلى المذنَّب في الكتاب التاسع عشر من الإلياذة حيث قال ما ترجمته: «كالنجم الأحمر الذي يتساقط من شعره الملتهب مرض ووباء وحرب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤